كتاب الصراط المستقيم


الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ



الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ [سُورَةَ الْحَشْرِ/18].

وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَرَّمَ وَجْهَهُ: «الْيَوْمَ الْعَمَلُ وَغَدًا الْحِسَابُ»، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ.

أَعْظَمُ حُقُوقِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ



اعْلَمْ أَنَّ أَعْظَمَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ هُوَ تَوْحِيدُهُ تَعَالَى وَأَنْ لا يُشْرَكَ بِهِ شَىْءٌ، لِأَنَّ الإِشْرَاكَ بِاللَّهِ هُوَ أَكْبَرُ ذَنْبٍ يَقْتَرِفُهُ الْعَبْدُ وَهُوَ الذَّنْبُ الَّذِي لا يَغْفِرُهُ اللَّهُ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ. قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَآءُ﴾ [سُورَةَ النِّسَاء/48].

وَكَذَلِكَ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ لا يَغْفِرُهَا اللَّهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ [سُورَةَ مُحَمَّد/34].

وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ وَالْجَنَّةَ حَقٌّ وَالنَّارَ حَقٌّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ»، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَفِي حَدِيثٍ ءَاخَرَ: «فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَيَجِبُ قَرْنُ الإِيـمَانِ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ بِشَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَذَلِكَ أَقَلُّ شَىْءٍ يَحْصُلُ بِهِ النَّجَاةُ مِنَ الْخُلُودِ الأَبَدِيِّ فِي النَّارِ.


مَعْنَى الشَّهَادَتَيْنِ


فَمَعْنَى شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِجْمَالًا أَعْتَرِفُ بِلِسَانِي وَأَعْتَقِدُ وَأُذْعِنُ بِقَلْبِي أَنَّ الْمَعْبُودَ بِحَقٍّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَقَطْ.

وَمَعْنَى شَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَعْتَرِفُ بِلِسَانِي وَأُذْعِنُ بِقَلْبِي أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِلَى كَافَّةِ الْعَالَمِينَ مِنْ إِنْسٍ وَجِنٍّ، صَادِقٌ فِي كُلِّ مَا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، لِيُؤْمِنُوا بِشَرِيعَتِهِ وَيَتَّبِعُوهُ.

وَالْمُرَادُ بِالشَّهَادَتَيْنِ نَفْيُ الأُلُوهِيَّةِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ وَإِثْبَاتُهَا لِلَّهِ تَعَالَى مَعَ الإِقْرَارِ بِرِسَالَةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ لَّمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا﴾ [سُورَةَ الْفَتْح/ 13].

فَهَذِهِ الآيَةُ صَرِيْحَةٌ فِي تَكْفِيرِ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ نَازَعَ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ يَكُونُ قَدْ عَانَدَ الْقُرْءَانَ وَمَنْ عَانَدَ الْقُرْءَانَ كَفَرَ.

وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ الإِسْلامِيُّونَ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ دَانَ بِغَيْرِ الإِسْلامِ. وَعَلَى تَكْفِيرِ مَنْ لَمْ يُكَفِّرْهُ أَوْ شَكَّ أَوْ تَوَقَّفَ كَأَنْ يَقُولَ: أَنَا لا أَقُولُ إِنَّهُ كَافِرٌ أَوْ غَيْرُ كَافِرٍ.

وَاعْلَمْ بِإِسْتِيقَانٍ أَنَّهُ لا يَصِحُّ الإِيـمَانُ وَالإِسْلامُ وَلا تُقْبَلُ الأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ بِدُونِ الشَّهَادَتَيْنِ بِلَفْظِ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُمَا وَلَوْ بِغَيْرِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ.

وَيَكْفِي لِصِحَّةِ الإِسْلامِ النُّطْقُ مَرَّةً فِي الْعُمُرِ وَيَبْقَى وُجُوبُهَا فِي كُلِّ صَلاةٍ لِصِحَّةِ الصَّلاةِ، هَذَا فِيمَنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ الإِسْلامِ ثُمَّ أَرَادَ الدُّخُولَ فِي الإِسْلامِ.

وَأَمَّا مَنْ نَشَأَ عَلَى الإِسْلامِ وَكَانَ يَعْتَقِدُ الشَّهَادَتَيْنِ فَلا يُشْتَرَطُ فِي حَقِّهِ النُّطْقُ بِهِمَا بَلْ هُوَ مُسْلِمٌ لَوْ لَمْ يَنْطِقْ.

وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ» حَدِيثٌ قُدْسِيٌّ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَأَفْضَلُ وَأَوَّلُ فَرْضٍ هُوَ الإِيـمَانُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ.

وَاعْتِقَادُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقَطْ لا يَكْفِي مَا لَمْ يُقْرَنْ بِاعْتِقَادِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ.

قَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان/32] أَيْ لا يُحِبُّ اللَّهُ مَنْ تَوَلَّى عَنِ الإِيـمَانِ بِاللَّهِ وَالرَّسُولِ لِكُفْرِهِمْ وَالْمُرَادُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ فِي هَذِهِ الآيَةِ الإِيـمَانُ بِهِمَا.

فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَافِرٌ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لا يُحِبُّهُ لِكُفْرِهِ. فَمَنْ قَالَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ لِأَنَّهُ خَلَقَ الْجَمِيعَ فَقَدْ كَذَّبَ الْقُرْءَانَ، فَيُقَالُ لَهُ: اللَّهُ خَلَقَ الْجَمِيعَ لَكِنْ لا يُحِبُّ الْكُلَّ.


الْفَرْضُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ


وَاعْلَمْ أَنَّ النُّطْقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي عُمُرِهِ بِنِيَّةِ الْفَرْضِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِأَنَّهُمْ لا يُوجِبُونَ التَّحِيَّاتِ فِي الصَّلاةِ إِنَّمَا هُمْ يَعْتَبِرُونَهَا سُنَّةً وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ كَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَجِبُ فِي كُلِّ صَلاةٍ لِصِحَّةِ الصَّلاةِ.


لا دِينَ صَحِيحٌ إِلَّا الإِسْلامُ

الدِّينُ الْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ. قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان/85]، وَقَالَ تَعَالَى أَيْضًا: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان/19].

فَكُلُّ الأَنْبِيَاءِ مُسْلِمُونَ، فَمَنْ كَانَ مُتَّبِعًا لِمُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مُسْلِمٌ مُوسَوِيٌّ، وَمَنْ كَانَ مُتَّبِعًا لِعِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مُسْلِمٌ عِيسَوِيٌّ، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِمَنِ اتَّبَعَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْلِمٌ مُحَمَّدِيٌّ.

وَالإِسْلامُ هُوَ الدِّينُ الَّذِي رَضِيَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ وَأَمَرَنَا بِاتِّبَاعِهِ.

وَلا يُسَمَّى اللَّهُ مُسْلِمًا كَمَا تَلَفَظَّ بِهِ بَعْضُ الْجُهَّالِ.

فَقَدِيْمًا كَانَ الْبَشَرُ جَمِيعُهُمْ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ هُوَ الإِسْلامُ، وَإِنَّمَا حَدَثَ الشِّرْكُ وَالْكُفْرُ بِاللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ النَّبِيِّ إِدْرِيسَ.

فَكَانَ نُوحٌ أَوَّلَ نَبِيٍّ أُرْسِلَ إِلَى الْكُفَّارِ يَدْعُو إِلَى عِبَادِةِ اللَّهِ الْوَاحِدِ الَّذِي لا شَرِيكَ لَهُ، وَقَدْ حَذَّرَ اللَّهُ جَمِيعَ الرُّسُلِ مِنْ بَعْدِهِ مِنَ الشِّرْكِ.

فَقَامَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَجْدِيدِ الدَّعْوَةِ إِلَى الإِسْلامِ بَعْدَ أَنِ انْقَطَعَ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ فِي الأَرْضِ مُؤَيَّدًا بِالْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ، فَدَخَلَ الْبَعْضُ فِي الإِسْلامِ، وَجَحَدَ بِنُبُوَّتِهِ أَهْلُ الضَّلالِ الَّذِينَ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ مُشْرِكًا قَبْلًا كَفِرْقَةٍ مِنَ الْيَهُودِ عَبَدَتْ عُزَيْرًا فَازْدَادُوا كُفْرًا إِلَى كُفْرِهِمْ، وَءَامَنَ بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَعَبْدِ اللَّهِ بنِ سَلامٍ عَالِمِ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَهِ، وَأَصْحَمَةَ النَّجَاشِيِّ مَلِكِ الْحَبَشَةِ وَكَانَ نَصْرَانِيًّا ثُمَّ اتَّبَعَ الرَّسُولَ اتِّبَاعًا كَامِلًا وَمَاتَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ وَصَلَّى عَلَيْهِ الرَّسُولُ صَلاةَ الْغَائِبِ يَوْمَ مَاتَ. أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ بِمَوْتِهِ. ثُمَّ كَانَ يُرَى عَلَى قَبْرِهِ فِي اللَّيَالِي نُورٌ وَهَذَا دَلِيلٌ أَنَّهُ صَارَ مُسْلِمًا كَامِلًا وَلِيًّا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

وَالْمَبْدَأُ الإِسْلامِيُّ الْجَامِعُ لِجَمِيعِ أَهْلِ الإِسْلامِ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ.



حُكْمُ مَنْ يَدَّعِي الإِسْلامَ لَفْظًا وَهُوَ مُنَاقِضٌ لِلإِسْلامِ مَعْنًى


هُنَاكَ طَوَائِفُ عَدِيدَةٌ كَذَّبَتِ الإِسْلامَ مَعْنًى وَلَوِ انْتَمَوْا لِلإِسْلامِ بِقَوْلِهِمُ الشَّهَادَتَيْنِ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَصَلَّوْا وَصَامُوا لِأَنَّهُمْ نَاقَضُوا الشَّهَادَتَيْنِ بِاعْتِقَادِ مَا يُنَافِيهِمَا فَإِنَّهُمْ خَرَجُوا مِنَ التَّوْحِيدِ بِعِبَادَتِهِمْ لِغَيْرِ اللَّهِ فَهُمْ كُفَّارٌ لَيْسُوا مُسْلِمِينَ، كَالَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أُلُوهِيَّةَ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ أَوِ الْخَضِرِ أَوِ الْحَاكِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَغَيْرِهِمْ أَوْ بِمَا فِي حُكْمِ ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ.

وَحُكْمُ مَنْ يَجْحَدُ الشَّهَادَتَيْنِ التَّكْفِيرُ قَطْعًا وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا أَبَدًا لا يَنْقَطِعُ فِي الآخِرَةِ عَنْهُ الْعَذَابُ إِلَى مَا لا نِهَايَةَ لَهُ وَمَا هُوَ بِخَارِجٍ مِنَ النَّارِ.

وَمَنْ أَدَّى أَعْظَمَ حُقُوقِ اللَّهِ بِتَوْحِيدِهِ تَعَالَى أَيْ تَرْكِ الإِشْرَاكِ بِهِ شَيْئًا وَتَصْدِيقِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَخْلُدُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خُلُودًا أَبَدِيًّا وَإِنْ دَخَلَهَا بِمَعَاصِيهِ وَمَآلُهُ فِي النِّهَايَةِ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ الْخُرُوجُ مِنَ النَّارِ وَدُخُولُ الْجَنَّةِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ قَدْ نَالَ الْعِقَابَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ إِنْ لَمْ يَعْفُ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيـمَانٍ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَأَمَّا الَّذِي قَامَ بِتَوْحِيدِهِ تَعَالَى وَاجْتَنَبَ مَعَاصِيَهُ وَقَامَ بِأَوَامِرِهِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّهَ بِلا عَذَابٍ حَيْثُ النَّعِيمُ الْمُقِيمُ الْخَالِدُ، بِدِلالَةِ الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ». وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [سُورَةَ السَّجْدَة/17] رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ.





بَيَانُ أَقْسَامِ الْكُفْرِ


وَاعْلَمْ يَا أَخِي الْمُسْلِمَ أَنَّ هُنَاكَ اعْتِقَادَاتٍ وَأَفْعَالًا وَأَقْوَالًا تَنْقُضُ الشَّهَادَتَيْنِ وَتُوقِعُ فِي الْكُفْرِ لِأَنَّ الْكُفْرَ ثَلاثَةُ أَنْوَاعٍ: كُفْرٌ اعْتِقَادِيٌّ وَكُفْرٌ فِعْلِيٌّ وَكُفْرٌ لَفْظِيٌّ، وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ كَالنَّوَوِيِّ وَابْنِ الْمُقْرِي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنِ عَابِدِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْبُهُوتِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّيْخِ مُحَمَّدِ عِلَّيْشٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ فَلْيَنْظُرْهَا مَنْ شَاءَ. وَكَذَلِكَ غَيْرُ عُلَمَاءِ الْمَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ الْمَاضِينَ كَالأَوْزَاعِيِّ فَإِنَّهُ كَانَ مُجْتَهِدًا لَهُ مَذْهَبٌ كَانَ يُعْمَلُ بِهِ ثُمَّ انْقَرَضَ أَتْبَاعُهُ.

الْكُفْرُ الِاعْتِقَادِيُّ: مَكَانُهُ الْقَلْبُ كَنَفْيِ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الْوَاجِبَةِ لَهُ إِجْمَاعًا كَوُجُودِهِ وَكَوْنِهِ قَادِرًا وَكَوْنِهِ سَمِيعًا بَصِيرًا أَوِ اعْتِقَادِ أَنَّهُ نُورٌ بِمَعْنَى الضَّوْءِ أَوْ أَنَّهُ رُوحٌ.

قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْغَنِيِّ النَّابُلُسِيُّ: مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ مَلَأَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَوْ أَنَّهُ جِسْمٌ قَاعِدٌ فَوْقَ الْعَرْشِ فَهُوَ كَافِرٌ وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ.

الْكُفْرُ الْفِعْلِيُّ: كَإِلْقَاءِ الْمُصْحَفِ فِي الْقَاذُورَاتِ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَلَوْ لَمْ يَقْصِدِ الِاسْتِخْفَافَ، لِأَنَّ فِعْلَهُ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِخْفَافِ. أَوْ أَوْرَاقِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، أَوْ أَيِّ وَرَقَةٍ عَلَيْهَا اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ الْعِلْمِ بِوُجُودِ الِاسْمِ فِيهَا، وَمَنْ عَلَّقَ شِعَارَ الْكُفْرِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَإِنْ كَانَ بِنِيَّةِ التَّبَرُّكِ أَوِ التَّعْظِيمِ أَوِ الِاسْتِحْلالِ كَانَ مُرْتَدًّا.

الْكُفْرُ الْقَوْلِيُّ: كَمَنْ يَشْتِمُ اللَّهَ بِقَوْلِهِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ مِنَ الْكُفْرِ: أُخْتَ رَبِّكَ، أَوِ ابْنَ اللَّهِ، يَقَعُ الْكُفْرُ هُنَا وَلَوْ لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّ لِلَّهِ أُخْتًا أَوِ ابْنًا.

وَلَوْ نَادَى مُسْلِمٌ مُسْلِمًا ءَاخَرَ بِقَوْلِهِ: يَا كَافِرُ بِلا تَأْوِيلٍ كَفَرَ الْقَائِلُ لِأَنَّهُ سَمَّى الإِسْلامَ كُفْرًا، وَيَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ لِلْمُسْلِمِ يَا يَهُودِيُّ أَوْ أَمْثَالَهَا مِنَ الْعِبَارَاتِ بِنِيَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ إِلَّا إِذَا قَصَدَ أَنَّهُ يُشْبِهُ الْيَهُودَ فَلا يَكْفُرُ.

وَلَوْ قَالَ شَخْصٌ لِزَوْجَتِهِ (أَنْتِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ اللَّهِ) أَوْ (أَعْبُدُكِ) كَفَرَ إِنْ كَانَ يَفْهَمُ مِنْهَا الْعِبَادَةَ الَّتِي هِيَ خَاصَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى.

وَلَوْ قَالَ شَخْصٌ لِآخَرَ (اللَّهُ يَظْلِمُكَ كَمَا ظَلَمْتَنِي) كَفَرَ الْقَائِلُ لِأَنَّهُ نَسَبَ الظُّلْمَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، إِلَّا إِذَا كَانَ يَفْهَمُ أَنَّ مَعْنَى يَظْلِمُكَ يَنْتَقِمُ مِنْكَ فَلا نُكَفِّرُهُ بَلْ نَنْهَاهُ.

وَلَوْ قَالَ شَخْصٌ لِشَخْصٍ ءَاخَرَ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ (يَلْعَنْ رَبَّكَ) كَفَرَ.

وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ لِلْمُسْلِمِ (يَلْعَنْ دِينَكَ) قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِنْ قَصَدَ سِيرَتَهُ فَلا يَكْفُرُ. قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: يَكْفُرُ إِنْ أَطْلَقَ، أَيْ إِنْ لَمْ يَقْصِدْ سِيرَتَهُ وَلا قَصَدَ دِينَ الإِسْلامِ.

وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ (فُلانٌ زَاحَ رَبِّي) لِأَنَّ هَذَا فِيهِ نِسْبَةُ الْحَرَكَةِ وَالْمَكَانِ لِلَّهِ.

وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ (قَدَّ اللَّهِ) يَقْصِدُ الْمُمَاثَلَةَ.

وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنْ نَسَبَ إِلَى اللَّهِ جَارِحَةً مِنَ الْجَوَارِحِ كَقَوْلِ بَعْضِ السُّفَهَاءِ (يَا زُبَّ اللَّهِ) وَهُوَ لَفْظٌ صَرِيحٌ فِي الْكُفْرِ لا يُقْبَلُ فِيهِ التَّأْوِيلُ.

وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ (أَنَا رَبُّ مَنْ عَمِلَ كَذَا).

وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ (خَوَتْ رَبِّي) [أَيْ جَنَّنَ].

أَوْ قَالَ لِلْكَافِرِ (اللَّهُ يُكْرِمُكَ) بِقَصْدِ أَنْ يُحِبَّهُ اللَّهُ كَفَرَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان/32].

وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ لِلْكَافِرِ (اللَّهُ يَغْفِرُ لَكَ)، إِنْ قَصَدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغْفِرُ لَهُ وَهُوَ عَلَى كُفْرِهِ إِلَى الْمَوْتِ.

وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنْ قَالَ لِمَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ (اللَّهُ يَرْحَمُهُ) بِقَصْدِ أَنْ يُريِحَهُ فِي قَبْرِهِ لا بِقَصْدِ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْهُ عَذَابَ الْقَبْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنَالَ رَاحَةً فَإِنَّهُ إِنْ قَالَ ذَلِكَ بِهَذَا الْقَصْدِ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لا يَكْفُرُ.

وَيَكْفُرُ مَنْ يَسْتَعْمِلُ كَلِمَةَ الْخَلْقِ مُضَافَةً لِلنَّاسِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَكُونُ فِيهِ بِمَعْنَى الإِبْرَازِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ كَأَنْ يَقُولَ شَخْصٌ مَا: (أُخْلُقْ لِي كَذَا كَمَا خَلَقَكَ اللَّهُ).

وَيَكْفُرُ مَنْ يَشْتِمُ عَزْرَائِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ كَمَا قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ (فِي تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ)، أَوْ أَيَّ مَلَكٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ.

وَكَذَلِكَ مَنْ يَقُولُ (أَنَا عَايِف اللَّه)، أَيْ كَرِهْتُ اللَّهَ. وَيَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ: (اللَّهُ لا يَتَحَمَّلُ فُلانًا) إِذَا فَهِمَ الْعَجْزَ أَوْ أَنَّ اللَّهَ يَنْزَعِجُ مِنْهُ، أَمَّا إِذا َكَانَ يَفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ أَنَّ اللَّهَ يَكْرَهُهُ فَلا يَكْفُرُ.

وَيَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ: «يَلْعَنْ سَمَاءَ رَبِّكَ»، لِأَنَّهُ اسْتَخَفَّ بِاللَّهِ تَعَالَى.

وَكَذَلِكَ مَنْ يُسَمِّي الْمَعَابِدَ الدِّينِيَّةَ لِلْكُفَّارِ (بُيُوتَ اللَّهِ)، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ﴾ [سُورَةَ الْحَج/40] فَالْمُرَادُ بِهِ مَعَابِدُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَمَّا كَانُوا عَلَى الإِسْلامِ لِأَنَّهَا كَمَسَاجِدِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ حَيْثُ إِنَّ الْكُلَّ بُنِيَ لِتَوْحِيدِ اللَّهِ وَتَمْجِيدِهِ لا لِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الْمَسْجِدَ الأَقْصَى مَسْجِدًا وَهُوَ لَيْسَ مِنْ بِنَاءِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ. فَلْيَتَّقِ اللَّهَ امْرُؤٌ وَلْيَحْذَرْ أَنْ يُسَمِّيَ مَا بُنِيَ لِلشِّرْكِ بُيُوتَ اللَّهِ وَمَنْ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ قَالَ مَا شَاءَ.

وَكَذَلِكَ مَنْ حَدَّثَ حَدِيثًا كَذِبًا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَذِبٌ فَقَالَ: اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا أَقُولُ بِقَصْدِ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ الأَمْرَ كَمَا قُلْتُ لِأَنَّهُ نَسَبَ الْجَهْلَ لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ لَيْسَ صَادِقًا.

وَكَذَلِكَ لا يَجُوزُ الْقَوْلُ: (كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى دِينِهِ اللَّهُ يُعِينُهُ) بِقَصْدِ الدُّعَاءِ لِكُلٍّ.

وَيَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ مُعَمِّمًا كَلامَهُ: (الْكَلْبُ أَحْسَنُ مِنْ بَنِي ءَادَمَ).

أَوْ مَنْ يَقُولُ «الْعَرَبُ جَرَبٌ»، أَمَّا إِذَا خَصَّصَ كَلامَهُ لَفْظًا أَوْ بِقَرِينَةِ الْحَالِ كَقَوْلِهِ الْيَوْمَ الْعَرَبُ فَسَدُوا ثُمَّ قَالَ الْعَرَبُ جَرَبٌ فَلا يَكْفُرُ.

وَيَكْفُرُ مَنْ يُسَمِّي الشَّيْطَانَ بِـ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ) لا إِنْ ذَكَرَ الْبَسْمَلَةَ بِنِيَّةِ التَّعَوُّذِ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهِ.

وَهُنَاكَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ وَالْكُتَّابِ يَكْتُبُ كَلِمَاتٍ كُفْرِيَّةً كَمَا كَتَبَ أَحَدُهُمْ (هَرَبَ اللَّهُ) فَهَذَا مِنْ سُوءِ الأَدَبِ مَعَ اللَّهِ الْمُوقِعِ فِي الْكُفْرِ وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي كِتَابِهِ الشِّفَا: «لا خِلافَ أَنَّ سَابَّ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَافِرٌ» اهـ.

وَيَكْفُرُ مَنْ يَسْتَحْسِنُ هَذِهِ الأَقْوَالَ وَالْعِبَارَاتِ وَمَا أَكْثَرَ انْتِشَارَهَا فِي مُؤَلَّفَاتٍ عَدِيدَةٍ.

وَسُوءُ الأَدَبِ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاسْتِهْزَاءِ بِحَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ أَوْ بِعَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهِ كُفْرٌ.

وَالِاسْتِهْزَاءُ بِمَا كُتِبَ فِيهِ شَىْءٌ مِنَ الْقُرْءَانِ الْكَرِيْمِ، أَوِ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، أَوِ بِشَعَائِرِ الإِسْلامِ أَوْ بِحُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى كُفْرٌ قَطْعًا.

وَكَذَلِكَ اسْتِحْسَانُ الْكُفْرِ مِنْ غَيْرِهِ كُفْرٌ لِأَنَّ الرِّضَى بِالْكُفْرِ كُفْرٌ.

وَلا يَكْفُرُ مَنْ نَقَلَ [كِتَابَةً أَوْ قَوْلًا] عَنْ غَيْرِهِ كُفْرِيَّةً حَصَلَتْ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْسَانٍ لَهَا بِقَوْلِهِ: قَالَ فُلانٌ كَذَا وَلَوْ أَخَّرَ صِيغَةَ قَالَ إِلَى ءَاخِرِ الْجُمْلَةِ فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِي نِيَّتِهِ ذِكْرُ أَدَاةِ الْحِكَايَةِ مُؤَخَّرَةً عَنِ الِابْتِدَاءِ.



مَا يُسْتَثْنَى مِنْ أَلْفَاظِ الْكُفْرِ الْقَوْلِيِّ

يُسْتَثْنَى مِنَ الْكُفْرِ اللَّفْظِيِّ: حَالَةُ سَبْقِ اللِّسَانِ: أَيْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِشَىْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إِرَادَةٍ بَلْ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ وَلَمْ يَقْصِدْ أَنْ يَقُولَهُ بِالْمَرَّةِ.

وَحَالَةُ غَيْبُوبَةِ الْعَقْلِ: أَيْ عَدَمِ صَحْوِ الْعَقْلِ.

وَحَالَةُ الإِكْرَاهِ: فَمَنْ نَطَقَ بِالْكُفْرِ بِلِسَانِهِ مُكْرَهًا بِالْقَتْلِ وَنَحْوِهِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيـمَانِ فَلا يَكْفُرُ قَالَ تَعَالَى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيـمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيـمَانِ وَلَكِنْ مَّنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ﴾ الآيَةَ [سُورَةَ النَّحْل/106].

حَالَةُ الْحِكَايَةِ لِكُفْرِ الْغَيْرِ: فَلا يَكْفُرُ الْحَاكِي كُفْرَ غَيْرِهِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الرِّضَى وَالِاسْتِحْسَانِ، وَمُسْتَنَدُنَا فِي اسْتِثْنَاءِ مَسْئَلَةِ الْحِكَايَةِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ﴾ [سُورَةَ التَّوْبَة/30]، ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ [سُورَةَ الْمَائِدَة/64].

ثُمَّ الْحِكَايَةُ الْمَانِعَةُ لِكُفْرِ حَاكِي الْكُفْرِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي أَوَّلِ الْكَلِمَةِ الَّتِي يَحْكِيهَا عَمَّنْ تَكَلَّمَ بِكُفْرٍ، أَوْ بَعْدَ ذِكْرِهِ الْكَلِمَةَ عَقِبَهَا وَقَدْ كَانَ نَاوِيًا أَنْ يَأْتِيَ بِأَدَاةِ الْحِكَايَةِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَةَ الْكُفْرِ، فَلَوْ قَالَ: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ قَوْلُ النَّصَارَى، أَوْ قَالَتْهُ النَّصَارَى، فَهِيَ حِكَايَةٌ مَانِعَةٌ لِلْكُفْرِ عَنِ الْحَاكِي.

وَحَالَةُ كَوْنِ الشَّخْصِ مُتَأَوِّلًا بِاجْتِهَادِهِ فِي فَهْمِ الشَّرْعِ: فَإِنَّهُ لا يَكْفُرُ الْمُتَأَوِّلُ إِلَّا إِذَا كَانَ تَأَوُّلُهُ فِي الْقَطْعِيَّاتِ فَأَخْطَأَ فَإِنَّهُ لا يُعْذَرُ كَتَأَوُّلِ الَّذِينَ قَالُوا بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَأَزَلِيَّتِهِ كَابْنِ تَيْمِيَةَ. وَأَمَّا مِثَالُ مَنْ لا يَكْفُرُ مِمَّنْ تَأَوَّلَ فَهُوَ كَتَأَوُّلِ الَّذِينَ مَنَعُوا الزَّكَاةَ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ بِأَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ لِأَنَّ صَلاتَهُ كَانَتْ عَلَيْهِمْ سَكَنًا لَهُمْ وَطُهْرَةً - أَيْ رَحْمَةً وَطُمَأْنِينَةً - وَأَنَّ ذَلِكَ انْقَطَعَ بِمَوْتِهِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يُكَفِّرُوهُمْ لِذَلِكَ لِأَنَّ هَؤُلاءِ فَهِمُوا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ﴾ [سُورَةَ التوبة/103] أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ خُذْ أَيْ يَا مُحَمَّدُ الزَّكَاةَ لِتَكُونَ إِذَا دَفَعُوهَا إِلَيْكَ سَكَنًا لَهُمْ، وَأَنَّ هَذَا لا يَحْصُلُ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَلا يَجِبُ عَلَيْهِمْ دَفْعُهَا لِأَنَّهُ قَدْ مَاتَ وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِأَخْذِهَا مِنْهُمْ، وَلَمْ يَفْهَمُوا أَنَّ الْحُكْمَ عَامٌّ فِي حَالِ حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ وَإِنَّمَا قَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ كَمَا قَاتَلَ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ فِي دَعْوَاهُ النُّبُوُّةَ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ قَهْرًا بِدُونِ قِتَالٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا ذَوِي قُوَّةٍ فَاضْطُرَّ إِلَى الْقِتَالِ. وَكَذَلِكَ الَّذِينَ فَسَّرُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنْتَهُونَ﴾ بِأَنَّهُ تَخْيِيرٌ وَلَيْسَ تَحْريِمًا لِلْخَمْرِ فَشَرِبُوهَا لِأَنَّ عُمَرَ مَا كَفَّرَهُمْ وَإِنَّمَا قَالَ: «اجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ ثَمَانِينَ، ثُمَّ إِنْ عَادُوا فَاقْتُلُوهُمْ» اهـ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ. إِنَّمَا كَفَّرُوا الآخَرِينَ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَنِ الإِسْلامِ لِتَصْدِيقِيهِمْ لِمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ الَّذِي ادَّعَى الرِّسَالَةَ، فَمُقَاتَلَتُهُمْ لِهَؤُلاءِ الَّذِينَ تَأَوَّلُوا مَنْعَ الزَّكَاةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ لِأَخْذِ الْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَذَلِكَ كَقِتَالِ الْبُغَاةِ فَإِنَّهُمْ لا يُقَاتَلُونَ لِكُفْرِهِمْ بَلْ يُقَاتَلُونَ لِرَدِّهِمْ إِلَى طَاعَةِ الْخَلِيفَةِ، كَالَّذِينَ قَاتَلَهُمْ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ فِي الْوَقَائِعِ الثَّلاثِ: وَقْعَةِ الْجَمَلِ، وَوَقْعَةِ صِفِّينَ مَعَ مُعَاوِيَةَ، وَوَقْعَةِ النَّهْرَوَانِ مَعَ الْخَوَارِجِ عَلَى أَنَّ مِنَ الْخَوَارِجِ صِنْفًا هُمْ كُفَّارٌ حَقِيقَةً فَأُولَئِكَ لَهُمْ حُكْمُهُمُ الْخَاصُّ.

قَالَ الْحَافِظُ أَبُو زُرْعَةَ الْعِرَاقِيُّ فِي نُكَتِهِ: «وَقَالَ شَيْخُنَا الْبُلْقِينِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ بِلا تَأْوِيلٍ لِيَخْرُجَ الْبُغَاةُ وَالْخَوَارِجُ الَّذِينَ يَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَ أَهْلِ الْعَدْلِ وَأَمْوَالَهُمْ وَيَعْتَقِدُونَ تَحْرِيْمَ دِمَائِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ، وَالَّذِينَ أَنْكَرُوا وُجُوبَ الزَّكَاةِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّأْوِيلِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمْ يُكَفِّرُوهُمْ» اهـ. وَهَذَا شَاهِدٌ مِنْ مَنْقُولِ الْمَذْهَبِ لِمَسْئَلَةِ التَّأْوِيلِ بِالِاجْتِهَادِ.

وَمِمَّا يَشْهَدُ مِنَ الْمَنْقُولِ فِي مَسْئَلَةِ الِاجْتِهَادِ بِالتَّأَوُّلِ وَحِكَايَةِ الْكُفْرِ قَوْلُ شَمْسِ الدِّينِ الرَّمْلِيِّ فِي شَرْحِهِ عَلَى مِنْهَاجِ الطَّالِبِينَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الرِّدَّةِ فِي شَرْحِ قَوْلِ النَّوَوِيِّ: الرِّدَّةُ قَطْعُ الإِسْلامِ بِنِيَّةٍ أَوْ قَوْلِ كُفْرٍ مَا نَصُّهُ: فَلا أَثَرَ لِسَبْقِ لِسَانٍ أَوْ إِكْرَاهٍ، وَاجْتِهَادٍ وَحِكَايَةِ كُفْرٍ.

وَقَوْلُ الْمُحَشِّي - أَيْ صَاحِبِ الْحَاشِيَةِ عَلَى الشَّرْحِ - نُورِ الدِّينِ عَلِيِّ الشَّبْرَامَلِّسِي الْمُتَوَفَّى سَنَةَ أَلْفٍ وَسَبْعٍ وَثَمَانِينَ، عِنْدَ قَوْلِ الرَّمْلِيِّ: «وَاجْتِهَادٍ» مَا نَصُّهُ: أَيْ لا مُطْلَقًا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ نَحْوِ كُفْرِ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ مَعَ أَنَّهُ بِالِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلالِ. قَالَ الْمُحَشِّي الآخَرُ عَلَى الرَّمْلِيِّ أَحْمَدُ بنُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الْمَعْرُوفُ بِالْمَغْرِبِيِّ الرَّشِيدِيِّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ أَلْفٍ وَسِتٍّ وَتِسْعِينَ قَوْلُهُ «وَاجْتِهَادٍ» أَيْ فِيمَا لَمْ يَقُمِ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى خِلافِهِ بِدَلِيلِ كُفْرِ نَحْوِ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ مَعَ أَنَّهُ بِالِاجْتِهَادِ اهـ، وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مُتَأَوِّلٍ يَمْنَعُ عَنْهُ تَأْوِيلُهُ التَّكْفِيرَ، فَلْيَجْعَلْ طَالِبُ الْعِلْمِ قَوْلَ الرَّشِيدِيِّ الْمَذْكُورَ فِيمَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى ذُكْرٍ - يَعْنِي أَنْ يَكُونَ مُسْتَحْضِرًا لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي قَلْبِهِ لِأَنَّهَا مُهِمَّةٌ -، لِأَنَّ التَّأَوُّلَ مَعَ قِيَامِ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ لا يَمْنَعُ التَّكْفِيرَ عَنْ صَاحِبِهِ.

وَقَوْلُنَا فِي الْخَوَارِجِ بِاسْتِثْنَاءِ بَعْضِهِمْ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يُكَفَّرُوا لِثُبُوتِ مَا يَقْتَضِي التَّكْفِيرَ فِي بَعْضِهِمْ كَمَا يُؤَيِّدُهُ قَوْلُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ رَوَوْا أَحَادِيثَ الْخَوَارِجِ.

وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ مِنْ أَنَّهُ قَالَ «إِخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا» فَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ لِلْحُكْمِ عَلَى جَمِيعِهِمْ بِالإِسْلامِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ إِسْنَادًا عَنْ عَلِيٍّ، وَقَدْ قَطَعَ الْحَافِظُ الْمُجْتَهِدُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ بِتَكْفِيرِهِمْ وَغَيْرُهُ، وَحُمِلَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلافِ أَحْوَالِ الْخَوَارِجِ بِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ وَصَلَ إِلَى حَدِّ الْكُفْرِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَصِلْ، وَهَذِهِ الْمَسْئَلَةُ بَعْضُهُمْ عَبَّرَ عَنْهَا بِالِاجْتِهَادِ وَبَعْضُهُمْ عَبَّرَ عَنْهَا بِالتَّأْوِيلِ، فَمِمَّنْ عَبَّرَ بِالتَّأْوِيلِ الْحَافِظُ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ سِرَاجُ الدِّينِ الْبُلْقِينِيُّ الَّذِي قَالَ فِيهِ صَاحِبُ الْقَامُوسِ «عَلَّامَةُ الدُّنْيَا» وَعَبَّرَ بَعْضُ شُرَّاحِ مِنْهَاجِ الطَّالِبِينَ بِالِاجْتِهَادِ وَكِلْتَا الْعِبَارَتَيْنِ لا بُدَّ لَهُمَا مِنْ قَيْدٍ مَلْحُوظٍ.

وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مُتَأَوِّلٍ يَمْنَعُ عَنْهُ تَأْوِيلُهُ التَّكْفِيرَ، فَلا يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ ذَلِكَ مُطْلَقٌ لِأَنَّ الإِطْلاقَ فِي ذَلِكَ انْحِلالٌ وَمُرُوقٌ مِنَ الدِّينِ.

أَلا تَرَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الإِسْلامِ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْفَلْسَفَةِ مَرَقُوا مِنَ الدِّينِ بِاعْتِقَادِهِمُ الْقَوْلَ بِأَزَلِيَّةِ الْعَالَمِ اجْتِهَادًا مِنْهُمْ وَمَعَ ذَلِكَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَكْفِيرِهِمْ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْمُحَدِّثُ الْفَقِيهُ بَدْرُ الدِّينِ الزَّرْكَشِيُّ فِي شَرْحِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ أَنَّ ذَكَرَ الْفَرِيقَيْنِ مِنْهُمُ الْفَرِيقَ الْقَائِلَ بِأَزَلِيَّةِ الْعَالَمِ بِمَادَّتِهِ وَصُورَتِهِ وَالْفَرِيقَ الْقَائِلَ بِأَزَلِيَّةِ الْعَالَمِ بِمَادَّتِهِ أَيْ بِجِنْسِهِ فَقَطْ مَا نَصُّهُ: «اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَضْلِيلِهِمْ وَتَكْفِيرِهِمْ».

وَكَذَلِكَ الْمُرْجِئَةُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لا يَضُرُّ مَعَ الإِيـمَانِ ذَنْبٌ كَمَا لا تَنْفَعُ مَعَ الْكُفْرِ حَسَنَةٌ إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ اجْتِهَادًا وَتَأْوِيلًا لِبَعْضِ النُّصُوصِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا فَلَمْ يُعْذَرُوا [فَإِنَّهُمْ تَأَوَّلُوا هَذِهِ الآيَةَ ﴿وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ﴾ حَمَلُوهَا عَلَى أَنَّ مَعْنَاهَا لا عُقُوبَةَ فِي الآخِرَةِ إِلَّا عَلَى الْكَافِرِ. وَهَذَا التَّأَوُّلُ لا يَنْفَعُهُمْ] وَكَذَلِكَ ضَلَّ فِرَقٌ غَيْرُهُمْ وَهُمْ مُنْتَسِبُونَ إِلَى الإِسْلامِ كَانَ زَيْغُهُمْ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ بِالتَّأْوِيلِ، نَسْأَلُ اللَّهَ الثَّبَاتَ عَلَى الْحَقِّ.

قَاعِدَةٌ: اللَّفْظُ الَّذِي لَهُ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَالآخَرُ لَيْسَ كُفْرًا، وَكَانَ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ كُفْرٌ ظَاهِرًا لَكِنْ لَيْسَ صَرِيْحًا، لا يُكَفَّرُ قَائِلُهُ حَتَّى يُعْرَفَ مِنْهُ أَيَّ الْمَعْنَيَيْنِ أَرَادَ، فَإِنْ قَالَ أَرَدْتُ الْمَعْنَى الْكُفْرِيَّ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الرِّدَّةِ وَإِلَّا فَلا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ اللَّفْظُ لَهُ مَعَانٍ كَثِيرَةٌ وَكَانَ كُلُّ مَعَانِيهِ كُفْرًا وَكَانَ مَعْنًى وَاحِدٌ مِنْهَا غَيْرَ كُفْرٍ لا يُكَفَّرُ إِلَّا أَنْ يُعْرَفَ مِنْهُ إِرَادَةُ الْمَعْنَى الْكُفْرِيِّ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْحَنَفِيِّينَ فِي كُتُبِهِمْ، وَأَمَّا مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي الْكَلِمَةِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ قَوْلًا بِالتَّكْفِيرِ وَقَوْلٌ وَاحِدٌ بِتَرْكِ التَّكْفِيرِ أُخِذَ بِتَرْكِ التَّكْفِيرِ فَلا مَعْنَى لَهُ، وَلا يَصِحُّ نِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَى مِالِكٍ، وَلا إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا نَسَبَ سَيِّدُ سَابِقٍ شِبْهَ ذَلِكَ إِلَى مَالِكٍ، وَهُوَ شَائِعٌ عَلَى أَلْسِنَةِ بَعْضِ الْعَصْرِيِّينَ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ.

قَالَ الْعُلَمَاءُ: أَمَّا الصَّرِيحُ أَيِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدٌ يَقْتَضِي التَّكْفِيرَ فَيُحْكَمُ عَلَى قَائِلِهِ بِالْكُفْرِ كَقَوْلِ أَنَا اللَّهُ حَتَّى لَوْ صَدَرَ هَذَا اللَّفْظُ مِنْ وَلِيٍّ فِي حَالَةِ غَيْبَةِ عَقْلِهِ يُعَزَّرُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُوَ مُكَلَّفًا تِلْكَ السَّاعَةَ قَالَ ذَلِكَ عِزُّ الدِّينِ بنُ عَبْدِ السَّلامِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّعْزِيرَ يُؤَثِّرُ فِيمَنْ غَابَ عَقْلُهُ كَمَا يُؤَثِّرُ فِي الصَّاحِي الْعَاقِلِ وَكَمَا يُؤَثِّرُ فِي الْبَهَائِمِ فَإِنَّهَا إِذَا جَمَحَتْ فَضُرِبَتْ تَكُفُّ عَنْ جُمُوحِهَا مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِعَاقِلَةٍ. كَذَلِكَ الْوَلِيُّ الَّذِي نَطَقَ بِالْكُفْرِ فِي حَالِ الْغَيْبَةِ لَمَّا يُضْرَبُ أَوْ يُصْرَخُ عَلَيْهِ يَكُفُّ لِلزَّاجِرِ الطَّبِيعِيِّ. عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ لا يَصْدُرُ مِنْهُ كُفْرٌ فِي حَالِ حُضُورِ عَقْلِهِ إِلَّا أَنْ يَسْبِقَ لِسَانُهُ أَوْ يَغِيبَ عَقْلُهُ، لِأَنَّ الْوَلِيَّ مَحْفُوظٌ مِنَ الْكُفْرِ بِخِلافِ الْمَعْصِيَةِ الْكَبِيرَةِ أَوِ الصَّغِيرَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ عَلَى الْوَلِيِّ لَكِنْ لا يَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ بَلْ يَتُوبُ عَنْ قُرْبٍ. وَقَدْ يَحْصُلُ مِنَ الْوَلِيِّ مَعْصِيَةٌ كَبِيرَةٌ قَبْلَ مَوْتِهِ بِقَلِيلٍ لَكِنْ لا يَمُوتُ إِلَّا وَقَدْ تَابَ كَطَلْحَةَ بنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَالزُّبَيْرِ بنِ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَإِنَّهُمَا خَرَجَا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِوُقُوفِهِمَا مَعَ الَّذِينَ قَاتَلُوهُ فِي الْبَصْرَةِ فَذَكَّرَ عَلِيٌّ كُلًّا مِنْهُمَا حَدِيثًا، أَمَّا الزُّبَيْرُ فَقَالَ لَهُ أَلَمْ يَقُلْ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ «إِنَّكَ لَتُقَاتِلَنَّ عَلِيًّا وَأَنْتَ ظَالِمٌ لَهُ» فَقَالَ نَسِيتُ، فَذَهَبَ مُنْصَرِفًا عَنْ قِتَالِهِ ثُمَّ لَحِقَهُ فِي طَرِيقِهِ رَجُلٌ مِنْ جَيْشِ عَلِيٍّ فَقَتَلَهُ. فَتَابَ بِتَذْكِيرِ عَلِيٍّ لَهُ فَلَمْ يَمُتْ إِلَّا تَائِبًا. وَأَمَّا طَلْحَةُ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاهُ» فَذَهَبَ مُنْصَرِفًا فَضَرَبَهُ مَرْوَانُ بنُ الْحَكَمِ فَقَتَلَهُ. وَهُوَ أَيْضًا تَابَ وَنَدِمَ عِنْدَ ذِكْرِ عَلِيٍّ لَهُ هَذَا الْحَدِيثَ. فَكُلٌّ مِنْهُمَا مَا مَاتَ إِلَّا تَائِبًا. وَكِلا الْحَدِيثَيْنِ صَحِيحٌ بَلِ الْحَدِيثُ الثَّانِي مُتَوَاتِرٌ. وَقَدْ ذَكَرَ الإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الأَشْعَرِيُّ أَنَّ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ مَغْفُورٌ لَهُمَا لِأَجْلِ الْبِشَارَةِ الَّتِي بَشَّرَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ بِهَا مَعَ ثَمَانِيَةٍ ءَاخَرِينَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَهَذَا مِنَ الإِمَامِ أَبِي الْحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ إِثْبَاتٌ أَنَّهُمَا أَثِمَا. وَكَذَلِكَ قَالَ فِي حَقِّ عَائِشَةَ لِأَجْلِ أَنَّهَا مُبَشَّرَةٌ أَيْضًا وَكَانَتْ نَدِمَتْ نَدَمًا شَدِيدًا مِنْ وُقُوفِهَا فِي الْمُقَاتِلِينَ لِعَلِيٍّ حَتَّى كَانَتْ لَمَّا تَذْكُرُ سَيْرَهَا إِلَى الْبَصْرَةِ وَوُقُوفَهَا مَعَ الْمُقَاتِلِينَ لِعَلِيٍّ تَبْكِي بُكَاءً شَدِيدًا يَبْتَلُّ مِنْ دُمُوعِهَا خِمَارُهَا. وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ أَيْضًا. وَقَالَ فِي غَيْرِهِمَا مِنْ مُقَاتِلِي عَلِيٍّ مِنْ أَهْلِ وَقْعَةِ الْجَمَلِ وَمِنْ أَهْلِ صِفِّينَ الَّذِينَ قَاتَلُوا مَعَ مُعَاوِيَةَ عَلِيًّا «مُجَوَّزٌ غُفْرَانُهُ وَالْعَفْوُ عَنْهُ» كَمَا نَقَلَ ذَلِكَ الإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بنُ فُورَك عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ فِي كِتَابِهِ مُجَرَّدِ مَقَالاتِ الأَشْعَرِيِّ، وَابْنُ فُورَك تِلْمِيذُ تِلْمِيذِ أَبِي الْحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ وَهُوَ أَبُو الْحَسَنِ الْبَاهِلِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَمَا يَظُنُّ بَعْضُ الْجَهَلَةِ مِنْ أَنَّ الْوَلِيَّ لا يَقَعُ فِي مَعْصِيَةٍ فَهُوَ جَهْلٌ فَظِيعٌ. فَهَؤُلاءِ الثَّلاثَةُ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعَائِشَةُ مِنْ أَكَابِرِ الأَوْلِيَاءِ.

قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ: اتَّفَقَ الأُصُولِيُّونَ عَلَى أَنَّ مَنْ نَطَقَ بِكَلِمَةِ الرِّدَّةِ - أَيِ الْكُفْرِ - وَزَعَمَ أَنَّهُ أَضْمَرَ تَوْرِيَةً [أَيْ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَعْنًى بَعِيدًا عَنِ الْمَعْنَى الْمُتَبَادِرِ مِنَ الْكَلِمَةِ] كُفِّرَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَأَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَيْ فَلا يَنْفَعُهُ التَّأْوِيلُ الْبَعِيدُ كَالَّذِي يَقُولُ: «يَلْعَنُ رَسُولَ اللَّهِ» وَيَقُولُ قَصْدِي بِرَسُولِ اللَّهِ الصَّوَاعِقُ.

وَقَدْ عَدَّ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ كَالْفَقِيهِ الْحَنَفِيِّ بَدْرِ الرَّشِيدِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْقَرْنِ الثَّامِنِ الْهِجْرِيِّ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً فَيَنْبَغِي الِاطِّلاعُ عَلَيْهَا فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ الشَّرَّ يَقَعْ فِيهِ فَلْيُحْذَرْ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَحَدِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ أَخَذَ لِسَانَهُ وَخَاطَبَهُ: يَا لِسَانُ قُلْ خَيْرًا تَغْنَمْ، وَاسْكُتْ عَنْ شَرٍّ تَسْلَمْ، مِنْ قَبْلِ أَنْ تَنْدَمَ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَكْثَرُ خَطَايَا ابْنِ ءَادَمَ مِنْ لِسَانِهِ»، [رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ] وَمِنْ هَذِهِ الْخَطَايَا الْكُفْرُ وَالْكَبَائِرُ.

وَفِي حَدِيثٍ ءَاخَرَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.



فَائِدَةٌ مُهِمَّةٌ


حُكْمُ مَنْ يَأْتِي بِأَحْدَى أَنْوَاعِ هَذِهِ الْكُفْرِيَّاتِ هُوَ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُهُ الصَّالِحَةُ وَحَسَنَاتُهُ جَمِيعُهَا فَلا تُحْسَبُ لَهُ ذَرَّةٌ مِنْ حَسَنَةٍ كَانَ سَبَقَ لَهُ أَنْ عَمِلَهَا مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ صِيَامٍ أَوْ صَلاةٍ وَنَحْوِهَا. إِنَّمَا تُحْسَبُ لَهُ الْحَسَنَاتُ الْجَدِيدَةُ الَّتِي يَقُومُ بِهَا بَعْدَ تَجْدِيدِ إِيـمَانِهِ قَالَ تَعَالَى ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيـمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾ [سُورَةَ الْمَائِدَة/5].

وَإِذَا قَالَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ قَبْلَ أَنْ يُجِدِّدَ إِيـمَانَهُ بِقَوْلِهِ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَهُوَ عَلَى حَالَتِهِ هَذِهِ فَلا يَزِيدُهُ قَوْلُهُ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إِلَّا إِثْمًا وَكُفْرًا لِأَنَّهُ يُكَذِّبُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ [سُورَةَ مُحَمَّد/34]، وَقَوْلَهُ تَعَالَى ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ [سُورَةَ النِّسَاء].

رَوَى ابْنُ حِبَّانَ عَنْ عِمْرَانَ بنِ الْحُصَيْنِ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ رَجُلٌ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ، عَبْدُ الْمُطَّلِبِ خَيْرٌ لِقَوْمِهِ مِنْكَ كَانَ يُطْعِمُهُمُ الْكَبِدَ وَالسَّنَامَ وَأَنْتَ تَنْحَرُهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ مَا شَاءَ اللَّهُ - مَعْنَاهُ رَدَّ عَلَيْهِ -، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ قَالَ: مَا أَقُولُ، قَالَ: «قُلِ اللَّهُمَّ قِنِي شَرَّ نَفْسِي وَاعْزِمْ لِي عَلَى أَرْشَدِ أَمْرِي» فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ وَلَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ، ثُمَّ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ إِنِّي أَتَيْتُكَ فَقُلْتُ عَلِّمْنِي فَقُلْتَ: «قُلِ اللَّهُمَّ قِنِي شَرَّ نَفْسِي وَاعْزِمْ لِي عَلَى أَرْشَدِ أَمْرِي»، فَمَا أَقُولُ الآنَ حِينَ أَسْلَمْتُ قَالَ: «قُلِ اللَّهُمَّ قِنِي شَرَّ نَفْسِي وَاعْزِمْ لِي عَلَى أَرْشَدِ أَمْرِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا عَمَدْتُ وَمَا أَخْطَأْتُ وَمَا جَهِلْتُ»

وَمِنْ أَحْكَامِ الرِّدَّةِ أَنْ يَنْفَسِخَ نِكَاحُ زَوْجَتِهِ أَيْ عَقْدُ الزِّوَاجِ الشَّرْعِيِّ فَتَكُونُ الْعَلاقَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ كُفْرِهِ عَلاقَةً غَيْرَ شَرْعِيَّةٍ فَجِمَاعُهُ لَهَا زِنًى، وَلا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكْفُرَ الزَّوْجُ وَبَيْنَ أَنْ تَكْفُرَ الزَّوْجَةُ.

عَوْدٌ إِلَى تَقْسِيمِ الْكُفْرِ لِزِيَادَةِ فَائِدَةٍ

وَاعْلَمْ أَنَّ الْكُفْرَ ثَلاثَةُ أَبْوَابٍ: إِمَّا تَشْبِيهٌ، أَوْ تَكْذِيبٌ، أَوْ تَعْطِيلٌ.

أَحَدُهَا التَّشْبِيهُ: أَيْ تَشْبِيهُ اللَّهِ بِخَلْقِهِ كَمَنْ يَصِفُهُ بِالْحُدُوثِ أَوِ الْفَنَاءِ أَوِ الْجِسْمِ أَوِ اللَّوْنِ أَوِ الشَّكْلِ أَوِ الْكَمِيَّةِ أَيْ مِقْدَارِ الْحَجْمِ، أَمَّا مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ» فَلَيْسَ مَعْنَاهُ جَمِيلَ الشَّكْلِ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ جَمِيلُ الصِّفَاتِ أَوْ مُحْسِنٌ.

ثَانِيهَا التَّكْذِيبُ: أَيْ تَكْذِيبُ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْءَانِ الْكَرِيْمِ أَوْ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهٍ ثَابِتٍ وَكَانَ مِمَّا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ كَاعْتِقَادِ فَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، أَوْ أَنَّ الْجَنَّةَ لَذَّاتٌ غَيْرُ حِسِيَّةٍ، وَأَنَّ النَّارَ ءَالامٌ مَعْنَوِيَّةٌ، أَوْ إِنْكَارِ بَعْثِ الأَجْسَادِ وَالأَرْوَاحِ مَعًا أَوِ إِنْكَارِ وُجُوبِ الصَّلاةِ أَوِ الصِّيَامِ أَوِ الزَّكَاةِ، أَوِ اعْتِقَادِ تَحْرِيْمِ الطَّلاقِ أَوِ تَحْلِيلِ الْخَمْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ثَبَتَ بِالْقَطْعِ وَظَهَرَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.

وَهَذَا بِخِلافِ مَنْ يَعْتَقِدُ بِوُجُوبِ الصَّلاةِ عَلَيْهِ مَثَلًا لَكِنَّهُ لا يُصَلِّي فَإِنَّهُ يَكُونُ عَاصِيًا لا كَافِرًا كَمَنْ يَعْتَقِدُ عَدَمَ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ.

ثَالِثُهَا التَّعْطِيلُ: أَيْ نَفْيُ وُجُودِ اللَّهِ وَهُوَ أَشَدُّ الْكُفْرِ.

وَحُكْمُ مَنْ يُشَبِّهُ اللَّهَ بِخَلْقِهِ التَّكْفِيرُ قَطْعًا.

وَالسَّبِيلُ إِلَى صَرْفِ التَّشْبِيهِ اتِّبَاعُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْقَاطِعَةِ: «مَهْمَا تَصَوَّرْتَ بِبَالِكَ فَاللَّهُ بِخِلافِ ذَلِكَ» وَهِيَ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/11].

وَمُلاحَظَةُ مَا رُوِيَ عَنِ الصِّدِّيقِ (شِعْرٌ مِنَ الْبَسِيطِ)

الْعَجْزُ عَنْ دَرَكِ الإِدْرَاكِ إِدْرَاكٌ وَالْبَحْثُ عَنْ ذَاتِهِ كُفْرٌ وَإِشْرَاكُ [رَوَاهُ الْفَقِيهُ الْمُحَدِّثُ بَدْرُ الدِّينِ الزَّرْكَشِيُّ الشَّافِعِيُّ].

وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: لا يَعْرِفُ اللَّهَ عَلَى الْحَقِيقَةِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى.

وَمَعْرِفَتُنَا نَحْنُ بِاللَّهِ تَعَالَى لَيْسَتْ عَلَى سَبِيلِ الإِحَاطَةِ بَلْ بِمَعْرِفَةِ مَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى كَوُجُوبِ الْقِدَمِ لَهُ، وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ تَعَالَى كَاسْتِحَالَةِ الشَّرِيكِ لَهُ وَ مَا يَجُوزُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى كَخَلْقِ شَىْءٍ وَتَرْكِهِ.

قَالَ الإِمَامُ الرِّفَاعِيُّ: «غَايَةُ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ الإِيقَانُ بِوُجُودِهِ تَعَالَى بِلا كَيْفٍ وَلا مَكَانٍ». [وَالرِّفَاعِيُّ هُوَ أَحْمَدُ بنُ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيٌّ وَكَانَ مِمَّنْ جَمَعَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَالزُّهْدِ. كَانَ فَقِيهًا مُحَدِّثًا مُفَسِّرًا أَلَّفَ تَآلِيفَ مِنْهَا كِتَابُ شَرْحِ التَّنْبِيهِ فِي الْفِقْهِ الشَّافِعِيِّ وَأَلَّفَ فِي الْحَدِيثِ أَرْبَعِينَ حَدِيثًا بِالإِسْنَادِ، تُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسِمِائَةٍ وَثَمَانِيَةٍ وَسَبْعِينَ. أَلَّفَ فِي تَرْجَمَتِهِ الإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الرَّافِعِيُّ تَأْلِيفًا سَمَّاهُ «سَوَادَ الْعَيْنَيْنِ فِي مَنَاقِبِ أَبِي الْعَلَمَيْنِ»]

فَائِدَةٌ

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ: إِنَّهُ (أَيِ اللَّه) أَزَلِيٌّ لَيْسَ لِوُجُودِهِ أَوَّلٌ وَلَيْسَ لِوُجُودِهِ ءَاخِرٌ. وَإِنَّهُ لَيْسَ بِجَوْهَرٍ يَتَحَيَّزُ بَلْ يَتَعَالَى وَيَتَقَدَّسُ عَنْ مُنَاسَبَةِ الْحَوَادِثِ وَإِنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ مُؤَلَّفٍ مِنْ جَوَاهِرَ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ صَانِعَ الْعَالَمِ جِسْمٌ لَجَازَ أَنْ تُعْتَقَدَ الأُلُوهِيَّةُ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَوْ لِشَىْءٍ ءَاخَرَ مِنْ أَقْسَامِ الأَجْسَامِ فَإِذًا لا يُشْبِهُ شَيْئًا وَلا يُشْبِهُهُ شَىْءٌ بَلْ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَأَنَّى يُشْبِهُ الْمَخْلُوقُ خَالِقَهُ وَالْمُقَدَّرُ [الْخَلْقُ الْمُقَدَّرُ أَيْ لَهُ كَمِيَّةٌ هَذَا شَكْلُهُ مُرَبَّعٌ وَهَذَا شَكْلُهُ غَيْرُ ذَلِكَ وَهَذَا حَارٌّ وَهَذَا بَارِدٌ] مُقَدِّرَهُ وَالْمُصَوَّرُ مُصَوِّرَهُ.

فَلَيْسَ هَذَا الْكَلامَ الَّذِي عَابَهُ الْعُلَمَاءُ وَإِنَّمَا عَابَ السَّلَفُ كَلامَ الْمُبْتَدِعَةِ فِي الِاعْتِقَادِ كَالْمُشَبِّهَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ وَسَائِرِ الْفِرَقِ الَّتِي شَذَّتْ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ وَالصَّحَابَةُ الَّذِينَ افْتَرَقُوا إِلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ بِذَلِكَ فِي حَدِيثِهِ الصَّحِيحِ الثَّابِتِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ بِاسْنَادِهِ إِلَى مُعَاوِيَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى على اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي إِلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَة وَهِيَ الْجَمَاعَةُ - أَيِ السَّوَادُ الأَعْظَمُ -. وَأَمَّا عِلْمُ الْكَلامِ الَّذِي يَشْتَغِلُونَ بِهِ أَهْلُ السُّنَّةِ مِنَ الأَشَاعِرَةِ وَالْمَاتُرِيدِيَّةِ فَقَدْ عُمِلَ بِهِ مِنْ قِبَلِ الأَشْعَرِيِّ وَالْمَاتُرِيدِيِّ كَأَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّ لَهُ خَمْسَ رَسَائِلَ فِي ذَلِكَ وَالإِمَامُ الشَّافِعِيُّ كَانَ يُتْقِنُهُ حَتَّى إِنَّهُ قَالَ: أَتْقَنَّا ذَاكَ قَبْلَ هَذَا، أَيْ أَتْقَنَّا عِلْمَ الْكَلامِ قَبْلَ الْفِقْهِ.

الْوِقَايَةُ مِنَ النَّارِ


قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [سُورَةَ التَّحْرِيْم/6]. وَجَاءَ فِي تَفْسِيرِ الآيَةِ أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلَهُمُ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ بِتَعَلُّمِ الأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، وَتَعْلِيمِ أَهْلِيهِمْ ذَلِكَ [جَاءَ ذَلِكَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ] أَيْ مَعْرِفَةِ مَا فَرَضَ اللَّهُ فِعْلَهُ أَوْ اجْتِنَابَهُ أَيِ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ وَذَلِكَ كَيْ لا يَقَعَ فِي التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ وَالْكُفْرِ وَالضَّلالِ.

ذَلِكَ لِأَنَّهُ مَنْ يُشَبِّهُ اللَّهَ تَعَالَى بِشَىْءٍ مَا لَمْ تَصِحَّ عِبَادَتُهُ، لِأَنَّهُ يَعْبُدُ شَيْئًا تَخَيَّلَهُ وَتَوَهَّمَهُ فِي مُخَيِّلَتِهِ وَأَوْهَامِهِ، قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ: «لا تَصِحُّ الْعِبَادَةُ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْمَعْبُودِ».

مَا جَاءَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا سُئِلَ عَنْ بَدْءِ الأَمْرِ: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْرُهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَىْءٍ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. أَجَابَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ بِأَنَّ اللَّهَ لا بِدَايَةَ لِوُجُودِهِ (أَيْ أَزَلِيٌّ) وَلا أَزَلِيَّ سِوَاهُ، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى فَفِي الأَزَلِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَاللَّهُ تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ، أَيْ مُخْرِجُهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ.

وَمَعْنَى خَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ أَنَّهُ أَخْرَجَ جَمِيعَ الْمَوْجُودَاتِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ.

وَاللَّهُ تَعَالَى حَيٌّ لا يَمُوتُ، لِأَنَّهُ لا نِهَايَةَ لِوُجُودِهِ (أَيْ أَبَدِيٌّ)، فَلا يَطْرَأُ عَلَيْهِ الْعَدَمُ إِذْ لَوْ وُجِدَ بَعْدَ عَدَمٍ لَاسْتَحَالَ عَلَيْهِ الْقِدَمُ (أَيِ الأَزَلِيَّةُ).

وَحُكْمُ مَنْ يَقُولُ «اللَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ» التَّكْفِيرُ قَطْعًا لِأَنَّهُ نَسَبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْعَدَمَ قَبْلَ الْوُجُودِ، وَلا يُقَالُ ذَلِكَ إِلَّا فِي الْحَوَادِثِ أَيِ الْمَخْلُوقَاتِ، فَاللَّهُ تَعَالَى وَاجِبُ الْوُجُودِ (أَيْ لا يُتَصَوَّرُ فِي الْعَقْلِ عَدَمُهُ)، فَلَيْسَ وُجُودُهُ كَوُجُودِنَا الْحَادِثِ لِأَنَّ وُجُودَنَا بِإِيْجَادِهِ تَعَالَى وَكُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ جَائِزُ الْوُجُودِ (أَيْ يُمْكِنُ عَقْلًا وُجُودُهُ بَعْدَ عَدَمٍ وَإِعْدَامُهُ بَعْدَ وُجُودِهِ) بِالنَّظَرِ لِذَاتِهِ فِي حُكْمِ الْعَقْلِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ أَقْسَامَ الْمَوْجُودِ ثَلاثَةٌ:

الأَوَّلُ: أَزَلِيٌّ أَبَدِيٌّ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَقَطْ أَيْ لا بِدَايَةَ وَلا نِهَايَةَ لِوُجُودِهِ.

وَحُكْمُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ هُنَاكَ شَيْئًا أَزَلِيًّا سِوَى اللَّهِ التَّكْفِيرُ قَطْعًا وَلِذَلِكَ كَفَرَتِ الْفَلاسِفَةُ بِاعْتِقَادِهِمُ السَّفِيهِ أَنَّ الْعَالَمَ قَديِمٌ أَزَلِيٌّ لِأَنَّ الأَزَلِيَّةَ لا تَصِحُّ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى فَقَطْ.

وَالثَّانِي: أَبَدِيٌّ لا أَزَلِيٌّ أَيْ أَنَّ لَهُ بِدَايَةً وَلا نِهَايَةَ لَهُ وَهُوَ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَهُمَا مَخْلُوقَتَانِ أَيْ لَهُمَا بِدَايَةٌ إِلَّا أَنَّهُ لا نِهَايَةَ لَهُمَا أَيْ أَبَدِيَّتَانِ فَلا يَطْرَأُ عَلَيْهِمَا خَرَابٌ أَوْ فَنَاءٌ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ بَقَاءَهُمَا، أَمَّا مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُمَا فَيَجُوزُ عَلَيْهِمَا الْفَنَاءُ عَقْلًا.

وَالثَّالِثُ: لا أَزَلِيٌّ وَلا أَبَدِيٌّ أَيْ أَنَّ لَهُ بِدَايَةً وَلَهُ نِهَايَةً وَهُوَ كُلُّ مَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مِنَ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَالأَرْضِ فَلا بُدَّ مِنْ فَنَائِهِمَا وَفَنَاءِ مَا فِيهِمَا مِنْ إِنْسٍ وَجِنٍّ وَمَلائِكَةٍ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ جَرَتْ عَادَةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى ذِكْرِ أَنَّ الْحُكْمَ الْعَقْلِيَّ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلاثَةٍ: الْوُجُوبُ وَالِاسْتِحَالَةُ وَالْجَوَازُ، وَقَالُوا: الْوَاجِبُ: مَا لا يُتَصَوَّرُ عَدَمُهُ وَهُوَ اللَّهُ وَصِفَاتُهُ.

وَالْمُسْتَحِيلُ: مَا لا يُتَصَوَّرُ فِي الْعَقْلِ وُجُودُهُ، وَقَدْ يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِالْمُمْتَنِعِ.

وَالْجَائِزُ: مَا يُتَصَوَّرُ فِي الْعَقْلِ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ وَلِذَلِكَ يَصِفُونَ اللَّهَ بِالْوَاجِبِ الْوُجُودِ.


قِدَمُ اللَّهِ لَيْسَ زَمَانِيًّا


اللَّهُ تَعَالَى كَانَ قَبْلَ الزَّمَانِ وَقَبْلَ الْمَكَانِ، وَقَبْلَ الظُّلُمَاتِ وَقَبْلَ النُّورِ، فَهُوَ تَعَالَى لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْعَالَمِ الْكَثِيفِ كَالأَرْضِ، وَالْحَجَرِ، وَالْكَوَاكِبِ، وَالنَّبَاتِ وَالإِنْسَانِ، وَلَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْعَالَمِ اللَّطِيفِ كَالنُّورِ، وَالرُّوحِ، وَالْهَوَاءِ، وَالْجِنِّ، وَالْمَلائِكَةِ لِمُخَالَفَتِهِ لِلْحَوَادِثِ، أَيْ لِمُخَالَفَتِهِ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ.

فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ مِنْ أَسْمَائِهِ اللَّطِيفُ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ مَعْنَى اللَّطِيفِ الَّذِي هُوَ اسْمٌ لِلَّهِ: الرَّحِيمُ بِعِبَادِهِ أَوِ الَّذِي احْتَجَبَ عَنِ الأَوْهَامِ فَلا تُدْرِكُهُ.

فَلا نَظِيرَ لَهُ تَعَالَى أَيْ لا مَثِيلَ لَهُ وَلا شَبِيهَ فِي ذَاتِهِ وَلا فِي صِفَاتِهِ وَلا فِي فِعْلِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُمَاثِلًا لِمَخْلُوقَاتِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ كَالْحَجْمِ وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ خَالِقًا لَهَا.

فَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الِاتِّصَافِ بِالْحَوَادِثِ، وَكَذَلِكَ صِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى هِيَ قَديِمَةٌ أَيْ أَزَلِيَّةٌ.

وَلِأَهَمِّيَّةِ هَذَا الْبَحْثِ قَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ [فِي إِحْدَى رَسَائِلِهِ الْخَمْسِ الَّتِي هِيَ ثَابِتَةٌ عَنْهُ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْحَافِظُ اللُّغَوِيُّ مُرْتَضَى الزَّبِيدِيُّ]: «مَنْ قَالَ بِحُدُوثِ صِفَاتِ اللَّهِ، أَوْ شَكَّ، أَوْ تَوَقَّفَ، فَهُوَ كَافِرٌ»، ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْوَصِيَّةِ.

وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ.






تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنِ الْمَكَانِ

وَتَصْحِيحُ وُجُودِهِ بِلا مَكَانٍ عَقْلًا


وَاللَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ أَيْ مُسْتَغْنٍ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ أَزَلًا وَأَبَدًا فَلا يَحْتَاجُ إِلَى مَكَانٍ يَتَحَيَّزُ فِيهِ أَوْ شَىْءٍ يَحُلُّ بِهِ أَوْ إِلَى جِهَةٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ كَشَىْءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ لَيْسَ حَجْمًا كَثِيفًا وَلا حَجْمًا لَطِيفًا وَالتَّحَيُّزُ مِنْ صِفَاتِ الْجِسْمِ الْكَثِيفِ وَاللَّطِيفِ فَالْجِسْمُ الْكَثِيفُ وَالْجِسْمُ اللَّطِيفُ مُتَحَيِّزٌ فِي جِهَةٍ وَمَكَانٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [سُورَةَ الأَنْبِيَاء/33] فَأَثْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى لِكُلٍّ مِنَ الأَرْبَعَةِ التَّحَيُّزَ فِي فَلَكِهِ وَهُوَ الْمَدَارُ.

وَيَكْفِي فِي تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنِ الْمَكَانِ وَالْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/11] لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَكَانٌ لَكَانَ لَهُ أَمْثَالٌ وَأَبْعَادٌ طُولٌ وَعَرْضٌ وَعُمْقٌ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مُحْدَثًا مُحْتَاجًا لِمَنْ حَدَّهُ بِهَذَا الطُّولِ وَبِهَذَا الْعَرْضِ وَبِهَذَا الْعُمْقِ، هَذَا الدَّلِيلُ مِنَ الْقُرْءَانِ.

أَمَّا مِنَ الْحَدِيثِ فَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ الْجَارُودِ وَالْبَيْهَقِيُّ بِالإِسْنَادِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْرُهُ» وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا فِي الأَزَلِ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ لا مَاءٌ وَلا هَوَاءٌ وَلا أَرْضٌ وَلا سَمَاءٌ وَلا كُرْسِيٌّ وَلا عَرْشٌ وَلا إِنْسٌ وَلا جِنٌّ وَلا مَلائِكَةٌ وَلا زَمَانٌ وَلا مَكَانٌ وَلا جِهَاتٌ، فَهُوَ تَعَالَى مَوْجُودٌ قَبْلَ الْمَكَانِ بِلا مَكَانٍ، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الْمَكَانَ فَلَيْسَ بِحَاجَةٍ إِلَيْهِ، وَهَذَا مَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ.

وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِهِ «الأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ»: «اسْتَدَلَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي نَفْيِ الْمَكَانِ عَنْهُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَىْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَىْءٌ»، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فَوْقَهُ شَىْءٌ وَلا دُونَهُ شَىْءٌ لَمْ يَكُنْ فِي مَكَانٍ» اهـ.

وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ الرَّدُّ أَيْضًا عَلَى الْقَائِلِينَ بِالْجِهَةِ فِي حَقِّهِ تَعَالَى. وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «كَانَ اللَّهُ وَلا مَكَانَ وَهُوَ الآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ» رَوَاهُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ.

وَلَيْسَ مِحْوَرُ الِاعْتِقَادِ عَلَى الْوَهْمِ بَلْ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ الصَّحِيحُ السَّلِيمُ الَّذِي هُوَ شَاهِدٌ لِلشَّرْعِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَحْدُودَ مُحْتَاجٌ إِلَى مَنْ حَدَّهُ بِذَلِكَ الْحَدِّ فَلا يَكُونُ إِلَهًا.

فَكَمَا صَحَّ وُجُودُ اللَّهِ تَعَالَى بِلا مَكَانٍ وَجِهَةٍ قَبْلَ خَلْقِ الأَمَاكِنِ وَالْجِهَاتِ فَكَذَلِكَ يَصِحُّ وُجُودُهُ بَعْدَ خَلْقِ الأَمَاكِنِ بِلا مَكَانٍ وَجِهَةٍ، وَهَذَا لا يَكُونُ نَفْيًا لِوُجُودِهِ تَعَالَى كَمَا زَعَمَتِ الْمُشَبِّهَةُ وَالْوَهَّابِيَّةُ وَهُمُ الدُّعَاةُ إِلَى التَّجْسِيمِ فِي هَذَا الْعَصْرِ.

وَحُكْمُ مَنْ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي كُلِّ مَكَانٍ أَوْ فِي جَمِيعِ الأَمَاكِنِ» التَّكْفِيرُ إِذَا كَانَ يَفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَنَّ اللَّهَ بِذَاتِهِ مُنْبَثٌ أَوْ حَالٌّ فِي الأَمَاكِنِ، أَمَّا إِذَا كَانَ يَفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَنَّهُ تَعَالَى مُسَيْطِرٌ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَعَالِمٌ بِكُلِّ شَىْءٍ فَلا يَكْفُرُ، وَهَذَا قَصْدُ كَثِيرٍ مِمَّنْ يَلْهَجُ بِهَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ، وَيَجِبُ النَّهْيُ عَنْهُمَا عَلَى كُلِّ حَالٍ، لِأَنَّهُمَا لَيْسَتَا صَادِرَتَيْنِ عَنِ السَّلَفِ بَلْ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ ثُمَّ اسْتَعْمَلَهُمَا جَهَلَةُ الْعَوَامِّ.

وَنَرْفَعُ الأَيْدِيَ فِي الدُّعَاءِ لِلسَّمَاءِ لِأَنَّهَا مَهْبِطُ الرَّحَمَاتِ وَالْبَرَكَاتِ وَلَيْسَ لِأَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ بِذَاتِهِ فِي السَّمَاءِ، كَمَا أَنَّنَا نَسْتَقْبِلُ الْكَعْبَةَ الشَّرِيفَةَ فِي الصَّلاةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِذَلِكَ وَلَيْسَ لِأَنَّ لَهَا مِيزَةً وَخُصُوصِيَّةً بِسُكْنَى اللَّهِ فِيهَا.

وَيَكْفُرُ مَنْ يَعْتَقِدُ التَّحَيُّزَ لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ شَىْءٌ كَالْهَوَاءِ أَوْ كَالنُّورِ يَمْلَأُ مَكَانًا أَوْ غُرْفَةً أَوْ مَسْجِدًا وَيُرَدُّ عَلَى الْمُعْتَقِدِينَ أَنَّ اللَّهَ مُتَحَيِّزٌ فِي جِهَةِ الْعُلْوِ وَيَقُولُونَ لِذَلِكَ تُرْفَعُ الأَيْدِي عِنْدَ الدُّعَاءِ بِمَا ثَبَتَ عَنِ الرَّسُولِ أَنَّهُ اسْتَسْقَى أَيْ طَلَبَ الْمَطَرَ وَجَعَلَ بَطْنَ كَفَّيْهِ إِلَى الأَرْضِ وَظَاهِرَهُمَا إِلَى السَّمَاءِ وَبِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى الْمُصَلِّي أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَلَوْ كَانَ اللَّهُ مُتَحَيِّزًا فِي جِهَةِ الْعُلْوِ كَمَا تَظُنُّ الْمُشَبِّهَةُ مَا نَهَانَا عَنْ رَفْعِ أَبْصَارِنَا فِي الصَّلاةِ إِلَى السَّمَاءِ، وَبِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ إِصْبَعَهُ الْمُسَبِّحَةَ عِنْدَ قَوْلِ «إِلَّا اللَّهُ» فِي التَّحِيَّاتِ وَيَحْنِيهَا قَلِيلًا فَلَوْ كَانَ الأَمْرُ كَمَا تَقُولُ الْمُشَبِّهَةُ مَا كَانَ يَحْنِيهَا بَلْ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَكُلُّ هَذَا ثَابِتٌ حَدِيثًا عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ. فَمَاذَا تَفْعَلُ الْمُشَبِّهَةُ وَالْوَهَّابِيَّةُ؟! وَنُسَمِّي الْمَسَاجِدَ بُيُوتَ اللَّهِ لا لِأَنَّ اللَّهَ يَسْكُنُهَا بَلْ لِأَنَّهَا أَمَاكِنُ مُعَدَّةٌ لِذِكْرِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ، وَيُقَالُ فِي الْعَرْشِ إِنَّهُ جِرْمٌ أَعَدَّهُ اللَّهُ لِيَطُوفَ بِهِ الْمَلائِكَةُ كَمَا يَطُوفُ الْمُؤْمِنُونَ فِي الأَرْضِ بِالْكَعْبَةِ.

وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ: (اللَّهُ يَسْكُنُ قُلُوبَ أَوْلِيَائِهِ) إِنْ كَانَ يَفْهَمُ مِنْهُ الْحُلُولَ.

وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِالْمِعْرَاجِ وُصُولَ الرَّسُولِ إِلَى مَكَانٍ يَنْتَهِي وُجُودُ اللَّهِ تَعَالَى إِلَيْهِ وَيَكْفُرُ مَنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ، إِنَّمَا الْقَصْدُ مِنَ الْمِعْرَاجِ هُوَ تَشْرِيفُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِطْلاعِهِ عَلَى عَجَائِبَ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، وَتَعْظِيمُ مَكَانَتِهِ وَرُؤْيَتُهُ لِلذَّاتِ الْمُقَدَّسِ بِفُؤَادِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الذَّاتُ فِي مَكَانٍ وَإِنَّمَا الْمَكَانُ لِلرَّسُولِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ [سُورَةَ النَّجْم] فَالْمَقْصُودُ بِهَذِهِ الآيَةِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ حَيْثُ رَءَاهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ أَجْيَادٌ وَلَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ سَادًّا عُظْمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ الأُفُقِ، كَمَا رَءَاهُ مَرَّةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى﴾ [سُورَةَ النَّجْم].

وَأَمَّا مَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ جَارِيَةٍ لَهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلا أُعْتِقُهَا، قَالَ: ائْتِنِي بِهَا، فَأَتَاهُ بِهَا فَقَالَ لَهَا: أَيْنَ اللَّهُ، قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، قَالَ: مَنْ أَنَا، قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ. فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَمْرَيْنِ: لِلِاضْطِرَابِ لِأَنَّهُ رُوِيَ بِهَذَا اللَّفْظِ وَبِلَفْظِ: مَنْ رَبُّكِ، فَقَالَتْ: اللَّهُ، وَبِلَفْظِ: أَيْنَ اللَّهُ، فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ، وَبِلَفْظِ: أَتَشْهَدِينَ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: أَتَشْهَدِينَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، قَالَتْ: نَعَمْ.

وَالأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ رِوَايَةَ أَيْنَ اللَّهُ مُخَالِفَةٌ لِلأُصُولِ لِأَنَّ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الشَّخْصَ لا يُحْكَمُ لَهُ بِقَوْلِ «اللَّهُ فِي السَّمَاءِ» بِالإِسْلامِ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ وَإِنَّمَا الأَصْلُ الْمَعْرُوفُ فِي شَرِيعَةِ اللَّهِ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَوَاتِرِ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ» [رَوَاهُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَحَابِيًّا].

وَلَفْظُ رِوَايَةِ مَالِكٍ: أَتَشْهَدِينَ، مُوَافِقٌ لِلأُصُولِ.

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَكُونُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ: أَيْنَ اللَّهُ، فَقَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، إِلَى ءَاخِرِهِ مَرْدُودَةً مَعَ إِخْرَاجِ مُسْلِمٍ لَهُ فِي كِتَابِهِ وَكُلُّ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مَوْسُومٌ بِالصِّحَّةِ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ عَدَدًا مِنْ أَحَادِيثِ مُسْلِمٍ رَدَّهَا عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ وَذَكَرَهَا الْمُحَدِّثُونَ فِي كُتُبِهِمْ كَحَدِيثِ أَنَّ الرَّسُولَ قَالَ لِرَجُلٍ: إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ، وَحَدِيثِ إِنَّهُ يُعْطَى كُلُّ مُسْلِمٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِدَاءً لَهُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أَنَسٍ: صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَكَانُوا لا يَذْكُرُونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ. فَأَمَّا الأَوَّلُ ضَعَّفَهُ الْحَافِظُ السُّيُوطِيُّ، وَالثَّانِي رَدَّهُ الْبُخَارِيُّ، وَالثَّالِثُ ضَعَّفَهُ الشَّافِعِيُّ وَعَدَدٌ مِنَ الْحُفَّاظِ.

فَهَذَا الْحَدِيثُ عَلَى ظَاهِرِهِ بَاطِلٌ لِمُعَارَضَتِهِ الْحَدِيثَ الْمُتَوَاتِرَ الْمَذْكُورَ وَمَا خَالَفَ الْمُتَوَاتِرَ فَهُوَ بَاطِلٌ إِنْ لَمْ يَقْبَلِ التَّأْوِيلَ. اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ الْمُحَدِّثُونَ وَالأُصُولِيُّونَ لَكِنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ أَوَّلُوهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَالُوا مَعْنَى أَيْنَ اللَّهُ سُؤَالٌ عَنْ تَعْظِيمِهَا لِلَّهِ وَقَوْلُهَا فِي السَّمَاءِ عَالِي الْقَدْرِ جِدًّا أَمَّا أَخْذُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ سَاكِنُ السَّمَاءِ فَهُوَ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ مُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ أَنَّ مَا خَالَفَ الْمُتَوَاتِرَ بَاطِلٌ إِنْ لَمْ يَقْبَلِ التَّأْوِيلَ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ ظَاهِرُ الْفَسَادِ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا قَالَ اللَّهُ فِي السَّمَاءِ يُحْكَمُ لَهُ بِالإِيـمَانِ.

وَحَمَلَ الْمُشَبِّهَةُ رِوَايَةَ مُسْلِمٍ عَلَى ظَاهِرِهَا فَضَلُّوا وَلا يُنْجِيهِمْ مِنَ الضَّلالِ قَوْلُهُمْ إِنَّنَا نَحْمِلُ كَلِمَةَ فِي السَّمَاءِ بِمَعْنَى إِنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ لِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ بِذَلِكَ أَثْبَتُوا لَهُ مِثْلًا وَهُوَ الْكِتَابُ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ فِيهِ إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي فَوْقَ الْعَرْشِ فَيَكُونُونَ أَثْبَتُوا الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ ذَلِكَ الْكِتَابِ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا اللَّهَ وَذَلِكَ الْكِتَابَ مُسْتَقِرَّيْنِ فَوْقَ الْعَرْشِ فَيَكُونُونَ كَذَّبُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ بِلَفْظِ «مَرْفُوعٌ فَوْقَ الْعَرْشِ»، وَأَمَّا رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ فَهِيَ «مَوْضُوعٌ فَوْقَ الْعَرْشِ»، وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُ النَّاسِ فَوْقَ بِمَعْنَى تَحْت وَهُوَ مَرْدُودٌ بِرِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ «مَرْفُوعٌ فَوْقَ الْعَرْشِ» فَإِنَّهُ لا يَصِحُّ تَأْوِيلُ فَوْقَ فِيهِ بِتَحْت. ثُمَّ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ هَذَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُحَاذِيًا لِلْعَرْشِ بِقَدْرِ الْعَرْشِ أَوْ أَوْسَعَ مِنْهُ أَوْ أَصْغَرَ، وَكُلُّ مَا جَرَى عَلَيْهِ التَّقْدِيرُ حَادِثٌ مُحْتَاجٌ إِلَى مَنْ جَعَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْمِقْدَارِ، وَالْعَرْشُ لا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ كَمَا أَنَّهُ لا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَىْءٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَلا يَتَشَرَّفُ اللَّهُ بِشَىْءٍ مِنْ خَلْقِهِ وَلا يَنْتَفِعُ بِشَىْءٍ مِنْ خَلْقِهِ. وَقَوْلُ الْمُشَبِّهَةِ اللَّهُ قَاعِدٌ عَلَى الْعَرْشِ شَتْمٌ لِلَّهِ لِأَنَّ الْقُعُودَ مِنْ صِفَةِ الْبَشَرِ وَالْبَهَائِمِ وَالْجِنِّ وَالْحَشَرَاتِ وَكُلُّ وَصْفٍ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ وُصِفَ اللَّهُ بِهِ شَتْمٌ لَهُ، قَالَ الْحَافِظُ الْفَقِيهُ اللُّغَوِيُّ مُرْتَضَى الزَّبِيدِيُّ: «مَنْ جَعَلَ اللَّهَ تَعَالَى مُقَدَّرًا بِمِقْدَارٍ كَفَرَ» أَيْ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ ذَا كَمِيَّةٍ وَحَجْمٍ وَالْحَجْمُ وَالْكَمِيَّةُ مِنْ مُوجِبَاتِ الْحُدُوثِ، وَهَلْ عَرَفْنَا أَنَّ الشَّمْسَ حَادِثَةٌ مَخْلُوقَةٌ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ إِلَّا لِأَنَّ لَهَا حَجْمًا، وَلَوْ كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى حَجْمٌ لَكَانَ مِثْلًا لِلشَّمْسِ فِي الْحَجْمِيَّةِ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ مَا كَانَ يَسْتَحِقُّ الأُلُوهِيَّةَ كَمَا أَنَّ الشَّمْسَ لا تَسْتَحِقُّ الأُلُوهِيَّةَ. فَلَوْ طَالَبَ هَؤُلاءِ الْمُشَبِّهَةَ عَابِدُ الشَّمْسِ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ عَلَى اسْتِحْقَاقِ اللَّهِ الأُلُوهِيَّةَ وَعَدَمِ اسْتِحْقَاقِ الشَّمْسِ الأُلُوهِيَّةَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ دَلِيلٌ، وَغَايَةُ مَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَقُولُوا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ﴾، فَإِنْ قَالُوا ذَلِكَ لِعَابِدِ الشَّمْسِ يَقُولُ لَهُمْ عَابِدُ الشَّمْسِ: أَنَا لا أُؤْمِنُ بِكِتَابِكُمْ أَعْطُونِي دَلِيلًا عَقْلِيًّا عَلَى أَنَّ الشَّمْسَ لا تَسْتَحِقُّ الأُلُوهِيَّةَ فَهُنَا يَنْقَطِعُونَ.

فَلا يُوجَدُ فَوْقَ الْعَرْشِ شَىْءٌ حَيٌّ يَسْكُنُهُ إِنَّمَا يُوجَدُ كِتَابٌ فَوْقَ الْعَرْشِ مَكْتُوبٌ فِيهِ: «إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي» أَيْ أَنَّ مَظَاهِرَ الرَّحْمَةِ أَكْثَرُ مِنْ مَظَاهِرِ الْغَضَبِ، الْمَلائِكَةُ مِنْ مَظَاهِرِ الرَّحْمَةِ وَهُمْ أَكْثَرُ عَدَدًا مِنْ قَطَرَاتِ الأَمْطَارِ وَأَوْرَاقِ الأَشْجَارِ، وَالْجَنَّةُ مِنْ مَظَاهِرِ الرَّحْمَةِ وَهِيَ أَكْبَرُ مِنْ جَهَنَّمَ بِآلافِ الْمَرَّاتِ.

وَكَوْنُ ذَلِكَ الْكِتَابِ فَوْقَ الْعَرْشِ ثَابِتٌ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى وَغَيْرُهُمَا، وَلَفْظُ رِوَايَةِ ابْنِ حِبِّانَ: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابٍ يَكْتُبُهُ عَلَى نَفْسِهِ [مَعْنَاهُ وَعَدَ] وَهُوَ مَرْفُوعٌ فَوْقَ الْعَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي».

فَإِنْ حَاوَلَ مُحَاوِلٌ أَنْ يُؤَوِّلَ «فَوْقَ» بِمَعْنَى دُونَ قِيلَ لَهُ: تَأْوِيلُ النُّصُوصِ لا يَجُوزُ إِلَّا بِدَلِيلٍ نَقْلِيٍّ ثَابِتٍ أَوْ عَقْلِيٍّ قَاطِعٍ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ شَىْءٌ مِنْ هَذَيْنِ، وَلا دَلِيلَ عَلَى لُزُومِ التَّأْوِيلِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِنَّ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ فَوْقَ الْعَرْشِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ نَصٌّ صَرِيحٌ بِأَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَلا بِأَنَّهُ تَحْتَ الْعَرْشِ فَبَقِيَ الأَمْرُ عَلَى الِاحْتِمَالِ أَيِ احْتِمَالِ أَنَّ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَاحْتِمَالِ أَنَّهُ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَعَلَى قَوْلِهِ إِنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ يَكُونُ جَعَلَ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ مُعَادِلًا لِلَّهِ أَيْ أَنَّ يَكُونَ اللَّهُ بِمُحَاذَاةِ قِسْمٍ مِنَ الْعَرْشِ وَاللَّوْحُ بِمُحَاذَاةِ قِسْمٍ مِنَ الْعَرْشِ وَهَذَا تَشْبِيهٌ لَهُ بِخَلْقِهِ لِأَنَّ مُحَاذَاةَ شَىْءٍ لِشَىْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ فَوْقَ الْعَرْشِ فَوْقِيَّةً حَقِيقِيَّةً لا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِأَلْفَيْ سَنَةٍ فَهُوَ عِنْدَهُ عَلَى الْعَرْشِ وَإِنَّهُ أَنْزَلَ مِنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ ءَايَتَيْنِ خُتِمَ بِهِمَا سُورَةُ الْبَقَرَةِ»، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: «فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ» فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ فَوْقَ الْعَرْشِ فَوْقِيَّةً حَقِيقِيَّةً لا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ.

وَكَلِمَةُ «عِنْدَ» لِلتَّشْرِيفِ لَيْسَ لإِثْبَاتِ تَحَيُّزِ اللَّهِ فَوْقَ الْعَرْشِ لِأَنَّ «عِنْدَ» تُسْتَعْمَلُ لِغَيْرِ الْمَكَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّنْ سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ﴾ [سُورَةَ هُود] إِنَّمَا تَدُلُّ «عِنْدَ» هُنَا أَنَّ ذَلِكَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ تِلْكَ الْحِجَارَةَ مُجَاوِرَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْمَكَانِ. فَمَنْ يَحْتَجُّ بِمُجَرَّدِ كَلِمَةِ عِنْدَ لإِثْبَاتِ الْمَكَانِ وَالتَّقَارُبِ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ فَهُوَ مِنْ أَجْهَلِ الْجَاهِلِينَ، وَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ إِنَّ تِلْكَ الْحِجَارَةَ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى أُولَئِكَ الْكَفَرَةِ نَزَلَتْ مِنَ الْعَرْشِ إِلَيْهِمْ وَكَانَتْ مُكَوَّمَةً بِمَكَانٍ فِي جَنْبِ اللَّهِ فَوْقَ الْعَرْشِ عَلَى زَعْمِهِمْ.

وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي صَلاتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ فَلا يَبْصُقَنَّ فِي قِبْلَتِهِ وَلا عَنْ يَمِينِهِ فَإنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وبَيْنَ قِبْلَتِهِ» وَهَذَا الْحَدِيثُ أَقْوَى إِسْنَادًا مِنْ حَدِيثِ الْجَارِيَةِ.

وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا، وَالَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَةِ أَحَدِكُمْ».

فَيُقَالُ لِلْمُعْتَرِضِ: إِذَا أَخَذْتَ حَدِيثَ الْجَارِيَةِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى ظَاهِرِهِمَا لَبَطَلَ زَعْمُكَ أَنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ وَإِنْ أَوَّلْتَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ وَلَمْ تُؤَوِّلْ حَدِيثَ الْجَارِيَةِ فَهَذَا تَحَكُّمٌ - أَيْ قَوْلٌ بِلا دَلِيلٍ -، وَيَصْدُقُ عَلَيْكَ قَوْلُ اللَّهِ فِي الْيَهُودِ ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَةِ/85]. وَكَذَلِكَ مَاذَا تَقُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَةِ/115] فَإِنْ أَوَّلْتَهُ فَلِمَ لا تُؤَوِّلُ حَدِيثَ الْجَارِيَةِ. وَقَدْ جَاءَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ عَنْ مُجَاهِدٍ تِلْمِيذِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «قِبْلَةُ اللَّهِ»، فَفَسَّرَ الْوَجْهَ بِالْقِبْلَةِ، أَيْ لِصَلاةِ النَّفْلِ فِي السَّفَرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ.

وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَهُوَ: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمٰنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ»، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ» فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُفَسِّرُ الرِّوَايَةَ الأُولَى لِأَنَّ خَيْرَ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْحَدِيثُ الْوَارِدُ بِالْوَارِدِ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ فِي أَلْفِيَّتِهِ: وَخَيْرُ مَا فَسَّرْتَهُ بِالْوَارِدِ.

ثُمَّ الْمُرَادُ بِأَهْلِ السَّمَاءِ الْمَلائِكَةُ، ذَكَرَ ذَلِكَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ فِي أَمَالِيِّهِ عَقِيبَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَنَصُّ عِبَارَتِهِ: وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: «أَهْلُ السَّمَاءِ» عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الآيَةِ: ﴿ءَأَمِنْتُمْ مَّنْ فِي السَّمَاءِ﴾ الْمَلائِكَةُ» اهـ، لِأَنَّهُ لا يُقَالُ لِلَّهِ «أَهْلُ السَّمَاءِ». وَ«مَنْ» تَصْلُحُ لِلْمُفَرَدِ وَلِلْجَمْعِ فَلا حُجَّةَ لَهُمْ فِي الآيَةِ، وَيُقَالُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الآيَةِ الَّتِي تَلِيهَا وَهِيَ: ﴿أَمْ أَمِنْتُمْ مَّنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا﴾ فَـ «مَنْ» فِي هَذِهِ الآيَةِ أَيْضًا أَهْلُ السَّمَاءِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ عَلَى الْكُفَّارِ الْمَلائِكَةَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحِلَّ عَلَيْهِمْ عُقُوبَتَهُ فِي الدُّنْيَا كَمَا أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْمُوَكَّلُونَ بِتَسْلِيطِ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْكُفَّارِ لِأَنَّهُمْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ وَهُمْ يَجرُّونَ عُنُقًا مِنْ جَهَنَّمَ إِلَى الْمَوْقِفِ لِيَرْتَاعَ الْكُفَّارُ بِرُؤْيَتِهِ. وَتِلْكَ الرِّوَايَةُ الَّتِي أَوْرَدَهَا الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ فِي أَمَالِيِّهِ هَكَذَا لَفْظُهَا: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحِيمُ ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ».

ثُمَّ لَوْ كَانَ اللَّهُ سَاكِنَ السَّمَاءِ كَمَا يَزْعُمُ الْبَعْضُ لَكَانَ اللَّهُ يُزَاحِمُ الْمَلائِكَةَ وَهَذَا مُحَالٌ، فَقَدْ ثَبَتَ حَدِيثُ أَنَّهُ: «مَا فِي السَّمَوَاتِ مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَفِيهِ مَلَكٌ قَائِمٌ أَوْ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ».

وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ يَأْتِينِي خَبَرُ مَنْ فِي السَّمَاءِ صَبَاحَ مَسَاءَ» فَالْمَقْصُودُ بِهِ الْمَلائِكَةُ أَيْضًا، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ اللَّهُ فَمَعْنَاهُ الَّذِي هُوَ رَفِيعُ الْقَدْرِ جِدًّا.

وَأَمَّا حَدِيثُ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ لِنِسَاءِ الرَّسُولِ: «زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ وَزَوَّجَنِي اللَّهُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ» فَمَعْنَاهُ أَنَّ تَزَوُّجَ النَّبِيِّ بِهَا مُسَجَّلٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَهَذِهِ كِتَابَةٌ خَاصَّةٌ بِزَيْنَبَ لَيْسَتِ الْكِتَابَةَ الْعَامَّةَ، الْكِتَابَةُ الْعَامَّةُ لِكُلِّ شَخْصٍ فَكُلُّ زِوَاجٍ يَحْصُلُ إِلَى نِهَايَةِ الدُّنْيَا مُسَجَّلٌ، وَاللَّوْحُ فَوْقَ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ.

وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَتَأْبَى عَلَيْهِ إِلَّا كَانَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ سَاخِطًا عَلَيْهَا... »الْحَدِيثَ، فَيُحْمَلُ أَيْضًا عَلَى الْمَلائِكَةِ بِدَلِيلِ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ الصَّحِيحَةِ وَالَّتِي هِيَ أَشْهَرُ مِنْ هَذِهِ وَهِيَ: «لَعَنَتْهَا الْمَلائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ»، رَوَاهَا ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ.

وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رَبَّنَا الَّذِي فِي السَّمَاءِ تَقَدَّسَ اسْمُكَ» فَلَمْ يَصِحَّ بَلْ هُوَ ضَعِيفٌ كَمَا حَكَمَ عَلَيْهِ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَلَوْ صَحَّ فَأَمْرُهُ كَمَا مَرَّ فِي حَدِيثِ الْجَارِيَةِ.

وَأَمَّا حَدِيثُ جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ، وَسَمَوَاتُهُ فَوْقَ أَرَاضِيهِ مِثْلَ الْقُبَّةِ» فَلَمْ يُدْخِلْهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ فَلا حُجَّةَ فِيهِ، وَفِي إِسْناَدِهِ مَنْ هُوَ ضَعِيفٌ لا يُحْتَجُّ بِهِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ.

وَكَذَلِكَ مَا رَوَاهُ فِي كِتَابِهِ «خَلْقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «لَمَّا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى كَانَ نِدَاؤُهُ فِي السَّمَاءِ وَكَانَ اللَّهُ فِي السَّمَاءِ"، فَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ فَلا يُحْتَجُّ بِهِ» [الْبُخَارِيُّ لَمْ يَلْتَزِمْ أَنْ لا يَذْكُرَ إِلَّا الصَّحِيحَ فِي هَذَا الْكِتَابِ، لِذَلِكَ لا يُكْتَفَى لِتَصْحِيحِ الْحَدِيثِ بِمُجَرَّدِ ذِكْرِهِ فِيهِ].

وَأَمَّا الْقَوْلُ الْمَنْسُوبُ لِمَالِكٍ وَهُوَ قَوْلُ: «اللَّهُ فِي السَّمَاءِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ لا يَخْلُو مِنْهُ شَىْءٌ» فَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ غَيْرُ مُسْنَدٍ عَنْهُ، وَأَبُو دَاوُدَ لَمْ يُسْنِدْهُ إِلَيْهِ بِالإِسْنَادِ الصَّحِيحِ بَلْ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِهِ الْمَرَاسِيلُ، وَمُجَرَّدُ الرِّوَايَةِ لا يَكُونُ إِثْبَاتًا.



صِفَاتُ اللَّهِ الثَّلاثَ عَشْرَةَ


جَرَتْ عَادَةُ الْعُلَمَاءِ الْمُؤَلِّفِينَ فِي الْعَقِيدَةِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْوَاجِبَ الْعَيْنِيَّ الْمَفْرُوضَ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ «أَيِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ» أَنْ يَعْرِفَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ ثَلاثَ عَشْرَةَ صِفَةً:

الْوُجُودَ، وَالْقِدَمَ، وَالْمُخَالَفَةَ لِلْحَوَادِثِ، وَالْوَحْدَانِيَّةَ، وَالْقِيَامَ بِنَفْسِهِ، وَالْبَقَاءَ، وَالْقُدْرَةَ، وَالإِرَادَةَ، وَالْحَيَاةَ، وَالْعِلْمَ، وَالْكَلامَ، وَالسَّمْعَ، وَالْبَصَرَ، وَأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ عَلَى اللَّهِ مَا يُنَافِي هَذِهِ الصِّفَاتِ.

وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ ذُكِرَتْ كَثِيرًا فِي النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ قَالَ الْعُلَمَاءُ: يَجِبُ مَعْرِفَتُهَا وُجُوبًا عَيْنِيًّا - أَيْ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ بِعَيْنِهِ -، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِوُجُوبِ مَعْرِفَةِ عِشْرِينَ صِفَةً، فَزَادُوا سَبْعَ صِفَاتٍ مَعْنَوِيَّةٍ، قَالُوا: وَكَوْنُهُ تَعَالَى قَادِرًا وَمُرِيدًا وَحَيًّا وَعَالِمًا وَمُتَكَلِّمًا وَسَمِيعًا وَبَصِيرًا، وَالطَّرِيقَةُ الأُولَى هِيَ الرَّاجِحَةُ لِأَنَّهُ يُعْلَمُ مِنْ ثُبُوتِ الْقُدْرَةِ لَهُ كَوْنُهُ قَادِرًا وَهَكَذَا الْبَقِيَّةُ.



الْوُجُودُ


اعْلَمْ رَحِمَكَ اللَّهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَوْجُودٌ أَزَلًا وَأَبَدًا فَلَيْسَ وُجُودُهُ تَعَالَى بِإِيْجَادِ مُوجِدٍ.

وَقَدِ اسْتَنْكَرَ بَعْضُ النَّاسِ قَوْلَ: «اللَّهُ مَوْجُودٌ» لِكَوْنِهِ عَلَى وَزْنِ مَفْعُولٍ وَالْجَوَابُ أَنَّ مَفْعُولًا قَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَنْ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ فِعْلُ الْغَيْرِ كَمَا نَقُولُ: اللَّهُ مَعْبُودٌ وَهَؤُلاءِ ظَنُّوا بِأَنْفُسِهِمْ أَنَّ لَهُمْ نَصِيبًا فِي عِلْمِ اللُّغَةِ وَلَيْسُوا كَمَا ظَنُّوا.

قَالَ اللُّغَوِيُّ الْكَبِيرُ شَارِحُ الْقَامُوسِ الزَّبِيدِيُّ فِي شَرْحِ الإِحْيَاءِ مَا نَصُّهُ: «وَالْبَارِئُ تَعَالَى مَوْجُودٌ فَصَحَّ أَنْ يُرَى».

وَقَالَ الْفَيُّومِيُّ اللُّغَوِيُّ صَاحِبُ الْمِصْبَاحِ: الْمَوْجُودُ خِلافُ الْمَعْدُومِ.



الْقِدَمُ


يَجِبُ لِلَّهِ الْقِدَمُ بِمَعْنَى الأَزَلِيَّةِ لا بِمَعْنَى تَقَادُمِ الْعَهْدِ وَالزَّمَنِ، لِأَنَّ لَفْظَ الْقَديِمِ وَالأَزَلِيِّ إِذَا أُطْلِقَا عَلَى اللَّهِ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ لا بِدَايَةَ لِوُجُودِهِ، فَيُقَالُ اللَّهُ أَزَلِيٌّ، اللَّهُ قَديِمٌ، وَإِذَا أُطْلِقَا عَلَى الْمَخْلُوقِ كَانَا بِمَعْنَى تَقَادُمِ الْعَهْدِ وَالزَّمَنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقَمَرِ: ﴿حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَديِمِ﴾ [سُورَةَ يَس/39]، وَقَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ (الْفَيْرُوزْءَابَادِي): الْهَرَمَانِ بِنَاءَانِ أَزَلِيَّانِ بِمِصْرَ.

وَأَمَّا بُرْهَانُ قِدَمِهِ تَعَالَى فَهُوَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ قَديِمًا لَلَزِمَ حُدُوثُهُ فَيَفْتَقِرُ إِلَى مُحْدِثٍ فَيَلْزَمُ الدَّوْرُ أَوِ التَّسَلْسُلُ وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ حُدُوثَهُ تَعَالَى مُحَالٌ وَقِدَمَهُ ثَابِتٌ.


الْبَقَاءُ


يَجِبُ الْبَقَاءُ لِلَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى أَنَّهُ لا يَلْحَقُهُ فَنَاءٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ وُجُوبُ قِدَمِهِ تَعَالَى عَقْلًا وَجَبَ لَهُ الْبَقَاءُ، لِأَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ أَنْ يَلْحَقَهُ الْعَدَمُ لَانْتَفَى عَنْهُ الْقِدَمُ، فَهُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْبَاقِي لِذَاتِهِ لا بَاقِيَ لِذَاتِهِ غَيْرُهُ، وَأَمَّا الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَبَقَاؤُهُمَا لَيْسَ بِالذَّاتِ بَلْ لِأَنَّ اللَّهَ شَاءَ لَهُمَا الْبَقَاءَ، فَالْجَنَّةُ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهَا يَجُوزُ عَلَيْهَا الْفَنَاءُ وَكَذَلِكَ النَّارُ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهَا يَجُوزُ عَلَيْهَا الْفَنَاءُ.





السَّمْعُ


وَهُوَ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ ثَابِتَةٌ لِذَاتِ اللَّهِ.

فَهُوَ يَسْمَعُ الأَصْوَاتَ بِسَمْعٍ أَزَلِيٍّ أَبَدِيٍّ لا كَسَمْعِنَا، لَيْسَ بِأُذُنٍ وَصِمَاخٍ، فَهُوَ تَعَالَى لا يَعْزُبُ أَيْ لا يَغِيبُ عَنْ سَمْعِهِ مَسْمُوعٌ وَإِنْ خَفِيَ - أَيْ عَلَيْنَا - وَبَعُدَ - أَيْ عَنَّا -، كَمَا يَعْلَمُ بِغَيْرِ قَلْبٍ. وَدَلِيلُ وُجُوبِ السَّمْعِ لَهُ عَقْلًا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِالسَّمْعِ لَكَانَ مُتَّصِفًا بِالصَّمَمِ وَهُوَ نَقْصٌ عَلَى اللَّهِ، وَالنَّقْصُ عَلَيْهِ مُحَالٌ، فَمَنْ قَالَ إِنَّهُ يَسْمَعُ بِأُذُنٍ فَقَدْ أَلْحَدَ وَكَفَرَ.



الْبَصَرُ


يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى عَقْلًا الْبَصَرُ أَيِ الرُّؤْيَةُ.

فَهُوَ يَرَى بِرُؤْيَةٍ أَزَلِيَّةٍ أَبَدِيَّةٍ الْمَرْئِيَّاتِ جَمِيعَهَا وَيَرَى ذَاتَهُ بِغَيْرِ حَدَقَةٍ وَجَارِحَةٍ لِأَنَّ الْحَوَاسَّ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِ الْبَصَرِ لَهُ عَقْلًا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ بَصِيرًا رَائِيًا لَكَانَ أَعْمَى، وَالْعَمَى أَيْ عَدَمُ الرُّؤْيَةِ نَقْصٌ عَلَى اللَّهِ، وَالنَّقْصُ عَلَيْهِ مُسْتَحِيلٌ.

وَدَلِيلُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ السَّمْعِيُّ الآيَاتُ وَالأَحَادِيثُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/11]، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَعْدَادِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى: «السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» وَهُوَ فِي حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ.


الْكَلامُ


الْكَلامُ هُوَ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ هُوَ مُتَكَلِّمٌ بِهَا ءَامِرٌ، نَاهٍ، وَاعِدٌ، مُتَوَعِّدٌ، لَيْسَ كَكَلامِ غَيْرِهِ، بَلْ أَزَلِيٌّ بِأَزَلِيَّةِ الذَّاتِ لا يُشْبِهُ كَلامَ الْخَلْقِ وَلَيْسَ بِصَوْتٍ يَحْدُثُ مِنَ انْسِلالِ الْهَوَاءِ أَوِ اصْطِكَاكِ الأَجْرَامِ، وَلا بِحَرْفٍ يَنْقَطِعُ بِإِطْبَاقِ شَفَةٍ أَوْ تَحْرِيكِ لِسَانٍ.

وَنَعْتَقِدُ أَنَّ مُوسَى سَمِعَ كَلامَ اللَّهِ الأَزَلِيَّ بِغَيْرِ حَرْفٍ وَلا صَوْتٍ كَمَا يَرَى الْمُؤْمِنُونَ ذَاتَ اللَّهِ فِي الآخِرَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ جَوْهَرًا وَلا عَرَضًا لِأَنَّ الْعَقْلَ لا يُحِيلُ سَمَاعَ مَا لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلا صَوْتٍ.

وَكَلامُهُ تَعَالَى الذَّاتِيُّ لَيْسَ حُرُوفًا مُتَعَاقِبَةً كَكَلامِنَا، وَإِذَا قَرَأَ الْقَارِئُ مِنَّا كَلامَ اللَّهِ فَقِرَاءَتُهُ حَرْفٌ وصَوْتٌ لَيْسَتْ أَزَلِيَّةً.

وَالْقُرْءَانُ لَهُ إِطْلاقَانِ:

يُطْلَقُ عَلَى اللَّفْظِ الْمُنَزَّلِ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى الْكَلامِ الذَّاتِيِّ الأَزَلِيِّ الَّذِي لَيْسَ هُوَ بِحَرْفٍ وَلا صَوْتٍ وَلا لُغَةٍ عَرَبِيَّةٍ وَلا غَيْرِهَا. فَإِنْ قُصِدَ بِهِ الْكَلامُ الذَّاتِيُّ فَهُوَ أَزَلِيٌّ لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلا صَوْتٍ، وَإِنْ قُصِدَ بِهِ وَبِسَائِرِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ اللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ فَمِنْهُ مَا هُوَ بِاللُّغَةِ الْعِبْرِيَّةِ وَمِنْهُ مَا هُوَ بِاللُّغَةِ السُّرْيَانِيَّةِ وَهَذِهِ اللُّغَاتُ وَغَيْرُهَا مِنَ اللُّغَاتِ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً فِي الأَزَلِ فَخَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَصَارَتْ مَوْجُودَةً وَاللَّهُ تَعَالَى كَانَ قَبْلَ كُلِّ شَىْءٍ، وَكَانَ مُتَكَلِّمًا قَبْلَهَا وَلَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا وَكَلامُهُ الَّذِي هُوَ صِفَتُهُ أَزَلِيٌّ أَبَدِيٌّ وَهُوَ كَلامٌ وَاحِدٌ وَهَذِهِ الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ كُلُّهَا عِبَارَاتٌ عَنْ ذَلِكَ الْكَلامِ الذَّاتِيِّ الأَزَلِيِّ الأَبَدِيِّ، وَلا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْعِبَارَةِ حَادِثَةً كَوْنُ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ حَادِثًا أَلا تَرَى أَنَّنَا إِذَا كَتَبْنَا عَلَى لَوْحٍ أَوْ جِدَارٍ «اللَّه» فَقِيلَ هَذَا اللَّهُ فَهَلْ مَعْنَى هَذَا أَنَّ أَشْكَالَ الْحُرُوفِ الْمَرْسُومَةَ هِيَ ذَاتُ اللَّهِ لا يَتَوَهَّمُ هَذَا عَاقِلٌ إِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ عِبَارَةٌ عَنِ الإِلَهِ الَّذِي هُوَ مَوْجُودٌ مَعْبُودٌ خَالِقٌ لِكُلِّ شَىْءٍ وَمَعَ هَذَا لا يُقَالُ الْقُرْءَانُ مَخْلُوقٌ لَكِنْ يُبَيَّنُ فِي مَقَامِ التَّعْلِيمِ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُنَزَّلَ لَيْسَ قَائِمًا بِذَاتِ اللَّهِ بَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ لِأَنَّهُ حُرُوفٌ يَسْبِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَمَا كَانَ كَذَلِكَ حَادِثٌ مَخْلُوقٌ قَطْعًا. لَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ تَصْنِيفِ مَلَكٍ وَلا بَشَرٍ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْكَلامِ الذَاتِيِّ الَّذِي لا يُوصَفُ بِأَنَّهُ عَرَبِيٌّ، وَلا بِأَنَّهُ عِبْرانِيٌّ، وَلا بِأَنَّهُ سُرْيَانِيٌّ، وَكُلٌّ يُطْلَقُ عَلَيْهِ كَلامُ اللَّهِ، أَيْ أَنَّ صِفَةَ الْكَلامِ الْقَائِمَةَ بِذَاتِ اللَّهِ يُقَالُ لَهَا كَلامُ اللَّهِ، وَاللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْهُ يُقَالُ لَهُ كَلامُ اللَّهِ.

وَقَدْ نُقِلَ هَذَا التَّفْصِيلُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ مِنَ السَّلَفِ أَدْرَكَ شَيْئًا مِنَ الْمِائَةِ الأُولَى ثُمَّ تُوُفِّيَ سَنَةَ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ هِجْرِيَّةً قَالَ: «وَاللَّهُ يَتَكَلَّمُ لا بِآلَةٍ وَحَرْفٍ وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ بِآلَةٍ وَحَرْفٍ» فَلْيُفْهَمْ ذَلِكَ، وَلَيْسَ الأَمْرُ كَمَا تَقُولُ الْمُشَبِّهَةُ بِأَنَّ السَّلَفَ مَا كَانُوا يَقُولُونَ بِأَنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ بِكَلامٍ لَيْسَ بِحَرْفٍ وَإِنَّمَا هَذَا بِدْعَةُ الأَشَاعِرَةِ، وَهَذَا الْكَلامُ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ ثَابِتٌ ذَكَرَهُ فِي إِحْدَى رَسَائِلِهِ الْخَمْسِ.

وَالإِطْلاقَانِ مِنْ بَابِ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ إِمَّا لُغَوِيَّةٌ وَإِمَّا شَرْعِيَّةٌ وَإِمَّا عُرْفِيَّةٌ.

وَتَقْرِيبُ ذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ الْجَلالَةِ «اللَّه» عِبَارَةٌ عَنْ ذَاتٍ أَزَلِيٍّ أَبَدِيٍّ، فَإِذَا قُلْنَا نَعْبُدُ اللَّهَ فَذَلِكَ الذَّاتُ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَإِذَا كُتِبَ هَذَا اللَّفْظُ فَقِيلَ: مَا هَذَا؟ يُقَالُ: اللَّه، بِمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الذَّاتِ الأَزَلِيِّ الأَبَدِيِّ لا بِمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ هِيَ الذَّاتُ الَّذِي نَعْبُدُهُ.



الإِرَادَةُ



اعْلَمْ أَنَّ الإِرَادَةَ وَهِيَ الْمَشِيئَةُ وَاجِبَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ يُخَصِّصُ اللَّهُ بِهَا الْجَائِزَ الْعَقْلِيَّ بِالْوُجُودِ بَدَلَ الْعَدَمِ، وَبِصِفَةٍ دُونَ أُخْرَى وَبِوَقْتٍ دُونَ ءَاخَرَ. وَبُرْهَانُ وُجُوبِ الإِرَادَةِ لِلَّهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا لَمْ يُوجَدْ شَىْءٌ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ، لِأَنَّ الْعَالَمَ مُمْكِنُ الْوُجُودِ فَوُجُودُهُ لَيْسَ وَاجِبًا لِذَاتِهِ عَقْلًا وَالْعَالَمُ مَوْجُودٌ فَعَلِمْنَا أَنَّهُ مَا وُجِدَ إِلَّا بِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ لِوُجُودِهِ وَتَرْجِيحِهِ لَهُ عَلَى عَدَمِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ مُرِيدٌ شَاءٍ.

ثُمَّ الإِرَادَةُ بِمَعْنَى الْمَشِيئَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ شَامِلَةٌ لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ جَمِيعِهَا الْخَيْرِ مِنْهَا وَالشَّرِّ، فَكُلُّ مَا دَخَلَ فِي الْوُجُودِ مِنْ أَعْمَالِ الشَّرِّ وَالْخَيْرِ وَمِنْ كُفْرٍ أَوْ مَعَاصٍ أَوْ طَاعَةٍ فَبِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقَعَ وَحَصَلَ، وَهَذَا كَمَالٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ شُمُولَ الْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ لائِقٌ بِجَلالِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يَقَعُ فِي مُلْكِهِ مَا لا يَشَاءُ لَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلَ الْعَجْزِ وَالْعَجْزُ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ.

وَالْمَشِيئَةُ تَابِعَةٌ لِلْعِلْمِ أَيْ أَنَّهُ مَا عَلِمَ حُدُوثَهُ فَقَدْ شَاءَ حُدُوثَهُ وَمَا عَلِمَ أَنَّهُ لا يَكُونُ لَمْ يَشَأْ أَنْ يَكُونَ.

وَلَيْسَتِ الْمَشِيئَةُ تَابِعَةً لِلأَمْرِ بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ وَلَدِهِ إِسْمَاعِيلَ وَلَمْ يَشَأْ لَهُ ذَلِكَ.

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَأْمُرُ بِمَا لَمْ يَشَأْ وُقُوعَهُ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ قَدْ يَأْمُرُ بِمَا لَمْ يَشَأْ، كَمَا أَنَّهُ عَلِمَ بِوُقُوعِ شَىْءٍ مِنَ الْعَبْدِ وَنَهَاهُ عَنْ فِعْلِهِ.



الْقُدْرَةُ



يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى الْقُدْرَةُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَالْمُرَادُ بِالشَّىْءِ هُنَا الْجَائِزُ الْعَقْلِيُّ فَخَرَجَ بِذَلِكَ الْمُسْتَحِيلُ الْعَقْلِيُّ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَابِلٍ لِلْوُجُودِ فَلَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِتَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَادِرٌ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا، إِذْ لَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ لَكَانَ عَاجِزًا»، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ غَيْرُ لازِمٍ لِأَنَّ اتِّخَاذَ الْوَلَدِ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ وَالْمُحَالُ الْعَقْلِيُّ لا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقُدْرَةِ، وَعَدَمُ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِالشَّىْءِ تَارَةً يَكُونُ لِقُصُورِهَا عَنْهُ وَذَلِكَ فِي الْمَخْلُوقِ، وَتَارَةً يَكُونُ لِعَدَمِ قَبُولِ ذَلِكَ الشَّىْءِ الدُّخُولَ فِي الْوُجُودِ أَيْ حُدُوثَ الْوُجُودِ لِكَوْنِهِ مُسْتَحِيلًا عَقْلِيًّا وَتَارَةً يَكُونُ لِعَدَمِ قَبُولِ ذَلِكَ الشَّىْءِ الْعَدَمَ لِكَوْنِهِ وَاجِبًا عَقْلِيًّا. أَمَّا الْمُسْتَحِيلُ الْعَقْلِيُّ فَعَدَمُ قَبُولِهِ الدُّخُولَ فِي الْوُجُودِ ظَاهِرٌ وَأَمَّا الْوَاجِبُ الْعَقْلِيُّ فَلا يَقْبَلُ حُدُوثَ الْوُجُودِ لِأَنَّ وُجُودَهُ أَزَلِيٌّ، فَرْقٌ بَيْنَ الْوُجُودِ وَبَيْنَ الدُّخُولِ فِي الْوُجُودِ، فَالْوُجُودُ يَشْمَلُ الْوُجُودَ الأَزَلِيَّ وَالْوُجُودَ الْحَادِثَ. وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُسَمَّى وُجُودًا. أَمَّا الدُّخُولُ فِي الْوُجُودِ فَهُوَ الْوُجُودُ الْحَادِثُ. فَالْوَاجِبُ الْعَقْلِيُّ اللَّهُ وَصِفَاتُهُ، فَاللَّهُ وَاجِبٌ عَقْلِيٌّ وُجُودُهُ أَزَلِيٌّ وَصِفَاتُهُ أَزَلِيَّةٌ وَلا يُقَالُ لِلَّهِ وَلا لِصِفَاتِهِ دَاخِلٌ فِي الْوُجُودِ لِأَنَّ وُجُودَهُمَا أَزَلِيٌّ، فَقَوْلُنَا إِنَّ الْوَاجِبَ الْعَقْلِيَّ لا يَقْبَلُ الدُّخُولَ فِي الْوُجُودِ صَحِيحٌ لَكِنْ يَقْصُرُ عَنْهُ أَفْهَامُ الْمُبْتَدِئِينَ فِي الْعَقِيدَةِ، أَمَّا عِنْدَ مَنْ مَارَسَ فَهِيَ وَاضِحَةُ الْمُرَادِ.

وَالْعَجْزُ هُوَ الأَوَّلُ الْمَنْفِيُّ عَنْ قُدْرَتِهِ تَعَالَى لا الثَّانِي، فَلا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ وَلا عَاجِزٌ، قَالَ بَعْضُهُمْ: كَمَا لا يُقَالُ عَنِ الْحَجَرِ عَالِمٌ وَلا جَاهِلٌ.

وَكَذَلِكَ يُجَابُ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمُلْحِدِينَ: «هَلِ اللَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُ» وَهَذَا فِيهِ تَجْوِيزُ الْمُحَالِ الْعَقْلِيِّ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَزَلِيٌّ وَلَوْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ لَكَانَ أَزَلِيًّا، وَالأَزَلِيُّ لا يُخْلَقُ لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ فَكَيْفَ يُخْلَقُ الْمَوْجُودُ.



الْعِلْمُ


اعْلَمْ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ كَمَا أَنَّ ذَاتَهُ أَزَلِيٌّ، فَلَمْ يَزَلْ عَالِمًا بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَا يُحْدِثُهُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، فَلا يَتَّصِفُ بِعِلْمٍ حَادِثٍ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ اتِّصَافُهُ بِالْحَوَادِثِ لَانْتَفَى عَنْهُ الْقِدَمُ لِأَنَّ مَا كَانَ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا.

وَمَا أَوْهَمَ تَجَدُّدَ الْعِلْمِ لِلَّهِ تَعَالَى مِنَ الآيَاتِ الْقُرْءَانِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا﴾ [سُورَةَ الأَنْفَال/66] فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَعَلِمَ﴾ لَيْسَ رَاجِعًا لِقَوْلِهِ: ﴿الآنَ﴾ بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى خَفَّفَ عَنْكُمُ الآنَ لِأَنَّهُ عَلِمَ بِعِلْمِهِ السَّابِقِ فِي الأَزَلِ أَنَّهُ يَكُونُ فِيكُمْ ضَعْفٌ.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ﴾ [سُورَةَ مُحَمَّد/31] مَعْنَاهُ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نُمَيِّزَ أَيْ نُظْهِرَ لِلْخَلْقِ مَنْ يُجَاهِدُ وَيَصْبِرُ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكَانَ اللَّهُ عَالِمًا قَبْلُ كَمَا نَقَلَ الْبُخَارِيُّ ذَلِكَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بنِ الْمُثَنَّى، وَهَذَا شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ [سُورَةَ الأَنْفَال/37].



الْحَيَاةُ


يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى الْحَيَاةُ، فَهُوَ حَيٌّ لا كَالأَحْيَاءِ، إِذْ حَيَاتُهُ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ لَيْسَتْ بِرُوحٍ وَدَمٍ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ حَيَاتِهِ وُجُودُ هَذَا الْعَالَمِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ حَيًّا لَمْ يُوجَدْ شَىءٌ مِنَ الْعَالَمِ، لَكِنَّ وُجُودَ الْعَالَمِ ثَابِتٌ بِالْحِسِّ وَالضَّرُورَةِ بِلا شَكٍّ.


الْوَحْدَانِيَّةُ



مَعْنَى الْوَحْدَانِيَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ ذَاتًا مُؤَلَّفًا مِنْ أَجْزَاءٍ، فَلا يُوجَدُ ذَاتٌ مِثْلُ ذَاتِهِ وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ صِفَةٌ كَصِفَتِهِ أَوْ فِعْلٌ كَفِعْلِهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَحْدَانِيَّةَ الْعَدَدِ إِذِ الْوَاحِدُ فِي الْعَدَدِ لَهُ نِصْفٌ وَأَجْزَاءٌ أَيْضًا، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ لا شَبِيهَ لَهُ.

وَبُرْهَانُ وَحْدَانِيَّتِهِ هُوَ أَنَّهُ لا بُدَّ لِلصَّانِعِ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَيًّا قَادِرًا عَالِمًا مُرِيدًا مُخْتَارًا، فَإِذَا ثَبَتَ وَصْفُ الصَّانِعِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ قُلْنَا لَوْ كَانَ لِلْعَالَمِ صَانِعَانِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيًّا قَادِرًا عَالِمًا مُرِيدًا مُخْتَارًا وَالْمُخْتَارَانِ يَجُوزُ اخْتِلافُهُمَا فِي الِاخْتِيَارِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مُجْبَرٍ عَلَى مُوَافَقَةِ الآخَرِ فِي اخْتِيَارِهِ، وَإِلَّا لَكَانَا مَجْبُورَيْنِ وَالْمَجْبُورُ لا يَكُونُ إِلَهًا، فَإِذَا صَحَّ هَذَا فَلَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا خِلافَ مُرَادِ الآخَرِ فِي شَىْءٍ كَأَنْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا حَيَاةَ شَخْصٍ وَأَرَادَ الآخَرُ مَوْتَهُ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَتِمَّ مُرَادُهُمَا أَوْ لا يَتِمَّ مُرَادُهُمَا أَوْ يَتِمَّ مُرَادُ أَحَدِهِمَا وَلا يَتِمَّ مُرَادُ الآخَرِ، وَمُحَالٌ تَمَامُ مُرَادَيْهِمَا لِتَضَادِّهِمَا أَيْ إِنْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا حَيَاةَ شَخْصٍ وَأَرَادَ الآخَرُ مَوْتَهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الشَّخْصُ حَيًّا وَمَيِّتًا فِي ءَانٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ لَمْ يَتِمَّ مُرَادُهُمَا فَهُمَا عَاجِزَانِ وَالْعَاجِزُ لا يَكُونُ إِلَهًا، وَإِنْ تَمَّ مُرَادُ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يَتِمَّ مُرَادُ الآخَرِ فَإِنَّ الَّذِي لَمْ يَتِمَّ مُرَادُهُ عَاجِزٌ وَلا يَكُونُ الْعَاجِزُ إِلَهًا وَلا قَدِيْمًا، وَهَذِهِ الدِّلالَةُ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْمُوَحِّدِينَ تُسَمَّى بِدِلالَةِ التَّمَانُعِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [سُورَةَ الأَنْبِيَاء/22].



الْقِيَامُ بِالنَّفْسِ


اعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى قِيَامِهِ بِنَفْسِهِ هُوَ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ فَلا يَحْتَاجُ إِلَى مُخَصِّصٍ لَهُ بِالْوُجُودِ لِأَنَّ الِاحْتِيَاجَ إِلَى الْغَيْرِ يُنَافِي قِدَمَهُ وَقَدْ ثَبَتَ وُجُوبُ قِدَمِهِ وَبَقَائِهِ.


الْمُخَالَفَةُ لِلْحَوَادِثِ



يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْحَوَادِثِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ خَلْقِهِ فَلَيْسَ هُوَ بِجَوْهَرٍ يَشْغَلُ حَيِّزًا وَلا عَرَضٍ، وَالْجَوْهَرُ مَا لَهُ تَحَيُّزٌ وَقِيَامٌ بِذَاتِهِ كَالأَجْسَامِ، وَالْعَرَضُ مَا لا يَقُومُ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَقُومُ بِغَيْرِهِ كَالْحَرَكَةِ وَالسَّكُونِ وَالِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ وَالأَلْوَانِ وَالطُّعُومِ وَالرَّوَائِحِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي بَعْضِ رَسَائِلِهِ فِي عِلْمِ الْكَلامِ: «أَنَّى يُشْبِهُ الْخَالِقُ مَخْلُوقَهُ» مَعْنَاهُ لا يَصِحُّ عَقْلًا وَلا نَقْلًا أَنْ يُشْبِهَ الْخَالِقُ مَخْلُوقَهُ، وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ: «إِنَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْنَا وَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْلَمَهُ أَنَّ رَبَّنَا لَيْسَ بِذِي صُورَةٍ وَلا هَيْئَةٍ فَإِنَّ الصُّورَةَ تَقْتَضِي الْكَيْفِيَّةَ وَهِيَ عَنِ اللَّهِ وَعَنْ صِفَاتِهِ مَنْفِيَّةٌ» رَوَاهُ عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.

وَقَدْ تُطْلَقُ الْكَيْفِيَّةُ بِمَعْنَى الْحَقِيقَةِ كَمَا فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ:

كَيْفِيَّةُ الْمَرْءِ لَيْسَ الْمَرْءُ يُدْرِكُهَا فَكَيْفَ كَيْفِيَّةُ الْجَبَّارِ فِي الْقِدَمِ

وَمُرَادُ هَذَا الْقَائِلِ الْحَقِيقَةُ. وَهَذَا الْبَيْتُ ذَكَرَهُ الزَّرْكَشِيُّ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُمَا.

وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ: «وَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ». وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْقَرْنِ الثَّالِثِ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي حَدِيثِ: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْقَرْنُ الْمُرَادُ بِهِ مِائَةُ سَنَةٍ كَمَا قَالَ ذَلِكَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بنُ عَسَاكِرَ فِي كِتَابِهِ تَبْيِينُ كَذِبِ الْمُفْتَرِي الَّذِي أَلَّفَهُ فِي التَّنْوِيهِ بِأَبِي الْحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.




صِفَاتُ اللَّهِ كُلُّهَا كَامِلَةٌ


صِفَاتُ اللَّهِ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ، لِأَنَّ الذَّاتَ أَزَلِيٌّ فَلا تَحْصُلُ لَهُ صِفَةٌ لَمْ تَكُنْ فِي الأَزَلِ، أَمَّا صِفَاتُ الْخَلْقِ فَهِيَ حَادِثَةٌ تَقْبَلُ التَّطَوُّرَ مِنْ كَمَالٍ إِلَى أَكْمَلَ فَلا يَتَجَدَّدُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى شَىْءٌ. وَاللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ بِعِلْمِهِ الأَزَلِيِّ وَقُدْرَتِهِ الأَزَلِيَّةِ وَمَشِيئَتِهِ الأَزَلِيَّةِ، فَالْمَاضِي وَالْحَاضِرُ وَالْمُسْتَقْبَلُ بِالنِّسْبَةِ لِلَّهِ أَحَاطَ بِهِ بِعِلْمِهِ الأَزَلِيِّ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ﴾ [سُورَةَ مُحَمَّد/31] فَلَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ سَوْفَ يَعْلَمُ الْمُجَاهِدِينَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِمْ بِالِامْتِحَانِ وَالِاخْتِبَارِ، وَهَذَا يَسْتَحِيلُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ مَعْنَى الآيَةِ حَتَّى نُمَيِّزَ أَيْ حَتَّى نُظْهِرَ لِلْعِبَادِ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ مِنْ غَيْرِهِمْ.

وَيَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَكْتَسِبُ عِلْمًا جَدِيدًا.

وَصِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى كُلُّهَا كَامِلَةٌ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف/180].

وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى﴾ [سُورَةَ النَّحْل/60] فَيَسْتَحِيلُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى أَيُّ نَقْصٍ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان/54] فَالْمَكْرُ مِنَ الْخَلْقِ خُبْثٌ وَخِدَاعٌ لإِيصَالِ الضَّرَرِ إِلَى الْغَيْرِ بِاسْتِعْمَالِ حِيلَةٍ، وَأَمَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مُجَازَاةُ الْمَاكِرِينَ بِالْعُقُوبَةِ مِنْ حَيْثُ لا يَدْرُونَ. وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى إِنَّ اللَّهَ أَقْوَى فِي إِيصَالِ الضَّرَرِ إِلَى الْمَاكِرِينَ مِنْ كُلِّ مَاكِرٍ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى مَكْرِهِمْ، فَالْمَكْرُ بِمَعْنَى الِاحْتِيَالِ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/15] أَيْ يُجَازِيهِمْ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ يَقُولُونَ: نُؤْمِنُ بِإِثْبَاتِ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْءَانِ وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ كَالْوَجْهِ وَالْيَدِ وَالْعَيْنِ وَالرِّضَا وَالْغَضَبِ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّهَا صِفَاتٌ يَعْلَمُهَا اللَّهُ لا عَلَى أَنَّهَا جَوَارِحُ وَانْفِعَالاتٌ كَأَيْدِينَا وَوُجُوهِنَا وَعُيُونِنَا وَغَضَبِنَا، فَإِنَّ الْجَوَارِحَ مُسْتَحِيلَةٌ عَلَى اللَّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/11]، وَقَوْلِهِ: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [سُورَةَ الإِخْلاص/4].

قَالُوا لَوْ كَانَ لِلَّهِ عَيْنٌ بِمَعْنَى الْجَارِحَةِ وَالْجِسْمِ لَكَانَ لَهُ أَمْثَالٌ فَضْلًا عَنْ مِثْلٍ وَاحِدٍ وَلَجَازَ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَى الْمُحْدَثَاتِ مِنَ الْمَوْتِ وَالْفَنَاءِ وَالتَّغَيُّرِ وَالتَّطَوُّرِ، وَلَكَانَ ذَلِكَ خُرُوجًا مِنْ مُقْتَضَى الْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ عَلَى اسْتِحَالَةِ التَّغَيُّرِ وَالتَّحَوُّلِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ عَلَى اللَّهِ.

وَلا يَصِحُّ إِهْمَالُ الْعَقْلِ لِأَنَّ الشَّرْعَ لا يَأْتِي إِلَّا بِمُجَوَّزَاتِ الْعَقْلِ أَيْ إِلَّا بِمَا يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ لِأَنَّهُ شَاهِدُ الشَّرْعِ، فَالْعَقْلُ يَقْضِي بِأَنَّ الْجِسْمَ وَالْجِسْمَانِيَّاتِ أَيِ الأَحْوَالَ الْعَارِضَةَ لِلْجِسْمِ مُحْدَثَةٌ لا مَحَالَةَ وَأَنَّهَا مُحْتَاجَةٌ لِمُحْدِثٍ، فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَّصِفُ بِهَا لَهُ مُحْدِثٌ وَلا تَصِحُّ الأُلُوهِيَّةُ لِمَنْ يَحْتَاجُ إِلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّ الدَّلائِلَ الْعَقْلِيَّةَ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ طُرُوءُ صِفَاتٍ لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ وَالتَّحَوُّلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ.






سَبَبُ نُزُولِ الإِخْلاصِ


قَالَتِ الْيَهُودُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صِفْ لَنَا رَبَّكَ [أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ الْيَهُودَ أَتَوْا إِلَى النَّبِيِّ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ صِفْ لَنَا رَبَّكَ الَّذِي تَعْبُدُهُ. فَنَزَلَتْ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ... »إِلَى ءَاخَرِ السُّورَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «هَذِهِ صِفَةُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ] قَدْ كَانَ سُؤَالُهُمْ تَعَنُّتًا (أَيْ عِنَادًا) لا حُبًّا لِلْعِلْمِ وَاسْتِرْشَادًا بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُورَةَ الإِخْلاصِ: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ أَيِ الَّذِي لا يَقْبَلُ التَّعَدُّدَ وَالْكَثْرَةَ وَلَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ فِي الذَّاتِ أَوِ الصِّفَاتِ أَوِ الأَفْعَالِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ صِفَةٌ كَصِفَاتِهِ، بَلْ قُدْرَتُهُ تَعَالَى قُدْرَةٌ وَاحِدَةٌ يَقْدِرُ بِهَا عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَعِلْمُهُ وَاحِدٌ يَعْلَمُ بِهِ كُلَّ شَىْءٍ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ أَيِ الَّذِي تَفْتَقِرُ إِلَيْهِ جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ، مَعَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْ كُلِّ مَوْجُودٍ، وَالَّذِي يُقْصَدُ عِنْدَ الشِّدَّةِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا وَلا يَجْتَلِبُ بِخَلْقِهِ نَفْعًا لِنَفْسِهِ وَلا يَدْفَعُ بِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ضُرًّا.

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ نَفْيٌ لِلْمَادِّيَّةِ وَالِانْحِلالِ وَهُوَ أَنْ يَنْحَلَّ مِنْهُ شَىْءٌ أَوْ أَنْ يَحُلَّ هُوَ فِي شَىْءٍ.

وَمَا وَرَدَ فِي كِتَابِ «مَوْلِدِ الْعَرُوسِ» مِنْ أَنَّ اللَّهَ قَبَضَ قَبْضَةً مِنْ نُورِ وَجْهِهِ فَقَالَ لَهَا كُونِي مُحَمَّدًا فَكَانَتْ مُحَمَّدًا فَهَذِهِ مِنَ الأَبَاطِيلِ الْمَدْسُوسَةِ، وَحُكْمُ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُزْءٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى التَّكْفِيرُ قَطْعًا، وَكَذَلِكَ الَّذِي يَعْتَقِدُ فِي الْمَسِيحِ أَنَّهُ جُزْءٌ مِنَ اللَّهِ.

وَلَيْسَ هَذَا الْكِتَابُ لِابْنِ الْجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلَمْ يَنْسِبْهُ إِلَيْهِ إِلَّا الْمُسْتَشْرِقُ بُروكلْمَان.

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ أَيْ لا نَظِيرَ لَهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.



الآيَاتُ الْمُحْكَمَاتُ وَالْمُتَشَابِهَاتُ


لِفَهْمِ هَذَا الْمَوْضُوعِ كَمَا يَنْبَغِي يَجِبُ مَعْرِفَةُ أَنَّ الْقُرْءَانَ تُوجَدُ فِيهِ ءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ وَءَايَاتٌ مُتَشَابِهَاتٌ، قَالَ تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ ءَايَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان/7].

الآيَاتُ الْمُحْكَمَةُ: هِيَ مَا لا يَحْتَمِلُ مِنَ التَّأْوِيلِ بِحَسَبِ وَضْعِ اللُّغَةِ إِلَّا وَجْهًا وَاحِدًا أَوْ مَا عُرِفَ الْمُرَادُ بِهِ بِوُضُوحٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ وَقَوْلِهِ: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ وَقَوْلِهِ: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [سُورَةَ مَرْيَم/65].

الآيَاتُ الْمُتَشَابِهَةُ: وَالْمُتَشَابِهُ هُوَ مَا لَمْ تَتَّضِحْ دِلالَتُهُ أَوْ يَحْتَمِلُ أَوْجُهًا عَدِيدَةً وَاحْتَاجَ إِلَى النَّظَرِ لِحَمْلِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُطَابِقِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [سُورَةَ طَه/5].

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [سُورَةَ فَاطِر/10] أَيْ أَنَّ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ كَلا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَصْعَدُ إِلَى مَحَلِّ كَرَامَتِهِ وَهُوَ السَّمَاءُ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ أَيِ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ يَرْفَعُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ وَهَذَا مُنْطَبِقٌ وَمُنْسَجِمٌ مَعَ الآيَةِ الْمُحْكَمَةِ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾.

فَتَفْسِيرُ الآيَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ يَجِبُ أَنَّ يُرَدَّ إِلَى الآيَاتِ الْمُحْكَمَةِ، هَذَا فِي الْمُتَشَابِهِ الَّذِي يَجُوزُ لِلْعُلَمَاءِ أَنْ يَعْلَمُوهُ، وَأَمَّا الْمُتَشَابِهُ الَّذِي أُرِيدَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان/7] عَلَى قِرَاءَةِ الْوَقْفِ عَلَى لَفْظِ الْجَلالَةِ فَهُوَ مَا كَانَ مِثْلَ وَجْبَةِ الْقِيَامَةِ، وَخُرُوحِ الدَّجَّالِ عَلَى التَّحْدِيدِ، فَلَيْسَ مِنْ قَبِيلِ ءَايَةِ الِاسْتِوَاءِ.

فَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اعْمَلُوا بِمُحْكَمِهِ وَءَامِنُوا بِمُتَشَابِهِهِ» ضَعِيفٌ ضَعْفًا خَفِيفًا.

قَالَ الْمُحَدِّثُ اللُّغَوِيُّ الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ مُرْتَضَى الزَّبِيدِيُّ فِي شَرْحِهِ الْمُسَمَّى «إِتْحَافُ السَّادَةِ الْمُتَّقِينَ» نَقْلًا عَنْ كِتَابِ التَّذْكِرَةِ الشَّرْقِيَّةِ لِأَبِي نَصْرٍ الْقُشَيْرِيِّ مَا نَصُّهُ:

وَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان/7] إِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ وَقْتَ قِيَامِ السَّاعَةِ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا وَمَتَى وُقُوعُهَا، فَالْمُتَشَابِهُ إِشَارَةٌ إِلَى عِلْمِ الْغَيْبِ، فَلَيْسَ يَعْلَمُ عَوَاقِبَ الأُمُورِ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف/53] أَيْ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا قِيَامَ السَّاعَةِ، وَكَيْفَ يَسُوغُ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مَا لا سَبِيلَ لِمَخْلُوقٍ إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَلا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ أَلَيْسَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْقَدْحِ فِي النُّبُوَّاتِ؟ وَأَنَّ النَّبِيَّ مَا عَرَفَ تَأْوِيلَ مَا وَرَدَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَدَعَا الْخَلْقَ إِلَى عِلْمِ مَا لا يُعْلَمُ؟ أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ﴾ [سُورَةَ الشُّعَرَاء/195] فَإِذًا عَلَى زَعْمِهِمْ يَجِبُ أَنْ يَقُولُوا كَذَبَ حَيْثُ قَالَ: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ﴾ إِذْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ، وَإِلَّا فَأَيْنَ هَذَا الْبَيَانُ وَإِذَا كَانَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ فَكَيْفَ يَدَّعِي أَنَّهُ مِمَّا لا تَعْلَمُهُ الْعَرَبُ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ الشَّىْءُ عَرَبِيًّا، فَمَا قَوْلٌ فِي مَقَالٍ مَآلُهُ إِلَى تَكْذِيبِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ.

ثُمَّ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَوْ كَانَ فِي كَلامِهِ وَفِيمَا يُلْقِيهِ إِلَى أُمَّتِهِ شَىْءٌ لا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى لَكَانَ لِلْقَوْمِ أَنْ يَقُولُوا بَيِّنْ لَنَا أَوَّلًا مَنْ تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَمَا الَّذِي تَقُولُ فَإِنَّ الإِيـمَانَ بِمَا لا يُعْلَمُ أَصْلُهُ غَيْرُ مُتَأَتٍّ - أَيْ لا يُمْكِنُ - هَذَا مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَرَبَ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ كَانُوا قَالُوا لَهُ هَذَا لا يُمْكِنُ. وَنِسْبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنَّهُ دَعَا إِلَى رَبٍّ مَوْصُوفٍ بِصِفَاتٍ لا تُعْقَلُ أَمْرٌ عَظِيمٌ لا يَتَخَيَّلُهُ مُسْلِمٌ، فَإِنَّ الْجَهْلَ بِالصِّفَاتِ يُؤَدِّي إِلَى الْجَهْلِ بِالْمَوْصُوفِ. وَالْغَرَضُ أَنْ يَسْتَبِينَ مَنْ مَعَهُ مُسْكَةٌ مِنَ الْعَقْلِ أَنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: «اسْتِوَاؤُهُ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لا يُعْقَلُ مَعْنَاهَا، وَالْيَدُ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لا يُعْقَلُ مَعْنَاهَا، وَالْقَدَمُ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لا يُعْقَلُ مَعْنَاهَا» تَمْوِيهٌ ضِمْنَهُ تَكْيِيفٌ وَتَشْبِيهٌ وَدُعَاءٌ إِلَى الْجَهْلِ وَقَدْ وَضَحَ الْحَقُّ لِذِي عَيْنَيْنِ. وَلَيْتَ شِعْرِي هَذَا الَّذِي يُنْكِرُ التَّأْوِيلَ يَطَّرِدُ هَذَا الإِنْكَارَ فِي كُلِّ شَىْءٍ وَفِي كُلِّ ءَايَةٍ أَمْ يَقْنَعُ بِتَرْكِ التَّأْوِيلِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى.

فَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ التَّأْوِيلِ أَصْلًا فَقَدْ أَبْطَلَ الشَّرِيعَةَ وَالْعُلُومَ إِذْ مَا مِنْ ءَايَةٍ (مِنَ الآيَاتِ الَّتِي اخْتُلِفَ فِيهَا مِنْ حَيْثُ التَّأْوِيلُ وَتَرْكُهُ) وَخَبَرٍ إِلَّا وَيَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ وَتَصَرُّفٍ فِي الْكَلامِ (إِلَّا الْمُحْكَمُ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ﴾ [سُورَةَ الْحَدِيد/3] مِمَّا وَرَدَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ، وَقَوْلِهِ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ﴾ [سُورَةَ الْمَائِدَة/3] الآيَةَ مِمَّا وَرَدَ فِي الأَحْكَامِ)، لِأَنَّ ثَمَّ أَشْيَاءَ لا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِهَا لا خِلافَ بَيْنَ الْعُقَلاءِ فِيهِ إِلَّا الْمُلْحِدَةَ الَّذِينَ قَصْدُهُمُ التَّعْطِيلُ لِلشَّرَائِعِ.

وَالِاعْتِقَادُ لِهَذَا يُؤَدِّي إِلَى إِبْطَالِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ التَّمَسُّكِ بِالشَّرْعِ بِزَعْمِهِ، وَإِنْ قَالَ يَجُوزُ التَّأْوِيلُ عَلَى الْجُمْلَةِ (أَيْ فِي بَعْضِ الأَحْوَالِ) إِلَّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِاللَّهِ وَبِصِفَاتِهِ فَلا تَأْوِيلَ فِيهِ، فَهَذَا مَصِيرٌ مِنْهُ إِلَى أَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّانِعِ [أَيِ الْخَالِقِ] وَصِفَاتِهِ يَجِبُ التَّقَاصِي عَنْهُ - أَيِ الْبُعْدُ عَنْهُ -. وَهَذَا لا يَرْضَى بِهِ مُسْلِمٌ. وَسِرُّ الأَمْرِ أَنَّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَمْتَنِعُونَ عَنِ التَّأْوِيلِ مُعْتَقِدُونَ حَقِيقَةَ التَّشْبِيهِ غَيْرَ أَنَّهُمْ يُدَلِّسُونَ وَيَقُولُونَ لَهُ يَدٌ لا كَالأَيْدِي وَقَدَمٌ لا كَالأَقْدَامِ وَاسْتِوَاءٌ بِالذَّاتِ لا كَمَا نَعْقِلُ فِيمَا بَيْنَنَا، فَلْيَقُلِ الْمُحَقِّقُ هَذَا كَلامٌ لا بُدَّ مِنَ اسْتِبْيَانٍ، قَوْلُكُمْ نُجْرِي الأَمْرَ عَلَى الظَّاهِرِ وَلا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ تَنَاقُضٌ، إِنْ أَجْرَيْتَ عَلَى الظَّاهِرِ فَظَاهِرُ السِّيَاقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾ [سُورَةَ الْقَلَم/42] هُوَ الْعُضْوُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ وَالْعَظْمِ وَالْعَصَبِ وَالْمُخِّ، فَإِنْ أَخَذْتَ بِهَذَا الظَّاهِرِ وَالْتَزَمْتَ بِالإِقْرَارِ بِهَذِهِ الأَعْضَاءِ فَهُوَ الْكُفْرُ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْكَ الأَخْذُ بِهَا (أَيْ إِنْ كُنْتَ لا تَقُولُ ذَلِكَ) فَأَيْنَ الأَخْذُ بِالظَّاهِرِ. أَلَسْتَ قَدْ تَرَكْتَ الظَّاهِرَ وَعَلِمْتَ تَقَدُّسَ الرَّبِّ تَعَالَى عَمَّا يُوهِمُ الظَّاهِرُ فَكَيْفَ يَكُونُ أَخْذًا بِالظَّاهِرِ، وَإِنْ قَالَ الْخَصْمُ هَذِهِ الظَّوَاهِرُ لا مَعْنَى لَهَا أَصْلًا فَهُوَ حُكْمٌ بِأَنَّهَا مُلْغَاةٌ، وَمَا كَانَ فِي إِبْلاغِهَا إِلَيْنَا فَائِدَةٌ وَهِيَ هَدَرٌ وَهَذَا مُحَالٌ، وَفِي لُغَةِ الْعَرَبِ مَا شِئْتَ مِنَ التَّجَوُّزِ وَالتَّوَسُّعِ فِي الْخِطَابِ، وَكَانُوا يَعْرِفُونَ مَوَارِدَ الْكَلامِ وَيَفْهَمُونَ الْمَقَاصِدَ، فَمَنْ تَجَافَى عَنِ التَّأْوِيلِ فَذَلِكَ لِقِلَّةِ فَهْمِهِ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَمَنْ أَحَاطَ بِطُرُقٍ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ هَانَ عَلَيْهِ مَدْرَكُ الْحَقَائِقِ.

وَقَدْ قِيلَ: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ فَكَأَنَّهُ قَالَ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أَيْضًا يَعْلَمُونَهُ وَيَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ، فَإِنَّ الإِيـمَانَ بِالشَّىْءِ إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ الْعِلْمِ، أَمَّا مَا لا يُعْلَمُ فَالإِيـمَانُ بِهِ غَيْرُ مُتَأَتٍّ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَا مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ. انْتَهَى كَلامُ الْحَافِظِ الزَّبِيدِيِّ مِمَّا نَقَلَهُ عَنْ أَبِي النَّصْرِ الْقُشَيْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.

فَهُنَا مَسْلَكَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا صَحِيحٌ:

الأَوَّلُ: مَسْلَكُ السَّلَفِ: وَهُمْ أَهْلُ الْقُرُونِ الثَّلاثَةِ الأُولَى أَيْ أَكْثَرُهُمْ فَإِنَّهُمْ يُؤَوِّلُونَهَا تَأْوِيلًا إِجْمَالِيًّا بِالإِيـمَانِ بِهَا وَاعْتِقَادِ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ صِفَاتِ الْجِسْمِ بَلْ أَنَّ لَهَا مَعْنًى يَلِيقُ بِجَلالِ اللَّهِ وَعَظَمَتِهِ بِلا تَعْيِينٍ، بَلْ رَدُّوا تِلْكَ الآيَاتِ إِلَى الآيَاتِ الْمُحْكَمَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/11].

وَهُوَ كَمَا قَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «ءَامَنْتُ بِمَا جَاءَ عَنِ اللَّهِ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ وَبِمَا جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُرَادِ رَسُولِ اللَّهِ» يَعْنِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لا عَلَى مَا قَدْ تَذْهَبُ إِلَيْهِ الأَوْهَامُ وَالظُّنُونُ مِنَ الْمَعَانِي الْحِسِّيَّةِ الْجِسْمِيَّةِ الَّتِي لا تَجُوزُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.

ثُمَّ نَفْيُ التَّأْوِيلِ التَّفْصِيلِيِّ عَنِ السَّلَفِ كَمَا زَعَمَ بَعْضٌ مَرْدُودٌ بِمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ تَفْسِيرِ الْقُرْءَانِ وَعِبَارَتُهُ هُنَاكَ: «سُورَةُ الْقَصَصِ» ﴿كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ [سُورَةَ الْقَصَص/88] «إِلَّا مُلْكَهُ وَيُقَالُ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ» اهـ. فَمُلْكُ اللَّهِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ الأَزَلِيَّةِ لَيْسَ كَالْمُلْكِ الَّذِي يُعْطِيهِ لِلْمَخْلُوقِينَ.

وَفِيهِ غَيْرُ هَذَا الْمَوْضِعِ كَتَأْوِيلِ الضَّحِكِ الْوَارِدِ فِي الْحَدِيثِ بِالرَّحْمَةِ.

وَصَحَّ أَيْضًا التَّأْوِيلُ التَّفْصِيلِيُّ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ وَهُوَ مِنَ السَّلَفِ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ [سُورَةَ الْفَجْر/22] إِنَّمَا جَاءَتْ قُدْرَتُهُ، صَحَّحَ سَنَدَهُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ الَّذِي قَالَ فِيهِ الْحَافِظُ صَلاحُ الدِّينِ الْعَلائِيُّ: «لَمْ يَأْتِ بَعْدَ الْبَيْهَقِيِّ وَالدَّارَقُطْنِيِّ مِثْلُهُمَا وَلا مَنْ يُقَارِبُهُمَا». أَمَّا قَوْلُ الْبَيْهَقِيِّ ذَلِكَ فَفِي كِتَابِ مَنَاقِبِ أَحْمَدَ، وَأَمَّا قَوْلُ الْحَافِظِ أَبِي سَعِيدٍ الْعَلائِيِّ فِي الْبَيْهَقِيِّ وَالدَّارَقُطْنِيِّ فَذَلِكَ فِي كِتَابِهِ «الْوَشْيُ الْمُعْلَمُ»، وَأَمَّا الْحَافِظُ أَبُو سَعِيدٍ فَهُوَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: «شَيْخُ مَشَايِخِنَا» (وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْقَرْنِ السَّابِعِ الْهِجْرِيِّ).

وَهُنَاكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ ذَكَرُوا فِي تَآلِيفِهِمْ أَنَّ أَحْمَدَ أَوَّلَ، مِنْهُمُ الْحَافِظُ عَبْدُ الرَّحْمٰنِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ الَّذِي هُوَ أَحَدُ أَسَاطِينِ الْمَذْهَبِ الْحَنْبَلِيِّ لِكَثْرَةِ اطِّلاعِهِ عَلَى نُصُوصِ الْمَذْهَبِ وَأَحْوَالِ أَحْمَدَ.

وَقَدْ بَيَّنَ أَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الشَّنَاعَةَ الَّتِي تَلْزَمُ نُفَاةَ التَّأْوِيلِ، وَأَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِيُّ هُوَ الَّذِي وَصَفَهُ الْحَافِظُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الطَّبْسِيُّ بِإِمَامِ الأَئِمَّةِ كَمَا نَقَلَ ذَلِكَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي كِتَابِهِ تَبْيِينُ كَذِبِ الْمُفْتَرِي.

الثَّانِي مَسْلَكُ الْخَلَفِ: وَهُمْ يُؤَوِّلُونَهَا تَفْصِيلًا بِتَعْيِينِ مَعَانٍ لَهَا مِمَّا تَقْتَضِيهِ لُغَةُ الْعَرَبِ وَلا يَحْمِلُونَهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا أَيْضًا كَالسَّلَفِ، وَلا بَأْسَ بِسُلُوكِهِ وَلا سِيَّمَا عِنْدَ الْخَوْفِ مِنْ تَزَلْزُلِ الْعَقِيدَةِ حِفْظًا مِنَ التَّشْبِيهِ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي تَوْبِيخِ إِبْلِيسَ: ﴿مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [سُورَةَ ص/75].

فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ بِالْيَدَيْنِ الْعِنَايَةُ وَالْحِفْظُ.

تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مِنْ رُّوحِنَا﴾

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مِنْ رُّوحِى﴾


لِيُعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَالِقُ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ فَلَيْسَ رُوحًا وَلا جَسَدًا، وَمَعَ ذَلِكَ أَضَافَ اللَّهُ تَعَالَى رُوحَ عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى نَفْسِهِ عَلَى مَعْنَى الْمِلْكِ وَالتَّشْرِيفِ لا لِلْجُزْئِيَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مِنْ رُّوحِنَا﴾ [سُورَةَ الأَنْبِيَاء/91]، وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ ءَادَمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مِنْ رُّوحِى﴾ [سُورَةَ ص/72] فَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُّوحِنَا﴾ [سُورَةَ التَّحْرِيم/12] أَمَرْنَا جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ أَنْ يَنْفُخَ فِي مَرْيَمَ الرُّوحَ الَّتِي هِيَ مِلْكٌ لَنَا وَمُشَرَّفَةٌ عِنْدَنَا.

لِأَنَّ الأَرْوَاحَ قِسْمَانِ: أَرْوَاحٌ مُشَرَّفَةٌ، وَأَرْوَاحٌ خَبِيثَةٌ.

وَأَرْوَاحُ الأَنْبِيَاءِ مِنَ الْقِسْمِ الأَوَّلِ، فَإِضَافَةُ رُوحِ عِيسَى وَرُوحِ ءَادَمَ إِلَى نَفْسِهِ إِضَافَةُ مِلْكٍ وَتَشْرِيفٍ.

وَيَكْفُرُ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رُوحٌ، فَالرُّوحُ مَخْلُوقَةٌ تَنَزَّهَ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْكَعْبَةِ: ﴿بَيْتِيَ﴾ [سُورَةَ الْحَجّ/26] فَهِيَ إِضَافَةُ مِلْكٍ لِلتَّشْرِيفِ لا إِضَافَةُ صِفَةٍ أَوْ مُلابَسَةٍ لِاسْتِحَالَةِ الْمُلامَسَةِ أَوِ الْمُمَاسَّةِ بَيْنَ اللَّهِ وَالْكَعْبَةِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿رَبُّ الْعَرْشِ﴾ [سُورَةَ الْمُؤْمِنُون/116] لَيْسَ إِلَّا لِلدِّلالَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْعَرْشِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ لَيْسَ لِأَنَّ الْعَرْشَ لَهُ مُلابَسَةٌ لِلَّهِ بِالْجُلُوسِ عَلَيْهِ أَوْ بِمُحَاذَاتِهِ مِنْ غَيْرِ جُلُوسٍ، لَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ جَالِسٌ عَلَى عَرْشِهِ بِاتِّصَالٍ وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ مُحَاذٍ لِلْعَرْشِ بِوُجُودِ فَرَاغٍ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْعَرْشِ إِنْ قُدِّرَ ذَلِكَ الْفَرَاغُ وَاسِعًا أَوْ قَصِيرًا كُلُّ ذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ، وَإِنَّمَا مَزِيَّةُ الْعَرْشِ أَنَّهُ كَعْبَةُ الْمَلائِكَةِ الْحَافِّينَ مِنْ حَوْلِهِ كَمَا أَنَّ الْكَعْبَةَ شُرِّفَتْ بِطَوَافِ الْمُؤْمِنِينَ بِهَا. وَمِنْ خَوَاصِّ الْعَرْشِ أَنَّهُ لَمْ يُعْصَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ، لِأَنَّ مَنْ حَوْلَهُ كُلُّهُمْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَعْصُونَ اللَّهَ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْعَرْشَ لِيَجْلِسَ عَلَيْهِ فَقَدْ شَبَّهَ اللَّهَ بِالْمُلُوكِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الأَسِرَّةَ الْكِبَارَ لِيَجْلِسُوا عَلَيْهَا وَمَنِ اعْتَقَدَ هَذَا لَمْ يَعْرِفِ اللَّهَ.

وَيَكْفُرُ مَنْ يَعْتَقِدُ الْمُمَاسَّةَ لِاسْتِحَالَتِهَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.




تَفْسِيرُ الآيَةِ: ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [سُورَةَ طَه/5]


يَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الآيَةِ بِغَيْرِ الِاسْتِقْرَارِ وَالْجُلُوسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيَكْفُرُ مَنْ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ، فَيَجِبُ تَرْكُ الْحَمْلِ عَلَى الظَّاهِرِ بَلْ يُحْمَلُ عَلَى مَحْمِلٍ مُسْتَقِيمٍ فِي الْعُقُولِ فَتُحْمَلُ لَفْظَةُ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْقَهْرِ فَفِي لُغَةِ الْعَرَبِ يُقَالُ اسْتَوَى فُلانٌ عَلَى الْمَمَالِكِ إِذَا احْتَوَى عَلَى مَقَالِيدِ الْمُلْكِ وَاسْتَعْلَى عَلَى الرِّقَابِ.

كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقِ

وَفَائِدَةُ تَخْصِيصِ الْعَرْشِ بِالذِّكْرِ أَنَّهُ أَعْظَمُ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى حَجْمًا فَيُعْلَمُ شُمُولُ مَا دُونَهُ مِنْ بَابِ الأَوْلَى. قَالَ الإِمَامُ عَلِيٌّ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْعَرْشَ إِظْهَارًا لِقُدْرَتِهِ، وَلَمْ يَتَّخِذْهُ مَكَانًا لِذَاتِهِ». رَوَاهُ الإِمَامُ الْمُحَدِّثُ الْفَقِيهُ اللُّغُوِيُّ أَبُو مَنْصُورٍ التَّمِيمِيُّ فِي كِتَابِهِ التَّبْصِرَةِ.

أَوْ يُقَالُ: اسْتَوَى اسْتِوَاءً يَعْلَمُهُ هُوَ مَعَ تَنْزِيهِهِ عَنِ اسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِينَ كَالْجُلُوسِ وَالِاسْتِقْرَارِ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ الْحَذَرُ مِنْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يُجِيزُونَ عَلَى اللَّهِ الْقُعُودَ عَلَى الْعَرْشِ وَالِاسْتِقْرَارَ عَلَيْهِ مُفَسِّرِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ بِالْجُلُوسِ أَوِ الْمُحَاذَاةِ مِنْ فَوْقٍ، وَمُدَّعِينَ أَنَّهُ لا يُعْقَلُ مَوْجُودٌ إِلَّا فِي مَكَانٍ، وَحُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ، وَمُدَّعِينَ أَيْضًا أَنَّ قَوْلَ السَّلَفِ اسْتَوَى بِلا كَيْفٍ مُوَافِقٌ لِذَلِكَ وَلَمْ يَدْرُوا أَنَّ الْكَيْفَ الَّذِي نَفَاهُ السَّلَفُ هُوَ الْجُلُوسُ وَالِاسْتِقْرَارُ وَالتَّحَيُّزُ إِلَى الْمَكَانِ وَالْمُحَاذَاةُ وَكُلُّ الْهَيْئَاتِ مِنْ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ وَانْفِعَالٍ.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ:

«وَالَّذِي يَدْحَضُ شُبَهَهُمْ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْعَالَمَ أَوِ الْمَكَانَ هَلْ كَانَ مَوْجُودًا أَمْ لا؟ فَمِنْ ضَرُورَةِ الْعَقْلِ أَنْ يَقُولُوا بَلَى فَيَلْزَمُهُ لَوْ صَحَّ قَوْلُهُ لا يُعْلَمُ مَوْجُودٌ إِلَّا فِي مَكَانٍ أَحَدُ أَمْرَيْنِ:

إِمَّا أَنْ يَقُولَ: الْمَكَانُ وَالْعَرْشُ وَالْعَالَمُ قَدِيْمٌ، وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ: الرَّبُّ مُحْدَثٌ، وَهَذَا مَآلُ الْجَهَلَةِ الْحَشْوِيَّةِ، لَيْسَ الْقَدِيْمُ بِالْمُحْدَثِ وَالْمُحْدَثُ بِالْقَدِيْمِ» اهـ.

وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ أَيْضًا فِي التَّذْكِرَةِ الشَّرْقِيَّةِ:

«فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [سُورَةَ طَه/5] فَيَجِبُ الأَخْذُ بِظَاهِرِهِ، قُلْنَا: اللَّهُ يَقُولُ أَيْضًا: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [سُورَةَ الْحَدِيد/4]، وَيَقُولُ: ﴿أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطٌ﴾ [سُورَةَ طَه/5] فَيَنْبَغِي أَيْضًا أَنْ نَأْخُذَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الآيَاتِ حَتَّى يَكُونَ عَلَى الْعَرْشِ وَعِنْدَنَا وَمَعَنَا وَمُحِيطًا بِالْعَالَمِ مُحْدِقًا بِهِ بِالذَّاتِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْوَاحِدُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ بِذَاتِهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ بِكُلِّ مَكَانٍ.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَالُوا: قَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ﴾ يَعْنِي بِالْعِلْمِ، وَ: ﴿بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطٌ﴾ إِحَاطَةَ الْعِلْمِ، قُلْنَا: وَقَوْلُهُ: ﴿عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ قَهَرَ وَحَفِظَ وَأَبْقَى»، انْتَهَى.

يَعْنِي أَنَّهُمْ قَدْ أَوَّلُوا هَذِهِ الآيَاتِ وَلَمْ يَحْمِلُوهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا فَكَيْفَ يَعِيبُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ تَأْوِيلَ ءَايَةِ الِاسْتِوَاءِ بِالْقَهْرِ، فَمَا هَذَا التَّحَكُّمُ؟!

ثُمَّ قَالَ الْقُشَيْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: «وَلَوْ أَشْعَرَ مَا قُلْنَا تَوَهُّمَ غَلَبَتِهِ لَأَشْعَرَ قَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام/18] بِذَلِكَ أَيْضًا حَتَّى يُقَالَ كَانَ مَقْهُورًا قَبْلَ خَلْقِ الْعِبَادِ هَيْهَاتَ إِذْ لَمْ يَكُنْ لِلْعِبَادِ وُجُودٌ قَبْلَ خَلْقِهِ إِيَّاهُمْ بَلْ لَوْ كَانَ الأَمْرُ عَلَى مَا تَوَهَّمَهُ الْجَهَلَةُ مِنْ أَنَّهُ اسْتِوَاءٌ بِالذَّاتِ لَأَشْعَرَ ذَلِكَ بِالتَّغَيُّرِ وَاعْوِجَاجٍ سَابِقٍ عَلَى وَقْتِ الِاسْتِوَاءِ فَإِنَّ الْبَارِئَ تَعَالَى كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ الْعَرْشِ، وَمَنْ أَنْصَفَ عَلِمَ أَنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: الْعَرْشُ بِالرَّبِّ اسْتَوَى أَمْثَلُ مِنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ الرَّبُّ بِالْعَرْشِ اسْتَوَى، فَالرَّبُّ إِذًا مَوْصُوفٌ بِالْعُلُوِّ وَفَوْقِيَّةِ الرُّتْبَةِ وَالْعَظَمَةِ وَمُنَزَّهٌ عَنِ الْكَوْنِ فِي الْمَكَانِ وَعَنِ الْمُحَاذَاةِ» اهـ.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: «وَقَدْ نَبَغَتْ نَابِغَةٌ مِنَ الرَّعَاعِ لَوْلا اسْتِنْزَالُهُمْ لِلْعَوَامِّ بِمَا يَقْرُبُ مِنْ أَفْهَامِهِمْ وَيُتَصَوَّرُ فِي أَوْهَامِهِمْ لَأَجْلَلْتُ هَذَا الْكِتَابَ عَنْ تَلْطِيخِهِ بِذِكْرِهِمْ، يَقُولُونَ: نَحْنُ نَأْخُذُ بِالظَّاهِرِ وَنَحْمِلُ الآيَاتِ الْمُوهِمَةَ تَشْبِيهًا وَالأَخْبَارَ الْمُوهِمَةَ حَدًّا وَعُضْوًا عَلَى الظَّاهِرِ وَلا يَجُوزُ أَنْ نُطَرِّقَ التَّأْوِيلَ إِلَى شَىْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَيَتَمَسَّكُونَ عَلَى زَعْمِهِمْ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان/7]. وَهَؤُلاءِ وَالَّذِي أَرْوَاحُنَا بِيَدِهِ أَضَرُّ عَلَى الإِسْلامِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَعَبَدَةِ الأَوْثَانِ لِأَنَّ ضَلالاتِ الْكُفَّارِ ظَاهِرَةٌ يَتَجَنَّبُهَا الْمُسْلِمُونَ، وَهَؤُلاءِ أَتَوُا الدِّينَ وَالْعَوَامَّ مِنْ طَرِيقٍ يَغْتَرُّ بِهِ الْمُسْتَضْعَفُونَ فَأَوْحَوْا إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ بِهَذِهِ الْبِدَعِ وَأَحَلُّوا فِي قُلُوبِهِمْ وَصْفَ الْمَعْبُودِ سُبْحَانَهُ بِالأَعْضَاءِ وَالْجَوَارِحِ وَالرُّكُوبِ وَالنُّزُولِ وَالِاتِّكَاءِ وَالِاسْتِلْقَاءِ وَالِاسْتِوَاءِ بِالذَّاتِ وَالتَّرَدُّدِ فِي الْجِهَاتِ.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: «فَمَنْ أَصْغَى إِلَى ظَاهِرِهِمْ يُبَادِرُ بِوَهْمِهِ إِلَى تَخَيُّلِ الْمَحْسُوسَاتِ فَاعْتَقَدَ الْفَضَائِحَ فَسَالَ بِهِ السَّيْلُ وَهُوَ لا يَدْرِي» اهـ.

فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: «إِنَّ التَّأْوِيلَ غَيْرُ جَائِزٍ» خَبْطٌ وَجَهْلٌ وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ وَتَأْوِيلَ الْكِتَابِ »رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمَا بِأَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ.

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ «الْمَجَالِسُ»: «وَلا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ دُعَاءَ الرَّسُولِ هَذَا» اهـ، وَشَدَّدَ النَّكِيرَ وَالتَّشْنِيعَ عَلَى مَنْ يَمْنَعُ التَّأْوِيلَ وَوَسَّعَ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ، فَلْيُطَالِعْهُ مَنْ أَرَادَ زِيَادَةَ التَّأَكُّدِ.

وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّنْ فَوْقِهِمْ﴾ [سُورَةَ النَّحْل/50] فَوْقِيَّةُ الْقَهْرِ دُونَ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ أَيْ لَيْسَ فَوْقِيَّةَ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ [سُورَةَ الْفَجْر/22] لَيْسَ مَجِيءَ الْحَرَكَةِ وَالِانْتِقَالِ وَالزَّوَالِ وَإِفْرَاغِ مَكَانٍ وَمَلْءِ ءَاخَرَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ وَمَنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ يَكْفُرُ.

فَاللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْحَرَكَةَ وَالسُّكُونَ وَكُلَّ مَا كَانَ مِنْ صِفَاتِ الْحَوَادِثِ فَلا يُوصَفُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْحَرَكَةِ وَلا بِالسُّكُونِ، وَالْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ أَيْ أَثَرٌ مِنْ ءَاثَارِ قُدْرَتِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ إِنَّمَا جَاءَتْ قُدْرَتُهُ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي مَنَاقِبِ أَحْمَدَ وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُهُ.


تَفْسِيرُ مَعِيَّةِ اللَّهِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْءَانِ


وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [سُورَةَ الْحَدِيد/4] الإِحَاطَةُ بِالْعِلْم، وَتَأْتِي الْمَعِيَّةُ أَيْضًا بِمَعْنَى النُّصْرَةِ وَالْكِلاءَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ [سُورَةَ النَّحْل/128].

وَلَيْسَ الْمَعْنِيُّ بِهَا الْحُلُولَ وَالِاتِّصَالَ وَيَكْفُرُ مَنْ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الِاتِّصَالِ وَالِانْفِصَالِ بِالْمَسَافَةِ. فَلا يُقَالُ إِنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْعَالَمِ وَلا مُنْفَصِلٌ عَنْهُ بِالْمَسَافَةِ لِأَنَّ هَذِهِ الأُمُورَ مِنْ صِفَاتِ الْحَجْمِ وَالْحَجْمُ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ الأَمْرَيْنِ وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلا لَيْسَ بِحَادِثٍ، نَفَى ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾.

وَلا يُوصَفُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْكِبَرِ حَجْمًا [فَقَوْلُنَا: «اللَّهُ أَكْبَرُ» مَعْنَاهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ كَبِيرٍ قَدْرًا وَدَرَجَةً وَقُوَّةً وَعِلْمًا لا امْتِدَادً، وَهَذَا مُرَادُ السَّلَفِ بِقَوْلِهِمْ فِي الآيَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ: «أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلا كَيْفِيَّةٍ» لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ لَهُ كَيْفِيَّةً لَيْسَتْ مَعْلُومَةً لَنَا. وَلَيْسَ مُوَافِقًا لِلسَّلَفِ مَنْ يَقُولُ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ اسْتِوَاءُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعَرْشِ جُلُوسٌ وَلَكِنْ لا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ الْجُلُوسِ] وَلا بِالصِّغَرِ، وَلا بِالطُّولِ وَلا بِالْقِصَرِ، لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْحَوَادِثِ، وَيَجِبُ طَرْدُ كُلِّ فِكْرَةٍ عَنِ الأَذْهَانِ تُفْضِي إِلَى تَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَحْدِيدِهِ.

كَانَ الْيَهُودُ قَدْ نَسَبُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى التَّعَبَ، فَقَالُوا إِنَّهُ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ اسْتَرَاحَ فَاسْتَلْقَى عَلَى قَفَاهُ، وَقَوْلُهُمْ هَذَا كُفْرٌ.

وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، وَعَنِ الِانْفِعَالِ كَالإِحْسَاسِ بِالتَّعَبِ وَالآلامِ وَاللَّذَّاتِ، فَالَّذِي تَلْحَقُهُ هَذِهِ الأَحْوَالُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا مَخْلُوقًا يَلْحَقُهُ التَّغَيُّرُ، وَهَذَا يَسْتَحِيلُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.

قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُّغُوبٍ﴾ [سُورَةَ ق/38].

إِنَّمَا يَلْغَبُ مَنْ يَعْمَلُ بِالْجَوَارِحِ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْجَارِحَةِ.

قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [سُورَةَ غَافِر/20].

فَاللَّهُ تَعَالَى سَمِيعٌ وَبَصِيرٌ بِلا كَيْفِيَّةٍ، فَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ هُمَا صِفَتَانِ أَزَلِيَّتَانِ بِلا جَارِحَةٍ، أَيْ بِلا أُذُنٍ أَوْ حَدَقَةٍ وَبِلا شَرْطِ قُرْبٍ أَوْ بُعْدٍ أَوْ جِهَةٍ، وَبِدُونِ انْبِعَاثِ شُعَاعٍ مِنَ الْبَصَرِ، أَوْ تَمَوُّجِ هَوَاءٍ.

وَمَنْ قَالَ لِلَّهِ أُذُنٌ فَقَدْ كَفَرَ، وَلَوْ قَالَ لَهُ أُذُنٌ لَيْسَتْ كَآذَانِنَا، بِخِلافِ مَنْ قَالَ لَهُ عَيْنٌ لَيْسَتْ كَعُيُونِنَا وَيَدٌ لَيْسَتْ كَأَيْدِينَا بَلْ بِمَعْنَى الصِّفَةِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ لِوُرُودِ إِطْلاقِ الْعَيْنِ وَالْيَدِ فِي الْقُرْءَانِ وَلَمْ يَرِدْ إِطْلاقُ الأُذُنِ عَلَيْهِ.

تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾

قَالَ تَعَالَى: ﴿وَللَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/115].

الْمَعْنَى: فَأَيْنَمَا تُوَجِّهُوا وُجُوهَكُمْ فِي صَلاةِ النَّفْلِ فِي السَّفَرِ فَثَمَّ قِبْلَةُ اللَّهِ، أَيْ: فَتِلْكَ الْوِجْهَةُ الَّتِي تَوَجَّهْتُمْ إِلَيْهَا هِيَ قِبْلَةٌ لَكُمْ، وَلا يُرَادُ بِالْوَجْهِ الْجَارِحَةُ.

وَحُكْمُ مَنْ يَعْتَقِدُ الْجَارِحَةَ لِلَّهِ التَّكْفِيرُ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ لَهُ جَارِحَةٌ لَكَانَ مِثْلًا لَنَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَيْنَا مِنَ الْفَنَاءِ.

وَقَدْ يُرَادُ بِالْوَجْهِ الْجِهَةُ الَّتِي يُرَادُ بِهَا التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، كَأَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ: «فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا لِوَجْهِ اللَّهِ»، وَمَعْنَى ذَلِكَ «فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى».

وَيَحْرُمُ أَنْ يُقَالَ كَمَا شَاعَ بَيْنَ الْجُهَّالِ: «افْتَحِ النَّافِذَةَ لَنَرَى وَجْهَ اللَّهِ»، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِمُوسَى: ﴿لَنْ تَرَانِي﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف/143]، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَصْدُ النَّاطِقِينَ بِهِ رُؤْيَةَ اللَّهِ فَهُوَ حَرَامٌ.


تَفْسِيرُ: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾


فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هَادِي أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لِنُورِ الإِيـمَانِ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَاللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ نُورًا بِمَعْنَى الضَّوْءِ، بَلْ هُوَ الَّذِي خَلَقَ النُّورَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام/1].

أَيْ خَلَقَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ، فَكَيْف يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نُورًا كَخَلْقِهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.

وَحُكْمُ مَنْ يَعْتِقَدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نُورٌ أَيْ ضَوْءٌ التَّكْفِيرُ قَطْعًا. وَهَذِهِ الآيَةُ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ أَصْرَحُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ حَجْمًا كَثِيفًا كَالسَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَيْسَ حَجْمًا لَطِيفًا كَالظُّلَمَاتِ وَالنُّورِ، فَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ حَجْمٌ كَثِيفٌ أَوْ لَطِيفٌ فَقَدْ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ وَالآيَةُ شَاهِدَةٌ عَلَى ذَلِكَ. أَكْثَرُ الْمُشَبِّهَةِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَجْمٌ كَثِيفٌ وَبَعْضُهُمْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ حَجْمٌ لَطِيفٌ حَيْثُ قَالُوا إِنَّهُ نُورٌ يَتَلَأْلَأُ، فَهَذِهِ الآيَةُ وَحْدَهَا تَكْفِي لِلرَّدِّ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ.

وَهُنَاكَ الْعَدِيدُ مِنَ الْعَقَائِدِ الْكُفْرِيَّةِ كَاعْتِقَادِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذُو لَوْنٍ أَوْ ذُو شَكْلٍ فَلْيَحْذَرِ الإِنْسَانُ مِنْ ذَلِكَ جَهْدَهُ عَلَى أَيِّ حَالٍ.


مَعْنَى الْقَدَرِ وَالإِيـمَانِ بِهِ

قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْقَدَرُ هُوَ تَدْبِيرُ الأَشْيَاءِ عَلَى وَجْهٍ مُطَابِقٍ لِعِلْمِ اللَّهِ الأَزَلِيِّ وَمَشِيئَتِهِ الأَزَلِيَّةِ فَيُوجِدُهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي عَلِمَ أَنَّهَا تَكُونُ فِيه، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ عَمَلُ الْعَبْدِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ بِاخْتِيَارِهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى جِبْرِيلَ حِينَ سَأَلَهُ عَنِ الإِيـمَانِ: «الإِيـمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ »رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي قَدَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَفِيهَا الْخَيْرُ وَالشَّرُّ وُجِدَتْ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ الأَزَلِيِّ، وَأَمَّا تَقْدِيرُ اللَّهِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ ذَاتِهِ فَهُوَ لا يُوصَفُ بِالشَّرِّ بَلْ تَقْدِيرُ اللَّهِ لِلشَّرِّ الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ وَتَقْدِيرُهُ لِلإِيـمَانِ وَالطَّاعَةِ حَسَنٌ مِنْهُ لَيْسَ قَبِيحًا. فَإِرَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى نَافِذَةٌ فِي جَمِيعِ مُرَادَاتِهِ عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ بِهَا، فَمَا عَلِمَ كَوْنَهُ أَرَادَ كَوْنَهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ، وَمَا عَلِمَ أَنَّهُ لا يَكُونُ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَكُونَ.

فَلا يَحْدُثُ فِي الْعَالَمِ شَىْءٌ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَلا يُصِيبُ الْعَبْدَ شَىْءٌ مِنَ الْخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ أَوِ الصِّحَّةِ أَوِ الْمَرَضِ أَوِ الْفَقْرِ أَوِ الْغِنَى أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلا يُخْطِئُ الْعَبْدَ شَىْءٌ قَدَّرَ اللَّهُ وَشَاءَ أَنْ يُصِيبَهُ، فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَ بَعْضَ بَنَاتِهِ: «مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي السُّنَنِ ثُمَّ تَوَاتَرَ وَاسْتَفَاضَ بَيْنَ أَفْرَادِ الأُمَّةِ.

وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ لَنْ يَخْلُصَ الإِيـمَانُ إِلَى قَلْبِهِ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ يَقِينًا غَيْرَ شَكٍّ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، وَيُقِرَّ بِالْقَدَرِ كُلِّهِ». أَيْ لا يَجُوزُ أَنْ يُؤْمِنَ بِبَعْضِ الْقَدَرِ وَيَكْفُرَ بِبَعْضٍ.

وَرَوَى أَيْضًا بِالإِسْنَادِ الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ بنَ الْخَطَّابِ كَانَ بِالْجَابِيَةِ - وَهِيَ أَرْضٌ مِنَ الشَّامِ - فَقَامَ خَطِيبًا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ»، وَكَانَ عِنْدَهُ كَافِرٌ مِنْ كُفَّارِ الْعَجَمِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَقَالَ بِلُغَتِهِ: «إِنَّ اللَّهَ لا يُضِلُّ أَحَدًا»، فَقَالَ عُمَرُ لِلتَّرْجُمَانِ: «مَاذَا يَقُولُ»؟ قَالَ: إِنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ لا يُضِلُّ أَحَدًا، فَقَالَ عُمَرُ: «كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ وَلَوْلا أَنَّكَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ هُوَ أَضَلَّكَ وَهُوَ يُدْخِلُكَ النَّارَ إِنْ شَاءَ».

وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ عَنِ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنْ عَمِّهِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ عُمَرَ بنَ الْخَطَّابِ كَانَ يُحِبُّ قَصِيدَةَ لَبِيدِ بنِ رَبِيعَةَ الَّتِي مِنْهَا هَذِهِ الأَبْيَاتُ، وَهِيَ:

إِنَّ تَقْوَى رَبِّنَا خَيْرُ نَفَلْ وَبِإِذْنِ اللَّهِ رَيْثِي وَعَجَلْ

أَحْمَدُ اللَّهَ فَلا نِدَّ لَهُ بِيَدَيْهِ الْخَيْرُ مَا شَاءَ فَعَلْ

مَنْ هَدَاهُ سُبُلَ الْخَيْرِ اهْتَدَى نَاعِمَ الْبَالِ وَمَنْ شَاءَ أَضَلْ

وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «إِنَّ تَقْوَى رَبِّنَا خَيْرُ نَفَلْ»، أَيْ خَيْرُ مَا يُعْطَاهُ الإِنْسَانُ.

وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «وَبِإِذْنِ اللَّهِ رَيْثِي وَعَجَلْ»، أَيْ أَنَّهُ لا يُبْطِئُ مُبْطِئٌ وَلا يُسْرِعُ مُسْرِعٌ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَبِإِذْنِهِ.

وَقَوْلِهِ: «أَحْمَدُ اللَّهَ فَلا نِدَّ لَهُ»، أَيْ لا مِثْلَ لَهُ.

وَقَوْلِهِ: «بِيَدَيْهِ الْخَيْرُ»، أَيْ وَالشَّرُّ.

وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْخَيْرِ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ [سُورَةَ النَّحْل/81]، أَيْ وَالْبَرْدَ لِأَنَّ السَّرَابِيلَ تَقِي مِنَ الأَمْرَيْنِ لَيْسَ مِنَ الْحَرِّ فَقَطْ.

وَقَوْلِهِ: «مَا شَاءَ فَعَلْ»، أَيْ مَا أَرَادَ اللَّهُ حُصُولَهُ لا بُدَّ أَنْ يَحْصُلَ وَمَا أَرَادَ أَنْ لا يَحْصُلَ فَلا يَحْصُلُ.

وَقَوْلِهِ: «مَنْ هَدَاهُ سُبُلَ الْخَيْرِ اهْتَدَى»، أَيْ مَنْ شَاءَ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الصِّرَاطِ الصَّحِيحِ الْمُسْتَقِيمِ اهْتَدَى.

وَقَوْلِهِ: «نَاعِمَ الْبَالِ»، أَيْ مُطْمَئِنَّ الْبَالِ.

وَقَوْلِهِ: «وَمَنْ شَاءَ أَضَلّ»، أَيْ مَنْ شَاءَ لَهُ أَنْ يَكُونَ ضَالًّا أَضَلَّهُ.

وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ حِينَ سُئِلَ عَنِ الْقَدَرِ:

مَا شِئْتَ كَانَ وَإِنْ لَمْ أَشَأْ وَمَا شِئْتُ إِنْ لَمْ تَشَأْ لَمْ يَكُنْ

خَلَقْتَ الْعِبَادَ عَلَى مَا عَلِمْتَ فَفِي الْعِلْمِ يَجْرِي الْفَتَى وَالْمُسِنْ

عَلَى ذَا مَنَنْتَ وَهَذَا خَذَلْتَ وَهَذَا أَعَنْتَ وَذَا لَمْ تُعِنْ

فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَمِنْهُمْ سَعِيدٌ وَهَذَا قَبِيحٌ وَهَذَا حَسَنٌ

فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [سُورَةَ النَّحْل/93] يَعُودُ إِلَى اللَّهِ لا إِلَى الْعَبْدِ كَمَا زَعَمَتِ الْقَدَرِيَّةُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ سَيِّدِنَا مُوسَى: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف/155].

وَكَذَلِكَ قَالَتْ طَائِفَةٌ يَنْتَسِبُونَ إِلَى أَمِين شَيْخُو الَّذِينَ زَعِيمُهُمُ الْيَوْمَ عَبْدُ الْهَادِي الْبَانِي الَّذِي هُوَ بِدِمَشْقَ فَقَدْ جَعَلُوا مَشِيئَةَ اللَّهِ تَابِعَةً لِمَشِيئَةِ الْعَبْدِ حَيْثُ إِنَّ مَعْنَى الآيَةِ عِنْدَهُمْ إِنْ شَاءَ الْعَبْدُ الِاهْتِدَاءَ شَاءَ اللَّهُ لَهُ الْهُدَى وَإِنْ شَاءَ الْعَبْدُ أَنْ يَضِلَّ أَضَلَّهُ اللَّهُ، فَكَذَّبُوا بِالآيَةِ: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [سُورَةَ التَّكْوِير/29]، فَإِنْ حَاوَلَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِآيَةٍ مِنَ الْقُرْءَانِ لِضِدِّ هَذَا الْمَعْنَى قِيلَ لَهُ: الْقُرْءَانُ يَتَصَادَقُ وَلا يَتَنَاقَضُ فَلَيْسَ فِي الْقُرْءَانِ ءَايَةٌ نَقِيضَ ءَايَةٍ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، لِأَنَّ النَّسْخَ لا يَدْخُلُ الْعَقَائِدَ وَلَيْسَ مُوجِبًا لِلتَّنَاقُضِ فَالنَّسْخُ لا يَدْخُلُ فِي الأَخْبَارِ إِنَّمَا هُوَ فِي الأَمْرِ وَالنَّهْيِ. إِنَّمَا النَّسْخُ بَيَانُ انْتِهَاءِ حُكْمِ ءَايَةٍ سَابِقَةٍ بِحُكْمِ ءَايَةٍ لاحِقَةٍ، عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْفِئَةَ لا تُؤْمِنُ بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ.

وَمِنْ غَبَاوَتِهِمُ الْعَجِيبَةِ أَنَّهُمْ يُفَسِّرُونَ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/31] بِأَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى، فَإِنْ قِيلَ لَهُمْ: لَوْ كَانَتِ الأَسْمَاءُ هِيَ أَسْمَاءَ اللَّهِ الْحُسْنَى لَمْ يَقُلِ اللَّهُ: ﴿فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/33] بَلْ لَقَالَ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِي انْقَطَعُوا، لَكِنَّهُمْ يُصِرُّونَ عَلَى جَهْلِهِمْ وَتَحْرِيفِهِمْ لِلْقُرْءَانِ.

وَرَوَى الْحَاكِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عَلِيَّ الرِّضَى بنَ مُوسَى الْكَاظِمِ كَانَ يَقْعُدُ فِي الرَّوْضَةِ وَهُوَ شَابٌّ مُلْتَحِفٌ بِمَطْرَفِ خَزٍّ فَيَسْأَلُهُ النَّاسُ وَمَشَايِخُ الْعُلَمَاءِ فِي الْمَسْجِدِ، فَسُئِلَ عَنِ الْقَدَرِ فَقَالَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [سُورَةَ الْقَمَر].

ثُمَّ قَالَ الرِّضَى: كَانَ أَبِي يَذْكُرُ عَنْ ءَابَائِهِ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بنَ أَبِي طَالِبٍ كَانَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ بِقَدَرٍ حَتَّى الْعَجْزَ وَالْكَيْسَ وَإِلَيْهِ الْمَشِيئَةُ وَبِهِ الْحَوْلُ وَالْقُوَّةُ» اهـ.

فَالْعِبَادُ مُنْسَاقُونَ إِلَى فِعْلِ مَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ بِاخْتِيَارِهِمْ لا بِالإِكْرَاهِ وَالْجَبْرِ كَالرِّيشَةِ الْمُعَلَّقَةِ تُمِيلُهَا الرِّيَاحُ يَمْنَةً وَيَسْرَةً كَمَا تَقُولُ الْجَبْرِيَّةُ.

وَلَوْ لَمْ يَشَأِ اللَّهُ عِصْيَانَ الْعُصَاةِ وَكُفْرَ الْكَافِرِينَ وَإِيـمَانَ الْمُؤْمِنِينَ وَطَاعَةَ الطَّائِعِينَ لَمَا خَلَقَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ.

وَمَنْ يَنْسُبُ لِلَّهِ تَعَالَى خَلْقَ الْخَيْرِ دُونَ الشَّرِّ فَقَدْ نَسَبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْعَجْزَ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ لِلْعَالَمِ مُدَبِّرَانِ، مُدَبِّرُ خَيْرٍ وَمُدَبِّرُ شَرٍّ وَهَذَا كُفْرٌ وَإِشْرَاكٌ.

وَهَذَا الرَّأْيُ السَّفِيهُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى يَجْعَلُ اللَّهَ تَعَالَى فِي مُلْكِهِ مَغْلُوبًا، لِأَنَّهُ عَلَى حَسَبِ اعْتِقَادِهِ اللَّهُ تَعَالَى أَرَادَ الْخَيْرَ فَقَطْ فَيَكُونُ قَدْ وَقَعَ الشَّرُّ مِنْ عَدُّوِهِ إِبْلِيسَ وَأَعْوَانِهِ الْكُفَّارِ رَغْمَ إِرَادَتِهِ.

وَيَكْفُرُ مَنْ يَعْتَقِدُ هَذَا الرَّأْيَ لِمُخَالَفَتِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾ [سُورَةَ يُوسُف/21] أَيْ لا أَحَدَ يَمْنَعُ نَفَاذَ مَشِيئَتِهِ.

وَحُكْمُ مَنْ يَنْسُبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْخَيْرَ وَيَنْسُبُ إِلَى الْعَبْدِ الشَّرَّ أَدَبًا أَنَّهُ لا حَرَجَ عَلَيْهِ، أَمَّا إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَيْرَ دُونَ الشَّرِّ فَحُكْمُهُ التَّكْفِيرُ.

وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا عَذَّبَ الْعَاصِيَ فَبِعَدْلِهِ مِنْ غَيْرِ ظُلْمٍ، وَإِذَا أَثَابَ الْمُطِيعَ فَبِفَضْلِهِ مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الظُّلْمَ إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ مِمَّنْ لَهُ ءَامِرٌ وَنَاهٍ وَلا ءَامِرَ لِلَّهِ وَلا نَاهِيَ لَهُ، فَهُوَ يَتَصَرَّفُ فِي مُلْكِهِ كَمَا يَشَاءُ لِأَنَّهُ خَالِقُ الأَشْيَاءِ وَمَالِكُهَا، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالإِمَامُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ وَابْنُ حِبَّانَ عَنِ ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ قَالَ: «أَتَيْتُ أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ فَقُلْتُ: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، إِنَّهُ حَدَثَ فِي نَفْسِي شَىْءٌ مِنْ هَذَا الْقَدَرِ فَحَدِّثْنِي لَعَلَّ اللَّهَ يَنْفَعُنِي»، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَوْ عَذَّبَ أَهْلَ أَرْضِهِ وَسَمَوَاتِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ وَلَوْ مِتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا دَخَلْتَ النَّارَ».

قَالَ: ثُمَّ أَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بنَ مَسْعُودٍ فَحَدَّثَنِي مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَيْتُ حُذَيْفَةَ بنَ الْيَمَانِ فَحَدَّثَنِي مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَيْتُ زَيْدَ بنَ ثَابِتٍ فَحَدَّثَنِي مِثْلَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ قَالَ: قَالَ لِي عِمْرَانُ بنُ الْحُصَيْنِ: أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ الْيَوْمَ وَيَكْدَحُونَ فِيهِ أَشَىْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبَقَ أَوْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُونَ بِهِ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ وَثَبَتَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ؟ فَقُلْتُ: بَلْ شَىْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ، قَالَ فَقَالَ: أَفَلا يَكُونُ ظُلْمًا، قَالَ: فَفَزِعْتُ مِنْ ذَلِكَ فَزَعًا شَدِيدًا وَقُلْتُ: كُلُّ شَىْءٍ خَلْقُهُ وَمِلْكُ يَدِهِ لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، قَالَ: فَقَالَ لِي: يَرْحَمُكَ اللَّهُ إِنِّي لَمْ أُرِدْ بِمَا سَأَلْتُكَ إِلَّا لِأَحْزِرَ عَقْلَكَ، إِنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ مُزَيْنَةَ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ الْيَوْمَ وَيَكْدَحُونَ فِيهِ أَشَىْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبَقَ أَوْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُونَ بِهِ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ وَثَبَتَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ؟ فَقَالَ: بَلْ شَىْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ، وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ [سُورَةَ الشَّمْس].

وَصَحَّ حَدِيثُ: «فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

أَمَّا الأَوَّلُ: وَهُوَ مَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُتَفَضِّلٌ عَلَيْهِ بِالإِيْجَادِ وَالتَّوْفِيقِ مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ عَلَيْهِ، فَلْيَحْمَدِ الْعَبْدُ رَبَّهُ عَلَى تَفَضُّلِهِ عَلَيْهِ.

أَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ مَنْ وَجَدَ شَرًّا فَلِأَنَّهُ تَعَالَى أَبْرَزَ بِقُدْرَتِهِ مَا كَانَ مِنْ مَيْلِ الْعَبْدِ السَّيِّءِ فَمَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ فَبِعَدْلِهِ وَمَنْ هَدَاهُ فَبِفَضْلِهِ.

وَلَوْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ وَأَدْخَلَ فَرِيقًا الْجَنَّةَ وَفَرِيقًا النَّارَ لِسَابِقِ عِلْمِهِ أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ لَكَانَ شَأْنُ الْمُعَذَّبِ مِنْهُمْ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ ءَايَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَّذِلَّ وَنَخْزَى﴾ [سُورَةَ طَه/134].

فَأَرْسَلَ اللَّهُ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِيُظْهِرَ مَا فِي اسْتِعْدَادِ الْعَبْدِ مِنَ الطَّوْعِ وَالإِبَاءِ فَيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ.

فَأَخْبَرَنَا أَنَّ قِسْمًا مِنْ خَلْقِهِ مَصِيرُهُمُ النَّارُ بِأَعْمَالِهِمُ الَّتِي يَعْمَلُونَ بِاخْتِيَارِهِمْ، وَكَانَ تَعَالَى عَالِمًا بِعِلْمِهِ الأَزَلِيِّ أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [سُورَةَ السَّجْدَة/13] أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ أَنَّهُ قَالَ فِي الأَزَلِ: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ وَقَوْلُهُ صِدْقٌ لا يَتَخَلَّفُ لِأَنَّ التَّخَلُّفَ أَيِ التَّغَيُّرَ كَذِبٌ وَالْكَذِبُ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ.

قَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام/149] أَيْ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَشَأْ هِدَايَةَ جَمِيعِكُمْ إِذْ لَمْ يَسْبِقِ الْعِلْمُ بِذَلِكَ، فَالْعِبَادُ مُنْسَاقُونَ إِلَى فِعْلِ مَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ بِاخْتِيَارِهِمْ لا بِالإِكْرَاهِ وَالْجَبْرِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَمْرِ الْقَدَرِ لَيْسَ مِنَ الْخَوْضِ الَّذِي نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: «إِذَا ذُكِرَ الْقَدَرُ فَأَمْسِكُوا» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، لِأَنَّ هَذَا تَفْسِيرٌ لِلْقَدَرِ الَّذِي وَرَدَ بِهِ النَّصُّ، وَأَمَّا الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فَهُوَ الْخَوْضُ فِيهِ لِلْوُصُولِ إِلَى سِرِّهِ، فَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ وَالْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِلسَّائِلِ عَنِ الْقَدَرِ: «سِرُّ اللَّهِ فَلا تَتَكَلَّفْ»، فَلَمَّا أَلَحَّ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ: «أَمَّا إِذْ أَبَيْتَ فَإِنَّهُ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ لا جَبْرٌ وَلا تَفْوِيضٌ».

وَاعْلَمْ أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ذَمَّ الْقَدَرِيَّةَ وَهُمْ فِرَقٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْعَبْدُ خَالِقٌ لِجَمِيعِ فِعْلِهِ الِاخْتِيَارِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ خَالِقُ الشَّرِّ دُونَ الْخَيْرِ وَكِلا الْفَرِيقَيْنِ كُفَّارٌ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ» [رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ] وَفِي رِوَايَةٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ: «لِكُلِّ أُمَّةٍ مَجُوسٌ، وَمَجُوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا قَدَرَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ حُذَيْفَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَفِي كِتَابِ «الْقَدَرِ» لِلْبَيْهَقِيِّ وَكِتَابِ «تَهْذِيبِ الآثَارِ» لِلإِمَامِ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي لَيْسَ لَهُمَا نَصِيبٌ فِي الإِسْلامِ الْقَدَرِيَّةُ وَالْمُرْجِئَةُ» [الْمُرْجِئَةُ هُمْ طَائِفَةٌ انْتَسَبُوا لِلإِسْلامِ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ مَهْمَا عَمِلَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَمَاتَ بِلا تَوْبَةٍ لَيْسَ عَلَيْهِ عَذَابٌ] فَالْمُعْتَزِلَةُ هُمُ الْقَدَرِيَّةُ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا اللَّهَ وَالْعَبْدَ سَوَاسِيَةً بِنَفْيِ الْقُدْرَةِ عَنْهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَا يُقْدِرُ عَلَيْهِ عَبْدَهُ، فَكَأَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ خَالِقَيْنِ فِي الْحَقِيقَةِ كَمَا أَثْبَتَ الْمَجُوسُ خَالِقَيْنِ خَالِقًا لِلْخَيْرِ هُوَ عِنْدَهُمُ النُّورُ وَخَالِقًا لِلشَّرِّ هُوَ عِنْدَهُمُ الظَّلامُ.

وَالْهِدَايَةُ عَلَى وَجْهَيْنِ

أَحَدُهُمَا: إِبَانَةُ الْحَقِّ وَالدُّعَاءُ إِلَيْهِ، وَنَصْبُ الأَدِلَّةِ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَصِحُّ إِضَافَةُ الْهِدَايَةِ إِلَى الرُّسُلِ وَإِلَى كُلِّ دَاعٍ لِلَّهِ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/52].

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ [سُورَةَ فُصِّلَتْ/17].

وَالثَّانِي: مِنْ جِهَةِ هِدَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ، أَيْ خَلْقِ الِاهْتِدَاءِ فِي قُلُوبِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام/125].

وَالإِضْلالُ خَلْقُ الضَّلالِ فِي قُلُوبِ أَهْلِ الضَّلالِ.

فَالْعِبَادُ مَشِيئَتُهُمْ تَابِعَةٌ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [سُورَةَ الإِنْسَان/30].

وَهَذِهِ الآيَةُ مِنْ أَوْضَحِ الأَدِلَّةِ عَلَى ضَلالِ جَمَاعَةِ أَمِين شَيْخُو لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنْ شَاءَ الْعَبْدُ الْهِدَايَةَ يَهْدِيهِ اللَّهُ وَإِنْ شَاءَ الْعَبْدُ الضَّلالَ يُضِلُّهُ اللَّهُ، فَمَاذَا يَقُولُونَ فِي هَذِهِ الآيَةِ: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ﴾ فَإِنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي سَبْقِ مَشِيئَةِ اللَّهِ عَلَى مَشِيئَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّ اللَّهَ نَسَبَ الْمَشِيئَةَ إِلَيْهِ وَمَا رَدَّهَا إِلَى الْعِبَادِ. فَأُولَئِكَ كَأَنَّهُمْ قَالُوا مَنْ يُرِدِ الْعَبْدُ أَنْ يَشْرَحَ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ يَشْرَحُ اللَّهُ صَدْرَهُ، ثُمَّ قَوْلُهُ: ﴿وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ﴾ فَلا يُمْكِنُ أَنْ يَرْجِعَ الضَّمِيرُ فِي يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ إِلَى الْعَبْدِ لِأَنَّ هَذَا يَجْعَلُ الْقُرْءَانَ رَكِيكًا ضَعِيفَ الْعِبَارَةِ وَالْقُرْءَانُ أَعْلَى الْبَلاغَةِ لا يُوجَدُ فَوْقَهُ بَلاغَةٌ، فَبَانَ بِذَلِكَ جَهْلُهُمُ الْعَمِيقُ وَغَبَاوَتُهُمُ الشَّدِيدَةُ. وَعَلَى مُوجَبِ كَلامِهِمْ يَكُونُ مَعْنَى الآيَةِ ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ﴾ أَنَّ الْعَبْدَ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَهْدِيَهُ اللَّهُ يَشْرَحُ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْهُدَى وَهَذَا عَكْسُ اللَّفْظِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللّهُ وَهَكَذَا كَانَ اللَّازِمُ عَلَى مُوجَبِ اعْتِقَادِهِمْ أَنْ يَقُولَ اللَّهُ وَالْعَبْدُ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُضِلَّهُ اللَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا، وَهَذَا تَحْرِيفٌ لِلْقُرْءَانِ لإِخْرَاجِهِ عَنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْءَانُ وَفَهِمَ الصَّحَابَةُ الْقُرْءَانَ عَلَى مُوجَبِهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمْ يَفْهَمُونَ الْقُرْءَانَ عَلَى خِلافِ مَا تَفْهَمُهُ هَذِهِ الْفِرْقَةُ اتِّفَاقُ الْمُسْلِمِينَ سَلَفِهِم وَخَلَفِهِمْ عَلَى قَوْلِهِمْ: مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.



تَقْدِيرُ اللَّهِ لا يَتَغَيَّرُ

اعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيرَ اللَّهِ تَعَالَى الأَزَلِيَّ لا يُغَيِّرُهُ شَىْءٌ لا دَعْوَةُ دَاعٍ وَلا صَدَقَةُ مُتَصَدِّقٍ وَلا صَلاةُ مُصَلٍّ وَلا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْحَسَنَاتِ بَلْ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْخَلْقُ عَلَى مَا قَدَّرَ لَهُمْ فِي الأَزَلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَغَيَّرَ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [سُورَةَ الرَّعْد/39] فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَحْوَ وَالإِثْبَاتَ فِي تَقْدِيرِ اللَّهِ، بَلِ الْمَعْنَى فِي هَذَا أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ كَتَبَ مَا يُصِيبُ الْعَبْدَ مِنْ عِبَادِهِ مِنَ الْبَلاءِ وَالْحِرْمَانِ وَالْمَوْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَأَنَّهُ إِنْ دَعَا اللَّهَ تَعَالَى أَوْ أَطَاعَهُ فِي صِلَةِ الرَّحِمِ وَغَيْرِهَا لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ الْبَلاءُ وَرَزَقَهُ كَثِيرًا أَوْ عَمَّرَهُ طَوِيلًا، وَكَتَبَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنَ الأَمْرَيْنِ، فَالْمَحْوُ وَالإِثْبَاتُ رَاجِعٌ إِلَى أَحَدِ الْكِتَابَيْنِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ قَالَ: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنْ أَحَدِ الْكِتَابَيْنِ، هُمَا كِتَابَانِ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ اهـ.

وَالْمَحْوُ يَكُونُ فِي غَيْرِ الشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ، فَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [سُورَةَ الدُّخَان/4] أَنَّهُ قَالَ: «يُفْرَقُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مَا يَكُونُ فِي السَّنَةِ مِنْ رِزْقٍ أَوْ مُصِيبَةٍ، فَأَمَّا كِتَابُ الشَّقَاءِ وَالسَّعَادَةِ فَإِنَّهُ ثَابِتٌ لا يُغَيَّرُ» اهـ.

فَلِذَلِكَ لا يَصِحُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّعَاءُ الَّذِي فِيهِ: «إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي فِي أُمِّ الْكِتَابِ عِنْدَكَ شَقِيًّا فَامْحُ عَنِّي اسْمَ الشَّقَاءِ وَأَثْبِتْنِي عِنْدَكَ سَعِيدًا، وَإِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي فِي أُمِّ الْكِتَابِ مَحْرُومًا مُقَتَّرًا عَلَيَّ رِزْقِي فَامْحُ عَنِّي حِرْمَانِي وَتَقْتِيرَ رِزْقِي وَأَثْبِتْنِي عِنْدَكَ سَعِيدًا مُوَفَّقًا لِلْخَيْرِ، فَإِنَّكَ تَقُولُ فِي كِتَابِكَ: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [سُورَةَ الرَّعْد/39] وَلا مَا أَشْبَهَهُ، وَلَمْ يَصِحَّ هَذَا الدُّعَاءُ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ وَلا عَنْ مُجَاهِدٍ وَلا عَنْ غَيْرِهِمَا مِنَ السَّلَفِ كَمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ «الْقَدَرِ» لِلْبَيْهَقِيِّ.

تَقْسِيمُ الأُمُورِ إِلَى أَرْبَعَةٍ

الأُمُورُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: الأَوَّلُ: شَىْءٌ شَاءَهُ اللَّهُ وَأَمَرَ بِهِ: وَهُوَ إِيـمَانُ الْمُؤْمِنِينَ وَطَاعَةُ الطَّائِعِينَ.

وَالثَّانِي: شَىْءٌ شَاءَهُ اللَّهُ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ: وَهُوَ عِصْيَانُ الْعُصَاةِ وَكُفْرُ الْكَافِرِينَ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكُفْرَ مَعَ أَنَّهُ خَلَقَهُ بِمَشِيئَتِهِ وَلا يَرْضَاهُ لِعِبَادِهِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ﴾ [سُورَةَ الزُّمَر/7].

الثَّالِثُ: أَمْرٌ لَمْ يَشَأْهُ اللَّهُ وَأَمَرَ بِهِ: وَهُوَ الإِيـمَانُ بِالنِّسْبَةِ لِلْكَافِرِينَ الَّذِينَ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ يَمُوتُونَ عَلَى الْكُفْرِ أُمِرُوا بِالإِيـمَانِ وَلَمْ يَشَأْهُ لَهُمْ.

الرَّابِعُ: أَمْرٌ لَمْ يَشَأْهُ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ: وَهُوَ الْكُفْرُ بِالنِّسْبَةِ لِلأَنْبِيَاءِ وَالْمَلائِكَةِ.

وَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِالْقُرْءَانِ الْكَرِيمِ فَلْيَقِفْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [سُورَةَ الأَنْبِيَاء/23].

فَلا يُقَالُ كَيْفَ يُعَذِّبُ الْعُصَاةَ عَلَى مَعَاصِيهِمُ الَّتِي شَاءَ وُقُوعَهَا مِنْهُمْ فِي الآخِرَةِ.



تَوْحِيدُ اللَّهِ فِي الْفِعْلِ

رُوِيَ عَنِ الْجُنَيْدِ إِمَامِ الصُّوفِيَّةِ الْعَارِفِينَ عِنْدَمَا سُئِلَ عَنِ التَّوْحِيدِ أَنَّهُ قَالَ: «الْيَقِينُ» ثُمَّ اسْتُفْسِرَ عَنْ مَعْنَاهُ فَقَالَ: «إِنَّهُ لا مُكَوِّنَ لِشَىْءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ مِنَ الأَعْيَانِ وَالأَعْمَالِ خَالِقٌ لَهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى»، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [سُورَةَ الصَّافَّات/96].

وَقَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ صَانِعُ كُلِّ صَانِعٍ وَصَنْعَتِهِ»، رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ.

إِذِ الْعِبَادُ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَإِنَّمَا يَكْتَسِبُونَهَا، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ﴾ [سُورَةَ الرَّعْد/16] تَمَدَّحَ تَعَالَى بِذَلِكَ لِأَنَّهُ شَىْءٌ يَخْتَصُّ بِهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْعُمُومَ وَالشُّمُولَ لِلأَعْيَانِ وَالأَعْمَالِ وَالْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ.

وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام].

سَاقَ اللَّهُ الصَّلاةَ وَالنُّسُكَ وَالْمَحْيا وَالْمَمَاتَ فِي مَسَاقٍ وَاحِدٍ وَجَعَلَهَا مِلْكًا لَهُ. فَكَمَا أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ كَذَلِكَ اللَّهُ خَالِقٌ لِلأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ كَالصَّلاةِ وَالنُّسُكِ، وَالْحَرَكَاتِ الِاضْطِرَارِيَّةِ مِنْ بَابِ الأَوْلَى.

وَإِنَّمَا تَمْتَازُ الأَعْمَالُ الِاخْتِيَارِيَّةُ أَيِ الَّتِي لَنَا فِيهَا مَيْلٌ بِكَوْنِهَا مُكْتَسَبَةً لَنَا فَهِيَ مَحَلُّ التَّكْلِيفِ.

وَالْكَسْبُ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْعَبْدِ وَعَلَيْهِ يُثَابُ أَوْ يُؤَاخَذُ فِي الآخِرَةِ هُوَ تَوْجِيهُ الْعَبْدِ قَصْدَهُ وَإِرَادَتَهُ نَحْوَ الْعَمَلِ أَيْ يَصْرِفُ إِلَيْهِ قُدْرَتَهُ فَيَخْلُقُهُ اللَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ.

فَالْعَبْدُ كَاسِبٌ لِعَمَلِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى خَالِقٌ لِعَمَلِ هَذَا الْعَبْدِ الَّذِي هُوَ كَسْبٌ لَهُ، وَهُوَ مِنْ أَغْمَضِ الْمَسَائِلِ فِي هَذَا الْعِلْمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/286].

فَلَيْسَ الإِنْسَانُ مَجْبُورًا لِأَنَّ الْجَبْرَ يُنَافِي التَّكْلِيفَ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْحَقُّ وَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ أَيْ مَذْهَبِ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ.

وَيَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ أَعْمَالَهُ كَالْمُعْتَزِلَةِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «كَلامُ الْقَدَرِيَّةِ كُفْرٌ» وَالْقَدَرِيَّةُ هُمُ الْمُعْتَزِلَةُ.

قَالَ أَبُو يُوسُفَ: «الْمُعْتَزِلَةُ زَنَادِقَةٌ».

وَوَصَفَهُمْ أَبُو مَنْصُورٍ التَّمِيمِيُّ فِي كِتَابِهِ« الْفَرْقُ بَيْنَ الْفِرَقِ» بِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ. وَأَبُو مَنْصُورٍ هُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ: «وَقَالَ الإِمَامُ الْكَبِيرُ إِمَامُ أَصْحَابِنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ»، وَهُوَ مِمَّنْ كَتَبَ عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْحَدِيثِ.

وَلا تَغْتَرَّ بِعَدَمِ تَكْفِيرِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ لَهُمْ، فَقَدْ نَقَلَ الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ التَّمِيمِيُّ فِي كِتَابِهِ «أُصُولُ الدِّينِ» وَكَذَلِكَ فِي كِتَابِهِ «تَفْسِيرُ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ» تَكْفِيرَهُمْ عَنِ الأَئِمَّةِ.

قَالَ الإِمَامُ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابِهِ «تَفْسِيرُ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ» [هَذَا الْكِتَابُ نَادِرُ الْوُجُودِ يُوجَدُ مِنْهُ نُسْخَتَانِ أَوْ ثَلاثٌ خَطِيَّةٌ فِي بَعْضِ الْمَكْتَبَاتِ]: «أَصْحَابُنَا أَجْمَعُوا عَلَى تَكْفِيرِ الْمُعْتَزِلَةِ» أَيِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْعَبْدُ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ الِاخْتِيَارِيَةَ، وَكَذَلِكَ الَّذِينَ يَقُولُونَ فَرْضٌ عَلَى اللَّهِ أَنَّ يَفْعَلَ مَا هُوَ الأَصْلَحُ لِلْعِبَادِ. وَقَوْلُهُ: «أَصْحَابُنَا» يَعْنِي بِهِ الأَشْعَرِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ لِأَنَّهُ أَشْعَرِيٌّ شَافِعِيٌّ بَلْ هُوَ رَأْسٌ كَبِيرٌ فِي الشَّافِعِيَّةِ كَمَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ وَهُوَ إِمَامٌ مُقَدَّمٌ فِي النَّقْلِ مَعْرُوفٌ بِذَلِكَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَالأُصُولِيِّينَ وَالْمُؤَرِّخِينَ الَّذِينَ أَلَّفُوا فِي الْفِرَقِ، فَمَنْ أَرَادَ مَزِيدَ التَّأَكُّدِ فَلْيُطَالِعْ كُتُبَهُ هَذِهِ، فَلا يُدَافَعُ نَقْلُهُ بِكَلامِ الْبَاجُورِيِّ وَأَمْثَالِهِ مِمَّنْ هُوَ مِنْ قَبْلِ عَصْرِهِ أَوْ بَعْدَهُ.

وَأَمَّا كَلامُ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ تَرْكِ تَكْفِيرِهِمْ فَمَحْمُولٌ عَلَى مِثْلِ بِشْرٍ الْمِرِّيسِيِّ وَالْمَأْمُونِ الْعَبَّاسِيِّ، فَإِنَّ بِشْرًا كَانَ مُوَافِقَهُمْ فِي الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْءَانِ وَكَفَّرَهُمْ فِي الْقَوْلِ بِخَلْقِ الأَفْعَالِ فَلا يُحْكَمُ عَلَى جَمِيعِ مَنِ انْتَسَبَ إِلَى الِاعْتِزَالِ بِحُكْمٍ وَاحِدٍ وَيُحْكَمُ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْهُمْ بِكَوْنِهِ ضَالًّا.

الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ

بِأَنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ

قَالَ أَهْلُ الْحَقِّ: «امْتَنَعَ خَلْقُ الْعَبْدِ لِفِعْلِهِ لِعُمُومِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ وَعِلْمِهِ».

وَبَيَانُ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ عَامَّةٌ وَعِلْمَهُ عَامٌّ وَإِرَادَتَهُ عَامَّةٌ فَإِنَّ نِسْبَتَهَا إِلَى الْمُمْكِنَاتِ نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ.

فَإِنَّ وُجُودَ الْمُمْكِنِ الْعَقْلِيِّ إِنَّمَا احْتَاجَ إِلَى الْقَادِرِ مِنْ حَيْثُ إِمْكَانُهُ وَحُدُوثُهُ.

فَلَوْ تَخَصَّصَتْ صِفَاتُهُ هَذِهِ بِبَعْضِ الْمُمْكِنَاتِ لَلَزِمَ اتِّصَافُهُ تَعَالَى بِنَقِيضِ تِلْكَ الصِّفَاتِ مِنَ الْجَهْلِ وَالْعَجْزِ وَذَلِكَ نَقْصٌ وَالنَّقْصُ عَلَيْهِ مُحَالٌ، وَلَاقْتَضَى تَخَصُّصُهَا مُخَصِّصًا وَتَعَلَّقَ الْمُخَصِّصُ بِذَاتِ الْوَاجِبِ الْوُجُودِ وَصِفَاتِهِ وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَإِذًا ثَبَتَ عُمُومُ صِفَاتِهِ.

فَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى إِيجَادَ حَادِثٍ وَأَرَادَ الْعَبْدُ خِلافَهُ وَنَفَذَ مُرَادُ الْعَبْدِ دُونَ مُرَادِ اللَّهِ لَلَزِمَ الْمُحَالُ الْمَفْرُوضُ فِي إِثْبَاتِ إِلَهَيْنِ، وَتَعَدُّدُ الإِلَهِ مُحَالٌ بِالْبُرْهَانِ، فَمَا أَدَّى إِلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ.

إِثْبَاتُ أَنَّ الأَسْبَابَ الْعَادِيَّة لا تُؤَثِّرُ عَلَى الْحَقِيقَةِ
وَإِنَّمَا الْمُؤَثِّرُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ اللَّهُ

ذَكَرَ الْحَاكِمُ صَاحِبُ الْمُسْتَدْرَكِ فِي تَارِيخِ نَيْسَابُورَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا زَكَرِيَّا يَحْيَى بنَ مُحَمَّدٍ الْعَنْبَرِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا عِيسَى ابْنَ مُحَمَّدِ بنِ عِيسَى الطَّهْمَانِيَّ الْمَرْوَرُّوذِيَّ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُظْهِرُ مَا شَاءَ إِذَا شَاءَ مِنَ الآيَاتِ وَالْعِبَرِ فِي بَرِيَّتِه، فَيَزِيدُ الإِسْلامَ بِهَا عِزًّا وَقُوَّةً وَيُؤَيِّدُ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْهُدَى وَالْبَيِّنَاتِ وَيُنْشِئُ أَعْلامَ النُّبُوَّةِ وَيُوضِحُ دِلالَةَ الرِّسَالَةِ وَيُوثِقُ عُرَى الإِسْلامِ، وَيُثْبِتُ حَقَائِقَ الإِيـمَانِ مَنًّا مِنْهُ [أَيْ فَضْلًا مِنْهُ] عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَزِيَادَةً فِي الْبُرْهَانِ لَهُمْ وَحُجَّةً عَلَى مَنْ عَانَدَ فِي طَاعَتِهِ [أَيْ حَتَّى يَكُونَ حُجَّةً عَلَى الَّذِينَ تَرَكُوا طَاعَتَهُ] وَأَلْحَدَ فِي دِينِهِ [أَيْ تَرَكَ دِينَ اللَّهِ] لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [أَيْ حَتَّى يَهْلِكَ الْهَالِكُونَ عَنْ بَيِّنَةٍ، أَيْ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ، وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ، أَيْ حَتَّى يُؤْمِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِالدَّلِيلِ، يَكُونُ صَارَ مَعَهُمْ دَلِيلٌ بَعْدَ رُؤْيَتِهِمْ لِمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الآيَاتِ وَالْعِبَرِ] فَلَهُ الْحَمْدُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ذُو الْحُجَّةِ الْبَالِغَةِ [أَيِ الْقَوِيَّةِ، مَعْنَاهُ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الظُّلْمُ] وَالْعِزِّ الْقَاهِرِ [أَيْ لَهُ عِزٌّ قَاهِرٌ، عِزٌّ يَغْلِبُ أَعْدَاءَهُ، اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْعَزِيزُ، مَعْنَاهُ الَّذِي يَغْلِبُ وَلا يُغْلَبُ] وَالطَّوْلِ الْبَاهِرِ [أَيِ الْفَضْلِ الْقَوِيِّ، وَالطَّوْلُ بِفَتْحِ الطَّاءِ، اللَّهُ تَعَالَى ذُو الطَّوْلِ أَيْ ذُو الْفَضْلِ، وَالْبَاهِرُ مَعْنَاهُ الْقَوِيُّ]، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ وَرَسُولِ الْهُدَى وَعَلَى ءَالِهِ الطَّاهِرِينَ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ.

وَإِنَّ مِمَّا أَدْرَكْنَا عِيَانًا وَشَاهَدْنَاهُ فِي زَمَانِنَا وَأَحَطْنَا عِلْمًا بِهِ [أَيْ تَحَقَّقْنَا مِنْهُ] فَزَادَنَا يَقِينًا فِي دِينِنَا وَتَصْدِيقًا لِمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا وَدَعَا إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ فَرَغَّبَ فِيهِ مِنَ الْجِهَادَ مِنْ فَضِيلَةِ الشُّهَدَاءِ [مَعْنَاهُ يُحَبِّبُ إِلَى النَّاسِ الشَّهَادَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] وَبَلَّغَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ إِذْ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ﴾. [الْمَعْنَى أَنَّ مِمَّا يَزِيدُ بِالشَّهَادَةِ لِصِحَّةِ هَذِهِ الآيَةِ الَّتِي تُثْبِتُ أَنَّ الشُّهَدَاءَ أَحْيَاءٌ يُرْزَقُونَ أَيْ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ بَعْدَ أَنْ يُقْتَلُوا لِأَنَّ أَجْسَادَهُمْ تَحْيَا فِي الْقَبْرِ لِأَنَّ أَثَرَ الرُّوحِ يَعُودُ إِلَيْهَا] [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان]، إِنِّي وَرَدْتُ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَلاثِينَ وَمِائَتَيْنِ مَدِينَةً مِنْ مَدَائِنِ خُوَارِزْمَ تُدْعَى هَزَارَاسِبْ [هَزَارَاسِبْ لُغَةٌ فَارِسِيَّةٌ] وَهِيَ فِي غَرْبِيِّ وَادِي جَيْحُونَ وَمِنْهَا إِلَى الْمَدِينَةِ الْعُظْمَى مَسَافَةُ نِصْفِ يَوْمٍ [أَيْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ عَاصِمَةِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ نِصْفُ يَوْمٍ] وَخُبِّرْتُ أَنَّ بِهَا امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ الشُّهَدَاءِ رَأَتْ رُؤْيَةً كَأَنَّهَا أُطْعِمَتْ فِي مَنَامِهَا شَيْئًا فَهِيَ لا تَأْكُلُ شَيْئًا وَلا تَشْرَبُ مُنْذُ عَهْدِ أَبِي الْعَبَّاسِ ابْنِ طَاهِرٍ وَالِي خُرَاسَانَ وَكَانَ تُوُفِّيَ قَبْلَ ذَلِكَ بِثَمَانِ سِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ [أَبُو الْعَبَّاسِ بنُ طَاهِرٍ كَانَ حَاكِمًا فِي خُرُاسَانَ مِنْ قِبَلِ الْعَبَّاسِيِّينَ. الْخَلِيفَةُ الْعَبَّاسِيُّ كَانَ حَاكِمًا فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ] ثُمَّ مَرَرْتُ بِتِلْكَ الْمَدِينَةِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ [يَعْنِي بَعْدَ أَرْبَعِ سَنَوَاتٍ] فَرَأَيْتُهَا وَحَدَّثَتْنِي بِحَدِيثِهَا فَلَمْ أَسْتَقْصِ عَلَيْهَا لِحَدَاثَةِ سِنِّي [يَعْنِي مَا تَتَبَّعْتُ خَبَرَهَا، إِنَّمَا هِيَ حَدَّثَتْنِي لَكِنْ أَنَا لَمْ أَبْحَثُ مَعَهَا فِي أَمْرِهَا] ثُمَّ إِنِّي عُدْتُ إِلَى خُوَارِزْمَ فِي ءَاخِرِ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ فَرَأَيْتُهَا بَاقِيَةً وَوَجَدْتُ حَدِيثَهَا شَائِعًا مُسْتَفِيضًا [يَعْنِي بَعْدَ أَنْ مَضَى أَكْثَرُ مِنْ عَشْرِ سَنَوَاتٍ مِنْ سَمَاعِ خَبَرِهَا مَرَّ هَذَا الشَّيْخُ الطَّهْمَانِيُّ فَوَجَدَ خَبَرَهَا مُسْتَفِيضًا أَيْ ظَاهِرًا بَيْنَ النَّاسِ مُنْتَشِرًا مَشْهُورًا، أَيْ شَاعَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهَا لا تَأْكُلُ وَلا تَشْرَبُ]. وَهَذِهِ الْمَدِينَةُ عَلَى مَدْرَجَةِ الْقَوَافِلِ [أَيِ الْمُسَافِرُونَ يَمُرُّونَ بِهَا] وَكَانَ الْكَثِيرُ مِمَّنْ يَنْزِلُهَا إِذَا بَلَغَهُمْ قِصَّتُهَا أَحَبُّوا أَنْ يَنْظُرُوا إِلَيْهَا [أَيِ الَّذِينَ يَنْزِلُونَ إِلَى تِلْكَ الْبَلْدَةِ وَيَسْمَعُونَ خَبَرَهَا يُرِيدُونَ أَنْ يَرَوْهَا وَيَتَحَقَّقُوا مِنْ هَذَا الأَمْرِ] فَلا يَسْأَلُونَ عَنْهَا رَجُلًا وَلا امْرَأَةً وَلا غُلامًا إِلَّا عَرَفَهَا وَدَلَّ عَلَيْهَا [مَعْنَاهُ أَهْلُ الْبَلَدِ يَعْرِفُونَهَا، الذُّكُورُ وَالإِنَاثُ يَعْرِفُونَهَا وَيَدُلُّونَ عَلَيْهَا] فَلَمَّا وَافَيْتُ النَّاحِيَةَ طَلَبْتُهَا فَوَجَدْتُهَا غَائِبَةً عَلَى عِدَّةِ فَرَاسِخَ فَمَضَيْتُ فِي أَثَرِهَا [يَعْنِي لَمَّا عَلِمْتُ أَنَّهَا مُسَافِرَةٌ إِلَى مَسَافَةِ عِدَّةِ فَرَاسِخَ، وَالْفَرْسَخُ الْوَاحِدُ ثَلاثَةُ أَمْيَالٍ تَقْرِيبًا أَيْ مَسَافَةُ سَاعَةٍ وَنِصْفٍ مَشْيًا مَضَيْتُ فِي أَثَرِهَا] مِنْ قَرْيَةٍ إِلَى قَرْيَةٍ فَأَدْرَكْتُهَا بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ تَمْشِي مِشْيَةً قَوِيَّةً فَإِذَا هِيَ امْرَأَةٌ نَصَفٌ [مَعْنَاهُ عُمْرُهَا مُتَوَسِّطٌ أَيْ نَحْوُ الثَّلاثِينَ] جَيِّدَةُ الْقَامَةِ حَسَنَةُ الثَّدِيَّةِ ظَاهِرَةُ الدَّمِ مُتَوَرِّدَةُ الْخَدَّيْنِ ذَكِيَّةُ الْفُؤَادِ [يَعْنِي لَبِيبَة] فَسَايَرَتْنِي [مَعْنَاهُ سَارَتْ مَعِي] وَأَنَا رَاكِبٌ، فَعَرَضْتُ عَلَيْهَا مَرْكَبًا فَلَمْ تَرْكَبْهُ [مَعْنَاهُ هُوَ رَاكِبٌ وَهِيَ مَاشِيَةٌ، فَعَرَضَ عَلَيْهَا مَرْكَبًا أَيْ دَابَّةً تَرْكَبُهَا فَلَمْ تَقْبَلْ] وَأَقْبَلَتْ تَمْشِي مَعِي بِقُوَّةٍ [أَيْ مَشْيُهَا كَانَ مِشْيَةَ إِنْسَانٍ قَوِيَّةٍ].

وَكَانَ حَضَرَ مَجْلِسِي قَوْمٌ مِنَ التُّجَّارِ وَالدَّهَاقِين وَفِيهِمْ فَقِيهٌ يُسَمَّى مُحَمَّدَ بنَ حَمْدَوَيْه الْحَارِثِيَّ [أَيْ كَانَ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ عَالِمٌ اسْمُهُ مُحَمَّدُ بنُ حَمْدَوَيْه] وَقَدْ كَتَبَ عَنْهُ مُوسَى بنُ هَارُونَ الْبَزَّارُ بِمَكَّةَ [مُوسَى بنُ هَارُونَ كَانَ أَخَذَ عَنْ هَذَا الْفَقِيهِ عِلْمَ الْحَدِيثِ، مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ عُلَمَاءِ عِلْمِ الْحَدِيثِ] وَكَهْلٌ لَهُ عِبَادَةٌ وَرِوَايَةٌ لِلْحَدِيثِ، وَشَابٌّ حَسَنٌ يُسَمَّى عَبْدَ اللَّهِ بنَ عَبْدِ الرَّحْمٰنِ، وَكَانَ يُحَلِّفُ أَصْحَابَ الْمَظَالِمِ بِنَاحِيَتِهِ [أَيْ أَنَّهُ كَانَ مُوَظَّفًا يُحَلِّفُ أَصْحَابَ الشَّكَاوَى] فَسَأَلْتُهُمْ عَنْهَا فَأَحْسَنُوا الثَّنَاءَ عَلَيْهَا وَقَالُوا عَنْهَا خَيْرًا وَقَالُوا إِنَّ أَمْرَهَا ظَاهِرٌ عِنْدَنَا فَلَيْسَ فِينَا مَنْ يَخْتَلِفُ فِيهَا، قَالَ الْمُسَمَّى عَبْدَ اللَّهِ بنَ عَبْدِ الرَّحْمٰنِ: أَنَا أَسْمَعُ حَدِيثَهَا مُنْذُ أَيَّامِ الْحَدَاثَةِ [أَيْ مُنْذُ الصِّغَرِ] وَنَشَأْتُ وَالنَّاسُ يَتَفَاوَضُونَ فِي خَبَرِهَا وَقَدْ فَرَّغْتُ بَالِي لَهَا وَشَغَلْتُ نَفْسِيَ بِالِاسْتِقْصَاءِ عَلَيْهَا فَلَمْ أَرَ إِلَّا سَتْرًا وَعَفَافًا [أَيْ مَا رَأَيْتُ مِنْهَا إِلَّا شَيْئًا حَسَنًا] وَلَمْ أَعْثُرْ لَهَا عَلَى كَذِبٍ فِي دَعْوَاهَا وَلا حِيلَةٍ فِي التَّلْبِيسِ، وَذَكَرَ أَنَّ مَنْ كَانَ يَلِي خُوَارِزْمَ مِنَ الْعُمَّالِ [أَيِ الْحُكَّامِ] كَانُوا فِيمَا خَلا يَسْتَحْضِرُونَهَا وَيَحْصُرُونَهَا الشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ وَالأَكْثَرَ فِي بَيْتٍ يُغْلِقُونَ عَلَيْهَا [يَعْنِي يَحْبِسُونَهَا فِي مَكَانٍ الشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَتَحَقَّقُوا أَنَّهَا لا تَأْكُلُ وَلا تَشْرَبُ] ويُوَكِّلُونَ مَنْ يُرَاعِيهَا [أَيْ يُوَكِّلُونَ مَنْ يُرَاقِبُ هَلْ يَأْخُذُ لَهَا أَحَدٌ طَعَامًا وَشَرَابًا] فَلا يَرَوْنَهَا تَأْكُلُ وَلا تَشْرَبُ، وَلا يَجِدُونَ لَهَا أَثَرَ بَوْلٍ وَلا غَائِطٍ فَيَبَرُّونَهَا [أَيْ يُحْسِنُونَ إِلَيْهَا] وَيَكْسُونَهَا [أَيْ يُعْطُونَهَا اللِّبَاسَ] وَيُخْلُونَ سَبِيلَهَا [أَيْ يَتْرُكُونَهَا] فَلَمَّا تَوَاطَأَ أَهْلُ النَّاحِيَةِ عَلَى تَصْدِيقِهَا قَصَصْتُهَا عَنْ حَدِيثِهَا وَسَأَلْتُهَا عَنِ اسْمِهَا وَشَأْنِهَا كُلِّهِ، فَذَكَرَتْ أَنَّ اسْمَهَا رَحْمَةُ بِنْتُ إِبْرَاهِيمَ وَأَنَّهُ كَانَ لَهَا زَوْجٌ نَجَّارٌ فَقِيرٌ مَعَاشُهُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، يَأْتِيهِ رِزْقُهُ يَوْمًا فَيَوْمًا [أَيْ كَانَ يُحَصِّلُ مَصْرُوفَ يَوْمٍ ثُمَّ مَصْرُوفَ الْيَوْمِ الَّذِي بَعْدَهُ، كُلَّ يَوْمٍ بِيَوْمِهِ] لا فَضْلَ فِي كَسْبِهِ عَنْ قُوتِ أَهْلِهِ، وَأَنَّهَا وَلَدَتْ لَهُ عِدَّةَ أَوْلادٍ، وَجَاءَ الأَقْطَعُ مَلِكُ الْكُفَّارِ إِلَى الْقَرْيَةِ فَعَبَرَ الْوَادِيَ عِنْدَ جُمُودِهِ إِلَيْنَا فِي زُهَاءِ ثَلاثَةِ ءَالافِ فَارِسٍ [أَيْ فِي قَدْرِ ثَلاثَةِ ءَالافِ مُقَاتِلٍ جَاءَ إِلَيْهِمْ لَمَّا كَانَ النَّهْرُ جَمَدَ فِي الشِّتَاءِ، لِأَنَّ هَذَا النَّهْرَ فِي الشِّتَاءِ يَصِيرُ جَامِدًا مِثْلَ الأَرْضِ يُمْشَى عَلَيْهِ] وَأَهْلُ خُوَارِزْمَ يَدْعُونَهُ كَسْرَى، قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَالأَقْطَعُ هَذَا كَانَ كَافِرًا غَاشِمًا [أَيْ شَدِيدَ الظُّلْمِ] شَدِيدَ الْعَدَاوَةِ لِلْمُسْلِمِينَ [أَيْ يَكْرَهُ الْمُسْلِمِينَ جِدًّا] قَدْ أَثَّرَ عَلَى أَهْلِ الثُّغُورِ [أَيْ عَلَى أَهْلِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَلِي جِهَةَ الْكُفَّاِر] وَأَلَحَّ عَلَى أَهْلِ خُوَارِزْمَ بِالسَّبْيِ وَالْقَتْلِ وَالْغَارَاتِ وَكَانَ وُلاةُ خُرَاسَانَ يَتَأَلَّفُونَهُ وَأَشْبَاهَهُ مِنْ عُظَمَاءِ الأَعَاجِمِ لِيَكُفُّوا غَارَاتِهِمْ عَنِ الرَّعِيَّةِ وَيَحْقِنُوا دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ [أَيْ كَانُوا يُصَادِقُونَهُ حَتَّى لا يَعْمَلَ هُجُومًا فَيَقْتُلَ الْمُسْلِمِينَ، لِيَحْفَظُوا دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ] فَيَبْعَثُونَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِأَمْوَالٍ وَأَلْطَافٍ كَثِيرَةِ وَأَنْوَاعٍ مِنْ فَاخِرِ الثِّيَابِ [أَيْ كَانُوا يُعْطُونَهُمْ مِنَ الأَمْوَالِ حَتَّى يَكُفُّوا شَرَّهُمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ] وَإِنَّ هَذَا الْكَافِرَ اسْتَاءَ فِي بَعْضِ السِّنِينَ عَلَى السُّلْطَانِ، وَلا أَدْرِي لِمَ ذَاكَ، هَلِ اسْتَبْطَأَ الْمَبَارَّ عَنْ وَقْتِهَا أَمِ اسْتَقَلَّ مَا بُعِثَ إِلَيْهِ فِي جَنْبِ مَا بُعِثَ إِلَى نُظَرَائِهِ مِنَ الْمُلُوكِ [مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا الْكَافِرَ اسْتَاءَ إِمَّا لِأَنَّهُ انْقَطَعَ عَنْهُ مَا كَانُوا فِي الأَوَّلِ يُعْطُونَهُ إِيَّاهُ أَوِ اسْتَقَلَّ فَقَالَ: كَيْفَ أَعْطَوْنِي هَذَا الْقَدْرَ الْقَلِيلَ، لِهَذَا جَاءَ إِلَيْهِمْ] فَأَقْبَلَ فِي جُنُودِهِ وَاسْتَعْرَضَ الطُّرُقَ [أَيْ مَنَعَ النَّاسَ مِنَ الْمُرُورِ] فَعَاثَ وَأَفْسَدَ وَقَتَلَ وَمَثَّلَ فَعَجَزَ عَنْهُ خُيُولُ خُوَارِزْمَ، وَبَلَغَ خَبَرُهُ أَبَا الْعَبَّاسِ عَبْدَ اللَّهِ بنَ طَاهِرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَأَنْهَضَ إِلَيْهِ أَرْبَعَةً مِنَ الْقُوَّادِ [أَيْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ أَرْبَعَةً مِنَ الْقُوَّادِ]: طَاهِرَ بنَ إِبْرَاهِيمَ بنِ مَالِكٍ، وَيَعْقُوبَ بنَ مَنْصُورِ بنِ طَلْحَةَ، وَمِيكَالَ مَوْلَى طَاهِرٍ، وَهَارُونَ الْعَارِضَ وَشَحَنَ الْبَلَدَ بِالْعَسَاكِرِ وَالأَسْلِحَةِ وَرَتَّبَهُمْ فِي أَرْبَاعِ الْبَلَدِ كُلٌّ فِي رُبْعٍ، فَحَمَوِا الْحَرِيمَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ إِنَّ وَادِي جَيْحُونَ وَهُوَ الَّذِي فِي أَعْلَى نَهْرِ بَلْخٍ جَمَدَ لَمَّا اشْتَدَّ الْبَرْدُ، وَهُوَ وَادٍ عَظِيمٌ شَدِيدُ الطُّغْيَانِ [أَيْ يُتْلِفُ الزَّرْعَ] كَثِيرُ الآفَاقِ [أَيْ كَثِيرُ النَّوَاحِي] وَإِذَا امْتَدَّ كَانَ عَرْضُهُ نَحْوًا مِنْ فَرْسَخٍ وَإِذَا جَمَدَ انْطَبَقَ فَلَمْ يُوصَلْ مِنْهُ إِلَى شَىْءٍ حَتَّى يُحْفَرَ فِيهِ كَمَا تُحْفَرُ الآبَارُ فِي الصُّخُورِ وَقَدْ رَأَيْتُ كِثَفَ الْجَمَدِ عَشَرَةَ أَشْبَارٍ، وَأُخْبِرْتُ أَنَّهُ كَانَ فِيمَا مَضَى يَزِيدُ عَلَى عِشْرِينَ شِبْرًا وَإِذَا هُوَ انْطَبَقَ صَارَ الْجَمَدُ جِسْرًا لِأَهْلِ الْبَلَدِ تَسِيرُ عَلَيْهِ الْعَسَاكِرُ وَالْعَجَلُ [أَيِ الْحُمُولُ] وَالْقَوَافِلُ فَيَنْتَظِمُ مَا بَيْنَ الشَّاطِئَيْنِ، وَرُبَّمَا دَامَ الْجَمَدُ مِائَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَإِذَا قَلَّ الْبَرْدُ فِي عَامٍ بَقِيَ سَبْعِينَ يَوْمًا إِلَى نَحْوِ ثَلاثَةِ أَشْهُرٍ. قَالَتِ الْمَرْأَةُ: فَعَبَرَ الْكَافِرُ فِي خَيْلِهِ إِلَى بَابِ الْحِصْنِ وَقَدْ تَحَصَّنَ النَّاسُ وَضَمُّوا أَمْتِعَتَهُمْ وَصَحِبُوا الْمُسْلِمِينَ وَأَضَرُّوا بِهِمْ فَحُصِرَ مِنْ ذَلِكَ أَهْلُ النَّاحِيَةِ وَأَرَادُوا الْخُرُوجَ فَمَنَعَهُمُ الْعَامِلُ [أَيِ الْحَاكِمُ] دُونَ أَنْ تَتَوَافَى عَسَاكِرُ السُّلْطَانِ وَتَتَلاحَقَ الْمُتَطَوِّعَةُ، فَشَدَّ طَائِفَةٌ مِنْ شُبَّانِ النَّاسِ وَأَحْدَاثِهِمْ فَتَقَارَبُوا مِنَ السُّورِ بِمَا أَطَاقُوا حَمْلَهُ مِنَ السِّلاحِ [مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مُسْتَعِدِّينَ لِلِقَاءِ هَذَا الْكَافِرِ، ثُمَّ بَعْضُ الشَّبَابِ تَحَمَّسُوا فَتَقَدَّمُوا إِلَيْهِ لِضَرْبِهِ].

فَلَمَّا أَصْحَرُوا كَرَّ الْكُفَّارُ عَلَيْهِمْ [مَعْنَاهُ لَمَّا صَارُوا فِي الصَّحْرَاءِ أَيْ لَمَّا خَرَجُوا إِلَى الْبَرِّيَّة كَرَّ عَلَيْهِمُ الْكُفَّارُ] وَصَارَ الْمُسْلِمُونَ فِي مِثْلِ الْحَرَجَةِ [أَيْ فِي مِثْلِ الْغَابَةِ] فَتَحَصَّنُوا وَاتَّخَذُوا دَارَةً يُحَارِبُونَ مِنْ وَرَائِهَا وَانْقَطَعَ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْحِصْنِ وَبَعُدَتِ الْمَعُونَةُ عَنْهُمْ فَحَارَبُوا كَأَشَدِّ حَرْبٍ وَثَبَتُوا حَتَّى تَقَطَّعَتِ الأَوْتَارُ وَالْقِسِيُّ [الأَوْتَارُ جَمْعُ وَتَرٍ وَهُوَ مَا لِلْقَوْسِ، وَالْقِسِيُّ جَمْعُ قَوْسٍ] وَأَدْرَكَهُمُ التَّعَبُ وَمَسَّهُمُ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ وَقُتِلَ مُعْظَمُهُمْ وَأُثْخِنَ الْبَاقُونَ بِالْجِرَاحَاتِ [مَعْنَاهُ مَاتَ أَكْثَرُهُمْ وَالآخَرُونَ أُثْخِنُوا مَعْنَاهُ أَصَابَهُمْ جِرَاحَاتٌ شَدِيدَةٌ وَلَكِنْ لَمْ يَمُوتُوا].

وَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِمُ اللَّيْلُ [أَيْ لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِمُ اللَّيْلُ] تَحَاجَزَ الْفَرِيقَانِ [أَيْ هَؤُلاءِ تَوَقَّفُوا عَنْ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ تَوَقَّفُوا عَنْ هَؤُلاءِ] قَالَتِ الْمَرْأَةُ: وَرُفِعَتِ النَّارُ عَلَى الْمَنَاظِرِ سَاعَةَ عُبُورِ الْكَافِرِ، فَاتَّصَلَ الْخَبَرُ بِالْجُرْجَانِيَّةِ وَهِيَ مَدِينَةٌ عَظِيمَةٌ فِي قَاصِيَةِ خُوَارِزْمَ [أَيْ فِي أَطْرَافِهَا]، وَكَانَ مِيكَالُ مَوْلَى طَاهِرٍ بِهَا فِي عَسْكَرٍ فَخَفَّ فِي الطَّلَبِ هَيْبَةً لِلأَمِيرِ أَبِي الْعَبَّاسِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ طَاهِرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَرَكَضَ إِلَى هَزَارَاسْبْ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَرْبَعِينَ فَرْسَخًا بِفَرَاسِخِ خُوَارِزْمَ وَفِيهَا فَضْلٌ كَثِيرٌ عَلَى فَرَاسِخِ خُرَاسَانَ [يَعْنِي عِنْدَهُمْ فِي عَادَتِهِمْ فَرَاسِخُهُمْ تَزِيدُ عَلَى فَرَاسِخِ تِلْكَ الْبِلادِ].

وَغَدَا الْكَافِرُ لِلْفَرَاغِ مِنْ أَمْرِ أُولَئِكَ النَّفَرِ [أَيِ الْجَمَاعَةِ] فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذِ ارْتَفَعَتْ لَهُمُ الأَعْلامُ السُّودُ وَسَمِعُوا أَصْوَاتَ الطُّبُولِ فَأَفْرَجُوا عَنِ الْقَوْمِ [مَعْنَاهُ الْكُفَّارُ هَرَبُوا لَمَّا رَأَوِا الْجَيْشَ الإِسْلامِيَّ قَادِمًا]، وَوَافَى مِيكَالُ [أَيْ حَضَرَ مِيكَالُ] مَوْضِعَ الْمَعْرَكَةِ فَوَارَى الْقَتْلَى وَحَمَلَ الْجَرْحَى [أَيْ دَفَنَ الْقَتْلَى الَّذِينَ مَاتُوا، وَالْجَرْحَى حَمَلَهُمْ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ إِلَى مَكَانِ الْمُدَاوَاةِ].

قَالَتِ الْمَرْأَةُ: وَأُدْخِلَ الْحِصْنَ عَلَيْنَا عَشِيَّةَ ذَلِكَ زُهَاءُ أَرْبَعِمِائَةِ جِنَازَةٍ، فَلَمْ تَبْقَ دَارٌ إِلَّا حُمِلَ إِلَيْهَا قَتِيلٌ وَعَمَّتِ الْمُصِيبَةُ وَارْتَجَّتِ النَّاحِيَةُ بِالْبُكَاءِ.

قَالَتْ: وَوُضِعَ زَوْجِي بَيْنَ يَدَيَّ قَتِيلًا فَأَدْرَكَنِي مِنَ الْجَزْعِ وَالْهَلَعِ [أَيِ الْحُزْنِ الشَّدِيدِ وَالْبُكَاءِ] عَلَيْهِ مَا يُدْرِكُ الْمَرْأَةَ الشَّابَّةَ عَلَى زَوْجِهَا أَبِي الأَوْلادِ، وَكَانَتْ لَنَا عِيَالٌ.

قَالَتْ: فَاجْتَمَعَ النِّسَاءُ مِنْ قَرَابَاتِي وَالْجِيرَانُ يُسْعِدْنَنِي عَلَى الْبُكَاءِ [أَيْ يُسَاعِدْنَنِي عَلَى الْحُزْنِ]، وَجَاءَ الصِّبْيَانُ وَهُمْ أَطْفَالٌ لا يَعْقِلُونَ مِنَ الأَمْرِ شَيْئًا [أَيْ لا يُدْرِكُونَ مَعْنَى هَذِهِ الْمُصِيبَةِ] يَطْلُبُونَ الْخُبْزَ وَلَيْسَ عِنْدِي فَضِقْتُ صَدْرًا بِأَمْرِي ثُمَّ إِنِّي سَمِعْتُ أَذَانَ الْمَغْرِبِ فَفَزِعْتُ إِلَى الصَّلاةِ [أَيْ قُمْتُ إِلَى الصَّلاةِ وَلَجَأْتُ إِلَيْهَا] فَصَلَّيْتُ مَا قَضَى لِي رَبِّي ثُمَّ سَجَدْتُ أَدْعُو وَأَتَضَرَّعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَسْأَلُهُ الصَّبْرَ وَأَنْ يَجْبُرَ يُتْمَ صِبْيَانِي فَذَهَبَ بِيَ النَّوْمُ فِي سُجُودِي فَرَأَيْتُ فِي مَنَامِي كَأَنِّي فِي أَرْضٍ حَسْنَاءَ ذَاتِ حِجَارَةٍ وَأَنَا أَطْلُبُ زَوْجِي، فَنَادَانِي رَجُلٌ: إِلَى أَيْنَ أَيَّتُهَا الْحُرَّةُ؟ قُلْتُ: أَطْلُبُ زَوْجِي، فَقَالَ: خُذِي ذَاتَ الْيَمِينِ، فَرُفِعَ لِي أَرْضٌ سَهْلَةٌ [أَيْ رَأَيْتُ أَرْضًا سَهْلَةً] طَيِّبَةُ الرَّيِّ ظَاهِرَةُ الْعُشْبِ وَإِذَا قُصُورٌ وَأَبْنِيَةٌ لا أَحْفَظُ أَنْ أَصِفَهَا وَلَمْ أَرَ مِثْلَهَا [أَيْ لا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَصِفَهَا مِنْ حُسْنِهَا] وَإِذَا أَنْهَارٌ تَجْرِي عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ بِغَيْرِ أَخَادِيدَ [أَيْ لَيْسَتْ فِي وِهَادٍ عَمِيقَةٍ، إِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْهَا الْمَاءُ بِسُهُولَةٍ] لَيْسَ لَهَا حَافَّاتٌ، فَانْتَهَيْتُ إِلَى قَوْمٍ جُلُوسٍ حَلَقًا حَلَقًا [مَعْنَاهُ يَجْلِسُونَ فِي دَوَائِرَ] عَلَيْهِمْ ثِيَابٌ خُضْرٌ قَدْ عَلاهُمُ النُّورُ، فَإِذَا هُمُ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي الْمَعْرَكَةِ يَأْكُلُونَ عَلَى مَوَائِدَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَجَعَلْتُ أَتَخَلَّلُهُمْ وَأَتَصَفَّحُ وُجُوهَهُمْ [أَيْ أَتَأَمَّلُهَا] لِأَلْقَى زَوْجِي لَكِنَّهُ هُوَ يَنْظُرُنِي، فَنَادَانِي: يَا رَحْمَةُ! فَيَمَّمْتُ الصَّوْتَ [أَيْ تَبِعْتُ وَقَصَدْتُ صَوْتَهُ] فَإِذَا بِهِ فِي مِثْلِ حَالِ مَنْ رَأَيْتُ مِنَ الشُّهَدَاءِ، وَجْهُهُ مِثْلُ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَهُوَ يَأْكُلُ مَعَ رُفْقَةٍ لَهُ قُتِلُوا يَوْمَئِذٍ مَعَهُ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ هَذِهِ الْبَائِسَةَ جَائِعَةٌ مُنْذُ الْيَوْمَ أَفَتَأْذَنُونَ لِي أَنْ أُنَاوِلَهَا شَيْئًا تَأْكُلُهُ؟ فَأَذِنُوا لَهُ، فَنَاوَلَنِي كِسْرَةَ خُبْزٍ [أَيْ قِطْعَةَ خُبْزٍ]. قَالَتْ: وَأَنَا أَعْلَمُ حِينَئِذٍ أَنَّهُ خُبْزٌ وَلَكِنْ لا أَدْرِي كَيْفَ يَخْبَزُ، هُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ وَاللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَالسُّكَّرِ وَأَلْيَنُ مِنَ الزُّبْدِ وَالسَّمْنِ [أَيْ طَرَوَاتُهُ أَشَدُّ مِنَ الزُّبْدِ وَالسَّمْنِ]، فَأَكَلْتُهُ فَلَمَّا اسْتَقَرَّ فِي جَوْفِي قَالَ: اذْهَبِي كَفَاكِ اللَّهُ مَؤُونَةَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مَا حَيِيْتِ فِي الدُّنْيَا، فَانْتَبَهْتُ مِنْ نَوْمِي شَبْعَى رَيَّا لا أَحْتَاجُ إِلَى طَعَامٍ وَلا شَرَابٍ وَمَا ذُقْتُهَا مُنْذُ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِي هَذَا وَلا شَيْئًا يَأْكُلُهُ النَّاسُ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَكَانَتْ تَحْضُرُنَا وَكُنَّا نَأْكُلُ فَتَتَنَحَّى وَتَأْخُذُ عَلَى أَنْفِهَا تَزْعُمُ أَنَّهَا تَتَأَذَّى مِنْ رَائِحَةِ الطَّعَامِ، فَسَأَلْتُهَا: أَتَتَغَذَّى بِشَىْءٍ أَوْ تَشْرَبُ شَيْئًا غَيْرَ الْمَاءِ؟ فَقَالَتْ: لا، فَسَأَلْتُهَا: هَلْ يَخْرُجُ مِنْهَا رِيحٌ أَوْ أَذًى كَمَا يَخْرُجُ مِنَ النَّاسِ؟ قَالَتْ: لا عَهْدَ لِي بِالأَذَى مُنْذُ ذَلِكَ الزَّمَانِ، قُلْتُ: وَالْحَيْضُ؟ أَظُنُّهَا قَالَتْ: انْقَطَعَ بِانْقِطَاعِ الطُّعْمِ [أَيِ الطَّعَامِ]، قُلْتُ: هَلْ تَحْتَاجِينَ حَاجَةَ النِّسَاءِ إِلَى الرِّجَالِ قَالَتْ: أَمَا تَسْتَحِي مِنِّي تَسْأَلُنِي عَنْ مِثْلِ هَذَا، قُلْتُ: إِنِّي لَعَلِّي أُحَدِّثُ النَّاسَ عَنْكِ وَلا بُدَّ أَنْ أَسْتَقْصِيَ، قَالَتْ: لا أَحْتَاجُ، قُلْتُ: فَتَنَامِينَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ أَطْيَبَ نَوْمٍ، قُلْتُ: فَمَا تَرَيْنَ فِي مَنَامِكِ؟ قَالَتْ: مِثْلَمَا تَرَوْنَ، قُلْتُ: فَتَجِدِينَ لِفَقْدِ الطَّعَامِ وَهْنًا؟ قَالَتْ: مَا أَحْسَسْتُ بِجُوعٍ مُنْذُ طَعِمْتُ ذَلِكَ الطَّعَامَ، وَكَانَتْ تَقْبَلُ الصَّدَقَةَ فَقُلْتُ لَهَا: مَا تَصْنَعِينَ بِهَا، قَالَتْ: أَكْتَسِي وَأَكْسُو وَلَدِي، قُلْتُ: فَهَلْ تَجِدِينَ الْبَرْدَ وَتَتَأَذَّيْنَ بِالْحَرِّ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قُلْتُ: يُدْرِكُكِ اللُّغُوبُ [أَيِ التَّعَبُ] إِذَا مَشَيْتِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ أَلَسْتُ مِنَ الْبَشَرِ، قُلْتُ: فَتَتَوَضَّئِينَ لِلصَّلاةِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قُلْتُ: لِمَ؟ قَالَتْ: أَمَرَنِي الْفُقَهَاءُ بِذَلِكَ، قُلْتُ: إِنَّهُمْ أَفْتَوْهَا عَلَى حَدِيثِ: «لا وُضُوءَ إِلَّا مِنْ حَدَثٍ أَوْ نَوْمٍ«، وَذَكَرَتْ لِي أَنَّ بَطْنَهَا لاصِقٌ بِظَهْرِهَا، فَأَمَرْتُ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِنَا فَنَظَرَتْ (أَيْ إِلَى غَيْرِ الْعَوْرَة) فَإِذَا بَطْنُهَا كَمَا وَصَفَتْ وَإِذَا قَدِ اتَّخَذَتْ كِيسًا فَضَمَّتِ الْقُطْنَ وَشَدَّتْهُ عَلَى بَطْنِهَا كَيْ لا يَنْقَصِفَ ظَهْرُهَا إِذَا مَشَتْ، ثُمَّ لَمْ أَزَلْ أَخْتَلِفُ إِلَى هَزَارَاسْبْ بَيْنَ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلاثِ فَتَحْضُرُنِي فَأُعِيدُ مَسْأَلَتَهَا فَلا تَزِيدُ وَلا تَنْقُصُ، وَعَرَضْتُ كَلامَهَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمٰنِ الْفَقِيهِ، فَقَالَ: أَنَا أَسْمَعُ هَذَا الْكَلامَ مُنْذُ نَشَأْتُ فَلا أَجِدُ مَنْ يَدْفَعُهُ أَوْ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَّهَا تَأْكُلُ أَوْ تَشْرَبُ أَوْ تَتَغَوَّطُ. انْتَهَى.

فَهَذِهِ الْقِصَّةُ فِيهَا أَنْ لا تَلازُمَ عَقْلِيٌّ بَيْنَ فِقْدَانِ الأَكْلِ وَبَيْنَ الْمَرَضِ وَذَهَابِ الصِّحَّةِ وَانْهِدَامِ الْبُنْيَةِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ يَصِحُّ عَقْلًا أَنْ تَتَخَلَّفَ مَفْعُولاتُهَا وَأَنَّ الأَشْيَاءَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ الشُّهَدَاءَ لَهُمْ حَيَاةٌ بَرْزَخِيَّةٌ فَسُبْحَانَ الْقَدِيرِ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ.

تَنْبِيهٌ مُهِمٌّ

لا يُعْفَى الْجَاهِلُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الأُصُولِ، وَلا يُعْذَرُ فِيمَا يَقَعُ مِنْهُ مِنَ الْكُفْرِ لِعَدَمِ اهْتِمَامِهِ بِالدِّينِ.

وَلَوْ كَانَ الْجَهْلُ يُسْقِطُ الْمُؤَاخَذَةَ لَكَانَ الْجَهْلُ خَيْرًا مِنَ الْعِلْمِ وَهَذَا خِلافُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ [سُورَةَ الزُّمَر/9]، إِلَّا أَنَّ مَنْ كَانَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِإِسْلامٍ وَنَحْوَهُ لا يَكْفُرُ بِإِنْكَارِ فَرْضِيَّةِ الصَّلاةِ وَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إِنْ لَمْ يَكُنْ سَمِعَ أَنَّ هَذَا دِينُ الإِسْلامِ.

وَالْفَرْضُ الأَوَّلُ فِي حَقِّ الأَهْلِ تَعْلِيمُهُمْ أُصُولَ الْعَقِيدَةِ كَيْلا يَقَعُوا فِي الْكُفْرِ بِجَهْلِهِمْ بِالْعَقِيدَةِ فَإِنِ اعْتَقَدُوا أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ نُورَانِيٌّ أَبْيَضُ فَاسْتَمَرُّوا بَعْدَ الْبُلُوغِ عَلَى ذَلِكَ فَمَاتُوا عَلَيْهِ خُلِّدُوا فِي النَّارِ نَتِيجَةَ اعْتِقَادَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ.

قَالَ الْفُضَيْلُ بنُ عِيَاضٍ: «لا يَغُرَّنَّكَ كَثْرَةُ الْهَالِكِينَ»، فَهَلْ هَذَا الْجَهْلُ فِي الْعَقِيدَةِ هُوَ نَتِيجَةُ مَحَبَّةِ الأَهْلِ لِأَبْنَائِهِمْ؟

وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [سُورَةَ الذَّارِيَات/56] وَجَاءَ فِي تَفْسِيرِ الآيَةِ: أَيْ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَأْمُرَهُمْ بِعِبَادَتِهِ.

وَبَعْدَ أَنْ جَاءَنَا الْهُدَى وَهُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَامَتْ عَلَيْنَا الْحُجَّةُ بِهِ فَلا عُذْرَ لَنَا، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [سُورَةَ الإِسْرَاء/15].

النُّبُوَّةُ

اشْتِقَاقُهَا مِنَ النَّبَإِ أَيِ الْخَبَرِ لِأَنَّ النُّبُوَّةَ إِخْبَارٌ عَنِ اللَّهِ، أَوْ مِنَ النَّبْوَةِ وَهِيَ الرِّفْعَةُ، فَالنَّبِيُّ عَلَى الأَوَّلِ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ لِأَنَّهُ يُخْبِرُ عَنِ اللَّهِ بِمَا يُوحَى إِلَيْهِ، أَوْ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ أَيْ مُخْبَرٌ عَنِ اللَّهِ أَيْ يُخْبِرُهُ الْمَلَكُ عَنِ اللَّهِ، فَالنُّبُوَّةُ جَائِزَةٌ عَقْلًا لَيْسَتْ مُسْتَحِيلَةً.

وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ الأَنْبِيَاءَ رَحْمَةً لِلْعِبَادِ إِذْ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يُسْتَغْنَى بِهِ عَنْهُمْ لِأَنَّ الْعَقْلَ لا يَسْتَقِلُّ بِمَعْرِفَةِ الأَشْيَاءِ الْمُنْجِيَةِ فِي الآخِرَةِ.

فَفِي بِعْثَةِ الأَنْبِيَاءِ مَصْلَحَةٌ ضَرُورِيَّةٌ لِحَاجَتِهِمْ لِذَلِكَ، فَاللَّهُ مُتَفَضِّلٌ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ فَهِيَ سَفَارَةٌ بَيْنَ الْحَقِّ تَعَالَى وَبَيْنَ الْخَلْقِ.

الْفَرْقُ بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ

اعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ وَالرَّسُولَ يَشْتَرِكَانِ فِي الْوَحْيِ، فَكُلٌّ قَدْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ بِشَرْعٍ يَعْمَلُ بِهِ لِتَبْلِيغِهِ لِلنَّاسِ، غَيْرَ أَنَّ الرَّسُولَ يَأْتِي بِنَسْخِ بَعْضِ شَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ أَوْ بِشَرْعٍ جَدِيدٍ.

وَالنَّبِيُّ غَيْرُ الرَّسُولِ يُوحَى إِلَيْهِ لِيَتَّبِعَ شَرْعَ رَسُولٍ قَبْلَهُ لِيُبَلِّغَهُ.

فَلِذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ: «كُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ وَلَيْسَ كُلُّ نَبِيٍّ رَسُولًا»، ثُمَّ أَيْضًا يَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ الرِّسَالَةَ يُوصَفُ بِهَا الْمَلَكُ وَالْبَشَرُ وَالنُّبُوَّةَ لا تَكُونُ إِلَّا فِي الْبَشَرِ.

مَا يَجِبُ لِلأَنْبِيَاءِ وَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمْ

يَجِبُ لِلأَنْبِيَاءِ الصِّدْقُ وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الْكَذِبُ، وَتَجِبُ لَهُمُ الْفَطَانَةُ وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الْبَلادَةُ وَالْغَبَاوَةُ، وَتَجِبُ لَهُمُ الأَمَانَةُ.

فَالأَنْبِيَاءُ سَالِمُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْكَبَائِرِ وَصَغَائِرِ الْخِسَّةِ وَهَذِهِ هِيَ الْعِصْمَةُ الْوَاجِبَةُ لَهُمْ، وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الْخِيَانَةُ وَيَجِبُ لَهُمُ الصِّيَانَةُ فَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الرَّذَالَةُ وَالسَّفَاهَةُ وَالْجُبْنُ وَكُلُّ مَا يُنَفِّرُ عَنْ قَبُولِ الدَّعْوَةِ مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمْ كُلُّ مَرَضٍ مُنَفِّرٍ. فَمَنْ نَسَبَ إِلَيْهِمُ الْكَذِبَ أَوِ الْخِيَانَةَ أَوِ الرَّذَالَةَ أَوِ السَّفَاهَةَ أَوِ الْجُبْنَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَقَدْ كَفَرَ.

الْمُعْجِزَةُ

اعْلَمْ أَنَّ السَّبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ النَّبِيِّ الْمُعْجِزَةُ، وَهِيَ أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ يَأْتِي عَلَى وَفْقِ دَعْوَى مَنِ ادَّعَوِا النُّبُوَّةَ سَالِمٌ مِنَ الْمُعَارَضَةِ بِالْمِثْلِ. فَمَا كَانَ مِنَ الأُمُورِ عَجِيبًا وَلَمْ يَكُنْ خَارِقًا لِلْعَادَةِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزَةٍ.

وَكَذَلِكَ مَا كَانَ خَارِقًا لَكِنَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ كَالْخَوَارِقِ الَّتِي تَظْهَرُ عَلَى أَيْدِي الأَوْلِيَاءِ أَتْبَاعِ الأَنْبِيَاءِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُعْجِزَةٍ بَلْ يُسَمَّى كَرَامَةً.

وَكَذَلِكَ لَيْسَ مِنَ الْمُعْجِزَةِ مَا يُسْتَطَاعُ مُعَارَضَتُهُ بِالْمِثْلِ كَالسِّحْرِ فَإِنَّهُ يُعَارَضُ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ.

وَالْمُعْجِزَةُ قِسْمَانِ: قِسْمٌ يَقَعُ بَعْدَ اقْتِرَاحٍ مِنَ النَّاسِ عَلَى الَّذِي ادَّعَى النُّبُوَّةَ، وَقِسْمٌ يَقَعُ مِنْ غَيْرِ اقْتِرَاحٍ.

فَالأَوَّلُ نَحْوُ نَاقَةِ صَالِحٍ الَّتِي خَرَجَتْ مِنَ الصَّخْرَةِ. اقْتَرَحَ قَوْمُهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا مَبْعُوثًا إِلَيْنَا لِنُؤْمِنَ بِكَ فَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ نَاقَةً وَفَصِيلَهَا فَأَخْرَجَ لَهُمْ نَاقَةً مَعَهَا فَصِيلُهَا (أَيْ وَلَدُهَا) فَانْدَهَشُوا فَآمَنُوا بِهِ.

لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَاذِبًا فِي قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ لَمْ يَأْتِ بِهَذَا الأَمْرِ الْعَجِيبِ الْخَارِقِ لِلْعَادَةِ الَّذِي لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَنْ يُعَارِضَهُ بِمِثْلِ مَا أَتَى بِهِ، فَثَبَتَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ. وَلا يَسَعُهُمْ إِلَّا الإِذْعَانُ وَالتَّصْدِيقُ لِأَنَّ الْعَقْلَ يُوجِبُ تَصْدِيقَ مَنْ أَتَى بِمْثِلِ هَذَا الأَمْرِ الَّذِي لا يُسْتَطَاعُ مُعَارَضَتُهُ بِالْمِثْلِ مِنْ قِبَلِ الْمُعَارِضِينَ. فَمَنْ لَمْ يُذْعِنْ وَعَانَدَ يُعَدُّ مُهْدِرًا لِقِيمَةِ الْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ.

مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي حَصَلَتْ لِمَنْ قَبْلَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي حَصَلَتْ لِمَنْ قَبْلَ مُحَمَّدٍ عَدَمُ تَأْثِيرِ النَّارِ الْعَظِيمَةِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ حَيْثُ لَمْ تَحْرِقْهُ وَلا ثِيَابَهُ.

وَمِنْهَا انْقِلابُ عَصَا مُوسَى ثُعْبَانًا حَقِيقِيًّا ثُمَّ عَوْدُهَا إِلَى حَالَتِهَا بَعْدَ أَنِ اعْتَرَفَ السَّحَرَةُ الَّذِينَ أَحْضَرَهُمْ فِرْعَوْنُ لِمُعَارَضَتِهِ وَأَذْعَنُوا فَآمَنُوا بِاللَّهِ وَكَفَرُوا بِفِرْعَوْنَ وَاعْتَرَفُوا لِمُوسَى بِأَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا جَاءَ بِهِ.

وَمِنْهَا مَا ظَهَرَ لِلْمَسِيحِ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَذَلِكَ لا يُسْتَطَاعُ مُعَارَضَتُهُ بِالْمِثْلِ فَلَمْ تَسْتَطِعِ الْيَهُودُ الَّذِينَ كَانُوا مُولَعِينَ بِتَكْذِيبِهِ وَحَرِيصِينَ عَلَى الِافْتِرَاءِ عَلَيْهِ أَنْ يُعَارِضُوهُ بِالْمِثْلِ. وَقَدْ أَتَى أَيْضًا بِعَجِيبَةٍ أُخْرَى عَظِيمَةٍ وَهِيَ إِبْرَاءُ الأَكْمَهِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ مُعَارَضَتَهُ بِالْمِثْلِ مَعَ تَوَفُّرِ الطِّبِّ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ. فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِهِ فِي كُلِّ مَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ وُجُوبِ عِبَادَةِ الْخَالِقِ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ إِشْرَاكٍ بِهِ وَوُجُوبِ مُتَابَعَتِهِ فِي الأَعْمَالِ الَّتِي يَأْمُرُهُمْ بِهَا.

مِنْ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

وَأَمَّا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى جَمِيعِ إِخْوَانِهِ الأَنْبِيَاءِ: حَنِينُ الْجِذْعِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَنِدُ حِينَ يَخْطُبُ إِلَى جِذْعِ نَخْلٍ فِي مَسْجِدِهِ قَبْلَ أَنْ يُعْمَلَ لَهُ الْمِنْبَرُ، فَلَمَّا عُمِلَ لَهُ الْمِنْبَرُ صَعِدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَبَدَأَ بِالْخُطْبَةِ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَنَّ الْجِذْعُ حَتَّى سَمِعَ حَنِينَهُ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْتَزَمَهُ - أَيْ ضَمَّهُ وَاعْتَنَقَهُ- فَسَكَتَ.

وَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْطَاقُ الْعَجْمَاءِ أَيِ الْبَهِيمَةِ. رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ يَعْلَى بنِ مُرَّةَ الثَّقَفِيِّ قَالَ: بَيْنَمَا نَسِيرُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ مَرَّ بِنَا بَعِيرٌ يُسْنَى عَلَيْهِ [أَيْ يُحْمَلُ عَلَيْهِ الْمَاءُ] فَلَمَّا رَءَاهُ الْبَعِيرُ جَرْجَرَ [أَيْ أَصْدَرَ صَوْتًا مِنْ حَلْقِهِ] فَوَضَعَ جِرَانَهُ [أَيْ مُقَدَّمَ عُنُقِهِ] فَوَقَفَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَيْنَ صَاحِبُ هَذَا الْبَعِيرِ؟ فَجَاءَهُ فَقَالَ: بِعْنِيهِ، فَقَالَ: بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّهُ لِأَهْلِ بَيْتٍ مَا لَهُمْ مَعِيشَةٌ غَيْرُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ: «أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ أَمْرِهِ فَإِنَّهُ شَكَا كَثْرَةَ الْعَمَلِ وَقِلَّةَ الْعَلَفِ فَأَحْسِنُوا إِلَيْهِ».

وَأَخْرَجَ ابْنُ شَاهِينَ فِي دَلائِلِ النُّبُوَّةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ جَعْفَرٍ قَالَ: «أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ خَلْفَهُ فَدَخَلَ حَائِطَ [أَيْ بُسْتَانَ] رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَإِذَا جَمَلٌ فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَنَّ فَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ ذَفَرَاتِهِ [أَيْ دُمُوعَهُ] فَسَكَنَ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ؟ فَجَاءَ فَتًى مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: هَذَا لِي، فَقَالَ: أَلا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ [أَيْ تُتْعِبُهُ]». وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ كَمَا قَالَ الْمُحَدِّثُ مُرْتَضَى الزَّبِيدِيُّ فِي شَرْحِ إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ.

وَمِنْهَا تَفَجُّرُ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ بِالْمُشَاهَدَةِ فِي عِدَّةِ مَوَاطِنَ فِي مَشَاهِدَ عَظِيمَةٍ وَرَدَتْ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ يُفِيدُ مَجْمُوعُهَا الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ الْمُسْتَفَادَ مِنَ التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ [أَيْ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ] وَلَمْ يَحْصُلْ لِغَيْرِ نَبِيِّنَا حَيْثُ نَبَعَ مِنْ عَظْمِهِ وَعَصَبِهِ وَلَحْمِهِ وَدَمِهِ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ تَفَجُّرِ الْمِيَاهِ مِنَ الْحَجَرِ الَّذِي ضَرَبَهُ مُوسَى لِأَنَّ خُرُوجَ الْمَاءِ مِنَ الْحِجَارَةِ مَعْهُودٌ بِخِلافِهِ مِنْ بَيْنِ اللَّحْمِ وَالدَّمِ. رَوَاهُ جَابِرٌ وَأَنَسٌ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو لَيْلَى الأَنْصَارِيُّ وَأَبُو رَافِعٍ.

وَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِلَفْظِ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ حَانَتْ صَلاةُ الْعَصْرِ وَالْتَمَسَ الْوَضُوءَ [أَيْ طَلَبَ مَاءَ الْوُضُوءِ] فَلَمْ يَجِدُوهُ فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَضُوءٍ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي ذَلِكَ الإِنَاءِ فَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَتَوَضَّؤُوا فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ فَتَوَضَّأَ النَّاسُ حَتَّى تَوَضَّؤُوا مِنْ عِنْدِ ءَاخِرِهِمْ». وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ قَالَ الرَّاوِي لِأَنَسٍ: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: ثَلاثَمِائَةٍ.

وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَيْضًا: «عَطِشَ النَّاسُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ يَتَوَضَّأُ مِنْهَا فَجَهَشَ النَّاسُ [أَيْ أَقْبَلُوا إِلَيْهِ] فَقَالَ: مَا لَكُمْ؟ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ عِنْدَنَا مَا نَتَوَضَّأُ بِهِ وَلا مَا نَشْرَبُهُ إِلَّا مَا بَيْنَ يَدَيْكَ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي الرَّكْوَةِ فَجَعَلَ الْمَاءُ يَفُورُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ كَأَمْثَالِ الْعُيُونِ، فَشَرِبْنَا وَتَوَضَّأْنَا، فَقِيلَ: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: لَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا كُنَّا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً». وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمَاءَ كَانَ يَنْبُعُ مِنْ نَفْسِ اللَّحْمِ الْكَائِنِ فِي الأَصَابِعِ وَبِهِ صَرَّحَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ جَابِرٍ: «فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَخْرُجُ»، وَفِي رِوَايَةٍ «يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ».

وَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ: رَدُّ عَيْنِ قَتَادَةَ بَعْدَ انْقِلاعِهَا فَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلائِلِ عَنْ قَتَادَةَ بنِ النُّعْمَانِ أَنَّهُ أُصِيبَتْ عَيْنُهُ يَوْمَ بَدْرٍ فَسَالَتْ حَدَقَتُهُ عَلَى وَجْنَتِهِ فَأَرَادُوا أَنْ يَقْطَعُوهَا فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: لا، فَدَعَا بِهِ فَغَمَزَ حَدَقَتَهُ بِرَاحَتِهِ، فَكَانَ لا يَدْرِي أَيَّ عَيْنَيْهِ أُصِيبَتْ اهـ.

وَفِي هَاتَيْنِ الْمُعْجِزَتَيْنِ قَالَ بَعْضُ الْمَادِحِينَ شِعْرًا مِنَ الْبَسِيطِ:

إِنْ كَانَ مُوسَى سَقَى الأَسْبَاطَ مِنْ حَجَرٍ فَإِنَّ فِي الْكَفِّ مَعْنًى لَيْسَ فِي الْحَجَرِ

إِنْ كَانَ عِيسَى بَرَا الأَعْمَى بِدَعْوَتِهِ فَكَمْ بِرَاحَتِهِ قَدْ رَدَّ مِنْ بَصَرِ [بَرَا أَصْلُهُ بَرَأَ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ فِعْلٌ لازِمٌ، ثُمَّ تُرِكَتِ الْهَمْزَةُ لِلْوَزْنِ، وَالْمَعْنَى تَعَافَى الأَعْمَى بِدَعْوَةِ الْمَسِيحِ]

وَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ تَسْبِيحُ الطَّعَامِ فِي يَدِهِ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «كُنَّا نَأْكُلُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّعَامَ وَنَحْنُ نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ». وَهَذِهِ الْمُعْجِزَاتُ الثَّلاثُ أَعْجَبُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى الَّذِي هُوَ أَحَدُ مُعْجِزَاتِ الْمَسِيحِ.

وَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ

الإِسْرَاءُ ثَبَتَ بِنَصِّ الْقُرْءَانِ وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فَيَجِبُ الإِيـمَانُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْرَى اللَّهُ بِهِ لَيْلًا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى.

وَأَمَّا الْمِعْرَاجُ فَقَدْ ثَبَتَ بِنَصِّ الأَحَادِيثِ. وَأَمَّا الْقُرْءَانُ فَلَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ نَصًّا صَرِيحًا لا يَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا لَكِنَّهُ وَرَدَ فِيهِ مَا يَكَادُ يَكُونُ نَصًّا صَرِيحًا.

فَالإِسْرَاءُ قَدْ جَاءَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَاتِنَا﴾ [سُورَةَ الإِسْرَاء/1].

فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ ﴿وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ رُؤْيَةً مَنَامِيَّةً، قُلْنَا: هَذَا تَأْوِيلٌ وَلا يَسُوغُ تَأْوِيلُ النَّصِّ أَيْ إِخْرَاجُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ لِغَيْرِ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ قَاطِعٍ أَوْ سَمْعِيٍّ ثَابِتٍ كَمَا قَالَهُ الرَّازِيُّ فِي «الْمَحْصُولِ» وَغَيْرُهُ مِنَ الأُصُولِيِّينَ. وَلَيْسَ هُنَا دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ.

وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ [وَهُوَ مِنْ دَوَابِّ الْجَنَّةِ] وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ [أَيْ حَيْثُ يَصِلُ نَظَرُهُ يَضَعُ رِجْلَهُ، كُلُّ خَطْوَةٍ مِنْ خَطَوَاتِهِ تَسَعُ إِلَى مَدِّ الْبَصَرِ، هَذَا أَمْرُ الْبُرَاقِ مِنَ الْعَجَائِبِ الْمُخَالِفَةِ لِلْعَادَةِ]، قَالَ: فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلَقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهَا الأَنْبِيَاءُ، قَالَ: ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ [أَيْ مِنْ خَمْرِ الْجَنَّةِ اللَّذِيذِ الَّذِي لا يُسْكِرُ وَلا يُصْدِعُ الرَّأْسَ] وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ [أَيْ حَلِيبٍ] فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ: «اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ» [أَيْ تَمَسَّكْتَ بِالدِّينِ] قَالَ: ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ... »إِلَى ءَاخِرِ الْحَدِيثِ.

وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الإِسْرَاءَ وَالْمِعْرَاجَ كَانَا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ يَقَظَةً إِذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّهُ وَصَلَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ نَامَ.

أَمَّا رُؤْيَةُ النَّبِيِّ لِرَبِّهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ فَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ الأَوْسَطِ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ مَرَّتَيْنِ»، وَرَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ: «رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ»، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ رَءَاهُ بِقَلْبِهِ بِدَلِيلِ حَدِيثِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ [سُورَةَ النَّجْم]، قَالَ: «رَأَى رَبَّهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ».

تَنْبِيهٌ: قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ: «الصَّحِيحُ أَنَّ النَّبِيَّ لَمْ يَرَ رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ»، وَمُرَادُهُ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ بِعَيْنِهِ إِذْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَأَيْتُهُ بِعَيْنِي وَلا أَنَّ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ أَوِ التَّابِعِينَ أَوْ أَتْبَاعِهِمْ قَالَ: رَءَاهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ.

وَجْهُ دِلالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الأَمْرُ الْخَارِقُ الَّذِي يَظْهَرُ عَلَى يَدِ مَنِ ادَّعَوِا النُّبُوَّةَ مَعَ التَّحَدِّي مَعَ عَدَمِ مُعَارَضَتِهِ بِالْمِثْلِ نَازِلٌ مَنْزِلَةَ قَوْلِ اللَّهِ صَدَقَ عَبْدِي فِي كُلِّ مَا يُبَلِّغُ عَنِّي، أَيْ لَوْلا أَنَّهُ صَادِقٌ فِي دَعْوَاهُ لَمَا أَظْهَرَ اللَّهُ لَهُ هَذِهِ الْمُعْجِزَةَ، فَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ صَدَقَ عَبْدِي هَذَا الَّذِي ادَّعَى النُّبُوَّةَ فِي دَعْوَاهُ لِأَنِّي أَظْهَرْتُ لَهُ هَذِهِ الْمُعْجِزَةَ، لِأَنَّ الَّذِي يُصَدِّقُ الْكَاذِبَ كَاذِبٌ، وَاللَّهُ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا خَلَقَهُ لِتَصْدِيقِهِ، إِذْ كُلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى وَقَلْبَ الْعَصَا ثُعْبَانًا وَإِخْرَاجَ نَاقَةٍ مِنْ صَخْرَةٍ صَمَّاءَ لَيْسَ بِمُعْتَادٍ.



السَّبِيلُ إِلَى الْعِلْمِ بِالْمُعْجِزَةِ بِالْقَطْعِ وَالْيَقِينِ

الْعِلْمُ بِالْمُعْجِزَاتِ يَحْصُلُ: بِالْمُشَاهَدَةِ لِمَنْ شَاهَدُوهَا، وَبِبُلُوغِ خَبَرِهَا بِطَرِيقِ التَّوَاتُرِ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَشْهَدْهَا، وَذَلِكَ كَعِلْمِنَا بِالْبُلْدَانِ النَّائِيَةِ وَالْحَوَادِثِ التَّارِيخِيَّةِ الثَّابِتَةِ الْوَاقِعَةِ لِمَنْ قَبْلَنَا مِنَ الْمُلُوكِ وَالأُمَمِ، وَالْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ يَقُومُ مَقَامَ الْمُشَاهَدَةِ، فَوَجَبَ الإِذْعَانُ لِمَنْ أَتَى بِهَا عَقْلًا كَمَا أَنَّهُ وَاجِبٌ شَرْعًا.

الإِيـمَانُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ وَنَعِيمِهِ وَسُؤَالِهِ

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [سُورَةَ غَافِر/46].

وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ [سُورَةَ طَه/124].

فَهَاتَانِ الآيَاتَانِ وَارِدَتَانِ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ لِلْكُفَّارِ، وَأَمَّا عُصَاةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الَّذِينَ مَاتُوا قَبْلَ التَّوْبَةِ فَهُمْ صِنْفَانِ: صِنْفٌ يُعْفِيهِمُ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَصِنْفٌ يُعَذِّبُهُمْ ثُمَّ يَنْقَطِعُ عَنْهُمْ وَيُؤَخِّرُ لَهُمْ بَقِيَّةَ عَذَابِهِمْ إِلَى الآخِرَةِ.

فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ: إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرِ إِثْمٍ، قَالَ: بَلَى، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ، ثُمَّ دَعَا بِعَسِيبٍ رَطْبٍ فَشَقَّهُ اثْنَيْنِ فَغَرَسَ عَلَى هَذَا وَاحِدًا وَعَلَى هَذَا وَاحِدًا، ثُمَّ قَالَ: «لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا».

وَاعْلَمْ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ عَوْدُ الرُّوحِ إِلَى الْجَسَدِ فِي الْقَبْرِ كَحَدِيثِ الْبَرَاءِ بنِ عَازِبٍ الَّذِي رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَأَبُو عُوَانَةَ وَصَحَّحَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِلَّا عَرَفَهُ وَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ». رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَعَبْدُ الْحَقِّ الإِشْبِيلِيُّ وَصَحَّحَهُ.

فَيَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ رُجُوعَ الرُّوحِ إِلَى الْبَدَنِ كُلِّهِ وَذَلِكَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَوْ إِلَى بَعْضِهِ. وَيَتَأَكَّدُ عَوْدُ الْحَيَاةِ فِي الْقَبْرِ إِلَى الْجَسَدِ مَزِيدَ تَأَكُّدٍ فِي حَقِّ الأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّهُ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ يُصَلُّونَ» صَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَأَقَرَّهُ الْحَافِظُ.

وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ إِذَا انْصَرَفُوا أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولانِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ؟ فَأَمّا الْمُؤْمِنُ - أَيِ الْكَامِلُ - فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا. وَأَمَّا الْكَافِرُ أَوِ الْمُنَافِقُ فَيَقُولُ: لا أَدْرِي كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِيهِ، فَيُقَالُ: لا دَرَيْتَ وَلا تَلَيْتَ، ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ بَيْنَ أُذُنَيْهِ فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ».

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ فَتَّانَيِ الْقَبْرِ فَقَالَ عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَتُرَدُّ عَلَيْنَا عُقُولُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «نَعَمْ كَهَيْئَتِكُمُ الْيَوْمَ»، قَالَ: فَبِفِيهِ الْحَجَرُ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا قُبِرَ الْمَيِّتُ أَوِ الإِنْسَانُ أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا مُنْكَرٌ وَلِلآخَرِ نَكِيرٌ فَيَقُولانِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ؟ فَهُوَ قَائِلٌ مَا كَانَ يَقُولُ. فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا قَالَ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَيَقُولانِ لَهُ: إِنْ كُنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّكَ لَتَقُولُ ذَلِكَ، ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِينَ ذِرَاعًا وَيُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ، فَيُقَالُ لَهُ: نَمْ، فَيَنَامُ كَنَوْمِ الْعَرُوسِ الَّذِي لا يُوقِظُهُ إِلَّا أَحَبُّ أَهْلِهِ حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ.

فَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا قَالَ: لا أَدْرِي، كُنْتُ أَسْمَعُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَكُنْتُ أَقُولُهُ، فَيَقُولانِ لَهُ: إِنْ كُنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ ذَلِكَ، ثُمَّ يُقَالُ لِلأَرْضِ الْتَئِمِي فَتَلْتَئِمُ عَلَيْهِ حَتَّى تَخْتَلِفَ أَضْلاعُهُ فَلا يَزَالُ مُعَذَّبًا حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ».

وَالْحَدِيثَانِ رَوَاهُمَا ابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُمَا، فَفِي الأَوَّلِ مِنْهُمَا إِثْبَاتُ عَوْدِ الرُّوحِ إِلَى الْجَسَدِ فِي الْقَبْرِ وَالإِحْسَاسِ، وَفِي الثَّانِي إِثْبَاتُ اسْتِمْرَارِ الرُّوحِ فِي الْقَبْرِ وَإِثْبَاتُ النَّوْمِ وَذَلِكَ مَا لَمْ يَبْلَ الْجَسَدُ.

وَهَذَا النَّعِيمُ لِلْمُؤْمِنِ الْقَوِيِّ وَهُوَ الَّذِي يُؤَدِّي الْفَرَائِضَ وَيَجْتَنِبُ الْمَعَاصِيَ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَسَنَتُهُ فَإِذَا فَارَقَ الدُّنْيَا فَارَقَ السِّجْنَ وَالسَّنَةَ»، حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ، يَعْنِي الْمُؤْمِنَ الْكَامِلَ.

ثُمَّ إِذَا بَلِيَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا عَجْبُ الذَّنَبِ يَكُونُ رُوحُ الْمُؤْمِنِ التَّقِيِّ فِي الْجَنَّةِ وَتَكُونُ أَرْوَاحُ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الَّذِينَ مَاتُوا بِلا تَوْبَةٍ بَعْدَ بِلَى الْجَسَدِ فِيمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَبَعْضُهُمْ فِي السَّمَاءِ الأُولَى. وَتَكُونُ أَرْوَاحُ الْكُفَّارِ بَعْدَ بِلَى الْجَسَدِ فِي سِجِّينَ، وَهُوَ مَكَانٌ فِي الأَرْضِ السُّفْلَى.

وَأَمَّا الشُّهَدَاءُ فَتَصْعَدُ أَرْوَاحُهُمْ فَوْرًا إِلَى الْجَنَّةِ.

تَنْبِيهٌ: يُسْتَثْنَى مِنَ السُّؤَالِ الأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ أَيْ شُهَدَاءُ الْمَعْرَكَةِ وَكَذَلِكَ الطِّفْلُ أَيِ الَّذِي مَاتَ دُونَ الْبُلُوغِ.

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُمْكِنُ سُؤَالُ عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنَ الأَمْوَاتِ؟ فَالْجَوَابُ مَا قَالَ الْحَلِيمِيُّ: «إِنَّ الأَشْبَهَ أَنْ يَكُونَ مَلائِكَةُ السُّؤَالِ جَمَاعَةً كَثِيرَةً يُسَمَّى بَعْضُهُمْ مُنْكَرًا وَبَعْضُهُمْ نَكِيرًا فَيُبْعَثُ إِلَى كُلِّ مَيِّتٍ اثْنَانِ مِنْهُمْ».

حُكْمُ مُنْكِرِ عَذَابِ الْقَبْرِ

وَيَكْفُرُ مُنْكِرُ عَذَابِ الْقَبْرِ لِقَوْلِ اللَّهِ: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [سُورَةَ غَافِر/46] بِخِلافِ مُنْكِرِ سُؤَالِهِ فَلا يُكَفَّرُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الْعِنَادِ.

الْبَعْثُ

الْبَعْثُ حَقٌّ، وَهُوَ خُرُوجُ الْمَوْتَى مِنَ الْقُبُورِ بَعْدَ إِعَادَةِ الْجَسَدِ الَّذِي أَكَلَهُ التُّرَابُ إِنْ كَانَ مِنَ الأَجْسَادِ الَّتِي يَأْكُلُهَا التُّرَابُ وَهِيَ أَجْسَادُ غَيْرِ الأَنْبِيَاءِ وَشُهَدَاءِ الْمَعْرَكَةِ وَبَعْضِ الأَوْلِيَاءِ لِمَا تَوَاتَرَ مِنْ مُشَاهَدَةِ بَعْضِ الأَوْلِيَاءِ. وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَهْلُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ مِنْ أَوَّلِ مَنْ يُبْعَثُ.

الْحَشْرُ

وَالْحَشْرُ حَقٌّ، وَهُوَ أَنْ يُجْمَعُوا بَعْدَ الْبَعْثِ إِلَى مَكَانٍ، وَيَكُونُ عَلَى الأَرْضِ الْمُبَدَّلَةِ وَهِيَ أَرْضٌ مُسْتَوِيَةٌ كَالْجِلْدِ الْمَشْدُودِ لا جِبَالَ فِيهَا وَلا وِدْيَانَ، أَكْبَرُ وَأَوْسَعُ مِنْ أَرْضِنَا هَذِهِ بَيْضَاءُ كَالْفِضَّةِ.

وَيَكُونُ الْحَشْرُ عَلَى ثَلاثَةِ أَحْوَالٍ:

(1) قِسْمٌ طَاعِمُونَ كَاسُونَ رَاكِبُونَ عَلَى نُوقٍ رَحَائِلُهَا مِنْ ذَهَبٍ وَهُمُ الأَتْقِيَاءُ.

(2) وَقِسْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ.

(3) وَقِسْمٌ يُحْشَرُونَ وَيُجَرُّونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ وَهُمُ الْكُفَّارُ.

الْحِسَابُ

وَالْحِسَابُ حَقٌّ، وَهُوَ عَرْضُ أَعْمَالِ الْعِبَادِ عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُ بِتَكْلِيمِ اللَّهِ لِلْعِبَادِ جَمِيعِهِمْ، فَيَفْهَمُونَ مِنْ كَلامِ اللَّهِ السُّؤَالَ عَمَّا فَعَلُوا بِالنِّعَمِ الَّتِي أَعْطَاهُمُ اللَّهُ إِيَّاهَا، فَيُسَرُّ الْمُؤْمِنُ التَّقِيُّ، وَلا يُسَرُّ الْكَافِرُ لِأَنَّهُ لا حَسَنَةَ لَهُ فِي الآخِرَةِ، بَلْ يَكَادُ يَغْشَاهُ الْمَوْتُ، فَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ.

الْمِيزَانُ

وَالْمِيزَانُ حَقٌّ، وَهُوَ كَمِيزَانِ الدُّنْيَا لَهُ قَصَبَةٌ وَعَمُودٌ وَكَفَّتَانِ كَفَّةٌ لِلْحَسَنَاتِ وَكَفَّةٌ لِلسَّيِّئَاتِ تُوزَنُ بِهِ الأَعْمَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالَّذِي يَتَوَلَّى وَزْنَهَا جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، وَمَا يُوزَنُ إِنَّمَا هُوَ الصَّحَائِفُ الَّتِي كُتِبَ عَلَيْهَا الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ فَمَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّجَاةِ، وَمَنْ تَسَاوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّجَاةِ أَيْضًا وَلَكِنَّهُ أَقَلُّ رُتْبَةً مِنَ الطَّبَقَةِ الأُولَى وَأَرْفَعُ مِنَ الثَّالِثَةِ، وَمَنْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ فَهُوَ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ. وَأَمَّا الْكَافِرُ فَتَرْجَحُ كَفَّةُ سَيِّئَاتِهِ لا غَيْرَ لِأَنَّهُ لا حَسَنَاتَ لَهُ فِي الآخِرَةِ لِأَنَّهُ أُطْعِمَ بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا.

الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ

الثَّوَابُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ لَيْسَ بِحَقٍّ لِلطَّائِعِينَ وَاجِبٍ عَلَى اللَّهِ، وَإِنَّمَا هُوَ فَضْلٌ مِنْهُ وَهُوَ الْجَزَاءُ الَّذِي يُجْزَى بِهِ الْمُؤْمِنُ مِمَّا يَسُرُّهُ فِي الآخِرَةِ.

وَالْعِقَابُ لا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ أَيْضًا إِيقَاعُهُ لِلْعُصَاةِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَدْلٌ مِنْهُ، وَهُوَ مَا يَسُوءُ الْعَبْدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَكْبَرَ وَأَصْغَرَ، فَالْعِقَابُ الأَكْبَرُ هُوَ دُخُولُ النَّارِ وَالْعِقَابُ الأَصْغَرُ مَا سِوَى ذَلِكَ كَأَذَى حَرِّ الشَّمْسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنَّهَا تُسَلَّطُ عَلَى الْكُفَّارِ فَيَغْرَقُونَ حَتَّى يَصِلَ عَرَقُ أَحَدِهِمْ إِلَى فِيهِ وَلا يَتَجَاوَزُ عَرَقُ هَذَا الشَّخْصِ إِلَى شَخْصٍ ءَاخَرَ بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ حَتَّى يَقُولَ الْكَافِرُ مِنْ شِدَّةِ مَا يُقَاسِي مِنْهَا: رَبِّ أَرِحْنِي وَلَوْ إِلَى النَّارِ، وَيَكُونُ الْمُؤْمِنُونَ الأَتْقِيَاءُ تِلْكَ السَّاعَةَ تَحْتَ ظِلِّ الْعَرْشِ، وَهَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ» أَيْ فِي ظِلِّ عَرْشِهِ.

الصِّرَاطُ

وَالصِّرَاطُ حَقٌّ، وَهُوَ جِسْرٌ عَرِيضٌ مَمْدُودٌ عَلَى جَهَنَّمَ تَرِدُ عَلَيْهِ الْخَلائِقُ، فَمِنْهُمْ مِنْ يَرِدُهُ وُرُودَ دُخُولٍ وَهُمُ الْكُفَّارُ وَبَعْضُ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ يَزِلُّونَ مِنْهُ إِلَى جَهَنَّمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرِدُهُ وُرُودَ مُرُورٍ فِي هَوَائِهِ، فَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يَمُرُّ كَالْبَرْقِ الْخَاطِفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَطَرْفَةِ عَيْنٍ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ، وَأَحَدُ طَرَفَيْهِ فِي الأَرْضِ الْمُبَدَّلَةِ وَالآخَرُ فِيمَا يَلِي الْجَنَّةَ، وَقَدْ وَرَدَ فِي صِفَتِهِ أَنَّهُ «دَحْضٌ مَزَلَّةٌ» وَمِمَّا وَرَدَ أَنَّهُ أَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ وَأَدَقُّ مِنَ الشَّعْرَةِ كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: «بَلَغَنِي أَنَّهُ أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرَةِ وَأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ» وَلَمْ يَرِدْ مَرْفُوعًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ ظَاهِرَهُ بَلْ هُوَ عَرِيضٌ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّ خَطَرَهُ عَظِيمٌ، فَإِنَّ يُسْرَ الْجَوَازِ عَلَيْهِ وَعُسْرَهُ عَلَى قَدْرِ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي وَلا يَعْلَمُ حُدُودَ ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ مَعْنَاهُ أَنَّ أَعْمَالَهُمْ تَصِيرُ لَهُمْ قُوَّةَ السَّيْرِ.

الْحَوْضُ

وَالْحَوْضُ حَقٌّ، وَهُوَ مَكَانٌ أَعَدَّ اللَّهُ فِيهِ شَرَابًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ يَشْرَبُونَ مِنْهُ قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَبَعْدَ مُجَاوَزَةِ الصِّرَاطِ، فَلِنَبِيِّنَا حَوْضٌ تَرِدُهُ أُمَّتُهُ فَقَطْ لا تَرِدُهُ أُمَمُ غَيْرِهِ طُولُهُ مَسِيرَةُ شَهْرٍ وَعَرْضُهُ كَذَلِكَ، ءَانِيَتُهُ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ، شَرَابُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَأَطْيَبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ.

وَقَدْ أَعَدَّ اللَّهُ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضًا وَأَكْبَرُ الأَحْوَاضِ حَوْضُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

صِفَةُ الْجَنَّةِ

وَالْجَنَّةُ حَقٌّ فَيَجِبُ الإِيـمَانُ بِهَا وَأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ الآنَ كَمَا يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنَ الْقُرْءَانِ وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَهِيَ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ [كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى﴾ [سُورَةَ النَّجْم/15]، أَيْ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى] لَيْسَتْ مُتَّصِلَةً بِهَا، وَسَقْفُهَا عَرْشُ الرَّحْمٰنِ، وَأَهْلُهَا عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ ءَادَمَ سِتُّونَ ذِرَاعًا طُولًا فِي سَبْعَةِ أَذْرُعٍ عَرْضًا جَمِيلُو الصُّورَةِ، جُرْدٌ مُرْدٌ فِي عُمْرِ ثَلاثَةٍ وَثَلاثِينَ عَامًا، خَالِدُونَ فِيهَا لا يَخْرُجُونَ مِنْهَا أَبَدًا. وَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ بِأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ ءَادَمَ سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ فِي سَبْعَةِ أَذْرُعٍ عَرْضًا.

صِفَةُ جَهَنَّمَ

وَالنَّارُ حَقٌّ، فَيَجِبُ الإِيـمَانُ بِهَا وَبِأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ الآنَ، كَمَا يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنَ الآيَاتِ وَالأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَهِيَ مَكَانٌ أَعَدَّهُ اللَّهُ لِعَذَابِ الْكُفَّارِ الَّذِي لا يَنْتَهِي أَبَدًا وَبَعْضِ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَكَانُهَا تَحْتَ الأَرْضِ السَّابِعَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً بِهَا.

وَيَزِيدُ اللَّهُ فِي حَجْمِ الْكَافِرِ فِي النَّارِ لِيَزْدَادَ عَذَابًا حَتَّى يَكُونَ ضِرْسُهُ كَجَبَلِ أُحُدٍ، وَهُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ أَبَدًا لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا أَيْ حَيَاةً فِيهَا رَاحَةٌ، لَيْسَ لَهُمْ فِيهَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ، وَشَرَابُهُمْ مِنَ الْمَاءِ الْحَارِّ الْمُتَنَاهِي الْحَرَارَةِ.

وَأَمَّا كَوْنُ الْجَنَّةِ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَذَلِكَ ثَابِتٌ فِيمَا صَحَّ مِنَ الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَفَوْقَهُ» يَعْنِي الْفِرْدَوْسَ «عَرْشُ الرَّحْمٰنِ»، وَأَمَّا كَوْنُ جَهَنَّمَ تَحْتَ الأَرْضِ السَّابِعَةِ فَقَدْ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ: إِنَّ ذَلِكَ جَاءَتْ فِيهِ رِوَايَاتٌ صَحِيحَةٌ.

الشَّفَاعَةُ

وَالشَّفَاعَةُ حَقٌّ، وَهِيَ سُؤَالُ الْخَيْرِ مِنَ الْغَيْرِ لِلْغَيْرِ، فَيَشْفَعُ النَّبِيُّونَ وَالْعُلَمَاءُ الْعَامِلُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَالْمَلائِكَةُ، وَيَشْفَعُ نَبِيُّنَا لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِهِ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ.

أَيْ غَيْرُ أَهْلِ الْكَبَائِرِ لَيْسُوا بِحَاجَةٍ لِلشَّفَاعَةِ، وَتَكُونُ لِبَعْضِهِمْ قَبْلَ دُخُولِهِمُ النَّارَ وَلِبَعْضٍ بَعْدَ دُخُولِهِمْ قَبْلَ أَنْ تَمْضِيَ الْمُدَّةُ الَّتِي يَسْتَحِقُّونَ بِمَعَاصِيهِمْ، وَلا تَكُونُ لِلْكُفَّارِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾ [سُورَةَ الأَنْبِيَاء/28].



الرُّوحُ

يَجِبُ الإِيـمَانُ بِالرُّوحِ وَهِيَ جِسْمٌ لَطِيفٌ لا يَعْلَمُ حَقِيقَتَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ أَنْ تَسْتَمِرَّ الْحَيَاةُ فِي أَجْسَامِ الْمَلائِكَةِ وَالإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْبَهَائِمِ مَا دَامَتْ تِلْكَ الأَجْسَامُ اللَّطِيفَةُ مُجْتَمِعَةً مَعَهَا، وَتُفَارِقَهَا إِذَا فَارَقَتْهَا تِلْكَ الأَجْسَامُ، وَهِيَ حَادِثَةٌ لَيْسَتْ قَدِيمَةً، فَمَنْ قَالَ إِنَّهَا قَدِيمَةٌ لَيْسَتْ مَخْلُوقَةً فَقَدْ كَفَر، وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ الْبَهَائِمُ لا أَرْوَاحَ لَهَا كَمَا قَالَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ مُتَوَلِّي الشَّعْرَاوِي فِي كِتَابَيْهِ التَّفْسِيرِ وَالْفَتَاوَى. وَذَلِكَ تَكْذِيبٌ لِلْقُرْءَانِ وَإِنْكَارٌ لِلْعِيَانِ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾ [سُورَةَ التَّكْوِير/5]. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَتُؤَدَّنَّ الْحُقُوقُ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْجَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

بَيَانُ أَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ شَامِلَةٌ فِي الدُّنْيَا لِلْمُؤْمِنِينَ

وَالْكَافِرِينَ خَاصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي الآخِرَةِ

وَاللَّهُ تَعَالَى يَرْحَمُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي الدُّنْيَا وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلًّا، أَمَّا فِي الآخِرَةِ فَرَحْمَتُهُ خَاصَّةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف/156].

أَيْ وَسِعَتْ فِي الدُّنْيَا كُلَّ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ، قَالَ: ﴿فَسَأَكْتُبُهَا﴾ أَيْ فِي الآخِرَةِ، ﴿لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ أَيْ أَخُصُّهَا لِمَنْ اتَّقَى الشِّرْكَ وَسَائِرَ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ.

وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف/50].

أَيْ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْكَافِرِينَ الرِّزْقَ النَّافِعَ وَالْمَاءَ الْمُرْوِيَ فِي الآخِرَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَضَاعُوا أَعْظَمَ حُقُوقِ اللَّهِ الَّذِي لا بَدِيلَ لَهُ وَهُوَ الإِيـمَانُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ.

ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الدُّخُولَ فِي الإِسْلامِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ نِعَمِ اللَّهِ سَهْلًا، وَذَلِكَ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.

وَجَعَلَ الْكُفْرَ سَهْلًا فَكَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ تَدُلُّ عَلَى الِاسْتِخْفَافِ بِاللَّهِ أَوْ شَرِيعَتِهِ تُخْرِجُ قَائِلَهَا مِنَ الإِيـمَانِ، وَتُوقِعُهُ فِي الْكُفْرِ الَّذِي هُوَ أَسْوَأُ الأَحْوَالِ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ اللَّهِ أَحْقَرَ مِنَ الْحَشَرَاتِ وَالْوُحُوشِ، سَوَاءٌ تَكَلَّمَ بِهَا جَادًّا أَوْ مَازِحًا أَوْ غَضْبَانَ.

وَقَدْ شُرِحَ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ فِي الْمَذَاهِبِ الْمُعْتَبَرَةِ وَحَكَمُوا أَنَّ الْمُتَلَفِّظَ بِهَا يَكْفُرُ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [سُورَةَ الأَنْفَال/55].

الْبِدْعَةُ

الْبِدْعَةُ لُغَةً مَا أُحْدِثَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ، وَشَرْعًا الْمُحْدَثُ الَّذِي لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ وَلا الْحَدِيثُ.

وَتَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ كَمَا يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»، أَيْ مَرْدُودٌ.

الْقِسْمُ الأَوَّلُ: الْبِدْعَةُ الْحَسَنَةُ: وَتُسَمَّى السُّنَّةَ الْحَسَنَةَ، وَهِيَ الْمُحْدَثُ الَّذِي يُوَافِقُ الْقُرْءَانَ وَالسُّنَّةَ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: الْبِدْعَةُ السَّيِّئَةُ: وَتُسَمَّى السُّنَّةَ السَّيِّئَةَ، وَهِيَ الْمُحْدَثُ الَّذِي يُخَالِفُ الْقُرْءَانَ وَالْحَدِيثَ.

وَهَذَا التَّقْسِيمُ مَفْهُومٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَىْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَىْءٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَمِنَ الْقِسْمِ الأَوَّلِ: الِاحْتِفَالُ بِمَوْلِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ مَلِكُ إِرْبِلَ فِي الْقَرْنِ السَّابِعِ الْهِجْرِيِّ، وَتَنْقِيطُ التَّابِعِيِّ الْجَلِيلِ يَحْيَى بنِ يَعْمَرَ الْمُصْحَفَ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالتَّقْوَى، وَأَقَرَّ ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ مِنْ مُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ وَاسْتَحْسَنُوهُ وَلَمْ يَكُنْ مُنَقَّطًا عِنْدَمَا أَمْلَى الرَّسُولُ عَلَى كَتَبَةِ الْوَحْيِ، وَكَذَلِكَ عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ لَمَّا كَتَبَ الْمَصَاحِفَ الْخَمْسَةَ أَوِ السِّتَّةَ لَمْ تَكُنْ مُنَقَّطَةً، وَمُنْذُ ذَلِكَ التَّنْقِيطِ لَمْ يَزَلِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ إِلَى الْيَوْمِ، فَهَلْ يُقَالُ فِي هَذَا إِنَّهُ بِدْعَةُ ضَلالَةٍ لِأَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَفْعَلْهُ؟ فَإِنْ كَانَ الأَمْرُ كَذَلِكَ فَلْيَتْرُكُوا هَذِهِ الْمَصَاحِفَ الْمُنَقَّطَةَ أَوْ لِيَكْشِطُوا هَذَا التَّنْقِيطَ مِنَ الْمَصَاحِفِ حَتَّى تَعُودَ مُجَرَّدَةً كَمَا فِي أَيَّامِ عُثْمَانَ. قَالَ أَبُو بَكْرِ بنُ أَبِي دَاوُدَ صَاحِبِ السُّنَنِ فِي كِتَابِهِ الْمَصَاحِف: «أَوَّلُ مَنْ نَقَطَ الْمَصَاحِفَ يَحْيَى بنُ يَعْمَرَ» اهـ، وَهُوَ مِنْ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ رَوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ.

وَمِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي: الْمُحْدَثَاتُ فِي الِاعْتِقَادِ كَبِدْعَةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الَّذِينَ خَرَجُوا عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الْمُعْتَقَدِ، وَكِتَابَةِ (ص) أَوْ (صَلْعَمْ) [وَكِتَابَةُ (صَلْعَمْ) بَعْدَ اسْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَحُ مِنْ كِتَابَةِ (ص)] بَعْدَ اسْمِ النَّبِيِّ بَدَلَ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَقَدْ نَصَّ الْمُحَدِّثُونَ فِي كُتُبِ مُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ كِتَابَةَ الصَّادِ مُجَرَّدَةً مَكْرُوهٌ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يُحَرِّمُوهَا بَلْ فَعَلُوهَا.

فَمِنْ أَيْنَ لِهَؤُلاءِ الْمُتَنَطِّعِينَ الْمُشَوِّشِينَ أَنْ يَقُولُوا عَنْ عَمَلِ الْمَوْلِدِ بِدْعَةٌ مُحَرَّمَةٌ وَعَنِ الصَّلاةِ عَلَى النَّبِيِّ جَهْرًا عَقِبَ الأَذَانِ إِنَّهُ بِدْعَةٌ مُحَرَّمَةٌ بِدَعْوَى أَنَّ الرَّسُولَ مَا فَعَلَهُ وَالصَّحَابَةَ لَمْ يَفْعَلُوهُ.

وَمِنْهُ تَحْرِيفُ اسْمِ اللَّهِ إِلَى ءَاهٍ وَنَحْوِهِ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الطُّرُقِ فَإِنَّ هَذَا مِنَ الْبِدَعِ الْمُحَرَّمَةِ.

قَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «الْمُحْدَثَاتُ مِنَ الأُمُورِ ضَرْبَانِ، أَحَدُهُمَا مَا أُحْدِثَ مِمَّا يُخَالِفُ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً أَوْ إِجْمَاعًا أَوْ أَثَرًا فَهَذِهِ الْبِدْعَةُ الضَّلالَةُ، وَالثَّانِيَةُ مَا أُحْدِثَ مِنَ الْخَيْرِ وَلا يُخَالِفُ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً أَوْ إِجْمَاعًا وَهَذِهِ مُحْدَثَةٌ غَيْرُ مَذْمُومَةٍ»، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِالإِسْنَادِ الصَّحِيحِ فِي كِتَابِهِ «مَنَاقِبُ الشَّافِعِيِّ».

إِثْبَاتُ أَنَّ التَّوَسُّلَ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ جَائِزٌ،

وَأَنَّهُ لَيْسَ شِرْكًا كَمَا تَقُولُ الْوَهَّابِيَّةُ

اعْلَمْ أَنَّهُ لا دَلِيلَ حَقِيقِيٌّ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّوَسُّلِ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ فِي حَالِ الْغَيْبَةِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِمْ بِدَعْوَى أَنَّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ لِغَيْرِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ عِبَادَةً لِغَيْرِ اللَّهِ مُجَرَّدُ النِّدَاءِ لِحَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ وَلا مُجَرَّدُ التَّعْظِيمِ وَلا مُجَرَّدُ الِاسْتِغَاثَةِ بِغَيْرِ اللَّهِ، وَلا مُجَرَّدُ قَصْدِ قَبْرِ وَلِيٍّ لِلتَّبَرُّكِ، وَلا مُجَرَّدُ طَلَبِ مَا لَمْ تَجْرِ بِهِ الْعَادَةُ بَيْنِ النَّاسِ، وَلا مُجَرَّدُ صِيغَةِ الِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ لَيْسَ ذَلِكَ شِرْكًا لِأَنَّهُ لا يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ تَعْرِيفُ الْعِبَادَةِ عِنْدَ اللُّغَوِيِّينَ، لِأَنَّ الْعِبَادَةَ عِنْدَهُمُ الطَّاعَةُ مَعَ الْخُضُوعِ.

قَالَ الأَزْهَرِيُّ الَّذِي هُوَ أَحَدُ كِبَارِ اللُّغَوِيِّينَ فِي كِتَابِ تَهْذِيبِ اللُّغَةِ نَقْلًا عَنِ الزَّجَّاجِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَشْهَرِهِمْ: الْعِبَادَةُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الطَّاعَةُ مَعَ الْخُضُوعِ، وَقَالَ مِثْلَهُ الْفَرَّاءُ كَمَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ لِابْنِ مَنْظُورٍ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَقْصَى غَايَةِ الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ، وَقَالَ بَعْضٌ: نِهَايَةُ التَّذَلُّلِ كَمَا يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ كَلامِ شَارِحِ الْقَامُوسِ مُرْتَضَى الزَّبِيدِيِّ خَاتِمَةِ اللُّغَوِيِّينَ، وَهَذَا الَّذِي يَسْتَقِيمُ لُغَةً وَعُرْفًا.

وَلَيْسَ مُجَرَّدُ التَّذَلُّلِ عِبَادَةً لِغَيْرِ اللَّهِ وَإِلَّا لَكَفَرَ كُلُّ مَنْ يَتَذَلَّلُ لِلْمُلُوكِ وَالْعُظَمَاءِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ مُعَاذَ بنَ جَبَلٍ لَمَّا قَدِمَ مِنَ الشَّامِ سَجَدَ لِرَسُولِ اللَّهِ، فَقَالَ الرَّسُولُ: «مَا هَذَا »فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَأَيْتُ أَهْلَ الشَّامِ يَسْجُدُونَ لِبَطَارِقَتِهِمْ [الْبِطْرِيقُ بِالْكَسْرِ مِنَ الرُّومِ كَالْقَائِدِ مِنَ الْعَرَبِ] وَأَسَاقِفَتِهِمْ [عُلَمَاءُ النَّصَارَى يُقَالُ لَهُمْ أَسَاقِفَةٌ] وَأَنْتَ أَوْلَى بِذَلِكَ، فَقَالَ: «لا تَفْعَلْ، لَوْ كُنْتُ ءَامُرُ أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا»، رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمَا. وَلَمْ يَقُلْ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَرْتَ، وَلا قَالَ لَهُ أَشْرَكْتَ مَعَ أَنَّ سُجُودَهُ لِلنَّبِيِّ مَظْهَرٌ كَبِيرٌ مِنْ مَظَاهِرِ التَّذَلُّلِ.

فَهَؤُلاءِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ الشَّخْصَ لِأَنَّهُ قَصَدَ قَبْرَ الرَّسُولِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الأَوْلِيَاءِ لِلتَّبَرُّكِ فَهُمْ جَهِلُوا مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَخَالَفُوا مَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ سَلَفًا وَخَلَفًا لَمْ يَزَالُوا يَزُورُونَ قَبْرَ النَّبِيِّ لِلتَّبَرُّكِ وَلَيْسَ مَعْنَى الزِّيَارَةِ لِلتَّبَرُّكِ أَنَّ الرَّسُولَ يَخْلُقُ لَهُمُ الْبَرَكَةَ بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَرْجُونَ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ لَهُمُ الْبَرَكَةَ بِزِيَارَتِهِمْ لِقَبْرِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ مَالِكِ الدَّارِ وَكَانَ خَازِنَ عُمَرَ [وَقَوْلُ بَعْضِ الْوَهَّابِيَّةِ إِنَّ مَالِكَ الدَّارِ مَجْهُولٌ يَرُدُّهُ أَنَّ عُمَرَ لا يَتَّخِذُ خَازِنًا إِلَّا خَازِنًا ثِقَةً، وَمُحَاوَلَتُهُمْ لِتَضْعِيفِ هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَمَا صَحَّحَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ لَغْوٌ لا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ. وَيُقَالُ لِهَذَا الْمَدَّعِي: لا كَلامَ لَكَ بَعْدَ تَصْحِيحِ أَهْلِ الْحِفْظِ أَنْتَ لَيْسَ لَكَ فِي اصْطِلاحِ أَهْلِ الْحَدِيثِ حَقٌّ. عَلَى أَنَّ التَّصْحِيحَ وَالتَّضْعِيفَ خَاصٌّ بِالْحَافِظِ وَأَنْتَ تَعْرِفُ نَفْسَكَ أَنَّكَ بَعِيدٌ مِنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ بُعْدَ الأَرْضِ مِنَ السَّمَاءِ فَمَا حَصَلَ مِنْ هَذَا الصَّحَابِيِّ اسْتِغَاثَةٌ وَتَوَسُّلٌ. وَبِهَذَا الأَثَرِ يَبْطُلُ أَيْضًا قَوْلُ الْوَهَّابِيَّةِ إِنَّ الِاسْتِغَاثَةَ بِالرَّسُولِ بَعْدَ وَفَاتِهِ شِرْكٌ. وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ الْفَقِيهُ اللُّغَوِيُّ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ إِنَّ التَّوَسُّلَ وَالِاسْتِغَاثَةَ وَالتَّوَجُّهَ وَالتَّجَوُّهَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ شِفَاءُ السَّقَامِ الَّذِي أَلَّفَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى ابْنِ تَيْمِيَةَ فِي إِنْكَارِهِ سُنِّيَّةَ السَّفَرِ لِزِيَارَةِ قَبْرِ الرَّسُولِ وَتَحْرِيمِهِ قَصْرَ الصَّلاةِ فِي ذَلِكَ السَّفَرِ] قَالَ: أَصَابَ النَّاسَ قَحْطٌ [أَيْ وَقَعَتْ مَجَاعَةٌ، تِسْعَةَ أَشْهُرٍ انْقَطَعَ الْمَطَرُ عَنْهُمْ] فِي زَمَانِ عُمَرَ [أَيْ فِي خِلافَتِهِ] فَجَاءَ رَجُلٌ [أَيْ مِنَ الصَّحَابَةِ] إِلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَسْقِ لِأُمَّتِكَ فَإِنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا [مَعْنَاهُ اطْلُبْ مِنَ اللَّهِ الْمَطَرَ لِأُمَّتِكَ فَإِنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا] فَأُتِيَ الرَّجُلُ فِي الْمَنَامِ [أَيْ أُرِيَ فِي الْمَنَامِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ يُكَلِّمُهُ] فَقِيلَ لَهُ: أَقْرِئْ عُمَرَ السَّلامَ [أَيْ سَلِّمْ لِي عَلَيْهِ] وَأَخْبِرْهُ أَنَّهُمْ يُسْقَوْنَ [أَيْ سَيَأْتِيهِمُ الْمَطَرُ، ثُمَّ سَقَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى سُمِّيَ ذَلِكَ الْعَامُ عَامَ الْفَتْقِ مِنْ شِدَّةِ مَا ظَهَرَ مِنَ الأَعْشَابِ وَسَمِنَتِ الْمَوَاشِي حَتَّى تَفَتَّقَتْ بِالشَّحْمِ]، وَقُلْ لَهُ: عَلَيْكَ الْكَيْسَ الْكَيْسَ [أَيْ عَلَيْكَ بِالِاجْتِهَادِ بِالسَّعْيِ فِي خِدْمَةِ الأُمَّةِ]. فَأَتَى الرَّجُلُ عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ، فَبَكَى عُمَرُ وَقَالَ: يَا رَبِّ مَا ءَالُو إِلَّا مَا عَجَزْتُ [أَيْ لا أُقَصِّرُ إِلَّا مَا عَجَزْتُ، أَيْ سَأَفْعَلُ مَا فِي وُسْعِي لِخِدْمَةِ الأُمَّةِ]. وَقَدْ جَاءَ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الرَّجُلِ أَنَّهُ بِلالُ بنُ الْحَارِثِ الْمُزَنِيُّ الصَّحَابِيُّ. فَهَذَا الصَّحَابِيُّ قَدْ قَصَدَ قَبْرَ الرَّسُولِ لِلتَّبَرُّكِ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ عُمَرُ وَلا غَيْرُهُ فَبَطَلَ دَعْوَى ابْنِ تَيْمِيَةَ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَارَةَ شِرْكِيَّةٌ. وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ وَلِيُّ الدِّينِ الْعِرَاقِيُّ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ مُوسَى قَالَ: «رَبِّ أَدْنِنِي مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ»، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَاللَّهِ لَوْ أَنِّي عِنْدَهُ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَنْبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ»: فِيهِ اسْتِحْبَابُ مَعْرِفَةِ قُبُورِ الصَّالِحِينَ لِزِيَارَتِهَا وَالْقِيَامِ بِحَقِّهَا اهـ. وَقَالَ الْحَافِظُ الضِّيَاءُ حَدَّثَنِي سَالِمُ التَّلِّ قَالَ: «مَا رَأَيْتُ اسْتِجَابَةَ الدُّعَاءِ أَسْرَعَ مِنْهَا عِنْدَ هَذَا الْقَبْرِ، وَحَدَّثَنِي الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُونُسَ الْمَعْرُوفُ بِالأَرْمَنِيِّ أَنَّهُ زَارَ هَذَا الْقَبْرَ وَأَنَّهُ نَامَ فَرَأَى فِي مَنَامِهِ قُبَّةً عِنْدَهُ وَفِيهَا شَخْصٌ أَسْمَرُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ مُوسَى كَلِيمُ اللَّهِ أَوْ قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ، فَقَالَ: نَعَمْ، فَقُلْتُ: قُلْ لِي شَيْئًا، فَأَوْمَأَ إِلَيَّ بِأَرْبَعِ أَصَابِعَ وَوَصَفَ طُولَهُنَّ، فَانْتَبَهْتُ وَلَمْ أَدْرِ مَا قَالَ، فَأَخْبَرْتُ الشَّيْخَ ذَيَّالًا بِذَلِكَ فَقَالَ: يُولَدُ لَكَ أَرْبَعَةُ أَوْلادٍ، فَقُلْتُ: أَنَا قَدْ تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً لَمْ أَقْرَبْهَا، فَقَالَ: تَكُونُ غَيْرُ هَذِهِ، فَتَزَوَّجْتُ أُخْرَى فَوَلَدَتْ لِي أَرْبَعَةَ أَوْلادٍ» انْتَهَى.

وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّ الْحَارِثَ بنَ حَسَّانٍ الْبَكْرِيَّ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ أَكُونَ كَوَافِدِ عَادٍ، الْحَدِيثَ بِطُولِهِ دَلِيلٌ يُبْطِلُ قَوْلَ الْوَهَّابِيَّةِ: الِاسْتِعَاذَةُ بِغَيْرِ اللَّهِ شِرْكٌ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ سِوَى الْحَفَظَةِ يَكْتُبُونَ مَا يَسْقُطُ مِنْ وَرَقِ الشَّجَرِ فَإِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ عَرْجَةٌ بِأَرْضٍ فَلاةٍ فَلْيُنَادِ أَعِينُوا عِبَادَ اللَّهِ»، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَقَالَ الْحَافِظُ الْهَيْثَمِيُّ: رِجَالُهُ ثِقَاتٌ.

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ وَمَمَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُحْدِثُونَ وَيُحْدَثُ لَكُمْ، وَوَفَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ فَمَا رَأَيْتُ مِنْ خَيْرٍ حَمِدْتُ اللَّهَ عَلَيْهِ وَمَا رَأَيْتُ مِنْ شَرٍّ اسْتَغْفَرْتُ لَكُمْ»، رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ.

وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمَيْهِ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ عَنْ عُثْمَانَ بنِ حُنَيْفٍ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَخْتَلِفُ - أَيْ يَتَرَدَّدُ - إِلَى عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ، فَكَانَ عُثْمَانُ لا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ وَلا يَنْظُرُ فِي حَاجَتِهِ، فَلَقِيَ عُثْمَانَ بنَ حُنَيْفٍ فَشَكَى إِلَيْهِ ذَلِكَ، فَقَالَ: ائْتِ الْمِيضَأَةَ فَتَوَضَّأْ ثُمَّ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَتَوَجَّهُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي لِتُقْضَى لِي، ثُمَّ رُحْ حَتَّى أَرُوحَ مَعَكَ. فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ فَفَعَلَ مَا قَالَ، ثُمَّ أَتَى بَابَ عُثْمَانَ فَجَاءَ الْبَوَّابُ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَأَدْخَلَهُ عَلَى عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ فَأَجْلَسَهُ عَلَى طِنْفِسَتِهِ - أَيْ سَجَّادَتِهِ - فَقَالَ: مَا حَاجَتُكَ؟ فَذَكَرَ لَهُ حَاجَتَهُ، فَقَضَى لَهُ حَاجَتَهُ وَقَالَ: مَا ذَكَرْتُ حَاجَتَكَ حَتَّى كَانَتْ هَذِهِ السَّاعَةُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ فَلَقِيَ عُثْمَانَ بنَ حُنَيْفٍ فَقَالَ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، مَا كَانَ يَنْظُرُ فِي حَاجَتِي وَلا يَلْتَفِتُ إِلَيَّ حَتَّى كَلَّمْتَهُ فِيَّ، فَقَالَ عُثْمَانُ بنُ حُنَيْفٍ: وَاللَّهِ مَا كَلَّمْتُهُ وَلَكِنْ شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَتَاهُ ضَرِيرٌ فَشَكَى إِلَيْهِ ذَهَابَ بَصَرِهِ، فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ صَبَرْتَ وَإِنْ شِئْتَ دَعَوْتُ لَكَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ شَقَّ عَلَيَّ ذَهَابُ بَصَرِي وَإِنَّهُ لَيْسَ لِي قَائِدٌ فَقَالَ لَهُ: ائْتِ الْمِيضَأَةَ فَتَوَضَّأْ وَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قُلْ هَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ، فَفَعَلَ الرَّجُلُ مَا قَالَ، فَوَاللَّهِ مَا تَفَرَّقْنَا وَلا طَالَ بِنَا الْمَجْلِسُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْنَا الرَّجُلُ وَقَدْ أَبْصَرَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِهِ ضُرٌّ قَطُّ قَالَ الطَّبَرَانِيُّ فِي كُلٍّ مِنْ «مُعْجَمَيْهِ»: وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ لا يُصَحِّحُ حَدِيثًا مَعَ اتِّسَاعِ كِتَابِهِ الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ، مَا قَالَ عَنْ حَدِيثٍ أَوْرَدَهُ وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا: الْحَدِيثُ صَحِيحٌ، إِلَّا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ فِي الصَّغِيرِ وَصَحَّحَهُ.

فَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الأَعْمَى تَوَسَّلَ بِالنَّبِيِّ فِي غَيْرِ حَضْرَتِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِ عُثْمَانَ بنِ حُنَيْفٍ: «حَتَّى دَخَلَ عَلَيْنَا الرَّجُلُ»، وَفِيهِ أَنَّ التَّوَسُّلَ بِالنَّبِيِّ جَائِزٌ فِي حَالَةِ حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ فَبَطَلَ قَوْلُ ابْنِ تَيْمِيَةَ: لا يَجُوزُ التَّوَسُّلُ إِلَّا بِالْحَيِّ الْحَاضِرِ، وَكُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ.

وَأَمَّا تَمَسُّكُ بَعْضِ الْوَهَّابِيَّةِ لِدَعْوَى ابْنِ تَيْمِيَةَ هَذِهِ فِي رِوَايَةِ حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ الَّذِي فِيهِ: اللَّهُمَّ شَفِّعْهُ فِيَّ وَشَفِّعْنِي فِي نَفْسِي»، فَلا يُفِيدُ أَنَّهُ لا يُتَبَرَّكُ بِذَاتِ النَّبِيِّ، بَلِ التَّبَرُّكُ بِذَاتِ النَّبِيِّ إِجْمَاعٌ لَمْ يُخَالِفْهُ إِلَّا ابْنُ تَيْمِيَةَ، وَالرَّسُولُ هُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ الْقَائِلُ:

وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ثِمَالَ الْيَتَامَى [أَيْ غِيَاثَهُمْ] عِصْمَةٌ لِلأَرَامِلِ

أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَأَمَّا تَوَسُّلُ عُمَرَ بِالْعَبَّاسِ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ لِأَنَّ الرَّسُولَ قَدْ مَاتَ، بَلْ كَانَ لِأَجْلِ رِعَايَةِ حَقِّ قَرَابَتِهِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِدَلِيلِ قَوْلِ الْعَبَّاسِ حِينَ قَدَّمَهُ عُمَرُ: «اللَّهُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ تَوَجَّهُوا بِي إِلَيْكَ لِمَكَانِي مِنْ نَبِيِّكَ [أَيْ لِمَكَانَتِي عِنْدَهُ]»، فَتَبَيَّنَ بُطْلانُ رَأْيِ ابْنِ تَيْمِيَةَ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ مُنْكِرِي التَّوَسُّلِ. رَوَى هَذَا الأَثَرَ الزُّبَيْرُ بنُ بَكَّارٍ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ، وَيُسْتَأْنَسُ لَهُ أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرَى لِلْعَبَّاسِ مَا يَرَى الْوَلَدُ لِوَالِدِهِ، يُعَظِّمُهُ وَيُفَخِّمُهُ وَيَبَرُّ قَسَمَهُ، فَاقْتَدُوا أَيُّهَا النَّاسُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَمِّهِ الْعَبَّاسِ وَاتَّخِذُوهُ وَسِيلَةً إِلَى اللَّهِ فِيمَا نَزَلَ بِكُمْ»، فَهَذَا يُوضِحُ سَبَبَ تَوَسُّلِ عُمَرَ بِالْعَبَّاسِ.

فَلا الْتِفَاتَ بَعْدَ هَذَا إِلَى دَعْوَى بَعْضِ هَؤُلاءِ الْمُشَوِّشِينَ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ فِي إِسْنَادِهِ أَبُو جَعْفَرٍ وَهُوَ رَجُلٌ مَجْهُولٌ، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمُوا بَلْ أَبُو جَعْفَرٍ هَذَا هُوَ أَبُو جَعْفَرٍ الْخِطْمِيُّ ثِقَةٌ، وَكَذَلِكَ دَعْوَى بَعْضِهِمْ وَهُوَ نَاصِرُ الدِّينِ الأَلْبَانِيُّ أَنَّ مُرَادَ الطَّبَرَانِيِّ بِقَوْلِهِ: «وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ» الْقَدْرُ الأَصْلِيُّ وَهُوَ مَا فَعَلَهُ الرَّجُلُ الأَعْمَى فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ فَقَطْ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ مَا فَعَلَهُ الرَّجُلُ أَيَّامَ عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ وَهَذَا مَرْدُودٌ، لِأَنَّ عُلَمَاءَ الْمُصْطَلَحِ قَالُوا: الْحَدِيثُ يُطْلَقُ عَلَى الْمَرْفُوعِ إِلَى النَّبِيِّ وَالْمَوْقُوفِ عَلَى الصَّحَابَةِ، أَيْ أَنَّ كَلامَ الرَّسُولِ يُسَمَّى حَدِيثًا وَقَوْلَ الصَّحَابِيِّ يُسَمَّى حَدِيثًا، وَلَيْسَ لَفْظُ الْحَدِيثِ مَقْصُورًا عَلَى كَلامِ النَّبِيِّ فَقَطْ فِي اصْطِلاحِهِمْ، وَهَذَا الْمُمَوِّهُ كَلامُهُ لا يُوَافِقُ الْمُقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْمُصْطَلَحِ فَلْيَنْظُرْ مَنْ شَاءَ فِي كِتَابِ تَدْرِيبِ الرَّاوِي وَالإِفْصَاحِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ الْمُصْطَلَحِ، فَإِنَّ الأَلْبَانِيَّ لَمْ يَجُرَّهُ إِلَى هَذِهِ الدَّعْوَى إِلَّا شِدَّةُ تَعَصُّبِهِ لِهَوَاهُ وَعَدَمُ مُبَالاتِهِ بِمُخَالَفَةِ الْعُلَمَاءِ كَسَلَفِهِ ابْنِ تَيْمِيَةَ.

أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ» فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى مَنْعِ التَّوَسُّلِ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ لِأَنَّ الْحَدِيثَ مَعْنَاهُ أَنَّ الأَوْلَى بِأَنْ يُسْأَلَ وَيُسْتَعَانَ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ لا تَسْأَلْ غَيْرَ اللَّهِ وَلا تَسْتَعِنْ بِغَيْرِ اللَّهِ. نَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا وَلا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ»، فَكَمَا لا يُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ عَدَمُ جَوَازِ صُحْبَةِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ وَإِطْعَامِ غَيْرِ التَّقِيِّ، وَإِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الأَوْلَى فِي الصُّحْبَةِ الْمُؤْمِنُ وَأَنَّ الأَوْلَى بِالإِطْعَامِ هُوَ التَّقِيُّ، كَذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ لا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا الأَوْلَوِيَّةُ وَأَمَّا التَّحْرِيمُ الَّذِي يَدَّعُونَهُ فَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.

وَلا فَرْقَ بَيْنَ التَّوَسُّلِ وَالِاسْتِغَاثَةِ، فَالتَّوَسُّلُ يُسَمَّى اسْتِغَاثَةً كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَبْلُغَ الْعَرَقُ نِصْفَ الأُذُنِ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ ثُمَّ مُوسَى ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» الْحَدِيثَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ لِحَدِيثِ الشَّفَاعَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَفِي رِوَايَةِ أَنَسٍ رُوِيَ بِلَفْظِ الِاسْتِشْفَاعِ وَكِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ فِي الصَّحِيحِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الِاسْتِشْفَاعَ وَالِاسْتِغَاثَةَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ فَسَمَّى الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الطَّلَبَ مِنْ ءَادَمَ أَنْ يَشْفَعَ لَهُمْ إِلَى رَبِّهِمُ اسْتِغَاثَةً.

ثُمَّ الرَّسُولُ سَمَّى الْمَطَرَ مُغِيثًا، فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ بِالإِسْنَادِ الصَّحِيحِ أَنَّ الرَّسُولَ قَالَ: «اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا مَرِيعًا نَافِعًا غَيْرَ ضَارٍّ عَاجِلًا غَيْرَ ءَاجِلٍ»، فَالرَّسُولُ سَمَّى الْمَطَرَ مُغِيثًا لِأَنَّهُ يُنْقِذُ مِنَ الشِّدَّةِ بِإِذْنِ اللَّهِ، كَذَلِكَ النَّبِيُّ وَالْوَلِيُّ يُنْقِذَانِ مِنَ الشِّدَّةِ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى.

التَّبَرُّكُ بِآثَارِ النَّبِيِّ

اعْلَمْ أَنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَانُوا يَتَبَرَّكُونَ بِآثَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ وَلا زَالَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُمْ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا عَلَى ذَلِكَ، وَجَوَازُ هَذَا الأَمْرِ يُعْرَفُ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَمَ شَعَرَهُ حِينَ حَلَقَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَأَظْفَارَهُ.

أَمَّا اقْتِسَامُ الشَّعَرِ فَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، فَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا رَمَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَمْرَةَ وَنَحَرَ نُسُكَهُ وَحَلَقَ نَاوَلَ الْحَالِقَ شِقَّهُ الأَيْمَنَ فَحَلَقَ ثُمَّ دَعَا أَبَا طَلْحَةَ الأَنْصَارِيَّ فَأَعْطَاهُ ثُمَّ نَاوَلَهُ الشِّقَّ الأَيْسَرَ فَقَالَ: احْلِقْ، فَحَلَقَ فَأَعْطَاهُ أَبَا طَلْحَةَ فَقَالَ: اقْسِمْهُ بَيْنَ النَّاسِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا: فَبَدَأَ بِالشِّقِّ الأَيْمَنِ فَوَزَّعَهُ الشَّعْرَةَ وَالشَّعْرَتَيْنِ بَيْنَ النَّاسِ ثُمَّ قَالَ بِالأَيْسَرِ فَصَنَعَ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: هَهُنَا أَبُو طَلْحَةَ فَدَفَعَهُ إِلَى أَبِي طَلْحَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِمُسْلِمٍ أَيْضًا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ قَالَ لِلْحَلَّاقِ هَا، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْجَانِبِ الأَيْمَنِ فَقَسَمَ شَعَرَهُ بَيْنَ مَنْ يَلِيهِ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى الْحَلَّاقِ إِلَى الْجَانِبِ الأَيْسَرِ فَحَلَقَهُ فَأَعْطَاهُ أُمَّ سُلَيْمٍ، فَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ وَزَّعَ بِنَفْسِهِ بَعْضًا بَيْنَ النَّاسِ الَّذِينَ يَلُونَهُ وَأَعْطَى بَعْضًا لِأَبِي طَلْحَةَ لِيُوَزِّعَهُ فِي سَائِرِهِمْ وَأَعْطَى بَعْضًا أُمَّ سُلَيْمٍ فَفِيهِ التَّبَرُّكُ بِآثَارِ الرَّسُولِ، فَقَدْ قَسَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَعَرَهُ لِيَتَبَرَّكُوا بِهِ وَلِيَسْتَشْفِعُوا إِلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ مِنْهُ وَيَتَقَرَّبُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ، قَسَمَ بَيْنَهُمْ لِيَكُونَ بَرَكَةً بَاقِيَةً بَيْنَهُمْ وَتَذْكِرَةً لَهُمْ. ثُمَّ تَبِعَ الصَّحَابَةَ فِي خُطَّتِهِمْ فِي التَّبَرُّكِ بِآثَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَسْعَدَهُ اللَّهُ وَتَوَارَدَ ذَلِكَ الْخَلَفُ عَنِ السَّلَفِ.

وَأَمَّا اقْتِسَامُ الأَظْفَارِ فَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ قَلَّمَ أَظْفَارَهُ وَقَسَمَهَا بَيْنَ النَّاسِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِيَأْكُلَهَا النَّاسُ بَلْ لِيَتَبَرَّكُوا بِهَا.

أَمَّا جُبَّتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ عَنْ مَوْلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: «أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا جُبَّةً طَيَالِسَةً كِسْرَوَانِيَّةً لَهَا لَبِنَةُ دِيبَاجٍ وَفَرْجَاهَا مَكْفُوفَانِ، وَقَالَتْ: هَذِهِ جُبَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ، فَلَمَّا قُبِضَتْ قَبَضْتُهَا وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ يَلْبَسُهَا فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا لِلْمَرْضَى نَسْتَشْفِي بِهَا»، وَفِي رِوَايَةٍ: «نَغْسِلُهَا لِلْمَرِيضِ مِنَّا».

وَعَنْ حَنْظَلَةَ بنِ حَذْيَمَ قَالَ: «وفَدْتُ مَعَ جَدِّي حَذْيَمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي بَنِينَ ذَوِي لِحًى وَغَيْرَهُمْ وَهَذَا أَصْغَرُهُمْ فَأَدْنَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ وَمَسَحَ رَأْسِي، وَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ، قَالَ الذَّيَّالُ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ حَنْظَلَةَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْوَارِمِ وَجْهُهُ أَوِ الشَّاةِ الْوَارِمِ ضَرْعُهَا، فَيَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ عَلَى مَوْضِعِ كَفِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ فَيَمْسَحُهُ فَيَذْهَبُ الْوَرَمُ»، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوْسَطِ وَالْكَبِيرِ بِنَحْوِهِ، وَأَحْمَدُ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ وَرِجَالُ أَحْمَدَ ثِقَاتٌ.

وَعَنْ ثَابِتٍ قَالَ: «كُنْتُ إِذَا أَتَيْتُ أَنَسًا يُخْبَرُ بِمَكَانِي فَأَدْخُلُ عَلَيْهِ فَآخُذُ بِيَدَيْهِ فَأُقَبِّلُهُمَا وَأَقُولُ: بِأَبِي هَاتَانِ الْيَدَانِ اللَّتَانِ مَسَّتَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ وَأُقَبِّلُ عَيْنَيْهِ وَأَقُولُ بِأَبِي هَاتَانِ الْعَيْنَانِ اللَّتَانِ رَأَتَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ». رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ غَيْرُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أَبِي بَكْرٍ الْمَقْدِمِيِّ وَهُوَ ثِقَةٌ.

وَعَنْ دَاوُدَ بنِ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: أَقْبَلَ مَرْوَانُ [يَعْنِي مَرْوَانَ بنَ الْحَكَمِ] يَوْمًا [وَكَانَ حَاكِمًا عَلَى الْمَدِينَةِ مِنْ قِبَلِ مُعَاوِيَةَ، وَلَمْ يَرَ رَسُولَ اللَّهِ كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ] فَوَجَدَ رَجُلًا وَاضِعًا وَجْهَهُ عَلَى الْقَبْرِ فَقَالَ: أَتَدْرِي مَا تَصْنَعُ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ أَبُو أَيُّوبٍ [وَاسْمُهُ خَالِدُ بنُ زَيْدٍ] فَقَالَ: نَعَم جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ وَلَمْ ءَاتِ الْحَجَرَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ يَقُولُ: لا تَبْكُوا عَلَى الدِّينِ إِذَا وَلِيَهُ أَهْلُهُ وَلَكِنِ ابْكُوا عَلَيْهِ إِذَا وَلِيَهُ غَيْرُ أَهْلِهِ [مَعْنَاهُ أَنْتَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ يَا مَرْوَانُ، لَسْتَ أَهْلًا لِتَوَلِّي الأَمْرِ] رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالأَوْسَطِ.

وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلائِلِ النُّبُوَّةِ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَغَيْرُهُمَا بِالإِسْنَادِ أَنَّ خَالِدَ بنَ الْوَلِيدِ فَقَدَ قَلَنْسُوَةً لَهُ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ فَقَالَ: اطْلُبُوهَا، فَلَمْ يَجِدُوهَا، ثُمَّ طَلَبُوهَا فَوَجَدُوهَا، فَقَالَ خَالِدٌ: اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ فَحَلَقَ رَأْسَهُ فَابْتَدَرَ النَّاسُ جَوَانِبَ شَعَرِهِ فَسَبَقْتُهُمْ إِلَى نَاصِيَتِهِ فَجَعَلْتُهَا فِي هَذِهِ الْقَلَنْسُوَةِ فَلَمْ أَشْهَدْ قِتَالًا وَهِيَ مَعِي إِلَّا رُزِقْتُ النَّصْرَ. وَهَذِهِ الْقِصَّةُ صَحِيحَةٌ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الشَّيْخُ حَبِيبُ الرَّحْمٰنِ الأَعْظَمِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ فَقَالَ «قَالَ الْبُوصِيرِيُّ رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَقَالَ الْهَيْثَمِيُّ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو يَعْلَى بِنَحْوِهِ وَرِجَالُهُمَا رِجَالُ الصَّحِيحِ» اهـ.

فَلا الْتِفَاتَ بَعْدَ هَذَا إِلَى دَعْوَى مُنْكِرِي التَّوَسُّلِ وَالتَّبَرُّكِ بِآثَارِهِ الشَّرِيفَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ.

الِاجْتِهَادُ وَالتَّقْلِيدُ

الِاجْتِهَادُ هُوَ اسْتِخْرَاجُ الأَحْكَامِ الَّتِي لَمْ يَرِدْ فِيهَا نَصٌّ صَرِيحٌ لا يَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدًا. فَالْمُجْتَهِدُ مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ حَافِظًا لِآيَاتِ الأَحْكَامِ وَأَحَادِيثِ الأَحْكَامِ وَمَعْرِفَةِ أَسَانِيدِهَا وَمَعْرِفَةِ أَحْوَالِ رِجَالِ الإِسْنَاد، وَمَعْرِفَةِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَالْعَامِّ وَالْخَاصِّ وَالْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، وَمَعَ إِتْقَانِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِحَيْثُ إِنَّهُ يَحْفَظُ مَدْلُولاتِ أَلْفَاظِ النُّصُوصِ عَلَى حَسَبِ اللُّغَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْءَانُن وَمَعْرِفَةِ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُجْتَهِدُونَ وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ لا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرِقَ الإِجْمَاعَ أَيْ إِجْمَاعَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ.

وَيُشْتَرَطُ فَوْقَ ذَلِكَ شَرْطٌ وَهُوَ رُكْنٌ عَظِيمٌ فِي الِاجْتِهَادِ وَهُوَ فِقْهُ النَّفْسِ أَيْ قُوَّةُ الْفَهْمِ وَالإِدْرَاكِ.

وَتُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ وَهِيَ السَّلامَةُ مِنَ الْكَبَائِرِ وَمِنَ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى الصَّغَائِرِ بِحَيْثُ تَغْلِبُ عَلَى حَسَنَاتِهِ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ.

وَأَمَّا الْمُقَلِّدُ فَهُوَ الَّذِي لَمْ يَصِلْ إِلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى هَاتَيْنِ الْمَرْتَبَتَيْنِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا، فَرُبَّ مُبَلِّغٍ لا فِقْهَ عِنْدَهُ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ.

الشَّاهِدُ فِي الْحَدِيثِ قَوْلُهُ: «فَرُبَّ مُبَلِّغٍ لا فِقْهَ عِنْدَهُ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «وَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ»، فَإِنَّهُ يُفْهِمُنَا أَنَّ مِمَّنْ يَسْمَعُونَ الْحَدِيثَ مِنَ الرَّسُولِ مَنْ حَظُّهُ أَنْ يَرْوِيَ مَا سَمِعَهُ لِغَيْرِهِ وَيَكُونُ هُوَ فَهْمُهُ أَقَلَّ مِنْ فَهْمِ مَنْ يُبَلِّغُهُ بِحَيْثُ إِنَّ مَنْ يُبَلِّغُهُ هَذَا السَّامِعُ يَسْتَطِيعُ مِنْ قُوَّةِ قَرِيحَتِهِ أَنْ يَسْتَخْرِجَ مِنْهُ أَحْكَامًا وَمَسَائِلَ - وَيُسَمَّى هَذَا الِاسْتِنْبَاطَ - وَالَّذِي سَمِعَ لَيْسَ عِنْدَهُ هَذِهِ الْقَرِيحَةُ الْقَوِيَّةُ إِنَّمَا يَفْهَمُ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ قَرِيبٌ مِنَ اللَّفْظِ. مِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ يَكُونُ أَقَلَّ فَهْمًا مِمَّنْ يَسْمَعُ مِنْهُمْ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ. وَفِي لَفْظٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ: «فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ»، وَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ فِي التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ.

وَهَذَا الْمُجْتَهِدُ هُوَ مَوْرِدُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَإِنَّمَا خَصَّ رَسُولُ اللَّهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْحَاكِمَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَحْوَجُ إِلَى الِاجْتِهَادِ مِنْ غَيْرِهِ فَقَدْ مَضَى مُجْتَهِدُونَ فِي السَّلَفِ مَعَ كَوْنِهِمْ حَاكِمِينَ كَالْخُلَفَاءِ السِّتَّةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَالْحَسَنِ بنِ عَلِيٍّ وَعُمَرَ بنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَشُرَيْحٍ الْقَاضِي.

وَقَدْ عَدَّ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ الَّذِينَ أَلَّفُوا فِي كُتُبِ مُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ الْمُفْتِينَ فِي الصَّحَابَةِ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ [كَمَا فِي كُتُبِ الْمُصْطَلَحِ كَتَدْرِيبِ الرَّاوِي لِلسُّيُوطِيِّ] قِيلَ: نَحْوُ سِتَّةٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: نَحْوُ مِائَتَيْنِ مِنْهُمْ بَلَغَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الأَصَحُّ. فَإِذَا كَانَ الأَمْرُ فِي الصَّحَابَةِ هَكَذَا فَمِنْ أَيْنَ يَصِحُّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْءَانَ وَيُطَالِعَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَنْ يَقُولَ أُولَئِكَ رِجَالٌ وَنَحْنُ رِجَالٌ فَلَيْسَ عَلَيْنَا أَنْ نُقَلِّدَهُمْ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ أَكْثَرَ السَّلَفِ كَانُوا غَيْرَ مُجْتَهِدِينَ بَلْ كَانُوا مُقَلِّدِينَ لِلْمُجْتَهِدِينَ فِيهِمْ، فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ رَجُلًا كَانَ أَجِيرًا لِرَجُلٍ فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ فَسَأَلَ أَبُوهُ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ عَلَى ابْنِكَ مِائَةَ شَاةٍ وَأَمَةٍ، ثُمَّ سَأَلَ أَهْلَ الْعِلْمِ فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ عَلَى ابْنِكَ جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ، فَجَاءَ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ زَوْجِ الْمَرْأَةِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ عَسِيفًا - أَيْ أَجِيرًا - عَلَى هَذَا وَزَنَى بِامْرَأَتِهِ فَقَالَ لِي نَاسٌ: عَلَى ابْنِكَ الرَّجْمُ فَفَدَيْتُ ابْنِي مِنْهُ بِمِائَةٍ مِنَ الْغَنَمِ وَوَلِيدَةٍ، ثُمَّ سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَقَالُوا: إِنَّمَا عَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، أَمَّا الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ فَرَدٌّ عَلَيْهِ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ».

فَهَذَا الرَّجُلُ مَعَ كَوْنِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ سَأَلَ أُنَاسًا مِنَ الصَّحَابَةِ فَأَخْطَأُوا الصَّوَابَ ثُمَّ سَأَلَ عُلَمَاءَ مِنْهُمْ ثُمَّ أَفْتَاهُ الرَّسُولُ بِمَا يُوَافِقُ مَا قَالَهُ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءُ، فَإِذَا كَانَ الرَّسُولُ أَفْهَمَنَا أَنَّ بَعْضَ مَنْ كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْهُ الْحَدِيثَ لَيْسَ لَهُمْ فِقْهٌ أَيْ مَقْدِرَةٌ عَلَى اسْتِخْرَاجِ الأَحْكَامِ مِنْ حَدِيثِهِ وَإِنَّمَا حَظُّهُمْ أَنْ يَرْوُوا عَنْهُ مَا سَمِعُوهُ مَعَ كَوْنِهِمْ يَفْهَمُونَ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ الْفُصْحَى فَمَا بَالُ هَؤُلاءِ الْغَوْغَاءِ الَّذِينَ يَتَجَرَّءُونَ عَلَى قَوْلِ: «أُولَئِكَ رِجَالٌ وَنَحْنُ رِجَالٌ»، أُولَئِكَ رِجَالٌ يَعْنُونَ الْمُجْتَهِدِينَ كَالأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ.

وَفِي هَذَا الْمَعْنَى مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ قِصَّةِ الرَّجُلِ الَّذِي كَانَتْ بِرَأْسِهِ شَجَّةٌ فَأَجْنَبَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فَاسْتَفْتَى مَنْ مَعَهُ فَقَالُوا لَهُ: اغْتَسِلْ، فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ، أَلا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا، فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ» أَيْ شِفَاءُ الْجَهْلِ السُّؤَالُ أَيْ سُؤَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: «إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً ثُمَّ يَمْسَحُ عَلَيْهَا وَيَغْسِلُ سَائِرَ جَسَدِهِ» الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الِاجْتِهَادُ يَصِحُّ مِنْ مُطْلَقِ الْمُسْلِمِينَ لَمَا ذَمَّ رَسُولُ اللَّهِ هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَفْتَوْهُ وَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْفَتْوَى.

ثُمَّ وَظِيفَةُ الْمُجْتَهِدِ الَّتِي هِيَ خَاصَّةٌ لَهُ الْقِيَاسُ، أَيْ أَنْ يَعْتَبِرَ مَا لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ بِمَا وَرَدَ فِيهِ نَصٌّ لِشَبَهٍ بَيْنَهُمَا.

فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنَ الَّذِينَ يَحُثُّونَ أَتْبَاعَهُمْ عَلَى الِاجْتِهَادِ مَعَ كَوْنِهِمْ وَكَوْنِ مَتْبُوعِيهِمْ بَعِيدِينَ عَنْ هَذِهِ الرُّتْبَةِ فَهَؤُلاءِ يُخَرِّبُونَ وَيَدْعُونَ أَتْبَاعَهُمْ إِلَى التَّخْرِيبِ فِي أُمُورِ الدِّينِ. وَشَبِيهٌ بِهَؤُلاءِ أُنَاسٌ تَعَوَّدُوا فِي مَجَالِسِهِمْ أَنْ يُوَزِّعُوا عَلَى الْحَاضِرِينَ تَفْسِيرَ ءَايَةٍ أَوْ حَدِيثٍ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ لَهُمْ تَلَقٍّ مُعْتَبَرٌ مِنْ أَفْوَاهِ الْعُلَمَاءِ. فَهَؤُلاءِ الْمُدَّعُونَ شَذُّوا عَنْ عُلَمَاءِ الأُصُولِ لِأَنَّ عُلَمَاءَ الأُصُولِ قَالُوا: «الْقِيَاسُ وَظِيفَةُ الْمُجْتَهِدِ» وَخَالَفُوا عُلَمَاءَ الْحَدِيثِ أَيْضًا.

خَاتِمَةٌ

خُلاصَةُ مَا مَضَى مِنَ الأَبْحَاثِ أَنَّ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَنَطَقَ بِالشَّهَادَةِ وَلَوْ مَرَّةً فِي الْعُمُرِ وَرَضِيَ بِذَلِكَ اعْتِقَادًا فَهُوَ مُسْلِمٌ مُؤْمِنٌ.

وَمَنْ عَرَفَ وَنَطَقَ وَلَمْ يَعْتَقِدْ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ وَلا بِمُؤْمِنٍ عِنْدَ اللَّهِ، وَأَمَّا عِنْدَنَا فَهُوَ مُسْلِمٌ لِخَفَاءِ بَاطِنِهِ عَلَيْنَا، وَإِنْ كَانَ يَتَظَاهَرُ بِالإِسْلامِ وَيَكْرَهُ الإِسْلامَ بَاطِنًا أَوْ يَتَرَدَّدُ فِي قَلْبِهِ هَلِ الإِسْلامُ صَحِيحٌ أَمْ لا فَهُوَ مُنَافِقٌ كَافِرٌ وَهُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ [سُورَةَ النِّسَاء/145]، فَهُوَ وَالْكَافِرُ الْمُعْلِنُ خَالِدَانِ فِي النَّارِ خُلُودًا أَبَدِيًّا.

وَقَوْلُ الْبَعْضِ: يَصِحُّ إِيـمَانُ الْكَافِرِ بِلا نُطْقٍ مَعَ التَّمَكُّنِ قَوْلٌ بَاطِلٌ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: «مَنْ نَشَأَ بَيْنَ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ يَكْفِيهِ الْمَعْرِفَةُ وَالِاعْتِقَادُ بِصِحَّةِ إِسْلامِهِ وَإِيـمَانِهِ لَوْ لَمْ يَنْطِقْ بِالْمَرَّةِ».

ثُمَّ مَنْ صَحَّ لَهُ أَصْلُ الإِيـمَانِ وَالإِسْلامِ وَلَوْ لَمْ يَقُمْ بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ الْعَمَلِيَّةِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصِيَامِ رَمَضَانَ وَلَمْ يَجْتَنِبِ الْمُحَرَّمَاتِ إِلَى أَنْ مَاتَ وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ قَبْلَ أَنْ يَتُوبَ فَقَدْ نَجَا مِنَ الْخُلُودِ الأَبَدِيِّ فِي النَّارِ، ثُمَّ قِسْمٌ مِنْهُمْ يُسَامِحُهُمُ اللَّهُ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ بِلا عَذَابٍ وَقِسْمٌ مِنْهُمْ يُعَذِّبُهُمْ ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُسَامِحُهُ وَمَنْ لا يُسَامِحُهُ.

وَأَمَّا مَنْ مَاتَ بَعْدَ أَنْ تَابَ فَأَدَّى جَمِيعَ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَاجْتَنَبَ الْمُحَرَّمَاتِ فَهُوَ كَأَنَّهُ لَمْ يُذْنِبْ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لا ذَنْبَ لَهُ» حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.

وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُسْلِمُ أَوْ أُقَاتِلُ؟ قَالَ: أَسْلِمْ ثُمَّ قَاتِلْ، فَأَسْلَمَ فَقَاتَلَ فَقُتِلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَمِلَ قَلِيلًا وَأُجِرَ كَثِيرًا»، أَيْ لِأَنَّهُ نَالَ الشَّهَادَةَ بَعْدَ أَنْ هَدَمَ الإِسْلامُ كُلَّ ذَنْبٍ قَدَّمَهُ فَالْفَضْلُ لِلإِسْلامِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُسْلِمْ لَمْ يَنْفَعْهُ أَيُّ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ. وَهَذَا الرَّجُلُ كَانَ الْتَحَقَ بِالْمُجَاهِدِينَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ قَوْمَهُ الَّذِينَ هُمْ مُسْلِمُونَ خَرَجُوا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْلِمَ ثُمَّ أَلْهَمَهُ اللَّهُ أَنْ يَسْأَلَ الرَّسُولَ فَسَأَلَ فَأَرْشَدَهُ الرَّسُولُ إِلَى أَنْ يُسْلِمَ ثُمَّ يُقَاتِل.

خَاتِمَةُ الْخَاتِمَةِ

لِيُفَكِّرِ الْعَاقِلُ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿مَّا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [سُورَةَ ق/18].

فَإِنَّ مَنْ فكَّرَ فِي ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّ كُلَّ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ فِي الْجِدِّ أَوِ الْهَزْلِ أَوْ فِي حَالِ الرِّضَا أَوِ الْغَضَبِ يُسَجِّلُهُ الْمَلَكَانِ، فَهَلْ يَسُرُّ الْعَاقِلَ أَنْ يَرَى فِي كِتَابِهِ حِينَ يُعْرَضُ عَلَيْهِ فِي الْقِيَامَةِ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ الْخَبِيثَةُ؟ بَلْ يَسُوؤُهُ ذَلِكَ وَيُحْزِنُهُ حِينَ لا يَنْفَعُ النَّدَمُ، فَلْيَعْتَنِ بِحِفْظِ لِسَانِهِ مِنَ الْكَلامِ بِمَا يَسُوؤُهُ إِذَا عُرِضَ عَلَيْهِ فِي الآخِرَةِ.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَصْلَتَانِ مَا إِنْ تَجَمَّلَ الْخَلائِقُ بِمِثْلِهِمَا حُسْنُ الْخُلُقِ وَطُولُ الصَّمْتِ»، رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بنُ مُحَمَّدٍ أَبُو بَكْرِ بنُ أَبِي الدُّنْيَا الْقُرَشِيُّ فِي كِتَابِ الصَّمْتِ.


انتهى الكتاب

وسبحان الله والحمد لله رب العالمين
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد الأمين وءاله وأصحابه الطيبين
TohaKepriben

Previous Post Next Post