كتاب نور الصراط المستقيم

نُورُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ

الْكَاشِفُ لِطَرِيقِ أَهْلِ النَّعِيمِ الأَبدِى

الطَّبْعَةُ الثَّانِيَةُ


عَمِلَهُ

الشَّيْخُ سَمِيرُ بنُ سَامِى الْقَاضِى



بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ


الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْمُنْفَرِدِ بِالأُلُوهِيَّةِ وَالْمَنْعُوتِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ الْمُنَزَّهِ عَنْ شَرِيكٍ فِى التَّخْلِيقِ وَالإِبْدَاعِ وَالْمُتَعَالِى عَنْ نَظِيرٍ فِى الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَبْعُوثِ لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَرَحْمَةً وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى ءَالِهِ وَصَحْبِهِ وَبَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ فَرَضَ مَعْرِفَتَهُ لِتَصِحَّ عِبَادَتُهُ فَمَنْ عَرَفَ مَا يَجِبُ لَهُ وَيَجُوزُ وَيَسْتَحِيلُ فِى حَقِّهِ فَقَدْ أَدَّى الْفَرْضَ وَمَنْ جَهِلَ ذَلِكَ فَتَذَلَّلَ غَايَةَ التَّذَلُّلِ لِغَيْرِ ذَاتِهِ وَلِمَنْ يَتَّصِفُ بِصِفَاتٍ غَيْرِ صِفَاتِهِ فَقَدْ عَبَدَ فِى الْوَاقِعِ غَيْرَ الْخَالِقِ تَقَدَّسَ وَتَعَالَى وَخَشَعَ لِغَيْرِ الإِلَهِ الْوَاحِدِ وَلَمْ يَصِحَّ فِى التَّوْحِيدِ عَقْدُهُ وَلا ثَبَتَتْ فِيهِ قَدَمُهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ جَهِلَ مَا يَجِبُ لِرَسُولِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يَجُوزُ فِى حَقِّهِ وَمَا يَسْتَحِيلُ فَنَسَبَهُ إِلَى مَا لا يَلِيقُ بِهِ وَوَصَفَهُ بِمَا يُنَاقِضُ نَعْتَهُ وَمَنْصِبَهُ فَقَدْ وَقَعَ فِى هُوَّةِ التَّلَفِ وَلَمْ يَنْفَعْهُ تَصْدِيقُهُ بِوُجُودِ الْخَالِقِ تَعَالَى مَعَ تَكْذِيبِهِ لِرَسُولِهِ الَّذِى أَرْسَلَهُ وَنَصَبَ الأَدِلَّةَ الْقَاطِعَةَ عَلَى وُجُوبِ تَصْدِيقِهِ إِذْ كَانَ تَكْذِيبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ تَكْذِيبًا لِمَنْ بَعَثَهُ، فَلَمَّا كَانَتْ مَعْرِفَةُ اللَّهِ عَلَى مَا يَجِبُ وَمَعْرِفَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذِهِ الْمَثَابَةِ وَالْجَهْلُ بِهِمَا عَلَى الدَّرَجَةِ الْمَوْصُوفَةِ مِنَ الْخُطُورَةِ قَامَ شَيْخُنَا الْمُتَكَلِّمُ الْفَقِيهُ الْمُحَدِّثُ اللُّغَوِىُّ عَبْدُ اللَّهِ بنُ مُحَمَّدٍ الْهَرَرِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِتَصْنِيفِ كِتَابِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ بَيَّنَ فِيهِ أُصُولَ الدِّينِ الْمُنْجِيَةَ بِتَحْرِيرٍ وَتَحْقِيقٍ وَإِتْقَانٍ وَضَبْطٍ وَسُهُولَةٍ وَسَلاسَةٍ وَعِبَارَاتٍ وَاضِحَةٍ يَسْهُلُ فَهْمُهَا لَيْسَ فِيهَا لُبْسٌ وَلا تَدْلِيسٌ وَلا مُدَاهَنَةٌ رَاعَى فِيهَا أَحْوَالَ أَهْلِ الْعَصْرِ وَأَفْهَامَهُمْ وَاعْتَبَرَ حَاجَاتِهِمْ وَمَا انْتَشَرَ مِنَ الْبِدَعِ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ ثُمَّ عَمِلَ لِهَذَا الْكِتَابِ شَرْحًا بَسَطَ فِيهِ الْبَيَانَ بَعْضَ الْبَسْطِ سَمَّاهُ الشَّرْحَ الْقَوِيمَ فَكَانَ كَاسْمِهِ إِيضَاحًا وَاسْتِقَامَةً فَرَأَيْتُ حَاجَةً لِحَلٍّ مُخْتَصَرٍ لِأَلْفَاظِ كِتَابِ الصِّرَاطِ يَكُونُ تَوْطِئَةً وَمُقَدِّمَةً لِلشَّرْحِ الْقَوِيمِ وَحَاوِيًا لِنُكَتٍ وَفَوَائِدَ لَمْ تُذْكَرْ فِيهِ، فَأَقْدَمْتُ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ تَرَدُّدٍ وَعَمِلْتُ شَرْحًا مُخْتَصَرًا مَمْزُوجًا بِالْمَتْنِ سَمَّيْتُهُ نُورَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الْكَاشِفَ لِطَرِيقِ أَهْلِ النَّعِيمِ الأَبدِى وَاللَّهُ تَعَالَى الْمَسْئُولُ أَنْ يَنْفَعَ بِهِ وَيَجْعَلَهُ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ إِنَّهُ كَرِيمٌ وَهَّابٌ فَقُلْتُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ

أَبْتَدِئُ (بِسْمِ اللَّهِ) وَهُوَ عَلَمٌ لِلذَّاتِ الْمُقَدَّسِ أَىِ اسْمٌ دَالٌّ عَلَى الذَّاتِ الْمُسْتَحِقِّ لِنِهَايَةِ التَّعْظِيمِ وَغَايَةِ الْخُضُوعِ وَمَعْنَاهُ مَنْ لَهُ الإِلَهِيَّةُ وَهِىَ الْقُدْرَةُ عَلَى اخْتِرَاعِ الْجَوَاهِرِ وَالأَعْرَاضِ أَىِ الأَحْجَامِ وَصِفَاتِ الأَحْجَامِ أَىِ الْمُخْرِجُ لَهَا مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ (الرَّحْمٰنِ الرَّحيمِ) وَهُمَا اسْمَانِ لِلذَّاتِ الْمُقَدَّسِ الْمُتَّصِفِ بِالرَّحْمَةِ وَالأَوَّلُ مَعْنَاهُ الْكَثِيرُ الرَّحْمَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فِى الدُّنْيَا وَلِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً فِى الآخِرَةِ وَأَمَّا الرَّحِيمُ فَمَعْنَاهُ الْكَثِيرُ الرَّحْمَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ.

عُنْوَانُ هَذَا الْكِتَابِ (الصِّرَاطُ) وَهُوَ الطَّرِيقُ (الْمُسْتَقِيمُ) أَىِ الْقَوِيمُ فَيَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ يُبَيِّنُ الطَّرِيقَ الْحَقَّ الَّذِى لا اعْوِجَاجَ فِيهِ.

(الْحَمْدُ) أَىِ الثَّنَاءُ بِاللِّسَانِ عَلَى الْجَمِيلِ الِاخْتِيَارِىِّ عَلَى جِهَةِ التَّبْجِيلِ وَالتَّعْظِيمِ مُسْتَحَقٌّ (لِلَّهِ) تَعَالَى أَىْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُثْنَى عَلَيْهِ عَلَى نِعَمِهِ الَّتِى لا تُحْصَى الظَّاهِرَةِ مِنْهَا وَالْبَاطِنَةِ مِمَّا تَفَضَّلَ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ (وَالصَّلاةُ) أَىِ التَّعْظِيمُ (وَالسَّلامُ) أَىِ الأَمَانُ (عَلَى رَسُولِ اللَّهِ) مُحَمَّدٍ وَهِىَ جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ لَفْظًا دُعَائِيَّةٌ مَعْنًى أَىِ اللَّهُمَّ زِدْ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْظِيمًا وَأَمِّنْهُ مِمَّا يَخَافُ عَلَى أُمَّتِهِ.

(قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الْحَشْرِ (﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾) أَىْ يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَتَّقِىَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنْ يُرَاقِبَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِاسْتِدَامَةِ خَوْفٍ يَحْمِلُهُ عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ (وَ)يَنْبَغِى أَنْ يُحَاسِبَ نَفْسَهُ قَبْلَ أَنْ يُحَاسَبَ وَأَنْ يَتَفَكَّرَ فِى مَا يُعِدُّ وَيُقَدِّمُ لِآخِرَتِهِ الَّتِى يَنْفَعُ فِيهَا الْعَمَلُ الصَّالِحُ (قَالَ) سَيِّدُنَا (عَلِىُّ) بنُ أَبِى طَالِبٍ (رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَرَّمَ وَجْهَهُ) ارْتحَلَتِ الدُّنْيَا أَىْ سَارَتْ مُدْبِرَةً أَىْ إِلَى الِانْقِطَاعِ وَالزَّوَالِ وَارْتَحَلَتِ الآخِرَةُ مُقْبِلَةً وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ وَلا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا (الْيَوْمَ) أَىْ فِى الدُّنْيَا (الْعَمَلُ) وَلا حِسَابَ أَىْ فَلَيْسَتْ دَارًا لَهُ (وَغَدًا) أَىْ فِى الآخِرَةِ (الْحِسَابُ) أَىِ الْجَزَاءُ وَلا عَمَلَ اﻫ فَلَيْسَتْ دَارًا لِلتَّكْلِيفِ (رَوَاهُ الْبُخاَرِىُّ فِى كِتَابِ الرِّقَاقِ) مِنَ الْجَامِعِ الْمُسْنَدِ لَهُ الْمَعْرُوفِ بِاسْمِ صَحِيحِ الْبُخَارِىِّ.


(أَعْظَمُ حُقُوقِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ)


(اعْلَمْ أَنَّ أَعْظَمَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ) أَىْ أَعْظَمَ الْفَرَائِضِ الَّتِى أَمَرَ اللَّهُ بِهَا (هُوَ تَوْحِيدُهُ تَعَالَى وَأَنْ لا يُشْرَكَ بِهِ شَىْءٌ لِأَنَّ الإِشْرَاكَ بِاللَّهِ هُوَ أَكْبَرُ ذَنْبٍ يَقْتَرِفُهُ الْعَبْدُ وَهُوَ الذَّنْبُ الَّذِى لا يَغْفِرُهُ اللَّهُ) لِمَنْ مَاتَ عَلَيْهِ (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمـَنْ يَشَاءُ قَالَ تَعَالَى) فِى سُورَةِ النِّسَاءِ (﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾) أَىْ لِمَنْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ (﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾) أَىْ لِمَنْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ أَيْضًا (وَكَذَلِكَ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ لا يَغْفِرُهَا اللَّهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ مُحَمَّدٍ (﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾) فَالشَّرْطُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِى الآيَةِ لِامْتِنَاعِ الْمَغْفِرَةِ لِلْكَافِرِ هُوَ وَفَاتُهُ عَلَى الْكُفْرِ فَإِنَّهَا نَصَّتْ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ كَافِرًا لا يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ الْكُفْرُ شِرْكًا أَمْ غَيْرَهُ وَسَوَاءٌ كَانَ الْكَافِرُ مِمَّنْ يَمْنَعُ غَيْرَهُ عَنِ الدُّخُولِ فِى الإِسْلامِ أَمْ لمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ إِذَا مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ مَحْرُومٌ مِنْ مَغْفِرَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ. وَالشِّرْكُ هُوَ عِبَادَةُ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَكُلُّ شِرْكٍ كُفْرٌ وَلَيْسَ كُلُّ كُفْرٍ شِرْكًا.

(وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ شَهِدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ) أَىْ بِشَارَتُهُ الَّتِى بَشَّرَتْهَا بِهَا الْمَلائِكَةُ بِأَمْرِ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ تُنْفَخَ فِيهَا رُوحُ سَيِّدِنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ (وَرُوْحٌ مِنْهُ) أَىْ رُوحٌ مُشَرَّفٌ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ صَادِرٌ مِنْهُ خَلْقًا وَتَكْوِينًا (وَالْجَنَّةَ حَقٌّ) أَىْ دَارُ نَعِيمٍ مَوْجُودَةٌ الآنَ وَبَاقِيَةٌ إِلَى مَا لا نِهَايَةَ لَهُ (وَالنَّارَ حَقٌّ) أَىْ دَارُ عِقَابٍ مَوْجُودَةٌ الآنَ وَبَاقِيَةٌ إِلَى مَا لا نِهَايَةَ لَهُ (أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ) اﻫ أَىْ وَفَّقَهُ اللَّهُ إِذَا دَاوَمَ عَلَى قَوْلِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ بِتَمَامِهَا كُلَّ يَوْمٍ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ بِحَيْثُ يَحْسُنُ حَالُهُ وَخِتَامُهُ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَذَابٍ وَالْحَدِيثُ (رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ وَمُسْلِمٌ) وَقِيلَ فِى مَعْنَاهُ إِنَّهُ لا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَلَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ وَمَاتَ مِنْ غَيْرِ التَّوْبَةِ (وَفِى حَدِيثٍ ءَاخَرَ فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ) أَىْ حَرَّمَ أَنْ يَبْقَى فِيهَا إِلَى الأَبَدِ (مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) أَىْ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ (يَبْتَغِى بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ) اﻫ أَىِ الْقُرْبَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ لا نِفَاقًا وَمُرَاءَاةَ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ وَالْحَدِيثُ (رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ).

(وَيَجِبُ قَرْنُ الإِيمَانِ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بِشَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الشَّهَادَتَيْنِ ضَرُورِىٌّ لِصِحَّةِ الإِيمَانِ وَالإِسْلامِ (وَذَلِكَ) أَىِ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ اعْتِقَادِ مَعْنَاهُمَا (أَقَلُّ شَىْءٍ يَحْصُلُ بِهِ النَّجَاةُ مِنَ الْخُلُودِ الأَبَدِىِّ فِى النَّارِ) كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الأَعْرَافِ ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾. وَإِنَّما اكْتُفِىَ فِى الْحَدِيثِ بِذِكْرِ الشَّهَادَةِ الأُولَى لِأَنَّ ذِكْرَهَا فِى هَذَا الْمَقَامِ مَلْحُوظٌ فِيهِ فِى عُرْفِ الشَّرْعِ الشَّهَادَةُ الثَّانِيَةُ.


بَيَانُ (مَعْنَى الشَّهَادَتَيْنِ)


(فَمَعْنَى شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِجْمَالًا) مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ (أَعْتَرِفُ بِلِسَانِى وَأَعْتَقِدُ) بِجَنَانِى (وَأُذْعِنُ) أَىْ تَرْضَى نَفْسِى بِمَا عَرَفْتُ (بِقَلْبِى أَنَّ الْمَعْبُودَ بِحَقٍّ) أَىِ الْمُسْتَحِقَّ لِنِهَايَةِ التَّذَلُّلِ وَغَايَةِ التَّعْظِيمِ (هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَقَطْ) وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِى مَعْنَى الشَّهَادَةِ الأُولَى وَالْقَوْلُ الثَّانِى هُوَ مَا قَالَهُ أَبُو الْحَسَنِ الأَشْعَرِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَذَكَرَهُ الإِمَامُ الْبَيْهَقِىُّ فِى كِتَابِ الِاعْتِقَادِ وَنُقِلَ عَنْ أَبِى مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِىِّ أَيْضًا أَنَّهُ الِاعْتِرَافُ بِاللِّسَانِ وَالإِذْعَانُ بِالْقَلْبِ أَنْ لا خَالِقَ لِشَىْءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ مُبْرِزًا لَهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ حَجْمًا كَانَ أَوْ صِفَةً إِلَّا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَهَذَا يَقْتَضِى أَنْ لا يَسْتَحِقَّ أَحَدٌ الْعِبَادَةَ إِلَّا هُوَ. قَالَ شَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهَذَا التَّفْسِيرُ أَحْسَنُ اﻫ.

(وَمَعْنَى شَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَعْتَرِفُ بِلِسَانِى وَأُذْعِنُ بِقَلْبِى أَنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّدًا) أَىِ ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بنِ هَاشِمِ بنِ عَبْدِ مَنَافٍ الْقُرَشِىَّ (صَلَّى اللَّهَ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِلَى كَافَّةِ الْعَالَمِينَ مِنْ إِنْسٍ) أَىْ بَشَرٍ مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ (وَجِنٍّ) لِيُبَلِّغَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيُبَشِّرَ مَنْ أَطَاعَ فَآمَنَ بِالثَّوَابِ الْعَظِيمِ وَيُنْذِرَ مَنْ أَعْرَضَ فَكَفَرَ بِالْعَذَابِ الأَلِيمِ كَمَا قَالَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ فِى سُورَةِ الْفُرْقَانِ ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ فَالْمُرَادُ بِالْعَالَمِينَ فِى هَذِهِ الآيَةِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ وَلا دُخُولَ لِلْمَلائِكَةِ فِيهِمْ لِأَنَّهُمْ لا يَعْصُونَ اللَّهَ أَبَدًا وَلا يَخْتَارُونَ إِلَّا الطَّاعَةَ فَلا يَحْتَاجُونَ إِلَى الإِنْذَارِ. وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (صَادِقٌ فِى كُلِّ مَا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى) لِلثَّقَلَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ مِنَ الأُمُورِ الَّتِى سَتَحْدُثُ فِى الْمُسْتَقْبَلِ أَمْ مِنْ أَخْبَارِ الأُمَمِ الْمَاضِيَةِ أَمْ مِنَ التَّحْلِيلِ أَمِ التَّحْرِيمِ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ (لِيُؤْمِنُوا) أَىْ لِيَأْمُرَهُمْ بِالإِيمَانِ (بِشَرِيعَتِهِ وَيَتَّبِعُوهُ) فِى مَا جَاءَ بِهِ كُلِّهِ فَإِنَّهُ لا يُخْطِئُ فِى شَىْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَمَا ثَبَتَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلٌّ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُدَعُ غَيْرَ نَبِىِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اﻫ فَمَن عَرَفَ بِثُبُوتِ حُكْمٍ مِنَ الأَحْكَامِ فِى الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ ثُمَّ رَدَّهُ فَهُوَ كَافِرٌ مَهْمَا كَانَ هَذَا الْحُكْمُ لِأَنَّ رَدَّهُ تَكْذِيبٌ لِلَّهِ وَلِلنَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَفَى بِذَلِكَ كُفْرًا.

(وَ)يَتَلَخَّصُ أَنَّ (الْمُرَادَ بِالشَّهَادَتَيْنِ نَفْىُ الأُلُوهِيَّةِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ وَإِثْبَاتُهَا لِلَّهِ تَعَالَى مَعَ الإِقْرَارِ بِرِسَالَةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَهَذَا هُوَ الأَصْلُ الَّذِى لا بُدَّ مِنْ تَحْصِيلِهِ لِيَكُونَ الشَّخْصُ مُسْلِمًا مُؤْمِنًا فَمَنْ حَصَّلَهُ وَلَمْ يَسْتَحْضِرْ مَا يَزِيدُ عَلَيْهِ وَلا جَاءَ بِمَا يُنَاقِضُهُ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا أَوِ اعْتِقَادًا فَهُوَ مُسْلِمٌ مُؤْمِنٌ يَعْبُدُ اللَّهَ وَيُصَدِّقُ بِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْعِبَادَةُ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهَا هِىَ نِهَايَةُ التَّذَلُّلِ أَوْ غَايَةُ الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ وَهَذَا مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ النُّصُوصُ وَتَعْرِفُهُ الْعَرَبُ فِى تَخَاطُبِهِمْ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ وَالدِّينِ، وَأَمَّا مَا ابْتَدَعَهُ الْوَهَّابِيَّةُ حَيْثُ قَالُوا إِنَّ الْعِبَادَةَ هِىَ الِاسْتِعَانَةُ وَالِاسْتِغَاثَةُ وَالنِّدَاءُ وَالْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ وَاتَّخَذُوا ذَلِكَ بَابًا لِيُكَفِّرُوا مَنْ قَالَ مِنَ الأُمَّةِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْ يَا مُحَمَّدُ فَهُوَ افْتِرَاءٌ ظَاهِرٌ وَأَمْرٌ انْفَرَدُوا بِهِ عَنِ الأُمَّةِ وَدَعْوًى بِغَيْرِ دَلِيلٍ.

وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِرِسَالَةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ زَعَمَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ أَوْ مُسْلِمٌ فَزَعْمُهُ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ الإِيمَانَ بِالنَّبِىِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرْطٌ لا بُدَّ مِنْهُ لِيَكُونَ الْعَبْدُ عِنْدَ اللَّهِ مُسْلِمًا مُؤْمِنًا (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الْفَتْحِ (﴿وَمَنْ لَّمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا﴾) أَىْ مَنْ لَمْ يَجْمَعِ الإِيمَانَ بِالنَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الإِيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى إِلَى أَنْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ تَحْصِيلِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ كَافِرًا هَيَّأَ اللَّهُ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ جَزَاءً فِى الآخِرَةِ (فَهَذِهِ الآيَةُ صَرِيحَةٌ فِى تَكْفِيرِ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ نَازَعَ فِى هَذَا الْمَوْضُوعِ يَكُونُ قَدْ عَانَدَ الْقُرْءَانَ) وَكَذَّبَهُ (وَمَنْ عَانَدَ الْقُرْءَانَ كَفَرَ).

(وَ)كَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنِ اتَّخَذَ دِينًا غَيْرَ دِينِ الإِسْلامِ فَقَدْ (أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ الإِسْلامِيُّونَ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ دَانَ بِغَيْرِ الإِسْلامِ) سَوَاءٌ كَانَ يُصَدِّقُ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى أَمْ لا (وَعَلَى تَكْفِيرِ مَنْ لَمْ يُكَفِّرْهُ أَوْ شَكَّ أَوْ تَوَقَّفَ) أَىْ لَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ وَلا بِالإِيمَانِ (كَأَنْ يَقُولَ أَنَا لا أَقُولُ إِنَّهُ كَافِرٌ أَوْ غَيْرُ كَافِرٍ) لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يَرُدُّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ ءَالِ عِمْرَانَ ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ وَغَيْرَهَا مِنَ الآىِ.

(وَاعْلَمْ بِاسْتِيقَانٍ أَنَّهُ لا يَصِحُّ الإِيمَانُ وَالإِسْلامُ) مِنَ الْكَافِرِ (وَلا تُقْبَلُ الأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ) مِنْهُ (بِدُونِ الشَّهَادَتَيْنِ بِلَفْظِ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَوْ مَا فِى مَعْنَاهُمَا وَلَوْ بِغَيْرِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ) وَلا يُشْتَرَطُ لَفْظُ أَشْهَدُ بَلْ يَكْفِى لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَنَحْوُهُ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ أَشْهَدُ أَقْوَى لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْعِلْمِ وَالِاعْتِقَادِ وَالِاعْتِرَافِ.

(وَيَكْفِى لِصِحَّةِ الإِسْلامِ النُّطْقُ مَرَّةً فِى الْعُمُرِ) بِالشَّهَادَةِ (وَيَبْقَى وُجُوبُهَا) بَعْدَ ذَلِكَ (فِى كُلِّ صَلاةٍ لِصِحَّةِ الصَّلاةِ).

وَ(هَذَا) أَىِ اشْتِرَاطُ النُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ لِصِحَّةِ الإِسْلامِ مَحَلُّهُ (فِى مَنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ الإِسْلامِ ثُمَّ أَرَادَ الدُّخُولَ فِى الإِسْلامِ) لا فِى وَلَدِ الْمُسْلِمِ. وَلْيُحْتَرَزْ عِنْدَ النُّطْقِ بِهِمَا مِنْ إِبْدَالِ أَنَّ الْمُشَدَّدَةِ بِأَنِ الْمُخَفَّفَةِ لِأَنَّ الْمَعْنَى يَتَغَيَّرُ عِنْدَئِذٍ وَلا يَعُودُ فِيهِ إِقْرَارٌ بِانْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالأُلُوهِيَّةِ مَعَ أَنَّهُ لا بُدَّ لِلدُّخُولِ فِى الإِسْلامِ مِنَ الإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ الِاعْتِقَادِ بِمَعْنَاهُمَا بِالْقَلْبِ وَقَدْ نَصَّ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى ذَلِكَ بَلْ نَقَلَ الْحَافِظُ النَّوَوِىُّ الإِجْمَاعَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَعْتَبِرْ بِالْمَرَّةِ قَوْلَ الْغَزَالِىِّ قال رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الَّذِى زَعَمَ أَنَّهُ يَكْفِى التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ النُّطْقِ بِاللِّسَانِ لِيَكُونَ الإِنْسَانُ مُؤْمِنًا عِنْدَ اللَّهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِمَا نَصَّ عَلَيْهِ إِمَامُ مَذْهَبِهِ الَّذِى يَنْتَسِبُ إِلَيْهِ أَعْنِى الإِمَامَ الشَّافِعِىَّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَلِمَا نَصَّ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ. وَعِبَارَةُ النَّوَوِىِّ فِى شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَنْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَنْطِقْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ كَافِرٌ مُخَلَّدٌ فِى النَّارِ بِالإِجْمَاعِ اﻫ أَىْ وَلَمْ يَنْطِقْ بِاللَّفْظِ الصَّحِيحِ وَقَالَ فِى مَوْضِعٍ ءَاخَرَ مِنْهُ إِنَّ الإِيمَانَ شَرْطُهُ الإِقْرَارُ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ اعْتِقَادِهِمَا اﻫ وَقَبْلَهُ ذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ الْقَاضِى عِيَاضٌ فَقَالَ وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ مُرْتَبِطَةٌ بِالشَّهَادَتَيْنِ لا تَنْفَعُ إِحْدَاهُمَا وَلا تُنْجِى مِنَ النَّارِ دُونَ الأُخْرَى إِلَّا لِمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ لِآفَةٍ بِلِسَانِهِ أَوْ لَمْ تُمْهِلْهُ الْمُدَّةُ لِيَقُولَهَا بَلِ اخْتَرَمَتْهُ الْمَنِيَّةُ إِلَخ اﻫ وَنَقَلَهُ النَّوَوِىُّ عَنْهُ فِى شَرْحِ مُسْلِمٍ كَذَلِكَ فِى جُمْلَةِ كَلامٍ وَقَالَ عَقِبَهُ هَذَا ءَاخِرُ كَلامِ الْقَاضِى رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ فِى نِهَايَةِ الْحُسْنِ اﻫ وَيَشْهَدُ لِصِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَئِمَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيُؤْمِنُوا بِى وَبِمَا جِئْتُ بِهِ اﻫ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْمُرَادُ بِقَوْلهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَقُولُوا لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَىْ وَيَقُولُوا أَيْضًا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الرِّوَايَاتُ الأُخْرَى وَإِنَّمَا ذُكِرَتِ الشَّهَادَةُ الأُولَى فَقَطْ لِمَا عُلِمَ مِنْ أَنَّ ذِكْرَهَا يَتَضَمَّنُ فِى عُرْفِ الشَّرْعِ ذِكْرَ الثَّانِيَةِ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ. أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ ابْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ إِنَّكَ سَتَأْتِى قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَإِذَا جِئْتَهُمُ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِى كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ اﻫ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِى الْفَتْحِ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لا يَكْفِى فِى الإِسْلامِ الِاقْتِصَارُ عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حَتَّى يُضِيفَ إِلَيْهَا الشَّهَادَةَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرِّسَالَةِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ [وَهَذَا لَيْسَ قَوْلًا ءَاخَرَ فِى الْمَسْأَلَةِ] يَصِيرُ بِالأُولَى مُسْلِمًا وَيُطَالَبُ بِالثَّانِيَةِ اﻫ قَالُوا وَمَنْ عَجَزَ عَنِ النُّطْقِ بِحَرْفِ الْحَاءِ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّ مُهَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ بِالْهَاءِ يُقَالُ لَهُ قُلْ أَشْهَدُ أَنَّ أَبَا الْقَاسِمِ رَسُولُ اللَّهِ إِذْ هُوَ مُطَالَبٌ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ قَادِرٌ عَلَى الإِتْيَانِ بِهَا بِهَذَا اللَّفْظِ الَّذِى هُوَ صِنْوُ اللَّفْظِ الْمَعْجُوزِ عَنْهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ لَوْ تَلَفَّظَ بِالْقَافِ مَعْقُودَةً كَمَا يَلْفِظُهَا أَهْلُ الْيَمَنِ صَحَّ تَشَهُّدُهُ بِذَلِكَ كَمَا يُفِيدُهُ كَلامُ الرَّمْلِىِّ فِى شَرْحِهِ عَلَى الْمِنْهَاجِ وَالْقَاضِى زَكَرِيَّا فِى أَسْنَى الْمَطَالِبِ فِى مَبْحَثِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِى الصَّلاةِ. وَقَالَ بَعْضٌ ءَاخَرُ لَوْ قِيلَ لَهُ أَتَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ نَعَمْ صَحَّ إِسْلامُهُ. وَأَمَّا مَنْ أَرَادَ الدُّخُولَ حَالًا فِى الإِسْلامِ فَعَجَزَ عَنِ النُّطْقِ لِفَجْأَةِ مَوْتٍ أَوْ عِلَّةٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُؤْمِنًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَوْ لَمْ يَنْطِقْ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْبَقَرَةِ ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾. وَالْخِلافُ الْمُتَقَدِّمُ بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَالْغَزَالِىِّ وَمَنْ تَبِعَهُ هُوَ فِى مَنْ لَمْ تُعْرَضْ عَلَيْهِ الشَّهَادَتَانِ فَيَأْبَى أَمَّا مَنْ عُرِضَتْ عَلَيْهِ الشَّهَادَتَانِ فَأَبَى فَهُوَ كَافِرٌ اتِّفَاقًا لِمَا صَحَّ مِنْ أَنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَضَ ذَلِكَ عَلَى أَبِى طَالِبٍ فَأَبَى مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِقَلْبِهِ فَلَمَّا تُوُفِّىَ جَاءَ عَلِىٌّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى النَّبِىِّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ فَقَالَ إِنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ الضَّالَّ قَدْ مَاتَ وَفِى رِوَايَةٍ الشَّيْخَ الْكَافِرَ فَقَالَ اذْهَبْ فَوَارِهِ اﻫ أَىْ فَادْفِنْهُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَلِذَلِكَ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِى كُفْرِ الآبِى الْمُمْتَنِعِ.

(وَأَمَّا مَنْ) وُلِدَ لِمُسْلِمٍ وَ(نَشَأَ عَلَى الإِسْلامِ وَكَانَ يَعْتَقِدُ) مَعْنَى (الشَّهَادَتَيْنِ) عِنْدَمَا صَارَ مُكَلَّفًا (فَلا يُشْتَرَطُ فِى حَقِّهِ النُّطْقُ بِهِمَا) عِنْدَئِذٍ (بَلْ هُوَ مُسْلِمٌ) مُؤْمِنٌ وَ(لَوْ لَمْ يَنْطِقْ) بِهِمَا إِلَى أَنْ مَاتَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ حُكِمَ لَهُ بِالإِسْلامِ بِالتَّبَعِيَّةِ لِوَالِدِهِ فَلَمَّا بَلَغَ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ فَلا يَخْرُجُ مِنَ الإِسْلامِ بَلْ يَسْتَمِرُّ مَحْكُومًا عَلَيْهِ بِالإِسْلامِ وَلَوْ لَمْ يَتَشَهَّدْ بِلِسَانِهِ لَكِنَّهُ يَأْثَمُ بِتَرْكِ التَّشَهُّدِ إِثْمًا كَبِيرًا وَسَتَأْتِى زِيَادَةُ بَيَانٍ لِذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

(وَ)أَرَادَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَأْكِيدَ مَا سَبَقَ فَقَالَ (قَالَ) رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِى بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ) اﻫ هَذَا (حَدِيثٌ قُدْسِىٌّ رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَرْضَ أَفْضَلُ وَأَوْلَى وَأَهَمُّ مِنَ النَّفْلِ وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الأَفَاضِلِ مَنْ شَغَلَهُ الْفَرْضُ عَنِ النَّفْلِ فَهُوَ مَعْذُورٌ وَمَنْ شَغَلَهُ النَّفْلُ عَنِ الْفَرْضِ فَهُوَ مَغْرُورٌ اﻫ (وَأَفْضَلُ وَأَوَّلُ فَرْضٍ هُوَ الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) لِحَدِيثِ الْبُخَارِىِّ حِينَ سُئِلَ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَفْضَلِ الأَعْمَالِ فَقَالَ الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اﻫ (وَ)لا بُدَّ مِنْ قَرْنِ الإِيمَانِ بِالرَّسُولِ بِالإِيمَانِ بِاللَّهِ فَإِنَّ (اعْتِقَادَ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقَطْ لا يَكْفِى مَا لَمْ يُقْرَنْ بِاعْتِقَادِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) كَمَا (قَالَ تَعَالَى) فِى سُورَةِ ءَالِ عِمْرَانَ (﴿قُلْ﴾) أَىْ يَا مُحَمَّدُ (﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾) أَىْ بِالإِيمَانِ بِهِمَا (﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾) أَىْ أَعْرَضُوا عَنْ ذَلِكَ (﴿فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ أَىْ) فَهُمْ كُفَّارٌ وَ(لا يُحِبُّ اللَّهُ مَنْ تَوَلَّى عَنِ الإِيمَانِ) فَكَفَرَ (بِاللَّهِ وَالرَّسُولِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لِكُفْرِهِمْ) وَلَوْ أَحَبَّهُمْ لَرَزَقَهُمُ الإِيمَانَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ يُعْطِى الْمَالَ لِمَنْ يُحِبُّ وَلِمَنْ لا يُحِبُّ وَلا يُعْطِى الإِيمَانَ إِلَّا لِمَنْ يُحِبُّ اهـ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِى الْمُسْتَدْرَكِ (وَالْمُرَادُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ فِى هَذِهِ الآيَةِ الإِيمَانُ بِهِمَا) كَمَا تَقَدَّمَ وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الطَّبَرِىُّ وَالْبَغَوِىُّ وَالْخَازِنُ وَأَبُو حَيَّانَ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِى حَاتِمٍ فِى تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَغَيْرِهِ (فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَافِرٌ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لا يُحِبُّهُ لِكُفْرِهِ) مَهْمَا حَسُنَ خُلُقُهُ وَأَحْسَنَ إِلَى النَّاسِ فَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ جُدْعَانَ يَقْرِى الضِّيفَانَ وَيُحْسِنُ إِلَى أَهْلِ الْحَاجَةِ وَالْفَقْرِ فَلَمَّا مَاتَ قَالَتِ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ ابْنَ عَمِّى عَبْدَ اللَّهِ بنَ جُدْعَانَ كَانَ يَقْرِى الضِّيفَانَ وَيَفْعَلُ وَيَفْعَلُ فَهَلْ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ فِى الآخِرَةِ شَيْئًا فَقَالَ لا إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا رَبِّ اغْفِرْ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِّينِ اﻫ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ أَىْ إِنَّهُ كَانَ كَافِرًا لا يُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلا تَنْفَعُهُ أَعْمَالُهُ الْحَسَنَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَيْئًا (فَمَنْ قَالَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ لِأَنَّهُ خَلَقَ الْجَمِيعَ فَقَدْ كَذَّبَ الْقُرْءَانَ فَيُقَالُ لَهُ اللَّهُ خَلَقَ الْجَمِيعَ لَكِنْ لا يُحِبُّ الْكُلَّ) كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ حِبَّانَ مَرْفُوعًا وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ إِنَّ الَّذِى يُدَهْدِهُهُ أَىْ يُدَحْرِجُهُ الْجُعَلُ بِأَنْفِهِ خَيْرٌ مِنْ هَؤُلاءِ الْمُشْرِكِينَ اﻫ وَالْجُعَلُ دُوَيْبَّةٌ سَوْدَاءُ تُدَحْرِجُ الْقَذَرَ.

وَلِزِيَادَةِ بَيَانِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ فَرْضِيَّةِ النُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ بَعْدَ الْبُلُوغِ عَقَدَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ فَصْلًا جَعَلَ عُنْوَانَهُ


(الْفَرْضُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ)


قَالَ فِيهِ (وَاعْلَمْ أَنَّ النُّطْقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ مَرَّةً وَاحِدَةً فِى عُمُرِهِ بِنِيَّةِ الْفَرْضِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِأَنَّهُمْ لا يُوجِبُونَ التَّحِيَّاتِ فِى الصَّلاةِ إِنَّمَا هُمْ يَعْتَبِرُونَهَا سُنَّةً) فَإِذَا رَفَعَ الْمُصَلِّى مِنَ السُّجُودِ الأَخِيرِ وَجَلَسَ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ صَحَّتْ صَلاتُهُ عِنْدَهُمْ مِنْ غَيْرِ إِثْمٍ (وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ كَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَجِبُ فِى كُلِّ صَلاةٍ لِصِحَّةِ الصَّلاةِ) وَهِىَ أَيْضًا وَاجِبَةٌ غَيْرُ رُكْنٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.


(لا دِينَ صَحِيحٌ إِلَّا الإِسْلامُ)


(الدِّينُ الْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ) تَعَالَى هُوَ (الإِسْلامُ قَالَ تَعَالَى) فِى سُورَةِ ءَالِ عِمْرَانَ (﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾) فَدَلَّتِ الآيَةُ أَنَّ كُلَّ مَنِ اتَّخَذَ دِينًا غَيْرَ دِينِ الإِسْلامِ فَهُوَ خَاسِرٌ فِى الآخِرَةِ وَدِينُهُ بَاطِلٌ فَلا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ عَنْهُ إِنَّهُ دِينٌ سَمَاوِىٌّ (وَقَالَ تَعَالَى) فِى سُورَةِ ءَالِ عِمْرَانَ (أَيْضًا ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾) فَدَلَّتِ الآيَةُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الدِّينَ الْوَحِيدَ الْمَقْبُولَ فِى الآخِرَةِ هُوَ الإِسْلامُ فَمَنْ عَدَلَ عَنْهُ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ وَهُوَ دِينُ الأَنْبِيَاءِ جَمِيعًا (فَكُلُّ الأَنْبِيَاءِ مُسْلِمُونَ فَمَنْ كَانَ مُتَّبِعًا لِمُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَىْ اتِّبَاعًا صَحِيحًا (فَهُوَ مُسْلِمٌ مُوسَوِىٌّ) أَىْ مِنْ أَتْبَاعِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ (وَمَنْ كَانَ مُتَّبِعًا لِعِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَىِ اتِّبَاعًا صَحِيحًا (فَهُوَ مُسْلِمٌ عِيسَوِىٌّ) أَىْ مِنْ أَتْبَاعِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ (وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِمَنِ اتَّبَعَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْلِمٌ مُحَمَّدِىٌّ) وَلا عِبْرَةَ بِمَنْ أَنْكَرَ جَوَازَ ذَلِكَ جَهْلًا أَوْ عِنَادًا إِذِ الْمَعْنَى أَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِسَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يُقَالُ لِمَنْ تَبِعَ الإِمَامَ مَالِكًا رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فِى مَذْهَبِهِ مَالِكِىٌّ وَلِمَنْ تَبِعَ الإِمَامَ أَبَا حَنِيفَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ حَنَفِىٌّ وَلِمَنْ تَبِعَ إِمَامَنَا الشَّافِعِىَّ شَافِعِىٌّ وَلِمَنْ تَبِعَ ابْنَ حَنْبَلٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ حَنْبَلِىٌّ فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ اخْتِلافٌ فِى الدِّينِ بَلْ جَاؤُوا كُلُّهُمْ بِدِينٍ وَاحِدٍ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ شَرَائِعُهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَعَلَ فِى شَرْعِ الرَّسُولِ اللَّاحِقِ بَعْضَ الأَحْكَامِ الَّتِى تَخْتَلِفُ عَنْ أَحْكَامٍ كَانَتْ فِى شَرْعِ الرَّسُولِ السَّابِقِ وَقَدْ عَلِمَ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ قَائِمَةٌ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلِذَلِكَ جَعَلَ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ خَاتِمَةَ الشَّرَائِعِ فَلا يُبْعَثُ بَعْدَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِىٌّ وَلا يُغَيَّرُ مِنْ أَحْكَامِ شَرِيعَتِهِ بَعْدَهُ شَىْءٌ.

(وَالإِسْلامُ هُوَ الدِّينُ الَّذِى رَضِيَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ وَأَمَرَنَا بِاتِّبَاعِهِ) كَمَا أَمَرَ مَنْ قَبْلَنَا مِنَ الأُمَمِ بِذَلِكَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الشُّورَى ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ (وَ)لَكِنْ (لا يُسَمَّى اللَّهُ مُسْلِمًا كَمَا تَلَفَّظَ بِهِ بَعْضُ الْجُهَّالِ) فَقَدْ حَصَلَ فِى مَدِينَةِ بَيْرُوتَ فِى بَعْضِ السِّنِينَ أَنَّ السَّمَاءَ أَمْطَرَتْ فِى عِيدِ النَّصَارَى وَكَانَ فِى عِيدِ الْمُسْلِمِينَ صَحْوٌ فَقَالَ بَعْضُ النَّصَارَى إِنَّ اللَّهَ مُسْلِمٌ وَهَذَا كَلامٌ بَاطِلٌ كَمَا لا يَخْفَى فَإِنَّ الْمُسْلِمَ مَعْنَاهُ الْمُنْقَادُ وَاللَّهُ لا يَنْقَادُ بَلْ غَيْرُهُ يَنْقَادُ لَهُ وَهُوَ يُطْلَقُ فِى اصْطِلاحِ الشَّرْعِ عَلَى الْعَاقِلِ الَّذِى صَدَّقَ بِقَلْبِهِ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَتَلَفَّظَ بِهِمَا وَلا يَجُوزُ وَصْفُ اللَّهِ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا يُسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى السَّلامَ أَىِ السَّالِمَ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ وَعَيْبٍ، وَمَا وَرَدَ فِى الْقُرْءَانِ مِنْ تَسْمِيَةِ اللَّهِ بِالْمُؤْمِنِ فَالْمُرَادُ بِهِ الَّذِى يَصْدُقُ عِبَادَهُ وَعْدَهُ وَيَفِى بِمَا ضَمِنَهُ لَهُمْ وَلا يُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ عِنْدَ إِطْلاقِ لَفْظِ الْمُؤْمِنِ عَلَى الشَّخْصِ الْمُسْلِمِ. ثُمَّ إِنَّنَا أَطْلَقْنَا اسْمَ الْمُؤْمِنِ عَلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ سَمَّى بِهِ نَفْسَهُ كَمَا جَاءَ فِى الْقُرْءَانِ وَثَبَتَ فِى الْحَدِيثِ وَلَوْلا ذَلِكَ لَمَا أَطْلَقْنَاهُ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ فَمَا أَطْلَقَهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ أَطْلَقْنَاهُ عَلَيْهِ وَمَا لا فَلا كَمَا أَوْضَحَهُ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرُهُ مِنَ الأَئِمَّةِ. قَالَ الإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الأَشْعَرِىُّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فِى اللُّمَعِ فَالأَسْمَاءُ لَيْسَتْ إِلَيْنَا وَلا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُسَمِّىَ اللَّهَ تَعَالَى بِاسْمٍ لَمْ يُسَمِّ بِهِ نَفْسَهُ وَلا سَمَّاهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ اﻫ وَفِى مُجَرَّدِ مَقَالاتِ الأَشْعَرِىِّ لِابْنِ فُورَك أَنَّ الْمَعْرُوفَ مِنْ أَصْلِ الإِمَامِ أَبِى الْحَسَنِ وَالْمَشْهُورَ مِنْ مَذْهَبِهِ فِى أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَوْصَافِهِ أَنَّهُ لا يَتَعَدَّى فِيهَا التَّوْقِيفَ الْوَارِدَ فِى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ الأُمَّةِ اﻫ

(فَقَدِيمًا) فِى زَمَنِ ءَادَمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ (كَانَ الْبَشَرُ جَمِيعُهُمْ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ هُوَ الإِسْلامُ) لَيْسَ بَيْنَهُمْ كَافِرٌ وَاسْتَمَرُّوا عَلَى ذَلِكَ فِى زَمَنِ سَيِّدِنَا شِيثٍ عَلَيْهِ السَّلامُ وَفِى زَمَنِ إِدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلامُ (وَإِنَّمَا حَدَثَ الشِّرْكُ وَالْكُفْرُ بِاللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ) وَفَاةِ (النَّبِىِّ إِدْرِيسَ) أَىْ بَعْدَ وَفَاةِ ءَادَمَ بِأَلْفِ سَنَةٍ ثُمَّ مَضَى بَعْدَ وَفَاةِ إِدْرِيسَ أَلْفُ سَنَةٍ إِلَى أَنْ بُعِثَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ (فَكَانَ نُوحٌ أَوَّلَ نَبِىٍّ أُرْسِلَ إِلَى الْكُفَّارِ يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ الْوَاحِدِ الَّذِى لا شَرِيكَ لَهُ) وَهُوَ مَعْنَى حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِى رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ ءَادَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلنَّاسِ اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ فَإِنَّهُ أَوَّلُ رُسُلِ اللَّهِ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ اﻫ فَالْمَقْصُودُ هُنَا بِأَوَّلِ رُسُلِ اللَّهِ أَوَّلُ نَبِىٍّ أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَى قَوْمٍ كُفَّارٍ وَلا يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ أَوَّلُ الأَنْبِيَاءِ عَلَى الإِطْلاقِ بَلْ سَبَقَهُ ءَادَمُ وَشِيثٌ وَإِدْريسُ فَالأَوَّلِيَّةُ الْمُرَادَةُ هُنَا هِىَ أَوَّلِيَّةٌ نِسْبِيَّةٌ لا مُطْلَقَةٌ وَهَذَا شَبِيهٌ بِمَا ثَبَتَ مَرْفُوعًا أَنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ وَقَدْ سَبَقَهُ فِى الْوُجُودِ الْمَاءُ وَالْعَرْشُ كَمَا لا يَخْفَى فَأَوَّلِيَّةُ الْقَلَمِ أَوَّلِيَّةٌ نِسْبِيَّةٌ. وَهَذِهِ الْمُدَّةُ الَّتِى بَيْنَ إِدْرِيسَ وَنُوحٍ عَلَيْهِمَا الصَّلاةُ وَالسَّلامُ هِىَ الْجَاهِلِيَّةُ الأُولَى الَّتِى عَنَاهَا اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ فِى سُورَةِ الأَحْزَابِ ﴿وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى﴾ وَلَمْ يُرْسَلْ إِلَى أَهْلِهَا نَبِىٌّ قَبْلَ نُوحٍ (وَقَدْ حَذَّرَ اللَّهُ جَمِيعَ الرُّسُلِ مِنْ بَعْدِهِ) أَىْ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ (مِنَ الشِّرْكِ) وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ تَحْذِيرُ أُمَمِهِمْ لِأَنَّ الأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ مَعْصُومُونَ مِنَ الشِّرْكِ. ثُمَّ تَوَالَى الأَنْبِيَاءُ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ ثُمَّ بَعْدَ رَفْعِهِ إِلَى السَّمَاءِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَضَى نَحْوُ سِتِّمِائَةِ عَامٍ مِنْ غَيْرِ بِعْثَةِ نَبِىٍّ إِلَى أَنْ نَزَلَ الْوَحْىُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَقَامَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَجْدِيدِ الدَّعْوَةِ إِلَى الإِسْلامِ بَعْدَ أَنِ انْقَطَعَ فِى مَا بَيْنَ النَّاسِ فِى الأَرْضِ) إِذْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْبَشَرِ عَلَى الأَرْضِ مُسْلِمٌ غَيْرُهُ عِنْدَ ذَلِكَ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ الأَنْعَامِ ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ ومَمَاتِى للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ أَىْ فِى زَمَانِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا سَيِّدُنَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ فَكَانَ فِى السَّمَاءِ لا فِى الأَرْضِ وَأَمَّا الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَلا يَعِيشُ مُخْتَلِطًا بِالْبَشَرِ عَلَى الْيَابِسَةِ وَإِنَّمَا يَكُونُ فِى كَثِيرٍ مِنْ وَقْتِهِ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ يَأْتِى هَذَا فَيُرْشِدُهُ وَهَذَا فَيُثَبِّتُهُ وَهَذَا فَيُعَلِّمُهُ وَأَمَّا شَخْصٌ يَعِيشُ عَلَى الأَرْضِ مُخْتَلِطًا بِالْبَشَرِ فَلَمْ يَكُنْ مُسْلِمٌ عِنْدَ أَوَّلِ نُزُولِ الْوَحْىِ إِلَّا سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ دَعَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَىْ إِلَى عِبَادَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ (مُؤَيَّدًا) مِنْ رَبِّهِ (بِالْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ فَدَخَلَ الْبَعْضُ) مِمَّنْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَتُهُ مِنْ عَبَدَةِ الأَصْنَامِ (فِى الإِسْلامِ) كَالْجَعْدِ بنِ قَيْسٍ الْمُرَادِىِّ الَّذِى أَسْلَمَ بِسَبَبِ مَا سَمِعَهُ مِنْ جِنِّىٍّ مُسْلِمٍ مِنْ أَتْبَاعِ سَيِّدِنَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ فَإِنَّهُ قَالَ وَكَانَ قَدْ بَلَغَ مِائَةَ سَنَةٍ خَرَجْنَا أَرْبَعَةُ نَفَرٍ نُرِيدُ الْحَجَّ فِى الْجَاهِلِيَّةِ فَمَرَرْنَا بِوَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ الْيَمَنِ فَلَمَّا أَقْبَلَ اللَّيْلُ اسْتَعَذْنَا بِعَظِيمِ الْوَادِى وَعَقَلْنَا رَوَاحِلَنَا فَلَمَّا هَدَأَ اللَّيْلُ وَنَامَ أَصْحَابِى إِذَا هَاتِفٌ مِنْ بَعْضِ أَرْجَاءِ الْوَادِى يَقُولُ

أَلا أَيُّهَا الرَّكْبُ الْمُعَرِّسُ بَلِّغُوا إِذَا مَـا وَقَفْتُمْ بِالْحَطِيمِ وزَمْزَمَا

مُحَمَّـدًا الْمَبْعُــوثَ مِنَّا تَحِيَّةً تُشَيِّعُهُ مِنْ حَيْثُ سَـارَ وَيَمَّمَا

وَقُولُوا لَهُ إِنَّا لِدِينِكَ شِــيعَةٌ بِذَلِكَ أَوْصَانَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَا

فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ إِسْلامِهِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ اﻫ ذَكَرَهُ أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بنُ مُحَمَّدٍ النَّيْسَابُورِىُّ فِى شَرَفِ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَقَلَهُ عَنْهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِى الإِصَابَةِ فِى تَمْيِيزِ الصَّحَابَةِ.

(وَجَحَدَ بِنُبُوَّتِهِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَهْلُ الضَّلالِ الَّذِينَ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ مُشْرِكًا قَبْلاً كَفِرْقَةٍ مِنَ الْيَهُودِ عَبَدَتْ عُزَيْرًا) وَهُوَ رَجُلٌ مِنَ الصَّالِحِينَ كَانَ قَدْ أَلْقَى التَّوْرَاةَ مِنْ حِفْظِهِ بَعْدَ أَنْ تَلِفَتْ نُسَخُهَا كُلُّهَا فَقَالَ بَعْضُ بَنِى إِسْرَائِيلَ هَذَا ابْنُ اللَّهِ لَوْلا أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ مَا اسْتَطَاعَ أَنْ يُلْقِىَ التَّوْرَاةَ مِنْ حِفْظِهِ فَكَفَرُوا بِذَلِكَ ثُمَّ كَذَّبُوا سَيِّدَنَا عِيسَى (فَازْدَادُوا كُفْرًا إِلَى كُفْرِهِمْ) ثُمَّ كَذَّبُوا سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَازْدَادُوا فِى الْكُفْرِ أَيْضًا (وَءَامَنَ بِهِ) عَلَيْهِ صَلاةُ اللَّهِ وَسَلامُهُ (بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَعَبْدِ اللَّهِ بنِ سَلامٍ عَالِمِ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ) جَاءَ إِلَى النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ ثَلاثَةِ أُمُورٍ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْعَرَبَ لا عِلْمَ لَهُمْ بِهَا فَأَجَابَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَنْهَا بِالْوَحْىِ وَقَالَ لَهُ أَخْبَرَنِى بِهِنَّ جِبْرِيلُ ءَانِفًا فَآمَنَ وَتَشَهَّدَ وَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ (وَ)كَذَا ءَامَنَ بِهِ (أَصْحَمَةُ النَّجَاشِى) بِتَرْكِ تَشْدِيدِ الْيَاءِ وَبِتَشْدِيدِهَا وَتَرْكُ التَّشْدِيدِ مُوَافِقٌ لِلُغَةِ الْحَبَشَةِ إِذْ لا تُعْرَفُ يَاءُ النِّسْبَةِ فِيهَا وَهُوَ (مَلِكُ الْحَبَشَةِ وَكَانَ نَصْرَانِيًّا ثُمَّ) أَسْلَمَ وَ(اتَّبَعَ الرَّسُولَ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتِّبَاعًا كَامِلًا (وَمَاتَ فِى حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَّى عَلَيْهِ الرَّسُولُ) عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ (صَلاةَ الْغَائِبِ يَوْمَ مَاتَ) إِذْ (أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ بِمَوْتِهِ) فَقَالَ لِلصَّحَابَةِ مَاتَ الْيَوْمَ أَخُوكُمْ أَصْحَمَةُ وَهُوَ عَبْدٌ صَالِحٌ فَصَلُّوا عَلَيْهِ اﻫ (ثُمَّ كَانَ يُرَى عَلَى قَبْرِهِ فِى اللَّيَالِى نُورٌ) كَمَا رَوَى رُزَيْنٌ الْعَبْدَرِىُّ عَنِ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ قَالَتْ كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ لا يَزَالُ يُرَى عَلَى قَبْرِهِ نُورٌ اهـ (وَهَذَا دَلِيلٌ أَنَّهُ صَارَ مُسْلِمًا كَامِلًا وَلِيًّا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ).

(وَالْمَبْدَأُ) أَىِ الأَسَاسُ (الإِسْلامِىُّ الْجَامِعُ لِجَمِيعِ أَهْلِ الإِسْلامِ) مِنْ أُمَّةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالأُمَمِ السَّابِقَةِ (عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ) مَعَ إِيمَانِ كُلٍّ مِنْهُمْ بِنَبِىِّ عَصْرِهِ.


(حُكْمُ مَنْ يَدَّعِى الإِسْلامَ لَفْظًا وَهُوَ مُنَاقِضٌ لِلإِسْلامِ مَعْنًى)


(هُنَاكَ طَوَائِفُ عَدِيدَةٌ كَذَّبَتِ الإِسْلامَ مَعْنًى) أَىْ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ وَالْوَاقِعُ (وَلَوِ انْتَمَوْا لِلإِسْلامِ) أَىِ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ (بِقَوْلِهِمُ الشَّهَادَتَيْنِ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَصَلَّوْا وَصَامُوا) ظَاهِرًا وَصُورَةً كَالْحُلُولِيَّةِ وَأَهْلِ الْوَحْدَةِ الْمُطْلَقَةِ وَالإِسْمَاعِيلِيَّةِ وَالْقَادِيَانِيَّةِ وَالْمُجَسِّمَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ (لِأَنّهُمْ نَاقَضُوا الشَّهَادَتَيْنِ بِاعْتِقَادِ مَا يُنَافِيهِمَا فَإِنَّهُمْ) يَتَلَفَّظُونَ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَهُمْ مُكَذِّبُونَ لِمَعْنَاهُمَا لَيْسُوا مُسْلِمِينَ وَلا فَرْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ صَرَّحُوا بِالشِّرْكِ بِاللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ الْحُلُولِيَّةَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ يَحُلُّ فِى الْعِبَادِ وَأَهْلَ الْوَحْدَةِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَالَمُ وَالإِسْمَاعِيلِيَّةَ يَرُدُّونَ الشَّرْعَ الَّذِى أَوْحَاهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُنْكِرُونَ وُجُوبَ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَالْقَادِيَانِيَّةَ مِثْلُهُمْ يَرُدُّونَ أَحْكَامًا وَيَزْعُمُونَ عَدَمَ خَتْمِ الأَنْبِيَاءِ بِسَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ وَالْمُجَسِّمَةَ يَعْبُدُونَ جِسْمًا كَبِيرًا مُتَخَيَّلًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ الإِلَهُ وَالْقَدَرِيَّةَ يَعْبُدُونَ بِزَعْمَهِمْ رَبًّا عَاجِزًا لا تَنْفُذُ مَشِيئَتُهُ وَلا يَقْدِرُ عَلَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ عَبِيدُهُ فَهَذِهِ الْفِرَقُ مَا بَيْنَ جَاهِلٍ بِاللَّهِ اعْتَقَدَ فِيهِ خِلافَ مَا اعْتَقَدَهُ الْمُسْلِمُونَ فِى الْخَالِقِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَضِدَّ مَا قَرَّرَهُ النَّبِىُّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ مِنَ الْعَقَائِدِ وَمُكَذِّبٍ لَهُ رَدَّ حُكْمَهُ الَّذِى أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِمَا أَنْزَلَهُ سُبْحَانَهُ عَلَى سَيِّدِ رُسُلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ (خَرَجُوا مِنَ التَّوْحِيدِ) إِمَّا (بِعِبَادَتِهِمْ لِغَيْرِ اللَّهِ) فِى حَالَةِ الْمُجَسِّمَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَأَمْثَالِهِمْ أَوْ بِتَكَبُّرِهِمْ عَنِ التَّسْلِيمِ وَالِانْقِيَادِ وَالتَّذَلُّلِ لَهُ عَزَّ وَجَلَّ (فَهُمْ كُفَّارٌ لَيْسُوا مُسْلِمِينَ كَالَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أُلُوهِيَّةَ عَلِىِّ بنِ أَبِى طَالِبٍ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (أَوِ الْخَضِرِ) عَلَيْهِ السَّلامُ (أَوِ) السُّلْطَانِ الْعُبَيْدِىِّ الَّذِى كَانَ فِى مِصْرَ وَعُرِفَ بِلَقَبِ (الْحَاكِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَغَيْرِهِمْ) مِمَّنْ يَعْتَقِدُ مِثْلَ اعْتِقَادِهِمْ (أَوْ) يَأْتِى (بِمَا فِى حُكْمِ ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ).

(وحُكْمُ مَنْ يَجْحَدُ الشَّهَادَتَيْنِ) أَوْ إِحْدَاهُمَا (التَّكْفِيرُ قَطْعًا) أَىْ قَوْلًا وَاحِدًا بِلا خِلافٍ (وَمَأْوَاهُ) فِى الآخِرَةِ (جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا أَبَدًا لا يَنْقَطِعُ فِى الآخِرَةِ عَنْهُ الْعَذَابُ إِلَى مَا لا نِهَايَةَ لَهُ وَمَا هُوَ بِخَارِجٍ مِنَ النَّارِ) كَمَا قَالَ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِى سُورَةِ الأَحْزَابِ ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ وَعَلَى هَذَا أَهْلُ الإِسْلامِ قَاطِبَةً. وَخَالَفَنَا فِى مَا تَقَدَّمَ رَجُلانِ انْتَسَبَا فِى الْمَاضِى إِلَى الإِسْلامِ وَكَذَّبَا مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْءَانُ وَثَبَتَ فِى السُّنَّةِ وَأَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الأُمَّةُ وَزَعَمَا أَنَّ عَذَابَ الْكُفَّارِ فِى النَّارِ لَيْسَ مُؤَبَّدًا وَأَنَّ جَهَنَّمَ تَفْنَى أَمَّا أَحَدُهُمَا فَيُسَمَّى جَهْمَ بنَ صَفْوَانٍ قُتِلَ بِحُكْمِ الشَّرْعِ لِهَذِهِ الْمَقَالَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الضَّلالِ وَأَمَّا الآخَرُ فَيُسَمَّى أَحْمَدَ بنَ تَيْمِيَةَ جَمَعَ إِلَى هَذِهِ الضَّلالَةِ ضَلالاتٍ أُخْرَى كَثِيرَةً وَاسْتُتِيبَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَكَانَ إِذَا وَاجَهَهُ الْعُلَمَاءُ يُظْهِرُ التَّوْبَةَ وَالتَّرَاجُعَ لَكِنَّهُ مَا يَلْبَثُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى إِظْهَارِ الشُّذُوذِ فَحَكَمَ قُضَاةُ الْمَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ عِنْدَ تَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنْهُ بِحَبْسِهِ إِلَى أَنْ يَمُوتَ فَتُوُفِّىَ وَهُوَ مَحْبُوسٌ فِى قَلْعَةِ دِمَشْقَ.

(وَمَنْ أَدَّى أَعْظَمَ حُقُوقِ اللَّهِ بِتَوْحِيدِهِ تَعَالَى أَىْ تَرْكِ الإِشْرَاكِ بِهِ شَيْئًا) فَلَمْ يَعْبُدْ غَيْرَ اللَّهِ وَلا نَسَبَ إِلَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ مَا لا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الصِّفَاتِ (وَ)عَقَدَ قَلْبَهُ عَلَى (تَصْدِيقِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَلَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ مَا يُنَافِى ذَلِكَ أَوْ يَمْنَعُ قَبُولَهُ فَإِنَّهُ (لا يَخْلُدُ فِى نَارِ جَهَنَّمَ خُلُودًا أَبَدِيًّا وَإِنْ دَخَلَهَا بِمَعَاصِيهِ) الْكَبَائِرِ الَّتِى لَمْ يَتُبْ مِنْهَا (وَمَآلُهُ) أَىْ مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهُ وَيَصِيرُ (فِى النِّهَايَةِ عَلَى أَىِّ حَالٍ كَانَ) هُوَ (الْخُرُوجُ مِنَ النَّارِ وَدُخُولُ الْجنَّةِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ قَدْ نَالَ الْعِقَابَ) الشَّدِيدَ (الَّذِى يَسْتَحِقُّ)، هَذَا (إِنْ لَمْ يَعْفُ اللَّهُ عَنْهُ) أَمَّا إِنْ عَفَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَإِنَّهُ لا يَدْخُلُ النَّارَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ) أَىْ بَعْدَ دُخُولِهَا بِذُنُوبِهِ (مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِى قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ) اﻫ أَىْ وَفِى قَلْبِهِ أَقَلُّ الإِيمَانِ أَىْ أَقَلُّ مَا يَصِحُّ بِهِ الإِيمَانُ وَيَحْصُلُ بِهِ النَّجَاةُ مِنَ الْخُلُودِ الأَبَدِىِّ فِى النَّارِ. وَالذَّرَّةُ مُفْرَدُ الذَّرِّ وَهُوَ شَبِيهُ الْغُبَارِ الَّذِى يُرَى عِنْدَمَا يَدْخُلُ نُورُ الشَّمْسِ مِنَ الْكَوَّةِ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى النَّمْلِ الأَحْمَرِ الصَّغِيرِ. وَالْحَدِيثُ (رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ).

(وَأَمَّا الَّذِى قَامَ بِتَوْحِيدِهِ تَعَالَى) وَءَامَنَ بِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَاجْتَنَبَ مَعَاصِيَهُ) كُلَّهَا (وَقَامَ بِأَوَامِرِهِ) أَىْ مَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِ كُلَّهُ (فَيَدْخُلُ الْجنَّةَ بِلا عَذَابٍ حَيْثُ النَّعِيمُ الْمُقِيمُ الْخَالِدُ) بِلا انْتِهَاءٍ (بِدِلالَةِ الْحَدِيثِ الْقُدْسِىِّ الَّذِى رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْدَدْتُ لِعِبَادِى الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ) اﻫ أَىْ هَيَّأْتُ لِعِبَادِىَ الَّذِينَ أَدَّوُا الْوَاجِبَاتِ كُلَّهَا وَاجْتَنَبُوا الْمُحَرَّمَاتِ كُلَّهَا نَعِيمًا لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ قَبْلَ ذَلِكَ وَلا سَمِعَ بِهِ وَلا خَطَرَ مُجَرَّدَ خُطُورٍ عَلَى قَلْبِ إِنْسَانٍ (وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ الْحَدِيثَ عَنِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى) أَىْ فِى سُورَةِ السَّجْدَةِ (﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾) اﻫ (رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ فِى الصَّحِيحِ). وَمَعْنَى الْحَدِيثِ الْقُدْسِىِّ الْحَدِيثُ الَّذِى يَرْوِيهِ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ فِيهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ.


(بَيَانُ أَقْسَامِ الْكُفْرِ)


(وَاعْلَمْ يَا أَخِى الْمُسْلِمَ أَنَّ هُنَاكَ اعْتِقَادَاتٍ وَأَفْعَالًا وَأَقْوالًا تَنْقُضُ الشَّهَادَتَيْنِ) وَتُخْرِجُ مِنَ الإِسْلامِ (وَتُوقِعُ فِى الْكُفْرِ لِأَنَّ الْكُفْرَ ثَلاثَةُ أَنْوَاعٍ كُفْرٌ اعْتِقَادِىٌّ) كَمَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْحُجُرَاتِ ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾ أَىْ لَمْ يَشُكُّوا وَالشَّكُّ يَكُونُ بِالْقَلْبِ (وَكُفْرٌ فِعْلِىٌّ) كَمَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ فُصِّلَتْ ﴿لا تَسْجُدوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ﴾ (وَكُفْرٌ لَفْظِىٌّ) كَمَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ التَّوْبَةِ ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ﴾ وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الأَنْوَاعِ الثَّلاثَةِ يُوقِعُ فِى الرِّدَّةِ أَىِ الْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلامِ بِمُفْرَدِهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ أَنْ يَنْضَمَّ إِلَيْهِ نَوْعٌ ءَاخَرُ (وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ) وَغَيْرِهَا كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ اسْتِقْرَاءُ مَا قَالَهُ وَنَقَلَهُ الْعُلَمَاءُ فِى كُتُبِ الْعَقَائِدِ وَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالرِّجَالِ وَالتَّارِيخِ كَالإِمَامِ أَبِى حَنِيفَةَ فِى رَسَائِلِهِ الْخَمْسِ الَّتِى صَنَّفَهَا فِى أُصُولِ الدِّينِ فَقَدْ ذَكَرَ عَنْهُ الْقَاضِى كَمَالُ الدِّينِ أَحْمَدُ بنُ حَسَنٍ الْبَيَاضِىُّ صَاحِبُ الإِشَارَاتِ أَنَّهُ عَدَّ فِيهَا بِضْعَ عَشْرَةَ خَصْلَةً تُخْرِجُ مِنَ الإِسْلامِ وَ(كَالنَّوَوِىِّ) مُحْيِى الدِّينِ يَحْيَى بنِ شَرَفٍ فِى الْمِنْهَاجِ وَالرَّوْضَةِ وَغَيْرِهِمَا (وَ)أَبِى بَكْرِ (ابْنِ الْمُقْرِئِ) فِى تَمْشِيَتِهِ (مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَ)مُحَمَّدِ أَمِينِ بنِ عُمَرَ (ابْنِ عَابِدِينَ) فِى حَاشِيَتِهِ وَالْبَدْرِ الرَّشِيدِ فِى رِسَالَتِهِ فِى الْمُكَفِّرَاتِ (مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَ)مَنْصُورِ بنِ يُونُسَ (الْبُهُوتِىِّ) فِى الرَّوْضِ الْمُرْبِعِ شَرْحِ زَادِ الْمُسْتَقْنِعِ (مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّيْخِ مُحَمَّدِ عِلَّيْشٍ) فِى شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ خَلِيلٍ (مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَ)عَلَى هَذَا (غَيْرُهُمْ) مِنْ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ (فَلْيَنْظُرْهَا مَنْ شَاءَ وَكَذَلِكَ غَيْرُ عُلَمَاءِ الْمَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ مِنَ) الْمُحَدِّثِينَ وَالْمُؤَرِّخِينَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ تَشْهَدُ مُصَنَّفَاتُهُمْ كَالْكُتُبِ السِّتَّةِ وَتَارِيخِ الطَّبَرِىِّ وَعِلَلِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أَحْمَدَ بِأَنَّ الْكُفْرَ الْمُخْرِجَ مِنَ الإِسْلامِ يَكُونُ تَارَةً اعْتِقَادًا وَتَارَةً قَوْلًا وَتَارَةً فِعْلًا وَهُوَ مَذْهَبُ (الْمُجْتَهِدِينَ الْمَاضِينَ) قَاطِبَةً (كَالأَوْزَاعِىِّ فَإِنَّهُ كَانَ مُجْتَهِدًا لَهُ مَذْهَبٌ كَانَ يُعْمَلُ بِهِ ثُمَّ انْقَرَضَ أَتْبَاعُهُ) وَقَدْ أَفْتَى هِشَامَ بنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بِقَتْلِ غَيْلانَ الدِّمَشْقِىِّ لِمَا أَظْهَرَهُ مِنْ عَقِيدَةِ الْقَدَرِيَّةِ وَكَانَ الْخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ الْمُجْتَهِدُ عُمَرُ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَدْ أَرَادَ قَتْلَهُ قَبْلَ ذَلِكَ لِلسَّبَبِ عَيْنِهِ فَأَظْهَرَ الْبَرَاءَةَ مِنْ تِلْكَ الْعَقِيدَةِ فَتَرَكَهُ مِنَ الْقَتْلِ وَقَالَ لَهُ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَأَذَاقَكَ اللَّهُ حَرَّ السَّيْفِ اﻫ فَتَنَفَّذَتْ فِيهِ دَعْوَةُ هَذَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَمِثْلُ هَذَا يُوجَدُ مُتَفَرِّقًا فِى كَلامِ مَالِكٍ فِى الْمُوَطَّإِ وَغَيْرِهِ وَفِى كَلامِ الشَّافِعِىِّ فِى الأُمِّ وَغَيْرِهِ وَفِى كَلامِ أَحْمَدَ فِى الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ وَفِى كَلامِ مُحَمَّدِ بنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِىِّ فِى التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِ وَفِى كَلامِ ابْنِ الْمُنْذِرِ فِى الأَوْسَطِ وَغَيْرِهِ فَبَعْدَ هَذَا لا يُنْظَرُ إِلَى كَلامِ فَتْحِى يَكَنْ فِى كِتَابِهِ الْمُسَمَّى الْمَوْسُوعَةَ الْحَرَكِيَّةَ حَيْثُ أَنْكَرَ انْقِسَامَ الرِّدَّةِ إِلَى الأَقْسَامِ الثَّلاثَةِ وَزَعَمَ أَنَّهُ أَمْرٌ مُبْتَدَعٌ فِى هَذَا الزَّمَانِ لَمْ يَذْكُرْهُ أَهْلُ الْعِلْمِ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لا يُقَامُ لَهُ وَزْنٌ وَإِنَّمَا يُرْمَى بِهِ فِى كُلِّ سَهْلٍ وَحَزْنٍ.

أَمَّا النَّوْعُ الأَوَّلُ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ فَهُوَ (الْكُفْرُ الِاعْتِقَادِىُّ) وَ(مَكَانُهُ الْقَلْبُ كَنَفْىِ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الْوَاجِبَةِ لَهُ إِجْمَاعًا كَوُجُودِهِ وَكَوْنِهِ قَادِرًا وَكَوْنِهِ سَمِيعًا بَصِيرًا) فَإِنَّهُ لا عُذْرَ لِأَحَدٍ فِى نَفْىِ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ الَّتِى تَجِبُ مَعْرِفَتُهَا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ وَهِىَ ثَلاثَ عَشْرَةَ صِفَةً الْوُجُودُ وَالْقِدَمُ وَالْبَقَاءُ وَالْوَحْدَانِيَّةُ وَالْمُخَالَفَةُ لِلْحَوَادِثِ وَالْقِيَامُ بِالنَّفْسِ أَىْ عَدَمُ الْحَاجَةِ إِلَى غَيْرِهِ وَالْحَيَاةُ وَالْعِلْمُ وَالْمَشِيئَةُ وَالْقُدْرَةُ وَالْكَلامُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَقَدْ نَصَّ الإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الأَشْعَرِىُّ فِى مَا نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ فُورَك فِى مُجَرَّدِ مَقَالاتِهِ عَلَى كُفْرِ مَنْ أَنْكرَ هَذِهِ الصِّفَاتِ اﻫ وَإِلَى هَذَا يُشِيرُ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِى حَاتِمٍ عَنِ الإِمَامِ الشَّافِعِىِّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِى يَسْتَقِلُّ الْعَقْلُ بِمَعْرِفَتِهَا لِلَّهِ تَعَالَى فَهُوَ كَافِرٌ اﻫ وَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ صِفَةَ الْقُدْرَةِ لِلَّهِ تَعَالَى يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ مَهْمَا بَلَغَ الْجَهْلُ بِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَابْنُ تَيْمِيَةَ وَصَاحِبُ كِتَابِ دُعَاةٌ لا قُضَاةٌ وَبَعْضٌ ءَاخَرُونَ مِنْ أَهْلِ عَصْرِنَا مِمَّنْ يَنْسُبُ نَفْسَهُ إِلَى الْعِلْمِ مِنْ غَيْرِ حَقِيقَةٍ مِنْ أَنَّ الْجَاهِلَ إِذَا أَنْكَرَ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ لا يَكْفُرُ هُوَ خَرْقٌ لِلإِجْمَاعِ وَشُذُوذٌ عَنِ الدِّينِ وَعَنْ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَإِنَّنَا الْمُسْلِمِينَ نَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِى هُوَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ فَمَنْ عَبَدَ شَيْئًا لَيْسَ مُتَّصِفًا بِالْقُدْرَةِ التَّامَّةِ لا يَكُونُ عَابِدًا لِلَّهِ تَعَالَى وَلا عَارِفًا بِهِ وَلِذَلِكَ نَقَلَ ابْنُ الْجَوْزِىِّ فِى أَخْبَارِ الصِّفَاتِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِهِ الإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ مُنْكِرَ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَىْءٍ كَافِرٌ وَنَقَلَهُ عَنْهُ الْحَافِظُ فِى الْفَتْحِ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَقَرُّوهُ. هَذَا مَعَ أَنَّ لِابْنِ قُتَيْبَةَ سَقَطَاتٍ فِى أُصُولِ الْعَقِيدَةِ وَغَيْرِهَا وَابْنَ تَيْمِيَةَ قَدْ خَرَقَ الإِجْمَاعَ فِى مَا يَزِيدُ عَنْ سِتِّينَ مَسْئَلَةً مِنَ الأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَابْنَ الْهُضَيْبِىِّ الَّذِى نُسِبَ إِلَيْهِ كِتَابُ دُعَاةٌ لا قُضَاةٌ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بَلْ وَلا ادَّعَى لِنَفْسِهِ تِلْكَ الْمَرْتَبَةَ فَلا يَنْبَغِى أَنْ يُوَثَقَ بِكَلامِ أَىٍّ مِنْ هَؤُلاءِ فِى مَسَائِلِ الِاعْتِقَادِ وَلا أَنْ يُجْعَلُوا حُجَّةً فِى النَّقْلِ.

وَكَذَا يُحْكَمُ بِالْكُفْرِ عَلَى الشَّخْصِ بِاعْتِقَادِهِ أَنَّ اللَّهَ حَالٌّ فِى الْعَالَمِ أَوْ فِى قِسْمٍ مِنْ أَفْرَادِهِ (أَوِ اعْتِقَادِ أَنَّهُ) سُبْحَانَهُ (نُورٌ بِمَعْنَى الضَّوْءِ أَوْ أَنَّهُ رُوحٌ. قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْغَنِىِّ النَّابُلُسِىُّ) الدِّمَشْقِىُّ فِى كِتَابِ الْفَتْحِ الرَّبَّانِىِّ إِنَّ (مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ مَلَأَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَوْ أَنَّهُ جِسْمٌ قَاعِدٌ فَوْقَ الْعَرْشِ فَهُوَ كَافِرٌ وَإِنْ) صَلَّى وَصَامَ وَ(زَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ) اﻫ أَمَّا إِذَا قَالَ قَائِلٌ اللَّهُ نُورٌ وَلَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ الضَّوْءَ فَلا حَرَجَ عَلَيْهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَمَّى نَفْسَهُ بِهَذَا الِاسْمِ كَمَا جَاءَ فِى سُورَةِ النُّورِ ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ وَكَمَا رَوَى التِّرْمِذِىُّ وَالْبَيْهَقِىُّ وَغَيْرُهُمَا فِى تَعْدَادِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَمَعْنَاهُ الْهَادِى أَوِ الْمُنِيرُ وَسَيَأْتِى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى زِيَادَةُ بَيَانٍ لِهَذَا.

وَالنَّوْعُ الثَّانِى مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ هُوَ (الْكُفْرُ الْفِعْلِىُّ) وَهُوَ يَحْصُلُ بِالْجَوَارِحِ مِنْ يَدٍ وَرِجْلٍ وَنَحْوِهِمَا (كَإِلْقَاءِ الْمُصْحَفِ فِى الْقَاذُورَاتِ) وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى (قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ) صَاحِبُ الْحَاشِيَةِ مِنْ مَشَاهِيرِ مُتَأَخِّرِى الْحَنَفِيَّةِ (وَلَوْ لَمْ يَقْصِدِ الِاسْتِخْفَافَ لِأَنَّ فِعْلَهُ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِخْفَافِ) وَمِثْلُ الْمُصْحَفِ رَمْىُ كُتُبِ الْحَدِيثِ (أَوْ أَوْرَاقِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ أَىِّ وَرَقَةٍ عَلَيْهَا اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى) أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الأَسْمَاءِ الْمُعَظَّمَةِ كَأَسْمَاءِ الأَنْبِيَاءِ وَالْمَلائِكَةِ الَّتِى قُصِدُوا بِهَا (مَعَ الْعِلْمِ بِوُجُودِ الِاسْمِ فِيهَا) وَأَمَّا رَمْىُ الِاسْمِ الَّذِى يُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيُطْلَقُ عَلَى الْبَشَرِ أَيْضًا كَالرَّحِيمِ وَالرَّءُوفِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ قَدْ قُصِدَ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى فَلَيْسَ كُفْرًا وَكَذَا رَمْىُ اسْمِ مُحَمَّدٍ وَمُوسَى وَعِيسَى وَنَحْوِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْصَدَ بِهِ نَبِىٌّ مِنْ هَؤُلاءِ الأَنْبِيَاءِ فَإِنَّهُ لا يَكُونُ كُفْرًا. وَفَصَّلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِى رَمْىِ الْوَرَقَةِ الَّتِى فِيهَا اسْمُ اللَّهِ فِى الْقَاذُورَاتِ فَقَالَ مَنْ رَمَاهَا اسْتِخْفَافًا بِاللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ كَافِرٌ وَمَنْ لَمْ يَقْصِدِ الِاسْتِخْفَافَ بِاسْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلا يَكْفُرُ وَلَكِنَّهُ يَأْثَمُ إِثْمًا كَبِيرًا اﻫ وَهَذَا الْخِلافُ إِنَّمَا هُوَ فِى رَمْىِ الْوَرَقَةِ الَّتِى فِيهَا الِاسْمُ الْمُعَظَّمُ وَأَمَّا رَمْىُ الْمُصْحَفِ أَوْ أَوْرَاقِهِ فِى الْقَاذُورَاتِ أَوْ فِى الْمَكَانِ الْمُسْتَقْذَرِ فَهُوَ كُفْرٌ جَزْمًا أَىْ قَوْلًا وَاحِدًا بِلا خِلافٍ (وَمَنْ عَلَّقَ شِعَارَ الْكُفْرِ عَلَى نَفْسِهِ) أَىْ عَلَّقَ شَيْئًا اتُّخِذَ عَلامَةً دِينِيَّةً خَاصَّةً بِالْكُفَّارِ كَالصَّلِيبِ أَوْ لَبِسَ زُنَّارَ النَّصَارَى أَوْ قَلَنْسُوَةَ الْمَجُوسِ (فَإِنْ كَانَ بِنِيَّةِ التَّبَرُّكِ) أَىْ لِاعْتِقَادِ وُجُودِ الْبَرَكَةِ فِى ذَلِكَ (أَوْ) بِنِيَّةِ (التَّعْظِيمِ) أَىِ اعْتِقَادِ أَنَّ لِهَذَا الشَّىْءِ مَنْزِلَةً عَالِيَةً عِنْدَ اللَّهِ (أَوْ) بِنِيَّةِ (الِاسْتِحْلالِ) أَىْ مَعَ اعْتِقَادِ جَوَازِ ذَلِكَ (مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ كَانَ مُرْتَدًّا) فَإِنْ عَلَّقَهُ مِنْ غَيْرِ تَعْظِيمٍ وَلا لِتَبَرُّكٍ وَلا مَعَ اسْتِحْلالٍ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ فَلا يَكْفُرُ وَلَكِنَّهُ ءَاثِمٌ إِثْمًا كَبِيرًا كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ، وَذَهَبَ أَغْلَبُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ، وَاتَّفَقَ الْفَرِيقَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ عُلَمَاءِ الإِسْلامِ عَلَى أَنَّ مَنْ عَلَّقَ شِعَارَ الْكُفْرِ عَلَى نَفْسِهِ وَدَخَلَ مُخْتَلِطًا مَعَ الْكُفَّارِ مَعَابِدَهُمْ أَنَّهُ يَكْفُرُ إِذْ أَنَّهُ فِعْلٌ لا يَصْدُرُ إِلَّا مِنْ كَافِرٍ إِجْمَاعًا، وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ لا يَصْدُرُ إِلَّا مِنْ كَافِرٍ فَفَاعِلُهُ كَافِرٌ كَالسُّجُودِ لِلصَّنَمِ أَوْ لِلشَّمْسِ أَوْ لِلنَّارِ أَوْ لِلشَّيْطَانِ وَسَوَاءٌ فِى ذَلِكَ نَوَى عِبَادَتَهَا أَمْ لَمْ يَنْوِ.

وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ هُوَ (الْكُفْرُ الْقَوْلِىُّ) وَيَكُونُ بِاللِّسَانِ (كَمَنْ يَشْتِمُ اللَّهَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ مِنَ الْكُفْرِ أُخْتَ رَبِّكَ أَوِ ابْنَ اللَّهِ يَقَعُ الْكُفْرُ هُنَا وَلَوْ لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّ لِلَّهِ أُخْتًا أَوِ ابْنًا) لِأَنَّهُ كَذَّبَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الإِخْلاصِ ﴿لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ ولَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ وَكَذَا لَوْ زَعَمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ ابْنُ اللَّهِ الْمَحْبُوبَ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنَّ هَذَا لا يُنْجِيهِ مِنَ الْكُفْرِ وَهُوَ غَيْرُ سَائِغٍ شَرْعًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لا يُشَبَّهُ بِالأَبِ وَقَدْ شَهِدَتِ النُّصُوصُ بِبُطْلانِهِ كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْمَائِدَةِ ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ﴾ فَهَذِهِ الآيَةُ صَرِيحَةٌ فِى عَدَمِ قَبُولِ مِثْلِ هَذَا التَّأْوِيلِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ جُزَىّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِى الْحَدِيثِ الْقُدْسِىِّ أَنَّ نِسْبَةَ الْوَلَدِ إِلَى اللَّهِ شَتْمٌ لِلَّهِ فَكَيْفَ يَكُونُ بَعْدَ هَذَا سَائِغًا أَوْ مَقْبُولًا. وَأَمَّا حَدِيثُ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ وَأَحَبُّهُمْ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ فَلَيْسَ صَحِيحًا بَلْ هُوَ حَدِيثٌ شَدِيدُ الضَّعْفِ قَالَ شَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِى أَسَانِيدِهِ رَاوِيَانِ مَتْرُوكَانِ فَلا يَنْبَغِى أَنْ يُرْوَى اﻫ قَالَ الْحَافِظُ نُورُ الدِّينِ فِى مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّارُ وَفِيهِ يُوسُفُ بنُ عَطِيَّةَ الصَّفَّارُ وَهُوَ مَتْرُوكٌ وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِىُّ فِى الْكَبِيرِ وَالأَوْسَطِ وَفِيهِ مُوسَى بنُ عُمَيْرٍ وَهُوَ أَبُو هَارُونَ الْقُرَشِىُّ مَتْرُوكٌ اﻫ ثُمَّ الْعِيَالُ فِى اللُّغَةِ مَعْنَاهُ النَّاسُ الَّذِينَ يُنْفِقُ عَلَيْهِمُ الشَّخْصُ وَلَوْ كَانُوا أَعْمَامَهُ أَوْ أَخْوَالَهُ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ الأَوْلادَ فَلَوْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ لَكَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ فَقُرَاءُ اللَّهِ كَمَا ذَكَرَ الْمُنَاوِىُّ فِى شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْسُبَ الْوَلَدَ لِلْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ.

(وَلَوْ نَادَى مُسْلِمٌ مُسْلِمًا ءَاخَرَ بِقَوْلِهِ يَا كَافِرُ) فَفِى ذَلِكَ تَفْصِيلٌ إِنْ أَرَادَ تَكْفِيرَهُ (بِلا تَأْوِيلٍ) أَىْ قَصَدَ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ أَنَّهُ خَارِجٌ مِنَ الإِسْلامِ مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِأَنَّهُ مُسْلِمٌ (كَفَرَ الْقَائِلُ) عِنْدَئِذٍ (لِأَنَّهُ سَمَّى الإِسْلامَ كُفْرًا وَ)بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ (يَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ لِلْمُسْلِمِ) أَىْ لِمَنْ يَعْلَمُهُ مُسْلِمًا (يَا يَهُودِىُّ أَوْ أَمْثَالَهَا مِنَ الْعِبَارَاتِ) مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ أَىْ إِذَا قَالَهَا (بِنِيَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ) فَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ (إِلَّا) أَنَّهُ يُشْبِهُ الْكُفَّارَ أَىْ (إِذَا) قَالَ لِمُسْلِمٍ يُجَالِسُ الْكُفَّارَ مَثَلًا وَيُوَادُّهُمْ وَيُوَافِقُهُمْ فِى كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِهِمْ أَنْتَ كَافِرٌ قَاصِدًا بِذَلِكَ أَنْتَ تُشْبِهُ الْكُفَّارَ أَوْ قَالَ لِمُسْلِمٍ يُعَامِلُ النَّاسَ بِالرِّبَا وَيَظْلِمُهُمْ بِلا شَفَقَةٍ أَنْتَ يَهُودِىٌّ وَ(قَصَدَ أَنَّهُ يُشْبِهُ الْيَهُودَ) فِى مُعَامَلاتِهِ (فَلا يَكْفُرُ) عِنْدَئِذٍ لِتَأَوُّلِهِ، وَكَذَا مَنْ رَأَى إِنْسَانًا كَثِيرَ الْمُخَالَطَةِ وَالْمَوَادَّةِ وَالْمُوَافَقَةِ لِلْكُفَّارِ فَظَنَّهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ كَافِرًا مِثْلَهُمْ أَىْ ظَنَّ أَنَّهُ يَعْتَقِدُ اعْتِقَادَهُمْ فَقَالَ لَهُ يَا كَافِرُ فَإِنَّهُ لا يَكْفُرُ عِنْدَئِذٍ، وَمِثْلُهُ رَجُلٌ بَلَغَهُ أَنَّ إِنْسَانًا مُسْلِمًا انْتَحَرَ فَقَالَ مَاتَ كَافِرًا وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ لِأَنَّ الْقَائِلَ كَانَ جَاهِلًا يَظُنُّ أَنَّ الِانْتِحَارَ وَحْدَهُ كُفْرٌ فَإِنَّهُ فِى هَذِهِ الْحَالِ لا يَكْفُرُ لِأَنَّ لَهُ تَأْوِيلًا أَىِ اعْتَمَدَ عَلَى سَبَبٍ فِى ذَلِكَ الشَّخْصِ ظَنَّهُ مُخْرِجًا مِنَ الإِسْلامِ لِشُبْهَةٍ عَرَضَتْ لَهُ بَيْنَمَا هُوَ فِى الْحَقِيقَةِ لَيْسَ مُخْرِجًا مِنَ الإِسْلامِ.

(وَلَوْ قَالَ شَخْصٌ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنَ اللَّهِ) كَفَرَ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ اسْتِخْفَافٌ بِاللَّهِ تَعَالَى (أَوْ) قَالَ لَهَا (أَعْبُدُكِ كَفَرَ) كَذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ إِشْرَاكًا بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَكِنْ (إِنْ كَانَ) الْقَائِلُ لا (يَفْهَمُ مِنْهَا) أَىْ مِنْ قَوْلِهِ أَعْبُدُكِ (الْعِبَادَةَ الَّتِى هِىَ خَاصَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى) بَلْ يَظُنُّ مِنْ شِدَّةِ الْجَهْلِ أَنَّ مَعْنَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ أُحِبُّكِ مَحَبَّةً شَدِيدَةً فَلا يُكَفَّرُ.

(وَلَوْ قَالَ شَخْصٌ لِآخَرَ اللَّهُ يَظْلِمُكَ كَمَا ظَلَمْتَنِى كَفَرَ الْقَائِلُ لِأَنَّهُ نَسَبَ الظُّلْمَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى) وَالظُّلْمُ عُرِّفَ بِأَنَّهُ مُخَالَفَةُ أَمْرِ وَنَهْىِ مَنْ لَهُ الأَمْرُ وَالنَّهْىُ وَبِأَنَّهُ التَّصَرُّفُ فِى مِلْكِ الْغَيْرِ بِمَا لا يَرْضَى فَمَنْ قَالَ لِآخَرَ اللَّهُ يَظْلِمُكَ كَفَرَ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لا ءَامِرَ لَهُ وَلا نَاهٍ وَكُلُّ شَىْءٍ فِى الْعَالَمِ مُلْكُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَالْعِبَادُ يُسْأَلُونَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِى سُورَةِ فُصِّلَتْ ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ فَمَنْ زَعَمَ خِلافَ ذَلِكَ فَقَدْ كَذَّبَ الْقُرْءَانَ وَنَقَضَ التَّوْحِيدَ (إِلَّا إِذَا) قَالَ اللَّهُ يَظْلِمُكَ كَمَا ظَلَمْتَنِى وَ(كَانَ يَفْهَمُ أَنَّ مَعْنَى يَظْلِمُكَ) فِى هَذَا السِّيَاقِ (يَنْتَقِمُ مِنْكَ فَلا نُكَفِّرُهُ بَلْ نَنْهَاهُ) وَلا يَخْفَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا يَفْهَمُ إِلَى ءَاخِرِهِ أَىْ يَعْتَقِدُ أَنَّ هَذَا هُوَ مَعْنَى الْكَلامِ فِى اللُّغَةِ لا مُجَرَّدَ أَنَّهُ يَقْصِدُ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادِ أَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُ لُغَةً فَإِنَّ مَنْ تَلَفَّظَ بِالصَّرِيحِ مِنَ الْكُفْرِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لا يَحْتَمِلُ فِى اللُّغَةِ إِلَّا مَعْنًى هُوَ كُفْرٌ أَوْ مَعَانِىَ كُلُّهَا كُفْرِيَّةٌ وَزَعَمَ أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ مَعْنًى ءَاخَرَ لَمْ يَنْفَعْهُ زَعْمُهُ هَذَا لِلنَّجَاةِ مِنَ الْكُفْرِ بَلْ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ مَهْمَا ادَّعَى أَنَّهُ قَصَدَ أَوْ أَرَادَ.

(وَلَوْ قَالَ شَخْصٌ لِشَخْصٍ ءَاخَرَ [بِعَامِيَّةِ بَعْضِ الْبِلادِ] وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ يِلْعَنْ رَبَّكَ) وَهُمْ يَفْهَمُونَ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ لَعْنَ اللَّهِ تَعَالَى (كَفَرَ) الْقَائِلُ بِلا شَكٍّ (وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ لِلْمُسْلِمِ [بِعَامِيَّةِ بَعْضِ الْبِلادِ]) أَيْضًا كَبِلادِ الشَّامِ (يِلْعَنْ دِينَكَ) وَهُوَ لا يَفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا لَعْنَ دِينِ الْمُسْلِمِ وَ(قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِنْ قَصَدَ) بِالدِّينِ فِى هَذَا اللَّفْظِ الأَخِيرِ (سِيرَتَهُ) أَىْ قَصَدَ لَعْنَ عَادَاتِهِ وَأَخْلاقِهِ الْخَبِيثَةِ (فَلا يَكْفُرُ، قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ يَكْفُرُ إِنْ أَطْلَقَ أَىْ إِنْ لَمْ يَقْصِدْ سِيرَتَهُ وَلا قَصَدَ دِينَ الإِسْلامِ) أَىْ لِأَنَّ إِطْلاقَ مِثْلِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ يُحْمَلُ عِنْدَ فَقْدِ الْقَرِينَةِ عَلَى الْمَعْنَى الظَّاهِرِ وَهُوَ الِاعْتِقَادُ كَمَا يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ كَلامُ ابْنِ عَابِدِينَ فِى الْحَاشِيَةِ.

(وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ فُلانٌ زَاحَ رَبِّى لِأَنَّ هَذَا فِيهِ نِسْبَةُ الْحَرَكَةِ وَالْمَكَانِ للَّهِ) فَإِنَّ مَنْ يَقُولُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ يَفْهَمُ مِنْهَا نِسْبَةَ الْحَرَكَةِ وَالِانْتِقَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوِ الإِحْسَاسِ بِالضِّيقِ وَهُمَا مَعْنَيَانِ يَسْتَحِيلانِ فِى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.

(وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ) بِعَامِيَّةِ بَعْضِ الْبِلادِ (وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ قَدَّ اللَّهِ) وَهِىَ كَلِمَةٌ يَسْتَعْمِلُهَا بَعْضُ السُّفَهَاءِ فِى بِلادِ الشَّامِ وَ(يَقْصِدُ) أَحَدُهُمْ بِنَاءً عَلَى فَهْمِهِمُ (الْمُمَاثَلَةَ) فِى الْحَجْمِ وَالْمِقْدَارِ وَبَعْضُهُمْ يَقْصِدُ مِنْهَا الْقَدَرَ فَيَقُولُ أَنَا شَايِف حَالِى قَدَّ اللَّهِ أَىْ أَنَا أُسَاوِيهِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ وَهَذَا كُفْرٌ أَيْضًا (وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنْ نَسَبَ إِلَى اللَّهِ جَارِحَةً مِنَ الْجَوَارِحِ) كَالرَّأْسِ أَوِ الأُذُنِ أَوِ اللِّسَانِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَعْضَاءِ وَالأَجْزَاءِ (كَقَوْلِ بَعْضِ السُّفَهَاءِ يَا زُبَّ اللَّهِ وَهُوَ لَفْظٌ صَرِيحٌ فِى الْكُفْرِ لا يُقْبَلُ فِيهِ التَّأْوِيلُ) وَقَدْ ذَكَرَ الزَّبِيدِىُّ فِى تَاجِ الْعَرُوسِ أَنَّ الزُّبَّ هُوَ ذَكَرُ الصَّبِىِّ وَأَنَّهُ يُطْلَقُ كَذَلِكَ عَلَى اللِّحْيَةِ أَوْ مُقَدَّمِهَا وَعَلَى الأَنْفِ فِى لُغَةِ الْيَمَنِ اﻫ وَلا يُسْتَبْعَدُ أَنْ يَعْتَقِدَ بَعْضُ الْجَهَلَةِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَهُ ءَالَةُ الذُّكُورِيَّةِ بَلْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ إِثْبَاتُ ذَلِكَ لَهُ سُبْحَانَهُ حَتَّى قَالَ أَحَدُهُمْ لَمَّا أُخْبِرَ بِأَنَّ اللَّهَ لا يَتَّصِفُ بِذَلِكَ إِذًا مِنْ أَيْنَ يَأْتِى الْمَطَرُ وَهَؤُلاءِ فَاقُوا فِى الْجَهْلِ قُدَمَاءَ الْمُشَبِّهَةِ حَيْثُ قَالَ أَحَدُ رُؤُوسِهِمْ أَلْزِمُونِى مَا شِئْتُمْ أَىْ صِفُوا اللَّهَ تَعَالَى بِأَىِّ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الإِنْسَانِ أُوَافِقْكُمْ فِى ذَلِكَ إِلَّا اللِّحْيَةَ وَالْعَوْرَةَ اﻫ وَهَذَا الْمُشَبِّهُ الْقَدِيمُ كَانَ يَنْسُبُ نَفْسَهُ إِلَى الْمَذْهَبِ الْحَنْبَلِىِّ فَقَالَ فِيهِ ابْنُ عَقِيلٍ وَهُوَ مِنْ أَسَاطِينِ مَذْهَبِ الإِمَامِ أَحْمَدَ مَقَالَةَ ذَمٍّ شَدِيدَةً أَرَادَ بِهَا أَنَّهُ أَلْزَقَ بِمَذْهَبِ الإِمَامِ أَحْمَدَ عَيْبًا وَرِجْسًا لا يَكْفِى الْمَاءُ لِتَنْظِيفِ مَحَلِّهِ وَتَطْهِيرِهِ بِحَيْثُ صَارَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لا يَقُولُونَ حَنْبَلِىٌّ إِلَّا وَمُرَادُهُمْ مُجَسِّمٌ.

(وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ أَنَا رَبُّ مَنْ عَمِلَ كَذَا) لِأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ رَبًّا لِلْعِبَادِ وَمِثْلُ ذَلِكَ لَوْ قَالَ أَنَا رَبُّ النَّجَّارِينَ أَوْ أَنَا رَبُّ التُّجَّارِ أَوْ أَنَا رَبُّ النُّحَاةِ بِخِلافِ مَنْ قَالَ أَنَا رَبُّ هَذِهِ الدَّابَّةِ لِدَابَّةٍ يَمْلِكُهَا أَوْ أَنَا رَبُّ هَذَا الْبَيْتِ لِبَيْتٍ يَمْلِكُهُ أَوْ أَنَا رَبُّ النَّحْوِ أَىْ أُتْقِنُهُ فَإِنَّهُ لا يَكْفُرُ فِى هَذِهِ الأَحْوَالِ قَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ رَبُّ كُلِّ شَىْءٍ مُسْتَحِقُّهُ اﻫ وَأَمَّا مَا شَاعَ فِى بَعْضِ الْبِلادِ مِنْ قَوْلِهِمْ عَنِ الأَبِ رَبُّ الْعَائِلَةِ فَهُوَ قَبِيحٌ لا يَسُوغُ لِأَنَّهُ لا يَصِحُّ لُغَةً وَصْفُ الشَّخْصِ بِأَنَّهُ رَبُّ الأَشْخَاصِ الأَحْرَارِ الَّذِينَ يَعُولُهُمْ أَمَّا إِنْ كَانَ يَمْلِكُ عَبْدًا فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ هُوَ رَبُّهُ أَىْ مَالِكُهُ، عَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الَّذِينَ يَلْهَجُونَ بِلَفْظِ رَبِّ الْعَائِلَةِ أَوْ رَبِّ الأُسْرَةِ لا يَفْهَمُونَ الْمَعْنَى اللُّغَوِىَّ لِلْعِبَارَةِ وَإِنَّمَا يَظُنُّونَ أَنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى مَنْ يَكْفِى عِيَالَهُ حَاجَاتِهِمْ فَلا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِمْ عِنْدَئِذٍ.

(وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ خَوَتْ رَبِّى) وَهِىَ لَفْظَةٌ عَامِيَّةٌ مَعْنَاهَا جَعَلَهُ مَجْنُونًا أَوْ كَالْمَجْنُونِ أَوْ سَبَّبَ لَهُ ذَلِكَ (أَوْ قَالَ لِلْكَافِرِ اللَّهُ يُكْرِمُكَ بِقَصْدِ أَنْ يُحِبَّهُ اللَّهُ كَفَرَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى) فِى سُورَةِ ءَالِ عِمْرَانَ (﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾) أَىْ فَإِنْ أَعْرَضُوا عَنِ الإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (﴿فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾) أَىْ فَهُمْ كُفَّارٌ لا يُحِبُّهُمُ اللَّهُ لِكُفْرِهِمْ وَأَمَّا مَنْ قَالَ لِكَافِرٍ أَكْرَمَكَ اللَّهُ وَلا يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهُ يُحِبُّهُ أَوْ أَنَّهُ مَقْبُولٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ أَرَادَ الدُّعَاءَ لَهُ بِالتَّوْسِعَةِ فِى الرِّزْقِ فَلا يَكْفُرُ لِأَنَّ هَذَا مَعْنًى تَحْتَمِلُهُ هَذِهِ الْكَلِمَةُ فِى اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فَيُقَالُ فُلانٌ أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِمَالٍ كَثِيرٍ مَثَلًا.

(وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ لِلْكَافِرِ) الْحَىِّ (اللَّهُ يَغْفِرُ لَكَ إِنْ قَصَدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغْفِرُ لَهُ) ذُنُوبَهُ (وَهُوَ) بَاقٍ (عَلَى كُفْرِهِ إِلَى الْموْتِ) لِأَنَّ هَذَا تَكْذِيبٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِى سُورَةِ النِّسَاءِ ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ (وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنْ قَالَ لِمَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ اللَّهُ يَرْحَمُهُ) لِأَنَّ طَلَبَ الرَّحْمَةِ لِلْكَافِرِ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى الْكُفْرِ مُعَانَدَةٌ لِلشَّرْعِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ الْكَافِرَ لا يُرْحَمُ فِى الآخِرَةِ فَمَنْ طَلَبَ لَهُ الرَّحْمَةَ مَعَ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ فَكَأنَّهُ يَقُولُ يَا رَبِّ كَذِّبْ نَفْسَكَ أَوْ كَذِّبْ شَرْعَكَ. هَذَا أَىِ الْحُكْمُ بِكُفْرِهِ هُوَ مَا إِذَا قَالَ ذَلِكَ (بِقَصْدِ أَنْ يُرِيحَهُ) اللَّهُ (فِى قَبْرِهِ لا بِقَصْدِ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُ عَذَابُ الْقَبْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنَالَ رَاحَةً فَإِنَّهُ إِنْ قَالَ ذَلِكَ بِهَذَا الْقَصْدِ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لا يَكْفُرُ) أَىْ فَإِنَّهُ إِذَا جَهِلَ أَنَّ الْكَافِرَ لا يُخَفَّفُ عَنْهُ الْعَذَابُ فِى الْقَبْرِ فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ لَمْ نَحْكُمْ بِكُفْرِهِ عِنْدَئِذٍ.

(وَيَكْفُرُ مَنْ يَسْتَعْمِلُ كَلِمَةَ الْخَلْقِ مُضَافَةً لِلنَّاسِ فِى الْمَوْضِعِ الَّذِى تَكُونُ فِيهِ بِمَعْنَى الإِبْرَازِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ كَأَنْ يَقُولَ لِشَخْصٍ مَا اخْلُقْ لِى كَذَا كَمَا خَلَقَكَ اللَّهُ) لِأَنَّ كَلِمَةَ الْخَلْقِ لَهَا فِى لُغَةِ الْعَرَبِ خَمْسَةُ مَعَانٍ أَحَدُهَا مَعْنَى الإِبْرَازِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى لا تُسْتَعْمَلُ مُضَافَةً إِلَى غَيْرِ اللَّهِ لِأَنَّهُ لا مُبْرِزَ لِشَىْءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ إِلَّا اللَّهُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ الزُّمَرِ ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ﴾ هَذَا مَعَ إِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَدَمِ إِطْلاقِ لَفَظِ الْخَالِقِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ.

(وَيَكْفُرُ مَنْ يَشْتُمُ) مَلَكَ الْمَوْتِ (عَزْرَائِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ كَمَا قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ فِى تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ أَوْ) يَشْتُمُ (أَىَّ مَلَكٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ) وَاسْمُ مَلَكِ الْمَوْتِ هُوَ عَزْرَائِيلُ كَمَا وَرَدَ فِى بَعْضِ الآثَارِ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ كَمَا نَقَلَهُ الْقَاضِى عِيَاضٌ فِى الشِّفَا.

(وَكَذَلِكَ) يَكْفُرُ (مَنْ يَقُولُ أَنَا عَايِفُ اللَّهِ أَىْ كَرِهْتُ اللَّهَ) لِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ اسْتِهْزَاءٌ صَرِيحٌ بِهِ تَعَالَى (وَ)كَذَا (يَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ اللَّهُ لا يَتَحَمَّلُ فُلانًا إِذَا فَهِمَ الْعَجْزَ أَوْ أَنَّ اللَّهَ يَنْزَعِجُ مِنْهُ أَمَّا إِذَا كَانَ يَفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ أَنَّ اللَّهَ يَكْرَهُهُ) لِفِسْقِهِ (فَلا يَكْفُرُ).

(وَيَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ) بِعَامِيَّةِ بَعْضِ الْبِلادِ كَبِلادِ الشَّامِ (يِلْعَنْ سَمَاءَ رَبِّكَ لِأَنَّهُ اسْتَخَفَّ بِاللَّهِ تَعَالَى) إِذْ فَهْمُهُمْ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ أَنَّهَا شَتْمٌ لِلْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ وَحَتَّى لَوْ قَصَدَ قَائِلُهَا سَبَّ السَّمَاءِ الَّتِى هِىَ مَسْكَنُ الْمَلائِكَةِ وَأَضَافَهَا إِلَى اللَّهِ لِشَرَفِهَا عِنْدَهُ وَلَمْ يَقْصِدْ لَعْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ كَذَّبَ الْخَالِقَ سُبْحَانَهُ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ وَحَقَّرَ مَا عَظَّمَهُ ورَدَّ شَرْعَهُ. هَذَا بِخِلافِ الَّذِى يَقُولُ يِلْعَنْ سَمَاكَ فَإِنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ بِعَامِيَّتِهِمْ تَحْتَمِلُ أَنْ يَعْنِىَ بِهَا السَّمَاءَ الَّتِى هِىَ مَسْكَنُ الْمَلائِكَةِ وَهِىَ كُفْرٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَمَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ اللَّهَ عَظَّمَ شَأْنَها وَجَعَلَهَا قِبْلَةَ الدُّعَاءِ وَمَهْبِطَ الرَّحَمَاتِ وَالْبَرَكَاتِ وَتَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا سَبُّ سَقْفِ الْبَيْتِ الَّذِى هُوَ فِيهِ أَوِ الْفَرَاغِ الَّذِى يَلِى مَوْضِعَ إِقَامَتِهِ أَوْ يَعْلُو رَأْسَهُ فَلا يَكْفُرُ، عَلَى أَنَّ سَقْفَ الْبَيْتِ وَالْفَضَاءَ الَّذِى يَعْلُو رَأْسَ الإِنْسَانِ مِمَّا هُوَ دُونَ السَّمَاءِ الأُولَى يُسَمَّى سَمَاءً أَيْضًا فِى لُغَةِ الْعَرَبِ.

(وَكَذَلِكَ) يَكْفُرُ (مَنْ يُسَمِّى الْمَعَابِدَ الدِّينِيَّةَ لِلْكُفَّارِ بُيُوتَ اللَّهِ) كَمَا يَفْعَلُ مُدَاهَنَةً وَجَهْلًا كَثِيرٌ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الإِسْلامِ فِى هَذِهِ الأَيَّامِ فَإِنَّهَا بُيُوتٌ رُفِعَتْ لِتَنْقِيصِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَتَكْذِيبِ نَبِيِّهِ وَبُنِيَتْ لِيُسْرَدَ فِيهَا الْكُفْرُ الَّذِى يُنَاقِضُ الْعَقِيدَةَ الْحَقَّةَ فَمِنْ أَيْنَ تَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ بُيُوتًا مُعَظَّمَةً عِنْدَ اللَّهِ. نَعَمْ لَوْ بُنِىَ مَسْجِدٌ لِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْكُفَّارُ فَنَقَضُوهُ أَوْ حَوَّلُوهُ مَكَانًا يُسْتَعْمَلُ لِلْكُفْرِ أَوْ لِجَمْعِ الْقَاذُورَاتِ أَوْ مَتْحَفًا كَمَا فُعِلَ فِى الأَنْدَلُسِ وَبِلادِ الِاتِّحَادِ السُّوفْيِيتِىِّ الْمُنْحَلِّ وَفِلَسْطِينَ وَتُرْكِيَةَ وَغَيْرِهَا لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ حُكْمِ الْمَسْجِدِيَّةِ وَلَيْسَتْ هَذِهِ الأَمَاكِنُ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ بِالْمَعَابِدِ الَّتِى ذَكَرَهَا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ كَلامِهِ (وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الْحَجِّ (﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ﴾ فَالْمُرَادُ بِهِ مَعَابِدُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَمَّا كَانُوا عَلَى الإِسْلامِ) فَالصَّوَامِعُ جَمْعُ صَوْمَعَةٍ وَهِىَ بِنَاءٌ مُحَدَّبُ الرَّأْسِ كَانَ يُبْنَى عَادَةً عَلَى مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ لِيَتَعَبَّدَ فِيهِ الرَّاهِبُ الْمُسْلِمُ، وَالْبِيَعُ جَمْعُ بِيعَةٍ وَهِىَ الْمَكَانُ الَّذِى كَانَ يَتَعَبَّدُ فِيهِ النَّصَارَى قَبْلَ أَنْ يَتْرُكُوا الإِسْلامَ وَيَقُولُوا بِالتَّثْلِيثِ، وَالصَّلَوَاتُ جَمْعُ صَلُوتَا وَهِىَ لُغَةٌ عِبْرِيَّةٌ وَتُطْلَقُ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِى كَانَ الْيَهُودُ الْمُسْلِمُونَ يَتَعَبَّدُونَ فِيهِ أَىْ قَبْلَ أَنْ يُكَذِّبُوا سَيِّدَنَا عِيسَى ثُمَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ. وَمَعْنَى الآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَقَامَ الْحُكَّامَ لِدَفْعِ الأَذَى وَالضَّرَرِ وَلِيَسْتَقِرَّ بِهِمْ أَمَانٌ بَيْنَ الْبَشَرِ وَلَوْلاهُمْ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الأُمَمِ السَّابِقَةِ وَمَسَاجِدُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَذَلِكَ (لِأَنَّهَا) أَىِ الصَّوَامِعَ وَالْبِيَعَ وَالصَّلَوَاتِ (كَمَسَاجِدِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ (حَيْثُ إِنَّ الْكُلَّ بُنِىَ لِتَوْحِيدِ اللَّهِ وَتَمْجِيدِهِ لا لِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ) وَلِذَا (فَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الْمَسْجِدَ الأَقْصَى مَسْجِدًا وَهُوَ لَيْسَ مِنْ بِنَاءِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَلْيَتَّقِ اللَّهَ امْرُؤٌ وَلْيَحْذَرْ أَنْ يُسَمِّىَ مَا بُنِىَ لِلشِّرْكِ بُيُوتَ اللَّهِ وَمَنْ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ قَالَ مَا شَاءَ) ثُمَّ وَجَدَ إِنْ لَمْ يَتُبْ عَاقِبَةَ قَوْلِهِ فِى الآخِرَةِ حَيْثُ يَوَدُّ الْكَافِرُ لَوْ يَفْتَدِى مِنْ عَذَابِ النَّارِ بِأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِى تُؤْوِيهِ، قَالَ رَبُّنا تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِى سُورَةِ الْكَهْفِ ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالَمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا﴾.

(وَكَذَلِكَ مَنْ حَدَّثَ حَدِيثًا كَذِبًا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَذِبٌ فَقَالَ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا أَقُولُ بِقَصْدِ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ الأَمْرَ كَمَا قُلْتُ) كَفَرَ (لِأَنَّهُ نَسَبَ الْجَهْلَ لِلَّهِ تَعَالَى) فَإِنَّ مَعْنَى كَلامِهِ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الأَمْرَ عَلَى خِلافِ الْوَاقِعِ وَالشَّىْءَ عَلَى غَيْرِ مَا هُوَ عَلَيْهِ وَهَذَا هُوَ الْجَهْلُ فَكَلامُهُ فَاسِدٌ بِلا شَكٍّ (لِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ) مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لا يَكُونُ أَنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ (أَنَّهُ كَاذِبٌ لَيْسَ صَادِقًا. وَكَذَلِكَ لا يَجُوزُ الْقَوْلُ) الْمُنْتَشِرُ عَلَى أَلْسِنَةِ كَثِيرٍ مِنَ الْعَوَامِّ فِى بِلادِ الشَّامِ (كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى دِينِهِ اللَّهُ يُعِينُهُ) فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَهُ (بِقَصْدِ الدُّعَاءِ لِكُلٍّ) مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ مُتَضِّمِنًا مَعْنَى الرِّضَا بِكُفْرِ الْكُفَّارِ فَيَكُونُ كُفْرًا لِأَنَّ الرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ وَأَمَّا مَنْ قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ بِقَصْدِ الإِخْبَارِ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِى يُقْدِرُ الْكَافِرَ عَلَى الْكُفْرِ وَيُمَكِّنُهُ مِنْهُ فَلا يَكْفُرُ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الِاعْتِقَادُ الصَّحِيحُ فَإِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَالإِعَانَةُ هُنَا مَعْنَاهَا التَّمْكِينُ وَالإِقْدَارُ لا الرِّضَا وَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ يُونُسَ إِخْبَارًا عَنْ سَيِّدِنَا مُوسَى أَنَّهُ قَالَ ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ﴾ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا وَسَلَّمَ رِضًى بِالْكُفْرِ لَهُمْ وَإِنَّمَا بِإِرَادَةِ وَقَصْدِ تَشْدِيدِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ.

(وَيَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ مُعَمِّمًا كَلامَهُ) عِبَارَةً يُكَذِّبُ التَّعْمِيمُ فِيهَا مَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مِنَ الدِّينِ كَمَنْ يَقُولُ (الْكَلْبُ أَحْسَنُ مِنْ بَنِى ءَادَمَ) لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَفْظٌ عَامٌّ يَرُدُّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الإِسْرَاءِ ﴿ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ﴾ كَمَا يَرُدُّ غَيْرَهُ مِنَ النُّصُوصِ (أَوْ مَنْ يَقُولُ الْعَرَبُ جَرَبٌ) لِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ تَشْمَلُ ذَمَّ الْعَرَبِ جَمِيعًا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ نَبِيًّا أَوْ وَلِيًّا صَالِحًا وَمَنْ لَمْ يَكُنْ (أَمَّا إِذَا خَصَّصَ كَلامَهُ لَفْظًا أَوْ بِقَرِينَةِ الْحَالِ) أَىْ إِنْ أَتَى بِمَا يَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ سَوَاءٌ كَانَ قَالًا أَمْ حَالًا أَىْ أَتَى بِمَا يُخْرِجُ الْكَلامَ عَنْ أَنْ يُعْنَى بِهِ كُلُّ أَفْرَادِ الْجِنْسِ فَلا يَكْفُرُ (كَقَوْلِهِ) الْكَلْبُ أَحْسَنُ مِنْ بَنِى ءَادَمَ الْكُفَّارِ أَوْ قَوْلِهِ (الْيَوْمَ الْعَرَبُ فَسَدُوا ثُمَّ قَالَ الْعَرَبُ جَرَبٌ) مُرِيدًا هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُهُمْ فَاسِدِينَ (فَلا يَكْفُرُ. وَيَكْفُرُ مَنْ يُسَمِّى الشَّيْطَانَ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ) لِأَنَّهُ جَعَلَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ الطَّيِّبَةَ اسْمًا لِلشَّيْطَانِ الْمَلْعُونِ (لا إِنْ ذَكَرَ الْبَسْمَلَةَ) بِغَيْرِ نِيَّةِ تَسْمِيَةِ الشَّيْطَانِ بِهَا بَلْ (بِنِيَّةِ التَّعَوُّذِ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهِ) كَأَنَّهُ يَقُولُ اللَّهُمَّ بِبَرَكَةِ الْبَسْمَلَةِ احْفَظْنَا مِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ لا يَكْفُرُ.

(وَهُنَاكَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ وَالْكُتَّابِ) مِمَّنْ لا يُبَالِى بِالدِّينِ وَلا يَلْتَزِمُ بِالشَّرْعِ (يَكْتُبُ كَلِمَاتٍ كُفْرِيَّةً) يُضَمِّنُهَا أَشْعَارَهُ وَتَصَانِيفَهُ (كَمَا كَتَبَ أَحَدُهُمْ هَرَبَ اللَّهُ) وَكَمَا كَتَبَ الآخَرُ أَنْبِيَاءُ مُسُوخٌ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى (فَهَذَا مِنْ سُوءِ الأَدَبِ مَعَ اللَّهِ) وَمَعَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ (الْمُوقِعِ فِى الْكُفْرِ. وَقَدْ قَالَ الْقَاضِى عِيَاضٌ فِى كِتَابِهِ الشِّفَا لا خِلافَ أَنَّ سَابَّ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَافِرٌ اﻫ) وَقَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا عَلَى تَكْفِيرِ سَابِّ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُنْتَقِصِهِ اﻫ

(وَ)كَـمَا (يَكْفُرُ مَنْ) يَقُولُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ يَكْفُرُ مَنْ (يَسْتَحْسِنُ هَذِهِ الأَقْوَالَ وَالْعِبَارَاتِ وَمَا أَكْثَرَ انْتِشَارَهَا فِى مُؤَلَّفَاتٍ عَدِيدَةٍ) فِى هَذَا الزَّمَنِ.

(وَسُوءُ الأَدَبِ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاسْتِهْزَاءِ بِحَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ أَوْ بِعَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهِ) أَوْ بِأَمْرٍ مِنْ أَوَامِرِهِ (كُفْرٌ) وَذَلِكَ كَالَّذِى يَسْتَهْزِئُ بِلُبْسِ الْعِمَامَةِ وَلُبْسِ الْقَمِيصِ الَّذِى يُعْرَفُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ الْيَوْمَ بِالْجَلَّابِيَّةِ أَوِ الدَّشْدَاشَةِ وَكَذَا الَّذِى يَسْتَهْزِئُ بِالأَكْلِ بِالأَصَابِعِ الثَّلاثَةِ الإِبْهَامِ وَالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَبِاسْتِعْمَالِ السِّوَاكِ وَإِعْفَاءِ اللِّحْيَةِ وَنَتْفِ الإِبْطِ وَالِاسْتِحْدَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ ذَلِكَ أَوْ مَدَحَهُ.

(وَالِاسْتِهْزَاءُ) بِالْقُرْءَانِ الْكَرِيمِ أَوْ (بِمَا كُتِبَ فِيهِ شَىْءٌ مِنَ الْقُرْءَانِ الْكَرِيمِ أَوِ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ) كَالْقَوْلِ إِنَّ سَيِّدَنَا ءَادَمَ يُشْبِهُ الْقِرْدَ أَوِ الْقَوْلِ إِنَّ سَيِّدَنَا يُوسُفَ نَوَى وَصَمَّمَ عَلَى الزِّنَى أَوِ الْقَوْلِ إِنَّ سَيِّدَنَا مُوسَى كَانَ سَيِّئَ الْخُلُقِ أَوِ الْقَوْلِ إِنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُتَعَلِّقَ الْقَلْبِ بِالنِّسَاءِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ (أَوْ بِشَعَائِرِ الإِسْلامِ) جَمْعُ شَعِيرَةٍ وَهِىَ الْمَعْلَمُ أَىِ الْعَلامَةُ الظَّاهِرَةُ مِنْ عَلامَاتِ الدِّينِ كَالأَذَانِ وَرَمْىِ الْجِمَارِ (أَوْ بِحُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى) كَحِلِّ النِّكَاحِ وَالطَّلاقِ وَالذَّبِيحَةِ وَحُرْمَةِ الْكَذِبِ وَالزِّنَى وَالْخِيَانَةِ وَوُجُوبِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَاسْتِحْبَابِ سَتْرِ الْمَرْأَةِ لِوَجْهِهَا (كُفْرٌ قَطْعًا. وَكَذَلِكَ اسْتِحْسَانُ الْكُفْرِ مِنْ غَيْرِهِ كُفْرٌ) إِجْمَاعًا (لِأَنَّ) اسْتِحْسَانَ الْكُفْرِ رِضًى بِهِ وَ(الرِّضَى بِالْكُفْرِ كُفْرٌ) إِجْمَاعًا وَذَلِكَ كَأَنْ يَكْفُرَ خَطِيبٌ فَيُصَفِّقَ لَهُ مُسْتَمِعٌ كَمَا يَفْعَلُ الْفِرَنْجَةُ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِحْسَانِ وَالْمُوَافَقَةِ لِمَا قَالَ أَوْ يَقُولَ سَفِيهٌ كَلِمَةً كُفْرِيَّةً فَيَضْحَكُ مُسْتَمِعٌ رِضًى بِقَوْلِهِ وَمُوَافَقَةً لَهُ لا مَغْلُوبًا بِالضَّحِكِ أَوْ مُسْتَخِفًّا بِالْقَائِلِ فَإِنَّهُ لا يَكْفُرُ عِنْدَئِذٍ.

(وَلا يَكْفُرُ مَنْ نَقَلَ عَنْ غَيْرِهِ) قَوْلًا أَوْ كِتَابَةً (كُفْرِيَّةً حَصَلَتْ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْسَانٍ لَهَا بِقَوْلِهِ قَالَ فُلانٌ كَذَا) فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِى سُورَةِ الْمَائِدَةِ ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ﴾ (وَلَوْ أَخَّرَ صِيغَةَ قَالَ) أَىْ وَمَا شَابَهَهَا مِنْ صِيَغِ الْحِكَايَةِ (إِلَى ءَاخِرِ الْجُمْلَةِ) الَّتِى تَتَضَمَّنُ قَوْلًا كُفْرِيًّا أَىْ إِلَى مَا بَعْدَ انْتِهَائِهَا (فَيُشْتَرَط ُأَنْ يَكُونَ فِى نِيَّتِهِ) مِنْ أَوَّلِ ابْتِدَائِهِ بِهَا (ذِكْرُ أَدَاةِ الْحِكَايَةِ مُؤَخَّرَةً عَنِ الِابْتِدَاءِ) فَإِنْ أَنْهَى الْجُمْلَةَ ثُمَّ نَسِىَ أَنْ يَأْتِىَ بِأَدَاةِ الْحِكَايَةِ أَىْ لِظَنِّهِ أَنَّهُ قَالَهَا فَلا يَكْفُرُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ.


(مَا يُسْتَثْنَى مِنْ) أَلْفَاظِ (الْكُفْرِ الْقَوْلِىِّ)


(يُسْتَثْنَى مِنَ الْكُفْرِ اللَّفْظِىِّ) خَمْسُ حَالاتٍ لا يَكْفُرُ فِيهَا قَائِلُهُ الْحَالَةُ الأُولَى هِىَ (حَالَةُ سَبْقِ اللِّسَانِ أَىْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِشَىْءٍ مِنْ ذَلِكَ) أَىْ بِلَفْظٍ كُفْرِىٍّ (مِنْ غَيْرِ إِرَادَةٍ بَلْ جَرَى) الْكَلامُ (عَلَى لِسَانِهِ وَلَمْ يَقْصِدْ أَنْ يَقُولَهُ بِالْمَرَّةِ) وَذَلِكَ كَأَنْ يَقْصِدَ أَنْ يَقُولَ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَيَسْبِقَ لِسَانُهُ إِلَى النُّطْقِ بِمَا لَمْ يُرِدِ النُّطْقَ بِهِ فَيَقُولَ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ لا مُؤَاخَذَةَ عَلَيْهِ عِنْدَئِذٍ.

(وَ)الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ (حَالَةُ غَيْبُوبَةِ الْعَقْلِ أَىْ عَدَمِ صَحْوِ الْعَقْلِ) فَإِنَّ مَنْ غَابَ عَقْلُهُ فَنَطَقَ فِى أَثْنَاءِ ذَلِكَ بِكَلامٍ كُفْرِىٍّ لا يُكَفَّرُ لِارْتِفَاعِ التَّكْلِيفِ عَنْهُ حِينَذَاكَ. وَيَشْمَلُ هَذَا النَّائِمَ وَالْمَجْنُونَ وَنَحْوَهُمَا كَالْوَلِىِّ إِذَا غَابَ عَقْلُهُ بِالْوَجْدِ فَتَكَلَّمَ فِى حَالِ الْغَيْبُوبَةِ بِمَا يُخَالِفُ شَرْعَ اللَّهِ مِمَّا هُوَ مِنْ أَلْفَاظِ الْكُفْرِ فَإِنَّهُ لا حَرَجَ عَلَيْهِ عِنْدَئِذٍ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا الْمَجْذُوبَ وَالْمَجْنُونَ يُنْهَيَانِ عَنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ.

(وَ)الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ (حَالَةُ الإِكْرَاهِ) مِنْ قَادِرٍ عَلَى تَنْفِيذِ تَهْدِيدِهِ لِمَنْ يُصَدِّقُهُ أَنَّهُ يَفْعَلُ وَلا يَجِدُ طَرِيقَةً لِلْخَلاصِ مِنْ تَنْفِيذِ التَّهْدِيدِ إِلَّا بِالنُّطْقِ بِمَا طُلِبَ مِنْهُ (فَمَنْ نَطَقَ بِالْكُفْرِ بِلِسَانِهِ) فِى هَذِهِ الْحَالِ (مُكْرَهًا بِالْقَتْلِ وَنَحْوِهِ) أَىْ مِمَّا يُفْضِى إِلَى الْمَوْتِ (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ فَلا يَكْفُرُ) وَأَمَّا إِذَا أُكْرِهَ فَنَطَقَ بِسَبَبِ ذَلِكَ بِالْكُفْرِ لَكِنَّ صَدْرَهُ انْشَرَحَ بِهِ عِنْدَ النُّطْقِ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ كَمَا (قَالَ تَعَالَى) فِى سُورَةِ النَّحْلِ (﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَّنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ﴾ الآيَةَ) وَأَمَّا غَيْرُ الْمُكْرَهِ فَلا يُشْتَرَطُ لِلْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ انْشِرَاحُ الصَّدْرِ وَلا مَعْرِفَةُ حُكْمِ مَا قَالَهُ وَأَنَّهُ كُفْرٌ لِحَدِيثِ التِّرْمِذِىِّ وَغَيْرِهِ إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِى بِهَا فِى النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا اﻫ وَبِهِ يُعْلَمُ فَسَادُ مَا قَالَهُ سَيِّدُ سَابِقٍ وَبَعْضٌ ءَاخَرُونَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ مِنْ أَنَّ الأَلْفَاظَ الْكُفْرِيَّةَ لا تُؤَثِّرُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا شَارِحًا صَدْرَهُ بِهَا وَنَاوِيًا مَعْنَاهَا وَمُعْتَقِدًا لَهُ فَإِنَّهُمْ بِقَوْلِهِمْ هَذَا جَعَلُوا كُلَّ الْعِبَادِ فِى حُكْمِ الْمُكْرَهِ عَلَى خِلافِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِى جَعَلَ لِلْمُكْرَهِ حُكْمًا خَاصًّا لا يَتَجَاوَزُهُ إِلَى غَيْرِهِ.

فَائِدَةٌ. الْمُكْرَهُ إِذَا ثَبَتَ فَلَمْ يُجِبِ الْكُفَّارَ لِمَا أَرَادُوا مِنْهُ فَهُوَ أَحْسَنُ وَإِذَا قَتَلُوهُ يَكُونُ قَدْ فَازَ بِالشَّهَادَةِ.

تَنْبِيهٌ. يُشْكِلُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ مَا يَقُولُهُ الْفُقَهَاءُ فِى بَابِ الإِكْرَاهِ مِنْ عَدِّهِمُ الضَّرْبَ وَالْحَبْسَ وَأَخْذَ الْمَالِ وَقَطْعَ الإِصْبَعِ مِنْ أَنْوَاعِ الإِكْرَاهِ فَيَظنُّونَ أَنَّ هَذَا إِكْرَاهٌ يَجُوزُ بِهِ النُّطْقُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ كَمَا اخْتَلَطَ الأَمْرُ عَلَى بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إِلَى الْمَذْهَبِ الْحَنَفِىِّ مِنْ أَهْلِ عَصْرِنَا وَلَيْسَ هَذَا مَا قَصَدَهُ الْعُلَمَاءُ عِنْدَ عَدِّهِمْ لِهَذِهِ الأَشْيَاءِ فِى أَنْوَاعِ الإِكْرَاهِ بَلْ أَرَادُوا أَنَّ كُلًّا مِنْهَا يَكُونُ إِكْرَاهًا فِى بَعْضِ الأَحْوَالِ بِالنِّسْبَةِ لِبَعْضِ الأُمُورِ كَالطَّلاقِ وَغَيْرِهِ وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلنُّطْقِ بِالْكُفْرِ فَالْمُعْتَبَرُ مِنَ الإِكْرَاهِ عِنْدَئِذٍ هُوَ الْقَتْلُ وَمَا أَفْضَى إِلَيْهِ كَمَا قَدَّمْنَا بَلْ قَالَ بَعْضُهُمُ الْمُعْتبَرُ الْقَتْلُ فَقَطْ وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الضَّرْبَ وَالْحَبْسَ وَقَطْعَ الإِصْبَعِ وَمَا شَابَهَ لا يُعَدُّ إِكْرَاهًا عَلَى الْقَتْلِ وَهُوَ دُونَ الْكُفْرِ فَكَيْفَ بِالْكُفْرِ، عَلَى أَنَّ الإِكْرَاهَ وَلَوْ بِالْقَتْلِ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ لا يُبِيحُ لِلْمُكْرَهِ قَتْلَهُ وَأَمَّا الإِكْرَاهُ عَلَى الْكُفْرِ فَيُبِيحُ النُّطْقَ بِهِ مَعَ عَدَمِ انْشِرَاحِ الصَّدْرِ كَمَا تَقَدَّمَ.

فَائِدَةٌ ثَانِيَةٌ. الْمُعْتَمَدُ أَنَّ الإِكْرَاهَ عَلَى الْفِعْلِ الْكُفْرِىِّ كَالإِكْرَاهِ عَلَى النُّطْقِ بِالْكُفْرِ فِى حُكْمِهِ وَتَفْصِيلاتِهِ.

تَنْبِيهٌ ثَانٍ. تَهْدِيدُ الشَّخْصِ بِقَتْلِ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ أَوْ وَلَدِهِ لَيْسَ إِكْرَاهًا لَهُ وَلا يُجِيزُ لَهُ التَّلَفُّظَ بِالْكُفْرِ.

وَالْحَالَةُ الرَّابِعَةُ هِىَ (حَالَةُ الْحِكَايَةِ لِكُفْرِ الْغَيْرِ فَلا يَكْفُرُ الْحَاكِى كُفْرَ غَيْرِهِ) أَىِ الَّذِى يَنْقُلُ الْكَلامَ الْكُفْرِىَّ الَّذِى قَالَهُ غَيْرُهُ مُسْتَعْمِلًا أَدَاةَ الْحِكَايَةِ أَىْ (عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الرِّضَى وَالِاسْتِحْسَانِ) كَمَا تَقَدَّمَ (وَمُسْتَنَدُنَا فِى اسْتِثْنَاءِ مَسْئَلَةِ الْحِكَايَةِ) ءَايَاتٌ وَأَحَادِيثُ مِنْهَا (قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ التَّوْبَةِ (﴿وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّـهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْـمَسِيحُ ابْنُ اللَّـهِ﴾) وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْمَائِدَةِ (﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ ثُمَّ الْحِكَايَةُ الْمَانِعَةُ لِكُفْرِ حَاكِى الْكُفْرِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِى أَوَّلِ الْكَلِمَةِ الَّتِى يَحْكِيهَا عَمَّنْ تَكَلَّمَ بِكُفْرٍ أَوْ بَعْدَ ذِكْرِهِ الْكَلِمَةَ عَقِبَهَا وَقَدْ كَانَ نَاوِيًا أَنْ يَأْتِىَ بِأَدَاةِ الْحِكَايَةِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَةَ الْكُفْرِ فَلَوْ قَالَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ قَوْلُ النَّصَارَى أَوْ قَالَتْهُ النَّصَارَى فَهِىَ حِكَايَةٌ مَانِعَةٌ لِلْكُفْرِ عَنِ الْحَاكِى).

(وَ)الْحَالَةُ الْخَامِسَةُ (حَالَةُ كَوْنِ الشَّخْصِ مُتَأَوِّلًا بِاجْتِهَادِهِ فِى فَهْمِ الشَّرْعِ) أَىْ أَنْ يَفْهَمَ شَخْصٌ ءَايَةً أَوْ حَدِيثًا عَلَى خِلافِ الْمَعْنَى الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ تَفْسِيرَهُ لا يُوَافِقُ لُغَةَ الْعَرَبِ وَلِسَانَهُمْ أَوْ أَنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ فَسَّرَ النَّصَّ الَّذِى تَأَوَّلَهُ عَلَى خِلافِ مَا فَسَّرَهُ بِهِ أَوْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعَهُمْ مِنْ أَيَّامِ الصَّحَابَةِ فَهِمُوا مِنْهُ خِلافَ مَا فَهِمَ (فَإِنَّهُ لا يَكْفُرُ الْمُتَأَوِّلُ) فِى هَذِهِ الْحَالِ (إِلَّا إِذَا كَانَ تَأَوُّلُهُ فِى الْقَطْعِيَّاتِ) أَىْ مَا كَانَ التَّأْوِيلُ فِيهِ يَنْقُضُ التَّوْحِيدَ أَوْ يَنْقُضُ الإِيمَانَ بِنَبِىِّ اللَّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّابِتَيْنِ بِالأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ (فَأَخْطَأَ فَإِنَّهُ لا يُعْذَرُ) لِأَنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ لا يَكُونُ قَدْ حَصَّلَ أَدْنَى الإِيمَانِ وَلا فَهِمَ مَعْنَى الإِلَهِ وَلا مَعْنَى النَّبِىِّ أَوِ الرَّسُولِ رَغْمَ تَلَفُّظِهِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَأَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَلَكِنَّهُ كَانَ قَطْعِىَّ الثُّبُوتِ فِى حَدِّ ذَاتِهِ وَلا سَبِيلَ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ إِلَّا بِالنَّقْلِ وَالسَّمَاعِ كَالْحَوْضِ وَالصِّرَاطِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْمَلائِكَةِ وَفَضْلِ الْخُلَفَاءِ الأَرْبَعَةِ وَالأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ مِنْ وَاجِبٍ وَمُحَرَّمٍ وَمَكْرُوهٍ وَمَنْدُوبٍ وَمُبَاحٍ مِمَّا أُجْمِعَ عَلَيْهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا ثَبَتَ بِالْقَطْعِ كَوْنُهُ مِنَ الدِّينِ فَلَمْ يَبْلُغِ الصَّوَابُ فِيهِ مُسلمًا وَلَمْ يُنْقَلْ إِلَيْهِ فَتَأَوَّلَ ءَايَةً أَوْ حَدِيثًا عَلَى خِلافِ حُكْمِ الشَّرْعِ فِيهِ لِأَنَّهُ أَخْطَأَ فِى فَهْمِ النَّصِّ فَلا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ حِينَئِذٍ عَلَى الْمُعْتَمَدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا مَنْ تَأَوَّلَ فَأَخْطَأَ بِحَيْثُ يَرْجِعُ خَطَؤُهُ بِالإِبْطَالِ عَلَى أَصْلِ الْعَقِيدَةِ وَالإِيمَانِ فَإِنَّهُ لا يُعْذَرُ (كَتَأَوُّلِ الَّذِينَ قَالُوا بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَأَزَليَّتِهِ كَابْنِ تَيْمِيَةَ) الْحَفِيدِ أَحْمَدَ بنِ عَبْدِ الْحَلِيمِ مِنْ مُتَأَخِّرِى الْمُنْتَسِبِينَ زُورًا إِلَى مَذْهَبِ أَحْمَدَ ابنِ حَنْبَلٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (وَأَمَّا مِثَالُ مَنْ لا يَكْفُرُ مِمَّنْ تَأَوَّلَ فَهُوَ كَتَأَوُّلِ الَّذِينَ مَنَعُوا الزَّكَاةَ فِى عَهْدِ) سَيِّدِنَا (أَبِى بَكْرٍ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ مُتَأَوِّلِينَ ذَلِكَ (بِأَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِى عَهْدِ الرَّسُولِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لِأَنَّ صَلاتَهُ كَانَتْ عَلَيْهِمْ سَكَنًا لَهُمْ أَىْ رَحْمَةً وَطُمَأْنِينَةً وَطُهْرَةً وَأَنَّ ذَلِكَ انْقَطَعَ بِمَوْتِهِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يُكَفِّرُوهُمْ لِذَلِكَ لِأَنَّ هَؤُلاءِ فَهِمُوا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ التَّوْبَةِ (﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ﴾ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ ﴿خُذْ﴾ أَىْ يَا مُحَمَّدُ الزَّكَاةَ لِتَكُونَ إِذَا دَفَعُوهَا إِلَيْكَ سَكَنًا لَهُمْ وَأَنَّ هَذَا لا يَحْصُلُ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَلا يَجِبُ عَلَيْهِمْ دَفْعُهَا لِأَنَّهُ قَدْ مَاتَ وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِأَخْذِهَا مِنْهُمْ) فَقَالُوا الَّذِى كَانَ يُصَلِّى علَيَنْاَ قَدْ مَاتَ فَلِمَ يَأْخُذُ أَبُو بَكْرٍ أَمْوَالَنَا فَامْتَنَعُوا مِنْ دَفْعِهَا لِذَلِكَ (وَلَمْ يَفْهَمُوا) مِنْ نُصُوصِ الشَّرْعِ وَلا كَانُوا عَلِمُوا (أَنَّ الْحُكْمَ عَامٌّ فِى) زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَهُ أَىْ فِى (حَالِ حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ وَإِنَّما قَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ كَمَا قَاتَلَ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ فِى دَعْوَاهُ النُّبُوَّةَ) وَالآخَرِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا غَيْرَ مُسَيْلِمَةَ مِنَ الْمُتَنَبِّئينَ الْكَذَّابِينَ (لِأَنَّهُ مَا كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمُ) الزَّكَاةَ (قَهْرًا بِدُونِ قِتَالٍ لِأَنَّهُمْ) تَجَمَّعُوا لِمَنْعِهَا وَ(كَانُوا ذَوِى قُوَّةٍ فَاضْطُرَّ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (إِلَى الْقِتَالِ) وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْحُرُوبُ حُرُوبَ الرِّدَّة لِأَنَّ أَهْلَ الإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ حَارَبُوا فِيهَا مَعَ الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ مَنِ ارْتَدَّ عَنِ الإِسْلامِ وَمَنِ ارْتَدَّ عَنْ دَفْعِ الزَّكَاةِ وَلَيْسَ لِأَنَّ مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ كَانَ مُرْتَدًّا عَنِ الإِسْلامِ كَمَنِ اتَّبَعَ مُدَّعِى النُّبُوَّةِ الْكَذَّابِينَ.

(وَكَذَلِكَ) لَمْ يُكَفِّرِ الصَّحَابَةُ (الَّذِينَ فَسَّرُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الْمَائِدَةِ (﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنْتَهُونَ﴾ بِأَنَّهُ تَخْيِيرٌ) بَيْنَ شُرْبِ الْخَمْرِ وَبَيْنَ تَرْكِ شُرْبِها (وَلَيْسَ تَحْرِيمًا لِلْخَمْرِ فَشَرِبُوهَا لِأَنَّ) هَؤُلاءِ لَمْ يَفْهَمُوا الآيَةَ عَلَى وَجْهِهَا فَظَنُّوا أَنَّهَا لا تَعْنِى تَحْرِيمَ الْخَمْرِ وَلَمْ يَبْلُغْهُمُ اجْتِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَحْرِيمِهَا وَلِهَذَا فَإِنَّ سَيِّدَنَا (عُمَرَ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (مَا كَفَّرَهُمْ وَإِنَّمَا قَالَ اجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ ثَمَانِينَ ثُمَّ إِنْ عَادُوا) أَىْ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ شُرْبَهَا جَائِزٌ (فَاقْتُلُوهُمْ اﻫ) أَىْ لِأَنَّهُمْ حِينَئِذٍ يَكُونُونَ قَائِلِينَ بِحِلِّهَا بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِـإِطْبَاقِ الأُمَّةِ عَلَى تَحْرِيمِهَا فَيَكُونُونَ مُرْتَدِّينَ تَجْرِى عَلَيْهِمْ أَحْكَامُهُمْ. وَالْحَدِيثُ الْمَوْقُوفُ (رَوَاهُ ابْنُ أَبِى شَيْبَةَ) وَهَكَذَا فِى زَمَانِنَا هَذَا مَنْ كَانَ يَعِيشُ بَعِيدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ بَعِيدًا مِمَّنْ يَعْلَمُ مِثْلَ هَذَا الْحُكْمِ فَلَمْ يَبْلُغْهُ لِذَلِكَ تَحْرِيمُ شُرْبِ الْخَمْرِ لَمْ يُحْكَمْ بِرِدَّتِهِ إِذَا اعْتَقَدَ لِخَطَإٍ فِى التَّأْوِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ وَ(إِنَّمَا كَفَّرُوا) أَىِ الصَّحَابَةُ (الآخَرِينَ) مِمَّنْ حَارَبُوهُمْ فِى حُرُوبِ الرِّدَّةِ أَىِ (الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَنِ الإِسْلامِ لِتَصْدِيقِهِمْ لِمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ الَّذِى ادَّعَى الرِّسَالَةَ فَمُقَاتَلَتُهُمْ لِهَؤُلاءِ الَّذِينَ تَأَوَّلُوا مَنْعَ الزَّكَاةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ لِأَخْذِ الْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ فِى أَمْوَالِهِمْ وَذَلِكَ كَقِتَالِ الْبُغَاةِ) الَّذِينَ يَخْرُجُونَ عَنْ طَاعَةِ الْخَلِيفَةِ وَيُحْوِجُونَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ لِيُرْجِعَهُمْ إِلَى الطَّاعَةِ (فَإِنَّهُمْ لا يُقَاتَلُونَ لِكُفْرِهِمْ بَلْ يُقَاتَلُونَ لِرَدِّهِمْ إِلَى طَاعَةِ الْخَلِيفَةِ كَالَّذِينَ قَاتَلَهُمْ سَيِّدُنَا عَلِىٌّ فِى الْوَقَائِعِ الثَّلاثِ وَقَعْةِ الْجَمَلِ) ضِدَّ مَنْ نَكَثَ بِبَيْعَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ (وَوَقَعْةِ صِفِّينَ مَعَ مُعَاوِيَةَ) وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ الَّذِينَ حَادُوا عَنِ الْحَقِّ (وَوَقْعَةِ النَّهْرَوَانِ مَعَ الْخَوَارِجِ) الْمَارِقِينَ مِنَ الدِّينِ عَلَى وَفْقِ مَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ عَلِىٌّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أُمِرْتُ بِقِتَالِ النَّاكِثِينَ وَالْقَاسِطِينَ وَالْمَارِقِينَ اﻫ رَوَاهُ النَّسَائِىُّ فَإِنَّ سَيِّدَنَا عَلِيًّا وَمَنْ مَعَهُ قَاتَلُوهُمْ لِرَدِّهِمْ إِلَى الْحَقِّ لا عَلَى أَنَّهُمْ خَارِجُونَ مِنَ الإِسْلامِ وَلِذَلِكَ لَمْ يُجْرُوا عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ قِتَالِ الْكُفَّارِ فَلَمْ يَسْلِبُوهُمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَبِعُوا مُدْبِرَهُمْ وَلا أَجْهَزُوا عَلَى جَرِيحِهِمْ وَلا قَتَلُوا أَسْرَاهُمْ (عَلَى أَنَّ مِنَ الْخَوَارِجِ صِنْفًا هُمْ كُفَّارٌ حَقِيقَةً فَأُولَئِكَ لَهُمْ حُكْمُهُمُ الْخَاصُّ) وَسَيَأْتِى إِنْ شَاءَ اللَّهُ زِيَادَةُ بَيَانٍ لِحَالِهِمْ. (قَالَ الْحَافِظُ أَبُو زُرْعَةَ) ابْنُ الْحَافِظِ زَيْنِ الدِّينِ (الْعِرَاقِيُّ فِي نُكَتِهِ وَقَالَ شَيْخُنَا أَيْضًا يَعْنِى الْبُلْقِينِىَّ يَنْبَغِى أَنْ يُقَالَ بِلا تَأْوِيلٍ لِيَخْرُجَ الْبُغَاةُ وَالْخَوَارِجُ الَّذِينَ يَسْتَحِلُّونَ) بِالتَّأْوِيلِ (دِمَاءَ أَهْلِ الْعَدْلِ) أَىِ الَّذِينَ هُمْ فِى طَاعَةِ الْخَلِيفَةِ (وَأَمْوَالَهُمْ وَيَعْتَقِدُونَ) مُتَأَوِّلِينَ أَيْضًا (تَحْرِيمَ دِمَائِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ وَ)لِيَخْرُجَ (الَّذِينَ أَنْكَرُوا وُجُوبَ الزَّكَاةِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّأْوِيلِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمْ يُكَفِّرُوهُمْ اﻫ) أَىْ لَمْ يُكَفِّرُوا هَؤُلاءِ الْبُغَاةَ وَلا الْخَوَارِجَ وَلا مَانِعِى الزَّكَاةِ (وَهَذَا شَاهِدٌ مِنْ مَنْقُولِ الْمَذْهَبِ لِمَسْئَلَةِ التَّأْوِيلِ بِالِاجْتِهَادِ. وَمِمَّا يَشْهَدُ مِنَ الْمَنْقُولِ) أَىْ مِنْ مَنْقُولِ الْمَذْهَبِ (فِى مَسْئَلَةِ الِاجْتِهَادِ بِالتَّأَوُّلِ وَحِكَايَةِ الْكُفْرِ قَوْلُ شَمْسِ الدِّينِ) مُحَمَّدِ بنِ شِهَابِ الدِّينِ أَحْمَدَ (الرَّمْلِىِّ فِى شَرْحِهِ عَلَى مِنْهَاجِ الطَّالِبِينَ فِى أَوَائِلِ كِتَابِ الرِّدَّةِ فِى شَرْحِ قَوْلِ) الشَّيْخِ يَحْيَى (النَّوَوِىِّ) رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى (الرِّدَّةُ قَطْعُ الإِسْلامِ بِنِيَّةٍ أَوْ قَوْلِ كُفْرٍ مَا نَصُّهُ فَلا أَثَرَ لِسَبْقِ لِسَانٍ أَوْ إِكْرَاهٍ وَاجْتِهَادٍ وَحِكَايَةِ كُفْرٍ اﻫ وَقَوْلُ الْمُحَشِّى أَىْ صَاحِبِ الْحَاشِيَةِ عَلَى الشَّرْحِ نُورِ الدِّينِ عَلِىٍّ الشَّبْرَامَلِّسِى الْمُتَوَفَّى سَنَةَ أَلْفٍ وَسَبْعٍ وَثَمَانِينَ عِنْدَ قَوْلِ الرَّمْلِىِّ وَاجْتِهَادٍ مَا نَصُّهُ أَىْ لا مُطْلَقًا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ لِمَا سَيَأْتِى مِنْ نَحْوِ كُفْرِ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ مَعَ أَنَّهُ بِالِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلالِ اﻫ قَالَ الْمُحَشِّى الآخَرُ عَلَى الرَّمْلِىِّ أَحْمَدُ بنُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الْمَعْرُوفُ بِالْمَغْرِبِىِّ الرَّشِيدِىِّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ أَلْفٍ وَسِتٍّ وَتِسْعِينَ قَوْلُهُ وَاجْتِهَادٍ أَىْ فِى مَا لَمْ يَقُمِ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى خِلافِهِ بِدَلِيلِ كُفْرِ نَحْوِ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ مَعَ أَنَّهُ بِالِاجْتِهَادِ اهـ وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مُتَأَوِّلٍ يَمْنَعُ عَنْهُ تَأْوِيلُهُ التَّكْفِيرَ، فَلْيَجْعَلْ طَالِبُ الْعِلْمِ قَوْلَ الرَّشِيدِىِّ الْمَذْكُورَ فِى مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى ذُكْرٍ يَعْنِى) يَنْبَغِى (أَنْ يَكُونَ مُسْتَحْضِرًا لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ) الَّتِى هِىَ قَيْدٌ فِى الْمَسْئَلَةِ (فِى قَلْبِهِ لِأَنَّهَا مُهِمَّةٌ) وَذَلِكَ (لِأَنَّ التَّأَوُّلَ مَعَ قِيَامِ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ لا يَمْنَعُ التَّكْفِيرَ عَنْ صَاحِبِهِ) وَالْمُرَادُ بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ هُنَا كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ شَيْئَانِ أَوَّلُهُمَا قَطْعِىٌّ يَسْتَقِلُّ الْعَقْلُ بِالْعِلْمِ بِهِ بِحَيْثُ يَكُونُ مُخَالِفُهُ نَاقِضًا لِأَصْلِ التَّوْحِيدِ كَالدَّلِيلِ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ فَإِنَّ مَنْ رَدَّ ذَلِكَ وَزَعَمَ أَزَلِيَّتَهُ بِالنَّوْعِ أَوْ بِالأَفْرَادِ فَقَدْ كَذَّبَ بِوَحْدَانِيَّةِ الْخَالِقِ جَلَّ وَعَزَّ وَالثَّانِى قَطْعِىٌّ يُعْلَمُ ثُبُوتُهُ لِلشَّخْصِ بِالنَّقْلِ كَعِلْمِهِ بِفَرْضِيَّةِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ بِنَقْلِ الْكَافَّةِ عَنِ الْكَافَّةِ فَمَنْ بَلَغَهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ ثُبُوتُ أَمْرٍ فِى الشَّرْعِ ثُمَّ رَدَّهُ بِدَعْوَى التَّأْوِيلِ أَوِ الِاجْتِهَادِ فَقَدْ كَذَّبَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَزْرَى بِالْوَحْىِ الَّذِى أُنْزِلَ عَلَيْهِ. (وَقَوْلُنَا فِى الْخَوَارجِ بِاسْتِثْنَاءِ بَعْضِهِمْ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يُكَفَّرُوا لِثُبُوتِ مَا يَقْتَضِى التَّكْفِيرَ فِى بَعْضِهِمْ) الآخَرِ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى التَّكْفِيرِ بِالذَّنْبِ وَمِنْهُمْ مَنْ تَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى الْحُكْمِ بِكُفْرِ كُلِّ مَنْ خَالَفَهُمْ أَوِ اسْتِحْلالِ قَتْلِ أَطْفَالِ الْمُخَالِفِينَ أَوْ إِنْكَارِ بَعْضِ سُوَرِ الْقُرْءَانِ فَهَذَا الصِّنْفُ الثَّانِى كُفَّارٌ بِلا شَكٍّ (كَمَا) حَكَمَ بِذَلِكَ أَبُو مَنْصُورٍ التَّمِيمِىُّ وَغَيْرُهُ وَ(يُؤَيِّدُهُ قَوْلُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ رَوَوْا أَحَادِيثَ الْخَوَارِجِ) فَإِنَّ فِى مَا رَوَوْهُ أَوْصَافًا أُطْلِقَتْ عَلَى الْخَوَارِجِ تَقْتَضِى كُفْرَهُمْ مِثْلَ هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ وَكِلابُ النَّارِ وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ (وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنْ سَيِّدِنَا عَلِىٍّ مِنْ أَنَّهُ قَالَ إِخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا فَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ لِلْحُكْمِ عَلَى جَمِيعِهِمْ بِالإِسْلامِ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ إِسْنَادًا عَنْ) سَيِّدِنَا (عَلِىٍّ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ بَلْ رَوَاهُ عَنْهُ الْبَيْهَقِىُّ بِإِسْنَادٍ غَيْرِ قَائِمٍ وَالْمَشْهُورُ الْمَعْرُوفُ أَنَّ عَلِيًّا رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فِى أَهْلِ الْجَمَلِ لا فِى الْخَوَارِجِ وَيُقَوِّى ذَلِكَ مَا وَرَدَ فِى ذَمِّهِمْ مِنْ أَحَادِيثَ إِذْ يَبْعُدُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُعَبِّرَ سَيِّدُنَا عَلِىٌّ فِيهِمْ بِقَوْلِ إِخْوَانُنَا لا سِيَّمَا (وَ)يؤيد ذلك أَنَّهُ (قَدْ قَطَعَ الْحَافِظُ الْمُجْتَهِدُ) مُحَمَّدُ (بنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِىُّ بِتَكْفِيرِهِمْ) كَمَا حَكَاهُ عَنْهُ الْحَافِظُ فِى الْفَتْحِ (وَ)قَطَعَ (غَيْرُهُ) مِنَ الأَئِمَّةِ بِذَلِكَ أَيْضًا لِمَا وَرَدَ فِيهِمْ (وَحُمِلَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلافِ أَحْوَالِ الْخَوَارِجِ بِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ وَصَلَ إِلَى حَدِّ الْكُفْرِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَصِلْ).

(وَهَذِهِ الْمَسْئَلَةُ) أَىْ عَدَمُ تَكْفِيرِ مَنْ أَنْكَرَ حُكْمًا ظَاهِرًا مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ بِتَأْوِيلٍ (بَعْضُهُمْ عَبَّرَ عَنْهَا بِالِاجْتِهَادِ وَبَعْضُهُمْ عَبَّرَ عَنْهَا بِالتَّأْوِيلِ فَمِمَّنْ عَبَّرَ بِالتَّأْوِيلِ الْحَافِظُ الْفَقِيهُ الشَّافِعِىُّ سِرَاجُ الدِّينِ) عُمَرُ بنُ رَسْلانَ (البُلْقِينِىُّ الَّذِى قَالَ فِيهِ) الْفَيْرُوزَابَادِىُّ (صَاحِبُ الْقَامُوسِ) الْمُحِيطِ فِى اللُّغَةِ (عَلَّامَةُ الدُّنْيَا وَعَبَّرَ بَعْضُ شُرَّاحِ مِنْهَاجِ الطَّالِبِينَ بِالِاجْتِهَادِ) وَقَدْ تَقَدَّمَ كُلُّ ذَلِكَ (وَكِلْتَا الْعِبَارَتَيْنِ لا بُدَّ لَهُمَا مِنْ قَيْدٍ مَلْحُوظٍ) كَمَا تَقَدَّمَ أَيْضًا (وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مُتَأَوِّلٍ يَمْنَعُ عَنْهُ تَأْوِيلُهُ التَّكْفِيرَ فَلا يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ ذَلِكَ مُطْلَقٌ لِأَنَّ الإِطْلاقَ فِى ذَلِكَ انْحِلالٌ وَمُرُوقٌ مِنَ الدِّينِ) وَفَتْحُ بَابٍ وَاسِعٍ لِنَقْضِ عُرَاهُ وَإِدْخَالِ عَقَائِدِ الْبَاطِنِيَّةِ عَلَى أَهْلِهِ (أَلا تَرَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الإِسْلامِ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْفَلْسَفَةِ مَرَقُوا مِنَ الدِّينِ بِاعْتِقَادِهِمُ الْقَوْلَ بِأَزَلِيَّةِ الْعَالَمِ اجْتِهَادًا مِنْهُمْ وَمَعَ ذَلِكَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَكْفِيرِهِمْ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْمُحَدِّثُ الْفَقِيهُ بَدْرُ الدِّينِ الزَّرْكَشِىُّ فِى شَرْحِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْفَرِيقَيْنِ مِنْهُمُ الْفَرِيقَ الْقَائِلَ بِأَزَلِيَّةِ الْعَالَمِ بِمَادَّتِهِ وَصُورَتِهِ وَالْفَرِيقَ الْقَائِلَ بِأَزَلِيَّةِ الْعَالَمِ بِمَادَّتِهِ أَىْ بِجِنْسِهِ فَقَطْ مَا نَصُّهُ وَقَدْ ضَلَّلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِى ذَلِكَ وَكَفَّرُوهُمْ) اﻫ (وَكَذَلِكَ الْمُرْجِئَةُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لا يَضُرُّ مَعَ الإِيمَانِ ذَنْبٌ كَمَا لا تَنْفَعُ مَعَ الْكُفْرِ حَسَنَةٌ) هُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْفِرَقِ الَّتِى ضَلَّتْ بِالتَّأْوِيلِ فَإِنَّهُمْ (إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ) أَىْ لا يَضُرُّ مَعَ الإِيمَانِ ذَنْبٌ وَكَذَّبُوا مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ جَمِيعًا وَعُلِمَ بَيْنَهُمْ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ فَاعِلَ الذَّنْبِ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ (اجْتِهَادًا) مِنْهُمْ (وَتَأْوِيلًا لِبَعْضِ النُّصُوصِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا) فَإِنَّهُمْ حَمَلُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ سَبَإٍ ﴿وَهَلْ نُجَازِى إِلَّا الْكَفُورَ﴾ عَلَى غَيْرِ مَعْنَاهُ فَقَالُوا إِنَّ الذَّنْبَ مِنَ الْمُؤْمِنِ لَيْسَ سَبَبًا لِلْعَذَابِ فِى الآخِرَةِ مَهْمَا كَانَ فَأَخْطَأُوا التَّأْوِيلَ وَجَانَبُوا الصَّوَابَ وَأَنْكَرُوا الْمَعْلُومَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ (فَلَمْ يُعْذَرُوا) وَحُكِمَ بِكُفْرِهِمْ لَمَّا تَأَوَّلُوا الْقَطْعِىَّ عَلَى غَيْرِ مَعْنَاهُ، وَإِنَّمَا مَعْنَى الآيَةِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ السِّيَاقُ أَنَّهُ لا يُجَازَى بِهَذَا الْجَزَاءِ الَّذِى هُوَ الْخُلُودُ فِى النَّارِ إِلَّا الْكَفُورُ.

(وَكَذَلِكَ ضَلَّ فِرَقٌ غَيْرُهُمْ وَهُمْ مُنْتَسِبُونَ إِلَى الإِسْلامِ) كَالْمُعْتَزِلَةِ وَأَسْلافِهِمْ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ (كَانَ زَيْغُهُمْ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ بِالتَّأْوِيلِ) فِى الْقَطْعِيَّاتِ (نَسْأَلُ اللَّهَ الثَّبَاتَ عَلَى الْحَقِّ).


(قَاعِدَةٌ)


(اللَّفْظُ الَّذِى لَهُ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَالآخَرُ لَيْسَ كُفْرًا وَكَانَ الْمَعْنَى الَّذِى هُوَ كُفْرٌ ظَاهِرًا) فِى الْكُفْرِ أَىْ أَنَّ الْمَعْنَى الْمُتَبَادِرَ لِلَّفْظِ الأَكْثَرَ اسْتِعْمَالًا فِيهِ كُفْرٌ وَلَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَيْضًا مَعْنًى ءَاخَرَ عَلَى الأَقَلِّ لَيْسَ كُفْرًا فَعِنْدَئِذٍ (لا يُكَفَّرُ قَائِلُهُ حَتَّى يُعْرَفَ مِنْهُ أَىُّ الْمَعْنَيَيْنِ أَرَادَ فَإِنْ قَالَ أَرَدْتُ الْمَعْنَى الْكُفْرِىَّ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ وَأُجْرِىَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الرِّدَّةِ وَإِلَّا فَلا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ) مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ كَلِمَةَ النَّبِىِّ تَأْتِى فِى اللُّغَةِ بِمَعْنَى الأَرْضِ الْمُحْدَوْدِبَةِ الْمُرْتَفِعَةِ وَتَأْتِى بِمَعْنَى الإِنْسَانِ الَّذِى أُوحِىَ إِلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ فَلَوْ قَالَ شَخْصٌ الصَّلاةُ عَلَى النَّبِىِّ مَكْرُوهَةٌ فَهَذَا اللَّفْظُ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا هُوَ الْمُوَافِقُ لِلْمَعْنَى الَّذِى تُسْتَعْمَلُ فِيهِ كَلِمَةُ النَّبِىِّ أَكْثَرَ مَا تُسْتَعْمَلُ وَهُوَ الإِنْسَانُ الَّذِى أُوحِىَ إِلَيْهِ فَتَكُونُ هَذِهِ الْعِبَارَةُ ظَاهِرَةً فِى الْكُفْرِ لَكِنَّهَا تَحْتَمِلُ مَعْنًى ءَاخَرَ تُوَافِقُ عَلَيْهِ اللُّغَةُ وَإِنْ كَانَ اسْتِعْمَالُ الْكَلِمَةِ فِيهِ أَقَلَّ وَهُوَ الأَرْضُ الْمُحْدَوْدِبَةُ الْمُرْتَفِعَةُ فَمَنْ قَالَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ يُنْظَرُ فِى قَصْدِهِ إِنْ أَرَادَ أَنَّ الصَّلاةَ عَلَى الأَرْضِ الْمُحْدَوْدِبَةِ مَكْرُوهَةٌ لِأَنَّ الشَّخْصَ لا يَخْشَعُ فِى صَلاتِهِ عَلَيْهَا فَكَلامُهُ صَحِيحٌ وَأَمَّا إِنْ أَرَادَ أَنَّ الصَّلاةَ عَلَى النَّبِىِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكْرُوهَةٌ فَهُوَ كُفْرٌ لِأَنَّهُ تَكْذِيبٌ لِلشَّرِيعَةِ قَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ الأَحْزَابِ ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، (وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ اللَّفْظُ لَهُ مَعَانٍ كَثِيرَةٌ وَكَانَ كُلُّ مَعَانِيهِ كُفْرًا وَكَانَ مَعْنًى وَاحِدٌ مِنْهَا غَيْرَ كُفْرٍ لا يُكَفَّرُ إِلَّا أَنْ يُعْرَفَ مِنْهُ إِرَادَةُ الْمَعْنَى الْكُفْرِىِّ وَهَذَا هُوَ الَّذِى ذَكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْحَنَفِيِّينَ فِى كُتُبِهِمْ) وَسَيَأْتِى مِثَالُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ (وَأَمَّا مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِى الْكَلِمَةِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ قَوْلًا بِالتَّكْفِيرِ وَقَوْلٌ وَاحِدٌ بِتَرْكِ التَّكْفِيرِ أُخِذَ بِتَرْكِ التَّكْفِيرِ فَلا مَعْنًى لَهُ) صَحِيحٌ مُعْتَبَرٌ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْحُكْمِ بِالتّكْفِيرِ أَوْ عَدَمِهِ هِىَ بِحَسَبِ الدَّلِيلِ لا بِاعْتِبَارِ قِلَّةِ عَدَدِ مَنْ يَقُولُ بِالْقَوْلِ كَمَا يَزْعُمُ هَؤُلاءِ وَلَيْسَ الِاحْتِيَاطُ هُوَ الأَخْذَ بِقَوْلِ الأَقَلِّ وَلا الأَكْثَرِ عَلَى الإِطْلاقِ بَلِ الِاحْتِيَاطُ هُوَ لُزُومُ جَانِبِ السَّلامَةِ وَجَانِبُ السَّلامَةِ هُوَ الَّذِى يُوَافِقُ دَلِيلَ الشَّرْعِ لا الَّذِى يُخَالِفُهُ بِدُونِ شَكٍّ. وَهَذَا الْقَوْلُ الْمِعْوَجُّ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الأَئِمَّةِ (وَلا يَصِحُّ نِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَى مَالِكٍ وَلا إِلَى أَبِى حَنِيفَةَ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا (كَمَا نَسَبَ سَيِّدُ سَابِقٍ شِبْهَ ذَلِكَ إِلَى مَالِكٍ وَهُوَ شَائِعٌ عَلَى أَلْسِنَةِ بَعْضِ الْعَصْرِيِّينَ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ) وَإِنَّما الَّذِى فِى عِبَارَاتِ الْفُقَهَاءِ وَفِى مُؤَلَّفَاتِهِمْ أَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ بِلَفْظٍ لَهُ أَوْجُهٌ عَدِيدَةٌ تَقْتَضِى التَّكْفِيرَ وَوَجْهٌ وَاحِدٌ لا يَقْتَضِى التَّكْفِيرَ يَحْكُمُ الْمُفْتِى بِمُقْتَضَى الْوَجْهِ الْوَاحِدِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُتَلَفِّظُ أَرَادَ غَيْرَ ذَلِكَ الْوَجْهِ فَلا تَنْفَعُهُ فَتْوَى الْمُفْتِى وَتَثْبُتُ رِدَّتُهُ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الَّذِى يَتَلَفَّظُ بِلَفْظٍ لَهُ عِدَّةُ مَعَانٍ تَقْتَضِى التَّكْفِيرَ وَمَعْنًى وَاحِدٌ لا يَقْتَضِى التَّكْفِيرَ لا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ إِلَّا أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ أَرَادَ الْمَعْنَى الْكُفْرِىَّ، نَقَلَ صَاحِبُ الْمضمراتِ عَنِ الذَّخِيرَةِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمَسْئَلَةَ إِذَا كَانَ فِيهَا وُجُوهٌ تُوجِبُ التَّكْفِيرَ وَوَجْهٌ وَاحِدٌ يَمْنَعُ التَّكْفِيرَ فَعَلَى الْمُفْتِى أَنْ يَمِيلَ إِلَى الَّذِى يَمْنَعُ التَّكْفِيرَ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ ثُمَّ إِنْ كَانَ نِيَّةُ الْقَائِلِ الْوَجْهَ الَّذِى يَمْنَعُ التَّكْفِيرَ فَهُوَ مُسْلِمٌ وَإِنْ كَانَ نِيَّتُهُ الْوَجْهَ الَّذِى يُوجِبُ التَّكْفِيرَ لا تَنْفَعُهُ فَتْوَى الْمُفْتِى وَيُؤْمَرُ بِالتَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ عَنْ ذَلِكَ وَبِتَجْدِيدِ النِّكَاحِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ اﻫ وَقَدْ ذُكِرَ لِذَلِكَ مِثَالٌ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ الْحَسَنِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ قِيلَ لِرَجُلٍ صَلِّ فَقَالَ لا أُصَلِى فَإِنْ أَرَادَ لا أُصَلِى لِأَنِّى قَدْ صَلَّيْتُ لا يَكْفُرُ وَإِنْ أَرَادَ لا أُصَلِي لِقَوْلِكَ لا يَكْفُرُ وَكَذَا إِنْ أَرَادَ لا أُصَلِى أَنَا مُتَكَاسِلٌ وَأَمَّا إِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لا يُصَلِى لِأَنَّهُ مُسْتَخِفٌّ بِالصَّلاةِ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ اﻫ

(قَالَ الْعُلَمَاءُ أَمَّا الصَّرِيحُ أَىِ الَّذِى لَيْسَ لَهُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدٌ يَقْتَضِى التَّكْفِيرَ فَيُحْكَمُ عَلَى قَائِلِهِ بِالْكُفْرِ كَقَوْلِ) إِنْسَانٍ (أَنَا اللَّهُ) إِلَّا إِذَا كَانَ لا يَفْهَمُ مَعْنَى الْكَلِمَةِ الَّتِى قَالَهَا لِضَعْفِ إِلْمَامِهِ بِاللِّسَانِ الَّذِى قَالَهَا بِهِ فَعِنْدَئِذٍ لا يَكْفُرُ فَمَنْ قَالَ كَلِمَةً كُفْرِيَّةً لا تَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدًا بِحَسَبِ وَضْعِ اللُّغَةِ وَلَكِنْ هُوَ ظَنَّ أَنَّ لَهَا مَعْنًى ءَاخَرَ غَيْرَ كُفْرِىٍّ فَقَالَهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِى ظَنَّهُ مَعْنًى لَهَا وَهُوَ غَيْرُ كُفْرِىٍّ فَلا يَكْفُرُ. قَالَهُ الْمُلَّا عَلِىٌّ الْقَارِئُ فِى شَرْحِ الْفِقْهِ الأَكْبَرِ وَغَيْرُهُ.

وَالْخُلاصَةُ أَنَّ مَنْ حَصَلَ مِنْهُ كَلِمَةُ كُفْرٍ صَرِيحٍ يُنْظَرُ إِلَى فَهْمِهِ فَإِنْ كَانَ يَفْهَمُ الْمَعْنَى الْكُفْرِىَّ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ الْمَعْنَى الْوَحِيدُ لِلْكَلِمَةِ كَفَرَ وَلَوْ قَالَ لَمْ أَقْصِدْهُ وَلا يُقْبَلُ مِنْهُ تَأْوِيلٌ. وَإِنْ لَمْ يَفْهَمْ مَعْنَاهَا الْكُفْرِىَّ بَلْ ظَنَّ أَنَّ مَعْنَاهَا غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ كُفْرًا فَلا يُكَفَّرُ وَلَكِنْ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ. وَأَمَّا مَنْ حَصَلَ مِنْهُ كَلامٌ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ بِحَسَبِ وَضْعِ اللُّغَةِ أَحَدُهُمَا كُفْرٌ وَالآخَرُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إِلَى قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ فَإِنْ كَانَ أَرَادَ الْمَعْنَى الْكُفْرِىَّ كَفَرَ وَإِلَّا فَلا يَكْفُرُ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَلا فَرْقَ فِى الْحُكْمِ عَلَى الْعَاقِلِ إِذَا قَالَ اللَّفْظَ الصَّرِيحَ فِى الْكُفْرِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُنْسَبُ إِلَى الْوِلايَةِ وَيُظَنُّ فِيهِ ذَلِكَ وَبَيْنَ غَيْرِهِ (حَتَّى لَوْ صَدَرَ هَذَا اللَّفْظُ مِنْ وَلِىٍّ فِى حَالَةِ غَيْبَةِ عَقْلِهِ) فَإِنَّهُ (يُعَزَّرُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُوَ مُكَلَّفًا تِلْكَ السَّاعَةَ قَالَ ذَلِكَ عِزُّ الدِّينِ بنُ عَبْدِ السَّلامِ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّعْزِيرَ يُؤَثِّرُ فِى مَنْ غَابَ عَقْلُهُ كَمَا يُؤَثِّرُ فِى الصَّاحِى الْعَاقِلِ وَكَمَا يُؤَثِّرُ فِى الْبَهَائِمِ فَإِنَّهَا إِذَا جَمَحَتْ فَضُرِبَتْ تَكُفُّ عَنْ جُمُوحِهَا مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِعَاقِلَةٍ كَذَلِكَ الْوَلِىُّ الَّذِى نَطَقَ بِالْكُفْرِ فِى حَالِ الْغَيْبَةِ عِنْدَمَا يُضْرَبُ أَوْ يُصْرَخُ عَلَيْهِ يَكُفُّ لِلزَّاجِرِ الطَّبِيعِىِّ) أَىْ لِأَنَّهُ مَجْبُولٌ عَلَى الْكَفِّ وَالِانْزِجَارِ خَوْفًا مِنَ التَّوْبِيخِ أَوِ الْعِقَابِ (عَلَى أَنَّ الْوَلِىَّ لا يَصْدُرُ مِنْهُ كُفْرٌ فِى حَالِ حُضُورِ عَقْلِهِ إِلَّا أَنْ يَسْبِقَ لِسَانُهُ) بِلَفْظٍ كُفْرِىٍّ (لِأَنَّ الْوَلِىَّ مَحْفُوظٌ مِنَ الْكُفْرِ) لِأَنَّ مَنْ صَارَ مِنْ أَحْبَابِ اللَّهِ وَأَصْفِيَائِهِ لا يَنْقَلِبُ بَعْدَ ذَلِكَ عَدُوًّا مِنْ أَعْدَائِهِ (بِخِلافِ الْمَعْصِيَةِ الْكَبِيرَةِ أَوِ الصَّغِيرَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ عَلَى الْوَلِىِّ) سُئِلَ الْجُنَيْدُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ هَلْ يَقَعُ الْوَلِىُّ فِى الْكَبِيرَةِ فَقَالَ ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا﴾ اﻫ أَىْ إِذَا شَاءَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ حَصَلَ مِنْهُ (لَكِنْ لا يَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ بَلْ يَتُوبُ عَنْ قُرْبٍ. وَقَدْ يَحْصُلُ مِنَ الْوَلِىِّ مَعْصِيَةٌ كَبِيرَةٌ قَبْلَ مَوْتِهِ بِقَلِيلٍ لَكِنْ لا يَمُوتُ إِلَّا وَقَدْ تَابَ كَطَلْحَةَ بنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَالزُّبَيْرِ بنِ الْعَوَّامِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَإِنَّهُمَا خَرَجَا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِىٍّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ) أَىْ تَرَكَا طَاعَتَهُ وَخَالَفَاهُ (بِوُقُوفِهِمَا مَعَ الَّذِينَ قَاتَلُوهُ فِى الْبَصْرَةِ فَذَكَّرَ عَلِىٌّ كُلًّا مِنْهُمَا حَدِيثًا أَمَّا الزُّبَيْرُ فَقَالَ لَهُ أَلَمْ يَقُلْ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّكَ لَتُقَاتِلَنَّ عَلِيًّا وَأَنْتَ ظَالِمٌ لَهُ فَقَالَ نَسِيتُ فَذَهَبَ مُنْصَرِفًا عَنْ قِتَالِهِ) تَائِبًا مِنْ مُفَارَقَةِ طَاعَتِهِ (ثُمَّ لَحِقَهُ فِى طَرِيقِهِ رَجُلٌ مِنْ جَيْشِ عَلِىٍّ) يُقَالُ لَهُ عَمْرُو بنُ جُرْمُوزٍ (فَقَتَلَهُ) بِالرُّمْحِ فِى مَوْضِعٍ يُسَمَّى وَادِىَ السِّبَاعِ (فَتَابَ) الزُّبَيْرُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (بِتَذْكِيرِ عَلِىٍّ لَهُ فَلَمْ يَمُتْ إِلَّا تَائِبًا. وَأَمَّا طَلْحَةُ فَقَالَ لَهُ عَلِىٌّ أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِىٌّ مَوْلاهُ) أَىْ مَنْ كَانَ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاصِرَهُ فَعَلِىٌّ يَنْصُرُهُ أَىْ كَمَا أَنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْصُرُ صَاحِبَ الْحَقِّ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ كَذَلِكَ عَلِىٌّ لا يَنْصُرُ إِلَّا صَاحِبَ الْحَقِّ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ (فَذَهَبَ) طَلْحَةُ (مُنْصَرِفًا) عِنْدَمَا سَمِعَ ذَلِكَ أَىْ أَرَادَ أَنْ يَتْرُكَ الْوُقُوفَ مَعَ الْمُعَسْكَرِ الْمُضَادِّ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (فَضَرَبَهُ) أَىْ رَمَاهُ بِسَهْمٍ (مَرْوَانُ بنُ الْحَكَمِ) كَمَا رُوِىَ مِنْ طُرُقٍ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ وَغَيْرِهِ وَكَانَ فِى الْمُعَسْكَرِ الْمُضَادِّ لِعَلِىٍّ (فَقَتَلَهُ وَهُوَ) أَىْ طَلْحَةُ (أَيْضًا تَابَ وَنَدِمَ عِنْدَ ذِكْرِ عَلِىٍّ لَهُ هَذَا الْحَدِيثَ فَكُلٌّ مِنْهُمَا مَا مَاتَ إِلَّا تَائِبًا. وَكِلا الْحَدِيثَيْنِ صَحِيحٌ) الأَوَّلُ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِى الْمُسْتَدْرَكِ وَقَالَ صَحِيحٌ وَوَافَقَهُ الذَّهَبِىُّ وَالثَّانِى أَىْ مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِىٌّ مَوْلاهُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِىُّ فِى سُنَنِهِ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ (بَلِ الْحَدِيثُ الثَّانِى مُتَوَاتِرٌ) كَمَا قَالَ الْحَافِظُ السُّيُوطِىُّ فِى الأَزْهَارِ الْمُتَنَاثِرَةِ وَالْحَافِظُ الزَّبِيدِىُّ فِى لقطِ اللَّآلِئِ وَالْكَتَّانِىُّ فِى نَظْمِ الْمُتَنَاثِرِ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْحُفَّاظِ فَلا يُنْسَبُ إِلَى طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا سُوءُ خَاتِمَةٍ وَلا يَجُوزُ الطَّعْنُ فِيهِمَا وَلا الْحَطُّ مِنْ مَنْزِلَتِهِمَا لِأَنَّ السَّعَادَةَ قَدْ سَبَقَتْ لَهُمَا وَشَاءَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يَكُونَا مِنْ أَفْضَلِ صَحَابَةِ الأَنْبِيَاءِ وَلِذَلِكَ مَا جَاءَهُمَا الْمَوْتُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ خَرَجَا مِنْ مُخَالَفَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْوَاجِبِ الطَّاعَةِ (وَقَدْ ذَكَرَ الإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الأَشْعَرِىُّ أَنَّ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ مَغْفُورٌ لَهُمَا لِأَجْلِ البِشَارَةِ الَّتِى بَشَّرَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بِهَا مَعَ ثَمَانِيَةٍ ءَاخَرِينَ فِى مَجْلِسٍ وَاحِدٍ) فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فِى الْجَنَّةِ عُمَرُ فِى الْجَنَّةِ عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ فِى الْجَنَّةِ عَلِىُّ بنُ أَبِى طَالِبٍ فِى الْجَنَّةِ طَلْحَةُ بنُ عُبَيْدِ اللَّهِ فِى الْجَنَّةِ الزُّبَيْرُ بنُ العَوَّامِ فِى الْجَنَّةِ سَعْدُ بنُ أَبِى وَقَّاصٍ فِى الْجَنَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بنُ الْجَرَّاحِ فِى الْجَنَّةِ عَبْدُ الرَّحْمٰنِ ابْنُ عَوْفٍ فِى الْجَنَّةِ وَسَعِيدُ بنُ زَيْدٍ فِى الْجَنَّةِ اﻫ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِىُّ وَالنَّسَائِىُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ (فَهَذَا مِنَ الإِمَامِ أَبِى الْحَسَنِ الأَشْعَرِىِّ) أَىْ قَوْلُهُ بِأَنَّ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ مَغْفُورٌ لَهُمَا (إِثْبَاتٌ) مِنْهُ (أَنَّهُمَا أَثِمَا. وَكَذَلِكَ قَالَ فِى حَقِّ عَائِشَةَ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا (لِأَجْلِ أَنَّهَا مُبَشَّرَةٌ أَيْضًا وَكَانَتْ نَدِمَتْ نَدَمًا شَدِيدًا مِنْ وُقُوفِهَا فِى) مُعَسْكَرِ (الْمُقَاتِلِينَ لِعَلِىٍّ حَتَّى كَانَتْ حِينَ تَذْكُرُ سَيْرَهَا إِلَى الْبَصْرَةِ وَوُقُوفَهَا مَعَ الْمُقَاتِلِينَ لِعَلِىٍّ تَبْكِى بُكَاءً شَدِيدًا يَبْتَلُّ مِنْ دُمُوعِهَا خِمَارُهَا) رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُمَا (وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ أَيْضًا) عَنْهَا (وَقَالَ) الأَشْعَرِىُّ أَبُو الْحَسَنِ (فِى غَيْرِهِمَا مِنْ مُقَاتِلِى عَلِىٍّ مِنْ أَهْلِ وَقْعَةِ الْجَمَلِ وَمِنْ أَهْلِ صِفِّينَ الَّذِينَ قَاتَلُوا مَعْ مُعَاوِيَةَ عَلِيًّا) إِنَّ خَطَأَهُمْ (مُجَوَّزٌ غُفْرَانُهُ وَالْعَفْوُ عَنْهُ) أَىْ وَيَجُوزُ عَدَمُ غُفْرَانِهِ فَيَتَعَذَّبُ مُرْتَكِبُهُ بِسَببِهِ عِنْدَئِذٍ وَفِى هَذَا دِلالَةٌ عَلَى أَنَّهُ إِثْمٌ مُحَرَّمٌ لَكِنَّهُ لا يَبْلُغُ دَرَجَةَ الْكُفْرِ (كَمَا) تَقُولُ الرَّافِضَةُ وَ(نَقَلَ ذَلِكَ الإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بنُ فُورَكَ عَنْ أَبِى الْحَسَنِ الأَشْعَرِىِّ فِى كِتَابِهِ مُجَرَّدُ مَقَالاتِ الأَشْعَرِىِّ. وَابْنُ فُورَكَ تِلْمِيذُ تِلْمِيذِ أَبِى الْحَسَنِ الأَشْعَرِىِّ وَهُوَ أَبُو الْحَسَنِ الْبَاهِلِىُّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ) تَرْجَمَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِى التَّبْيِينِ وَفِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ أَحْسَنُ أَحْوَالِى أَنْ أَفْهَمَ كَلامَ أَبِى الْحَسَنِ الأَشْعَرِىِّ وَكَانَ بَعْضُ تَلامِيذِهِ يَقُولُ أَحْسَنُ أَحْوَالِى أَنْ أَفْهَمَ كَلامَ أَبِى الْحَسَنِ الْبَاهِلِىِّ اﻫ (وَمَا يَظُنُّ بَعْضُ الْجَهَلَةِ مِنْ أنَّ الْوَلِىَّ لا يَقَعُ فِى مَعْصِيَةٍ فَهُوَ جَهْلٌ فَظِيعٌ) حَتَّى قَالَ الشَّيْخُ خَالِدٌ النَّقْشَبَنْدِىُّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْوَلِىَّ لا يَقَعُ فِى مَعْصِيَةٍ فَهُوَ لَمْ يَعْرِفِ الْفَرْقَ عَلَى التَّمَامِ بَيْنَ النَّبِىِّ وَالْوَلِىِّ اﻫ (فَهُؤَلاءِ الثَّلاثَةُ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعَائِشَةُ مِنْ أَكَابِرِ الأَوْلِيَاءِ) وَمَعَ ذَلِكَ صَدَرَ مِنْهُمْ مَا صَدَرَ لَكِنَّهُمْ أَسْرَعُوا بِالتَّوْبَةِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الأَوْلِيَاءِ نَفَعَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِمْ وَبَلَّغَنَا مَرَاتِبَهُمْ.

(قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ) عَبْدُ الْمَلِكِ (الْجُوَيْنِىُّ اتَّفَقَ الأُصُولِيُّونَ عَلَى أَنَّ مَنْ نَطَقَ بِكَلِمَةِ الرِّدَّةِ أَىِ) الْكَلِمَةِ الصَّرِيحَةِ فِى (الْكُفْرِ وَزَعَمَ أَنَّهُ أَضْمَرَ تَوْرِيَةً) أَىْ مَعْنًى بَعِيدًا لا تَحْتَمِلُهُ اللُّغَةُ غَيْرَ الْمَعْنَى الْمُتَبَادِرِ مِنَ الْكَلِمَةِ (كُفِّرَ ظَاهِرًا) فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْكُفَّارِ عِنْدَنَا (وَبَاطِنًا) أَىْ وَيَكُونُ خَارِجًا مِنَ الإِسْلامِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى كَذَلِكَ (وَأَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَىْ) وَافَقَهُمْ عَلَيْهِ (فَلا يَنْفَعُهُ التَّأْوِيلُ الْبَعِيدُ كَالَّذِى يَقُولُ) بِعَامِّيَّةِ بَعْضِ الْبِلادِ (يِلْعَنْ رَسُولَ اللَّهِ) وَمَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ لَعْنُ الْمُتَكَلِّمِ لِلنَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَيَقُولُ قَصْدِى بِرَسُولِ اللَّهِ) الَّذِى أَلْعَنُهُ (الصَّوَاعِقُ) أَلَيْسَ اللَّهُ يُرْسِلُهَا أَوْ يَقُولُ قَصْدِى بِرَسُولِ اللَّهِ الْعَقْرَبُ فَإِنَّ اللَّهَ يُرْسِلُهُ عَلَى مَنْ يَلْدَغُهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللُّغَةَ لا تَحْتَمِلُ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِى ادَّعَى أَنَّهُ يَقْصِدُهُ مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ إِذْ لا يَخْفَى عَلَى مَنْ مَارَسَ لِسَانَ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ لَمْ يُسَمُّوا الصَّاعِقَةَ رَسُولَ اللَّهِ قَطُّ وَلا سَمَّوُا الْعَقْرَبَ بِذَلِكَ قَطُّ. وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ الَّذِى ذَكَرَهُ شَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقَاضِى عِيَاضٌ فِى الشِّفَا. (وَقَدْ عَدَّ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ كَالْفَقِيهِ الْحَنَفِىِّ بَدْرِ) الدِّينِ (الرَّشِيدِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْقَرْنِ الثَّامِنِ الْهِجْرِىِّ) تُوُفِّىَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَسَبْعِمِائَةٍ (أَشْيَاءَ كَثِيرَةً) مِنَ الْمُكَفِّرَاتِ (فَيَنْبَغِى الِاطِّلاعُ عَلَيْهَا فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ الشَّرَّ يَقَعُ فِيهِ) مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُ شَرٌّ (فَلْيُحْذَرْ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَحَدِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ أَخَذَ لِسَانَهُ وَخَاطَبَهُ) قَائِلًا (يَا لِسَانُ قُلْ خَيْرًا تَغْنَمْ وَاسْكُتْ عَنْ شَرٍّ تَسْلَمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَنْدَمَ إِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ أَكْثَرُ خَطَايَا ابْنِ ءَادَمَ مِنْ لِسَانِهِ) اﻫ رَوَاهُ الطَّبَرَانِىُّ فِى الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (وَمِنْ هَذِهِ الْخَطَايَا الْكُفْرُ وَالْكَبَائِرُ. وَفِى حَدِيثٍ ءَاخَرَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَهْوِى بِهَا فِى النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) اﻫ (رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِى هُرَيْرَةَ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الإِنْسَانَ قَدْ يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةٍ لا يَرَى أَنَّ فِيهَا ذَنْبًا وَلا يَرَاهَا ضَارَّةً لَهُ يَسْتَوْجِبُ بِهَا النُّزُولَ فِى جَهَنَّمَ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ أَىْ فَيَصِلُ إِلَى قَعْرِهَا كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ التِّرْمِذِىِّ مَرْفُوعًا إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِى بِهَا فِى النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا اﻫ أَىْ سَبْعِينَ سَنَةً وَذَلِكَ قَعْرُ جَهَنَّمَ الَّذِى لا يَصِلُهُ عُصَاةُ الْمُسْلِمِينَ. وَفِى هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الْكَلِمَةَ الْكُفْرِيَّةَ تُوقِعُ صَاحِبَهَا فِى الْكُفْرِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُنْشَرِحَ الْبَالِ بِهَا أَوْ غَيْرَ مُنْشَرِحٍ.


(فَائِدَةٌ مُهِمَّةٌ)


(حُكْمُ مَنْ يَأْتِى بِإِحْدَى أَنْوَاعِ هَذِهِ الْكُفْرِيَّاتِ) الِاعْتِقَادِيَّةِ أَوِ الْفِعْلِيَّةِ أَوِ الْقَوْلِيَّةِ (هُوَ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُهُ الصَّالِحَةُ وَحَسَنَاتُهُ جَمِيعُهَا فَلا تُحْسَبُ لَهُ ذَرَّةٌ مِنْ حَسَنَةٍ كَانَ سَبَقَ لَهُ أَنْ عَمِلَهَا مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ صِيَامٍ أَوْ صَلاةٍ وَنَحْوِهَا) بَلْ يَخْسَرُ كُلَّ حَسَنَاتِهِ السَّابِقَةِ وَلا يَكُونُ لَهُ حَسَنَةٌ بِمَا يَعْمَلُ مِنَ الصَّدَقَاتِ وَغَيْرِهَا مِنَ الأُمُورِ الْمُسْتَحْسَنَةِ فِى أَثْنَاءِ رِدَّتِهِ (إِنَّمَا تُحْسَبُ لَهُ الْحَسَنَاتُ الْجَدِيدَةُ الَّتِى يَقُومُ بِهَا بَعْدَ تَجْدِيدِ إِيمَانِهِ) أَىْ بَعْدَ دُخُولِهِ فِى الإِسْلامِ مِنْ جَدِيدٍ بِالشَّهَادَتَيْنِ (قَالَ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الْمَائِدَةِ (﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾) وَلا تَرْجِعُ لَهُ حَسَنَاتُهُ الَّتِى خَسِرَهَا بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَى الإِسْلامِ وَأَمَّا الْكَافِرُ الأَصْلِىُّ إِذَا أَسْلَمَ فَإِنَّهُ بَعْدَ إِسْلامِهِ يُثَابُ عَلَى مَا يَعْمَلُهُ مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الإِسْلامُ قَدْ مَحَا كُلَّ ذُنُوبِهِ الَّتِى كُتِبَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ لِحَدِيثِ أَحْمَدَ الإِسْلامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ اﻫ أَىْ يَمْحُو مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنَ السَّيِّئَاتِ.

(وَإِذَا قَالَ) الْمُرْتَدُّ (أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ قَبْلَ أَنْ يُجَدِّدَ إِيمَانَهُ بِقَوْلِهِ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَىْ (وَهُوَ) مَا زَالَ (عَلَى حَالَتِهِ هَذِهِ) مِنَ الْكُفْرِ (فَلا يَزِيدُهُ قَوْلُهُ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إِلَّا إِثْمًا وَكُفْرًا لِأَنَّهُ يُكَذِّبُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ مُحَمَّدٍ (﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ وَقَوْلَهُ تَعَالَى) فِى سُورَةِ النِّسَاءِ (﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾) فَمَنْ قَالَ كَلِمَةَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَهُوَ عَلَى الرِّدَّةِ كَانَ مَعْنَى كَلامِهِ يَا رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِى مِنْ غَيْرِ أَنْ أَرْجِعَ إِلَى الإِسْلامِ مَعْ أَنَّكَ أَخْبَرْتَ فِى كِتَابِكَ أَنَّكَ لا تَغْفِرُهُ فِى هَذِهِ الْحَالِ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ يَا رَبِّ كَذِّبْ نَفْسَكَ وَلِذَلِكَ لَمْ يُعَلِّمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ الِاسْتِغْفَارَ حِينَ كَانَ لا يَزَالُ عَلَى الْكُفْرِ بَلْ عَلَّمَهُ أَنْ يَقُولَ غَيْرَ ذَلِكَ ثُمَّ لَمَّا أَسْلَمَ عَلَّمَهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ كَمَا (رَوَى ابْنُ حِبَّانَ عَنْ عِمْرَانَ بنِ الْحُصَيْنِ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ (أَتَى رَسُولَ اللَّهِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رَجُلٌ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ) جَدُّكَ (عَبْدُ الْمُطَّلِبِ خَيْرٌ لِقَوْمِهِ مِنْكَ كَانَ يُطْعِمُهُمُ الْكَبِدَ وَالسَّنَامَ) أَىْ سَنَامَ الإِبِلِ وَهُوَ طَعَامٌ فَاخِرٌ عِنْدَ العَرَبِ (وَأَنْتَ تَنْحَرُهُمْ) أَىْ تَقْتُلُهُمْ أَىْ فِى الْجِهَادِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا شَاءَ اللَّهُ) لَهُ أَنْ يَقُولَ فِى الرَّدِّ عَلَى مَا قَالَ (فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ قَالَ) سَائِلًا (مَا أَقُولُ) أَىْ عَلِّمْنِى شَيْئًا أَقُولُهُ (قَالَ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قُلِ اللَّهُمَّ قِنِي شَرَّ نَفْسِى وَاعْزِمْ لِى عَلَى أَرْشَدِ أَمْرِى فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ وَلَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ ثُمَّ) رَجَعَ بَعْدَ مُدَّةٍ وَكَانَ قَدْ ءَامَنَ وَ(قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنِّى أَتَيْتُكَ فَقُلْتُ عَلِّمْنِى فَقُلْتَ قُلِ اللَّهُمَّ قِنِى شَرَّ نَفْسِى وَاعْزِمْ لِى عَلَى أَرْشَدِ أَمْرِى فَمَا أَقُولُ الآنَ حِينَ أَسْلَمْتُ قَالَ قُلِ اللَّهُمَّ قِنِى شَرَّ نَفْسِى وَاعْزِمْ لِى عَلَى أَرْشَدِ أَمْرِى اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى مَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا عَمَدْتُ وَمَا أَخْطَأْتُ وَمَا جَهِلْتُ) اﻫ وَفِى الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ أَنْ يَدْعُوَ الْكَافِرُ بِمَا يُوَافِقُ الشَّرْعَ.

(وَمِنْ أَحْكَامِ الرِّدَّةِ أَنَّ الْمُرْتَدَّ يَفْسُدُ صِيَامُهُ وَتَيَمُّمُهُ) فَوْرَ وُقُوعِهِ فِى الْكُفْرِ (وَ)يَفْسُدُ (نِكَاحُهُ) إِذَا حَصَلَ مِنْهُ الْكُفْرُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَ(قَبْلَ الدُّخُولِ) مِنَ الزَّوْجِ بِالزَّوْجَةِ (وَكَذَا بَعْدَهُ إِنْ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى الإِسْلامِ فِى الْعِدَّةِ) فَإِذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ الدُّخُولِ حُكِمَ عَلَى عَقْدِ النِّكَاحِ الَّذِى بَيْنَهُمَا بِكَوْنِهِ مَوْقُوفًا فَلا يَحِلُّ لَهُمَا أَنْ يَتَعَاشَرَا مُعَاشَرَةَ الأَزْوَاجِ فَإِنْ رَجَعَ الَّذِى ارْتَدَّ مِنْهُمَا إِلَى الإِسْلامِ فِى خِلالِ الْعِدَّةِ تَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ النِّكَاحَ لَمْ يَنْفَسِخْ بَيْنَهُمَا وَإِذَا لَمْ يَرْجِعْ إِلَى الإِسْلامِ حَتَّى مَضَتِ الْعِدَّةُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا قَدِ انْفَسَخَ مِنْ وَقْتِ حُصُولِ الرِّدَّةِ فَتُحْسَبُ الْعِدَّةُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَهِىَ كَعِدَّةِ الطَّلاقِ ثَلاثَةُ أَطْهَارٍ فِى حَقِّ مَنْ تَحِيضُ وَثَلاثَةَ أَشْهُرٍ لِمَنْ لا تَحِيضُ وَبِالْوَضْعِ لِلْحَامِلِ (وَلا يَصِحُّ عَقْدُ نِكَاحِهِ لا عَلَى مُسْلِمَةٍ وَلا كَافِرَةٍ وَلَوْ مُرْتَدَّةً مِثْلَهُ) وَإِذَا حَصَلَ جِمَاعٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِى حَالِ رِدَّةِ أَحَدِهِمَا فَالإِثْمُ عَلَيْهِمَا إِذَا عَرَفَ الْمُسْلِمُ مِنْهُمَا بِرِدَّةِ الآخَرِ وَجِمَاعُهُمَا زِنًى فَإِنْ لَمْ يَعْرِفِ الْمُسْلِمُ فَالإِثْمُ عَلَى الْمُرْتَدِّ مِنْهُمَا فَقَطْ ثُمَّ فِى هَذِهِ الْحَالِ الأَخِيرَةِ إِذَا كَانَ الْمُرْتَدُّ مِنْهُمَا هُوَ الرَّجُلُ فَالْوَلَدُ الْمُنْعَقِدُ مِنْ هَذَا الْجِمَاعِ وَلَدُ زِنًى وَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ هِىَ الَّتِى ارْتَدَّتْ فَالْوَلَدُ عِنْدَئِذٍ يُنْسَبُ إِلَى الزّوْجِ. هَذَا بِخِلافِ الْكُفَّارِ الأَصْلِيِّينَ فَإِنَّ نِكَاحَهُمْ فِى مَا بَيْنَهُمْ نِكَاحٌ يَثْبُتُ بِهِ نَسَبُ الْوَلَدِ وَزِنَاهُمْ زِنًى أَلا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ وَخَالِدُ بنُ الْوَلِيدِ وَسَعْدُ بنُ أَبِى وَقَّاصٍ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بنُ الْجَرَّاحِ فَيُنْسَبُونَ إِلَى ءَابَائِهِمْ مَعْ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ قَدْ وُلِدُوا مِنْ نِكَاحِ الْجَاهِلِيَّةِ.


(عَوْدٌ إِلَى تَقْسِيمِ الْكُفْرِ) بِطَرِيقَةٍ أُخْرَى (لِزِيَادَةِ فَائِدَةٍ)


(وَاعْلَمْ أَنَّ الْكُفْرَ ثَلاثَةُ أَبْوَابٍ إِمَّا تَشْبِيهٌ) لِلَّهِ بِخَلْقِهِ (أَوْ تَكْذِيبٌ) لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِشَرِيعَتِهِ (أَوْ تَعْطِيلٌ) أَىْ نَفْىٌ لِوُجُودِ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ فَهَذِهِ ثَلاثَةُ أَبْوَابٍ لا تَخْرُجُ الْمُكَفِّرَاتُ عَنْهَا (أَحَدُهَا التَّشْبِيهُ أَىْ تَشْبِيهُ اللَّهِ بِخَلْقِهِ) كَمَا سَبَقَ (كَمَنْ يَصِفُهُ) تَعَالَى (بِالْحُدُوثِ) أَىْ بِحُدُوثِ الذَّاتِ أَوِ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِالذَّاتِ وَكَذَا مَنِ ادَّعَى قِيَامَ الْحَوَادِثِ بِهِ سُبْحَانَهُ أَىِ اتِّصَافَهُ بِصِفَةٍ حَادِثَةٍ (أَوْ) يَزْعُمُ طُرُوءَ (الْفَنَاءِ) عَلَيْهِ (أَوْ) يَصِفُهُ بِالْجِسْمِيَّةِ أَوْ بِصِفَاتِ (الْجِسْمِ) كَالصُّورَةِ (أَوِ اللَّوْنِ أَوِ الشَّكْلِ أَوِ الْكَمِيَّةِ أَىْ مِقْدَارِ الْحَجْمِ) أَوِ الْحَدِّ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ تَشْبِيهٌ لِلْخَالِقِ بِالْمَخْلُوقِ وَتَكْذِيبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الشُّورَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ (أَمَّا مَا وَرَدَ فِى الْحَدِيثِ إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ) [رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِى الْمُسْتَدْرَكِ] اﻫ (فَلَيْسَ مَعْنَاهُ جَمِيلَ الشَّكْلِ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ جَمِيلُ الصِّفَاتِ) أَىْ كَامِلُهَا (أَوْ) مُجْمِلٌ أَىْ (مُحْسِنٌ) وَكَذَا مَا رُوِىَ فِى حَدِيثِ التِّرْمِذِىِّ إِنَّ اللَّهَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ اﻫ فَمَعْنَاهُ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنِ السُّوءِ وَالنَّقْصِ وَيُحِبُّ لِعِبَادِهِ نَظَافَةَ الْخُلُقِ وَالْعَمَلِ وَالثَّوْبِ وَالْبَدَنِ.

(ثَانِيهَا) أَىْ ثَانِى أَبْوَابِ الْكُفْرِ (التَّكْذِيبُ) أَىْ (تَكْذِيبُ مَا وَرَدَ فِى الْقُرْءَانِ الْكَرِيمِ أَوْ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهٍ ثَابِتٍ وَكَانَ مِمَّا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ) أَىْ بِحَيْثُ يَعْرِفُ الْجَاهِلُ وَالْعَالِمُ أَنَّهُ مِمَّا جَاءَ بِهِ الدِّينُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى تَفَكُّرٍ وَاسْتِدْلالٍ فَمَنْ رَدَّ أَمْرًا مِنْ نَحْوِ هَذِهِ الأُمُورِ بَعْدَ مَا كَانَ بَلَغَهُ قَوْلُ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ فَقَدْ كَفَرَ بِخِلافِ مَا لَوْ كَانَ حَدِيثَ عَهْدِ بِإِسْلامٍ أَوْ نَحْوَهُ فَاخْتَلَطَ عَلَيْهِ الأَمْرُ لِذَلِكَ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ مَا يَقُولُهُ مُخَالِفٌ لِلدِّينِ فَلا يَكْفُرُ.

وَمِثَالُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْكُفْرِ نَفْىُ عَذَابِ الْقَبْرِ وَ(كَاعْتِقَادِ فَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ) فَإِنَّهُ تَكْذِيبٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَتَىِ النِّسَاءِ وَالتَّوْبَةِ ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ وَلِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمَوْتَ يُذْبَحُ فِى الآخِرَةِ ثُمَّ يُنَادِى مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلا مَوْتَ وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلا مَوْتَ اﻫ رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ (أَوِ) اعْتِقَادِ (أَنَّ الْجَنَّةَ لَذَّاتٌ غَيْرُ حِسِّيَّةٍ وَأَنَّ النَّارَ ءَالامٌ مَعْنَوِيَّةٌ) إِذْ هَذَا تَكْذِيبٌ لِصَرِيحِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْحَاقَّةِ ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾ وَلِصَرِيحِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِى سُورَةِ النِّسَاءِ ﴿كُلَمَّا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ (أَوْ إِنْكَارِ بَعْثِ الأَجْسَادِ وَالأَرْوَاحِ مَعًا) لِأَنَّهُ تَكْذِيبٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الأَنْبِيَاءِ ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ﴾ (أَوْ إِنْكَارِ وُجُوبِ الصَّلاةِ) أَىِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ (أَوِ الصِّيَامِ) أَىْ صِيَامِ رَمَضَانَ (أَوِ الزَّكَاةِ) عِنْدَ اكْتِمَالِ شُرُوطِ وُجُوبِهَا (أَوِ اعْتِقَادِ تَحْرِيمِ الطَّلاقِ) عَلَى الإِطْلاقِ أَوْ تَحْرِيمِهِ بِغَيْرِ رِضَى الْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ تَكْذِيبٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الطَّلاقِ ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ (أَوْ تَحْلِيلِ الْخَمْرِ) فَإِنَّهُ تَكْذِيبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْمَائِدَةِ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنْتَهُونَ﴾ فَهَاتَانِ الآيَتَانِ تُفْهِمَانِ التَّحْرِيمَ الشَّدِيدَ وَلِهَذَا قَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ لَمَّا سَمِعَهُمَا انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا اﻫ رَوَاهُ التِّرْمِذِىُّ وَأَرَاقَ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَمَا نَزَلَتَا الْخَمْرَ حَتَّى جَرَتْ فِى شَوَارِعِ الْمَدِينَةِ (وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا) يُكَذِّبُ مَا (ثَبَتَ بِالْقَطْعِ وَظَهَرَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ) كَاعْتِقَادِ أَنَّ أَحْكَامَ الشَّرْعِ أَوْ بَعْضَهَا كَانَ صَالِحًا لِلنَّاسِ فِى زَمَنِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّهُ لا يَصْلُحُ لِلنَّاسِ فِى أَيَّامِنَا فَإِنَّهُ تَكْذِيبٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الإِسْرَاءِ ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ﴾ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الأَنْبِيَاءِ ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِى سُورَةِ الأَنْعَامِ ﴿وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَذَا الْقُرْءانُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآىِ وَالأَحَادِيثِ (وَهَذَا بِخِلافِ مَنْ يَعْتَقِدُ بِوُجُوبِ الصَّلاةِ عَلَيْهِ مَثَلًا لَكِنَّهُ لا يُصَلِّى فَإِنَّهُ يَكُونُ عَاصِيًا لا كَافِرًا كَمَنْ يَعْتَقِدُ عَدَمَ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ) وَمِثْلُهُ مَنْ يَعْتَقِدُ حُرْمَةَ الْخَمْرِ لَكِنَّهُ يَشْرَبُهَا وَالْبِنْتُ الَّتِى تَعْتَقِدُ أَنَّ لَهَا نِصْفُ مَا لِأَخِيهَا مِنْ تَرِكَةِ وَالدِهِمَا لَكِنَّهَا تَأْخُذُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بِحُكْمِ الْقَانُونِ الْوَضْعِىِّ وَالْمُطَلَّقَةُ الَّتِى تَعْتَقِدُ أَنَّهُ لا يَجُوزُ لَهَا أَخْذُ مَا زَادَ عَنْ حَقِّهَا مِنَ الزَّوْجِ لَكِنَّهَا تَفْعَلُ ذَلِكَ فَتُشَاطِرُهُ مَالَهُ بِحُكْمِ الْقَانُونِ الْوَضْعِىِّ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَعْتَقِدَ جَوَازَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ الْحَاكِمُ الَّذِى لا يُفَضِّلُ الْحُكْمَ بِمَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ عَلَى الْحُكْمِ الشَّرْعِىِّ أَىْ لا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ أَفْضَلُ وَأَحْسَنُ لَكِنَّهُ يَحْكُمُ بِغَيْرِ حُكْمِ اللَّهِ لِرِشْوَةٍ أَوْ قَرَابَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَهَؤُلاءِ كُلُّهُمْ مُسْلِمُونَ عُصَاةٌ لا كُفَّارٌ.

(ثَالِثُهَا) أَىْ ثَالِثُ الأَبْوَابِ (التَّعْطِيلُ أَىْ نَفْىُ وُجُودِ اللَّهِ وَهُوَ أَشَدُّ الْكُفْرِ) وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكُفْرَ مَرَاتِبُ بَعْضُهُ أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ وَأَشَدُّهُ عَلَى الإِطْلاقِ التّعْطِيلُ كَمَا تَقَدَّمَ وَقَدْ جَاءَ فِى الْقُرْءَانِ وَالْحَدِيثِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَأَئِمَّةِ الْهُدَى مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مَا يَكْفِى وَيَشْفِى فِى إِقَامَةِ الْحُجَّةِ وَنَصْبِ الأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَحْدَانِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْبَقَرَةِ ﴿إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْك الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ قَالَ الإِمَامُ الْمُجْتَهِدُ مُحَمَّدُ بنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِى تَفْسِيرِهِ نَزَلَ عَلَى النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمٰنُ الرَّحِيمُ﴾ فَقَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَيْفَ يَسَعُ النَّاسَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرَهُ ﴿إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْك الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ فَبِهَذَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَأَنَّهُ إِلَهُ كُلِّ شَىْءٍ وَخَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ اهـ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِى حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ كَذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ اهـ

وَزَادَ شَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْكَلامَ بَيَانًا فَقَالَ فِى كِتَابِ الدَّلِيلِ الْقَوِيمِ

فَائِدَةٌ. ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ مَعْرِفَةُ الدَّلِيلِ الْعَقْلِىِّ الإِجْمَالِىِّ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى كَأَنْ يَقُولَ الشَّخْصُ فِى نَفْسِهِ الْكِتَابَةُ لا بُدَّ لَهَا مِنْ فَاعِلٍ وَالْبِنَاءُ لا بُدَّ لَهُ مِنْ فَاعِلٍ وَالْكِتَابَةُ وَالْبِنَاءُ جُزْءٌ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ فَهَذَا الْعَالَمُ بِالأَوْلَى لا بُدَّ لَهُ مِنْ خَالِقٍ خَلَقَهُ لا يُشْبِهُهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ أَوْ يَقُولَ فِى نَفْسِهِ أَنَا كُنْتُ بَعْدَ أَنْ لَمْ أَكُنْ وَمَا كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ لا بُدَّ لَهُ منِ مُكَوِّنٍ فَإِذًا أَنَا لا بُدَّ لِى مِنْ مُكَوِّنٍ كَوَّنَنِى مَوْجُودٍ لا يُشْبِهُ شَيْئًا وَهَكَذَا سَائِرُ أَفْرَادِ الْعَالَمِ لا بُدَّ لَهَا مِنْ مُكَوِّنٍ كَوَّنَهَا لا يُشْبِهُهَا بِحَالٍ. أَمَّا الدَّلِيلُ الْعَقْلِىُّ التَّفْصِيلِىُّ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ قَالَ عُلَمَاءُ أَهْلِ السُّنَّةِ يَجِبُ مَعْرِفَتُهُ وُجُوبًا كِفَائِيًّا وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يُقَالَ الْعَالَمُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مُحْدَثٌ إِذْ هُوَ أَعْيَانٌ أَىْ أَحْجَامٌ وَأَعْرَاضٌ أَىْ صِفَاتُ الأَحْجَامِ فَالأَعْيَانُ جَمْعُ عَيْنٍ وَهُوَ مَا لَهُ قِياَمٌ بِذَاتِهِ وَالْعَرَضُ مَا لا يَقُومُ بِذَاتِهِ بَلْ بِغَيْرِهِ وَالأَعْيَانُ لا تَخْلُو مِنَ الأَعْرَاضِ كَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَهَذَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ مُدْرَكٌ بِالْبَدِيهَةِ وَالْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ حَادِثَانِ لِأَنَّهُ بِحُدُوثِ أَحَدِهِمَا يَنْعَدِمُ الآخَرُ فَمَا مِنْ سَاكِنٍ إِلَّا وَالْعَقْلُ قَاضٍ بِجَوَازِ حَرَكَتِهِ وَمَا مِنْ مُتَحَرِّكٍ إِلَّا وَالْعَقْلُ قَاضٍ بِجَوَازِ سُكُونِهِ فَالطَّارِئُ مِنْهُمَا حَادِثٌ بِطَرَيَانِهِ وَالسَّابِقُ حَادِثٌ لِعَدَمِهِ لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ قِدَمُهُ لَاسْتَحَالَ عَدَمُهُ فَالأَعْرَاضُ حَادِثَةٌ. وَالأَعْيَانُ حَادِثَةٌ لِأَنَّهَا مُلازِمَةٌ لِلأَعْرَاضِ الْحَادِثَةِ وَمَا لا يَخْلُو عَنِ الْحَادِثِ حَادِثٌ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَادِثًا لَكَانَ قَبْلَ كُلِّ حَادِثٍ حَوَادِثُ لا أَوَّلَ لَهَا وَهُوَ مُحَالٌ لِأَنَّ وُجُودَ حَوَادِثَ لا أَوَّلَ لَهَا يَسْتَلْزِمُ اسْتِحَالَةَ وُجُودِ الْحَادِثِ الْحَاضِرِ لِأَنَّ انْقِضَاءَ مَا لا نِهَايَةَ لَهُ مُحَالٌ وَوُجُودُ الْحَادِثِ الْحَاضِرِ ثَابِتٌ بِالْحِسِّ فَبَطَلَ الْقَوْلُ بِوُجُودِ حَوَادِثَ لا أَوَّلَ لَهَا. وَقَدْ قَالَ أَهْلُ الْحَقِّ فِى إِبْطَالِ الْقَوْلِ بِحَوَادِثَ لا أَوَّلَ لَهَا مَا كَفَى وَشَفَى فَمَثَّلُوا ذَلِكَ بِمُلْتَزِمٍ قَالَ لا أُعْطِى فُلانًا فِى الْيَوْمِ الْفُلانِىِّ دِرْهَمًا حَتَّى أُعْطِيَهُ دِرْهَمًا قَبْلَهُ وَلا أُعْطِيهِ دِرْهَمًا قَبْلَهُ حَتَّى أُعْطِيَهُ دِرْهَمًا قَبْلَهُ وَهَكَذَا لا إِلَى أَوَّل فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ إِعْطَاءَ الدِّرْهَمِ الْمَوْعُودِ بِهِ فِى الْيَوْمِ الْفُلانِىِّ مُحَالٌ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى مُحَالٍ وَهُوَ فَـَراغُ مَا لا نِهَايَةَ لَهُ مِنْ إِعْطَائِهِ شَيْئًا بَعْدَ شَىْءٍ وَلا رَيْبَ أَنَّ ادِّعَاءَ حَوَادِثَ لا أَوَّلَ لَهَا مُطَابِقٌ لِهَذَا الْمِثَالِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الأَعْيَانَ حَادِثَةٌ وَالأَعْـَراضَ حَـادِثَةٌ فَالْعَالَمُ حَادِثٌ لَهُ بِدَايَةٌ. ثُمَّ الْحَادِثُ مُحْتَاجٌ إِلَى مُحْدِثٍ فَاعِلٍ بِالإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ وَلا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْعَالَمِ بِالصِّدْفَةِ لِأَنَّ الْعَقْلَ يُحِيلُ وُجُودَ شَىْءٍ مَا بِدُونِ فَاعِلٍ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى ذَلِكَ مُحَالٌ وَهُوَ تَرَجُّحُ وُجُودِ الْجَائِزِ عَلَى عَدَمِهِ بِدُونِ مُرَجِّحٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ وُجُودَ الْمُمْكِنِ وَعَدَمَهُ مُتَسَاوِيَانِ عَقْلًا فَلا يَتَرَجَّحُ أَحَدُهُمَا عَلَى مُقَابِلِهِ إِلَّا بِمُرَجِّحٍ. وَكَذَلِكَ لا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْعَالَمُ خَلَقَ نَفْسَهُ لِأَنَّ فِى ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ خَلَقَ زَيْدٌ نَفْسَهُ فَقَدْ جَعَلْتَهُ قَبْلَ نَفْسِهِ بِاعْتِبَارٍ وَمُتَأَخِّرًا عَنْ نَفْسِهِ بِاعْتِبَارٍ فَبِاعْتِبَارِ خَالِقِيَّتِهِ جَعَلْتَهُ مُتَقَدِّمًا وَبِاعْتِبَارِ مَخْلُوقِيَّتِهِ جَعَلْتَهُ مُتَأَخِّرًا وَذَلِكَ مُحَالٌ عَقْلًا. وَلا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُحْدِثُ طَبِيعَةً لا اخْتِيَارَ لَهَا وَلا إِرَادَةَ إِذْ لا يَتَأتَّى مِنْهَا تَخْصِيصُ الْمُمْكِنِ بِالْوُجُودِ بَدَلَ الْعَدَمِ وَبِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ أَوْ بِصِفَةٍ دُونَ صِفَةٍ. وَلا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُحْدِثُ الْعَالَمِ أَزَلِيًّا لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ أَزَلِيًّا لَلَزِمَ حُدُوثُهُ فَيَفْتَقِرُ إِلَى مُحْدِثٍ فَيَلْزَمُ الدَّوْرُ أَوِ التَّسَلْسُلُ وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُحَالٌ فَالتَّسَلْسُلُ هُوَ تَوَقُّفُ وُجُودِ شَىْءٍ عَلَى شَىْءٍ قَبْلَهُ مُتَوَقِّفٍ عَلَى شَىْءٍ قَبْلَهُ إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ وَهَذَا مُحَالٌ كَمَا بَيَّنَّا وَالدَّوْرُ تَوَقُّفُ وُجُودِ الشَّىْءِ عَلَى مَا يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلَيْهِ وَهَذَا أَيْضًا مُحَالٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ تَقَدُّمُ الشَّىْءِ عَلَى نَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ تَوَقُّفِ وُجُودِهِ عَلَى سَبْقِ وُجُودِ غَيْرِهِ الْمَسْبُوقِ بِوُجُودِهِ هُوَ فَيَكُونُ سَابِقًا لِنَفْسِهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَتَأَخُّرُهُ عَنْهَا بِاعْتِبَارِ تَأَخُّرِ وُجُودِهِ عَنْ وُجُودِ غَيْرِهِ الْمُتَأَخِّرِ عَنْ وُجُودِهِ هُوَ فَيَكُونُ مُتَأَخِّرًا عَنْ نَفْسِهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَثَبَتَ أَنَّ لِهَذَا الْعَالَمِ مُحْدِثًا أَزَلِيًّا فَاعِلًا بِالإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ وَهُوَ اللَّهُ. انْتَهَى كَلامُ شَيْخِنَا رَحِمَهُ اللَّهُ بِبَعْضِ تَصَرُّفٍ.

وَمِنْ أَشَدِّ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ كُفْرُ الْحُلُولِ أَىِ اعْتِقَادُ حُلُولِ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ فِى الْمَخْلُوقَاتِ أَوْ فِى بَعْضِهَا وَكُفْرُ الْوَحْدَةِ الْمُطْلَقَةِ أَىِ اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَالْعَالَمَ وَاحِدٌ وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَالَمُ وَأَفْرَادَهُ أَجْزَاءٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ.

(وَحُكْمُ مَنْ يُشَبِّهِ اللَّهَ تَعَالَى بِخَلْقِهِ التَّكْفِيرُ قَطْعًا) لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفِ اللَّهَ تَعَالَى وَلَمْ يَعْبُدْهُ بَلْ عَبَدَ صُورَةً تَوَهَّمَهَا وَشَيْئًا تَخَيَّلَهُ بِخَيَالِهِ وَهَذَا مَخْلُوقٌ بِلا شَكٍّ وَلَيْسَ الْخَالِقَ سُبْحَانَهُ (وَالسَّبِيلُ إِلَى صَرْفِ التَّشْبِيهِ) أَىْ إِلَى طَرْدِ خَوَاطِرِ التَّشْبِيهِ وَمَا يُوَسْوِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْهُ (اتِّبَاعُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْقَاطِعَةِ) أَىِ الثَّابِتَةِ قَطْعًا وَيَقِينًا (مَهْمَا تَصَوَّرْتَ بِبَالِكَ فَاللَّهُ بِخِلافِ ذَلِكَ وَهِىَ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ) ذَكَرَهَا إِمَامُنَا الشَّافِعِىُّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَالإِمَامُ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَذُو النُّونِ الْمِصْرِىُّ ثَوْبَانُ بنُ إِبْرَاهِيمَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرُهُمْ (وَهِىَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الشُّورَى (﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ وَمُلاحَظَةُ مَا رُوِىَ عَنْ) أَبِى بَكْرٍ (الصِّدِّيقِ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ (شِعْرٌ مِنَ الْبَسِيطِ

الْعَجْزُ عَنْ دَرَكِ الإدْرَاكِ إِدْرَاكُ وَالْبَحْثُ عَنْ ذَاتِهِ كُفْرٌ وَإِشْرَاكُ)

أَىْ أَنَّ الإِنْسَانَ إِذَا عَرَفَ اللَّهَ تَعَالَى بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ لا كَالْمَوْجُودَاتِ وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ لا يُمْكِنُ تَصْوِيرُهُ فِى النَّفْسِ وَاقْتَصَرَ عَلَى هَذَا وَلَمْ يَبْحَثْ عَنْ ذَاتِ اللَّهِ لِلْوُصُولِ إِلَى حَقِيقَتِهِ وَلَمْ يَتَخَيَّلْهُ بِخَيَالِهِ شَيْئًا كَالإِنْسَانِ أَوْ كَكُتْلَةٍ نُورَانِيَّةٍ أَوْ حَجْمًا فَوْقَ الْعَرْشِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا يُقَالُ عَنْهُ عَرَفَ اللَّهَ وَأَدْرَكَ حَقِيقَةَ الإِيمَانِ بِهِ وَسَلِمَ مِنَ التَّشْبِيهِ وَهُوَ بِمَعْنَى مَا رَوَاهُ الْبَغَوِىُّ عَنْ أُبَىِّ بنِ كَعْبٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا فِى تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ النَّجْمِ ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾ قَالَ لا فِكْرَةَ فِى الرَّبِّ اﻫ أَىْ لا تُدْرِكُهُ تَصَوُّرَاتُ الْعِبَادِ وَأَوْهَامُهُمْ (وَ)كَذَا مُلاحَظَةُ (قَوْلِ بَعْضِهِمْ) كَابْنِ جُزَىٍّ فِى التَّسْهِيلِ (لا يَعْرِفُ اللَّهَ عَلَى الْحَقِيقَةِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى) اﻫ (وَمَعْرِفَتُنَا نَحْنُ بِاللَّهِ تَعَالَى لَيْسَتْ عَلَى سَبِيلِ الإِحَاطَةِ بَلْ بِمَعْرِفَةِ مَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى كَوُجُوبِ الْقِدَمِ) أَىِ الأَوَّلِيَّةِ بِلا بِدَايَةٍ وَلا سَبْقِ عَدَمٍ (لَهُ وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ تَعَالَى) أَىْ يَسْتَحِيلُ عَقْلًا فِى حَقِّهِ (كَاسْتِحَالَةِ الشَّرِيكِ لَهُ وَ)مَعْرِفَةِ (مَا يَجُوزُ) عَقْلًا (فِى حَقِّهِ تَعَالَى كَخَلْقِ شَىْءٍ وَتَرْكِهِ) فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُوجِدُ مَا يَشَاءُ بِاخْتِيَارِهِ وَمَا لَمْ يَشَأْ وُجُودَهُ لا يُوجِدُهُ سُبْحَانَهُ وَهَذَا مَا يَقْصِدُهُ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ إِذَا قَالُوا فُلانٌ عَرَفَ اللَّهَ. (قَالَ الإِمَامُ) أَحْمَدُ بنُ عَلِىٍّ (الرِّفَاعِىُّ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فِى مَا رُوِىَ عَنْهُ بِالإِسْنَادِ الْمُتَّصِلِ فِى كِتَابِ الْحِكَمِ لَهُ وَفِى غَيْرِهِ (غَايَةُ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ) أَىْ أَقْصَى مَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْعَبْدُ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ (الإِيقَانُ) أَىِ الإِيمَانُ وَالْجَزْمُ بِالْقَلْبِ بِلا شَكٍّ (بِوُجُودِهِ تَعَالَى بِلا كَيْفٍ) أَىْ مِنْ غَيْرِ اتِّصَافٍ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ (وَلا مَكَانٍ) اﻫ أَىْ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى حَجْمًا لَهُ طُولٌ وَعَرْضٌ وَعُمْقٌ إِذِ الْمَكَانُ هُوَ الْحَيِّزُ الَّذِى يَشْغَلُهُ الْحَجْمُ مِنَ الْفَرَاغِ فَمَنْ أَيْقَنَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَوْجُودٌ بِلا كَيْفٍ وَلا مَكَانٍ فَقَدْ وَصَلَ إِلَى غَايَةِ مَا يَبْلُغُهُ الإِنْسَانُ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ.

(فَائِدَةٌ. قَالَ الْغَزَالِىُّ فِى إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ إِنَّهُ أَىِ اللَّهَ أَزَلِىٌّ لَيْسَ لِوُجُودِهِ أَوَّلٌ وَ)أَبَدِىٌّ (لَيْسَ لِوُجُودِهِ ءَاخِرٌ وَإِنَّهُ لَيْسَ بِجَوْهَرٍ يَتَحَيَّزُ) وَهُوَ الْجُزْءُ الَّذِى لا يَتَجَزَّأُ مِنْ تَنَاهِيهِ فِى الْقِلَّةِ وَلا بِعَرَضٍ لا قِيَامَ لَهُ بِذَاتِهِ إِنَّمَا يَقُومُ بِالْجَوْهَرِ (بَلْ يَتَعَالَى وَيَتَقَدَّسُ عَنْ مُنَاسَبَةِ الْحَوَادِثِ وَإِنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ) لَهُ طُولٌ وَعَرْضٌ وَعُمْقٌ (مُؤَلَّفٍ مِنْ جَوَاهِرَ وَلَوْ جَازَ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ صَانِعَ الْعَالَمِ) أَىْ خَالِقَهُ (جِسْمٌ لَجَازَ أَنْ تُعْتَقَدَ الأُلُوهِيَّةُ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَوْ لِشَىْءٍ ءَاخَرَ مِنْ أَقْسَامِ الأَجْسَامِ) وَلِذَلِكَ قَالُوا إِنَّ الْمُجَسِّمَ الَّذِى يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ مَوْجُودٌ فَوْقَ الْعَرْشِ وَمَعَ ذَلِكَ يَدَّعِى الإِسْلامَ عَاجِزٌ عَنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى عَابِدِ الشَّمْسِ كَمَا سَيَأْتِى بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (فَإِذًا لا يُشْبِهُ) اللَّهُ (شَيْئًا وَلا يُشْبِهُهُ شَىْءٌ بَلْ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ الَّذِى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَأَنَّى يُشْبِهُ الْمَخْلُوقُ خَالِقَهُ وَالْمُقَدَّرُ) أَىْ ذُو الْكَمِّيَّةِ (مُقَدِّرَهُ وَالْمُصَوَّرُ مُصَوِّرَهُ) اﻫ (فَلَيْسَ هَذَا) الَّذِى ذَكَرَهُ الْغَزَالِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ (الْكَلامَ الَّذِى عَابَهُ الْعُلَمَاءُ) فِى بَعْضِ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ مِنْ نَحْوِ مَا رُوِىَ عَنِ الشَّافِعِىِّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَأَنْ يُبْتَلَى الْمَرْءُ بِكُلِّ ذَنْبٍ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُبْتَلَى بِالْكَلامِ (وَإِنَّمَا عَابَ السَّلَفُ كَلامَ الْمُبْتَدِعَةِ فِى الِاعْتِقَادِ) وَهُوَ الَّذِى أَرَادَهُ الشَّافِعِىُّ عَلَيْهِ رِضْوَانُ اللَّهِ فِى مَا نُقِلَ عَنْهُ ءَانِفًا وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الرِّوَايَةُ الأُخْرَى لِكَلامِهِ الَّتِى رَوَاهَا الْبَيْهَقِىُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ وَغَيْرُهُمَا وَهِىَ الرِّوَايَةُ الْمُعْتَمَدَةُ لَأَنْ يَلْقَى اللَّهَ الْعَبْدُ بِكُلِّ ذَنْبٍ مَا خَلا الشِّرْكَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَلْقَاهُ بِشَىْءٍ مِنْ هَذِهِ الأَهْوَاءِ فَدَلَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلامِ فِى الرِّوَايَةِ الأُخْرَى هُوَ كَلامُ أَهْلِ الأَهْوَاءِ. وَقَدْ أَفَاضَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِى شَرْحِ هَذَا الأَمْرِ وَإِيضَاحِهِ وَتَقْرِيرِهِ فِى تَبْيِينِ كَذِبِ الْمُفْتَرِى لَهُ فَلْيُرَاجِعْهُ مَنْ شَاءَ. وَمَا أَحْسَنَ مَا رَوَاهُ فِيهِ عَنْ أَبِى الْمَعَالِى الْجُوَيْنِىِّ أَنَّهُ قَالَ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ نَهَوْا عَنْ مَعْرِفَةِ الأُصُولِ وَتَجَنَّبُوهَا أَوْ تَغَافَلُوا عَنْهَا وَأَهْمَلُوهَا فَقَدِ اعْتَقَدَ فِيهِمْ عَجْزًا وَأَسَاءَ بِهِمْ ظَنًّا لِأَنَّهُ لا يُقْبَلُ عِنْدَ كُلِّ مَنْ أَنْصَفَ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ يَتَكَلَّمُ فِى مَسْئَلَةِ الْعَوْلِ وَقَضَايَا الْجَدِّ وَكَمِّيَّةِ الْحُدُودِ وَكَيْفِيَّةِ الْقِصَاصِ بِفُصُولٍ وَيُبَاهِلُ عَلَيْهَا وَيُبَالِغُ وَيَذْكُرُ فِى إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ عِشْرِينَ دَلِيلًا لِنَفْسِهِ وَلِلْمُخَالِفِ وَيُشَقِّقُ الشِّعْرَ فِى النَّظَرِ فِيهَا ثُمَّ لا يَعْرِفُ رَبَّهُ الآمِرَ خَلْقَهُ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَالْمُكَلِّفَ عِبَادَهُ بِالتَّرْكِ وَالتَّعْظِيمِ فَهَيْهَاتَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اﻫ وَالْمَقْصُودُ بِالْمُبْتَدِعَةِ فِرَقٌ كَثِيرَةٌ (كَالْمُشَبّـِهَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ وَسَائِرِ الْفِرَقِ الَّتِى شَذَّتْ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ وَالصَّحَابَةُ الَّذِينَ افْتَرَقُوا إِلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بِذَلِكَ فِى حَدِيثِهِ الصَّحِيحِ الثَّابِتِ الَّذِى رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ بِإِسْنَادِهِ إِلَى أَبِى هُرَيْرَةَ) وَرَوَاهُ غَيْرُهُ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا (قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ) عَلَى (إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتِى إِلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهُمْ فِى النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً وَهِىَ الْجَمَاعَةُ) اﻫ (أَىِ السَّوَادُ الأَعْظَمُ) كَمَا هُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِى رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ.

(وَأَمَّا عِلْمُ الْكَلامِ الَّذِى يَشْتَغِلُ بِهِ أَهْلُ السُّنَّةِ مِنَ الأَشَاعِرَةِ وَالْمَاتُرِيدِيَّةِ فَقَدْ عُمِلَ بِهِ مِنْ قَبْلِ الأَشْعَرِىِّ وَالْمَاتُرِيدِىِّ) فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَهُ لِأَصْحَابِهِ وَعَلَّمَهُ الصَّحَابَةُ لِلتَّابِعِينَ وَالتَّابِعُونَ لِأَتْبَاعِهِمْ وَهَلُمَّ جَرًّا فَصَنَّفَ فِيهِ عُمَرُ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ الْحَنَفِيَّةِ مِنَ التَّابِعِينَ وَالإِمَامُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ (كَأَبِى حَنِيفَةَ فَإِنَّ لَهُ خَمْسَ رَسَائِلَ فِى ذَلِكَ وَ)سَمَّاهُ الْفِقْهَ الأَكْبَرَ إِيذَانًا وَإِعْلامًا بِأَنَّهُ أَشْرَفُ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْعُلُومِ وَأَفْضَلُ وَصَنَّفَ فِيهِ (الإِمَامُ الشَّافِعِىُّ) كِتَابَ الْقِيَاسِ وَغَيْرَهُ وَ(كَانَ يُتْقِنُهُ حَتَّى إِنَّهُ قَالَ أَتْقَنَّا ذَاكَ قَبْلَ هَذَا) اﻫ (أَىْ أَتْقَنَّا عِلْمَ الْكَلامِ قَبْلَ) فُرُوعِ (الْفِقْهِ) ثُمَّ ظَهَرَ فِى الْقَرْنِ الثَّالِثِ الْهِجْرِىِّ إِمَامَانِ جَلِيلانِ أَحَدُهُمَا حَنَفِىُّ الْمَذْهَبِ كَانَ فِى بِلادِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ يُدْعَى أَبَا مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِىَّ وَثَانِيهِمَا شَافِعِىُّ الْمَذْهَبِ كَانَ فِى بَغْدَادَ يُدْعَى أَبَا الْحَسَنِ الأَشْعَرِىَّ قَامَا بِنُصْرَةِ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ فَشَرَحَا مَا جَاءَ فِى الْقُرْءَانِ وَالْحَدِيثِ وَكَلامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ ذَلِكَ وَأَوْضَحَا عَقِيدَةَ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ وَنَصَرَاهَا بِالأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ رَدًّا عَلَى الْمُشَبِّهَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الِاعْتِقَادِيَّةِ الْخَارِجَةِ عَنْ اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ فَعَلا شَأْنُهُمَا وَانْتَشَرَ كَلامُهُمَا وَفَرِحَ بِهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَتَنَاقَلُوهُ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ فَصَارَ لا يُقَالُ سُنِّىٌّ إِلَّا لِمَنْ كَانَ مَاتُرِيدِيًّا أَوْ أَشْعَرِيًّا وَالْكُلُّ مُتَّفِقُونَ فِى أُصُولِ الِاعْتِقَادِ وَلا خِلافَ بَيْنَهُمْ إِلَّا فِى بَعْضِ الْفُرُوعِ الَّتِى لا يُوجِبُ الْخِلافُ فِيهَا تَبْدِيعًا وَلا تَفْسِيقًا.


(الْوِقَايَةُ مِنَ النَّارِ)


(قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) فِى سُورَةِ التَّحْرِيمِ (﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ وَجَاءَ فِى تَفْسِيرِ الآيَةِ) فِى مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِىٍّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلَهُمُ النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ بِتَعَلُّمِ الأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَتَعْلِيمِ أَهْلِيهِمْ ذَلِكَ أَىْ مَعْرِفَةِ مَا فَرَضَ اللَّهُ فِعْلَهُ أَوِ اجْتِنَابَهُ أَىِ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ) وَنَصُّ كَلامِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلِّمُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمُ الْخَيْرَ اﻫ (وَذَلِكَ كَىْ لا يَقَعَ) مَنْ أَهْمَلَ التَّعَلُّمَ (فِى التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ وَالْكُفْرِ وَالضَّلالِ) فَيَخْلُدَ فِى نَارِ جَهَنَّمَ إِنْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ وَيَكُونُ وَقُودًا لَهَا أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الْخَاتِمَةِ (ذَلِكَ لِأَنَّهُ مَنْ يُشَبِّهُ اللَّهَ تَعَالَى بِشَىْءٍ مَا لَمْ تَصِحَّ عِبَادَتُهُ لِأَنَّهُ يَعْبُدُ شَيْئًا تَخَيَّلَهُ وَتَوَهَّمَهُ فِى مُخَيِلَتِهِ وَأَوْهَامِهِ) إِذْ كُلُّ مَا يَتَخَيَّلُهُ يَكُونُ مُشَابِهًا وَلَوْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ لِمَا رَءَاهُ وَأَلِفَهُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ فَيَحْكُمُ عَلَى مَا لَمْ يَرَهُ بِحُكْمِ مَا رَءَاهُ وَهَذَا هُوَ الْوَهْمُ الَّذِى لا يَصِحُّ بِنَاءُ الِاعْتِقَادِ عَلَيْهِ بَلِ الْعِبْرَةُ وَالِاعْتِبَارُ فِى ذَلِكَ بِالْعَقْلِ لا بالتَّخَيُّلِ وَالْوَهْمِ فَإِنَّ الْوَهْمَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ وَاتِّبَاعُ حُكْمِ الْعَقْلِ يَقُودُ إِلَى الصَّوَابِ أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا نَظَرْتَ إِلَى الأُفُقِ عِنْدَ الْبَحْرِ مَثَلًا صَوَّرَ الْوَهْمُ لَكَ انْتِهَاءَ الْبَحْرِ عِنْدَ مَدَى نَظَرِكَ وَحَكَمَ عَقْلُكَ بِمَا عَرَفْتَ مِنْ أَدِلَّةٍ أَنَّهُ لا يَنْتَهِى عِنْدَ ذَلِكَ وَصَوَّرَ لَكَ الْوَهْمُ أَيْضًا أَنَّ السَّمَاءَ تُلاقِى الْمَاءَ عِنْدَ مَدَى الْبَصَرِ وَأَنَّ الشَّمْسَ تُبَاشِرُهُ إِذَا غَابَتْ وَإِذَا أَشْرَقَتْ وَحَكَمَ عَقْلُكَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ الأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ فَالصَّوَابُ أَنْ تَتْبَعَ حُكْمَ الْعَقْلِ لا مَا يُصَوِّرُهُ الْوَهْمُ. وَالْعَقْلُ يَحْكُمُ بِأَنَّ الْخَالِقَ عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ جِسْمًا لَهُ كَمِّيَّةٌ وَلا يُتَصَوَّرُ وَلا يُتَخَيَّلُ فَمَنِ اعْتَقَدَ خِلافَ ذَلِكَ فَقَدْ تَبِعَ الْوَهْمَ وَخَالَفَ حُكْمَ الْعَقْلِ فَلَمْ يَعْرِفْ رَبَّهُ فَهَلَكَ (قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِىُّ لا تَصِحُّ الْعِبَادَةُ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْمَعْبُودِ) اﻫ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفِ اللَّهَ كَيْفَ يَعْبُدُهُ وَيَقُومُ بِطَاعَتِهِ. قَالَ أَبُو حَامِدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِى رَوْضَةِ الطَّالِبِينَ وَعُمْدَةِ السَّالِكِينَ فَيَجِبُ عَلَيْكَ أَوَّلًا أَنْ تَعْرِفَ الْمَعْبُودَ ثُمَّ تَعْبُدَهُ وَكَيْفَ تَعْبُدَ مَنْ لا تَعْرِفُهُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِ ذَاتِهِ وَمَا يَجِبُ لَهُ وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ فِى نَعْتِهِ فَرُبَّمَا تَعْتَقِدُ اعْتِقَادًا فِى صِفَاتِهِ شَيْئًا مِمَّا يُخَالِفُ الْحَقَّ فَتَكُونُ عِبَادَتُكَ هَبَاءً مَنْثُورًا اهـ.


(مَا جَاءَ فِى بَدْءِ الْخَلْقِ)


(قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا سُئِلَ) مِنْ قِبَلِ أُنَاسٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ رَحَلُوا إِلَيْهِ لِيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ (عَنْ بَدْءِ الأَمْرِ) أَىْ عَنْ أَوَّلِ الْمَخْلُوقَاتِ (كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْرُهُ) فَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِكْرِ مَا هُوَ أَهَمُّ مِنْ جَوَابِ سُؤَالِهِمْ فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَوْجُودٌ بِلا ابْتِدَاءٍ لا يُشَارِكُهُ فِى ذَلِكَ شَىْءٌ ءَاخَرُ وَأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ لَهُ بِدَايَةٌ وَبَعْدَ هَذَا أَجَابَهُمْ عَنْ سُؤَالِهِمْ فَقَالَ (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) أَىْ حَدَثَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ فَكَلِمَةُ كَانَ هُنَا لِلْحُدُوثِ كَمَا تَقُولُ أَمْس ِكَانَ الْمَطَرُ أَىْ حَدَثَ وَوُجِدَ وَأَمَّا كَانَ الأُولَى فَهِىَ لِلأَزَلِيَّةِ وَيُصَرِّحُ هَذَا الْحَدِيثُ بِأَنَّ أَوَّلَ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَرْشُ وَالْمَاءُ وَيُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْمَاءَ سَبَقَ الْعَرْشَ فِى الْوُجُودِ وَهُوَ مَا صُرِّحَ بِهِ فِى غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ وَغَيْرِهِ كَحَدِيثِ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا مِمَّا خَلَقَ قَبْلَ الْمَاءِ اهـ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَكَتَبَ فِى الذِّكْرِ كُلَّ شَىْءٍ) أَىْ أَجْرَى الْقَلَمَ الأَعْلَى فَكَتَبَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ كُلَّ مَا يَحْصُلُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِتَفَاصِيلِهِ فَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْقَلَمَ وَاللَّوْحَ وُجِدَا بَعْدَ الْمَاءِ وَالْعَرْشِ وَهُوَ كَذَلِكَ. وَيُفْهَمُ تَقَدُّمُ وُجُودِ الْقَلَمِ عَلَى وُجُودِ اللَّوْحِ كَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِىُ وَغَيْرُهُ (ثُمَّ) أَىْ بَعْدَ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (خَلَقَ) اللَّهُ (السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ) اﻫ أَىْ خَلَقَهُمَا وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ الأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالثُّلاثَاءِ وَالأَرْبِعَاءِ وَالْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ كُلُّ يَوْمٍ مِنْهَا قَدْرُ أَلْفِ سَنَةٍ بِتَقْدِيرِ سِنِينِنَا هَذِهِ وَفِى ءَاخِرِ الْيَوْمِ السَّادِسِ أَىْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ خَلَقَ اللَّهُ سَيِّدَنَا ءَادَمَ فَمَكَثَ فِى الْجَنَّةِ مِائَةً وَثَلاثِينَ عَامًا ثُمَّ أُهْبِطَ إِلَى الأَرْضِ فَعَاشَ فِيهَا مَا أَتَمَّ بِهِ أَلْفَ عَامٍ ثُمَّ تُوُفِّىَ عَلَيْهِ صَلاةُ اللَّهِ وَسَلامُهُ. وَالْحَدِيثُ (رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ. أَجَابَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ بِأَنَّ اللَّهَ لا بِدَايَةَ لِوُجُودِهِ أَىْ أَزَلِىٌّ وَلا أَزَلِىَّ سِوَاهُ وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى فَفِى الأَزَلِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى) فَلَيْسَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْعَالَمِ أَزَلِيًّا بِلا بِدَايَةٍ وَلَيْسَ نَوْعُ الْعَالَمِ أَوْ جِنْسُهُ أَزَلِيًّا بِلا بِدَايَةٍ بَلِ الْعَالَمُ بِأَفْرَادِهِ وَجِنْسِهِ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ ثُمَّ كَانَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَخْلِيقِهِ (وَ)هَذَا هُوَ اعْتِقَادُ الْمُسْلِمِينَ وَشِعَارُ الْمُوَحِّدِينَ قَاطِبَةً مَنْ خَالَفَهُ فَهُوَ كَافِرٌ بِـإِجْمَاعٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِى عِيَاضٌ وَابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَالتَّقِىُّ السُّبْكِىُّ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الأَئِمَّةِ فَلا عِبْرَةَ بِاعْتِرَاضِ ابْنِ تَيْمِيَةَ عَلَى نَقْلِ ابْنِ حَزْمٍ الإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ وَسِرُّ الأَمْرِ أَنَّ أَحْمَدَ بنَ تَيْمِيَةَ كَانَ يَعْتَقِدُ أَزَلِيَّةَ نَوْعِ الْعَالَمِ كَمَا يَقُولُ الْفَلاسِفَةُ الْمُحْدَثُونَ وَلِذَلِكَ اعْتَرَضَ عَلَى ابْنِ حَزْمٍ وَقَدْ بَيَّنَ الزَّرْكَشِىُّ فِى تَشْنِيفِ الْمَسَامِعِ بُطْلانَ اعْتِقَادِ الْفَلاسِفَةِ سَوَاءٌ مَنْ قَالَ مِنْ مُتَقَدِّميِهِمْ بِقِدَمِ أَفْرَادٍ مِنَ الْعَالَمِ وَمَنْ قَالَ مِنْ مُتَأَخِّرِيهِمْ بِقِدَمِ نَوْعِ الْعَالَمِ ثُمَّ قَالَ وَكَفَّرَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَضَلَّلُوهُمْ اﻫ كَمَا تَقَدَّمَ وَقَوْلُنَا أَهْلَ السُّنَّةِ (اللَّهُ تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ أَىْ مُخْرِجُهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ وَمَعْنَى خَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ أَنَّهُ أَخْرَجَ جَمِيعَ الْمَوْجُودَاتِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ. وَ)كَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَزَلِىٌّ بِلا ابْتِدَاءٍ فَإِنَّ (اللَّهَ تَعَالَى حَىٌّ لا يَمُوتُ) فَلا يَفْنَى وَلا يَبِيدُ (لِأَنَّهُ لا نِهَايَةَ لِوُجُودِهِ أَىْ أَبَدِىٌّ فَلا يَطْرَأُ عَلَيْهِ الْعَدَمُ إِذْ لَوْ جَازَ عَلَيْهِ الْعَدَمُ لَاسْتَحَالَ عَلَيْهِ الْقِدَمُ أَىِ الأَزَلِيَّةُ) كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ عِنْدَ ذِكْرِ الدَّلِيلِ الْعَقْلِىِّ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.

(وَحُكْمُ مَنْ يَقُولُ اللَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ التَّكْفِيرُ قَطْعًا لِأَنَّهُ نَسَبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْعَدَمَ قَبْلَ الْوُجُودِ وَلا يُقَالُ ذَلِكَ إِلَّا فِى الْحَوَادِثِ أَىِ الْمَخْلُوقَاتِ) لِأَنَّ الَّذِى يَحْتَاجُ إِلَى الْخَالِقِ لِيُبْرِزَهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ هُوَ الَّذِى لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا ثُمَّ وُجِدَ وَأَمَّا الأَزَلِىُّ الَّذِى لا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ فَلا يَحْتَاجُ إِلَى خَالِقٍ يَخْلُقُهُ فَإِذَا خَطَرَ مِثْلُ هَذَا السُّؤَالِ فِى الْبَالِ فَعِلاجُهُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ أَنْ يَنْحُوَ عَنْ هَذَا بِغَيْرِهِ أَىْ أَنْ يَصْرِفَ فِكْرَهُ عَنْ هَذَا الْخَاطِرِ وَيَدْفَعَهُ بِالْمُعْتَقَدِ الصَّحِيحِ وَيَشْغَلَهُ بِغَيْرِهِ مِمَّا يُفِيدُ وَلِيَقُلْ مَعَ ذَلِكَ ءَامَنْتُ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أَوْ ءَامَنْتُ بِاللَّهِ وَبِرُسُلِهِ فَإِنَّهُ يَقْطَعُهُ عَنْهُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى.

تَنْبِيهٌ. الْخَاطِرُ هُوَ مَا لا تَمْلِكُ مَنْعَهُ مِنْ أَنْ يَرِدَ عَلَى قَلْبِكَ وَيَكُونُ بِلا إِرَادَةٍ فَلا يُكْتَبُ عَلَيْكَ وَلا تُؤَاخَذُ بِهِ مَهْمَا كَانَ سَيِّئًا طَالَمَا كَرِهْتَهُ وَلَمْ تَتْبَعْهُ وَأَمَّا إِذَا أَوْرَثَ الْخَاطِرُ شَكًّا فِى الْحَقِّ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ فَقَدِ انْقَلَبَ مَا فِى الْقَلْبِ مِنْ مُجَرَّدِ خَاطِرٍ يَخْطُرُ بِلا إِرَادَةٍ إِلَى تَرَدُّدٍ بِإِرَادَةٍ فَيَضُرُّ.

(فَاللَّهُ تَعَالَى وَاجِبُ الْوُجُودِ أَىْ لا يُتَصَوَّرُ فِى الْعَقْلِ عَدَمُهُ) كَمَا سَيَأْتِى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى زِيَادَةُ بَيَانِ ذَلِكَ (فَلَيْسَ وُجُودُهُ كَوُجُودِنَا الْحَادِثِ لِأَنَّ وُجُودَنَا بِإِيجَادِهِ تَعَالَى وَ)ذَلِكَ أَنَّ (كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ جَائِزُ الْوُجُودِ أَىْ يُمْكِنُ عَقْلًا وُجُودُهُ بَعْدَ عَدَمٍ وَإِعْدَامُهُ بَعْدَ وُجُودِهِ بِالنَّظَرِ لِذَاتِهِ فِى حُكْمِ الْعَقْلِ) وَسَيَأْتِى بَيَانُهُ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

(وَاعْلَمْ أَنَّ أَقْسَامَ الْمَوْجُودِ ثَلاثَةٌ الأَوَّلُ أَزَلِىٌّ أَبَدِىٌّ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَقَطْ أَىْ لا بِدَايَةَ) لِوُجُودِهِ فَلَمْ يَسْبِقْ وُجُودَهُ عَدَمٌ (وَلا نِهَايَةَ لِوُجُودِهِ) فَلا يَلْحَقُهُ عَدَمٌ وَلا يَطْرَأُ عَلَيْهِ عَدَمٌ كَمَا قَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ كَمَا هُوَ وَيَكُونُ عَلَى مَا كَانَ (وَحُكْمُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ هُنَاكَ شَيْئًا أَزَلِيًّا سِوَى اللَّهِ التَّكْفِيرُ قَطْعًا وَلِذَلِكَ كَفَرَتِ الْفَلاسِفَةُ بِاعْتِقَادِهِمُ السَّفِيهِ أَنَّ الْعَالَمَ قَدِيمٌ أَزَلِىٌّ لِأَنَّ الأَزَلِيَّةَ لا تَصِحُّ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى فَقَطْ) كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ.

(وَالثَّانِى) مِنْ أَقْسَامِ الْمَوْجُودِ مَوْجُودٌ (أَبَدِىٌّ لا أَزَلِىٌّ أَىْ أَنَّ لَهُ بِدَايَةً وَلا نِهَايَةَ لَهُ وَهُوَ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَهُمَا مَخْلُوقَتَانِ أَىْ لَهُمَا بِدَايَةٌ إِلَّا أَنَّهُ لا نِهَايَةَ لَهُمَا أَىْ أَبَدِيَتَانِ فَلا يَطْرَأُ عَلَيْهِمَا خَرَابٌ أَوْ فَنَاءٌ) وَلا يَنْقَطِعُ نَعِيمُ الْجَنَّةِ وَلا يَتَوَقَّفُ عَذَابُ الْكُفَّارِ فِى النَّارِ بِنَصِّ الْقُرْءَانِ وَنَصِّ الْحَدِيثِ وَإِجْمَاعِ الأُمَّةِ وَذَلِكَ (لِمَشِيئَةِ اللَّهِ بَقَاءَهُمَا) فَبَقَاؤُهُمَا لَيْسَ بِالذَّاتِ بَلْ بِإِبْقَاءِ اللَّهِ لَهُمَا (أَمَّا مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُمَا فَيَجُوزُ عَلَيْهِمَا الْفَنَاءُ عَقْلًا) لَكِنْ بِالنَّظَرِ إِلَى أَنَّ اللَّهَ شَاءَ لَهُمَا الْبَقَاءَ فَإِنَّهُمَا لا تَفْنَيَانِ فَلا تَشَابُهَ بَيْنَ بَقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَقَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ لِأَنَّ بَقَاءَهُ تَعَالَى ذَاتِىٌّ وَبَقَاءَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ لَيْسَ ذَاتِيًّا بَلْ بِغَيْرِهِمَا وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الشَّيْخِ مُحْيِى الدِّينِ بنِ عَرَبِىٍّ لا مَوْجُودَ بِذَاتِهِ إِلَّا اللَّهُ اﻫ وَمَا أَبْشَعَ قَوْلَ بَعْضِ جَهَلَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ لا مَوْجُودَ إِلَّا اللَّهُ.

(وَالثَّالِثُ) مِنْ أَقْسَامِ الْمَوْجُودِ مَوْجُودٌ (لا أَزَلِىٌّ وَلا أَبَدِىٌّ أَىْ أَنَّ لَهُ بِدَايَةً وَلَهُ نِهَايَةً وَهُوَ كُلُّ مَا فِى هَذِهِ الدُّنْيَا مِنَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَالأَرْضِ فَلا بُدَّ مِنْ فَنَائِهِمَا وَفَنَاءِ مَا فِيهِمَا مِنْ إِنْسٍ وَجِنٍّ وَمَلائِكَةٍ) وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الرَّحْمٰنِ ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ أَىْ أَنَّ كُلَّ مَنْ عَلَى الأَرْضِ يَفْنَى وَفَنَاءُ الْبَشَرِ وَالْجِنِّ هُوَ بِمُفَارَقَةِ أَرْوَاحِهِمْ لِأَجْسَادِهِمْ فَهَذَا نَصٌّ فِى فَنَاءِ مَنْ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ وَأَمَّا فَنَاءُ بَاقِى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِى السُّورَةِ نَفْسِهَا ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ أَىْ يَبْقَى ذَاتُهُ سُبْحَانَهُ فَإِنَّ الْوَجْهَ هُنَا مَعْنَاهُ الذَّاتُ أَىْ يَبْقَى رَبُّكَ.

فَائِدَةٌ. ذَكَرَ بَعْضُ عُلَمَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَشْيَاءَ غَيْرَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ خُلِقَتْ لِلْبَقَاءِ فَلا تَفْنَى مِنْهَا الْعَرْشُ وَالْمَاءُ الَّذِى تَحْتَهُ وَالْقَلَمُ وَاللَّوْحُ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَقَدْ سُئِلَ الإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ الْعَرْشِ هَلْ يَفْنَى فَقَالَ لا لِأَنَّهُ سَقْفُ الْجَنَّةِ اﻫ فَشَتَّانَ مَا بَيْنَ أَحْمَدَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ الَّذِى يُعَرِّفُ الْعَرْشَ بِأَنَّهُ سَقْفُ الْجَنَّةِ وَأَنَّهُ بَاقٍ لا يَفْنَى بِإِبْقَاءِ اللَّهِ لَهُ وَبَيْنَ مَنِ انْتَسَبَ إِلَيْهِ زُورًا فَعَرَّفَ الْعَرْشَ بِأَنَّهُ مُسْتَقَرُّ الْخَالِقِ جَلَّ وَعَلا وَزَعَمَ أَنَّهُ يَفْنَى كُلَّ مُدَّةٍ وَيُخْلَقُ غَيْرُهُ

سَارَتْ مُشَرِّقَةً وَسِرْتُ مُغَرِّبًا شَتَّانَ بَيْنَ مُشَرِّقٍ وَمُغَرِّبِ

(وَاعْلَمْ أَنَّهُ جَرَتْ عَادَةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى ذِكْرِ أَنَّ الْحُكْمَ الْعَقْلِىَّ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلاثَةٍ) أَىْ أَنَّ الْعَقْلَ يَحْكُمُ عَلَى كُلِّ أَمْرٍ مِنَ الأُمُورِ بِحُكْمٍ مِنْ ثَلاثَةٍ (الْوُجُوبِ وَالِاسْتِحَالَةِ وَالْجَوَازِ) فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الأَمْرُ وَاجِبًا عَقْلِيًّا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِيلًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ جَائِزًا (وَقَالُوا الْوَاجِبُ) الْعَقْلِىُّ (مَا لا يُتَصَوَّرُ عَدَمُهُ) أَىْ مَا لا يَتَصَوَّرُ الْعَقْلُ عَدَمَهُ أَىْ مَا لا يَقْبَلُ الْعَدَمَ أَوِ الِانْتِفَاءَ أَصْلًا لِذَاتِهِ (وَهُوَ اللَّهُ وَصِفَاتُهُ) الْقَائِمَةُ بِذَاتِهِ سُبْحَانَهُ (وَالْمُسْتَحِيلُ) الْعَقْلِىُّ هُوَ (مَا لا يُتَصَوَّرُ فِى الْعَقْلِ وُجُودُهُ وَقَدْ يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِالْمُمْتَنِعِ) عَقْلًا وَهُوَ مَا يُحَتِّمُ الْعَقْلُ انْتِفَاءَهُ وَلا يَقْبَلُ وُجُودَهُ أَىْ هُوَ مَا لا يَقْبَلُ الْوُجُودَ مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ فَيُقَالُ مَثَلًا الشَّرِيكُ لِلَّهِ مُسْتَحِيلٌ عَقْلِىٌّ أَىْ لا يَجُوزُ فِى الْعَقْلِ وُجُودُهُ. وَأَمَّا الْمُسْتَحِيلُ الْعَادِىُّ فَهُوَ مَا يَجُوزُ فِى الْعَقْلِ وُجُودُهُ لَكِنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ لا يَكُونُ عَلَى حَسَبِ الْعَادَةِ كَوُجُودِ جَبَلٍ مِنْ زِئْبَقٍ مَثَلًا فَإِنَّهُ لا يَكُونُ فِى هَذِهِ الدُّنْيَا (وَ)أَمَّا (الْجَائِزُ) الْعَقْلِىُّ وَيُقَالُ لَهُ الْمُمْكِنُ الْعَقْلِىُّ فَهُوَ (مَا يُتَصَوَّرُ فِى الْعَقْلِ وُجُودُهُ) تَارَةً (وَعَدَمُهُ) تَارَةً أُخْرَى فَبِالنَّظَرِ إِلَى ذَاتِهِ بِحُكْمِ الْعَقْلِ يُمْكِنُ وُجُودُهُ بَعْدَ عَدَمٍ وَإِعْدَامُهُ بَعْدَ وُجُودٍ وَهَذَا الْحُكْمُ يَنْطَبِقُ عَلَى الْعَالَمِ كُلِّهِ (وَلِذَلِكَ) أَىْ لِأَجْلِ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنَ الأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ الثَّلاثَةِ (يَصِفُونَ اللَّهَ بِالْوَاجِبِ الْوُجُودِ) لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لا يَقْبَلُ الْعَدَمَ مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ وَلا يَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ تَعَالَى حُكْمُ جَوَازِ الْوُجُودِ أَوِ اسْتِحَالَتِهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ.


(قِدَمُ اللَّهِ لَيْسَ زَمَانِيًّا)


(اللَّهُ تَعَالَى كَانَ قَبْلَ الزَّمَانِ وَقَبْلَ الْمَكَانِ وَقَبْلَ الظُّلُمَاتِ وَقَبْلَ النُّورِ) أَىْ كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ مِمَّا ذُكِرَ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَوْجُودٌ بِلا ابْتِدَاءٍ قَدِيمٌ لَمْ يَسْبِقْ وُجُودَهُ عَدَمٌ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ حَادِثٌ لِوُجُودِهِ ابْتِدَاءٌ فَالزَّمَانُ حَدَثَ مَعَ وُجُودِ أَوَّلِ الْمَخْلُوقَاتِ وَهُوَ الْمَاءُ وَكَذَا الْمَكَانُ وَبَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَانٍ خَلَقَ اللَّهُ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ فَالْقَدِيمُ إِذَا أُطْلِقَ عَلَى اللَّهِ لَيْسَ بِالْمَعْنَى الَّذِى يُطْلَقُ فِيهِ عَلَى الْمَخْلُوقِ لِأَنَّ الْمَخْلُوقَ الْقَدِيمَ هُوَ مَا مَضَى عَلَيْهِ زَمَانٌ طَوِيلٌ وَأَمَّا اللَّهُ تَعَالَى فَيُطْلَقُ عَلَيْهِ الْقَدِيمُ بِمَعْنَى الأَزَلِىِّ الَّذِى لا ابْتِدَاءَ لَهُ فَلَيْسَ قِدَمُهُ مُرُورَ زَمَانٍ كَقِدَمِ الْمَخْلُوقِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَخْلُوقِينَ (فَهُوَ تَعَالَى لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْعَالَمِ الْكَثِيفِ) الَّذِى يُقْبَضُ بِالْيَدِ (كَالأَرْضِ وَالْحَجَرِ وَالْكَوَاكِبِ) أَىِ النُّجُومِ (وَالنَّبَاتِ وَالإِنْسَانِ وَلَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْعَالَمِ اللَّطِيفِ) الَّذِى لا يُقْبَضُ بِالْيَدِ (كَالنُّورِ) أَىِ الضَّوْءِ (وَالرُّوحِ وَالْهَوَاءِ وَالْجِنِّ وَالْمَلائِكَةِ لِمُخَالَفَتِهِ لِلْحَوَادِثِ أَىْ لِمُخَالَفَتِهِ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ) أَىْ عَدَمِ مُشَابَهَتِهِ لَهَا بِأَىِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ (فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ مِنْ أَسْمَائِهِ اللَّطِيفُ فَالْجَوَابُ أَنَّ مَعْنَى اللَّطِيفِ الَّذِى هُوَ اسْمٌ لِلَّهِ الرَّحِيمُ بِعِبَادِهِ أَوِ الَّذِى احْتَجَبَ عَنِ الأَوْهَامِ فَلا تُدْرِكُهُ) أَىْ لا تَبْلُغُهُ تَصَوُّرَاتُ الْعِبَادِ وَلِذَلِك نُهِينَا عَنِ التَّفَكُّرِ فِى ذَاتِ اللَّهِ وَأُمِرْنَا بِالتَّفَكُّرِ فِى مَخْلُوقَاتِهِ لِأَنَّ التَّفَكُّرَ فِى مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ يُقَوِّى الْيَقِينَ وَأَمَّا تَصَوُّرُ ذَاتِ اللَّهِ فَكُفْرٌ وَضَلالٌ لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِالصُّورَةِ الْمُتَخَيَّلَةِ (فَلا نَظِيرَ لَهُ تَعَالَى أَىْ لا مَثِيلَ لَهُ وَلا شَبِيهَ فِى ذَاتِهِ وَلا فِى صِفَاتِهِ وَلا فِى فِعْلِهِ) أَىْ أَنَّ ذَاتَهُ لا يُشْبِهُ الذَّوَاتِ وَصِفَاتِهِ لا تُشْبِهُ الصِّفَاتِ وَفِعْلَهُ لا يُشْبِهُ الأَفْعَالَ (لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُمَاثِلًا لِمَخْلُوقَاتِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ كَالْحَجْمِ وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ خَالِقًا لَهَا) لِأَنَّ الْمُتَشَابِهَاتِ يَجُوزُ عَلَيْهَا مَا يَجُوزُ عَلَى بَعْضِهَا وَصِفَاتُ الْمَخْلُوقَاتِ هِىَ دَلائِلُ حُدُوثِهَا وَعَلامَاتُهُ فَلَوْ كَانَ اللَّهُ مُتَّصِفًا بِالْحَجْمِ أَوِ الْحَرَكَةِ أَوِ السُّكُونِ أَوْ نَحْوِهَا مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ لَكَانَ حَادِثًا مِثْلَهَا وَلَجَازَ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهَا مِنْ حُدُوثٍ وَنَقْصٍ وَفَنَاءٍ إِذًا (فَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الِاتِّصَافِ بِالْحَوَادِثِ وَكَذَلِكَ صِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى هِىَ قَدِيمَةٌ أَىْ أَزَلِيَّةٌ) لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حَادِثَةً لَقَامَتْ بِذَاتِ اللَّهِ الْحَوَادِثُ وَقِيَامُ الْحَوَادِثِ بِالذَّاتِ دَلِيلُ حُدُوثِ الذَّاتِ كَمَا تَقَدَّمَ.

(وَلِأَهَمِيَّةِ هَذَا الْمَبْحَثِ قَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (مَنْ قَالَ بِحُدُوثِ صِفَاتِ اللَّهِ أَوْ شَكَّ أَوْ تَوَقَّفَ) أَىْ قَالَ لا أَقُولُ هِىَ حَادِثَةٌ وَلا أَقُولُ أَزَلِيَّةٌ (فَهُوَ كَافِرٌ) اﻫ (ذَكَرَهُ فِى كِتَابِ الْفِقْهِ الأَكْبَرِ. وَقَالَ) الإِمَامُ أَحْمَدُ بنُ سَلامَةَ (الطَّحَاوِىُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى (وَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِى الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ) أَىْ مَنْ وَصَفَ اللَّهَ تَعَالَى بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ فَهُوَ كَافِرٌ ذَكَرَهُ فِى عَقِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ وَمِنْ أَظْهَرِ صِفَاتِ الْبَشَرِ الْحُدُوثُ أَىِ الْوُجُودُ بَعْدَ عَدَمٍ.


(تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنِ الْمَكَانِ وَتَصْحِيحُ وُجُودِهِ بِلا مَكَانٍ عَقْلًا)


(وَ)اعْلَمْ أَنَّ (اللَّهَ تَعَالَى غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ أَىْ مُسْتَغْنٍ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ أَزَلًا وَأَبَدًا فَلا يَحْتَاجُ إِلَى مَكَانٍ يَتَحَيَّزُ فِيهِ أَوْ شَىْءٍ يَحُلُّ بِهِ أَوْ إِلَى جِهَةٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ كَشَىْءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ) كَمَا تَقَدَّمَ (لَيْسَ حَجْمًا كَثِيفًا وَلا حَجْمًا لَطِيفًا وَالتَّحَيُّزُ مِنْ صِفَاتِ الْجِسْمِ الْكَثِيفِ وَاللَّطِيفِ فَالْجِسْمُ الْكَثِيفُ) مُتَحَيِّزٌ فِى جِهَةٍ وَمَكَانٍ (وَالْجِسْمُ اللَّطِيفُ مُتَحَيِّزٌ فِى جِهَةٍ وَمَكَانٍ) كَمَا (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الأَنْبِيَاءِ (﴿وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ فَأَثْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى لِكُلٍّ مِنَ الأَرْبَعَةِ) اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمَا لَطِيفَانِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَهُمَا كَثِيفَانِ (التَّحَيُّزَ فِى فَلَكِهِ وَهُوَ الْمَدَارُ) الَّذِى يَجْرِى فِيهِ وَقَدْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى مَوْجُودًا قَبْلَ خَلْقِ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَالْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ بِلا مَكَانٍ وَلا زَمَانٍ وَلا حَيِّزٍ وَلا جِهَةٍ وَبَعْدَ أَنْ خَلَقَهَا لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ تَغَيُّرٌ سُبْحَانَهُ وَهُوَ غَنِىٌّ عَنْهَا وَلِذَلِكَ أَجْمَعَ السَّلَفُ عَلَى نَفْىِ الْحَدِّ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِكَلِمَاتٍ صَرِيحَةٍ بِحَيْثُ لَمْ يَسْتَطِعِ الْمُشَبِّهَةُ إِنْكَارَهَا بَلْ أَثْبَتُوهَا عَنْهُمْ وَرَوُوهَا وَإِنْ حَاوَلُوا تَأْوِيلَهَا تَأْوِيلًا تَمُجُهُ الأَسْمَاعُ وَتَنْفُرُ مِنْهُ الْقُلُوبُ وَلا تَحْتَمِلُهُ تِلْكَ الْعِبَارَاتُ وَمِنْ جُمْلَةِ مَا رُوِىَ عَنِ السَّلَفِ فِى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِى الْحِلْيَةِ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِىٍّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ إِلَهَنَا مَحْدُودٌ فَقَدْ جَهِلَ الْخَالِقَ الْمَعْبُودَ اهـ وَمَا رَوَاهُ الزَّبِيدِىُّ عَنْ زَيْنِ الْعَابِدِينَ عَلِىِّ بنِ الْحُسَيْنِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ سُبْحَانَكَ أَنْتَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ لا يَحْوِيكَ مَكَانٌ لا تُحَسُّ وَلا تُمَسُّ وَلا تُجَسُّ اﻫ (وَيَكْفِى فِى تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنِ الْمَكَانِ وَالْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الشُّورَى (﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَكَانٌ لَكَانَ لَهُ أَمْثَالٌ وَأَبْعَادٌ طُولٌ وَعَرْضٌ وَعُمْقٌ وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مُحْدَثًا مُحْتَاجًا لِمَنْ حَدَّهُ بِهَذَا الطُّولِ وَبِهَذَا الْعَرْضِ وَبِهَذَا الْعُمْقِ. هَذَا الدَّلِيلُ مِنَ الْقُرْءَانِ أَمَّا مِنَ الْحَدِيثِ فَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ) فِى صَحِيحِهِ (وَابْنُ الْجَارُودِ) فِى الْمُنْتَقَى (وَالْبَيْهَقِىُّ) فِى الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ (بِالإِسْنَادِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْرُهُ) اهـ وَالْمَكَانُ هُوَ غَيْرُ اللَّهِ قَطْعًا فَهَذَا الْحَدِيثُ الشَّرِيفُ هُوَ أَصْلُ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ نَصَرَهُمُ اللَّهُ كَانَ اللَّهُ وَلا مَكَان (وَمَعْنَاهُ) أَىِ الْحَدِيثِ (أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا فِى الأَزَلِ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ لا مَاءٌ وَلا هَوَاءٌ وَلا أَرْضٌ وَلا سَمَاءٌ وَلا كُرْسِىٌّ وَلا عَرْشٌ وَلا إِنْسٌ وَلا جِنٌّ وَلا مَلائِكَةٌ وَلا زَمَانٌ وَلا مَكَانٌ وَلا جِهَاتٌ) وَلا مَلاءٌ وَلا فَرَاغٌ (فَهُوَ تَعَالَى مَوْجُودٌ قَبْلَ الْمَكَانِ بِلا مَكَانٍ وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ الْمَكَانَ فَلَيْسَ بِحَاجَةٍ إِلَيْهِ وَهَذَا) مِنْ جُمْلَةِ (مَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَقَالَ الْبَيْهَقِىُّ فِى كِتَابِهِ الأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ اسْتَدَلَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِى نَفْىِ الْمَكَانِ عَنْهُ) تَعَالَى (بِقَوْلِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَىْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَىْءٌ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فَوْقَهُ شَىْءٌ وَلا دُونَهُ) أَىْ تَحْتَهُ (شَىْءٌ لَمْ يَكُنْ فِى مَكَانٍ اﻫ وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ الرَّدُّ أَيْضًا عَلَى الْقَائِلِينَ بِالْجِهَةِ فِى حَقِّهِ تَعَالَى) لِأَنَّهُ يُثْبِتُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ فِى الأَزَلِ بِلا جِهَاتٍ وَبَعْدَ أَنْ خَلَقَ الْجِهَاتِ السِّتَّ هُوَ مَوْجُودٌ عَلَى مَا كَانَ بِلا تَغَيُّرٍ لِأَنَّ التَّغَيُّرَ دَلِيلُ الْحُدُوثِ وَلَوْ كَانَ الِاتِّصَافُ بِالْجِهَةِ كَمَالًا فِى حَقِّ اللَّهِ لَكَانَ وُجُودُهُ بِلا جِهَةٍ نَقْصًا تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ.

وَأَمَّا مَعْنَى الظَّاهِرِ الَّذِى جَاءَ فِى الْحَدِيثِ فَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ حَيْثُ الدَّلائِلُ الْعَقْلِيَّةُ فَإِنَّهُ مَا مِنْ شَىْءٍ إِلَّا وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَعِلْمِهِ وَأَمَّا الْبَاطِنُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ فَمَعْنَاهُ الَّذِى يَعْلَمُ حَقَائِقَ الأُمُورِ عَلَى مَا فَسَّرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ بَعْضٌ الْبَاطِنُ هُوَ الَّذِى لا تُدْرِكُهُ الأَوْهَامُ وَالتَّصَوُّرَاتُ (وَقَدْ قَالَ) سَيِدُنَا (عَلِىٌّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ اللَّهُ وَلا مَكَان وَهُوَ الآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَان رَوَاهُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِىُّ) فِى الْفَرْقِ بَيْنَ الْفِرَقِ وَذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ مَوْضِعُ إِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ (وَلَيْسَ مِحْوَرُ الِاعْتِقَادِ عَلَى الْوَهْمِ) أَىْ أَنَّ الِاعْتِقَادَ لا يُبْنَى عَلَى الْوَهْمِ وَهُوَ قِيَاسُ مَا لَمْ يَرَهُ عَلَى مَا رَءَاهُ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ وَقَدْ يَكُونُ تَخَيُّلًا كَمَا قَدْ يَكُونُ غَيْرَ ذَلِكَ (بَلْ) يُبْنَى الِاعْتِقَادُ (عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ الصَّحِيحُ السَّلِيمُ الَّذِى هُوَ شَاهِدٌ لِلشَّرْعِ) أَىْ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الشَّرْعِ (وَذَلِكَ أَنَّ الْمَحْدُودَ مُحْتَاجٌ إِلَى مَنْ حَدَّهُ بِذَلِكَ الْحَدِّ فَلا يَكُونُ إِلَهًا) فَلَزِمَ أَنَّ الْخَالِقَ سُبْحَانَهُ ذَاتٌ لَيْسَ لَهُ كَمِّيَّةٌ وَلا حَدٌّ مُتَّصِفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ اللَّائِقَةِ بِهِ وَلَوْ كَانَ الْوَهْمُ يَعْجِزُ عَنْ تَصَوُّرِ ذَلِكَ فَالْعِبْرَةُ بِحُكْمِ الْعَقْلِ وَهُوَ شَاهِدٌ لِلشَّرْعِ لا بِمَا يَسُوقُ إِلَيْهِ الْوَهْمُ كَمَا أَنَّ الْعَقْلَ يَحْكُمُ بِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ مُتَّصِلًا بِالْعَالَمِ وَلا مُنْفَصِلًا عَنْهُ وَإِنْ كَانَ الْوَهْمُ لا يَتَصَوَّرُهُ كَمَا لا يَتَصَوَّرُ عَدَمَ النُّورِ وَالظَّلامِ مَعًا فِى ءَانٍ وَاحِدٍ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَا مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ وَالْعَرْشَ وَالْقَلَمَ وَاللَّوْحَ خُلِقَتْ قَبْلَهُمَا (فَكَمَا صَحَّ وُجُودُ اللَّهِ تَعَالَى بِلا مَكَانٍ وَجِهَةٍ قَبْلَ خَلْقِ الأَمَاكِنِ وَالْجِهَاتِ فَكَذَلِكَ يَصِحُّ وُجُودُهُ بَعْدَ خَلْقِ الأَمَاكِنِ بِلا مَكَانٍ وَجِهَةٍ وَهَذَا) أَىِ الْقَوْلُ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ بِلا مَكَانٍ وَجِهَةٍ (لا يَكُونُ نَفْيًا لِوُجُودِهِ تَعَالَى كَمَا زَعَمَتِ الْمُشَبِّهَةُ وَالْوَهَّابِيَّةُ وَهُمُ الدُّعَاةُ إِلَى التَّجْسِيمِ فِى هَذَا الْعَصْرِ) وَيُقَالُ لَهُمْ قَبْلَ خَلْقِ الْعَالَمِ هَلْ يُقَالُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ دَاخِلَهُ أَوْ خَارِجَهُ أَوْ فِى جِهَةٍ مِنْهُ فَيَلْزَمُ أَنْ يَقُولُوا لا فَيُقَالُ لَهُمْ كَمَا صَحَّ عَقْلًا وُجُودُهُ تَعَالَى قَبْلَ خَلْقِ الْعَالَمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلا خَارِجَهُ وَلا فِى جِهَةٍ مِنْهُ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَفْيًا لِوُجُودِهِ تَعَالَى فَكَذَلِكَ بَعْدَ خَلْقِ الْعَالَمِ هُوَ مَوْجُودٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ دَاخِلَهُ أَوْ خَارِجَهُ أَوْ فِى جِهَةٍ مِنْهُ وَلا يَكُونُ هَذَا نَفْيًا لِوُجُودِهِ تَعَالَى.

(وَحُكْمُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِى كُلِّ مَكَانٍ أَوْ فِى جَمِيعِ الأَمَاكِنِ التَّكْفِيرُ) لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ صَرِيحٌ فِى نِسْبَةِ التَّمَكُّنِ فِى الأَمَاكِنِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. هَذَا (إِذَا كَانَ يَفْهَمُ) مَعْنَى مَا يَقُولُ أَىْ يَفْهَمُ (مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ) مَعْنَاهَا فِى اللُّغَةِ وَهُوَ (أَنَّ اللَّهَ بِذَاتِهِ مُنْبَثٌّ) أَىْ مُنْتَشِرٌ (أَوْ حَالٌّ فِى الأَمَاكِنِ أَمَّا إِذَا كَانَ) لا (يَفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ) مَعْنَاهَا اللُّغَوِىَّ لِضَعْفِ مَعْرِفَتِهِ بِاللُّغَةِ بَلْ يَظُنُّ أَنَّ مَعْنَاهَا (أَنَّهُ تَعَالَى مُسَيْطِرٌ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَعَالِمٌ بِكُلِّ شَىْءٍ فَلا يَكْفُرُ وَهَذَا قَصْدُ كَثِيرٍ مِمَّنْ يَلْهَجُ بِهَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ) أَىْ يُكْثِرُ اسْتِعْمَالَهُمَا فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ لِجَهْلِهِمْ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ تَحْتَمِلُ هَذَا الْمَعْنَى فِى اللُّغَةِ فَيَقْصِدُونَهُ عِنْدَ النُّطْقِ (وَيَجِبُ النَّهْىُ عَنْهُمَا عَلَى كُلِّ حَالٍ لِأَنَّهُمَا لَيْسَتَا صَادِرَتَيْنِ عَنِ السَّلَفِ) فَلَيْسَ لَهُمَا مَعْنًى صَحِيحٌ فِى اللُّغَةِ (بَلْ) هُمَا صَادِرَتَانِ (عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ ثُمَّ اسْتَعْمَلَهُمَا جَهَلَةُ الْعَوَامِّ) وَاعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنْبَثٌّ فِى كُلِّ مَكَانٍ هُوَ عَقِيدَةُ الْجَهْمِيَّةِ فَإِنَّ جَهْمَ بنَ صَفْوَانٍ قَالَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ هَذَا الْهَوَاءُ مَعَ كُلِّ شَىْءٍ وَفِى كُلِّ شَىْءٍ وَلا يَخْلُو مِنْهُ شَىْءٌ اﻫ فَكَفَّرَهُ الْمُسْلِمُونَ وَقُتِلَ عَلَى ذَلِكَ بِحُكْمِ الرِّدَّةِ. وَكَذَلِكَ حُكْمُ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جِسْمٌ مُرَكَّبٌ مِنْ أَعْضَاء فَهُوَ عَابِدُ صَنَمٍ لِأَنَّ كُلَّ جِسْمٍ مَخْلُوقٌ وَعِبَادَةَ الْمَخْلُوقِ كُفْرٌ وَعِبَادَةُ الصَّنَمِ إِنَّمَا كَانَتْ كُفْرًا لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ وَكَانَ مَخْلُوقًا لِأَنَّهُ جِسْمٌ فَمَنْ عَبَدَ جِسْمًا فَهُوَ كَافِرٌ بِإِجْمَاعِ الأَئِمَّةِ السَّلَفِ مِنْهُمْ وَالْخَلَفِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْجِسْمُ كَثِيفًا كَالْجِبَالِ الصُّمِّ الصِّلابِ أَمْ لَطِيفًا كَالضَّوْءِ وَالْهَوَاءِ قَالَهُ الْغَزَالِىُّ فِى إِلْجَامِ الْعَوَامِّ.

(وَنَرْفَعُ الأَيْدِىَ فِى الدُّعَاءِ لِلسَّمَاءِ لِأَنَّهَا مَهْبِطُ الرَّحَمَاتِ وَالْبَرَكَاتِ) كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَثِيرٌ (وَلَيْسَ لِأَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ بِذَاتِهِ فِى السَّمَاءِ) وَمَعْنَى مَدِّ الْيَدَيْنِ فِى الدُّعَاءِ إِلَيْهَا اسْتِنْزَالُ الرَّحْمَةِ مِنْهَا فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لا يُخَيِّبُ الْقَاصِدِينَ بِحَقٍّ فَالسَّمَاءُ قِبْلَةُ الدُّعَاءِ (كَمَا أَنَّنَا نَسْتَقْبِلُ الْكَعْبَةَ الشَّرِيفَةَ فِى الصَّلاةِ) فَهِىَ قِبْلَةُ الصَّلاةِ (لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِذَلِكَ وَلَيْسَ لِأَنَّ لَهَا مِيزَةٌ وَخُصُوصِيَّةٌ بِسُكْنَى اللَّهِ فِيهَا. وَيَكْفُرُ مَنْ يَعْتَقِدُ التَّحَيُّزَ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ شَىْءٌ كَالْهَوَاءِ أَوْ كَالنُّورِ يَمْلَأُ مَكَانًا أَوْ غُرْفَةً أَوْ مَسْجِدًا) كَمَا تَقَدَّمَ.

(وَيُرَدُّ عَلَى الْمُعْتَقِدِينَ أَنَّ اللَّهَ مُتَحَيِّزٌ فِى جِهَةِ الْعُلْوِ) مِنْ قُدَمَاءِ الْمُشَبِّهَةِ (وَ)مُحْدَثِيهِمْ وَهُمُ الْوَهَّابِيَّةُ الَّذِينَ (يَقُولُونَ لِذَلِكَ تُرْفَعُ الأَيْدِى عِنْدَ الدُّعَاءِ) بِالأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ الَّتِى تَقَدَّمَتْ وَ(بِمَا ثَبَتَ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اسْتَسْقَى أَىْ طَلَبَ الْمَطَرَ وَجَعَلَ بَطْنَ كَفَّيْهِ إِلَى الأَرْضِ وَظَاهِرَهُمَا إِلَى السَّمَاءِ) كَمَا فِى صَحِيحِ مُسْلِمٍ (وَبِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى الْمُصَلِّىَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ) فِى الصَّلاةِ (إِلَى السَّمَاءِ وَلَوْ كَانَ اللَّهُ مُتَحَيِّزًا فِى جِهَةِ الْعُلْوِ كَمَا تَظُنُّ الْمُشَبِّهَةُ مَا نَهَانَا عَنْ رَفْعِ أَبْصَارِنَا فِى الصَّلاةِ إِلَى السَّمَاءِ وَبِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ إِصْبَعَهُ الْمُسَبِّحَةَ عِنْدَ قَوْلِ إِلَّا اللَّهُ فِى التَّحِيَّاتِ وَيَحْنِيهَا قَلِيلًا فَلَوْ كَانَ الأَمْرُ كَمَا تَقُولُ الْمُشَبِّهَةُ مَا كَانَ يَحْنِيهَا بَلْ) كَانَ (يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَكُلُّ هَذَا ثَابِتٌ حَدِيثًا عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ فَمَاذَا تَفْعَلُ الْمُشَبِّهَةُ وَالْوَهَّابِيَّةُ. وَنُسَمِّى الْمَسَاجِدَ بُيُوتَ اللَّهِ لا لِأَنَّ اللَّهَ يَسْكُنُهَا بَلْ لِأَنَّهَا أَمَاكِنُ مُعَدَّةٌ لِذِكْرِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ) فَالإِضَافَةُ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ لا إِضَافَةُ حُلُولٍ وَمُلابَسَةٍ أَىْ مُخَالَطَةٍ (وَيُقَالُ فِى الْعَرْشِ إِنَّهُ جِرْمٌ) أَىْ حَجْمٌ (أَعَدَّهُ اللَّهُ لِيَطُوفَ بِهِ الْمَلائِكَةُ كَمَا يَطُوفُ الْمُؤْمِنُونَ فِى الأَرْضِ بِالْكَعْبَةِ) لا لِيَتَّخِذَهُ مَكَانًا لَهُ أَوْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ.

(وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ اللَّهُ يَسْكُنُ قُلُوبَ أَوْلِيَائِهِ) كَمَا يَلْهَجُ بِهَذَا الْقَوْلِ بَعْضُ جَهَلَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ. هَذَا (إِنْ كَانَ يَفْهَمُ مِنْهُ الْحُلُولَ) أَمَّا إِنْ كَانَ لا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ فَظَنَّ أَنَّهُ يَعْنِى أَنَّ حُبَّ اللَّهِ يَسْكُنُ قُلُوبَ الأَوْلِيَاءِ فَلا يَكْفُرُ وَلَكِنَّهُ يُنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ.

(وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِالْمِعْرَاجِ وُصُولَ الرَّسُولِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِلَى مَكَانٍ يَنْتَهِى وُجُودُ اللَّهِ تَعَالَى إِلَيْهِ وَيَكْفُرُ مَنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ إِنَّمَا الْقَصْدُ مِنَ الْمِعْرَاجِ هُوَ تَشْرِيفُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِطْلاعِهِ عَلَى عَجَائِبَ فِى الْعَالَمِ الْعُلْوِىِّ وَتَعْظِيمُ مَكَانَتِهِ وَرُؤْيَتُهُ لِلذَّاتِ الْمُقَدَّسِ بِفُؤَادِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الذَّاتُ فِى مَكَانٍ وَإِنَّمَا الْمَكَانُ لِلرَّسُولِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الإِسْرَاءِ ﴿سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَاتِنَا﴾ فَالْمَقْصُودُ رُؤْيَةُ الآيَاتِ لا الْوُصُولُ إِلَى مَكَانٍ يَشْغَلُهُ ذَاتُ اللَّهِ الْمُقَدَّسُ عَنْ ذَلِكَ (وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى) فِى سُورَةِ النَّجْمِ (﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾) أَىْ قَدْرَ ذِرَاعَيْنِ أَوْ أَقْرَبَ (فَالْمَقْصُودُ بِهَذِهِ الآيَةِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ حَيْثُ) كَانَ (رَءَاهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ أَجْيَادُ وَلَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ سَادًّا عُظْمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ الأُفُقِ كَمَا رَءَاهُ مَرَّةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى كَمَا قَالَ تَعَالَى) فِى سُورَةِ النَّجْمِ أَيْضًا (﴿وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى﴾) وَهَذَا الَّذِى ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِى تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَاتِ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ سَأَلَتْهُ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ هَذِهِ الآيَاتِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا عَائِشَةُ هُوَ جِبْرِيلُ اﻫ رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلَيْسَ الأَمْرُ كَمَا يَفْتَرِى بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى دَنَا بِذَاتِهِ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ بَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ الْحَاجِبِ وَالْحَاجِبِ أَوْ قَدْرُ ذِرَاعَيْنِ لِأَنَّ إِثْبَاتَ الْمَسَافَةِ بَيْنَ الْخَلْقِ وَبَيْنَ اللَّهِ إِثْبَاتٌ لِلْمَكَانِ لَهُ سُبْحَانَهُ وَهُوَ خلِافُ الْحَقِّ. وَمَا رُوِىَ فِى بَعْضِ كُتُبِ الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَدَنَا الْجَبَّارُ رَبُّ الْعِزَّةِ فَتَدَلَّى حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَهِىَ رِوَايَةُ شَرِيكِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ وَهِىَ مَطْعُونٌ فِيهَا عِنْدَ الْحُفَّاظِ طَعَنَ فِيهَا الْحَافِظُ عَبْدُ الْحَقِّ الإِشْبِيلِىُّ وَغَيْرُهُ بَلْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ فِيهَا عِشْرِينَ خَطَأً أَوْ أَكْثَرَ. وَرُوِىَ عَنْ بَعْضِ الأَئِمَّةِ أَنَّهُ فَسَّرَ الآيَةَ بِدُنُوِّ إِكْرَامٍ وَتَقْرِيبٍ وَرَفْعِ دَرَجَاتٍ لا دُنُوِّ مَكَانٍ وَمَسَافَةٍ وَسَوَاءٌ ثَبَتَ عَنْهُ ذَلِكَ أَمْ لَمْ يَثْبُتْ فَنَحْنُ قَدْ عَرَفْنَا تَفْسِيرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلا نَعْدِلُ عَنْهُ وَلا نَتْرُكُهُ إِلَى غَيْرِهِ.

(وَأَمَّا مَا فِى) صَحِيحِ (مُسْلِمٍ مِنْ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ جَارِيَةٍ لَهُ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلا أُعْتِقُهَا قَالَ ائْتِنِى بِهَا فَأَتَاهُ بِهَا فَقَالَ لَهَا أَيْنَ اللَّهُ قَالَتْ فِى السَّمَاءِ قَالَ مَنْ أَنَا قَالَتْ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ اﻫ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ) صَالِحٍ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ فِى الْعَقِيدَةِ لِأَنَّهُ لا بُدَّ لِلِاحْتِجَاجِ بِالْحَدِيثِ فِى أُمُورِ الِاعْتِقَادِ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ قَدْ بَلَغَ رُتْبَةَ الْمَشْهُورِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَوَاتِرًا عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا لِأَنَّ الْعَقَائِدَ تُبْنَى عَلَى الْقَطْعِيَّاتِ لا عَلَى الظَّنِّيَّاتِ اهـ وَهَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ الْمَشْهُورِ وَعِنْدَ الْبَقِيَّةِ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا ثَابِتًا بِلا خِلافٍ وَهُوَ لَيْسَ كَذَلِكَ (لِأَمْرَيْنِ) الأَوَّلُ (لِلِاضْطِرَابِ) عَلَى فَرْضِ تَسَاوِى رِوَايَاتِهِ فِى الْقُوَّةِ (لِأَنَّهُ رُوِىَ بِهَذَا اللَّفْظِ وَبِلَفْظِ مَنْ رَبُّكِ فَقَالَتِ اللَّهُ وَبِلَفْظِ أَيْنَ اللَّهُ فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ وَبِلَفْظِ أَتَشْهَدِينَ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَالَتْ نَعَمْ قَالَ أَتَشْهَدِينَ أَنِّى رَسُولُ اللَّهِ قَالَتْ نَعَمْ) وَإِلَى هَذَا يُشِيرُ كَلامُ الْبَيْهَقِىِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا إِذَا حُمِلَتْ رِوَايَةُ أَيْنَ اللَّهُ عَلَى ظَاهِرِهَا وَأَمَّا إِذَا حُمِلَتْ عَلَى أَنَّهَا سُؤَالٌ عَنِ الْمَكَانَةِ لا عَنِ الْمَكَانِ وَأَنَّ قَوْلَهَا فِى السَّمَاءِ مَعْنَاهُ أَعْلَى مِنْ كُلِّ شَىْءٍ قَدْرًا فَيَنْتَفِى التَّعَارُضُ عِنْدَئِذٍ وَتَصِيرُ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ مَرْوِيَّةً بِالْمَعْنَى مُفَسِّرَةً بَعْضُهَا لِبَعْضٍ وَلَيْسَ فِيهَا أَدْنَى مُتَمَسَّكٍ لِلْمُشَبِّهَةِ وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا إِنَّ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ غَيْرُ مُتَسَاوِيَةٍ فِى الْقُوَّةِ وَهُوَ الْوَاقِعُ فَرِوَايَةُ أَتَشْهَدِينَ إِلَى ءَاخِرِهِ أَقْوَى مِنْ رِوَايَةِ أَيْنَ اللَّهُ فَتَكُونُ هِىَ الرَّاجِحَةَ وَرِوَايَةُ أَيْنَ اللَّهُ مَرْجُوحَةً لا يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا (وَالأَمْرُ الثَّانِى أَنَّ رِوَايَةَ أَيْنَ اللَّهُ مُخَالِفَةٌ لِلأُصُولِ لِأَنَّ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الشَّخْصَ لا يُحْكَمُ لَهُ بِقَوْلِ اللَّهُ فِى السَّمَاءِ بِالإِسْلامِ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ وَإِنَّمَا الأَصْلُ الْمَعْرُوفُ فِى شَرِيعَةِ اللَّهِ مَا جَاءَ فِى الْحَدِيثِ الْمُتَوَاتِرِ) الَّذِى نَصَّ عَلَى تَوَاتُرِهِ الْحَافِظُ السُّيُوطِىُّ وَغَيْرُهُ (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ) وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ حَدِيثَ الآحَادِ إِذَا خَالَفَ الأُصُولَ الْقَطْعِيَّةَ يُرَدُّ وَلا يُقْبَلُ فَهُنَا كَذَلِكَ فَتَكُونُ رِوَايَةُ أَيْنَ اللَّهُ شَاذَّةً مُخَالِفَةً لِلأُصُولِ فَلا يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا (وَ)أَمَّا (لَفْظُ رِوَايَةِ مَالِكٍ) الأُخْرَى (أَتَشْهَدِينَ) أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِلَى ءَاخِرِهِ فَهُوَ (مُوَافِقٌ لِلأُصُولِ) فَيَكُونُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ. (فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ تَكُونُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ أَيْنَ اللَّهُ فَقَالَتْ فِى السَّمَاءِ إِلَى ءَاخِرِهِ مَرْدُودَةً مَعَ إِخْرَاجِ مُسْلِمٍ لَهَا فِى كِتَابِهِ وَكُلُّ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مَوْسُومٌ بِالصِّحَّةِ فَالْجَوَابُ أَنَّ) مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنَ الأَحَادِيثِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ صَحِيحٌ لَكِنَّ (عَدَدًا مِنْ أَحَادِيثِ مُسْلِمٍ رَدَّهَا عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ وَذَكَرَهَا الْمُحَدِّثُونَ فِى كُتُبِهِمْ كَحَدِيثِ أَنَّ الرَّسُولَ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قَالَ لِرَجُلٍ إِنَّ أَبِى وَأَبَاكَ فِى النَّارِ) مَعَ مَا تَقَرَّرَ فِى الأُصُولِ مِنْ أَنَّ أَهْلَ الْفَتْرَةِ لَيْسُوا مُعَذَّبِينَ فِى الآخِرَةِ (وَحَدِيثِ إِنَّهُ يُعْطَى كُلُّ مُسْلِمٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِدَاءً لَهُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى) مَعَ مَا تَقَرَّرَ فِى الأُصُولِ الْقَطْعِيَّةِ مِنْ أَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ يُعَذَّبُونَ فِى نَارِ الآخِرَةِ (وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أَنَسٍ صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَأَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ فَكَانُوا لا يَذْكُرُونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) مَعَ نَصِّ أَكْثَرِ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ عَلَى قِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ فِى الصَّلاةِ وَنَصَّ قِسْمٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهَا ءَايَةٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ يُجْهَرُ بِهَا فِى مَوْضِعِ الْجَهْرِ وَيُسَرُّ بِهَا فِى مَوْضِعِ الإِسْرَارِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُثْبِتُوهُ وَلا الْحَدِيثَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ (فَأَمَّا الأَوَّلُ) مِنْ هَذِهِ الأَحَادِيثِ (فَضَعَّفَهُ الْحَافِظُ السُّيُوطِىُّ) فِى أَكْثَرِ مِنْ تَصْنِيفٍ لَهُ (وَالثَّانِى رَدَّهُ الْبُخَارِىُّ) وَنَاهِيكَ بِهِ عِلْمًا وَتُقًى وَاتِّبَاعًا لِلْحَدِيثِ (وَالثَّالِثُ ضَعَّفَهُ) الإِمَامُ (الشَّافِعِىُّ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (وَعَدَدٌ مِنَ الْحُفَّاظِ) غَيْرُهُ.

(فَهَذَا الْحَدِيثُ) إِذَا حُمِلَ (عَلَى ظَاهِرِهِ بَاطِلٌ لِمُعَارَضَتِهِ الْحَدِيثَ الْمُتَوَاتِرَ الْمَذْكُورَ وَ)الْحَدِيثُ الْمُتَوَاتِرُ قَطْعِىُّ الثُّبُوتِ لِذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ (مَا خَالَفَ الْمُتَوَاتِرَ فَهُوَ بَاطِلٌ إِنْ لَمْ يَقْبَلِ التَّأْوِيلَ اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ الْمُحَدِّثُونَ وَالأُصُولِيُّونَ) فَحَدِيثُ الْجَارِيَةِ مَهْمَا قِيلَ فِى تَصْحِيحِهِ أَوْ تَضْعِيفِهِ هُوَ حَدِيثُ ءَاحَادٍ أَىْ هُوَ ظَنِىُّ الثُّبُوتِ لا قَطْعِيُّهُ وَمَا كَانَ ظَنِّىَّ الثُّبُوتِ لا يُؤْخَذُ بِهِ وَلا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ إِذَا عَارَضَ الثَّابِتَ بِالْقَطْعِ وَالْيَقِينِ بِحَيْثُ لا يَكُونُ هُنَاكَ مَجَالٌ لِلتَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الْخَطِيبُ فِى الْفَقِيهِ وَالْمُتَفَّقِهِ وَالنَّوَوِىُّ فِى التَّقْرِيبِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِى الْوَرَقَاتِ وَغَيْرُهُمْ (لَكِنْ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَوَّلُوهُ) أَىْ أَوَّلُوا حَدِيثَ الْجَارِيَةِ وَحَمَلُوهُ عَلَى مَعْنًى غَيْرِ الْمَعْنَى الظَّاهِرِ بِحَيْثُ لَمْ يَعُدْ هُنَاكَ تَعَارُضٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَدِيثِ الْمُتَوَاتِرِ. وَأَخْذًا بِالِاعْتِبَارِ لِتَأْوِيلِهِ (عَلَى هَذَا الْوَجْهِ) صَحَّحَهُ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ (قَالُوا مَعْنَى أَيْنَ اللَّهُ سُؤَالٌ عَنْ تَعْظِيمِهَا لِلَّهِ) أَىْ أَنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهَا مَاذَا تَعْتَقِدِينَ فِى اللَّهِ مِنَ الْمَكَانَةِ فَإِنَّ لَفْظَةَ أَيْنَ يُسْتَفْهَمُ بِهَا عَنِ الْمَكَانَةِ كَمَا يُسْتَفْهَمُ بِهَا عَنِ الْمَكَانِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ

أَيْنَ الثُرَيَّا وَأَيْنَ الثَّرَى وَأَيْنَ مُعَاوِى وَأَيْنَ عَلِى

وَمِنَ الْجَهْلِ الْبَيِّنِ قَوْلُ بَعْضِ الْمُجَسِّمَةِ فِى رَدِّ هَذَا الأَمْرِ إِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ قَالُوا إِنَّ أَيْنَ يُسْأَلُ بِهَا عَنِ الْمَكَانِ إِذْ فَاتَهُمْ أَنَّ الْمَكَانَ يَعْنِى الْحَيِّزَ وَالْمَوْضِعَ كَمَا يَأْتِى بِمَعْنَى الرُّتْبَةِ وَالْمَنْزِلَةِ وَكُتُبُ اللُّغَةِ وَكَلامُ الْعَرَبِ مَشْحُونَانِ بِبَيَانِ ذَلِكَ (وَقَوْلُهَا) أَىْ قَوْلُ الْجَارِيَةِ (فِى السَّمَاءِ) مَعْنَاهُ هُوَ (عَالِى الْقَدْرِ جِدًّا) أَىْ أَعْلَى مِنْ كُلِّ شَىْءٍ قَدْرًا وَهَذَا مَعْرُوفٌ مِنْ كَلامِ الْعَرَبِ. قَالَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِىُّ وَهُوَ مِنَ الصَّحَابَةِ

بَلَغْنَا السَّمَاءَ مَجْدُنَا وَسَنَاؤُنَا وَإِنَّا لَنَرْجُو فَوْقَ ذَلِكَ مَظْهَرًا

رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ. (أَمَّا أَخْذُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ سَاكِنٌ السَّمَاءَ فَهُوَ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ لِمَا تَقَرَّرَ فِى عِلْمِ مُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ أَنَّ مَا خَالَفَ الْمُتَوَاتِرَ بَاطِلٌ إِنْ لَمْ يَقْبَلِ التَّأْوِيلَ) فَإِنْ حُمِلَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى ظَاهِرِهِ كَانَ مُخَالِفًا لِأَكْثَرَ مِنْ نَصٍّ قَطْعِىِّ الثُّبُوتِ وَالدِّلالَةِ قُرْءَانِىٍّ وَحَدِيثِىٍّ (فَإِنَّ ظَاهِرَهُ) الْمُوهِمَ لِلتَّحَيُّزِ وَالتَّجْسِيمِ (ظَاهِرُ الْفَسَادِ فَإِنَّ) مَنْ تَبِعَ (ظَاهِرَهُ) الْمَذْكُورَ وَاعْتَقَدَهُ لَزِمَهُ (أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا قَالَ اللَّهُ فِى السَّمَاءِ يُحْكَمُ لَهُ بِالإِيمَانِ) وَهَذَا غَيْرُ مَقْبُولٍ لِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ يَقُولُهَا النَّصْرَانِىُّ وَيَقُولُهَا الْيَهُودِىُّ بَلْ قَالَ مِثْلَهَا فِرْعَوْنُ وَلَمْ يُحْكَمْ لِأَىٍّ مِنْهُمْ بِصِحَّةِ الِاعْتِقَادِ فِى اللَّهِ بِذَلِكَ (وَحَمَلَ الْمُشَبِّهَةُ) فِى عَصْرِنَا وَهُمُ الْمَشْهُورُونَ بِالْوَهَّابِيَّةِ (رِوَايَةَ مُسْلِمٍ عَلَى ظَاهِرِهَا) كَأَسْلافِهِمْ مِنْ مُجَسِّمَةِ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ (فَضَلُّوا وَ)وَقَعُوا فِى التَّنَاقُضِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا نَحْنُ (لا) نُأَوِّلُ بَلْ نَحْمِلُ الآيَاتِ وَالأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِى الِاسْتِوَاءِ وَالنُّزُولِ وَحَدِيثَ الْجَارِيَةِ عَلَى ظَوَاهِرِهَا ثُمَّ تَنَبَّهُوا أَنَّهُمْ إِذَا حَمَلُوا حَدِيثَ الْجَارِيَةِ عَلَى ظَاهِرِهِ كَانَ ذَلِكَ إِقْرَارًا مِنْهُمْ بِأَنَّ السَّمَاءَ ظَرْفٌ لِلَّهِ وَأَنَّهُ مَوْجُودٌ بِذَاتِهِ فِيهَا فَيَتَنَاقَضُ ذَلِكَ مَعَ مَا زَعَمُوهُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَوْجُودٌ فَوْقَ الْعَرْشِ بِذَاتِهِ فَقَالُوا نَحْمِلُ عِبَارَةَ فِى السَّمَاءِ عَلَى مَعْنَى عَلَى السَّمَاءِ أَىْ فَوْقَهَا فَأَوَّلُوا الْكَلامَ وَأَخْرَجُوهُ عَنْ ظَاهِرِهِ وَأَنْكَرُوا عَلَيْنَا ذَلِكَ فَتَنَاقَضُوا وَظَهَرَ تَحَكُّمُهُمْ وَكَانَ تَأْوِيلُهُمْ مُخَالِفًا لِمُحْكَمِ الآيَاتِ وَالأَحَادِيثِ فَبَطَلَ وَكَانَ تَأْوِيلُ مَنْ أَوَّلَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مُوَافِقًا لِمُحْكَمِ الآيَاتِ وَالأَحَادِيثِ فَلَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ وَلا حَرَجٌ.

وَظَاهِرٌ أَنَّهُ لا (يُنْجِيهِمْ) أَىِ الْوَهَّابِيَّةَ وَأَسْلافَهُمْ (مِنَ الضَّلالِ قَوْلُهُمْ إِنَّنَا نَحْمِلُ كَلِمَةَ فِى السَّمَاءِ بِمَعْنَى إِنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ) بِذَاتِهِ (لِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ بِذَلِكَ أَثْبَتُوا لَهُ) مَكَانًا وَحَيِّزًا وَحَدًّا وَمَسَافَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ وَاتِّصَالًا بِالْعَرْشِ إِذَا زَعَمُوا أَنَّهُ جَالِسٌ عَلَيْهِ وَانْفِصَالًا وَمَسَافَةً بَيْنَهُمَا إِذَا زَعَمُوا أَنَّهُ مُعَلَّقٌ فَوْقَهُ وَيَكُونُونَ أَيْضًا قَدْ أَثْبَتُوا بِذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى (مَثْلًا وَهُوَ الْكِتَابُ الَّذِى كَتَبَ اللَّهُ فِيهِ إِنَّ رَحْمَتِى سَبَقَتْ غَضَبِى) فَعَلَى زَعْمِهِمْ يَكُونُ اللَّهُ تَعَالَى مِثْلَ ذَلِكَ الْكِتَابِ كِلاهُمَا (فَوْقَ الْعَرْشِ فَيَكُونُونَ أَثْبَتُوا الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ ذَلِكَ الْكِتَابِ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا اللَّهَ وَذَلِكَ الْكِتَابَ مُسْتَقِرَّيْنِ فَوْقَ الْعَرْشِ فَيَكُونُونَ كَذَّبُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الشُّورَى (﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ وَهَذَا الْحَدِيثُ) أَىْ حَدِيثُ الْكِتَابِ الْمَوْجُودِ فَوْقَ الْعَرْشِ (رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ بِلَفْظِ مَرْفُوعٌ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَمَّا رِوَايَةُ الْبُخَارِىِّ فَهِىَ) بِلَفْظِ (مَوْضُوعٌ فَوْقَ الْعَرْشِ) وَكِلاهُمَا بِمَعْنىً وَاحِدٍ (وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُ النَّاسِ) كَلِمَةَ (فَوْقَ) عَلَى مَعْنًى لا يَصِحُّ حَمْلُهَا عَلَيْهِ فَقَالَ هِىَ (بِمَعْنَى تَحْت) مُحَاوِلًا بِذَلِكَ التَّخَلُّصَ مِنَ الإِلْزَامِ الْمَذْكُورِ ءَانِفًا الْوَارِدِ عَلَى الْمُبْتَدِعَةِ (وَهُوَ) أَىْ مَا حَاوَلَهُ وَزَعَمَهُ (مَرْدُودٌ بِرِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ مَرْفُوعٌ فَوْقَ الْعَرْشِ فَإِنَّهُ لا يَصِحُّ تَأْوِيلُ فَوْقَ فِيهِ بِتَحْتٍ) كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ لا يَسْتَقِيمُ أَنْ يُقَالَ مَثَلًا إِنَّ الإِبْرِيقَ مَرْفُوعٌ تَحْتَ الطَّاوِلَةِ أَوْ إِنَّ الدَّفْتَرَ مَرْفُوعٌ تَحْتَ الْكُرْسِىِّ فَكَذَا لا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْكِتَابَ مَرْفُوعٌ تَحْتَ الْعَرْشِ. (ثُمَّ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ هَذَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُحَاذِيًا لِلْعَرْشِ) أَىْ فَيَكُونَ (بِقَدْرِ الْعَرْشِ أَوْ أَوْسَعَ مِنْهُ أَوْ أَصْغَرَ) فَيَكُونَ لَهُ مِقْدَارٌ (وَكُلُّ مَا جَرَى عَلَيْهِ التَّقْدِيرُ حَادِثٌ مُحْتَاجٌ إِلَى مَنْ جَعَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْمِقْدَارِ) كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلِيلُ الْعَقْلِ وَكَمَا يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الرَّعْدِ ﴿وَكُلُّ شَىْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾.

(وَالْعَرْشُ لا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ كَمَا أَنَّهُ لا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَىْءٍ مِنْ خَلْقِهِ) فَإِنَّ الْمُنَاسَبَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بَيْنَ الْمُتَشَابِهَيْنِ وَلا مُشَابَهَةَ مِنْ أَىِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ (وَ)اللَّهُ تَعَالَى عَظِيمٌ أَزَلًا وَأَبَدًا فَهُوَ سُبْحَانَهُ (لا) يَحْتَاجُ لِشَىْءٍ مِنْ خَلْقِهِ لا الْعَرْشِ وَلا الْكُرْسِىِّ وَلا غَيْرِهِمَا لِثُبُوتِ الْعَظَمَةِ لَهُ إِذْ إِنَّهُ غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ أَزَلِىُّ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ لا يَتَغَيَّرُ وَلا يَتَطَوَّرُ فَإِذًا لا (يَتَشَرَّفُ اللَّهُ بِشَىْءٍ مِنْ خَلْقِهِ وَلا يَنْتَفِعُ بِشَىْءٍ مِنْ خَلْقِهِ) وَلَوْ كَانَ ارْتِفَاعُهُ بِالْمَسَافَةِ وَالْجِهَةِ فَوْقَ الْعَرْشِ كَمَا يَزْعُمُ قِسْمٌ مِنَ الْمُشَبِّهَةِ أَوْ بِجُلُوسِهِ وَاسْتِقْرَارِهِ عَلَى الْعَرْشِ كَمَا يَزْعُمُ قِسْمٌ ءَاخَرُ مِنْهُمْ صِفَةَ كَمَالٍ لِلَّهِ لَكَانَ اللَّهُ مُتَشَرِّفًا بِالْعَرْشِ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ إِذْ يَزْعُمُونَ أَنَّ اسْتِقْرَارَ رَبِّنَا تَعَالَى وَتَنَزَّهَ عَلَى الْعَرْشِ صِفَةُ كَمَالٍ وَالْعَرْشُ حَادِثٌ لَمْ يَكُنْ ثُمَّ كَانَ فَعَلَى مُقْتَضَى كَلامِهِمْ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لا تَحْصُلُ لَهُ صِفَةُ الْعَظَمَةِ هَذِهِ إِلَّا بِالْعَرْشِ وَأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِى ذَلِكَ وَلا يَخْفَى فَسَادُ هَذَا الزَّعْمِ عَلَى مَنْ لَهُ مُسْكَةٌ مِنْ عَقْلٍ.

(وَ)لْيُعْلَمْ أَنَّ (قَوْلَ الْمُشَبِّهَةِ اللَّهُ قَاعِدٌ عَلَى الْعَرْشِ شَتْمٌ لِلَّهِ لِأَنَّ الْقُعُودَ مِنْ صِفَةِ الْبَشَرِ وَالْبَهَائِمِ وَالْجِنِّ وَالْحَشَرَاتِ) فَإِنَّ الْقُعُودَ لا يَكُونُ إِلَّا مِمَّا لَهُ جُزْءٌ أَعْلَى وَجُزْءٌ أَسْفَلُ وَيَنْثَنِى وَلَهُ مَقْعَدَةٌ يُلامِسُ بِهَا مَا يَقْعُدُ عَلَيْهِ وَلِذَلِكَ يُقَالُ قَعَدَ فُلانٌ أَىْ مِنَ النَّاسِ وَقَعَدَ الْقِرْدُ وَقَعَدَتِ الْبَقَرَةُ وَاتَّخَذَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلامُ فِى مَجْلِسِهِ مَقَاعِدَ لِلْجِنِّ (وَكُلُّ وَصْفٍ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ) فَإِنَّ (وَصْفَ اللَّهِ بِهِ) تَنْقِيصٌ لَهُ سُبْحَانَهُ فَهُوَ فِى الْحَقِيقَةِ (شَتْمٌ لَهُ) فَإِنَّهُ إِذَا قِيلَ إِنَّ اللَّهَ يَأْكُلُ أَوْ يَشْرَبُ أَوْ يَبُولُ أَوْ يَتَعَرَّقُ أَوْ يَنْسَى أَوْ يَنَامُ أَوْ يَرْتَاحُ أَوْ يَلِدُ أَوْ يَتَزَوَّجُ كَانَ ذَلِكَ سَبًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَشَتْمًا لَهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَإِلَّا فَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ يَنَامُونَ وَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَتَعَرَّقُونَ وَيَتَزَوَّجُونَ وَيَلِدُونَ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شَتْمًا لَهُمْ لِأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ لا تُنَافِى هَذِهِ الصِّفَاتُ عَظِيمَ رُتْبَتِهِمْ وَلَكِنْ بِمَا أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ تَدُلُّ عَلَى الْحَاجَةِ لَمْ يَجُزْ نِسْبَتُهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَكَذَا كُلُّ مَا سِوَاهَا مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ فَإِنَّ نِسْبَةَ أَيَّةِ صِفَةٍ مِنْهَا كَالْقُعُودِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ ذَمٌّ وَنَقْصٌ وَنِسْبَةُ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ وَهُوَ شَتْمٌ لَهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلِذَلِكَ (قَالَ الْحَافِظُ الْفَقِيهُ اللُّغَوِىُّ) الْحَنَفِىُّ مُحَمَّدُ (مُرْتَضَى الزَّبِيدِىُّ مَنْ جَعَلَ اللَّهَ تَعَالَى مُقَدَّرًا بِمِقْدَارٍ كَفَرَ) اﻫ (أَىْ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ ذَا كَمِّيَّةٍ وَحَجْمٍ وَالْحَجْمُ وَالْكَمِّيَّةُ مِنْ مُوجِبَاتِ الْحُدُوثِ) أَىْ مِنْ مُقْتَضِيَاتِهِ أَىْ تَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ مَا اتَّصَفَ بِهِمَا فَهُوَ حَادِثٌ (وَهَلْ عَرَفْنَا أَنَّ الشَّمْسَ) مَثَلًا (حَادِثَةٌ مَخْلُوقَةٌ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ إِلَّا لِأَنَّ لَهَا حَجْمًا وَلَوْ كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى حَجْمٌ لَكَانَ مِثْلًا لِلشَّمْسِ فِى الْحَجْمِيَّةِ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ مَا كَانَ يَسْتَحِقُّ الأُلُوهِيَّةَ كَمَا أَنَّ الشَّمْسَ لا تَسْتَحِقُّ الأُلُوهِيَّةَ فَلَوْ طَالَبَ هَؤُلاءِ الْمُشَبِّهَةَ عَابِدُ الشَّمْسِ بِدَلِيلٍ عَقْلِىٍّ) أَىْ لَوْ قَالَ عَابِدُ الشَّمْسِ لِلْمُشَبِّهَةِ أَعْطُونِى دَلِيلًا عَقْلِيًّا (عَلَى اسْتِحْقَاقِ اللَّهِ الأُلُوهِيَّةَ وَعَدَمِ اسْتِحْقَاقِ الشَّمْسِ الأُلُوهِيَّةَ) لَعَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ وَ(لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ دَلِيلٌ وَغَايَةُ مَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَقُولُوا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) أَىْ فِى سُورَةِ الزُّمَرِ (﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ﴾ فَإِنْ قَالُوا ذَلِكَ لِعَابِدِ الشَّمْسِ يَقُولُ لَهُمْ عَابِدُ الشَّمْسِ أَنَا لا أُؤْمِنُ بِكِتَابِكُمْ أَعْطُونِى دَلِيلًا عَقْلِيًّا عَلَى أَنَّ الشَّمْسَ لا تَسْتَحِقُّ الأُلُوهِيَّةَ) يَقُولُ لَهُمْ مَعْبُودِى جِسْمٌ كَبِيرٌ جَمِيلٌ مُنِيرٌ يَرَاهُ كُلُّ أَحَدٍ وَكُلُّ أَحَدٍ يُحِسُّ بِنَفْعِهِ لِلإِنْسَانِ وَالْبَهَائِمِ وَالتُّرْبَةِ وَالْهَوَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ أَمَّا مَعْبُودُكُمْ الَّذِى تَزْعُمُونَ أَنَّهُ حَجْمٌ فَوْقَ الْعَرْشِ فَلا أَنَا رَأَيْتُهُ وَلا أَنْتُمْ رَأَيْتُمُوهُ وَلا يُحِسُّ أَحَدٌ لَهُ بِنَفْعٍ فَأَعْطُونِى دَلِيلًا عَقْلِيًّا عَلَى أَنَّ عِبَادَتِى بَاطِلَةٌ وَأَنَّ مَعْبُودَكُمْ هُوَ الَّذِى يَسْتَحِقُّ الأُلُوهِيَّةَ دُونَ مَعْبُودِى فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ مَعْبُودُنَا هُوَ الْخَالِقُ فَإِنَّهُ يُجِيبُهُمْ بَلْ مَعْبُودِى أَنَا الْخَالِقُ وَهَذَا مَوْضِعُ النِّزَاعِ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ فَلا تَكْفِى فِيهِ الدَّعْوَى الْمُجَرَّدَةُ مِنَ الدَّلِيلِ أَعْطُونِى دَلِيلًا عَقْلِيًّا عَلَى مَا تَقُولُونَ فَإِنْ قَالُوا مَعْبُودُكَ حَجْمٌ قَالَ وَمَعْبُودُكُمْ كَذَلِكَ عَلَى مَا زَعَمْتُمْ فَإِنْ قَالُوا لَهُ صُورَةٌ قَالَ وَمَعْبُودُكُمْ كَذَلِكَ عَلَى مَا زَعَمْتُمْ وَإِنْ قَالُوا يَحْتَجِبُ أَحْيَانًا قَالَ وَمَعْبُودُكُمْ مُحْتَجِبٌ طُولَ الأَحْيَانِ عَلَى مَا زَعَمْتُمْ وَإِنْ قَالُوا يَتَحَرَّكُ قَالَ وَمَعْبُودُكُمْ يَتَحَرَّكُ عَلَى مَا زَعَمْتُمْ وَإِنْ قَالُوا الشَّمْسُ تَنْزِلُ وَتَطْلُعُ قَالَ وَمَعْبُودُكُمْ كَذَلِكَ عَلَى مَا زَعَمْتُمْ (فَهُنَا يَنْقَطِعُونَ) وَيَعْجَزُونَ عَنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى عَابِدِ الشَّمْسِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ عَقِيدَةَ الْمُشَبِّهَةِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى أَسْوَأُ مِنْ عَقِيدَةِ عَابِدِ الشَّمْسِ فَإِنَّهُ يَعْبُدُ حَجْمًا تَحَقَّقَ وُجُودَهُ وَأَحَسَّ بِنَفْعِهِ وَهُمْ يَعْبُدُونَ حَجْمًا تَوَهَّمُوهُ وَلَمْ يُحِسُّوا بِنَفْعِهِ وَأَمَّا السُّنِّىُّ فَلا يُعْجِزُهُ عَابِدُ الشَّمْسِ وَلا غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الضَّلالِ عَنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ فَإِنَّهُ يَقُولُ الشَّمْسُ لَهَا مِقْدَارٌ وَحَجْمٌ وَصُورَةٌ وَشَكْلٌ هُوَ الِاسْتِدَارَةُ فَلا بُدَّ لَهَا مِنْ مُخَصِّصٍ خَصَّصَهَا بِذَلِكَ ثُمَّ هِىَ مُتَّصِفَةٌ بِصِفَةِ الْحَرَارَةِ فَلا بُدَّ لَهَا مِمَّنْ خَصَّهَا بِتِلْكَ الصِّفَةِ فَلِمَاذَا كَانَ شَكْلُهَا مُسْتَدِيرًا وَلَمْ يَكُنْ بَيْضَاوِيًّا أَوْ مُثَلَّثًا أَوْ مُرَبَّعًا وَلِمَاذَا كَانَتْ صِفَتُهَا الْحَرَارَةَ وَلَمْ تَكُنِ الْبُرُودَةَ أَوِ الِاعْتِدَالَ الْعَقْلُ لا يَقْبَلُ أَنْ تَكُونَ هِىَ قَدْ جَعَلَتْ نَفْسَهَا عَلَى هَذَا الشَّكْلِ وَبِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلا بُدَّ أَنَّ لَهَا خَالِقًا جَعَلَهَا عَلَى هَذَا الشَّكْلِ وَتِلْكَ الصِّفَةِ وَهَذَا الْخَالِقُ لا يُوصَفُ بِشَكْلٍ أَوْ حَجْمٍ أَوْ حَرَارَةٍ أَوْ بُرُودَةٍ أَوْ يُبُوسَةٍ أَوْ رُطُوبَةٍ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ فَلِذَلِكَ لا يَحْتَاجُ إِلَى مُخَصِّصٍ خَصَّصَهُ وَلا مُوجِدٍ أَوْجَدَهُ بَلْ هُوَ الأَزَلِىُّ الأَبَدِىُّ الَّذِى أَخْرَجَ كُلَّ شَىْءٍ فِى الْعَالَمِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ فَهُوَ وَحْدَهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ.

(فَلا يُوجَدُ فَوْقَ الْعَرْشِ شَىْءٌ حَىٌّ يَسْكُنُهُ إِنَّمَا يُوجَدُ كِتَابٌ فَوْقَ الْعَرْشِ مَكْتُوبٌ فِيهِ إِنَّ رَحْمَتِى سَبَقَتْ غَضَبِى) كَمَا تَقَدَّمَ (أَىْ أَنَّ مَظَاهِرَ الرَّحْمَةِ أَكْثَرُ مِنْ مَظَاهِرِ الْغَضَبِ) أَىْ أَنَّ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رَحْمَةً لِلنَّاسِ وَنِعْمَةً أَكْثَرُ مِمَّا خَلَقَهُ سُبْحَانَهُ عَذَابًا لَهُمْ وَنِقْمَةً. (الْمَلائِكَةُ) مَثَلًا (مِنْ مَظَاهِرِ الرَّحْمَةِ وَهُمْ أَكْثَرُ عَدَدًا مِنْ قَطَرَاتِ الأَمْطَارِ وَأَوْرَاقِ الأَشْجَارِ) لا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ فِى سُورَةِ الْمُدَّثِرِ ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾ (وَالْجَنَّةُ) أَيْضًا (مِنْ مَظَاهِرِ الرَّحْمَةِ وَهِىَ أَكْبَرُ مِنْ جَهَنَّمَ بِآلافِ الْمَرَّاتِ) فَإِنّ َلِآخِرِ أَهْلِهَا دُخُولًا إِلَيْهَا فِيهَا مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا كَمَا صَحَّ فِى حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ. (وَكَوْنُ ذَلِكَ الْكِتَابِ فَوْقَ الْعَرْشِ ثَابِتٌ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْبُخَارِىُّ وَالنَّسَائِىُّ فِى السُّنَنِ الْكُبْرَى وَغَيْرُهُمَا) كَابْنِ حِبَّانَ فِى صَحِيحِهِ (وَلَفْظُ رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِى كِتَابٍ يَكْتُبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ مَرْفُوعٌ فَوْقَ الْعَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِى تَغْلِبُ غَضَبِى) اﻫ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ كَمَا قَدَّمْنَا تَقْضِى بِالْبُطْلانِ عَلَى مُحَاوَلَةِ تَأْوِيلِ فَوْقَ فِى حَدِيثِ الْبُخَارِىِّ بِأَنَّهَا بِمَعْنَى دُونَ كَمَا سَبَقَ (فَإِنْ حَاوَلَ مُحَاوِلٌ) رَغْمَ ذَلِكَ (أَنْ يُؤَوِّلَ فَوْقَ بِمَعْنَى دُونَ قِيلَ لَهُ) أَيْضًا (تَأْوِيلُ النُّصُوصِ) أَىْ مَا جَاءَ فِى الْقُرْءَانِ وَصَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لا يَجُوزُ إِلَّا بِدَلِيلٍ نَقْلِىٍّ ثَابِتٍ أَوْ عَقْلِىٍّ قَاطِعٍ وَ)الْمُخَالِفُونَ لَنَا (لَيْسَ عِنْدَهُمْ شَىْءٌ مِنْ هَذَيْنِ وَلا دَلِيلَ عَلَى لُزُومِ التَّأْوِيلِ فِى هَذَا الْحَدِيثِ كَيْفَ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِنَّ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ فَوْقَ الْعَرْشِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ نَصٌّ صَرِيحٌ بِأَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَلا بِأَنَّهُ تَحْتَ الْعَرْشِ فَبَقِىَ الأَمْرُ عَلَى الِاحْتِمَالِ أَىِ احْتِمَالِ أَنَّ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَاحْتِمَالِ أَنَّهُ تَحْتَ الْعَرْشِ) فَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَخَذُوا مِنْ بَعْضِ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ مَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ هَذَا اللَّوْحَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَلَمْ يَرَوْا مَانِعًا فِى الْقُرْءَانِ وَلا فِى الْحَدِيثِ مِنْ ذَلِكَ وَلا عَابَهُمْ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَا قَالُوا بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِنَصٍّ شَرْعِىٍّ وَهَذَا يَشْهَدُ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لا دَلِيلَ يُسَوِّغُ تَأْوِيلَ فَوْقَ بِمَعْنَى دُونَ (فَعَلَى) مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُخَالِفُ يَكُونُ (قَوْلُهُ) مُوقِعًا لَهُ فِى مَا عَابَ عَلَيْنَا فَإِنَّهُ مَنَعَنَا مِنَ التَّأْوِيلِ مَعَ أَنَّنَا لا نُأَوِّلُ إِلَّا بِدَلِيلٍ وَأَوَّلَ هُوَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ وَلا حُجَّةٍ وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ (إِنَّهُ) أَىِ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ (فَوْقَ الْعَرْشِ يَكُونُ) الْمُشَبِّهُ قَدْ (جَعَلَ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ مُعَادِلًا لِلَّهِ أَىِ) اقْتَضَى اعْتِقَادُهُ وَكَلامُهُ (أَنْ يَكُونَ اللَّهُ بِمُحَاذَاةِ قِسْمٍ مِنَ الْعَرْشِ وَاللَّوْحُ بِمُحَاذَاةِ قِسْمٍ مِنَ الْعَرْشِ وَهَذَا تَشْبِيهٌ لَهُ بِخَلْقِهِ) بِلا شَكٍّ (لِأَنَّ مُحَاذَاةَ شَىْءٍ لِشَىْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ).

عَوْدٌ إِلَى بَيَانِ أَنَّ الْكِتَابَ السَّابِقَ الذِّكْرِ مَوْجُودٌ فَوْقَ الْعَرْشِ عَلَى الْحَقِيقَةِ.

(وَمِمَّا يَدُلُّ) أَيْضًا (عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ فَوْقَ الْعَرْشِ فَوْقِيَّةً حَقِيقِيَّةً لا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ) فَلا تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى تَحْت (الْحَدِيثُ الَّذِى رَوَاهُ النَّسَائِىُّ فِى السُّنَنِ الْكُبْرَى) فِى بَابِ مَا يُجِيرُ مِنَ الْجِنِّ وَالشَّيْطَانِ (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِأَلْفَىْ سَنَةٍ فَهُوَ عِنْدَهُ عَلَى الْعَرْشِ وَإِنَّهُ أَنْزَلَ مِنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ ءَايَتَيْنِ خَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ الْبَقَرَةِ) اﻫ (وَفِى لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ) فِى بَابٍ فِى سَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهَا سَبَقَتْ غَضَبَهُ (فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ) اﻫ (فَهَذَا) وَمَا سَبَقَهُ (صَرِيحٌ فِى أَنَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ فَوْقَ الْعَرْشِ فَوْقِيَّةً حَقِيقِيَّةً لا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ) وَشَاهِدٌ يَشْهَدُ أَنَّ مَنْ زَعَمَ الْجِهَةَ وَارْتِفَاعَ الْمَسَافَةِ لِلَّهِ تَعَالَى هُوَ مُشَبِّهٌ لِرَبِّهِ وَمُعَادِلٌ لَهُ بِخَلْقِهِ.

(وَكَلِمَةُ عِنْدَ) الْوَارِدَةُ فِى الرِّوَايَتَيْنِ الآنِفَتَىِ الذِّكْرِ هِىَ (لِلتَّشْرِيفِ) وَ(لَيْسَ لِإِثْبَاتِ تَحَيُّزِ اللَّهِ فَوْقَ الْعَرْشِ) كَمَا قَدْ يَتَوَهَّمُ قَاصِرُ نَظَرٍ (لِأَنَّ عِنْدَ تُسْتَعْمَلُ لِغَيْرِ الْمَكَانِ) كَمَا تُسْتَعْمَلُ لِلْمَكَانِ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) فِى سُورَةِ هُودٍ (﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّنْ سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ﴾) وَلا يَقُولُ عَاقِلٌ إِنَّ عِنْدَ تَدُلُّ هُنَا عَلَى أَنَّ لِلَّهِ حَيِّزًا وَأَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحِجَارَةِ تَقَارُبًا (إِنَّمَا تَدُلُّ عِنْدَ هُنَا أَنَّ ذَلِكَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ تِلْكَ الْحِجَارَةَ مُجَاوِرَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْمَكَانِ فَمَنْ يَحْتَجُّ بِمُجَرَّدِ كَلِمَةِ عِنْدَ لإِثْبَاتِ الْمَكَانِ وَالتَّقَارُبِ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ فَهُوَ مِنْ أَجْهَلِ الْجَاهِلِينَ وَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ إِنَّ تِلْكَ الْحِجَارَةَ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى أُولَئِكَ الْكَفَرَةِ نَزَلَتْ مِنَ الْعَرْشِ إِلَيْهِمْ وَكَانَتْ مُكَوَّمَةً بِمَكَانٍ فِى جَنْبِ اللَّهِ فَوْقَ الْعَرْشِ) وَمِثْلُ ذَلِكَ فِى الدِّلالَةِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ السَّجْدَةِ ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مَنِ اسْتَدَلَّ بِكَلِمَةِ عِنْدَ عَلَى إِثْبَاتِ الْمُجَاوَرَةِ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُثْبِتَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِجِوَارِ الْمُشْرِكِينَ فِى أَرْضِ الْمَحْشَرِ وَهُوَ مَا لا يَقُولُهُ مُوَحِّدٌ وَلا مُشَبِّهٌ.

عَوْدٌ إِلَى الْكَلامِ عَنْ حَدِيثِ الْجَارِيَةِ (وَ)بَيَانُ فَسَادِ احْتِجَاجِ الْمُشَبِّهَةِ بِهِ.

(قَدْ رَوَى الْبُخَارِىُّ) فِى صَحِيحِهِ (أَنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِى صَلاتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِى رَبَّهُ فَلا يَبْصُقَنَّ فِى قِبْلَتِهِ وَلا عَنْ يَمِينِهِ فَإنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وبَيْنَ قِبْلَتِهِ اﻫ وَهَذَا الْحَدِيثُ أَقْوَى إِسْنَادًا مِنْ حَدِيثِ الْجَارِيَةِ وَأَخْرَجَ الْبُخَارِىُّ أَيْضًا عَنْ أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِىِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) أَىْ هَوِّنُوا عَلَيْهَا وَلا تُجْهِدُوهَا بِرَفْعِ الصَّوْتِ كَثِيرًا (فَإِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِبًا) تَخْفَى عَلَيْهِ الأُمُورُ (إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا وَالَّذِى تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَةِ أَحَدِكُمْ اﻫ فَيُقَالُ لِلْمُعْتَرِضِ) الَّذِى يَحْتَجُّ بِظَاهِرِ حَدِيثِ الْجَارِيَةِ لإِثْبَاتِ الْمَكَانِ لِلَّهِ تَعَالَى (إِذَا أَخَذْتَ حَدِيثَ الْجَارِيَةِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى ظَاهِرِهِمَا بَطَلَ زَعْمُكَ أَنَّ اللَّهَ فِى السَّمَاءِ) لِأَنَّ ظَاهِرَ حَدِيثِ الْبُخَارِىِّ الأَوَّلِ أَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ فِيمَا بَيْنَ الْمُصَلِّى وَالْكَعْبَةِ وَظَاهِرَ الْحَدِيثِ الثَّانِى أَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ مَا بَيْنَ الرَّاكِبِ الدَّاعِى وَعُنُقِ دَابَّتِهِ وَالْمُعْتَرِضُ يَلْتَزِمُ الأَخْذَ بِالظَّاهِرِ وَتَرْكَ التَّأْوِيلِ وَظَاهِرُ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ مَا ذَكَرْنَا وَهُمَا أَقْوَى بِكَثِيرٍ مِنْ حَدِيثِ الْجَارِيَةِ فَعَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَتْرُكَ الأَخْذَ بِظَاهِرِهِ وَأَنْ يَأْخُذَ بِظَاهِرِ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ وَهُوَ يَأْبَى ذَلِكَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُتَحَكِّمٌ يَجْرِى خَلْفَ الْهَوَى وَيُرِيدُ أَنْ يَحْمِلَ مَا وَرَدَ فِى الشَّرْعِ عَلَى مَا يُوَافِقُ هَوَاهُ وَأَنَّهُ لا يَتْبَعُ قَاعِدَةً نَصَّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَلا قَانُونًا بَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ اسْتَنْبَطَهُ أَهْلُ الِاجْتِهَادِ مِنْ بَيَانِهِ (وَ)بِعِبَارَةٍ أُخْرَى يُقَالُ لَهُ إِنْ قُلْتَ يَلْزَمُ الأَخْذُ بِالظَّاهِرِ وَيَمْتَنِعُ التَّأْوِيلُ اقْتَضَى كَلامُكَ الأَخْذَ بِظَاهِرِ حَدِيثَىِ الْبُخَارِىِّ وَبَطَلَ زَعْمُكَ أَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ فِى السَّمَاءِ وَ(إِنْ) أَجَزْتَ التَّأْوِيلَ وَ(أَوَّلْتَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ) اللَّذَيْنِ فِى الْبُخَارِىِّ (وَلَمْ تُأَوِّلْ حَدِيثَ الْجَارِيَةِ فَهَذَا تَحَكُّمٌ أَىْ قَوْلٌ بِلا دَلِيلٍ وَيَصْدُقُ عَلَيْكَ قَوْلُ اللَّهِ) تَعَالَى (فِى الْيَهُودِ) فِى سُورَةِ الْبَقَرَةِ (﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾) وَهَذَا شَأْنُ أَهْلِ الْبِدَعِ كَمَا رُوِىَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْمُبْتَدِعَ لا بُدَّ أَنْ يَتَنَاقَضَ اﻫ وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ نَصَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَيَقُولُونَ قَامَتْ عِنْدَنَا الأَدِلَّةُ الْقَطْعِيَّةُ مِنَ الْقُرْءَانِ وَالسُّنَّةِ وَشَاهِدِ الْعَقْلِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ مُشَابَهَةِ الْمَخْلُوقِينَ وَعَنِ الِاخْتِصَاصِ بِالْمَكَانِ وَعَنْ جَرَيَانِ الزَّمَانِ عَلَيْهِ وَيَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَيَّنَ فِى الْقُرْءَانِ أَنَّ الآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأَسَاسُهُ وَأَنَّ الآيَاتِ الْقُرْءَانِيَّةَ وَالأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ لا تَتَنَاقَضُ فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُنَا رَدُّ الآيَاتِ الْمُتَشَابِهَاتِ إِلَى الآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ أَىْ بِحَيْثُ لا يُخَالِفُ ذَلِكَ لُغَةَ الْعَرَبِ وَلا أَحْكَامَ الشَّرْعِ وَلِذَلِكَ قَالُوا قَوْلُ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِبْلَتِهِ هُوَ مِنْ بَابِ مَجَازِ الْحَذْفِ أَىْ فَإِنَّ رَحْمَةَ رَبِّهِ أَمَامَهُ أَىْ إِنَّ الرَّحْمَةَ الْخَاصَّةَ الَّتِى تَنْزِلُ عَلَى الْمُصَلِّينَ تَكُونُ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَإِذَا قَامَ فِى صَلاتِهِ يُنَاجِى رَبَّهُ أَىْ إِذَا تَجَرَّدَ عَنْ مُخَاطَبَةِ النَّاسِ لِمُخَاطَبَةِ الرَّبِّ وَالإِقْبَالِ عَلَيْهِ بِدُعَائِهِ وَتَمْجِيدِهِ نَزَلَتْ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ الْخَاصَّةُ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَلَمْ يَلِقْ عِنْدَ ذَلِكَ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الأَدَبِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فِى حَقِّهِ أَنْ يَبْصُقَ أَمَامَ وَجْهِهِ. وَأَمَّا مَا فِى الْحَدِيثِ الآخَرِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ وَالَّذِى تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَةِ أَحَدِكُمْ فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْقُرْبَ الْحِسِّىَّ الَّذِى هُوَ بِالْجِهَةِ وَالْمَسَافَةِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مِنْهُ الْقُرْبُ الْمَعْنَوِىُّ أَىْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُطَّلِعٌ عَلَى أَحْوَالِ عِبَادِهِ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْءٌ مِنْهَا فَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ بِالْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ.

(وَ)يُقَالُ لِلْمُعْتَرِضِ (كَذَلِكَ مَاذَا تَقُولُ فِى قَوْلِهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الْبَقَرَةِ (﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾) وَلا وَجْهَ لِمُقَارَنَةِ ثُبُوتِ الآيَةِ الشَّرِيفَةِ بِمَدَى ثُبُوتِ حَدِيثِ الْجَارِيَةِ (فَإِنْ أَوَّلْتَهُ) أَىْ أَوَّلْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى (فَلِمَ لا تُؤَوِّلُ حَدِيثَ الْجَارِيَةِ) فَإِنَّ التَّأْوِيلَ فِى ءَايَاتِ وَأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ لَوْ كَانَ مَمْنُوعًا كَمَا تَزْعُمُ لَامْتَنَعَ تَأْوِيلُ كِلَيْهِمَا كَيْفَ (وَقَدْ جَاءَ فِى تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ عَنْ مُجَاهِدٍ تِلْمِيذِ ابْنِ عَبَّاسٍ قِبْلَةُ اللَّهِ فَفَسَّرَ الْوَجْهَ بِالْقِبْلَةِ) وَأَوَّلَهُ بِذَلِكَ (أَىْ) إِنَّهُ يَجُوزُ اسْتِقْبَالُ وِجْهَةِ السَّفَرِ (بِصَلاةِ النَّفْلِ فِى السَّفَرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ) بَلْ رُوِىَ مِثْلُ ذَلِكَ فِى صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِى بَابِ جَوَازِ صَلاةِ النَّافِلَةِ عَلَى الدَّابَّةِ فِى السَّفَرِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَرْفُوعًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَحَدَّثَنِى عُبَيْدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِىُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بنِ أَبِى سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّى وَهُوَ مُقْبِلٌ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ قَالَ وَفِيهِ نَزَلَتْ (﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾) اﻫ فَكَأَنَّكَ تَقُولُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُبْتَدِعًا يُؤَوِّلُ الآيَاتِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَعَلَى غَيْرِ مَا أَجَازَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَحَكَمَ فَتَبًّا لِقَائِلٍ يَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ وَتَبًّا لِقَوْلِهِ.

(وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِى رَوَاهُ التِّرْمِذِىُّ وَهُوَ الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمٰنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) فَهُوَ حَدِيثٌ قَوِىٌّ وَهُوَ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ بِالْمُسَلْسَلِ بِالأَوَّلِيَّةِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الشُّيُوخِ وَالأَعْلامِ رَوَوْهُ مُسَلْسَلًا شَيْخًا عَنْ شَيْخِهِ وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَقُولُ وَهُوَ أَوَّلُ حَدِيثٍ سَمِعْتُهُ مِنْهُ أَخْرَجَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِى الْمُسْنَدِ وَالْبُخَارِىُّ فِى الأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَالتِّرْمِذِىُّ فِى السُّنَنِ وَقَالَ عَقِبَهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ اﻫ حَدَّثَنِى بِهِ شَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ عَبْدُ اللَّهِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ يُوسُفَ الْهَرَرِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ أَوَّلُ حَدِيثٍ سَمِعْتُهُ مِنْهُ وَقَرَأْتُهُ عَلَيْهِ بِإِسْنَادِهِ قَالَ حَدَّثَنِي شَيْخِي مُحَمَّدُ سِراج بنُ مُحَمَّد سَعِيد الْجَبَرْتِىُّ الأَنِّىُّ الْمُفْتِى وَهُوَ أَوَّلُ حَدِيثٍ سَمِعْتُهُ مِنْهُ عَنِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ حَبِيبِ اللَّهِ الشِّنْقِيطِىِّ الْمَالِكِىِّ وَهُوَ أَوَّل عَنِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْمَجِيدِ بنِ مُحَمَّد الشَّرْنُوبِىّ الأَزْهَرِىّ الْمَالِكِىّ وَهُوَ أَوَّل عَنِ الشَّيْخِ حَسَنِ بنِ دَرْوِيشٍ الْقُوَيْسِنِىِّ وَهُوَ أَوَّل عَنِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الأَمِيرِ الْكَبِيرِ الْمِصْرِىّ وَهُوَ أَوَّل عَنِ الشِّهَابِ أَحْمَدَ الْجَوْهَرِىّ وَهُوَ أَوَّل عَنِ الشَّيْخِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ سَالِمٍ الْبِصْرِىّ وَهُوَ أَوَّل عَنِ الشَّمْسِ مُحَمَّدِ بنِ عَلاءِ الدِّينِ الْبَابِلِىّ وَهُوَ أَوَّل عَنِ الشِّهَابِ أَحْمَدَ بنِ مُحَمَّدٍ الشَّلَبِىّ وُهُوَ أَوَّل ثَنَا الْجَمَالُ يُوسُفُ بنُ زَكَرِيَّا وَهُوَ أَوَّل أَنَا الْبُرْهَانُ إِبْرَاهِيمُ بنُ عَلِىِّ بنِ أَحْمَدَ الْقَلْقَشَنْدِىُّ وَهُوَ أَوَّل ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ ابن أَبِي بَكْرٍ الْوَاسِطِىُّ وَهُوَ أَوَّل أَنَا الْخَطِيبُ صَدرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِبْرَاهِيمَ الْمَيْدُومِىُّ وَهُوَ أَوَّلُ أَنَا النَّجِيبُ أَبُو الْفَرَجِ عَبْدُ اللَّطِيفِ بنُ عَبْدِ الْمُنْعِمِ الْحَرَّانِىُّ وَهُوَ أَوَّل أَنَا الْحَافِظُ أَبُو الْفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمٰنِ بنُ عَلِىِّ بنِ الْجَوْزِىّ الْبَكْرِىُّ وَهُوَ أَوَّل أَنَا إِسْمَاعِيلُ بنُ أَبِى صَالِحٍ الْمُؤَذِّن النَّيْسَابُورِىُّ وَهُوَ أَوَّل ثَنِى وَالِدِى أَبُو صَالِحٍ الْمُؤَذِّن وَهُوَ أَوَّل ثَنِى مُحَمَّدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ مَحْمِشٍ الزِّيَادِىُّ النَّيْسَابُورِىُّ وَهُوَ أَوَّلُ أَنَا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ يَحْيَى بنِ بِلالٍ الْبَزَّاز بِزَاىٍ فَأَلِفٍ فَزَاىٍ وَهُوَ أَوَّل ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمٰنِ بنُ بِشْرِ بنِ الْحَكَمِ الْعبْدِىُّ النَّيْسَابُورِىُّ وَهُوَ أَوَّلُ ثَنِى سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ وَعِنْدَهُ يَنْقَطِعُ التَّسَلْسُلُ بِالأَوَّلِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ عَنْ عَمْرِو بنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِى قَابُوس مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَمْرِو بنِ الْعَاص عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَمْرِو بنِ الْعَاص أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمٰنُ ارْحَمُوا مَنْ فِى الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِى السَّمَاءِ اهـ (وَفِى رِوَايَةٍ أُخْرَى) قَوِيَّةِ الإِسْنَادِ عِنْدَ الْحَاكِمِ فِى الْمُسْتَدْرَكِ وَالإِمَامِ أَحْمَدَ فِى الْمُسْنَدِ وَالطَّبَرِىِّ فِى تَهْذِيبِ الآثَارِ وَغَيْرِهِمْ (يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُفَسِّرُ الرِّوَايَةَ الأُولَى لِأَنَّ خَيْرَ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْحَدِيثُ الْوَارِدُ بِالْوَارِدِ) مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (كَمَا قَالَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِىُّ فِى أَلْفِيَّتِهِ وَخَيْرُ مَا فَسَّرْتَهُ بِالْوَارِدِ) فَيَكُونُ مَعْنَى الْحَدِيثِ ارْحَمُوا مَنْ فِى الأَرْضِ بِإِرْشَادِهِمْ إِلَى الْخَيْرِ كَتَعْلِيمِهِمْ أُمُورَ الدِّينِ الضَّرُورِيَّةَ الَّتِى هِىَ سَبَبٌ لإِنْقَاذِهِمْ مِنَ النَّارِ وَبِـإِطْعَامِ جَائِعِهِمْ وَكِسْوَةِ عَارِيهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَرْحَمْكُمُ الْمَلائِكَةُ الَّذِينَ فِى السَّمَاءِ بِاسْتِغْفَارِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِنْزَالِ الْمَطَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الرَّحَمَاتِ.

(ثُمَّ) إِنَّ كَوْنَ (الْمُرَادِ بِأَهْلِ السَّمَاءِ الْمَلائِكَةَ) مِمَّا تَكَلَّمَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ وَبَيَّنُوهُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا وَمِمَّنْ (ذَكَرَ ذَلِكَ الْحَافِظُ) زَيْنُ الدِّينِ (الْعِرَاقِىُّ فِى أَمَالِيِّهِ عَقِيبَ هَذَا الْحَدِيثِ وَنَصُّ عِبَارَتِهِ وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ أَهْلُ السَّمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ ﴿مَّنْ فِي السَّمَاءِ﴾ الْمَلائِكَةُ اﻫ) أَىْ وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِمَا فِى رِوَايَةِ مَنْ فِى السَّمَاءِ أَهْلَهَا وَهُمُ الْمَلائِكَةُ. وَلا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالرِّوَايَتَيْنِ اللَّهَ تَعَالَى (لِأَنَّهُ لا يُقَالُ لِلَّهِ أَهْلُ السَّمَاءِ. وَ)رُبَّمَا اعْتَرَضَ بَعْضُ الْمُشَبِّهَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَفْسِيرِ الْوَارِدِ بِالْوَارِدِ هُنَا وَحَمْلِ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى الأُخْرَى بِقَوْلِهِمْ إِنَّ كَلِمَةَ مَنْ تُسْتَعْمَلُ فِى الْمُفْرَدِ فَلا يَصِحُّ حَمْلُهَا عَلَى الْمَلائِكَةِ وَهَذَا كَلامٌ لا وَجْهَ لَهُ يَرُدُّهُ الْقُرْءَانُ وَالْحَدِيثُ وَلُغَةُ الْعَرَبِ فَإِنَّ (مَنْ تَصْلُحُ لِلْمُفْرَدِ وَلِلْجَمْعِ) كَمَا فِى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الزُّمَرِ ﴿وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِى الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ﴾ (فَلا حُجَّةَ لَهُمْ فِى) حَمْلِ (الآيَةِ) الْمَذْكُورَةِ عَلَى أَنَّهُ يُرَادُ بِهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنَّهُ مَوْجُودٌ بِذَاتِهِ فِى السَّمَاءِ وَلا تَسْتَقِيمُ لَهُمْ دَعْوًى بِذَلِكَ (وَيُقَالُ مِثْلُ ذَلِكَ فِى الآيَةِ الَّتِى تَلِيهَا) أَىْ فِى سُورَةِ الْمُلْكِ (وَهِىَ ﴿أَمْ أَمِنْتُمْ مَّنْ فِى السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا﴾ فَمَنْ فِى هَذِهِ الآيَةِ أَيْضًا أَهْلُ السَّمَاءِ فَإِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ عَلَى الْكُفَّارِ الْمَلائِكَةَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحِلَّ عَلَيْهِمْ عُقُوبَتَهُ فِى الدُّنْيَا كَمَا أَنَّهُمْ فِى الآخِرَةِ هُمُ الْمُوَكَّلُونَ بِتَسْلِيطِ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْكُفَّارِ لِأَنَّهُمْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ) بَلْ (وَ)يُوَكَّلُونَ بِتَعْذِيبِ الْكُفَّارِ وَإِرْعَابِهِمْ قَبْلَ دُخُولِهِمُ النَّارَ عِنْدَ النَّزْعِ وَفِى الْقَبْرِ وَعِنْدَ الْحَشْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَمَثَلًا (هُمْ يَجُرُّونَ عُنُقًا مِنْ جَهَنَّمَ إِلَى الْمَوْقِفِ لِيَرْتَاعَ الْكُفَّارُ بِرُؤْيَتِهِ. وَتِلْكَ الرِّوَايَةُ الَّتِى أَوْرَدَهَا الْحَافِظُ الْعِرَاقِىُّ فِى) الْمَجْلِسِ السَّادِسِ وَالثَّمَانِينَ مِنْ (أَمَالِيِّهِ) الْمَحْفُوظَةِ فِى الْمَكْتَبَةِ الظَّاهِرِيَّةِ وَغَيْرِهَا (لَفْظُهَا الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحِيمُ ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ) وَهُوَ يَرْوِيهَا مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ الزَّعْفَرَانِىِّ وَإِسْنَادُهَا حَسَنٌ. وَأَمَّا رِوَايَةُ الْحَاكِمِ فِى الْمُسْتَدْرَكِ فَهِىَ الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُم الرَّحْمٰنُ ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ وَإِسْنَادُهَا صَحِيحٌ صَحَّحَهَا الْحَاكِمُ وَوَافَقَهُ الذَّهَبِىُّ.

فَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ تَمَسُّكَ الْمُشَبِّهَةِ بِالآيَتَيْنِ الْوَارِدَتَيْنِ فِى سُورَةِ الْمُلْكِ وَحَدِيثِ الرَّحْمَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ لِلِاحْتِجَاجِ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَوْجُودٌ فِى السَّمَاءِ وَاقِعٌ فِى غَيْرِ مَحَلِّهِ وَجَارٍ عَلَى غَيْرِ السَّنَنِ الَّتِى تَدُلُّ عَلَيْهَا أَحَادِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِوَايَاتُهَا الْمُخْتَلِفَةُ وَلَوْ حُمِلَتْ هَذِهِ النُّصُوصُ عَلَى الظَّاهِرِ الَّذِى يُرِيدُونَهُ لَوَقَعَ التَّعَارُضُ فِى الْقُرْءَانِ وَلَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى نِسْبَةِ وُقُوعِ الصَّعْقِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَضْلًا عَنْ نِسْبَةِ الْحَيِّزِ وَالصُّورَةِ وَالْحَجْمِ وَالْمَكَانِ لَهُ سُبْحَانَهُ لِأَنَّهُمْ إِذَا حَمَلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى ﴿مَّنْ فِى السَّمَاءِ﴾ عَلَى ظَاهِرِهِ لَزِمَهُمْ أَنَّ السَّمَاءَ تَحْوِى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَتَحْصُرَهُ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَصْعَقُ فِيمَنْ يَصْعَقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنْ قَالُوا لا نَحْمِلُ اللَّفْظَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الْمُتَبَادِرَةِ إِلَى الذِّهْنِ مِنْهُ وَإِنَّمَا نَحْمِلُهُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عِنْدَنَا عَلَى هَذَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ نَحْنُ نَقُولُ فَمَا إِنْكَارُكُمْ عَلَيْنَا مَعَ أَنَّ دَلِيلَنَا ثَابِتٌ وَمَا تَسْتَنِدُونَ إِلَيْهِ شُبْهَةٌ تَزُولُ عِنْدَ أَدْنَى تَمْحِيصٍ.

(ثُمَّ لَوْ كَانَ اللَّهُ سَاكِنَ السَّمَاءِ كَمَا يَزْعُمُ الْبَعْضُ لَكَانَ اللَّهُ يُزَاحِمُ الْمَلائِكَةَ) لِأَنَّ السَّمَاوَاتِ مَمْلُوءَاتٌ بِهِمْ (وَهَذَا) أَىْ مُزَاحَمَةُ اللَّهِ لِلْمَلائِكَةِ (مُحَالٌ فَقَدْ ثَبَتَ حَدِيثُ) التِّرْمِذِىِّ (أَنَّهُ مَا فِى السَّمَوَاتِ مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ وَفِى لَفْظٍ شِبْرٍ إِلَّا وَفِيهِ مَلَكٌ) يُصَلِّى فَهُوَ (قَائِمٌ أَوْ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ) اﻫ فَهَلْ يَزْعُمُ الْوَهَّابِيَّةُ وَمَنْ خُدِعَ بِتَمْوِيهَاتِهِمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنْحَصِرٌ فِيمَا دُونَ قَدْرِ شِبْرٍ أَوْ أَرْبَعِ أَصَابِعَ وَمَا مَعْنَى ادِّعَائِهِمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَنْزِلُ بِذَاتِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الأُولَى هَلْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ يَكُونُ كَبِيرًا مُمْتَدًّا عَلَى قَدْرِ الْعَرْشِ ثُمَّ يَصْغُرُ وَيَتَضَاءَلُ حَتَّى يَسَعَهُ أَقَلُّ مِنْ مِسَاحَةِ أَرْبَعِ أَصَابِعَ وَمَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ إِنَّهُ يَنْزِلُ بِذَاتِهِ فِى الشَّطْرِ الثَّانِى مِنَ اللَّيْلِ مَعَ كَوْنِ هَذَا الشَّطْرِ يَحْصُلُ فِى أَوْقَاتٍ مُتَتَابِعَةٍ فِى الْبِلادِ الْمُخْتَلِفَةِ وَلَيْسَ فِى وَقْتٍ وَاحِدٍ فَلا يَمْضِى وَقْتٌ إِلَّا يَحْصُلُ فِيهِ ذَلِكَ فِى نَاحِيَةٍ مِنَ الأَرْضِ عَلَى مَدَارِ الزَّمَانِ فَإِنَّ أَوَّلَ اللَّيْلِ فِى بَلَدٍ هُوَ وَسَطُهُ فِى بَلَدٍ ثَانٍ وَءَاخِرَهُ فِى بَلَدٍ ثَالِثٍ وَهَكَذَا فَهَلْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ طُولَ الْوَقْتِ نَازِلٌ طَالِعٌ إِذَا الْتَزَمُوا ذَلِكَ صَارُوا ضَحْكَةً وَلَمْ يَخْفَ عَلَى أَحَدٍ مُخَالَفَتُهُمْ لِنُصُوصِ الشَّرِيعَةِ وَمَوَاقِعِ الإِجْمَاعِ وَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمُوا ذَلِكَ فَقَدْ خَرَجُوا عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّهُ لا بُدَّ مِنَ الأَخْذِ بِالظَّاهِرِ فِى كُلِّ ءَايَاتِ وَأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ فَلِمَاذَا يُنْكِرُونَ عَلَيْنَا. بَلْ وَيَلْزَمُهُمْ مِمَّا قَالُوا أَنْ لا يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى مُسْتَقِرًّا عَلَى الْعَرْشِ كَمَا زَعَمُوا بَلْ هُوَ كُلَّ الْوَقْتِ فِيمَا بَيْنَ نُزُولٍ عَنْهُ إِلَى السَّمَاءِ الأُولَى وَطُلُوعٍ إِلَيْهِ فَمَاذَا يَقُولُونَ وَيَلْزَمُهُمْ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ لَحْظَةً تَحْتَ الْعَرْشِ بَلْ وَتَحْتَ الْجَنَّةِ وَالسَّمَاوَاتِ السِّتِّ وَلَحْظَةً فَوْقَهَا فَمَا أَبْشَعَ عَقِيدَةً يَلْزَمُ عَلَيْهَا مِثْلُ ذَلِكَ.

(وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِى رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَلَا تَأْمَنُونِى وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِى السَّمَاءِ) أَىْ وَأَنَا مُؤْتَمَنٌ عِنْدَ أَهْلِ السَّمَاءِ أَىِ الْمَلائِكَةِ كَمَا يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ تِتِمَّةُ الْحَدِيثِ (يَأْتِينِى خَبَرُ مَنْ فِى السَّمَاءِ صَبَاحَ مَسَاءَ) أَىْ خَبَرُ الْمَلائِكَةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ (فَالْمَقْصُودُ بِهِ) أَىْ بِقَوْلِهِ مَنْ فِى السَّمَاءِ فِى هَذَا الْحَدِيثِ (الْمَلائِكَةُ أَيْضًا) لا اللَّهُ تَعَالَى (وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ اللَّهُ) عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ (فَمَعْنَاهُ الَّذِى هُوَ رَفِيعُ الْقَدْرِ جِدًّا) عَلَى نَفْسِ التَّأْوِيلِ الَّذِى أَوَّلَ بِهِ الْبَعْضُ حَدِيثَ الْجَارِيَةِ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهُ (وَأَمَّا حَدِيثُ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ زَوْجِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ لِنِسَاءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ وَزَوَّجَنِى اللَّهُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ) فَلَيْسَ فِيهِ إِثْبَاتُ الْحَيِّزِ وَالْمَكَانِ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا زَعَمَ بَعْضُ الْمُشَبِّهَةِ انْسِيَاقًا خَلْفَ وَهْمِهِمُ الْفَاسِدِ وَإِنَّمَا الَّذِى يُثْبِتُهُ هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّ تَزْوِيجَ زَيْنَبَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا لَمْ يَقَعْ بِوَلِىٍّ وَشَاهِدَيْنِ كَمَا هُوَ شَأْنُ غَيْرِهَا مِنَ النِّسَاءِ وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ حُكْمٌ خَاصٌّ بِحَيْثُ وَقَعَ تَزْوِيجُهَا فَوْقَ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ أَىْ حَصَلَ زِوَاجُ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا بِأَمْرٍ حَدَثَ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ (فَمَعْنَاهُ أَنَّ تَزَوُّجَ النَّبِىِّ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بِهَا) حَصَلَ بِكِتَابَةٍ فِى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ الْمَوْجُودِ فَوْقَ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ فَهُوَ (مُسَجَّلٌ فِى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَهَذِهِ كِتَابَةٌ خَاصَّةٌ بِزَيْنَبَ لَيْسَتِ الْكِتَابَةَ الْعَامَّةَ) فَإِنَّ (الْكِتَابَةَ الْعَامَّةَ لِكُلِّ شَخْصٍ فَكُلُّ زِوَاجٍ يَحْصُلُ إِلَى نِهَايَةِ الدُّنْيَا مُسَجَّلٌ) فِى اللَّوْحِ أَىْ إِنَّ زِوَاجَ مَنْ يَتَزَوَّجُ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ مُسَجَّلٌ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِحُصُولِ كَذَا وَكَذَا مِنْهُمْ فَيَحْصُلُ مِنْهُمُ الأَمْرُ عَلَى مَا كُتِبَ وَبِذَلِكَ يَنْعَقِدُ زِوَاجُهُمْ وَأَمَّا زِوَاجُ زَيْنَبَ فَقَدِ انْعَقَدَ بِمُجَرَّدِ حُلُولِ الْوَقْتِ الَّذِى سُجِّلَ فِى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ فِيهِ فَكَانَ زِوَاجُهَا مِنْ غَيْرِ مُشَارَكَةٍ لِأَهْلِ الأَرْضِ فِى انْعِقَادِهِ بَلْ بِمُجَرَّدِ كِتَابَةٍ خَاصَّةٍ فِى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ لِلنَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِى سُورَةِ الأَحْزَابِ ﴿زَوَّجْنَاكَهَا﴾ (وَاللَّوْحُ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ) فَهَذَا هُوَ الَّذِى كَانَتْ زَيْنَبُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا تَفْتَخِرُ بِهِ. وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ وَغَيْرُهُ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْهَا مَا فِيهِ عِبَارَةُ فَوْقَ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ وَمِنْهَا مَا لَيْسَ فِيهِ ذَلِكَ وَمَعْنَاهُ مَا تَقَدَّمَ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ فَإِنَّ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ مُتَعَلِّقَانِ بِفِعْلِ زَوَّجَ لا بِلَفْظِ الْجَلالَةِ كَمَا لَوْ قُلْتَ جَلَبْتُ لَكَ هَذِهِ الْبِضَاعَةَ مِنَ الصِّينِ فَإِنَّ الْجَلْبَ قَدْ حَصَلَ مِنَ الصِّينِ وَلا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّكَ كُنْتَ بِذَاتِكَ مَوْجُودًا هُنَاكَ.

(وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِى) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَ(فِيهِ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَتَأْبَى عَلَيْهِ) مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ (إِلَّا كَانَ الَّذِى فِى السَّمَاءِ سَاخِطًا عَلَيْهَا الْحَدِيثَ فَيُحْمَلُ أَيْضًا عَلَى الْمَلائِكَةِ بِدَلِيلِ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ الصَّحِيحَةِ وَالَّتِى هِىَ أَشْهَرُ مِنْ هَذِهِ وَهِىَ لَعَنَتْهَا الْمَلائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ رَوَاهَا ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ.

وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِى الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَبَّنَا الَّذِى فِى السَّمَاءِ تَقَدَّسَ اسْمُكَ فَلَمْ يَصِحَّ بَلْ هُوَ ضَعِيفٌ كَمَا حَكَمَ عَلَيْهِ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِىِّ) وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ (وَلَوْ صَحَّ فَأَمْرُهُ كَمَا مَرَّ فِى حَدِيثِ الْجَارِيَةِ) أَىْ مَعْنَاهُ الَّذِى هُوَ أَعْلَى مِنْ كُلِّ شَىْءٍ قَدْرًا أَوْ يَكُونُ مَعْنَاهُ رَبَّنَا الَّذِى تَقَدَّسَ اسْمُكَ فِى السَّمَاءِ أَىْ بَيْنَ الْمَلائِكَةِ فَيَكُونُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مُقَدَّمَيْنِ وَهُمَا فِى الْحَقِيقَةِ مُتَعَلِّقَانِ بِفِعْلِ تَقَدَّسَ وَمِثْلُ هَذَا مَعْرُوفٌ فِى اللُّغَةِ كَثِيرٌ فِيهَا. هَذَا كُلُّهُ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ وَالْحَقِيقَةُ أَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ فَلا يُحْوِجُ إِلَى تَأْوِيلٍ.

(وَأَمَّا حَدِيثُ جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ عَنِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ وَسَمَاوَاتُهُ فَوْقَ أَرَاضِيهِ مِثْلُ الْقُبَّةِ فَلَمْ يُدْخِلْهُ الْبُخَارِىُّ فِى الصَّحِيحِ) مَعَ أَنَّهُ يَرْوِيهِ فِى بَعْضِ كُتُبِهِ الأُخْرَى الَّتِى لَمْ يَشْتَرِطِ الصِّحَّةَ فِيهَا فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ تَصْحِيحِهِ لَهُ (فَلا حُجَّةَ فِيهِ وَفِى إِسْنَادِهِ مَنْ هُوَ ضَعِيفٌ لا يُحْتَجُّ بِهِ) كَمَا (ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِىِّ وَغَيْرُهُ. وَكَذَلِكَ مَا رَوَاهُ) الْبُخَارِىُّ (فِى كِتَابِهِ خَلْقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا (أَنَّهُ قَالَ لَمَّا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى كَانَ نِدَاءُهُ فِى السَّمَاءِ وَكَانَ اللَّهُ فِى السَّمَاءِ فَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ فَلا يُحْتَجُّ بِهِ. وَأَمَّا الْقَوْلُ الْمَنْسُوبُ لِمَالِكٍ وَهُوَ قَوْلُ اللَّهُ فِى السَّمَاءِ وَعِلْمُهُ فِى كُلِّ مَكَانٍ لا يَخْلُو مِنْهُ شَىْءٌ فَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ وَأَبُو دَاوُدَ لَمْ يُسْنِدْهُ إِلَيْهِ بِالإِسْنَادِ الصَّحِيحِ بَلْ ذَكَرَهُ فِى كِتَابِهِ الْمَسَائِلُ وَمُجَرَّدُ الرِّوَايَةِ لا يَكُونُ إِثْبَاتًا) وَقَدْ رَوَاهُ اللَّالكَائِىُّ بِالإِسْنَادِ عَيْنِهِ بِلَفْظِ مِلْكُ اللَّهِ فِى السَّمَاءِ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ سُرَيْجِ بنِ النُّعْمَانِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بنُ نَافِعٍ الصَّائِغُ قَالَ فِيهِ الإِمَامُ أَحْمَدُ لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ حَدِيثٍ وَكَانَ ضَعِيفًا فِيهِ وَقَالَ ابْنُ عَدِىٍّ يَرْوِى غَرَائِبَ عَنْ مَالِكٍ وَقَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ كَانَ أَصَمَّ أُمِيًّا لا يَكْتُبُ اﻫ وَلا شَكَّ أَنَّهُ لا يُنْسَبُ إِلَى مَالِكٍ قَوْلٌ بِمِثْلِ هَذَا السَّنَدِ.


(صِفَاتُ اللَّهِ الثَّلاثَ عَشْرَةَ) الَّتِى يَجِبُ مَعْرِفَتُهَا عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ


(جَرَتْ عَادَةُ الْعُلَمَاءِ الْمُؤَلِّفِينَ فِى الْعَقِيدَةِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى قَوْلِهِمْ إِنَّ الْوَاجِبَ الْعَيْنِىَّ الْمَفْرُوضَ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَىِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ أَنْ يَعْرِفَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ ثَلاثَ عَشْرَةَ صِفَةً الْوُجُودَ وَالْقِدَمَ) أَىِ الأَزَلِيَّةَ (وَالْمُخَالَفَةَ لِلْحَوَادِثِ) أَىْ عَدَمَ مُشَابَهَتِهَا (وَالْوَحْدَانِيَّةَ) فِى الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالأَفْعَالِ (وَالْقِيَامَ بِنَفْسِهِ) أَىْ عَدَمَ الْحَاجَةِ إِلَى الْغَيْرِ (وَالْبَقَاءَ) بِلا انْتِهَاءٍ (وَالْقُدْرَةَ) عَلَى كُلِّ شَىْءٍ (وَالإِرَادَةَ) الشَّامِلَةَ (وَالْحَيَاةَ وَالْعِلْمَ) بِكُلِّ شَىْءٍ (وَالْكَلامَ وَالسَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَ)زَادَ بَعْضُهُمْ سَبْعَ صِفَاتٍ يَأْتِى بَيَانُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْهُمْ لَمْ يَقُولُوا بِوُجُوبِ مَعْرِفَتِهَا بَلِ الْمُتَقَدِّمُونَ وَالْمُتَأَخِّرُونَ مُجْمِعُونَ عَلَى وُجُوبِ مَعْرِفَةِ هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلاثَ عَشْرَةَ الْقَائِمَةِ بِذَاتِ اللَّهِ أَىِ الثَّابِتَةِ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ حِفْظُ أَلْفَاظِهَا وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وُجُوبَ مَعْرِفَةِ هَذِهِ الصِّفَاتِ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ مِنْهُمُ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِنَّمَا اخْتَصَّ الْمُتَأَخِّرُونَ بِذِكْرِ الْعَدَدِ. وَقَالُوا أَىِ الْمُتَقَدِّمُونَ وَالْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ (إِنَّهُ يَسْتَحِيلُ عَلَى اللَّهِ مَا يُنَافِى هَذِهِ الصِّفَاتِ. وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ ذُكِرَتْ كَثِيرًا فِى النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ) مِنْ قُرْءَانٍ وَحَدِيثٍ بِحَيْثُ كَانَ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْرِصُ عَلَى أَنْ يُعَلِّمَهَا لِكُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (قَالَ الْعُلَمَاءُ يَجِبُ مَعْرِفَتُهَا وُجُوبًا عَيْنِيًّا أَىْ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ بِعَيْنِهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِوُجُوبِ مَعْرِفَةِ عِشْرِينَ صِفَةً فَزَادُوا سَبْعَ صِفَاتٍ مَعْنَوِيَّةً قَالُوا وَ)هِىَ (كَوْنُهُ تَعَالَى قَادِرًا وَمُرِيدًا وَحَيًّا وَعَالِمًا وَمُتَكَلِّمًا وَسَمِيعًا وَبَصِيرًا. وَالطَّرِيقَةُ الأُولَى هِىَ الرَّاجِحَةُ) لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ تَسْمِيَةِ هَذِهِ السَّبْعِ صِفَاتٍ وَالْقَوْلِ بِوُجُوبِ مَعْرِفَتِهَا أَنْ يَعْقِلَ الشَّخْصُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُتَّصِفٌ بِالْقُدْرَةِ مَثَلًا وَأَنَّهَا قَائِمَةٌ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهَذَا يُعْلَمُ بِمَعْرِفَةِ الصِّفَاتِ الثَّلاثَ عَشْرَةَ فَلا حَاجَةَ لِلتَّكْرَارِ وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ شَيْئًا زَائِدًا عَلَى مُجَرَّدِ ذَلِكَ فَيَظْهَرُ ضَعْفُ الْقَوْلِ بِوُجُوبِ مَعْرِفَتِهِ عَيْنًا أَكْثَرَ إِذْ لا دَلِيلَ عَلَيْهِ.

وَالصِّفَاتُ الثَّلاثَ عَشْرَةَ مِنْهَا صِفَةٌ نَفْسِيَّةٌ وَهِىَ الْوُجُودُ وَثَمَانِ صِفَاتٍ هِىَ صِفَاتُ مَعَانٍ الْقُدْرَةُ وَالإِرَادَةُ وَالْعِلْمُ وَالْحَيَاةُ وَالْبَقَاءُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلامُ وَكُلٌّ مِنْهَا مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِ اللَّهِ لَهُ وُجُودٌ زَائِدٌ عَلَى إِثْبَاتِ الأَذْهَانِ لَهَا بِحَيْثُ يُمْكِنُ رُؤْيَتُهَا لَوْ كُشِفَ الْحِجَابُ عَنِ الْعَبْدِ إِذْ إِنَّ الشَّىْءَ لَهُ وُجُودَاتٌ أَرْبَعَةٌ وُجُودٌ فِى الْحَقِيقَةِ وَوُجُودٌ فِى الأَذْهَانِ وَهُوَ إِدْرَاكُ الْعَقْلِ لِمَعْنَى الْحَقِيقَةِ وَوُجُودٌ فِى اللِّسَانِ وَهُوَ ذِكْرُ اللِّسَانِ الْحَقِيقَةَ وَوُجُودٌ بِالْبَنَانِ وَهُوَ كِتَابَةُ الْبَنَانِ الْحَقِيقَةَ وَالصِّفَاتُ الأَرْبَعُ الْبَاقِيَةُ تُسَمَّى صِفَاتٍ سَلْبِيَّةً وَهِىَ الْقِدَمُ وَالْوَحْدَانِيَّةُ وَالْقِيَامُ بِالنَّفْسِ وَالْمُخَالَفَةُ لِلْحَوَادِثِ وَكُلٌّ مِنْهَا هُوَ سَلْبُ أَىِ انْتِفَاءُ نَقْصٍ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْقِدَمُ هُوَ انْتِفَاءُ الْحُدُوثِ وَالْوَحْدَانِيَّةُ هِىَ انْتِفَاءُ الشَّرِيكِ وَالْقِيَامُ بِالنَّفْسِ هُوَ انْتِفَاءُ الْحَاجَةِ وَالْمُخَالَفَةُ لِلْحَوَادِثِ هِىَ انْتِفَاءُ الشَّبِيهِ وَالْمَثِيلِ.

وَزَادَ بَعْضُهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ سَبْعَ صِفَاتٍ أَوْجَبُوا مَعْرِفَتَهَا سَمَّوْهَا صِفَاتٍ مَعْنَوِيَّةً وَهِىَ كَوْنُهُ تَعَالَى عَالِمًا وَكَوْنُهُ قَادِرًا وَكَوْنُهُ مُرِيدًا وَكَوْنُهُ حَيًّا وَكَوْنُهُ سَمِيعًا وَكَوْنُهُ بَصِيرًا وَكَوْنُهُ مُتَكَلِّمًا وَسُمِّيَتْ مَعْنَوِيَّةً لِأَنَّ تَعَقُّلَهَا فرعُ تَعَقُّلِ صِفَاتِ الْمَعَانِى السَّبْعِ لِأَنَّ الصِّفَاتِ الْمَعْنَوِيَّةَ لازِمَةٌ لِصِفَاتِ الْمَعَانِى فَمَنْ قَالَ بِالْحَالِ وَأَثْبَتَهَا قَالَ إِنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ عَالِمًا صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى قِيَامِ الْعِلْمِ بِالذَّاتِ وَهَذَا مَذْهَبٌ ضَعِيفٌ مَرْدُودٌ وَمَنْ قَالَ بِنَفْىِ الأَحْوَالِ وَأَنَّـهُ لا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الأَشْعَرِىِّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فَالصِّفَاتُ الَّتِى تَقُومُ بِالذَّاتِ عِنْدَهُ هِىَ صِفَاتُ الْمَعَانِى وَأَمَّا هَذِهِ فَعِبَارَةٌ عَنْ قِيَامِ صِفَاتِ الْمَعَانِى بِالذَّاتِ فَمَعْنَى كَوْنِهِ عَالِمًا مَثَلًا هُوَ قِيَامُ الْعِلْمِ بِهِ وَلَيْسَ لِذَلِكَ مَعْنًى زَائِدٌ يَتَّصِفُ الذَّاتُ بِهِ وَلِذَلِكَ قَالَ عِدَّةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ إِنَّ الْوَاجِبَ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ مَعْرِفَتُهُ ثَلاثَ عَشْرَةَ صِفَةً مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ اتِّصَافِهِ تَعَالَى بِالْحَيَاةِ مَثَلًا يُفْهَمُ مِنْهُ كَوْنُهُ حَيًّا وَمَعْرِفَةَ اتِّصَافِهِ بِالْقُدْرَةِ يُفْهَمُ مِنْهُ كَوْنُهُ قَدِيرًا وَهَكَذَا كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ.


الصِّفَةُ الأُولَى (الْوُجُودُ)


(اعْلَمْ رَحِمَكَ اللَّهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَوْجُودٌ أَزَلًا وَأَبَدًا) قَالَ الإِمَامُ الأَشْعَرِىُّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّ وُجُودَهُ تَعَالَى هُوَ عَيْنُ ذَاتِهِ اﻫ فَعَلَى مَذْهَبِهِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ يَكُونُ عَدُّهُ صِفَةً تَسَامُحًا لِأَنَّ الذَّاتَ لَيْسَ صِفَةً لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْوُجُودُ يُوصَفُ بِهِ الذَّاتُ فِى اللَّفْظِ فَيُقَالُ ذَاتُ اللَّهِ أَوْ ذَاتُ مَوْلانَا جَلَّ وَعَزَّ مَوْجُودٌ صَحَّ أَنْ يُعَدَّ صِفَةً عَلَى الْجُمْلَةِ فَعِنْدَ الإِمَامِ الأَشْعَرِىِّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ هُنَاكَ حَقَائِقُ مُتَخَالِفَةٌ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا لَفْظُ الْوُجُودِ فَمِنْ ثَمَّ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ وُجُودَ الشَّىْءِ عَيْنُهُ. وَذَاتُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لا بِدَايَةَ لَهُ (فَلَيْسَ وُجُودُهُ تَعَالَى بِإِيجَادِ مُوجِدٍ) لِأَنَّ الْمُحْتَاجَ إِلَى الْمُوجِدِ هُوَ الْحَادِثُ الَّذِى لِوُجُودِهِ بِدَايَةٌ وَأَمَّا الَّذِى لَمْ يَسْبِقْ وُجُودَهُ عَدَمٌ فَلا يَحْتَاجُ إِلَى مُحْدِثٍ يُحْدِثُهُ (وَقَدِ اسْتَنْكَرَ بَعْضُ النَّاسِ قَوْلَ اللَّهُ مَوْجُودٌ لِكَوْنِهِ) أَىْ لِكَوْنِ لَفْظِ مَوْجُودٍ (عَلَى وَزْنِ مَفْعُولٍ) فَيَقْتَضِى بِزَعْمِهِمْ وُقُوعَ الْفِعْلِ عَلَيْهِ وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ فِى حَقِّهِ تَعَالَى (وَالْجَوَابُ أَنَّ مَفْعُولًا قَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَنْ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ فِعْلُ الْغَيْرِ كَمَا نَقُولُ اللَّهُ مَعْبُودٌ) وَكَمَا يُقَالُ فُلانٌ مَزْهُوٌّ أَىْ مُتَكَبِّرٌ مُتَعَاظِمٌ فِى نَفْسِهِ (وَ)لا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى وُقُوعِ فِعْلٍ عَلَيْهِ فَالْحَقِيقَةُ أَنَّ (هَؤُلاءِ) الْمُسْتَنْكِرِينَ مُتَشَبِّهُونَ بِأَهْلِ الْعِلْمِ (ظَنُّوا بِأَنْفُسِهِمْ أَنَّ لَهُمْ نَصِيبًا فِى عِلْمِ اللُّغَةِ وَلَيْسُوا كَمَا ظَنُّوا. قَالَ اللُّغَوِىُّ الْكَبِيرُ شَارِحُ الْقَامُوسِ) الْحَافِظُ الْمُحَدِّثُ الْفَقِيهُ مُحَمَّدُ مُرْتَضَى (الزَّبِيدِىُّ) الشَّرِيفُ الْحُسَيْنِىُّ (فِى شَرْحِ الإِحْيَاءِ مَا نَصُّهُ وَالْبَارِئُ تَعَالَى مَوْجُودٌ فَصَحَّ أَنْ يُرَى) اﻫ (وَقَالَ الْفَيُّومِىُّ اللُّغَوِىُّ صَاحِبُ الْمِصْبَاحِ) أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ الْهَمْدَانِىُّ (الْمَوْجُودُ خِلافُ الْمَعْدُومِ) اﻫ فَالْعِبْرَةُ بِكَلامِ أَهْلِ الْعِلْمِ الثِّقَاتِ فِى النَّقْلِ عَنِ الْعَرَبِ الْقُدَمَاءِ أَهْلِ اللُّغَةِ لا بِمَنْ يَتَطَفَّلُ عَلَى ذَلِكَ بِغَيْرِ عِلْمٍ.


الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ (الْقِدَمُ)


(يَجِبُ لِلَّهِ) تَعَالَى (الْقِدَمُ بِمَعْنَى الأَزَلِيَّةِ) أَىِ انْتِفَاءِ الْبِدَايَةِ أَىْ أَنَّـهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يَسْبِقْ وُجُودَهُ عَدَمٌ (لا بِمَعْنَى تَقَادُمِ الْعَهْدِ وَ)طُولِ (الزَّمَنِ لِأَنَّ) مُتَقَادِمَ الْعَهْدِ لِوُجُودِهِ بِدَايَةٌ فَيَحْتَاجُ إِلَى مُوجِدٍ أَوْجَدَهُ وَخَالِقٍ أَبْدَعَهُ فَيَكُونُ مُحْدَثًا مَخْلُوقًا مُحْتَاجًا إِلَى خَالِقٍ خَلَقَهُ وَأَمَّا (لَفْظُ الْقَدِيمِ وَالأَزَلِىِّ إِذَا أُطْلِقَا عَلَى اللَّهِ كَانَ الْمَعْنَى) فِى هَذِهِ الْحَالِ (أَنَّـهُ لا بِدَايَةَ لِوُجُودِهِ) سُبْحَانَهُ (فَيُقَالُ) عَلَى هَذَا الْمَعْنَى (اللَّهُ أَزَلِىٌّ اللَّهُ قَدِيمٌ وَإِذَا أُطْلِقَا عَلَى الْمَخْلُوقِ كَانَا بِمَعْنَى تَقَادُمِ الْعَهْدِ وَالزَّمَنِ) كَمَا (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِى الْقَمَرِ) فِى سُورَةِ يس (﴿حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ﴾) أَىْ كَعِذْقِ النَّخْلِ الَّذِى مَضَى عَلَيْهِ زَمَانٌ طَوِيلٌ فَيَبِسَ وَتَقَوَّسَ (وَقَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ) الْمُحِيطِ (الْفَيْرُوزَابَادِىُّ الْهَرَمَانِ بِنَاءَانِ أَزَلِيَّانِ) أَىْ مَضَى عَلَيْهِمَا زَمَانٌ طَوِيلٌ (بِمِصْرَ) اﻫ

(وَأَمَّا بُرْهَانُ قِدَمِهِ تَعَالَى فَهُوَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ قَدِيمًا لَلَزِمَ حُدُوثُهُ) فَيَكُونُ مُحْدَثًا مَخْلُوقًا (فَيَفْتَقِرُ إِلَى مُحْدِثٍ) وَهَذَا الْمُحْدِثُ كَذَلِكَ يَفْتَقِرُ إِلَى مُحْدِثٍ إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدِيمًا أَزَلِيًّا وَهَكَذَا (فَيَلْزَمُ الدَّوْرُ) أَىْ تَوَقُّفُ وُجُودِ الشَّىْءِ عَلَى مَا يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ قِيلَ زَيْدٌ أَوْجَدَهُ عَمْرٌو وَعَمْرٌو أَوْجَدَهُ زَيْدٌ فَهَذَا مَعْنَاهُ وَقْفُ وُجُودِ زَيْدٍ عَلَى وُجُودِ عَمْرٍو الْمُتَوَقِّفِ وُجُودُهُ عَلَى وُجُودِ زَيْدٍ وَهَذَا أَمْرٌ لا يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ لِأَنَّهُ يُؤَدِّى إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الشَّىْءَ مَخْلُوقٌ لِمَخْلُوقِهِ وَهُوَ يَقْتَضِى أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الشَّىْءُ قَبْلَ نَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ خَالِقِيَّتِهِ وَبَعْدَ نَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ مَخْلُوقِيَّتِهِ (أَوْ) يَلْزَمُ (التَّسَلْسُلُ) وَهُوَ تَوَقُّفُ وُجُودِ شَىْءٍ عَلَى شَىْءٍ قَبْلَهُ يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلَى شَىْءٍ قَبْلَهُ وَهَكَذَا إِلَى غَيْرِ ابْتِدَاءٍ وَهَذَا لا يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ أَيْضًا لِأَنَّ وُجُودَ الْحَادِثِ الْحَالِىِّ عَلَى مُقْتَضَى هَذَا الْقَوْلِ لا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ انْتِهَاءِ الْحَوَادِثِ الَّتِى قَبْلَهُ الَّتِى لا نِهَايَةَ لِعَدَدِهَا وَانْتِهَاءُ مَا لا نِهَايَةَ لَهُ مُسْتَحِيلٌ مِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ شَخْصٌ لِآخَرَ لا أُعْطِيكَ دِرْهَمًا حَتَّى أُعْطِيَكَ قَبْلَهُ دِرْهَمًا وَهَكَذَا لا إِلَى أَوَّلٍ فَإِنَّهُ لا يَحْصُلُ عَلَى الدِّرْهَمِ الْمَوْعُودِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ (وَ)إِذَا كَانَ (كُلٌّ مِنْهُمَا) بَاطِلاً وَثَبَتَ أَنَّهُ (مُحَالٌ) تَبَيَّنَ بُطْلانُ مَا يَقْتَضِيهِمَا وَهُوَ حُدُوثُ ذَاتِهِ عَزَّ وَجَلَّ (فَثَبَتَ أَنَّ حُدُوثَهُ تَعَالَى مُحَالٌ وَقِدَمَهُ ثَابِتٌ).


الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ (الْبَقَاءُ)


وَهِىَ مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِى عِنْدَ الإِمَامِ أَبِى الْحَسَنِ وَجَرَتْ عَادَةُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الأَشَاعِرَةِ بِعَدِّهَا مِنَ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ فَيَكُونُ مَعْنَاهَا عِنْدَهُمُ انْتِفَاءَ الْفَنَاءِ عَنْهُ سُبْحَانَهُ فَيَقُولُونَ (يَجِبُ الْبَقَاءُ لِلَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى أَنَّهُ لا يَلْحَقُهُ فَنَاءٌ لِأَنَّهُ لَـمَّا ثَبَتَ وُجُوبُ قِدَمِهِ تَعَالَى عَقْلًا وَجَبَ لَهُ الْبَقَاءُ لِأَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ أَنْ يَلْحَقَهُ الْعَدَمُ) لَكَانَ وُجُودُهُ جَائِزًا لا وَاجِبًا وَلَاحْتَاجَ إِلَى مُخَصِّصٍ يُخَصِّصُهُ بِالْوُجُودِ وَيُرَجِّحُ وُجُودَهُ عَلَى عَدَمِهِ وَلَكَانَ بِذَلِكَ حَادِثًا وَ(لَانْتَفَى عَنْهُ الْقِدَمُ، فَهُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْبَاقِى لِذَاتِهِ) وَ(لا بَاقِىَ لِذَاتِهِ غَيْرُهُ وَأَمَّا الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَبَقَاؤُهُمَا لَيْسَ بِالذَّاتِ بَلْ لِأَنَّ اللَّهَ شَاءَ لَهُمَا الْبَقَاءَ) أَىْ فَبَقَاؤُهُمَا لَيْسَ كَبَقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى (فَالْجَنَّةُ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهَا يَجُوزُ عَلَيْهَا الْفَنَاءُ وَكَذَلِكَ النَّارُ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهَا يَجُوزُ عَلَيْهَا الْفَنَاءُ) فَهُمَا بَاقِيَتَانِ بِإِبْقَاءِ اللَّهِ لَهُمَا فَبَقَاءُ اللَّهِ ذَاتِىٌّ وَبَقَاؤُهُمَا بِغَيْرِهِمَا فَبَطَلَ بِذَلِكَ مَا يُورِدُهُ بَعْضُ الْمَلاحِدَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ إِنَّهُ لا يَجُوزُ وَصْفُ اللَّهِ بِالْبَقَاءِ إِذْ لَوِ اتَّصَفَ بِذَلِكَ لَكَانَ بَاقِيًا وَلَكَانَتِ الْجَنَّةُ بَاقِيَةً وَالنَّارُ بَاقِيَةً فَثَبَتَتِ الْمُشَابَهَةُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَهُمَا وَالْجَوَابُ أَنَّ الْبَقَاءَ إِذَا أُطْلِقَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لا يُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى الَّذِى يُرَادُ عِنْدِ إِطْلاقِ الْبَقَاءِ عَلَى الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ فَانْتَفَتِ الْمُشَابَهَةُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْمُوَافَقَةُ فِى اللَّفْظِ وَهِىَ لا تُوجِبُ اشْتِرَاكًا وَلا مُمَاثَلةً. ثُمَّ إِنَّ الْبَقَاءَ الَّذِى هُوَ نَعْتُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مَعْنَاهُ مُرُورُ زَمَانٍ بَعْدَ زَمَانٍ عَلَيْهِمَا وَهَكَذَا لا إِلَى ءَاخِرٍ وَأَمَّا بَقَاءُ اللَّهِ تَعَالَى فَلَيْسَ بِمُرُورِ زَمَانٍ قَطْعًا. وَالدَّلِيلُ مِنَ الْمَنْقُولِ عَلَى اتِّصَافِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْبَقَاءِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ فِى سُورَةِ الرَّحْمٰنِ ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾ فَالْوَجْهُ هُنَا يَتَعَيَّنُ تَفْسِيرُهُ بِالذَّاتِ وَلا يَصِحُّ تَفْسِيرُهُ بِالصِّفَةِ لِأَنَّ الذَّاتَ هُوَ الَّذِى يُوصَفُ بِذِى الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ لا الصِّفَةَ فَيَكُونُ الْمَعْنَى وَيَبْقَى ذَاتُ رَبِّكَ.


الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ (السَّمْعُ)


(وَهُوَ صِفَةٌ أزَليَّةٌ ثَابِتَةٌ لِذَاتِ اللَّهِ) يَنْكَشِفُ بِهَا كُلُّ مَوْجُودٍ عَلَى مَا هُوَ بِهِ انْكِشَافًا لَيْسَ هُوَ انْكِشَافَ الْبَصَرِ وَالْعِلْمِ كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ شَرْحِ الْمُقَدِّمَاتِ وَغَيْرُهُ فَهُوَ عَلَى هَذَا التَّعْرِيفِ مُتَعَلِّقٌ بِكُلِّ مَوْجُودٍ أَىْ بِالذَّوَاتِ وَصِفَاتِهَا وَقَالَ ءَاخَرُونَ كَالسَّعْدِ إِنَّ السَّمْعَ صِفَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْمَسْمُوعَاتِ (فَهُوَ) تَعَالَى (يَسْمَعُ الأَصْوَاتَ بِسَمْعٍ أَزَلِىٍّ أَبَدِىٍّ لا كَسَمْعِنَا لَيْسَ بِأُذُنٍ وَصِمَاخٍ فَهُو تَعَالَى لا يَعْزُبُ أَىْ لا يَغِيبُ عَنْ سَمْعِهِ مَسْمُوعٌ وَإِنْ خَفِىَ أَىْ عَلَيْنَا وَبَعُدَ أَىْ عَنَّا كَمَا يَعْلَمُ بِغَيْرِ قَلْبٍ) وَلا يَلْزَمُ مِنْ قِدَمِ سَمْعِهِ عَزَّ وَجَلَّ قِدَمُ الْمَسْمُوعِ كَمَا لا يَلْزَمُ مِنْ قِدَمِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ قِدَمُ الْمَعْلُومَاتِ وَالْمَقْدُورَاتِ. (وَدَلِيلُ وُجُوبِ السَّمْعِ لَهُ عَقْلًا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِالسَّمْعِ لَكَانَ مُتَّصِفًا بِالصَّمَمِ وَهُوَ نَقْصٌ عَلَى اللَّهِ وَالنَّقْصُ عَلَيْهِ مُحَالٌ) قَالَهُ الأَشْعَرِىُّ فِى اللُّمَعِ.

وَوَقَعَ مِنْ بَعْضِ مَنْ لَمْ يَتَعَلَّمِ التَّنْزِيهَ بَلِ اقْتَصَرَ عَلَى حِفْظِ الْقُرْءَانِ وَتَعَلُّمِ قِرَاءَاتِه مِنْ غَيْرِ تَلَقٍّ لِلْفَرْضِ الْعَيْنِىِّ مِنْ عِلْمِ الدِّينِ تَفَهُّمًا مِنْ أَفْوَاهِ الْعُلَمَاءِ أَنْ حَرَّفَ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِى رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِى سُنَنِهِ لَلَّهُ أَشَدُّ أَذَنًا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالذَّالِ أَىْ أَشَدُّ اسْتِمَاعًا فَزَعَمَ أَنَّ لَفْظَهُ لَلَّهُ أَشَدُّ ءَاذَانًا بِمَدِّ الْهَمْزَةِ وَالذَّالِ فَاعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَهُ أُذُنٌ وَنَسَبَ إِلَيْهِ الْجَارِحَةَ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا تَشْبِيهٌ مَحْضٌ (فَمَنْ قَالَ إِنَّهُ) تَعَالَى (يَسْمَعُ بِأُذُنٍ فَقَدْ أَلْحَدَ وَكَفَرَ).


الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ (الْبَصَرُ)


(يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى عَقْلًا) وَشَرْعًا (الْبَصَرُ أَىِ الرُّؤْيَةُ) وَهُوَ صِفَةُ مَعْنًى قَدِيمَةٌ يَنْكَشِفُ لَهُ تَعَالَى بِهَا كُلُّ مَوْجُودٍ عَلَى مَا هُوَ بِهِ انْكِشَافًا لَيْسَ هُوَ انْكِشَافَ السَّمْعِ وَالْعِلْمِ فَعَلَى هَذَا هِىَ مُتَعَلِّقَةٌ بِكُلِّ مَوْجُودٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ كَالسَّعْدِ هِىَ صِفَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْمُبْصَرَاتِ فَتُدْرَكُ إِدْرَاكًا تَامًّا لا عَلَى سَبِيلِ التَّخَيُّلِ أَوِ التَّوَهُّمِ وَلا عَلَى طَرِيقِ تَأَثُّرِ حَاسَّةٍ وَوُصُولِ ضَوْءٍ (فَهُوَ) سُبْحَانَهُ (يَرَى بِرُؤْيةٍ أَزَلِيَّةٍ أَبَدِيَّةٍ الْمَرْئِيَّاتِ جَمِيْعَهَا فَيَرَى ذَاتَهُ بِغَيْرِ حَدَقَةٍ وَجَارِحَةٍ لِأَنَّ الْحَوَاسَّ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ). وَلا يَلْزَمُ مِنْ قِدَمِ الْبَصَرِ قِدَمُ الْمُبْصَرَاتِ كُلِّهَا عَلَى وِزَانِ مَا تَقَدَّمَ فِى السَّمْعِ. وَالرَّاجِحُ مِنَ التَّعْرِيفَيْنِ الأَوَّلُ أَىْ أَنَّ الْبَصَرَ يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ مَوْجُودٍ.

(وَالدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِ الْبَصَرِ لَهُ عَقْلًا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ بَصِيرًا رَائِيًا لَكَانَ أَعْمَى وَالْعَمَى أَىْ عَدَمُ الرُّؤْيَةِ نَقْصٌ عَلَى اللَّهِ وَالنَّقْصُ عَلَيْهِ مُسْتَحِيلٌ) قَالَهُ الأَشْعَرِىُّ فِى اللُّمَعِ (وَدَلِيلُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ السَّمْعِىُّ الآيَاتُ وَالأَحَادِيثُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الشُّورَى (﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾) وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِى سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ﴾ وَقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِى سُورَةِ طَهَ ﴿إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ وَفِى سُورَةِ النِّسَاءِ ﴿وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ (وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِى تَعْدَادِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وَهُوَ فِى حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِىُّ) فِى كِتَابِ الدَّعَوَاتِ مِنْ سُنَنِهِ (وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ) كَمَا فِى كِتَابِ الرَّقَائِقِ مِنَ الإِحْسَانِ.


الصِّفَةُ السَّادِسَةُ (الْكَلامُ)


(الْكَلامُ هُوَ صِفَةٌ) ذَاتِيَّةٌ مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِى (أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ هُوَ) تَعَالَى (مُتَكَلِّمٌ بِهَا ءَامِرٌ نَاهٍ وَاعِدٌ مُتَوَعِّدٌ لَيْسَ كَكَلامِ غَيْرِهِ بَلْ) هُوَ وَاحِدٌ مُنَزَّهٌ عَنِ التَّعَدُّدِ وَالتَّعَاقُبِ وَالتَّأْلِيفِ وَالتَّقَطُّعِ وَتَقْدِيمِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ وَتَأْخِيرِهِ فَهُوَ (أَزَلِىٌّ بِأَزَليَّةِ الذَّاتِ) إِذْ لَوْ كَانَ حَادِثًا لَكَانَ الذَّاتُ حَادِثًا لِاسْتِحَالَةِ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِالْقَدِيمِ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فَهُوَ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى (لا يُشْبِهُ كَلامَ الْخَلْقِ وَلَيْسَ بِصَوْتٍ يَحْدُثُ مِنَ انْسِلالِ الْهَوَاءِ أَوِ اصْطِكَاكِ الأَجْرَامِ وَلا بِحَرْفٍ يَنْقَطِعُ بِإِطْبَاقِ شَفَةٍ أَوْ) يَحْدُثُ بِسَبَبِ (تَحْرِيكِ لِسَانٍ). وَالدَّلِيلُ الْعَقْلِىُّ عَلَى وُجُوبِ الْكَلامِ لَهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا لَكَانَ أَخْرَسَ وَهُوَ صِفَةُ نَقْصٍ لا تَلِيقُ بِاللَّهِ قَالَهُ الأَشْعَرِىُّ فِى اللُّمَعِ.

هَذَا قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ نَصَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى (وَ)قَالَ الْمُعْتَزِلَةُ اللَّهُ مُتَكَلِّمٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ خَالِقٌ لِلْكَلامِ فِى غَيْرِهِ وَهَذَا بَاطِلٌ إِذْ لا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْكَلامُ قَائِمًا بِغَيْرِهِ ثُمَّ يَكُونُ هُوَ مُتَكَلِّمًا بِهِ دُونَ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يُسَمَّى اللَّهُ مُصَوِّتًا لِأَنَّهُ خَلَقَ الأَصْوَاتَ فِى غَيْرِهِ وَنَائِمًا لِأَنَّهُ خَلَقَ النَّوْمَ فِى غَيْرِهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لا يُشَكُّ فِى بُطْلانِهِ وَيَلْزَمُهُمْ إِذْ قَالُوا ذَلِكَ وَزَعَمُوا بِنَاءً عَلَيْهِ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ يَسْمَعْ كَلامَ اللَّهِ الذَّاتِىَّ بَلْ سَمِعَ كَلامًا مَخْلُوقًا فِى شَجَرَةٍ أَنْ تَكُونَ الشَّجَرَةُ قَدْ كَلَّمَتْ سَيِّدَنَا مُوسَى وَقَالَتْ إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا وَهَذَا مِمَّا يُقْطَعُ بِفَسَادِهِ كَيْفَ وَقَدْ أَسْنَدَ اللَّهُ تَعَالَى الْكَلامَ إِلَى نَفْسِهِ وَأَكَّدَهُ بِالْمَصْدَرِ فَقَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ النِّسَاءِ ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ وَالتَّأْكِيدُ بِالْمَصْدَرِ يُفِيدُ نَفْىَ الْمَجَازِ وَقَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ الأَعْرَافِ ﴿إِنِّى اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِى وَبِكَلامِى﴾ بَلْ (نَعْتَقِدُ أَنَّ مُوسَى) عَلَيْهِ السَّلامُ (سَمِعَ كَلامَ اللَّهِ الأَزَلِىَّ) الْوَاحِدَ (بِغَيْرِ حَرْفٍ وَلا صَوْتٍ كَمَا يَرَى الْمُؤْمِنُونَ ذَاتَ اللَّهِ فِى الآخِرَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ جَوْهَرًا وَلا عَرَضًا لِأَنَّ الْعَقْلَ لا يُحِيلُ سَمَاعَ مَا لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلا صَوْتٍ وَ)إِنْ كُنَّا لا نَسْتَطِيعُ تَصَوُّرَ ذَلِكَ وَتَخَيُّلَهُ إِذْ إِنَّنَا عَاجِزُونَ عَنْ إِدْرَاكِ حَقِيقَةِ صِفَاتِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ كَعَجْزِنَا عَنْ إِدْرَاكِ ذَاتِهِ عَزَّ وَجَلَّ.

فَإِنْ قُلْتَ إِذًا (كَلامُهُ تَعَالَى) عَلَى الْحَقِيقَةِ هُوَ الْمَعْنَى (الذَّاتِىُّ) الْقَائِمُ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِى (لَيْسَ حُرُوفًا مُتَعَاقِبَةً كَكَلامِنَا) فَهَلْ يُطْلَقُ كَلامُ اللَّهِ أَيْضًا عَلَى اللَّفْظِ الْمُنَزَّلِ عَلَى النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَإِذَا قَرَأَ الْقَارِئُ مِنَّا) هَذَا الْكَلامَ الْمُنَزَّلَ هَلْ يُقَالُ إِنَّهُ قَرَأَ (كَلامَ اللَّهِ) مَعَ أَنَّ جَوَارِحَهُ مَخْلُوقَةٌ وَأَلْفَاظَهُ حَادِثَةٌ (فَقِرَاءَتُهُ حَرْفٌ وَصَوْتٌ) وَ(لَيْسَتْ أَزَلِيَّةً) الْجَوَابُ نَعَمْ يُطْلَقُ عَلَى اللَّفْظِ الْمُنَزَّلِ كَلامُ اللَّهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَإِنَّ َكَلامَ اللَّهِ لَهُ إِطْلاقَانِ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْكَلامُ الذَّاتِىُّ الَّذِى هُوَ صِفَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ اللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَقَدْ نُقِلَ هَذَا التَّفْصِيلُ) أَىْ أَنَّ كَلامَ اللَّهِ يُطْلَقُ عَلَى الصِّفَةِ الْقَائِمَةِ بِهِ تَعَالَى الَّتِى لَيْسَتْ حَرْفًا وَلا صَوْتًا (عَنِ) الإِمَامِ (أَبِى حَنِيفَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ مِنْ) رُؤُوسِ (السَّلَفِ) فَإِنَّهُ (أَدْرَكَ شَيْئًا مِنَ الْمِائَةِ الأُولَى) إِذْ وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانِينَ (ثُمَّ تُوُفِّىَ سَنَةَ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ هِجْرِيَّةً) فَإِنَّهُ (قَالَ وَاللَّهُ يَتَكَلَّمُ لا بِآلَةٍ وَحَرْفٍ وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ بِآلَةٍ وَحَرْفٍ) وَنَصُّ كَلامِهِ وَيَتَكَلَّمُ لا كَكَلامِنَا نَحْنُ نَتَكَلَّمُ بِالآلاتِ مِنَ الْمَخَارِجِ وَالْحُرُوفِ وَاللَّهُ مُتَكَلِّمٌ بِلا ءَالَةٍ وَلا حَرْفٍ اﻫ (فَلْيُفْهَمْ ذَلِكَ. وَلَيْسَ الأَمْرُ كَمَا تَقُولُ الْمُشَبِّهَةُ بِأَنَّ السَّلَفَ مَا كَانُوا يَقُولُونَ بِأَنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ بِكَلامٍ لَيْسَ بِحَرْفٍ وَإِنَّمَا هَذَا بِدْعَةُ الأَشَاعِرَةِ) وَمُرَادُهُمْ بِهَذَا صَرْفُ النَّاسِ عَنِ التَّنْزِيهِ إِلَى اعْتِقَادِهِمُ الْبَاطِلِ الَّذِى لا يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ إِذْ زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِأَصْوَاتٍ وَحُرُوفٍ تَقُومُ بِذَاتِهِ سُبْحَانَهُ فَجَعَلُوا الْحُرُوفَ الْحَادِثَةَ الَّتِى يَبْدَأُ بَعْضُهَا بَعْدَ انْتِهَاءِ الْبَعْضِ الآخَرِ وَيَنْتَهِى بَعْضُهَا قَبْلَ ابْتِدَاءِ الْبَعْضِ الآخَرِ قَائِمَةً بِذَاتِ اللَّهِ الأَزَلِىِّ وَزَعَمُوا مَعَ ذَلِكَ أَنَّهَا قَدِيمَةٌ لا ابْتِدَاءَ لَهَا مَعَ أَنَّ حُدُوثَهَا مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالْحِسِّ فَخَرَجُوا عَنْ دَائِرَةِ الْعَقْلِ وَرُبَّمَا زَادَ بَعْضُهُمْ عَلَى هَذِهِ الشَّنَاعَةِ شَنَاعَةً أُخْرَى فَقَالَ بِأَنَّ الْمِدَادَ إِذَا كُتِبَ بِهِ حُرُوفُ الْقُرْءَانِ صَارَ قَدِيمًا لا بِدَايَةَ لَهُ وَلَيْسَ هَذَا إِلَّا جُنُونًا وَمُضَاهَاةً لِلنَّصَارَى فِى قَوْلِهِمْ بِاتِّحَادِ الْقَدِيمِ وَالْحَادِثِ أَعَاذَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ فَسَادِ الْعَقْلِ وَالشُّذُوذِ فِى الِاعْتِقَادِ.

(وَهَذَا الْكَلامُ مِنَ) الإِمَامِ (أَبِى حَنِيفَةَ) عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ وَالرِّضْوَانُ (ثَابِتٌ) عَنْهُ (ذَكَرَهُ فِى) رِسَالَةِ الْفِقْهِ الأَكْبَرِ لَهُ وَهِىَ (إِحْدَى رَسَائِلِهِ الْخَمْسِ) الَّتِى صَحَّتْ نِسْبَتُهَا إِلَيْهِ كَمَا قَالَ الْمُحَدِّثُ الْحَافِظُ اللُّغَوِىُّ الْفَقِيهُ الْحَنَفِىُّ مُحَمَّدُ مُرْتَضَى الزَّبِيدِىُّ فِى شَرْحِهِ عَلَى إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ.

(وَ)لِزِيَادَةِ إِيضَاحِ هَذِهِ الْمَسْئَلَةِ نَقُولُ (الْقُرْءَانُ لَهُ إِطْلاقَانِ يُطْلَقُ عَلَى اللَّفْظِ الْمُنْـزَّلِ عَلَى) سَيِّدِنَا (مُحَمَّدٍ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِى قَوْلِهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الإِسْرَاءِ ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ﴾ الآيَةَ وَكَمَا فِى قَوْلِكَ قَرَأْتُ رُبُعَ الْقُرْءَانِ أَوْ نِصْفَهُ (وَ)يُطْلَقُ (عَلَى الْكَلامِ الذَّاتِىِّ الأَزَلِىِّ الَّذِى لَيْسَ هُوَ بِحَرْفٍ وَلا صَوْتٍ وَلا لُغَةٍ عَرَبِيَّةٍ وَلا غَيْرِهَا) وَهُوَ بِهَذَا الإِطْلاقِ بِمَعْنَى الْقَوْلِ الْقَائِمِ بِذَاتِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهُوَ الَّذِى يُرِيدُهُ عُلَمَاءُ أَهْلِ السُّنَّةِ بِقَوْلِهِمُ الْقُرْءَانُ كَلامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ (فَإِنْ قُصِدَ بِهِ) أَىِ بِالْقُرْءَانِ وَكَذَا بِالإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالتَّوْرَاةِ (الْكَلامُ الذَّاتِىُّ فَهُوَ أَزَلِىٌّ لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلا صَوْتٍ وَإِنْ قُصِدَ بِهِ وَبِسَائِرِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ اللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ فَمِنْهُ مَا هُوَ بِاللُّغَةِ الْعِبْرِيَّةِ) كَالتَّوْرَاةِ وَالزَّبُورِ (وَمِنْهُ مَا هُوَ بِاللُّغَةِ السُّرْيَانِيَّةِ) كَالإِنْجِيلِ وَمِنْهُ مَا هُوَ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَىِ الْقُرْءَانُ (وَهَذِهِ اللُّغَاتُ وَغَيْرُهَا مِنَ اللُّغَاتِ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً فَخَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَصَارَتْ مَوْجُودَةً وَاللَّهُ تَعَالَى كَانَ قَبْلَ كُلِّ شَىْءٍ وَكَانَ مُتَكَلِّمًا قَبْلَهَا وَلَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا وَ)لِذَلِكَ لا يَقْبَلُ الْعَقْلُ أَنْ يَكُونَ (كَلامُهُ الَّذِى هُوَ صِفَتُهُ) الْقَدِيمَةُ الأَزَلِيَّةُ بِلُغَةٍ مِنْ هَذِهِ اللُّغَاتِ الْمَخْلُوقَةِ الْحَادِثَةِ بَلْ هُوَ مَعْنًى قَدِيمٌ قَائِمٌ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ (أَزَلِىٌّ أَبَدِىٌّ وَهُوَ كَلامٌ وَاحِدٌ) لا يُوصَفُ بِأَنَّهُ مُتَعَدِّدٌ وَلا بِأَنَّ فِيهِ تَقْدِيمًا أَوْ تَأْخِيرًا (وَهَذِهِ الْكُتُبُ الْمُنْزَلَةُ) الْمُرَكَّبَةُ مِنْ أَلْفَاظٍ تَتَعَاقَبُ وَحُرُوفٍ تَتَوَالَى فَيَسْبِقُ بَعُضُهَا بَعْضًا وَيَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا (كُلُّهَا عِبَارَاتٌ عَنْ ذَلِكَ الْكَلامِ الذَّاتِىِّ الأَزَلِىِّ الأَبَدِىِّ) تَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَيْسَتْ عَيْنَهُ (وَلا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْعِبَارَةِ حَادِثَةً كَوْنُ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ حَادِثًا أَلا تَرَى أَنَّنَا إِذَا كَتَبْنَا عَلَى لَوْحٍ أَوْ جِدَارٍ) لَفْظَ (اللَّهِ فَقِيلَ هَذَا اللَّهُ فَهَلْ مَعْنَى هَذَا أَنَّ أَشْكَالَ الْحُرُوفِ الْمَرْسُومَةَ هِىَ ذَاتُ اللَّهِ) الْمَعْبُودُ (لا يَتَوَهَّمُ هَذَا عَاقِلٌ) وَ(إِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ عِبَارَةٌ عَنِ الإِلَهِ الَّذِى هُوَ مَوْجُودٌ مَعْبُودٌ خَالِقٌ لِكُلِّ شَىْءٍ) وَتَدُلُّ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ اللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَلامِ اللَّهِ الذَّاتِىِّ الأَزَلِىِّ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ (وَمَعَ هَذَا لا يُقَالُ الْقُرْءَانُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مَخْلُوقٌ) لِأَنَّ هَذَا الإِطْلاقَ يُوهِمُ أَنَّ صِفَةَ الْكَلامِ الأَزَلِيَّةَ مَخْلُوقَةٌ لا سِيَّمَا وَقَدْ ذَهَبَ عِدَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ لَفْظَ الْقُرْءَانِ إِذَا أُطْلِقَ يَنْصَرِفُ إِلَى الصِّفَةِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِ اللَّهِ (لَكِنْ يُبَيَّنُ فِى مَقَامِ التَّعْلِيمِ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُنَزَّلَ لَيْسَ قَائِمًا بِذَاتِ اللَّهِ بَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ لِأَنَّهُ حُرُوفٌ يَسْبِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَمَا كَانَ كَذَلِكَ) فَهُوَ (حَادِثٌ مَخْلُوقٌ قَطْعًا لَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ تَصْنِيفِ مَلَكٍ وَلا بَشَرٍ فَهُوَ) كَمَا قَدَّمْنَا (عِبَارَةٌ عَنِ الْكَلامِ الذَاتِىِّ الَّذِى لا يُوصَفُ بِأَنَّهُ عَرَبِىٌّ وَلا بِأَنَّهُ عِبْرَانِىٌّ وَلا بِأَنَّهُ سُرْيَانِىٌّ وَكُلٌّ يُطْلَقُ عَلَيْهِ كَلامُ اللَّهِ أَىْ أَنَّ صِفَةَ الْكَلامِ الْقَائِمَةَ بِذَاتِ اللَّهِ يُقَالُ لَهَا كَلامُ اللَّهِ، وَاللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ الَّذِى هُوَ عِبَارَةٌ عَنْهُ يُقَالُ لَهُ كَلامُ اللَّهِ وَالإِطْلاقَانِ مِنْ بَابِ الْحَقِيقَةِ) لا الْمَجَازِ (لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ إِمَّا لُغَوِيَّةٌ وَإِمَّا شَرْعِيَّةٌ وَإِمَّا عُرْفِيَّةٌ) فَالْحَقِيقَةُ اللُّغَوِيَّةُ هِىَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِى الْمَعْنَى الَّذِى وُضِعَ بِإِزَائِهِ فِى أَصْلِ اللُّغَةِ وَالْحَقِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ هِىَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِى الْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ عِنْدَ حَمَلَةِ الشَّرْعِ وَالْحَقِيقَةُ الْعُرْفِيَّةُ هِىَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِى الْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ فِى الْعُرْفِ وَإِطْلاقُ الْقُرْءَانِ عَلَى الصِّفَةِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِ اللَّهِ حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ وَشَرْعِيَّةٌ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ حَقِيقَةً عَقْلِيَّةً (وَإِطْلاقُ الْقُرْءَانِ عَلَى اللَّفْظِ الْمُنَزَّلِ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ فَلْيُعْلَمْ ذَلِكَ. وَتَقْرِيبُ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ) وَكَرَّرَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ لِتَأْكِيدِ تَقْرِيرِ الْمَعْنَى عِنْدَ الْمُطَالِعِ (أَنَّ لَفْظَ الْجَلالَةِ اللَّه عِبَارَةٌ عَنْ ذَاتٍ أَزَلِىٍّ أَبَدِىٍّ، فَإِذَا قُلْنَا نَعْبُدُ اللَّهَ فَذَلِكَ الذَّاتُ هُوَ الْمَقْصُودُ وَإِذَا كُتِبَ هَذَا اللَّفْظُ فَقِيلَ مَا هَذَا يُقَالُ اللَّهُ بِمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الذَّاتِ الأَزَلِىِّ الأَبَدِىِّ لا بِمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ هِىَ الذَّاتُ الَّذِى نَعْبُدُهُ) وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ التَّكْوِيرِ ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ فَإِنَّ الْمُرَادَ هُنَا مَقْرُوءُ جِبْرِيلَ وَلَوْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ عَيْنَ كَلامِ اللَّهِ الذَّاتِىِّ لَمْ يَقُلِ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّهُ قَوْلُ جِبْرِيلَ الْمُرَادِ بِالرَّسُولِ الْكَرِيمِ فِى هَذِهِ الآيَةِ بِاتِّفَاقِ الْمُفَسِّرِينَ.


الصِّفَةُ السَّابِعَةُ (الإِرَادَةُ)


(اعْلَمْ أَنَّ الإِرَادَةَ وَهِىَ الْمَشِيئَةُ وَاجِبَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَهِىَ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ) مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِى قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّهِ أَىْ ثَابِتَةٌ لَهُ (يُخَصِّصُ اللَّهُ) تَعَالَى (بِهَا الْجَائِزَ) أَىِ الْمُمْكِنَ (الْعَقْلِىَّ بِالْوُجُودِ بَدَلَ الْعَدَمِ) الَّذِى كَانَ جَائِزًا بَقَاؤُهُ عَلَيْهِ (وَبِصِفَةٍ دُونَ أُخْرَى) وَبِمَكَانٍ دُونَ ءَاخَرَ (وَبِوَقْتٍ دُونَ ءَاخَرَ. وَبُرْهَانُ وُجُوبِ الإِرَادَةِ لِلَّهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا لَمْ يُوجَدْ شَىْءٌ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ لِأَنَّ الْعَالَمَ مُمْكِنُ الْوُجُودِ فَوُجُودُهُ لَيْسَ وَاجِبًا لِذَاتِهِ عَقْلًا وَالْعَالَمُ مَوْجُودٌ فَعَلِمْنَا أَنَّهُ مَا وُجِدَ إِلَّا بِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ لِوُجُودِهِ وَتَرْجِيحِهِ لَهُ عَلَى عَدَمِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ مُرِيدٌ شَاءٍ) أَىْ مُتَّصِفٌ بِالإِرَادَةِ. (ثُمَّ الإِرَادَةُ بِمَعْنَى الْمَشِيئَةِ) لا الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَى (عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ شَامِلَةٌ لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ جَمِيعِهَا الْخَيْرِ مِنْهَا وَالشَّرِّ) إِذْ لَوِ اخْتَصَّتْ بِبَعْضِ الْمُمْكِنَاتِ لَاحْتَاجَتْ إِلَى الْمُخَصِّصِ وَلَزِمَ حُدُوثُهَا وَقَدْ قَامَ الْبُرْهَانُ عَلَى قِدَمِ صِفَاتِهِ تَعَالَى فَتَعَيَّنَ عُمُومُ إِرَادَتِهِ تَعَالَى فِى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا كَمَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِى سُورَةِ الأَنْعَامِ ﴿مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (فَكُلُّ مَا دَخَلَ فِى الْوُجُودِ مِنْ أَعْمَالِ الشَّرِّ وَالْخَيْرِ وَمِنْ كُفْرٍ أَوْ مَعَاصٍ أَوْ طَاعَةٍ فَبِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقَعَ وَحَصَلَ) كَمَا قَالَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ فِى سُورَةِ فَاطِرٍ ﴿يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ وَكَمَا قَالَ فِى سُورَةِ ءَالِ عِمْرَانَ ﴿تُؤْتِى الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾ (وَهَذَا كَمَالٌ فِى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ شُمُولَ الْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ لائِقٌ بِجَلالِ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يَقَعُ فِى مِلْكِهِ مَا لا يَشَاءُ لَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلَ الْعَجْزِ وَالْعَجْزُ مُسْتَحِيلٌ علَى اللَّهِ) وَادَّعَى الْمُعْتَزِلَةُ أَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ خَاصَّةٌ بِالْخَيْرِ دُونَ الشَّرِّ وَلا دَلِيلَ لَهُمْ عَلَى هَذِهِ الدَّعْوَى سِوَى التَّحَكُّمِ وَالتَّوَهُّمِ وَالتَّحْسِينِ بِالْعُقُولِ الْفَاسِدَةِ فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ إِرَادَةَ وُجُودِ الْعَمَلِ الْقَبِيحِ مِنَ اللَّهِ قَبِيحٌ وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وَمَا قَالُوهُ بَاطِلٌ فَإِنَّ اللَّهَ أَرَادَ وُجُودَ الذَّوَاتِ الْقَبِيحَةِ وَالْخَبِيثَةِ كَالْخَنَازِيرِ وَالْقِرَدَةِ وَالشَّيَاطِينِ وَلَيْسَ ذَلِكَ قَبِيحًا مِنْهُ تَعَالَى فَكَذَلِكَ إِرَادَةُ وُجُودِ قَبَائِحِ الأَفْعَالِ لَيْسَتْ قَبِيحَةً مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَيْتَ شِعْرِى مَاذَا يَصْنَعُونَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الآىِ وَبِالأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ اﻫ وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ اﻫ وَهِىَ كَلِمَةٌ أَجْمَعَتْ عَلَيْهَا الأُمَّةُ بِلا خِلافٍ.

وَلا تَتَعَلَّقُ الْمَشِيئَةُ بِالْوَاجِبِ الْعَقْلِىِّ وَلا بِالْمُسْتَحِيلِ الْعَقْلِىِّ إِذْ لَوْ تَعَلَّقَتْ بِالْوَاجِبِ لَكَانَ مُمْكِنًا لا وَاجِبًا وَلَوْ تَعَلَّقَتْ بِالْمُسْتَحِيلِ لَكَانَ جَائِزًا لا مُسْتَحِيلًا.

(وَالْمَشِيئَةُ تَابِعَةٌ لِلْعِلْمِ أَىْ أَنَّهُ مَا عَلِمَ) تَبَارَكَ وَتَعَالَى (حُدُوثَهُ فَقَدْ شَاءَ حُدُوثَهُ وَمَا عَلِمَ أَنَّهُ لا يَكُونُ لَمْ يَشَأْ أَنْ يَكُونَ. وَلَيْسَتِ الْمَشِيْئَةُ تَابِعَةً لِلأَمْرِ) كَمَا زَعَمَ الْمُعْتَزِلَةُ (بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ وَلَدِهِ إِسْمَاعِيلَ وَلَمْ يَشَأْ لَهُ ذَلِكَ) فَلَمْ يَقَعِ الذَّبْحُ وَلَوْ كَانَتِ الْمَشِيئَةُ تَابِعَةً لِلأَمْرِ لَوَقَعَ (فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَأْمُرُ بِمَا لَمْ يَشَأْ وُقُوعَهُ فَالْجَوَابُ أَنَّـهُ قَدْ يَأْمُرُ بِمَا لَمْ يَشَأْ) ابْتِلاءً لِلْعِبَادِ كَمَا ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِأَمْرِهِ بِذَبْحِ وَلَدِهِ فَظَهَرَ مَا عِنْدَ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلطَّاعَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْصُلَ الذَّبْحُ بَلْ فُدِىَ إِسْمَاعِيلُ بِالكَبْشِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ وَذَلِكَ (كَمَا أَنَّـهُ عَلِمَ) سُبْحَانَهُ (بِوُقُوعِ شَىْءٍ مِنَ الْعَبْدِ وَ)مَعَ ذَلِكَ (نَهَاهُ عَنْ فِعْلِهِ) وَقَدْ رُوِىَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِبَعْضِ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنْتَ الَّذِى تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُعْصَى فَقَالَ لَهُ وَيْحَكَ فَمَنْ حَالَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ مَا أَرَادَ اﻫ


الصِّفَةُ الثَّامِنَةُ (القُدْرَةُ)


(يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى الْقُدْرَةُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ) وَهِىَ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِى قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا يُوجِدُ اللَّهُ وَيُعْدِمُ عَلَى وَفْقِ الإِرَادَةِ وَالدَّلِيلُ النَّقْلِىُّ عَلَى اتِّصَافِ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ فِى سُورَةِ التَّغَابُنِ ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾ (وَالْمُرَادُ بِالشَّىْءِ هُنَا الْجَائِزُ الْعَقْلِىُّ فَخَرَجَ بِذَلِكَ الْمُسْتَحِيلُ الْعَقْلِىُّ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَابِلٍ لِلْوُجُودِ فَلَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِتَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ، وَخَالَفَ فِى ذَلِكَ ابْنُ حَزْمٍ) فِى جُمْلَةِ مَا خَالَفَ فِيهِ بِسَبَبِ قُصُورِ عَقْلِهِ (فَقَالَ) فِى الْمُحَلَّى مِنْ كُتُبِهِ (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَادِرٌ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا، إِذْ لَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ لَكَانَ عَاجِزًا، وَهَذَا الَّذِى قَالَهُ غَيْرُ لازِمٍ لِأَنَّ اتِّخَاذَ الْوَلَدِ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ) أَىْ مُسْتَحِيلٌ عَقْلِىٌّ (وَالْمُحَالُ الْعَقْلِىُّ لا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقُدْرةِ) فَلا يُقَالُ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا وَلا يُقَالُ إِنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ ذَلِكَ بَلْ يُقَالُ هَذَا مُسْتَحِيلٌ عَقْلِىٌّ وَالْقُدْرَةُ لا تَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَحِيلِ وَذَلِكَ كَمَا أَنَّنَا لا نَقُولُ عَنِ الْحَجَرِ عَالِمٌ وَلا جَاهِلٌ بَلْ نَقُولُ الْحَجَرُ لا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْعِلْمِ وَلا بِالْجَهْلِ لِأَنَّ الْمُصَحِّحَ لِلِاتِّصَافِ بِالْعِلْمِ أَوْ بِالْجَهْلِ هُوَ الْحَيَاةُ وَالْحَجَرُ لَيْسَ حَيًّا فَظَهَرَ أَنَّهُ لا يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِنَا إِنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ لا تَتَعَلَّقُ بِاتِّخَاذِ الْوَلَدِ نِسْبَةُ عَجْزٍ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ (وَ)ذَلِكَ أَنَّ (عَدَمَ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِالشَّىْءِ تَارَةً يَكُونُ لِقُصُورِهَا عَنْهُ وَذَلِكَ) يَحْصُلُ (فِى الْمَخْلُوقِ وَتَارَةً يَكُونُ لِعَدَمِ قَبُولِ ذَلِكَ الشَّىْءِ الدُّخُولَ فِى الْوُجُودِ أَىْ حُدُوثَ الْوُجُودِ لِكَوْنِهِ مُسْتَحِيلًا عَقْلِيًّا أَوْ لِعَدَمِ قَبُولِ ذَلِكَ الشَّىْءِ الْعَدَمَ لِكَوْنِهِ وَاجِبًا عَقْلِيًّا) فَلا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْقُدْرَةُ لا إِيجَادًا وَلا إِعْدَامًا (وَالْعَجْزُ هُوَ الأَوَّلُ الْمَنْفِىُّ عَنْ قُدْرَتِهِ تَعَالَى لا الثَّانِى فَلا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ وَلا عَاجِزٌ قَالَ بَعْضُهُمْ كَمَا لا يُقَالُ عَنِ الْحَجَرِ عَالِمٌ وَلا جَاهِلٌ) وَقَدْ تَقَدَّمَ (وَكَذَلِكَ) أَىْ وَبِمِثْلِ ذَلِكَ (يُجَابُ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمُلْحِدِينَ هَلِ اللَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُ) فَيُقَالُ إِنَّ السُّؤَالَ خَطَأٌ (وَ)تَنَاقُضٌ فَإِنَّ (هَذَا) السُّؤَالَ (فِيهِ تَجْوِيزُ الْمُحَالِ الْعَقْلِىِّ) وَالْمُحَالُ لا يَكُونُ جَائِزًا (وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَزَلِىٌّ وَلَوْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ لَكَانَ) أَىِ الْمِثْلُ (أَزَلِيًّا) فَيَنْحَلُّ كَلامُ السَّائِلِ هَلْ يَخْلُقُ الأَزَلِىُّ أَزَلِيًّا مِثْلَهُ (وَ)لَكِنِ (الأَزَلِىُّ لا) يُقَالُ فِيهِ (يُخْلَقُ لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ) لَمْ يَسْبِقْهُ عَدَمٌ (فَكَيْفَ يُخْلَقُ الْمَوْجُودُ) فَتَبَيَّنَ أَنَّ السُّؤَالَ بَاطِلٌ وَدَالٌّ عَلَى سَخَافَةِ عَقْلِ سَائِلِهِ. (أَمَّا الْمُسْتَحِيلُ الْعَقْلِىُّ فَعَدَمُ قَبُولِهِ الدُّخُولَ فِى الْوُجُودِ) الَّذِى تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ (ظَاهِرٌ وَأَمَّا الْوَاجِبُ الْعَقْلِىُّ فَلا يَقْبَلُ حُدُوثَ الْوُجُودِ لِأَنَّ وُجُودَهُ أَزَلِىٌّ) لَمْ يَسْبِقْهُ عَدَمٌ فَكَيْفَ يَحْدُثُ وَ(فَرْقٌ بَيْنَ الْوُجُودِ وَبَيْنَ الدُّخُولِ فِى الْوُجُودِ فَالْوُجُودُ يَشْمَلُ الْوُجُودَ الأَزَلِىَّ وَالْوُجُودَ الْحَادِثَ) وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُسَمَّى وُجُودًا (أَمَّا الدُّخُولُ فِى الْوُجُودِ فَهُوَ الْوُجُودُ الْحَادِثُ) فَقَطْ (فَالْوَاجِبُ الْعَقْلِىُّ اللَّهُ وَصِفَاتُهُ فَاللَّهُ وَاجِبٌ عَقْلِىٌّ وُجُودُهُ أَزَلِىٌّ وَصِفَاتُهُ أَزَلِيَّةٌ وَ)لِذَلِكَ (لا يُقَالُ لِلَّهِ وَلا لِصِفَاتِهِ دَاخِلٌ فِى الْوُجُودِ لِأَنَّ وُجُودَهُمَا أَزَلِىٌّ فَقَوْلُنَا إِنَّ الْوَاجِبَ الْعَقْلِىَّ لا يَقْبَلُ الدُّخُولَ فِى الْوُجُودِ صَحِيحٌ لَكِنْ) قَدْ (يَقْصُرُ عَنْهُ أَفْهَامُ الْمُبْتَدِئِينَ فِى الْعَقِيدَةِ) إِنْ لَمْ يُشْرَحْ لَهُمُ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ (أَمَّا عِنْدَ مَنْ مَارَسَ فَهِىَ) عِبَارَةٌ (وَاضِحَةُ الْمُرَادِ) وَالدَّلِيلُ الْعَقْلِىُّ عَلَى وُجُوبِ الْقُدْرَةِ لِلَّهِ تَعَالَى هُوَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا لَكَانَ عَاجِزًا وَلَوْ كَانَ عَاجِزًا لَمْ يُوجَدْ شَىْءٌ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ لَكِنَّ الْمَخْلُوقَاتِ مَوْجُودَةٌ بِالْمُشَاهَدَةِ فَثَبَتَ اتِّصَافُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ التَّامَّةِ.


الصِّفَةُ التَّاسِعَةُ (الْعِلْمُ)


(اعْلَمْ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ قَدِيمٌ أَزَلِىٌّ كَمَا أَنَّ ذَاتَهُ) قَدِيمٌ (أَزَلِىٌّ فَلَمْ يَزَلْ عَالِمًا بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَا يُحْدِثُهُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ) لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا لَمَا كَانَ شَائِيًا وَلَمَا قَدَرَ عَلَى إِيجَادِ شَىْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ لِأَنَّ شَرْطَ التَّخْلِيقِ الْعِلْمُ كَمَا قَالَ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِى سُورَةِ الْمُلْكِ ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ وَعِلْمُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَاحِدٌ لا يَتَعَدَّدُ وَلا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَلا النُّقْصَانَ وَلَيْسَ كَعِلْمِ الْمَخْلُوقِينَ (فَلا يَتَّصِفُ) سُبْحَانَهُ (بِعِلْمٍ حَادِثٍ) عَرَضٍ كَعِلْمِنَا الَّذِى يَقُومُ بِأَجْسَادِنَا (لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ اتِّصَافُهُ بِالْحَوادِثِ لَانْتَفَى عَنْهُ الْقِدَمُ لِأَنَّ مَا كَانَ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا) كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَالدَّلِيلُ النَّقْلِىُّ عَلَى اتِّصَافِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعِلْمِ وَعَلَى شُمُولِ عِلْمِهِ عَزَّ وَجَلَّ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ فِى سُورَةِ الأَنْعَامِ ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ﴾ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ النِّسَاءِ ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطًا﴾ فَإِنَّ الإِحَاطَةَ الْمَقْصُودَةَ هُنَا هِىَ الإِحَاطَةُ بِالْعِلْمِ. وَعِلْمُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَعَمُّ مِنَ الإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ فَإِنَّ الإِرَادَةَ وَالْقُدْرَةَ تَتَعَلَّقَانِ بِالْمُمْكِنَاتِ الْعَقْلِيَّةِ أَمَّا عِلْمُهُ تَعَالَى فَيَتَعَلَّقُ بِالْوَاجِبِ الْعَقْلِىِّ وَالْمُسْتَحِيلِ الْعَقْلِىِّ وَالْمُمْكِنِ الْعَقْلِىِّ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ بِذَاتِهِ وَبِصِفَاتِهِ وَمَا يُحْدِثُهُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ عَالِمٌ بِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لا يَكُونُ أَنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ بِعِلْمٍ وَاحِدٍ أَزَلِىٍّ أَبَدِىٍّ لا يَتَغَيَّرُ وَلا يَتَطَوَّرُ وَلا يَزِيدُ وَلا يَنْقُصُ (وَمَا أَوْهَمَ تَجَدُّدَ الْعِلْمِ لِلَّهِ تَعَالَى مِنَ الآيَاتِ الْقُرْءَانِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الأَنْفَالِ (﴿الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا﴾ فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ ذَلِكَ) أَىْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ تَجَدُّدَ الْعِلْمِ أَىْ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ خَفَّفَ عَنْكُمُ الآنَ مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْكُمْ مِنْ مُقَاوَمَةِ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِأَضْعَافٍ كَثِيرةٍ مِنَ الْكُفَّارِ بِإِيجَابِ مُقَاوَمَةِ وَاحِدٍ لِاثْنَيْنِ مِنَ الْكُفَّارِ لِأَنَّهُ الآنَ عَلِمَ بِالضَّعْفِ الَّذِى فِيكُمْ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ التَّخْفِيفَ حَصَلَ الآنَ وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ الأَزَلِىِّ مَا فِيكُمْ مِنَ الضَّعْفِ (وَ)بِعِبَارَةٍ أُخْرَى نَقُولُ (قَوْلُهُ ﴿وَعَلِمَ﴾ لَيْسَ رَاجِعًا لِقَوْلِهِ ﴿الآنَ﴾ بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى خَفَّفَ عَنْكُمُ الآنَ لِأَنَّهُ عَلِمَ بِعِلْمِهِ السَّابِقِ فِى الأَزَلِ أَنَّهُ يَكُونُ) أَىْ يُوجَدُ (فِيكُمْ ضَعْفٌ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى) فِى سُورَةِ مُحَمَّدٍ (﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ﴾ مَعْنَاهُ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِالْقَتْلِ وَجِهَادِ أَعْدَاءِ اللَّهِ (حَتَّى نُمَيِّزَ أَىْ نُظْهِرَ لِلْخَلْقِ مَنْ يُجَاهِدُ وَيَصْبِرُ مِنْ غَيْرِهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَالِمًا قَبْلُ) أَىْ فِى الأَزَلِ قَبْلَ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ (كَمَا نَقَلَ الْبُخَارِىُّ ذَلِكَ) فِى كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ صَحِيحِهِ (عَنْ أَبِى عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بنِ الْمُثَنَّى) مِنْ فَطَاحِلِ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ (وَهَذَا شَبِيهٌ بِقَوْلِه تَعَالَى) فِى سُورَةِ الأَنْفَالِ (﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾) أَىْ لِيُظْهِرَ اللَّهُ لِعِبَادِهِ مَنْ هُوَ الْخَبِيثُ وَمَنْ هُوَ الطَّيِّبُ.


الصِّفَةُ الْعَاشِرَةُ (الْحَيَاةُ)


(يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى الْحَيَاةُ فَهُوَ حَىٌّ لا كَالأَحْيَاءِ إِذْ حَيَاتُهُ) صِفَةٌ (أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ) مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِى لا تُشْبِهُ حَيَاةَ الْمَخْلُوقِينَ وَ(لَيْسَتْ بِرُوحٍ) وَلَحْمٍ (وَدَمٍ. وَالدَّلِيلُ) الْعَقْلِىُّ (عَلَى وُجُوبِ حَيَاتِهِ وُجُودُ هَذَا الْعَالَمِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ حَيًّا لَمْ يُوجَدْ شَىْءٌ مِنَ الْعَالَمِ) لِأَنَّ وُجُودَهُ هُوَ بِإِيجَادِ خَالِقٍ عَالِمٍ مُرِيدٍ قَادِرٍ وَلا يَصِحُّ الِاتِّصَافُ بِالْعِلْمِ وَالإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ إِلَّا لِمَنْ اتَّصَفَ بِالْحَيَاةِ فَلِذَلِكَ قَالُوا لَوْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ تَعَالَى حَيًّا لَمَا وُجِدَ الْعَالَمُ (لَكِنَّ وُجُودَ الْعَالَمِ ثَابِتٌ بِالْحِسِّ وَالضَّرُورَةِ بِلا شَكٍّ) فَثَبَتَ اتِّصَافُهُ تَعَالَى بِالْحَيَاةِ. وَأَمَّا الْبُرْهَانُ النَّقْلِىُّ عَلَى اتِّصَافِ اللَّهِ تَعَالَى بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَنُصُوصٌ مِنْهَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِى ءَايَةِ الْكُرْسِىِّ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ﴾.


الصِّفَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ (الْوَحْدَانِيَّةُ)


وَ(مَعْنَى الْوَحْدَانِيَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ ذَاتًا مُؤَلَّفًا مِنْ أَجْزَاءٍ) فَهِىَ صِفَةٌ سَلْبِيَّةٌ مَعْنَاهَا انْتِفَاءُ التَّعَدُّدِ وَالتَّرْكِيبِ وَالشَّرِيكِ عَنْهُ سُبْحَانَهُ (فَلا يُوجَدُ ذَاتٌ مِثْلُ ذَاتِهِ وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ صِفَةٌ كَصِفَتِهِ أَوْ فِعْلٌ كَفِعْلِهِ) فَلَيْسَ ذَاتُهُ مُرَكَّبًا مِنْ أَجْزَاءٍ وَإِلَّا لَكَانَ جِسْمًا صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا كَسَائِرِ الأَجْسَامِ الْمُرَكَّبَةِ وَلَافْتَقَرَ إِلَى الْمُخَصِّصِ وَالْمَكَانِ وَالْمِقْدَارِ وَالتَّحَيُّزِ وَالْجِهَاتِ فَيَكُونُ حَادِثًا فَيَفْتَقِرُ إِلَى مُحْدِثٍ وَهَذَا مُحَالٌ وَهُوَ مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِنَفْىِ الْكَمِّ الْمُتَّصِلِ عَنْهُ سُبْحَانَهُ وَأَمَّا مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ نَفْىِ الْكَمِّ الْمُنْفَصِلِ فَهُوَ نَفْىُ النَّظِيرِ وَالشَّرِيكِ عَنْهُ سُبْحَانَهُ الَّذِى عَبَّرَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ فَلا يُوجَدُ ذَاتٌ مِثْلُ ذَاتِهِ. (وَ)ظَهَرَ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ أَنَّهُ (لَيْسَ الْمُرَادُ بوَحْدَانِيَّتِهِ وَحْدَانِيَّةَ الْعَدَدِ إِذِ الْوَاحِدُ فِى الْعَدَدِ لَهُ نِصْفٌ وَأَجْزَاءٌ أَيْضًا بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ لا شَبِيهَ لَهُ) كَمَا قَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَاللَّهُ وَاحِدٌ لا مِنْ طَرِيقِ الْعَدَدِ وَلَكِنْ مِنْ طَرِيقِ أَنَّهُ لا شَرِيكَ لَهُ.

(وَبُرْهَانُ وَحْدَانِيَّتِهِ هُوَ أَنَّهُ لا بُدَّ لِلصَّانِعِ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَيًّا قَادِرًا عَالِمًا مُرِيدًا مُخْتَارًا، فَإِذَا ثَبَتَ وَصْفُ الصَّانِعِ بِمَا ذَكَرنَاهُ قُلْنَا لَوْ كَانَ لِلْعَالَمِ صَانِعَانِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيًّا قَادِرًا عَالِمًا مُرِيدًا مُخْتَارًا وَالْمُخْتَارَانِ يَجُوزُ) اتِّفَاقُهُمَا وَ(اخْتِلافُهُمَا فِى الِاخْتِيَارِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُما غَيْرُ مُجْبَرٍ عَلَى مُوَافَقَةِ الآخَرِ فِى اخْتِيَارِه، وَإِلَّا لَكَانَا مُجْبُورَيْنِ وَالْمَجْبُورُ لا يَكُونُ إِلَـهًا) لِأَنَّهُ لا يَكُونُ مُخْتَارًا (فَإِذَا صَحَّ هَذَا) فَإِنِ اتَّفَقَا فَإِمَّا أَنْ يَتْرُكَ أَحَدُهُمَا لِلآخَرِ الْفِعْلَ مِنْ غَيْرِ مُشَارَكَةٍ فِيهِ فَيَلْزَمُ قَهْرُهُ وَعَدَمُ عُمُومِ قُدْرَتِهِ وَنُفُوذِ إِرَادَتِهِ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْفِعْلَ لِشَرِيكِهِ وَيَلْزَمُ فِى الآخَرِ مَا لَزِمَ فِى الأَوَّلِ لِأَنَّهُمَا مِثْلانِ فَمَا جَازَ عَلَى أَحَدِهِمَا جَازَ عَلَى الآخَرِ فَيَحْتَاجَانِ لِلْمُخَصِّصِ وَإِمَّا أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِى ذَلِكَ الشَّىْءِ فَإِنِ اخْتَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ بِجُزْءٍ لَزِمَهُمَا مِنْ ذَلِكَ الْعَجْزُ وَالْحَاجَةُ لِلْمُخَصِّصِ وَإِنْ فُرِضَتِ الْمَسْئَلَةُ فِى مَا لا يُمْكِنُ انْقِسَامُهُ كَالْجَوْهَرِ الْفَرْدِ فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْمُحَالُ الَّذِى هُوَ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ لِأَنَّ الأَثَرَ الْوَاحِدَ لا يَدْخُلُ تَحْتَ مُؤَثِّرَيْنِ وَلا الْمَقْدُورُ تَحْتَ قُدْرَتَيْنِ. هَذَا كُلُّهُ عَلَى تَقْدِيرِ الِاتِّفَاقِ وَأَمَّا إِنْ فُرِضَ اخْتِلافُهُمَا (فَلَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا خِلافَ مُرَادِ الآخَرِ فِى شَىْءٍ كَأَنْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا حَيَاةَ شَخْصٍ وَأَرَادَ الآخَرُ مَوْتَهُ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَتِمَّ مُرَادُهُمَا أَوْ لا يَتِمَّ مُرَادُهُمَا أَوْ يَتِمَّ مُرَادُ أَحَدِهِمَا وَلا يَتِمَّ مُرَادُ الآخَرِ، وَمُحَالٌ تَمَامُ مُرَادَيْهِمَا لِتَضَادِّهِمَا أَىْ إِنْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا حَيَاةَ شَخْصٍ وَأَرَادَ الآخَرُ مَوْتَهُ) مَثَلًا (يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الشَّخْصُ حَيًّا وَمَيِّتًا فِى ءَانٍ وَاحِدٍ وَإِنْ لَمْ يَتِمَّ مُرَادُهُما فَهُمَا عَاجِزَانِ وَالْعَاجِزُ لا يَكُونُ إِلَـهًا وَإِنْ تَمَّ مُرَادُ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يَتِمَّ مُرَادُ الآخَرِ فَإِنَّ الَّذِى لَمْ يَتِمَّ مُرَادُهُ عَاجِزٌ وَلا يَكُونُ الْعَاجِزُ إِلَـهًا وَلا قَدِيمًا وَهَذِهِ الدِّلالَةُ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْمُوَحِّدِينَ تُسَمَّى بِدِلالَةِ التَّمَانُعِ) كَمَا (قَالَ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الأَنْبِيَاءِ (﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا) أَىْ لَهُمَا (ءَالِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾) أَىْ لَمَا انْتَظَمَتَا أَىْ لَمَا وُجِدَتَا فَانْتَظَمَتَا. وَقَدْ قُرِّرَتْ صِفَةُ الْوَحْدَانِيَّةِ فِى الْقُرْءَانِ الْكَرِيمِ وَتَكَرَّرَ ذِكْرُهَا بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَسَالِيبَ مُتَنَوِّعَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ النِّسَاءِ ﴿إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْبَقَرَةِ ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ فِى سُورَةِ الإِخْلاصِ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ وَقَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ فِى سُورَةِ الزُّمَرِ ﴿سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾. وَابْتَدَعَ الْوَهَّابِيَّةُ وَهُمْ مُجَسِّمَةُ عَصْرِنَا بِدْعَةً لَمْ تُعْرَفْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَهُمْ فَإِنَّ ابْنَ تَيْمِيَةَ الْحَرَّانِىَّ وَإِنْ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّهَا فَإِنَّهَا لَمْ تَنْتَشِرْ وَلَمْ تَفْشُ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ مَا تَرَكُوا لَهُ مَجَالًا لِنَشْرِ بِدْعَتِهِ وَقَدْ أَخَذَهَا مِنْهُ الْوَهَّابِيَّةُ أَتْبَاعُ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ النَّجْدِىِّ فَنَشَرُوهَا بَعْدَمَا صَارَتْ لَهُمْ دَوْلَةٌ وَصَوْلَةٌ وَهَذِهِ الْبِدْعَةُ هِىَ تَقْسِيمُهُمُ التَّوْحِيدَ إِلَى ثَلاثَةِ أَقْسَامٍ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَتَوْحِيدِ الأُلُوهِيَّةِ وَتَوْحِيدِ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَزَعَمُوا أَنَّ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ وَحْدَهُ لا يَكْفِى لِلإِيمَانِ لِاشْتِرَاكِ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ فِيهِ بِزَعْمِهِمْ بَلْ لا بُدَّ مِنْ تَوْحِيدِ الأُلُوهِيَّةِ لِذَلِكَ وَتَوْحِيدِ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ لِيَتَوَصَّلُوا إِلَى تَكْفِيرِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُنَزِّهُونَ اللَّهَ تَعَالَى عَنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَيُجَوِّزُونَ التَّوَسُّلَ بِالأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ وَنِدَاءَ الْغَائِبِ وَالِاسْتِغَاثَةَ بِهِ وَزِيَارَةَ قُبُورِ الأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ طَالَمَا أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَنَّ الأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا فَإِنَّ الْوَهَّابِيَّةَ زَعَمُوا أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ إِخْلالٌ بِتَوْحِيدِ الأُلُوهِيَّةِ وَأَنَّ اعْتِقَادَهُمْ أَنَّ الْخَالِقَ هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ هُوَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ وَهُوَ غَيْرُ كَافٍ لِلنَّجَاةِ وَمَا جَاءُوا بِهِ لَمْ يُذْكَرْ فِى الْقُرْءَانِ وَلا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا حَكَمَ بِهِ صَحَابِىٌّ أَوْ تَابِعِىٌّ وَلَوْ كَانَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ كَمَا زَعَمُوا لَمَا أَهْمَلَ سَيِّدُ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ بَيَانَهُ وَلَمَا أَهْمَلَ نَقْلَهُ عَنْهُ الصَّحَابَةُ وَلا التَّابِعُونَ فَأَيْنَ دَعْوَى هَؤُلاءِ الْمُبْتَدِعَةِ اتِّبَاعَ السَّلَفِ بَعْدَ ذَلِكَ وَمَا تَسَمِّيهِمْ بِالسَّلَفِيَّةِ إِلَّا تَدْلِيسٌ وَخِدَاعٌ بَلْ إِنَّ النُّصُوصَ الشَّرْعِيَّةَ تَشْهَدُ لِفَسَادِ مَا زَعَمُوا وَلِضِدِّ مَا قَالُوا فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكْتَفِى لِلْحُكْمِ عَلَى الشَّخْصِ بِالإِسْلامِ أَنْ يَقُولَ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْرِطَ عَلَى مَنْ يُرِيدُ الدُّخُولَ فِى الإِسْلامِ الِاعْتِقَادَاتِ الَّتِى زَعَمُوهَا وَقَدْ جَاءَ فِى حَدِيثِ سُؤَالِ الْقَبْرِ الَّذِى رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ أَنَّ الإِنْسَانَ يُسْأَلُ عَنْ رَبِّهِ وَعَنْ نَبِيِّهِ وَعَنْ دِينِهِ فَيُجِيبُ الْمُؤْمِنُ اللَّهُ رَبِّى وَالإِسْلامُ دِينِى وَمُحَمَّدٌ نَبِيىِّ وَيَكْتَفِى مِنْهُ الْمَلَكَانِ بِذَلِكَ وَلا يَقُولانِ لَهُ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ لا يَكْفِى بَلْ لا بُدَّ مَعَهُ مِنْ تَوْحِيدِ الأُلُوهِيَّةِ كَمَا زَعَمَتْ هَذِهِ الْفِرْقَةُ فَمَا أَعْظَمَ مُصِيبَةَ الْمُسْلِمِينَ بِهَا.


الصِّفَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ (الْقِيَامُ بِالنَّفْسِ)


(اعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى قِيَامِهِ بِنَفْسِهِ هُوَ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ) فَهِىَ مِنَ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ وَهِىَ عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِغْنَائِهِ تَعَالَى عَنِ الْفَاعِلِ (فَلا يَحْتَاجُ) رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى (إِلَى مُخَصِّصٍ لَهُ) بِصِفَةٍ دُونَ صِفَةٍ وَ(بِالْوُجُودِ) دُونَ الْعَدَمِ (لِأَنَّ الِاحْتِيَاجَ إِلَى الْغَيْرِ يُنَافِى قِدَمَهُ) سُبْحَانَهُ (وَقَدْ ثَبَتَ وُجُوبُ قِدَمِهِ وَبَقَائِهِ) فَلا يَنْتَفِعُ رَبُّنَا تَعَالَى بِطَاعَةِ الطَّائِعِينَ كَمَا أَنَّهُ لا يَنْضَرُّ بِعِصْيَانِ الْعُصَاةِ وَكُلُّ شَىْءٍ سِوَاهُ عَزَّ وَجَلَّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ وَلا يَسْتَغْنِى عَنْهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى طَرْفَةَ عَيْنٍ.


الصِّفَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ (الْمُخَالَفَةُ لِلْحَوَادِثِ)


(يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْحَوَادِثِ) كُلِّهَا فِى الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالأَفْعَالِ وَهِىَ أَىِ الْمُخَالَفَةُ لِلْحَوَادِثِ مِنَ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ (بِمَعْنَى أَنَّـهُ) تَعَالَى (لا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ خَلْقِهِ) فَهِىَ عِبَارَةٌ عَنْ نَفْىِ الْمُمَاثَلَةِ لِلْحَوَادِثِ (فلَيْسَ هُوَ بِجَوْهَرٍ يَشْغَلُ حَيِّزًا وَلا عَرَضٍ) يَقُومُ بِالْجَوْهَرِ وَلا لازِمٍ لَهُمَا كَالْجِرْمِيَّةِ وَالْمَقَادِيرِ وَالْقِصَرِ وَالطُّولِ وَالْعُمْقِ وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَالْجِهَاتِ السِّتِّ يَمِينٍ وَشِمَالٍ وَأَمَامٍ وَخَلْفٍ وَفَوْقٍ وَتَحْتٍ وَمَا هُوَ بِمَعْنَاهَا كَنَحْوِ جَانِبٍ وَقُدَّامٍ وَوَرَاءٍ وَأَسْفَلٍ وَالْقُرْبِ وَالْبُعْدِ بِالْمَسَافَةِ. (وَالْجَوْهَرُ مَا لَهُ تَحَيُّزٌ وَقِيَامٌ بِذَاتِهِ كَالأَجْسَامِ وَالْعَرَضُ مَا لا يَقُومُ بِنَفْسِهِ وَإِنَّما يَقُومُ بِغَيْرِهِ كَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَالِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ وَالأَلْوَانِ وَالطُّعُومِ وَالرَّوَائِحِ) وَبُرْهَانُ وُجُوبِ الْمُخَالَفَةِ لِلْحَوَادِثِ لِلَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَوْ شَابَهَ الْحَوَادِثَ أَوْ شَيْئًا مِنْهَا فِى الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ لَجَازَ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهَا مِنَ التَّغَيُّرِ وَالتَّطَوُّرِ وَالْعَجْزِ وَالضَّعْفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَوْ جَازَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لَاحْتَاجَ إِلَى مَنْ يُخَصِّصُهُ وَيُغَيِّرُهُ فَيَكُونُ حَادِثًا مُحْتَاجًا إِلَى مُحْدِثٍ وَهُوَ مُحَالٌ (وَلِذَلِكَ قَالَ الإِمَامُ أبُو حَنِيفَةَ فِى بَعْضِ رَسَائِلِهِ فِى عِلْمِ الْكَلامِ) وَهِىَ رِسَالَةُ الْفِقْهِ الأَكْبَرِ (أَنَّى يُشْبِهُ الْخَالِقُ مَخْلُوقَهُ) اﻫ (مَعْنَاهُ لا يَصِحُّ عَقْلًا وَلا نَقْلًا أَنْ يُشْبِهَ الْخَالِقُ مَخْلُوقَهُ) وَكَلامُ الإِمَامِ هَذَا أَخَذَهُ مِنَ الْبَرَاهِينِ النَّقْلِيَّةِ لِوُجُوبِ مُخَالَفَتِهِ تَعَالَى لِلْحَوَادِثِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الشُّورَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ وَهُوَ أَوْضَحُ دَلِيلٍ نَقْلِىٍّ فِى ذَلِكَ جَاءَ فِى الْقُرْءَانِ لِأَنَّ هَذِهِ الآيَةَ تُفْهِمُ التَّنْزِيهَ الْكُلِّىَّ لِأَنَّ لَفْظَ شَىْءٍ فِيهَا وَرَدَ فِى سِيَاقِ النَّفْىِ وَالنَّكِرَةُ إِذَا وَرَدَتْ فِى سِيَاقِ النَّفْىِ كَانَتْ لِلشُّمُولِ فَأَفْهَمَتْ هَذِهِ الآيَةُ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لا يُشْبِهُ أَىَّ شَىْءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ وَالشَّىْءُ يَشْمَلُ الأَجْرَامَ وَالأَعْرَاضَ فَنَفَى تَعَالَى عَنْ نَفْسِهِ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ مُشَابَهَةَ ذَوِى الأَرْوَاحِ وَمُشَابَهَةَ الْجَمَادَاتِ مِنَ الأَجْرَامِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ وَلَمْ يُقَيِّدْ نَفْىَ الشَّبَهِ عَنْهُ بِهَذِهِ الآيَةِ بِجَوْهَرٍ دُونَ جَوْهَرٍ أَوْ عَرَضٍ دُونَ عَرَضٍ أَوْ نَوْعٍ مِنَ الْحَوَادِثِ دُونَ نَوْعٍ فَأَفَادَتِ الآيَةُ نَفْىَ مُشَابَهَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمَخْلُوقَاتِ بِأَىِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ وَهَذَا يَشْمَلُ تَنْزِيهَهُ تَعَالَى عَنِ الْكَيْفِيَّةِ وَالشَّكْلِ وَالصُّورَةِ وَالْكَمِيَّةِ وَالْحَدِّ وَالْمِقْدَارِ (وَ)لِذَلِكَ (قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ) حَمْدٌ (الْخَطَّابِىُّ إِنَّ الَّذِى يَجِبُ عَلَيْنَا وَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْلَمَهُ أَنَّ رَبَّنَا لَيْسَ بِذِى صُورَةٍ وَلا هَيْئَةٍ فَإِنَّ الصُّورَةَ تَقْتَضِى الْكَيْفِيَّةَ وَهِىَ عَنِ اللَّهِ وَعَنْ صِفَاتِهِ مَنْفِيَّةٌ) اﻫ ذَكَرَهُ فِى شَرْحِهِ عَلَى الْبُخَارِىِّ عِنْدَ الْكَلامِ عَنْ حَدِيثِ رُؤْيَةِ اللَّهِ فِى الآخِرَةِ وَ(رَوَاهُ عَنْهُ الْبَيْهَقِىُّ فِى الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَ)لَكِنْ (قَدْ تُطْلَقُ الْكَيْفِيَّةُ بِمَعْنَى الْحَقِيقَةِ) فَتُضَافُ بِهَذَا الْمَعْنَى إِلَى اللَّهِ تَعَالَى (كَمَا فِى قَوْلِ بَعْضِهِمْ) مِنَ الْبَسِيطِ

(كَيْفِيَّةُ الْمَرْءِ لَيْسَ الْمَرْءُ يُدْرِكُهَا فَكيْفَ كَيْفِيَّةُ الْجَبَّارِ فِى الْقِدَمِ

وَمُرَادُ هَذَا الْقَائِلِ) بِالْكَيْفِيَّةِ (الْحَقِيقَةُ. وَهَذَا الْبَيْتُ ذَكَرَهُ الزَّرْكَشِىُّ) فِى تَشْنِيفِ الْمَسَامِعِ وَنَسَبَهُ إِلَى سَيِّدِنَا عَلِىٍّ (وَ)ذَكَرَهُ (ابْنُ الْجَوْزِىِّ) فِى دَفْعِ شُبْهَةِ التَّشْبِيهِ (وَغَيْرُهُمَا) كَابْنِ الْعِمَادِ الْحَنْبَلِىِّ.

قَالَ شَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَوْ قِيلَ

حَقِيقَةُ الْمَرْءِ لَيْسَ الْمَرْءُ يُدْرِكُهَا فَكَيْفَ يُدْرِكُ كُنْهَ الْخَالِقِ الأَزَلِىِّ

لَكَانَ أَحْسَنَ فَإِنَّ فِى التَّعْبِيرِ بِكَيْفِيَّةِ الْجَبَّارِ بِشَاعَةً اﻫ

(وَ)لَخَّصَ بَعْضُهُمْ مَا تَقَدَّمَ فِى قَاعِدَةٍ وَجِيزَةٍ نَافِعَةٍ كَمَا (قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِىُّ) أَحْمَدُ بنُ سَلامَةَ الْمِصْرِىُّ (وَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِى الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ) اﻫ (وَ)أَبُو جَعْفَرٍ مَعْرُوفٌ بِالْعِلْمِ كَبِيرُ الْمَحَلِّ فِى الْفَضْلِ وَ(هُوَ مِنْ أَهْلِ الْقَرْنِ الثَّالِثِ) وَتُوُفِّىَ فِى أَوَّلِ الْقَرْنِ الرَّابِعِ (فَهُوَ دَاخِلٌ فِى حَدِيثِ خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ اﻫ رَوَاهُ التِّرْمِذِىُّ) فِى سُنَنِهِ (وَالْقَرْنُ الْمُرَادُ بِهِ مِائَةُ سَنَةٍ كَمَا قَالَ ذَلِكَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بنُ عَسَاكِرَ فِى كِتَابِهِ تَبْيِينُ كَذِبِ الْمُفْتَرِى الَّذِى أَلَّفَهُ فِى التَّنْوِيهِ بِأَبِى الْحَسَنِ الأَشْعَرِىِّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ).


(صِفَاتُ اللَّهِ كُلُّهَا كَامِلَةٌ)


(صِفَاتُ اللَّهِ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ لِأَنَّ الذَّاتَ أَزَلِىٌّ فَلا تَحْصُلُ لَهُ صِفَةٌ لَمْ تَكُنْ فِى الأَزَلِ) وَلا تَتَطَوَّرُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ وَلا يَتَغَيَّرُ بِزِيَادَةٍ وَلا بِنُقْصَانٍ (أَمَّا صِفَاتُ الْخَلْقِ فَهِىَ حَادِثَةٌ تَقْبَلُ التَّطَوُّرَ مِنْ كَمَالٍ إِلَى أَكْمَلَ) عَلَى خِلافِ مَا ذَكَرْنَا فِى صِفَاتِ اللَّهِ (فَلا يَتَجَدَّدُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى شَىْءٌ) فَلا يَزِيدُ (وَ)لا يَنْقُصُ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ تَغَيَّرٌ وَهُوَ عَلامَةُ الْحُدُوثِ كَمَا قَدَّمْنَا فَنَقُولُ (اللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ كُلَّ شَىءٍ بِعلْمِهِ الأَزَلِىِّ وَقُدْرَتِهِ الأَزَلِيَّةِ وَمَشِيئَتِه الأَزَلِيَّةِ. فَالْمَاضِى وَالْحَاضِرُ وَالْمُسْتَقْبَلُ بِالنِّسْبَةِ لِلَّهِ أَحَاطَ بِهِ بِعِلْمِهِ الأَزَلِىِّ) حَتَّى أَنْفَاسَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ الَّتِى تَتَجَدَّدُ بِلا انْقِطَاعٍ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى تَفَاصِيلَهَا (وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى) فِى سُورَةِ مُحَمَّدٍ (﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ﴾ فَلَيسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّه سَوْفَ يَعْلَمُ الْمُجَاهِدِينَ بَعْدَ أَنْ لَم يَكُنْ عَالِمًا بِهِم بِالِامْتِحَانِ وَالِاخْتِبَارِ، وَهَذَا يَسْتَحِيلُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ مَعْنَى الآيَةِ حَتَّى نُمَيِّزَ أَىْ حَتَّى نُظْهِرَ لِلْعِبَادِ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ مِنْ غَيْرِهِمْ) فَتَعْرِفُ الْمَلائِكَةُ وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ هَذَا صَادِقٌ صَابِرٌ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِصَابِرٍ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا كُلِّهِ (وَيَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالى يَكْتَسِبُ عِلْمًا جَدِيدًا) لَمْ يَكُنْ عَلِمَهُ فِى الأَزَلِ. (وَصِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى كُلُّهَا كَامِلَةٌ) كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى (قَالَ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الأَعْرَافِ (﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَائِهِ﴾ أَىْ فَلِلَّهِ تَعَالَى الأَسْمَاءُ الَّتِى تَدُلُّ عَلَى الْكَمَالِ فَلا يَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى اسْمٌ لا يَدُلُّ عَلَى الْكَمَالِ أَوْ يُوهِمُ نَقْصًا كَمَا فَعَلَ سَيِّدُ قُطْبٍ فِى بَعْضِ كُتُبِهِ حَيْثُ سَمَّى اللَّهَ تَعَالَى رِيشَةً وَفِعْلُهُ هَذَا دَاخِلٌ تَحْتَ النَّهْىِ الْمَذْكُورِ فِى الآيَةِ السَّابِقَةِ وَهُوَ مِنَ الإِلْحَادِ فِى أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَنْ سَمَّى اللَّهَ تَعَالَى رُوحًا أَوْ جَارًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ وَقَدْ نَصَّ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الأَشْعَرِىُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ لا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَصِفَ اللَّهَ إِلَّا بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَلا أَنْ نُسَمِّيَهُ بِاسْمٍ إِلَّا مَا ثَبَتَ فِى الْقُرْءَانِ أَوْ فِى السُّنَّةِ أَوْ بِإِجْمَاعِ الأُمَّةِ (وَ)قَدْ (قَالَ تَعَالَى) فِى سُورَةِ النَّحْلِ (﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى﴾) أَىْ وَلِلَّهِ صِفَاتُ الْكَمَالِ الَّتِى لا تُشْبِهُ وَصْفَ غَيْرِهِ (فَيَسْتَحِيلُ فِى حَقِّهِ تَعَالَى أَىُّ نَقْصٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى) فِى سُورَةِ ءَالِ عِمْرَانَ (﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾) فَفِيهِ إِسْنَادُ الْمَكْرِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَكِنْ فِى سِيَاقِ الْمُشَاكَلَةِ فَلا يَكُونُ كَمَكْرِ الْعِبَادِ (فَالْمَكْرُ مِنَ الْخَلْقِ خُبْثٌ وَخِدَاعٌ لإِيصَالِ الضَّرَرِ إِلَى الْغَيْرِ بِاسْتِعْمَالِ حِيلَةٍ وَأَمَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مُجَازَاةُ الْمَاكِريِنَ بِالْعُقُوبَةِ مِنْ حَيْثُ لا يَدْرُونَ. وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى إِنَّ اللَّهَ) تَعَالَى (أَقْوَى فِى إِيصَالِ الضَّرَرِ إِلَى الْمَاكِرِينَ منْ كُلِّ مَاكِرٍ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى مَكْرِهِمْ فَالْمَكْرُ بِمَعْنَى الِاحْتِيَالِ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الْبَقَرَةِ (﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾) فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَسْتَخِفُّ بِالْمُنَافِقِينَ كَمَا يَسْتَخِفُّ الْعِبَادُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ إِنَّمَا جَاءَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ (أَىْ) كَلِمَةُ يَسْتَهْزِئُ فِى الْقُرْءَانِ فِى سِيَاقِ الْمُشَاكَلَةِ أَيْضًا عَلَى مَعْنَى الْمُجَازَاةِ لِلْكُفَّارِ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا عِنْدَمَا يَجْتَمِعُونَ بِأَمْثَالِهِمْ يَتَكَلَّمُونَ بِذَمِّ الإِسْلامِ وَكَرَاهِيَتِهِ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَبِعِبَادِ اللَّهِ الْمُسْلِمِينَ فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّـهُ (يُجَازِيهِمْ) بِمَا يَلِيقُ بِهِمْ (عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ) وَسَمَّى هَذِهِ الْمُجَازَاةَ اسْتِهْزَاءً مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَمِثَالُهَا قَوْلُ الشَّاعِرِ

قَالُوا اقْتَرِحْ شَيْئًا نُجِدْ لَكَ طَبْخَهُ قُلْتُ اطْبُخُوا لِى جُبَّةً وَقَمِيصًا

وَعَلَى مِثْلِ ذَلِكَ يُحْمَلُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ التَّوْبَةِ ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ أَىْ تَرَكُوا طَاعَةَ اللَّهِ بِالإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَرَكَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ رَحْمَتِهِ خَالِدِينَ فِى نَارِ جَهَنَّمَ لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ عَذَابُهَا.

(وَ)إِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ تَبَيَّنَ حُكْمُ إِضَافَةِ الْوَجْهِ وَالْيَدِ وَالْعَيْنِ وَالرِّضَا وَالْغَضَبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ شَرَحَهُ الْمُصَنِّفُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَقَالَ (اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِإِثْبَاتِ مَا وَرَدَ فِى الْقُرْءَانِ وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ كَالْوَجْهِ وَالْيَدِ وَالْعَيْنِ وَالرِّضَا وَالْغَضَبِ وَغَيْرِهَا) مِمَّا أُضِيفِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى (عَلَى) وَجْهِ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ فَنَعْتَقِدُ (أَنَّهَا صِفَاتٌ يَعْلَمُهَا اللَّهُ) أَىْ يَعْلَمُ حَقِيقَتَهَا وَ(لا) نُحِيطُ نَحْنُ بِحَقِيقَتِهَا وَلا نَحْمِلُهَا (عَلَى أَنَّهَا جَوَارِحُ وَانْفِعَالاتٌ كَأَيْدِينَا وَوُجُوهِنَا وَعُيُونِنَا وَغَضَبِنَا فَإِنَّ الْجَوَارِحَ) وَالِانْفِعَالاتِ (مُسْتَحِيلَةٌ عَلَى اللَّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الشُّورَى (﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ وَقَوْلِهِ) تَعَالَى فِى سُورَةِ الإِخْلاصِ (﴿وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾) أَىْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَدِيلٌ وَلا مَثِيلٌ (قَالُوا لَوْ كَانَ لِلَّهِ عَيْنٌ بِمَعْنَى الْجَارِحَةِ وَالْجِسْمِ لَكَانَ لَهُ أَمْثَالٌ فَضْلًا عَنْ مِثْلٍ وَاحِدٍ وَلَجَازَ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَى الْمُحْدَثَاتِ مِنَ الْمَوْتِ وَالْفَنَاءِ وَالتَّغَيُّرِ وَالتَّطَوُّرِ وَلَكَانَ ذَلِكَ خُرُوجًا مِنْ مُقْتَضَى الْبُرْهَانِ الْعَقْلِىِّ عَلَى اسْتِحَالَةِ التَّغَيُّرِ وَالتَّحَوُّلِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ عَلَى اللَّهِ لِأَنَّ الدَّلائِلَ الْعَقْلِيَّةَ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ) أَظْهَرُهَا (طُرُوءُ صِفَاتٍ لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ وَالتَّحَوُّلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَلا يَصِحُّ إِهْمَالُ الْعَقْلِ لِأَنَّ الشَّرْعَ لا يَأْتِى إِلَّا بِمُجَوَّزَاتِ الْعَقْلِ) أَىْ إِلَّا بِمَا يَجُوزُ فِى حُكْمِ الْعَقْلِ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الأُصُولِ مِنْهُمْ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِىُّ وَأَبُو إِسْحَقَ الشِّيرَازِىُّ وَغَيْرُهُمَا (أَىْ) فَلا يَأْتِى الشَّرْعُ (إِلَّا بِمَا يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ لِأَنَّهُ) أَىِ الْعَقْلَ (شَاهِدُ الشَّرْعِ) كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْحَجِّ ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾ وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْمُلْكِ ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ (فَالْعَقْلُ يَقْضِى بِأَنَّ الْجِسْمَ وَالْجِسْمَانِيَّاتِ أَىِ الأَحْوَالَ الْعَارِضَةَ لِلْجِسْمِ مُحْدَثَةٌ لا مَحَالَةَ وَأَنَّهَا مُحْتَاجَةٌ لِمُحْدِثٍ فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَّصِفُ بِهَا لَهُ مُحْدِثٌ) فَيَكُونُ مُحْتَاجًا إِلَى غَيْرِهِ (وَلا تَصِحُّ الأُلُوهِيَّةُ لِمَنْ) يَتَغَيَّرُ وَيَتَحَوَّلُ وَ(يَحْتَاجُ إِلَى غَيْرِهِ) كَمَا سَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. هَذَا فِى الإِضَافَاتِ الَّتِى قَامَتِ الأَدِلَّةُ عَلَى أَنَّهَا إِضَافَاتُ صِفَاتٍ وَأَمَّا مَا أُضِيفَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا لَمْ يَقُمِ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّـهُ صِفَةٌ لَهُ سُبْحَانَهُ فَلا يَصِحُّ إِجْرَاؤُهُ مُجْرَاهَا فَلا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ مَثَلًا إِنَّ النَّاقَةَ صِفَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِى سُورَةِ الشَّمْسِ ﴿نَاقَةَ اللَّهِ﴾ وَلا أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْكَعْبَةَ صِفَةٌ لَهُ سُبْحَانَهُ لِأَنَّنَا نُسَمِّيهَا بَيْتَ اللَّهِ بَلِ الإِضَافَةُ هُنَا إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ وَمِلْكٍ وَمِثْلُ ذَلِكَ الْجَنْبُ وَالإِصْبِعُ وَالصُّورَةُ وَالْقَدَمُ فَلا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْجَنْبَ صِفَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِى سُورَةِ الزُّمَرِ إِخْبَارًا عَنِ الْكُفَّارِ ﴿يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فرَّطْتُ فِى جَنْبِ اللَّهِ﴾ وَلا أَنْ يُقَالَ إِنَّ الإِصْبِعَ صِفَةٌ لِلَّهِ لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ إِصْبِعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمٰنِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ اﻫ وَلا أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللَّهَ مُتَّصِفٌ بِالصُّورَةِ لِحَدِيثِ الْبَيْهَقِىِّ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ ءَادَمَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمٰنِ اﻫ وَلا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْقَدَمَ صِفَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى لِحَدِيثِ فَيَضَعُ الْجَبَّارُ فِيهَا قَدَمَهُ فَتَقُولُ قَطٍ قَطٍ اﻫ بَلْ مَعْنَى تَحَسُّرِ الْكَافِرِ عَلَى مَا فَرَّطَ فِى جَنْبِ اللَّهِ أَىْ تَحَسُّرُهُ عَلَى تَقْصِيرِهِ فِى الْقِيَامِ بِحُقُوقِ اللَّهِ وَمَعْنَى الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِيهِ الأَصَابِعُ أَنَّ قُلُوبَ الْعِبَادِ فِى قَبْضَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْحَدِيثُ الَّذِى فِيهِ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمٰنِ أَىْ عَلَى الصُّورَةِ الْمُشَرَّفَةِ عِنْدَ الرَّحْمٰنِ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ رِوَايَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ هِىَ بِلَفْظِ عَلَى صُورَتِهِ بِالإِضَافَةِ إِلَى الضَّمِيرِ إِذْ رَوَى الْبُخَارِىُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِىَّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ قَالَ إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ ءَادَمَ عَلَى صُورَتِهِ اﻫ أَىْ عَلَى صُورَةِ الْمَضْرُوبِ فَاحْتَمَلَ احْتِمَالًا قَوِيًّا أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الرُّوَاةِ قَدْ ظَنَّ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ يَرْجِعُ إِلَى لَفْظِ الْجَلالَةِ اللَّه فَرَوَاهُ بِلَفْظٍ مِنْ عِنْدِهِ فَأَخْطَأَ وَمَعْنَى وَضْعِ الْجبَّارِ قَدَمَهُ فِى النَّارِ إِدْخَالُ الْفَوْجِ الَّذِينَ يُقَدَّمُونَ إِلَى النَّارِ فَتَمْتَلِئُ بِهِمْ كَمَا قَالَ النَّضْرُ بنُ شُمَيْلٍ وَالأَزْهَرِىُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ الَّتِى فِيهَا وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَيُنْشِئُ لَهَا خَلْقًا ءَاخَرَ اﻫ وَمِنَ الإِلْحَادِ فِى صِفَاتِ اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللَّهَ جَالِسٌ لا كَجُلُوسِنَا أَوْ إِنَّ اللَّهَ جِسْمٌ لا كَالأَجْسَامِ فَإِنَّ الْجُلُوسَ لا يَكُونُ إِلَّا مِنْ ذِى نِصْفَيْنِ أَعْلَى وَأَسْفَل وَمَقْعَدَةٍ يُلاقِى بِهَا الْجَالِسُ مَا يَجْلِسُ عَلَيْهِ فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ إِنَّ اللَّهَ جَالِسٌ فَقَدْ نَسَبَ إِلَيْهِ صِفَاتِ النَّقْصِ هَذِهِ وَأَثْبَتَهَا لَهُ إِذْ لا تَحْتَمِلُ عِبَارَتُهُ غَيْرَ هَذَا فَلا يَنْفَعُهُ قَوْلُهُ لا كَجُلُوسِنَا بَعْدَ ذَلِكَ وَصَارَ حَالُهُ كَحَالِ الْقَائِلِ إِنَّ اللَّهَ نَائِمٌ لا كَنَوْمِنَا أَوْ عَاجِزٌ لا كَعَجْزِنَا فَإِنَّ عِبَارَةَ لا كَنَوْمِنَا وَعِبَارَةَ لا كَعَجْزِنَا لا تَنْفَعَانِ شَيْئًا فِى نَفْىِ الْكُفْرِ عَمَّنْ يَنْسُبُ النَّوْمَ وَالْعَجْزَ إِلَى الرَّبِّ جَلَّ وَعَزَّ وَكَذَلِكَ عِبَارَةُ لا كَجُلُوسِنَا لا تُفِيدُ شَيْئًا فِى نَفْىِ الضَّلالِ عَمَّنْ يَنْسُبُ الْجُلُوسَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَعَلَى مِثْلِ هَذَا يَجْرِى الْحُكْمُ فِى حَقِّ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ لا كَالأَجْسَامِ فَإِنَّ الْجِسْمَ هُوَ مَا لَهُ أَبْعَادٌ ثَلاثَةٌ طُولٌ وَعَرْضٌ وَعُمْقٌ وَإِطْلاقُ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ صَرِيحٌ فِى إِضَافَةِ النَّقْصِ إِلَيْهِ فَلا تَنْفَعُ عِبَارَةُ لا كَالأَجْسَامِ بَعْدَ ذَلِكَ فِى مَنْعِ الْحَرَجِ عَنْ قَائِلِهَا. وَلا تَنْسَ رَحِمَكَ اللَّهُ بِتَوْفِيقِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ لا يَجُوزُ وَصْفُ اللَّهِ وَلا تَسْمِيَتُهُ بِمَا لَمْ يَرِدْ بِهِ الْقُرْءَانُ أَوْ لَمْ يَثْبُتْ فِى السُّنَّةِ أَوْ لَمْ تُجْمِعْ عَلَيْهِ الأُمَّةُ وَلا يَخْفَى أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِى الشَّرْعِ إِطْلاقُ الْجُلُوسِ عَلَى اللَّهِ وَلا إِطْلاقُ الْجِسْمِ عَلَيْهِ.


(سَبَبُ نُزُولِ الإِخْلاصِ)


(قَالَتِ الْيَهُودُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَا مُحَمَّدُ (صِفْ لَنَا رَبَّكَ) الَّذِى تَعْبُدُهُ وَ(قَدْ كَانَ سُؤَالُهُمْ تَعَنُّتًا أَىْ عِنَادًا لا حُبًّا لِلْعِلْمِ وَاسْتِرْشَادًا بِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُورَةَ الإِخْلاصِ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ أَىِ الَّذِى لا يَقْبَلُ التَّعَدُّدَ وَالْكَثْرَةَ وَلَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ فِى الذَّاتِ أَوِ الصِّفَاتِ أَوِ الأَفْعَالِ) أَىْ لا يُوجَدُ ذَاتٌ يُشْبِهُ ذَاتَهُ (وَلَيْسَ لِأَحَدٍ صِفَةٌ كَصِفَاتِه) وَلا يُشْبِهُ فِعْلٌ فِعْلَهُ (بَلْ قُدْرَتُهُ تَعَالَى) مَثَلًا (قُدْرَةٌ وَاحِدَةٌ) لَيْسَتْ مُرَكَّبَةً وَلا مُتَتَالِيَةً وَلا مُتَبَعِّضَةً (يَقْدِرُ بِهَا عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَعِلْمُهُ) مَثَلًا (وَاحِدٌ) لَيْسَ كَعِلْمِ غَيْرِهِ وَلَيْسَ حَادِثًا دَفْعَةً بَعْدَ دَفْعَةٍ (يَعْلَمُ بِهِ كُلَّ شَىْءٍ) وَ(قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ أَىْ) هُوَ السَّيِّدُ الْمَقْصُودُ (الَّذِى تَفْتَقِرُ إِلَيْهِ جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ مَعَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْ كُلِّ مَوْجُودٍ وَ)هُوَ (الَّذِى يُقْصَدُ عِنْدَ الشِّدَّةِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا وَلا يَجْتَلِبُ بِخَلْقِهِ نَفْعًا لِنَفْسِهِ وَلا يَدْفَعُ بِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ضُرًّا) كَمَا قَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ الذَّارِيَاتِ ﴿مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِّنْ رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونَ﴾. وَ(قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ نَفْىٌ لِلْمَادِّيَّةِ وَالِانْحِلالِ) فَلَيْسَ هُوَ سُبْحَانَهُ مَادَّةً لِغَيْرِهِ وَلا أَصْلًا أَوْ أَبًا (وَهُوَ) لَيْسَ فَرْعًا لِغَيْرِهِ أَوْ وَلَدًا أَىْ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ (أَنْ يَنْحَلَّ مِنْهُ شَىْءٌ) كَمَا يَنْفَصِلُ الْوَلَدُ عَنْ وَالِدِهِ (أَوْ أَنْ يَحُلَّ هُوَ فِى شَىْءٍ) كَمَا يَحُلُّ الْوَلَدُ فِى رَحِمِ مَنْ يَلِدُهُ (وَمَا وَرَدَ فِى كِتَابِ مَوْلِدِ الْعَرُوسِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَبَضَ قَبْضَةً مِنْ نُورِ وَجْهِهِ فَقَالَ لَهَا كُونِى مُحمَّدًا فَكَانَتْ مُحمَّدًا فَهَذِهِ مِنَ الأَبَاطِيلِ الْمَدْسُوسَةِ وَ)إِذَا حُمِلَ قَوْلُهُ قَبْضَةً مِنْ نُورِ وَجْهِهِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ حَجْمٌ وَأَنَّهُ جَعَلَ جُزْءًا مِنْهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ هَذَا ضَلالًا مُبِينًا وَخُرُوجًا عَنْ عَقِيدَةِ الإِسْلامِ فَإِنَّ (حُكْمَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُزْءٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى التَّكْفِيرُ قَطْعًا وَكَذَلِكَ الَّذِى يَعْتَقِدُ فِى الْمَسِيحِ أَنَّهُ جُزْءٌ مِنَ اللَّهِ) إِذْ لا فَرْقَ بَيْنَ الِاعْتِقَادَيْنِ فِى نِسْبَةِ الأَجْزَاءِ إِلَى الرَّبِّ تَعَالَى وَمَنِ اعْتَقَدَ أَيًّا مِنْهُمَا فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ الذَّمِّ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الزُّخْرُفِ ﴿وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا﴾. وَكَمْ قَدْ ضَلَّ أُنَاسٌ بِسَبَبِ كِتَابِ مَوْلِدِ الْعَرُوسِ هَذَا (وَلَيْسَ هَذَا الْكِتَابُ لِابْنِ الْجَوْزِىِّ) الْمُحَدِّثِ الْحَافِظِ الْفَقِيهِ الْمُفَسِّرِ الْوَاعِظِ (رَحِمَهُ اللَّهُ) تَعَالَى كَمَا يَزْعُمُ مَنْ طَبَعَ هَذَا الْكِتَابَ فَإِنَّ مُؤَلَّفَاتِ ابْنِ الْجَوْزِىِّ كَثِيرَةٌ ذَكَرَهَا مَنْ تَرْجَمُوهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَذْكُرُوا مِنْ بَيْنِهَا هَذَا الْكِتَابَ (وَلَمْ يَنْسُبْهُ إِلَيْهِ إِلَّا الْمُسْتَشْرِقُ) الأَلْمَانِىُّ (بُروكلمَان) مِنْ غَيْرِ تَحْقِيقٍ. وَ(قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ أَىْ) أَنَّـهُ (لا نَظِيرَ لَهُ) وَلا شَبِيهَ (بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ) وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبَيْهَقِـىُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَفِى ءَاخِرِهِ أَنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَذِهِ صِفَةُ رَبِّى عَزَّ وَجَلَّ اﻫ


(الآيَاتُ الْمُحْكَمَاتُ وَالْمُتَشَابِهَاتُ)


(لِفَهْمِ هَذَا الْمَوْضُوعِ كَمَا يَنْبَغِى يَجِبُ مَعْرِفَةُ أَنَّ الْقُرْءَانَ تُوجَدُ فِيهِ ءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ) يَتَّضِحُ مَعْنَاهَا بِمُجَرَّدِ قِرَاءَتِهَا (وَءَايَاتٌ مُتَشَابِهَاتٌ) يُرْجَعُ لِفَهْمِهَا عَلَى وَجْهِهَا إِلَى الآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ كَمَا (قَالَ تَعَالَى) فِى سُورَةِ ءَالِ عِمْرَانَ (﴿هُوَ﴾) أَىِ اللَّهُ (﴿الَّذِىَ أَنْزَلَ عَلَيْكَ﴾) أَىْ يَا مُحَمَّدُ (﴿الْكِتَابَ﴾) أَىِ الْقُرْءَانَ (﴿مِنْهُ ءَايَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾) أَىْ أَصْلُ الْكِتَابِ وَأَسَاسُهُ (﴿وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾) يُحْتَاجُ إِلَى رَدِّهَا إِلَى الآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ لِتَتَّضِحَ دِلالَتُهَا (﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ﴾) أَىْ إِيقَاعِهَا (﴿وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾) أَىْ مَعْرِفَةِ وَقْتِ حُصُولِهِ عَلَى قِرَاءَةِ الْوَقْفِ عَلَى لَفْظِ الْجَلالَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ إِلَّا اللَّهُ (﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الأَلْبَابِ﴾) أَىْ إِنَّ الْقُرْءَانَ فِيهِ ءَايَاتٌ مُتَشَابِهَاتٌ تَتَعَلَّقُ بِأُمُورٍ لَمْ يُطْلِعِ اللَّهُ الْخَلْقَ عَلَى وَقْتِ حُصُولِ مَا ذُكِرَ فِيهَا تَعْيِينًا كَوَجْبَةِ الْقِيَامَةِ وَخُرُوجِ الدَّجَّالِ فَيَعْمَدُ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ وَضَلالٌ إِلَى مُحَاوَلَةِ تَعْيِينِ وَقْتِ حُصُولِهَا كَمَا فَعَلَ الْيَهُودُ إِذِ اسْتَعْمَلُوا حِسَابَ الْجُمَّلِ فِى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِى أَوَائِلِ السُّوَرِ لِتَعْيِينِ وَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ وَلا يَعْلَمُ ذَلِكَ فِى الْحَقِيقَةِ إِلَّا اللَّهُ وَأَمَّا الرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ فَيَقُولُونَ ءَامَنَّا بِالْقُرْءَانِ كُلِّهِ مُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ إِذْ كُلٌّ مِنَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ وَحْىٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ بِالْوَقْفِ عَلَى لَفْظِ الْعِلْمِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى إِنَّ أَهْلَ الزَّيْغِ وَالضَّلالِ يَتَتَبَّعُونَ الآيَاتِ الْمُتَشَابِهَةَ لِيَحْمِلُوهَا عَلَى مَا يُخَالِفُ الْمُحْكَمَ وَلا يُوَافِقُ الشَّرِيعَةَ وَلا يَعْلَمُ تَأْوِيلَ هَذِهِ الآيَاتِ الصَّحِيحَ أَىْ مَعْنَاهَا الْمُرَادَ إِلَّا رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى ومَنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِى الْعِلْمِ فَإِنَّهُمْ أَىِ الرَّاسِخِينَ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِالْكِتَابِ كُلِّهِ الْمُحْكَمِ مِنْهُ وَالْمُتَشَابِهِ إِذْ كِلاهُمَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى الْقِرَاءَتَيْنِ مَعًا اتَّضَحَ أَنَّ الْمُتَشَابِهَ نَوْعَانِ نَوْعٌ يَجُوزُ أَنْ يَعْلَمَهُ الْخَلْقُ وَنَوْعٌ لا سَبِيلَ لِلْخَلْقِ إِلَى مَعْرِفَتِهِ فَالنَّوْعُ الأَوَّلُ أَطْلَعَ اللَّهُ تَعَالَى الرَّاسِخِينَ فِى الْعِلْمِ عَلَيْهِ فَعَلِمُوهُ كَمَا رُوِىَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّـهُ كَانَ يَقُولُ أَنَا مِنَ الرَّاسِخِينَ فِى الْعِلْمِ اﻫ [نَقَلَهُ الْحَافِظُ الزَّبِيدِىُّ عَنْ أَبِى نَصْرٍ الْقُشَيْرِىِّ فِى الإِتْحَافِ] يُرِيدُ أَنَّ اللَّهَ أَطْلَعَهُ عَلَى مَعْنَاهُ وَالنَّوْعُ الثَّانِى مِنَ الْمُتَشَابِهِ لَمْ يُطْلِعِ اللَّهُ أَحَدًا مِنَ الْخَلْقِ عَلَى تَأْوِيلِهِ أَىْ عَلَى وَقْتِ حُصُولِهِ فَلَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَعْرِفَتَهُ بِذَلِكَ. وَقَدْ عَرَّفَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ (الآيَاتِ الْمُحْكَمَةَ) فَقَالَ (هِىَ مَا لا يَحْتَمِلُ مِنَ التَّأْوِيلِ بِحَسَبِ وَضْعِ اللُّغَةِ إِلَّا وَجْهًا وَاحِدًا أَوْ مَا عُرِفَ الْمُرَادُ بِهِ بوُضُوحٍ) أَىْ كَانَتْ دِلالَتُهُ عَلَى الْمُرَادُ وَاضِحَةً جَلِيَّةً وَضَرَبَ لِذَلِكَ أَمْثِلَةً فَقَالَ (كَقَوْلِهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الشُّورَى (﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ وَقَولِهِ) فِى سُورَةِ الإِخْلاصِ (﴿وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ وَقَوْلِهِ) فِى سُورَةِ مَرْيَمَ (﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾) أَىْ مِثْلًا فَهَذِهِ كُلُّهَا ءَايَاتٌ مُحْكَمَةٌ لا يَجُوزُ إِخْرَاجُهَا عَنْ مَعْنَاهَا الْمُتَبَادِرِ لِأَنَّ اللُّغَةَ لا تَحْتَمِلُ لَهَا مَعَانِىَ أُخْرَى تُحْمَلُ عَلَيْهَا إِذَا وُجِدَ دَلِيلٌ يَقْتَضِى ذَلِكَ. وَعَرَّفَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ (الآيَاتِ الْمُتَشَابِهَةَ) أَيْضًا فَقَالَ (وَالْمُتَشَابِهُ هُوَ مَا لَمْ تَتَّضِحْ دِلالَتُهُ أَوْ) كَانَ (يَحْتَمِلُ أَوْجُهًا عَدِيدَةً) بِحَسَبِ وَضْعِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ (وَاحْتَاجَ إِلَى النَّظَرِ) مِنْ أَهْلِ الْفَهْمِ وَالدِّرَايَةِ بِاللُّغَةِ وَبِمَعَانِى النُّصُوصِ (لِحَمْلِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُطَابِقِ) الَّذِى لا يَتَعَارَضُ مَعَ مَعَانِى الْمُحْكَمِ كَمَا أَنَّ الْمُصَنِّفَ رَحَمَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ضَرَبَ بَعْضَ الأَمْثِلَةِ لِلْمُتَشَابِهِ فَقَالَ (كَقَوْلِهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ طَه (﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾) فَقَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ الْعَقْلِىُّ وَالنَّقْلِىُّ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْجُلُوسُ أَوِ الِاسْتِقْرَارُ أَوِ الْكَوْنُ فِى جِهَةٍ أَوْ مَكَانٍ فَوَجَبَ لِذَلِكَ إِخْرَاجُ كَلِمَةِ اسْتَوَى عَنِ الْمَعْنَى الظَّاهِرِ الْمُقْتَضِى لِصِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ لِكَىْ لا يَكُونَ تَعَارُضٌ بَيْنَ الأَدِلَّةِ وَتَنَافٍ بَيْنَ النُّصُوصِ.

(وَ)كَذَا لا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِ (قَوْلِهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ فَاطِرٍ (﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾) لِأَنَّ ظَاهِرَ لَفْظِ إِلَيْهِ يَقْتَضِى كَوْنَ اللَّهِ تَعَالَى فِى جِهَةِ فَوْقٍ لَكِنَّ الأَدِلَّةَ الْقَطْعِيَّةَ تَرُدُّ ذَلِكَ فَوَجَبَ إِخْرَاجُ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ بِحَيْثُ يُوَافِقُ مَعْنَى هَذِهِ الآيَةِ الأَدِلَّةَ الْقَطْعِيَّةَ فَيُحْمَلُ لَفْظُ إِلَيْهِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَحَلُّ الْمُكَرَّمُ مِنَ اللَّهِ (أَىْ أَنَّ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ كَلا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَصْعَدُ إِلَى مَحَلِّ كَرَامَتِهِ وَهُوَ السَّمَاءُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ أَىِ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ يَرْفَعُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ) أَىْ أَنَّ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ هِىَ الأَصْلُ وَالأَسَاسُ لِرَفْعِ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ أَىْ لِقَبُولِهَا (وَهَذَا مُنْطَبِقٌ ومُنْسَجِمٌ مَعَ الآيَةِ الْمُحْكَمَةِ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾) وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ وَالإِخْرَاجِ عَنِ الظَّاهِرِ فِى هَذِهِ الآيَةِ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْكَلِمِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ عَرَضٌ لا يَنْتَقِلُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ وَلا يَرْتَفِعُ مِنْ تَحْتٍ إِلَى فَوْقٍ وَإِنَّمَا هَذَا كَمَا تَقُولُ وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا تُرِيدُ أَنَّ اللَّهَ حَالٌّ فِى الْكَعْبَةِ مَثَلًا وَكَمَا جَاءَ فِى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الصَّافَّاتِ إِخْبَارًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿وَقَالَ إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ﴾ وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ يَسْكُنُ فِلَسْطِينَ وَكَمَا يَقُولُ الْعَرَبُ الْفُصَحَاءُ رَفَعَ الْمَلِكُ فُلانًا وَلا يُرِيدُونَ أَنَّـهُ نَقَلَهُ إِلَى جِهَةِ فَوْقٍ وَفِى لُغَةِ الْعَرَبِ مَا شِئْتَ مِنَ التَّوَسُّعِ فِى الْكَلامِ وَلَكِنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ أَهْلُهُ (فَتَفْسِيرُ الآيَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ يَجِبُ أَنْ يُرَدَّ إِلَى الآيَاتِ الْمُحْكَمَةِ) بِحَيْثُ يُوَافِقُهَا وَلا يُعَارِضُهَا. (هَذَا فِى الْمُتَشَابِهِ الَّذِى يَجُوزُ لِلْعُلَمَاءِ أَنْ يَعْلَمُوهُ) كَمَا سَبَقَ (وَأَمَّا الْمُتَشَابِهُ الَّذِى أُرِيدَ بِقَوْلِهِ) تَعَالَى فِى سُورَةِ ءَالِ عِمْرَانَ (﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ عَلَى قِرَاءَةِ الْوَقْفِ عَلَى لَفْظِ الْجَلالَةِ فَهُوَ مَا كَانَ مِثْلَ وَجْبَةِ الْقِيَامَةِ وَخُرُوجِ الدَّجَّالِ عَلَى التَّحْدِيدِ) وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ (فَلَيْسَ) التَّأْوِيلُ الَّذِى لا سَبِيلَ لِمَخْلُوقٍ إِلَى مَعْرِفَتِهِ هُوَ (مِنْ قَبِيلِ) تَأْوِيلِ (ءَايَةِ الِاسْتِوَاءِ) بَلْ لا بُدَّ فِيهَا مِنْ تَأْوِيلٍ إِجْمَالِىٍّ أَوْ تَفْصِيلِىٍّ عَلَى مَا سَيَأْتِى بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْعَجَبُ مِنَ الْوَهَّابِيَّةِ يُنْكِرُونَ تَأْوِيلَ ءَايَةِ الِاسْتِوَاءِ وَنَحْوِهَا مِنَ الآيَاتِ الَّتِى يُوهِمُ ظَاهِرُهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِى جِهَةِ فَوْقٍ مُدَّعِينَ أَنَّـهُ يَلْزَمُ التَّمَسُّكُ بِالظَّاهِرِ فِى الآيَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعَقِيدَةِ وَأَنَّـهُ يَحْرُمُ تَأْوِيلُهَا ثُمَّ يُأَوِّلُونَ الآيَاتِ الَّتِى يُوهِمُ ظَاهِرُهَا أَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ فِى الأَرْضِ أَوْ حَالٌّ فِى كُلِّ الْجِهَاتِ أَوْ مُنْبَثٌّ فِى كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هَذَا إِلَّا تَحَكُّمٌ أَىْ حُكْمٌ بِمَحْضِ الْهَوَى مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَشَأْنُ الْمُؤْمِنِ الإِيمَانُ بِالآيَاتِ الْمُحْكَمَةِ وَالْعَمَلُ فِى الأُصُولِ وَالْفُرُوعِ عَلَى مُقْتَضَاهَا إِذْ إِنَّ مَعْنَاهَا لا يَلْتَبِسُ عَلَى أَحَدٍ وَلا يُخْتَلَفُ فِيهِ وَالإِيمَانُ بِالْمُتَشَابِهِ مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّ لَهُ مَعْنًى لائِقًا يُنَاسِبُ الْمُحْكَمَ وَيُوَافِقُهُ (وَقَدْ وَرَدَ عنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِى الْمُسْتَدْرَكِ وَابْنُ حِبَّانَ فِى صَحِيحِهِ مَرْفُوعًا (اعْمَلُوا بِمُحْكَمِهِ وَءَامِنُوا بِمُتَشَابِهِهِ) اﻫ وَهُوَ حَدِيثٌ (ضَعِيفٌ ضَعْفًا خَفِيفًا) فَإِنَّهُمَا رَوَيَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِى سَلَمَةَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمٰنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إِنَّ أَبَا سَلَمَةَ لَمْ يَلْقَ ابْنَ مَسْعُودٍ فَفِيهِ انْقِطَاعٌ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ فِى الْفَتْحِ لَكِنْ رَوَاهُ أَيْضًا أَحْمَدُ فِى الْمُسْنَدِ وَابْنُ أَبِى دَاوُدَ فِى الْمَصَاحِفِ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بنِ حَسَّانٍ عَنْ فُلْفُلَةِ الْجُعْفِىِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَالَ الْهَيْثَمِىُّ فِى مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ فِيهِ عُثْمَانُ بنُ حَسَّانٍ ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِى حَاتِمٍ فَلَمْ يُجَرِّحْهُ وَلَمْ يُوَثِّقْهُ وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ اهـ وَإِذَا أُضِيفَ إِلَى ذَلِكَ تَصْحِيحُ ابْنِ حِبَّانَ لَهُ عُلِمَ أَنَّ الْحَدِيثَ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا إِلَّا أَنَّ ضَعْفَهُ خَفِيفٌ لا يَمْنَعُ مِنْ إِيرَادِهِ وَالِاسْتِئْنَاسِ بِهِ. وَبِمَعْنَاهُ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِىُّ فِى الِاعْتِقَادِ عَنْ عَدَدٍ مِنْ أَكَابِرِ أَئِمَّةِ السَّلَفِ أَنَّهُمْ قَالُوا فِى الْمُتَشَابِهَاتِ أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلا كَيْفِيَّةٍ اﻫ أَىْ ءَامِنُوا بِهَا لِوُرُودِهَا فِى الْقُرْءَانِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّ لَهَا مَعَانِىَ تَلِيقُ بِاللَّهِ غَيْرَ الْمَعَانِى الظَّاهِرَةِ الَّتِى فِيهَا تَشْبِيهٌ لِلْخَالِقِ بِالْمَخْلُوقِ.

(وَقَدْ بَيَّنَ أَبُو نَصْرٍ) أَىِ ابْنُ أَبِى الْقَاسِمِ (الْقُشَيْرِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الشَّنَاعَةَ الَّتِى تَلْزَمُ نُفَاةَ التَّأْوِيلِ، وَأَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِىُّ هُوَ الَّذِى وَصَفَهُ الْحَافِظُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الطَّبْسِىُّ بِإِمَامِ الأَئِمَّةِ كَمَا نَقلَ ذَلِكَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِى كِتَابِهِ تَبْيِينُ كَذِبِ الْمُفْتَرِى. قَالَ الْمُحَدِّثُ اللُّغَوِىُّ الْفَقِيهُ الْحَنَفِىُّ مُرْتَضَى الزَّبِيدِىُّ فِى شَرْحِهِ الْمُسَمَّى إِتْحَافَ السَّادَةِ الْمُتَّقِينَ نَقْلًا عَنْ كِتَابِ التَّذْكِرَةِ الشَّرْقِيَّةِ لِأَبِى نَصْرٍ الْقُشَيْرِىِّ مَا نَصُّهُ وَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) فِى سُورَةِ ءَالِ عِمْرَانَ (﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ إِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ وَقْتَ قِيَامِ السَّاعَةِ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ سَأَلُوا النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا وَمَتَى وُقُوعُهَا) فَهَذَا لا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ (فَالْمُتَشَابِهُ إِشَارَةٌ إِلَى عِلْمِ الْغَيْبِ فَلَيْسَ يَعْلَمُ عَوَاقِبَ الأُمُورِ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلِهَذَا قَالَ) تَعَالَى فِى سُورَةِ الأَعْرَافِ (﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ﴾ أَىْ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا قِيَامَ السَّاعَةِ. وَكَيْفَ يَسُوغُ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ) أَىْ لا يَلِيقُ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ (فِى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى) أَىِ الْقُرْءَانِ (مَا لا سَبِيلَ لِمَخْلُوقٍ إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَلا يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلَّا اللَّهُ أَلَيْسَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْقَدْحِ) أَىِ الْجَرْحِ (فِى النُّبُوَاتِ وَأَنَّ النَّبِىَّ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا عَرَفَ تَأْوِيلَ مَا وَرَدَ فِى صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَدَعَا الْخَلْقَ إِلَى عِلْمِ مَا لا يُعْلَمُ. أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ) فِى سُورَةِ الشُّعَرَاءِ (﴿بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُّبِينٍ﴾ فَإِذًا) لَوْ كَانَ فِى الْقُرْءَانِ مَا لا سَبِيلَ لِأَحَدٍ إِلَى مَعْرِفَتِه كَانَ (عَلَى زَعْمِهِمْ) أَىْ عَلَى زَعْمِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ جَاءَ النَّبِىُّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ لِيَدْعُوَهُمْ إِلَى الإِيمَانِ بِالْقُرْءَانِ (يَجِبُ أَنْ يَقُولُوا كَذَبَ حَيْثُ قَالَ ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُّبِينٍ﴾) أَىْ ظَاهِرٍ (إِذْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ وَإِلَّا فَأَيْنَ هَذَا الْبَيَانُ) أَىْ لَكَانُوا قَالُوا قَوْلُهُ ﴿مُّبِينٌ﴾ كَذِبٌ إِذْ كَيْفَ يَكُونُ بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ ظَاهِرٍ ثُمَّ لا يَعْرِفُ أَىٌّ مِنَّا مَعْنَاهُ. (وَ)لَقَالُوا (إِذَا كَانَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ) كَمَا يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ (فَكَيْفَ يَدَّعِى أَنَّهُ مِمَّا لا تَعْلَمُهُ الْعَرَبُ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ الشَّىْءُ عَرَبِيًّا) قَالَ الْقُشَيْرِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ (فَمَا قَوْلٌ فِى مَقَالٍ) أَىْ فَمَاذَا يُقَالُ فِى قَوْلٍ أَىْ فَهَلْ يَصِحُّ قَوْلٌ (مَآلُهُ) أَىْ مُؤَدَّاهُ (إِلَى تَكْذِيبِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ) قَالَ (ثُمَّ كَانَ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَوْ كَانَ فِى كَلامِهِ وَفِى مَا يُلْقِيهِ إِلَى أُمَّتِهِ شَىْءٌ لا يَعْلَمُ تأْوِيلَهُ) أَىْ مَعْنَاهُ (إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى لَكَانَ لِلْقَوْمِ أَنْ يَقُولُوا بَيِّنْ لَنَا أَوَّلًا مَنْ تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَمَا الَّذِى تَقُولُ) حَتَّى نَقْدِرَ عَلَى الإِيمَانِ بِهِ (فَإِنَّ الإِيمَانَ بِمَا لا يُعْلَمُ أَصْلُهُ غَيْرُ مُتَأَتٍ) أَىْ لا يُمْكِنُ (وَنِسْبَةُ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنَّـهُ دَعا إِلَى رَبٍّ مَوْصُوفٍ بِصِفَاتٍ لا تُعْقَلُ) أَىْ لا يَدُلُّ كَلامُهُ عَلَى مَعْنَاهَا (أَمْرٌ عَظِيمٌ لا يَتَخَيَّلُهُ مُسْلِمٌ) وَلا يَقُولُ بِهِ (فَإِنَّ الْجَهْلَ بِالصِّفَاتِ يُؤَدِّى إِلَى الْجَهْلِ بِالْمَوْصُوفِ) أَىْ إِنَّ الْجَهْلَ بِالصِّفَاتِ يَقْتَضِى عَدَمَ مَعْرِفَةِ مَنْ هُوَ الْمَوْصُوفُ (وَالْغَرَضُ أَنْ يَسْتَبِينَ مَنْ مَعَهُ مُسْكَةٌ مِنَ الْعَقْلِ) أَىْ شَىْءٌ مِنْهُ (أَنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ اسْتِوَاؤُهُ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لا يُعْقَلُ مَعْنَاهَا) أَىْ لا يُعْلَمُ الْمَقْصُودُ مِنْ كَلِمَةِ اسْتَوَى (وَ)يَقُولُ (الْيَدُ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لا يُعْقَلُ مَعْنَاهَا وَالْقَدَمُ صِفَةٌ ذاتِيَّةٌ لا يُعْقَلُ مَعْنَاهَا تَمْوِيهٌ) وَخِدَاعٌ (ضِمْنَهُ تَكْيِيفٌ وَتَشْبِيهٌ) إِذْ إِنَّ الْمُشَبِّهَةَ يَتَّخِذُونَ هَذِهِ الأَلْفَاظَ سَبِيلًا لإِبْعَادِ النَّاسِ عَنْ مَعَانِى هَذِهِ الْعِبَارَاتِ مِنَ الْيَدِ وَالِاسْتِوَاءِ وَالْقَدَمِ مِمَّا يُوَافِقُ الشَّرِيعَةَ وَاللُّغَةَ وَيَصْرِفُ مَعَانِيَهَا عَنِ التَّشْبِيهِ وَالتَّحْدِيدِ وَالتَّكْيِيفِ بِقَوْلِهِمْ إِنَّ هَذِهِ التَّفَاسِيرَ مَرْدُودَةٌ لِأَنَّ الِاسْتِوَاءَ وَالْيَدَ وَالْقَدَمَ بِزَعْمِهِمْ لا يُعْقَلُ مَعْنَاهَا فَيَسْهُلُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ جَرُّ النَّاسِ إِلَى اعْتِقَادِ أَنَّهَا جَوَارِحُ وَكَيْفِيَّاتٌ نَجْهَلُ حَجْمَهَا وَمَقَادِيرَهَا وَأَحْوَالَهَا فَلِذَلِكَ كَانَ كَلامُهُمْ تَمْوِيهًا يَتَضَمَّنُ تَشْبِيهًا (وَ)هُوَ أَيْضًا (دُعَاءٌ إِلَى الْجَهْلِ) لِأَنَّ مَنْ يَقُولُ لَكَ ءَامِنْ بِمَا لا يُتَعَقَّلُ وَصَدِّقْ بِمَا لا يُعْرَفُ لا يَكُونُ فِى الْحَقِيقَةِ قَدْ دَعَاكَ إِلَى عِلْمٍ بَلْ دَعَاكَ إِلَى أَنْ تَجْهَلَ مَعَانِىَ مَا يُلْقِى إِلَيْكَ (وَقَدْ وَضَحَ الْحَقُّ لِذِى عَيْنَيْنِ. وَلَيْتَ شِعْرِى هَذَا الَّذِى يُنْكِرُ التَّأْوِيلَ يَطْرُدُ هَذَا الإِنْكَارَ) أَىْ يُدْخِلُهُ (فِى كُلِّ شَىْءٍ وَفِى كُلِّ ءَايَةٍ) فَيُعَمِّمُهُ (أَمْ يَقْنَعُ بِتَرْكِ التَّأْوِيلِ فِى صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى) فَقَطْ فَيَخُصُّ الْمَنْعَ مِنَ التَّأْوِيلِ بِهَا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ (فَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ التَّأْوِيلِ أَصْلًا) أَىْ عَلَى الإِطْلاقِ فِى الصِّفَاتِ وَفِى غَيْرِ الصِّفَاتِ (فَقَدْ أَبْطَلَ الشَّرِيعَةَ وَالْعُلُومَ إِذْ مَا مِنْ ءَايَةٍ وَخَبَرٍ إِلَّا وَيَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ وَتَصَرُّفٍ فِى الْكَلامِ) بِتَخْصِيصٍ أَوْ تَقْيِيدٍ أَوْ إِضْمَارٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ إِلَّا ءَايَاتٍ لا تَحْتَاجُ إِلَى شَىْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْحَدِيدِ ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ﴾ حَيْثُ أَفَادَتْ كَلِمَةُ كُلّ الْعُمُومَ بِلا إِخْرَاجِ شَىْءٍ وَاحِدٍ (لِأَنَّ ثَمَّ أَشْيَاءَ لا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِهَا) أَوْ تَخْصِيصِهَا أَوْ تَقْيِيدِهَا أَوْ تَقْدِيرِ إِضْمَارٍ فِيهَا (لا خِلافَ بَيْنَ الْعُقَلاءِ فِيهِ إِلَّا الْمُلْحِدَةَ الَّذِينَ قَصْدُهُمُ التَّعْطِيلُ لِلشَّرَائِعِ) فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْمَائِدَةِ ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾ مَثَلًا لا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَخْصِيصِ الشَّىْءِ بِالْمُمْكِنِ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ لا تَتَعَلَّقُ إِلَّا بِالْمُمْكِنِ كَمَا تَقَدَّمَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْبَقَرَةِ ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ﴾ لا بُدَّ مِنَ التَّقْدِيرِ فِيهِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى وَقْتُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ وَقَوْلُ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِى رَوَاهُ الشَّيْخَانِ إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ اﻫ مَثَلًا لا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَقْدِيرِ إِنَّمَا الأَعْمَالُ تَكُونُ مُعْتَبَرَةً فِى الشَّرْعِ إِذَا اقْتَرَنَتْ بِالنِّيَّاتِ الصَّحِيحَةِ وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ الَّذِى رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ لا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِىٍّ وَشَاهِدَىْ عَدْلٍ اﻫ مَثَلًا لا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَقْدِيرِ لا نِكَاحَ صَحِيحٌ إِلَّا بِوَلِىٍّ وَشَاهِدَيْنِ فَالزَّعْمُ بِبُطْلانِ التَّأْوِيلِ عَلَى الإِطْلاقِ (وَ)التَّمَسُّكُ بِالظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ أَىِّ تَصَرُّفٍ فِى الْكَلامِ مَهْمَا كَانَ وَ(الِاعْتِقَادُ لِهَذَا) الْمَنْهَجِ (يُؤَدِّى إِلَى) وُقُوعِ صَاحِبِهِ فِى التَّنَاقُضِ وَ(إِبْطَالِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ التَّمَسُّكِ بِالشَّرْعِ) بِزَعْمِهِ فَإِنَّـهُ إِذَا أَرَادَ التَّمَسُّكَ بِمَا جَاءَ فِى الشَّرْعِ اعْتَقَدَ أَنَّ الرِّيحَ الَّتِى أَرْسَلَهَا اللَّهُ عَلَى قَوْمِ عَادٍ لَمْ تُدَمِّرِ الْجِبَالَ وَلا السَّمَوَاتِ وَلا الأَرْضَ وَلا الْجَنَّةَ لَكِنْ إِذَا زَعَمَ فِى الْوَقْتِ عَيْنِهِ أَنَّ التَّأْوِيلَ بِأَنْوَاعِهِ مُمْتَنِعٌ اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يُفَسِّرَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الأَحْقَافِ ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا﴾ بِأَنَّ تِلْكَ الرِّيحَ دَمَّرَتْ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَهَذَا عَكْسُ مَا جَاءَ فِى الشَّرْعِ فَإِنَّهَا إِنَّمَا دَمَّرَتْ مَا اعْتَادُوا أَنْ يَعِيشُوا فِيهِ فَكَانَ لا بُدَّ لِلمُتَمَسِّكِ بِالشَّرْعِ مِنْ تَرْكِ الظَّاهِرِ وَاللُّجُوءِ إِلَى التَّأْوِيلِ فِى كَثِيرٍ مِنَ الآيَاتِ وَالأَحَادِيثِ. قَالَ الْقُشَيْرِىُّ (وَإِنْ قَالَ يَجُوزُ التَّأْوِيلُ عَلَى الْجُمْلَةِ) أَىْ حَيْثُ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ (إِلَّا فِى مَا يَتَعَلَّقُ بِاللَّهِ وَبِصِفَاتِهِ فَلا تَأْوِيلَ فِيهِ فَهَذَا مَصِيرٌ مِنْهُ) أَىْ إِنَّـهُ يَصِيرُ (إِلَى أَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ) مَعْنَاهُ (وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّانِعِ) أَىِ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ (وَصِفَاتِهِ يَجِبُ التَّقَاصِى) أَىِ الْبُعْدُ (عَنْهُ وَهَذَا لا يَرْضَى بِهِ مُسْلِمٌ) فَإِنَّ الْعِلْمَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ أَجَلُّ وَقَدْ تَمَدَّحَ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ أَعْلَمُ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ بِهِ وَذَلِكَ فِى مَا رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ وَغَيْرُهُ وَكَيْفَ يُحَصَّلُ هَذَا الْعِلْمُ إِذَا تُرِكَ النَّظَرُ فِى النُّصُوصِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ وَنَأَى النَّاظِرُ فِيهَا عَنْ تَعَلُّمِ مَعَانِيهَا وَلَوْ كَانَ أَقْصَى مَا يُمْكِنُ الإِنْسَانَ فِيهَا حِفْظُ أَلْفَاظِهَا مِنْ غَيْرِ فَهْمٍ لِلْمَعْنَى لَمَا كَانَ سَبِيلٌ إِلَى تَحْصِيلِ هَذَا الْعِلْمِ وَلَمَا تَفَاوَتَ النَّاسُ فِيهِ وَلَمَا كَانَ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَ مِنْ غَيْرِهِ فِيهِ. (وَسِرُّ الأَمْرِ) أَىْ حَقِيقَتُهُ (أَنَّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَمْتَنِعُونَ عَنِ التَّأْوِيلِ مُعْتَقِدُونَ حَقِيقَةَ التَّشْبِيهِ غَيْرَ أَنَّهُمْ يُدَلِّسُونَ وَ)لا يُصَرِّحُونَ بِاعْتِقَادِهِمْ كَىْ لا يُصَدُّوا فَوْرًا فَيَتَدَرَّجُونَ فِى جَلْبِ الْغِرِّ إِلَى اعْتِقَادِهِمْ وَ(يَقُولُونَ لَهُ) أَىِ لِلَّهِ (يَدٌ لا كَالأَيْدِى وَقَدَمٌ لا كَالأَقْدَامِ وَاسْتِوَاءٌ بِالذَّاتِ لا كَمَا نَعْقِلُ فِى مَا بَيْنَنَا فَلْيَقُلِ الْمُحَقِّقُ) مِنْ أَهْلِ الْفَهْمِ إِذَا سَمِعَ مَا يَدَّعُونَ (هَذَا كَلامٌ لا بُدَّ مِنِ اسْتِبْيَانٍ) فِيهِ فَإِنَّ فِيهِ إِشْكَالًا إِذْ (قَوْلُكُمْ نُجْرِى الأَمْرَ عَلَى الظَّاهِرِ وَلا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ تَنَاقُضٌ إِنْ أَجْرَيْتَ عَلَى الظَّاهِرِ فَظَاهِرُ السَّاقِ فِى قَوْلِهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الْقَلَمِ (﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾ هُوَ الْعُضْوُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ وَالْعَظْمِ وَالْعَصَبِ) مُفْرَدِ الأَعْصَابِ وَهِىَ أَطْنَابُ الْمَفَاصِلِ (وَالْمُخِّ) الَّذِى تَحْوِيهِ الْعِظَامُ (فَإِنْ أَخَذْتَ بِهَذَا الظَّاهِرِ وَالْتَزَمْتَ بِالإِقْرَارِ بِهَذِهِ الأَعْضَاءِ) أَىْ إِنْ قُلْتَ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الَّذِى عَنَيْتُهُ وَأَنَا أَعْتَقِدُ فِى اللَّهِ الْجَوَارِحَ وَالأَعْضَاءَ (فَهُوَ الْكُفْرُ) بِدُونِ شَكٍّ وَقَعْتَ فِيهِ (وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْكَ الأَخْذُ بِهَا) أَىْ بِمَعَانِيهَا الظَّاهِرَةِ فَقُلْتَ بِأَنَّكَ لا تُرِيدُ بِالظَّاهِرِ هَذِهِ الْمَعَانِىَ وَلا تَنْسُبُ إِلَى اللَّهِ مَعَانِىَ الْجِسْمِيَّةِ وَصِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ (فَأَيْنَ الأَخْذُ بِالظَّاهِرِ) الَّذِى زَعَمْتَ لُزُومَهُ (أَلَسْتَ قَدْ تَرَكْتَ الظَّاهِرَ) بِرَفْضِكَ لِنِسْبِةِ مَعَانِى الْمَخْلُوقِينَ إِلَى اللَّهِ (وَعَلِمْتَ تَقَدُّسَ الرَّبِّ تَعَالَى عَمَّا يُوهِمُ الظَّاهِرُ فَكَيْفَ يَكُونُ) تَرْكُ الظَّاهِرِ (أَخْذًا بِالظَّاهِرِ) هَذَا تَنَاقُضٌ. (وَإِنْ قَالَ الْخَصْمُ) مُدَلِّسًا لِلتَّهَرُّبِ مِنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ (هَذِهِ الظَّوَاهِرُ) أَىْ مَا أُرِيدُهُ مِنْ قَوْلِى نَأْخُذُ بِالظَّاهِرِ إِنَّ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ (لا مَعْنَى لَهَا أَصْلًا) بِأَنْ قَالَ مَثَلًا لَيْسَ مَعْنَاهَا الْجَوَارِحَ وَالأَعْضَاءَ الَّتِى هِىَ الْمَعْنَى الْمُتَبَادِرُ وَلا أَىَّ مَعْنًى ءَاخَرَ مَعْرُوفٌ لَهَا فِى اللُّغَةِ (فَهُوَ) مِنْهُ (حُكْمٌ بِأَنَّهَا مُلْغَاةٌ) إِذْ زَعَمَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا مَعْنًى بِحَسَبِ اللُّغَةِ يُعْرَفُ (وَ)زَعْمٌ مِنْهُ بِأَنَّهُ (مَا كَانَ فِى إِبْلاغِهَا إِلَيْنَا فَائِدَةٌ وَهِىَ هَدَرٌ) أَىْ لا اعْتِبَارَ لَهَا (وَهَذَا مُحَالٌ) لِأَنَّهَا تَكُونُ وَالْحَالَةَ هَذِهِ لَغْوًا وَالْقُرْءَانُ مُنَزَّهٌ عَنِ اللَّغْوِ بِلا رَيْبٍ (وَفِى لُغَةِ الْعَرَبِ مَا شِئْتَ) أَىِ الْكَثِيرُ الْكَثِيرُ (مِنَ التَّجَوُّزِ) أَىِ اسْتِعْمَالِ الْمَجَازِ (وَالتَّوَسُّعِ فِى الْخِطَابِ وَكَانُوا) أَىِ الْعَرَبُ الْقُدَمَاءُ الَّذِينَ يُحْتَجُّ بِكَلامِهِمْ فِى اللُّغَةِ فِى زَمَنِ الْبِعْثَةِ وَمَا يَسْبِقُهُ وَمَا يَلِيهِ (يَعْرِفُونَ مَوَارِدَ الْكَلامِ) أَىْ فِى أَىِّ مَعْنًى وَرَدَ (وَيَفْهَمُونَ الْمَقَاصِدَ) أَىْ مَا يُقْصَدُ مِنْ مَعَانِى الأَلْفَاظِ (فَمَنْ تَجَافَى) أَىِ ابْتَعَدَ (عَنِ التَّأْوِيلِ) حَيْثُ يَنْبَغِى التَّأْوِيلُ (فَذَلِكَ لِقِلَّةِ فَهْمِهِ بِالْعَرَبِيَّةِ) وَمِنْ هُنَا دَخَلَ الضَّلالُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَلا سِيَّمَا الْمُشَبِّهَة (وَمَنْ أَحَاطَ بِطُرُقٍ) كَثِيرَةٍ (مِنَ الْعَرَبِيَّةِ) أَىْ وَسِعَتْ مَعْرِفَتُهُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ الْفُصَحَاءِ (هَانَ عَلَيْهِ مَدْرَكُ الْحَقَائِقِ) أَىْ إِدْرَاكُهَا وَمَيَّزَ فِى كَلامِ الْعَرَبِ وَنُصُوصِ الشَّرِيعَةِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَمَا أُرِيدَ مِنْهُ الْمَعْنَى الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ لِلَّفْظِ وَمَا أُرِيدَ مِنْهُ مَعْنًى ءَاخَرُ ظَاهِرٌ بِالدَّلِيلِ. (وَقَدْ قِيلَ) أَىْ قُرِئَ فِى بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ فِى سُورَةِ ءَالِ عِمْرَانَ (﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ﴾) بِالْوَقْفِ عَلَى لَفْظِ الْعِلْمِ كَمَا رَوَاهُ الطَّبَرِىُّ وَغَيْرُهُ فِى تَفْسِيرِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ (فَكَأَنَّهُ قَالَ) أَىْ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى (وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ أَيْضًا يَعْلَمُونَه) أَىْ يَعْلَمُونَ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ الَّذِى لَيْسَ عِلْمُهُ خَاصًّا بِاللَّهِ كَخُرُوجِ الدَّجَّالِ وَوَجْبَةِ الْقِيَامَةِ مِمَّا لا يَعْلَمُهُ الْخَلْقُ (وَيَقُولُونَ) أَىِ الرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ الْمُتَمَكِّنُونَ فِيهِ (﴿ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾) أَىْ إِنَّ الْمُحْكَمَاتِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَالْمُتَشَابِهَاتِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِذَلِكَ كُلِّهِ (فَإِنَّ الإِيمَانَ بِالشَّىْءِ إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ الْعِلْمِ) بِهِ (أَمَّا مَا لا يُعْلَمُ) بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ (فَالإِيمَانُ بِهِ غَيْرُ مُتَأَتٍّ) أَىْ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَمَنْ عَلِمَ مَثَلًا أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ طَه ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ لا يُرَادُ بِهِ الْجُلُوسُ أَوِ الِاسْتِقْرَارُ أَوِ الْعُلُوُّ بِالْمَسَافَةِ بَلْ هُوَ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِى الَّتِى جَاءَتْ بِهَا لُغَةُ الْعَرَبِ لِلِاسْتِوَاءِ يَلِيقُ بِاللَّهِ لَيْسَ كَمَعَانِى الْمَخْلُوقِينَ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِهِ يَكُونُ قَدْ حَصَّلَ نَوْعًا مِنَ الْعِلْمِ بِمَعْنَى هَذِهِ الآيَةِ فَيُقَالُ عَنْهُ عَلِمَ هَذَا الْمَعْنَى وَءَامَنَ بِهِ وَمِثْلُهُ الَّذِى يُؤَوِّلُ الِاسْتِوَاءَ بِالْقَهْرِ فَإِنَّهُ عَلِمَ هَذَا التَّأْوِيلَ التَّفْصِيلِىَّ وَءَامَنَ بِهَذَا الْمُتَشَابِهِ أَنَّهُ حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَمَّا إِذَا قِيلَ إِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ النَّبِىَّ لِيُكَلِّمَ النَّاسَ بِمَا لا يَفْهَمُونَ لَهُ أَىَّ مَعْنًى بِالْمَرَّةِ فَهُوَ زَعْمٌ بِأَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْخَلْقِ بِمَا لا تَقُومُ بِهِ عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ وَهُوَ كَلامٌ فِى غَايَةِ التَّهَافُتِ وَفِيهِ رَدُّ الشَّرِيعَةِ وَتَكْذِيبُ الدِّينِ (وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِى مَا رَوَاهُ الطَّبَرِىُّ وَغَيْرُهُ (أَنَا مِنَ الرَّاسِخِينَ فِى الْعِلْمِ) اﻫ (انْتَهَى كَلامُ الْحَافِظِ الزَّبِيدِىِّ مِمَّا نَقَلَهُ عَنْ أَبِى النَّصْرِ الْقُشَيْرِىِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.

فَهُنَا مَسْلَكَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا صَحِيحٌ الأَوَّلُ مَسْلَكُ السَّلَفِ وَهُمْ أَهْلُ الْقُرُونِ الثَّلاثَةِ الأُولَى) بَعْدَ الْهِجْرَةِ (أَىْ) قَرْنِ الصَّحَابَةِ وَقَرْنِ التَّابِعِينَ وَقَرْنِ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ أَوْ يُرَادُ بِالْقُرُونِ الثَّلاثَةِ الأُولَى الثَّلاثُمِائَةِ سَنَةٍ الأُولَى الَّتِى بَعْدَ الْهِجْرَةِ كَمَا فَسَّرَهَا الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ بِذَلِكَ فَأَهْلُ هَذِهِ الْقُرُونِ أَىْ (أَكْثَرُهُمْ) لا يُؤَوِّلُونَ الآيَاتِ الْمُتَشَابِهَةَ تَأْوِيلًا تَفْصِيلِيًّا (فَإِنَّهُمْ) لَمْ يَحْتَاجُوا ذَلِكَ احْتِيَاجَ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ لِقِلَّةِ انْتِشَارِ الْبِدَعِ فِى تِلْكَ الأَزْمَانِ بَلْ (يُؤَوِّلُونَهَا تَأْوِيلًا إِجْمَالِيًّا) وَذَلِكَ (بِالإِيمَانِ بِهَا وَاعْتِقَادِ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ صِفَاتِ الْجِسْمِ بَلْ أَنَّ لَهَا مَعْنًى يَلِيقُ بِجَلالِ اللَّهِ وَعَظَمَتِهِ) فَيُثْبِتُونَ اللَّفْظَ الْوَارِدَ وَيَنْفُونَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَعْنًى كَمَعَانِى الْخَلْقِ (بِلا تَعْيِينٍ) لِلْمَعْنَى الْمُرَادِ (بَلْ رَدُّوا تِلْكَ الآيَاتِ إِلَى الآيَاتِ الْمُحْكَمَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الشُّورَى (﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ وَهُوَ كَمَا قَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِىُّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ ءَامَنْتُ بِمَا جَاءَ عَنِ اللَّهِ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ وَبِمَا جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُرَادِ رَسُولِ اللَّهِ يَعْنِى رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ لا عَلَى مَا قَدْ تَذْهَبُ إِلَيْهِ الأَوْهَامُ وَالظُّنُونُ مِنَ الْمَعَانِى الْحِسِّيَّةِ الْجِسْمِيَّةِ الَّتِى لا تَجُوزُ فِى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى) فَإِنَّ سَلَفَ الأُمَّةِ وَعُلَمَاءَ الْخَلَفِ مِنْهَا يَعْتَقِدُونَ كُلُّهُمْ أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَالتَّحَوُّلِ وَالْحُلُولِ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِى فَتْحِ الْبَارِئِ. (ثُمَّ) إِنَّ السَّلَفَ لَمْ يُرِيدُوا بِمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مَنْعَ التَّأْوِيلِ التَّفْصِيلِىِّ وَلا سَلَكُوا كُلُّهُمْ مَسْلَكَ تَرْكِهِ وَالِابْتِعَادِ عَنْهُ بَلْ (نَفْىُ التَّأْوِيلِ التَّفْصِيِلىِّ عَنِ السَّلَفِ كَمَا زَعَمَ بَعْضٌ مَرْدُودٌ) زِيَادَةً عَلَى مَا سَبَقَ (بِمَا فِى صَحِيحِ الْبُخَارِىِّ فِى كِتَابِ تَفْسِيرِ الْقُرْءَانِ وَعِبَارَتُهُ هُنَاكَ سُورَةُ الْقَصَصِ ﴿كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ إِلَّا مُلْكَهُ وَيُقَالُ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ اﻫ فَمُلْكُ اللَّهِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ الأَزَلِيَّةِ) أَىْ فَلا بِدَايَةَ لَهُ وَلا نِهَايَةَ فَلا يَفْنَى وَمَعْنَاهُ سُلْطَانُهُ وَهُوَ (لَيْسَ كَالْمُلْكِ الَّذِى يُعْطِيهِ لِلْمَخْلُوقِينَ) فَإِنَّهُ يَفْنَى كَمَا فَنِىَ مُلْكُ أَعْدَاءِ اللَّهِ مِنْ مُلُوكِ الْكُفَّارِ كَالنُّمْرُودِ وَفِرْعَوْنَ وَكَمَا فَنِىَ مُلْكُ أَحْبَابِ اللَّهِ كَسُلَيْمَانَ وَذِى الْقَرْنَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلامُ. (وَفِيهِ) أَىْ فِى الْبُخَارِىِّ (غَيْرُ هَذَا الْمَوْضِعِ) مِنَ التَّأْوِيلِ التَّفْصِيلِىِّ (كَتَأْوِيلِ) قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ هُود ﴿مَّا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ ءَاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾ بِأَنَّهَا فِى مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ اﻫ وَقَالَ الْخَطَّابِىُّ إِنَّ الْبُخَارِىَّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَوَّلَ (الضَّحِكَ الْوَارِدَ فِى الْحَدِيثِ) الْمَرْوِىِّ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الرَّجُلِ الأَنْصَارِىِّ وَزَوْجِهِ وَضَيْفِهِمَا وَفِيهِ ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ الْحَدِيثَ (بِالرَّحْمَةِ) أَىِ الْخَاصَّةِ قَالَ وَهُوَ قَرِيبٌ وَتَأْوِيلُهُ عَلَى مَعْنَى الرِّضَا أَقْرَبُ اﻫ (وَصَحَّ أَيْضًا التَّأْوِيلُ التَّفْصِيلِىُّ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ) بنِ حَنْبَلٍ (وَهُوَ مِنَ السَّلَفِ) سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ عَصْرَهُمْ يَنْتَهِى بِانْقِرَاضِ تَبَعِ الأَتْبَاعِ أَوْ قُلْنَا إِنَّهُ يَنْقَضِى بِانْتِهَاءِ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ (فَقَدْ) تُوُفِّىَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ أَوْ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ (ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِى قَوْلِهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الْفَجْرِ (﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾) ﴿وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ (إِنَّمَا جَاءَتْ قُدْرَتُهُ) اﻫ أَىْ ءَاثَارُ قُدْرَتِهِ مِنَ الأُمُورِ الْعَظِيمَةِ الَّتِى تَظْهَرُ حِينَ يَحْضُرُ الْمَلائِكَةُ صُفُوفًا فِى ذَلِكَ الْيَوْمِ كَجَرِّ الْمَلائِكَةِ لِعُنُقٍ مِنْ جَهَنَّمَ بِسَبْعِينَ أَلْفَ زِمَامٍ يَجُرُّ كُلَّ زِمَامٍ مِنْهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ بِسِلْسِلَةٍ حَتَّى يَرَى النَّاسُ وَهُمْ فِى الْمَوْقِفِ ذَلِكَ الْعُنُقَ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى مَكَانِهِ. وَهَذَا الأَثَرُ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ (صَحَّحَ سَنَدَهُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِىُّ الَّذِى قَالَ فِيهِ الْحَافِظُ صَلاحُ الدِّينِ الْعَلائِىُّ لَمْ يَأْتِ بَعْدَ الْبَيْهَقِىِّ وَالدَّارَقُطْنِىِّ مِثْلُهُمَا وَلا مَنْ يُقَارِبُهُمَا) اﻫ أَىْ فِى الْحَدِيثِ وَعُلُومِهِ.

(أَمَّا قَوْلُ الْبَيْهَقِىِّ ذَلِكَ فَفِى كِتَابِ مَنَاقِبِ أَحْمَدَ) لَهُ وَنَقَلَهُ عَنْهُ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِى تَارِيخِهِ قَالَ أَىِ الْبَيْهَقِىُّ أَنْبَأَنَا الْحَاكِمُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرِو بنُ السَّمَّاكِ حَدَّثَنَا حَمْزَةُ بنُ إِسْحَقَ قَالَ سَمِعْتُ عَمِّى أَحْمَدَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ احْتَجُّوا عَلَىَّ يَوْمَئِذٍ يَعْنِى يَوْمَ نُوظِرَ فِى دَارِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالُوا تَجِىءُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَتَجِىءُ سُورَةُ تَبَارَكَ فَقُلْتُ لَهُمْ إِنَّمَا هُوَ الثَّوَابُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ إِنَّمَا تَأْتِى قُدْرَتُهُ وَإِنَّمَا الْقُرْءَانُ أَمْثَالٌ وَمَوَاعِظُ اﻫ قَالَ الْبَيْهَقِىُّ وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ لا غُبَارَ عَلَيْهِ اﻫ ثُمَّ قَالَ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لا يَعْتَقِدُ فِى الْمَجِىءِ الَّذِى وَرَدَ بِهِ الْكِتَابُ وَالنُّزُولِ الَّذِى وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ انْتِقَالًا مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ كَمَجِىءِ ذَوَاتِ الأَجْسَامِ وَنُزُولِهَا وَإِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ ظُهُورِ أَثَرِ قُدْرَتِهِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا زَعَمُوا أَنَّ الْقُرْءَانَ لَوْ كَانَ كَلامَ اللَّهِ وَصِفَةً مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ لَمْ يَجُزْ عَلَيْهِ الْمَجِىءُ وَالإِتْيَانُ فَأَجَابَهُمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَجِىءُ ثَوَابُ قِرَاءَتِهِ الَّذِى يُرِيدُ إِظْهَارَهُ يَوْمَئِذٍ فَعَبَّرَ عَنْ إِظْهَارِهِ إِيَّاهُ بِمَجِيئِهِ. وَهَذَا الَّذِى أَجَابَهُمْ بِهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لا يَهْتَدِى إِلَيْهِ إِلَّا الْحَذَّاقُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الْمُنَزِّهُونَ عَنِ التَّشْبِيهِ اﻫ (وَأَمَّا قَوْلُ الْحَافِظِ أَبِى سَعِيدِ) بنِ كَيْكَلَدِى (الْعَلائِىِّ فِى الْبَيْهَقِىِّ وَالدَّارَقُطْنِىِّ فَذَلِكَ فِى كِتَابِهِ الْوَشْى الْمعلَمُ وَأَمَّا الْحَافِظُ أَبُو سَعِيدٍ فَهُوَ الَّذِى يَقُولُ فِيهِ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ شَيْخُ مَشَايِخِنَا) اﻫ فَإِنَّهُ مِنْ مَشَايِخِ الْحَافِظِ زَيْنِ الدِّينِ الْعِرَاقِىِّ الَّذِى تَخَرَّجَ بِهِ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِى عُلُومِ الْحَدِيثِ (وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْقَرْنِ الثَّامِنِ الْهِجْرِىِّ).

(وَهُنَاكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ ذَكَرُوا فِى تَآلِيفِهِمْ أَنَّ أَحْمَدَ أَوَّلَ مِنْهُمُ الْحَافِظُ) الْفَقِيهُ الْمُفَسِّرُ (عَبْدُ الرَّحْمٰنِ بنُ الْجَوْزِىِّ) الْحَنْبَلِىُّ مِنْ أَهْلِ الْقَرْنِ السَّادِسِ (الَّذِى هُوَ أَحَدُ أَسَاطِينِ الْمَذْهَبِ الْحَنْبَلِىِّ) أَىْ أَعْمِدَتِهِ (لِكَثْرَةِ اطِّلاعِهِ عَلَى نُصُوصِ الْمَذْهَبِ وَأَحْوَالِ أَحْمَدَ) وَأَلَّفَ فِى مَنَاقِبِ الإِمَامِ أَحْمَدَ كِتَابًا حَافِلًا وَفِى الأُصُولِ وَالْفُرُوعِ عَلَى حَسَبِ مَذْهَبِهِ كُتُبًا عَدِيدَةً وَنَقَلَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِى كِتَابِ دَفْعِ شُبْهَةِ التَّشْبِيهِ لَهُ أَنَّ الإِمَامَ أَحْمَدَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَوَّلَ قَوْلَهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْبَقَرَةِ ﴿أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾ قَالَ الْمُرَادُ بِهِ قُدْرَتُهُ وَأَمْرُهُ وَقَدْ بَيَّنَهُ فِى قَوْلِهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ النَّحْلِ ﴿أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ وَمِثْلُ هَذَا فِى التَّوْرَاةِ ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ قَالَ إِنَّمَا هِىَ قُدْرَتُهُ اﻫ.

(الثَّانِى مَسْلَكُ الْخَلَفِ) وَهُمْ مَنْ جَاءُوا بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلاثَةِ الأُولَى مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ (وَهُمْ يُأَوِّلُونَهَا) أَىِ الآيَاتِ الْمُتَشَابِهَةَ (تَفْصِيلًا بِتَعْيِينِ مَعَانٍ لَهَا مِمَّا تَقْتَضِيهِ لُغَةُ الْعَرَبِ) فَلا يَكْتَفُونَ بِالتَّأْوِيلِ الإِجْمَالِىِّ كَقَوْلِ إِنَّ لَهَا مَعْنًى يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعَالَى لا كَمَعَانِى الْمَخْلُوقِينَ (وَلا يَحْمِلُونَهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا أَيْضًا كَالسَّلَفِ) بَلْ يَحْمِلُونَهَا عَلَى مَعْنًى يُوَافِقُ الآيَاتِ الْمُحْكَمَةَ كَمَا يُوَافِقُ لُغَةَ الْعَرَبِ وَيُرَجِّحُونَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمَعَانِى لِدِلالَةٍ قَامَتْ عِنْدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ (وَ)هَذَا الْمَسْلَكُ (لا بَأْسَ بِسُلُوكِهِ وَلا) حَرَجَ لا (سِيَّمَا عِنْدَ الْخَوْفِ مِنْ تَزَلْزُلِ الْعَقِيدَةِ) عِنْدَ إِيرَادِ الْمُشَبِّهَةِ شُبَهَهُمْ عَلَى الْعَوَامِّ (حِفْظًا) لَهُمْ (مِنَ التَّشْبِيهِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِى تَوْبِيخِ إِبْلِيسَ) فِى سُورَةِ ص (﴿مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ﴾) إِذَا أَوْرَدَهُ مُشَبِّهٌ لِيُوهِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُتَّصِفٌ بِجَارِحَتَيْنِ كَأَيْدِينَا (فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ بِالْيَدَيْنِ) مَعْنًى يَلِيقُ بِاللَّهِ لَيْسَ كَمَعَانِى الْمَخْلُوقِينَ وَيَقْتَصِرُ عَلَى ذَلِكَ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ بِالْيَدَيْنِ (الْعِنَايَةُ وَالْحِفْظُ) أَىْ مَا مَنَعَكَ يَا إِبْلِيسُ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِعِنَايَتِى وَحِفْظِى أَىْ لِمَنْ أَكْرَمْتُهُ وَأَرَدْتُ لَهُ الْمَقَامَ الْعَالِىَ وَالْخَيْرَ الْعَظِيمَ.


(تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿مِنْ رُّوحِنَا﴾ وَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿مِنْ رُّوحِى﴾)


(لِيُعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَالِقُ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ فَلَيْسَ رُوحًا وَلا جَسَدًا وَمَعَ ذَلِكَ أَضَافَ اللَّهُ تَعَالَى رُوحَ عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ) وَعَلَى نَبِيِّنَا (وَسَلَّمَ إِلَى نَفْسِهِ عَلَى مَعْنَى الْمِلْكِ وَالتَّشْرِيفِ) أَىْ لِلتَّشْرِيفِ مَعَ إِثْبَاتِ الْمِلْكِ (لا لِلْجُزْئِيَّةِ فِى قَوْلِهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الأَنْبِيَاءِ (﴿مِنْ رُّوحِنَا﴾ وَكَذَلِكَ فِى حَقِّ ءَادَمَ قَوْلُهُ تَعَالَى) فِى سُورَةِ ص (﴿مِنْ رُّوحِى﴾) فَكِلْتَا الإِضَافَتَيْنِ لِلدِّلالَةِ عَلَى شَرَفِ رُوحَىْ عِيسَى وَءَادَمَ عَلَيْهِمَا السَّلامُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ إِثْبَاتِ أَنَّهُمَا مِلْكٌ لِلَّهِ وَخَلْقٌ لَهُ وَذَلِكَ كَمَا إِذَا قُلْنَا الْكَعْبَةُ بَيْتُ اللَّهِ فَالإِضَافَةُ هُنَا لَيْسَتْ لِلْجُزْئِيَّةِ أَىْ لَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ الْكَعْبَةَ هِىَ بَيْتٌ جُزْءٌ مِنَ اللَّهِ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّ الْكَعْبَةَ بَيْتٌ مَمْلُوكٌ لِلَّهِ مُشَرَّفٌ عِنْدَهُ فَفَائِدَةُ الإِضَافَةِ إِظْهَارُ شَرَفِ الْمَخْلُوقِ الْمُضَافِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى (فَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ التَّحْرِيمِ (فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُّوحِنَا) مَثَلًا (أَمَرْنَا جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ أَنْ يَنْفُخَ فِى مَرْيَمَ الرُّوحَ الَّتِى هِىَ مِلْكٌ لَنَا وَمُشَرَّفَةٌ عِنْدَنَا) وَذَلِكَ (لِأَنَّ الأَرْوَاحَ قِسْمَانِ أَرْوَاحٌ مُشَرَّفَةٌ) لَهَا عِنْدَ اللَّهِ دَرَجَةٌ وَمَنْزِلَةٌ (وَأَرْوَاحٌ خَبِيثَةٌ) لا يُحِبُّهَا اللَّهُ تَعَالَى (وَأَرْوَاحُ الأَنْبِيَاءِ مِنَ الْقِسْمِ الأَوَّلِ فَإِضَافَةُ رُوحِ عِيسَى وَرُوحِ ءَادَمَ إِلَى نَفْسِهِ) تَعَالَى (إِضَافَةُ مِلْكٍ وَتَشْرِيفٍ وَ)لا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَقِدَ أَحَدٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رُوحٌ عَظِيمَةٌ وَأَنَّ رُوحَ ءَادَمَ جُزْءٌ مِنْهَا أَوْ أَنَّ رُوحَ عِيسَى جُزْءٌ مِنْهَا بَلْ (يَكْفُرُ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رُوحٌ) لِأَنَّ فِى ذَلِكَ تَشْبِيهًا لِلْخَالِقِ بِالْمَخْلُوقِ (فَالرُّوحُ مَخْلُوقَةٌ وَ)لا يَجُوزُ تَشْبِيهُ خَالِقِهَا بِهَا (تَنَزَّهَ اللَّهُ) وَتَعَالَى (عَنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَسُورَةِ الْحَجِّ (فِى الْكَعْبَةِ ﴿بَيْتِىَ﴾ فَهِىَ إِضَافَةُ مِلْكٍ لِلتَّشْرِيفِ لا إِضَافَةُ صِفَةٍ أَوْ مُلابَسَةٍ) أَىْ مُخَالَطَةٍ (لِاسْتِحَالَةِ الْمُلامَسَةِ أَوِ الْمُمَاسَّةِ بَيْنَ اللَّهِ وَالْكَعْبَةِ وَ)ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُلامَسَةَ وَالْمُمَاسَّةَ لا يَكُونَانِ إِلَّا بِالْتِقَاءِ جِسْمَيْنِ (وَكَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ (﴿رَبُّ الْعَرْشِ﴾ لَيْسَ إِلَّا لِلدِّلالَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْعَرْشِ الَّذِى هُوَ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ) وَ(لَيْسَ لِأَنَّ الْعَرْشَ لَهُ مُلابَسَةٌ لِلَّهِ بِالْجُلُوسِ عَلَيْهِ أَوْ بِمُحَاذَاتِهِ مِنْ غَيْرِ جُلُوسٍ) أَىْ (لَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ جَالِسٌ عَلَى عَرْشِهِ بِاتِّصَالٍ وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ مُحَاذٍ لِلْعَرْشِ بِوُجُودِ فَرَاغٍ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْعَرْشِ إِنْ قُدِّرَ ذَلِكَ الْفَرَاغُ وَاسِعًا أَوْ قَصِيرًا كُلُّ ذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ) لِأَنَّهُ يَقْتَضِى أَنْ يَكُونَ اللَّهُ جِسْمًا وَحَجْمًا وَالأَجْسَامُ وَالأَحْجَامُ مَخْلُوقَةٌ بِلا رَيْبٍ (وَإِنَّمَا مَزِيَّةُ الْعَرْشِ أَنَّهُ كَعْبَةُ الْمَلائِكَةِ الْحَافِّينَ مِنْ حَوْلِهِ) فَشُرِّفَ بِذَلِكَ (كَمَا أَنَّ الْكَعْبَةَ شُرِّفَتْ بِطَوَافِ الْمُؤْمِنِينَ بِهَا. وَمِنْ خَوَاصِّ الْعَرْشِ) أَيْضًا (أَنَّهُ لَمْ يُعْصَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ لِأَنَّ مَنْ حَوْلَهُ كُلَّهُمْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَعْصُونَ اللَّهَ طَرْفَةَ عَيْنٍ. وَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْعَرْشَ لِيَجْلِسَ عَلَيْهِ فَقَدْ شَبَّهَ اللَّهَ بِالْمُلُوكِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الأَسِرَّةَ الْكِبَارَ لِيَجْلِسُوا عَلَيْهَا وَمَنِ اعْتَقَدَ هَذَا لَمْ يَعْرِفِ اللَّهَ) لِأَنَّهُ جَعَلَ ذَاتَ اللَّهِ مُقدَّرًا مَحْدُودًا مُتَنَاهِيًا (وَ)مِنْ هُنَا (يَكْفُرُ مَنْ يَعْتَقِدُ الْمُمَاسَّةَ) بَيْنَ اللَّهِ وَالْمَخْلُوقِ (لِاسْتِحَالَتِهَا فِى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى).


(تَفْسِيرُ الآيَةِ) الْخَامِسَةِ مِنْ سُورَةِ طَه (﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾)


هَذِهِ الآيَةُ مِنَ الآيَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ أَىِ الَّتِى تَحْتَمِلُ أَكْثَرَ مِنْ مَعْنًى بِحَسَبِ اللُّغَةِ لَكِنَّ الْمَعْنَى الظَّاهِرَ غَيْرُ مُرَادٍ مِنْهَا لِمُنَاقَضَتِهِ لِلآيَاتِ الْمُحْكَمَةِ وَلِلْحُكْمِ الْعَقْلِىِّ الْقَاطِعِ وَلِذَلِكَ قَالُوا (يَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الآيَةِ بِغَيْرِ الِاسْتِقْرَارِ وَالْجُلُوسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ) مِنْ مَعَانِى الْمَخْلُوقِينَ كَمَا رُوِىَ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَوَى كَمَا أَخْبَرَ لا كَمَا يَخْطُرُ لِلْبَشَرِ اﻫ (وَ)مَنْ فَسَّرَهَا بِاسْتِقْرَارٍ أَوْ جُلُوسٍ أَوْ نَحْوِهِمَا مِنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا شَنِيعًا بَلْ (يَكْفُرُ مَنْ) يُفَسِّرُهَا بِذَلِكَ أَوْ (يَعْتَقِدُ ذَلِكَ فَيَجِبُ تَرْكُ الْحَمْلِ عَلَى الظَّاهِرِ) لِأَنَّهُ غَيْرُ لائِقٍ بِاللَّهِ تَعَالَى (بَلْ يُحْمَلُ عَلَى مَحْمِلٍ مُسْتَقِيمٍ فِى الْعُقُولِ) يُوَافِقُ اللُّغَةَ وَتُؤَيِّدُهُ النُّصُوصُ الشَّرْعِيَّةُ (فَتُحْمَلُ لَفْظَةُ) اسْتَوَى عَلَى الْمَعْنَى الْمُوَافِقِ لِلُّغَةِ وَالشَّرْعِ فَإِنَّ (الِاسْتِوَاءَ) يَحْتَمِلُ كَثِيرًا مِنَ الْمَعَانِى أَوْصَلَهَا الْقَاضِى أَبُو بَكْرِ بنُ الْعَرَبِىِّ إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ مَعْنًى مِنْهَا الْجُلُوسُ وَالِاسْتِقْرَارُ وَعُلُوُّ الْمَكَانَةِ وَعُلُّوُ الْمَكَانِ وَبُلُوغُ الأَشُدِّ وَالتَّمَامُ وَالِاعْتِدَالُ وَالْقَهْرُ فِى مَعَانٍ أُخْرَى وَالَّذِى يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعَالَى مِنْهَا عُلُّوُ الْمَكَانَةِ وَالْقَهْرُ وَعُلُّوُ الْمَكَانَةِ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْقَهْرِ وَالِاسْتِيلاءِ وَلِذَلِكَ حَمَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَعْنَى الِاسْتِوَاءِ (عَلَى الْقَهْرِ فَفِى لُغَةِ الْعَرَبِ يُقَالُ اسْتَوَى فُلانٌ عَلَى الْمَمَالِكِ إِذَا احْتَوَى عَلَى مَقَالِيدِ الْمُلْكِ وَاسْتَعْلَى عَلَى الرِّقَابِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ) الأُمَوِىِّ (قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ) أَىْ سَيْطَرَ بِشْرُ بنُ مَرْوَانَ عَلَى الْعِرَاقِ وَمَلَكَهُ (مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقِ) أَىْ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ وَلا سَفْكِ دِمَاءٍ (وَ)إِذَا قِيلَ مَا (فَائِدَةُ تَخْصِيصِ الْعَرْشِ بِالذِّكْرِ) فَإِنَّ كُلَّ شَىْءٍ مَقْهُورٌ لِلَّهِ قِيلَ فَائِدَتُهُ (أَنَّـهُ أَعْظَمُ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى حَجْمًا فَيُعْلَمُ شُمُولُ مَا دُونَهُ مِنْ بَابِ الأَوْلَى) كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ التَّوْبَةِ ﴿وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ مَعَ أَنَّـهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَبُّ كُلِّ شَىْءٍ وَإِنَّمَا خُصَّ الْعَرْشُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّـهُ أَكْبَرُ الْمَخْلُوقَاتِ حَجْمًا فَإِذَا كَانَ مَرْبُوبًا لِلَّهِ تَعَالَى عُلِمَ أَنَّ مَا دُونَهُ بِالأَوْلَى مَرْبُوبٌ لَهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَإِظْهَارًا لِهَذَا الْمَعْنَى (قَالَ الإِمَامُ عَلِىٌّ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْعَرْشَ إِظْهَارًا لِقُدْرَتِهِ) أَيْ لِيَدُلَّ بِاحْتِيَاجِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَكَوْنِهِ مَقْهُورًا تَحْتَ سَيْطَرَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَحْفُوظًا بِحِفْظِهِ وَبَاقِيًا بِإِبْقَائِهِ مَعَ عَظِيمِ حَجْمِهِ وَاتِّسَاعِ مِسَاحَتِهِ عَلَى عَظَمَةِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَعُمُومِهَا (وَلَمْ يَتَّخِذْهُ) أَىْ لَمْ يَتَّخِذِ اللَّهُ الْعَرْشَ (مَكَانًا لِذَاتِهِ) اﻫ (رَوَاهُ الإِمَامُ الْمُحَدِّثُ الْفَقِيهُ اللُّغَوِىُّ أَبُو مَنْصُورٍ التَّمِيمِىُّ فِى كِتَابِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفِرَقِ) وَغَيْرِهِ. هَذَا تَفْسِيرٌ صَحِيحٌ لِلآيَةِ (أَوْ يُقَالُ) ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ﴾ (﴿اسْتَوَى﴾) أَىِ (اسْتِوَاءً يَعْلَمُهُ هُوَ) مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ مَعْنَاهُ لَكِنْ (مَعَ تَنْزِيهِهِ) عَزَّ وَجَلَّ (عَنِ اسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِينَ كَالْجُلُوسِ وَالِاسْتِقْرَارِ) وَالِاعْتِدَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ الإِمَامُ مَالِكٌ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ فَقَالَ الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ أَىْ مَعْلُومٌ وُرُودُهُ فِى الْقُرْءَانِ كَمَا فِى بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الأُخْرَى وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ اﻫ وَفِى رِوَايَةٍ وَالْكَيْفُ عَنْهُ مَرْفُوعٌ اﻫ وَالْكَيْفُ هُوَ مَا كَانَ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ فَأَثْبَتَ مَالِكٌ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ لِلَّهِ تَعَالَى مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَهُوَ الِاسْتِوَاءُ وَلَمْ يُعَيِّنِ الْمَعْنَى الْمُرَادَ لَكِنَّهُ نَفَى أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَعْنَى جُلُوسًا أَوِ اسْتِقْرَارًا أَوْ كَيْفِيَّةً أُخْرَى مِنَ الْكَيْفِيَّاتِ.

(وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ الْحَذَرُ مِنْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يُجِيزُونَ عَلَى اللَّهِ الْقُعُودَ عَلَى الْعَرْشِ وَالِاسْتِقْرَارَ عَلَيْهِ مُفَسِّرِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ طَه (﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ بِالْجُلُوسِ أَوِ الْمُحَاذَاِة مِنْ فَوْقٍ وَ)هَؤُلاءِ يُقَالُ لَهُمْ فِى أَيَّامِنَا الْوَهَّابِيَّةُ لِأَنَّهُمْ تَبِعُوا رَجُلًا يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ ظَهَرَ مِنْ نَحْوِ مِائَتَىْ عَامٍ وَأَحْيَا ضَلالاتِ أَحْمَدَ بنِ تَيْمِيَةَ الَّذِى ارْتَضَى الْقَوْلَ بِأَنَّ اللَّهَ بِقَدْرِ الْعَرْشِ أَوْ أَصْغَرَ مِنْهُ وَارْتَضَى الْقَوْلَ بِأَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لَاسْتَقَرَّ عَلَى ظَهْرِ بَعُوضَةٍ فَكَيْفَ بِعَرْشٍ عَظِيمٍ وَارْتَضَىَ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْكَلِمَاتِ السَّاقِطَةِ وَالْعَقَائِدِ الْمَرْذُولَةِ فَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ أَعْرَابِ نَجْدٍ قَاسِيَةٌ قُلُوبُهُمْ ضَعِيفَةٌ حُلُومُهُمْ شَبَّهُوا اللَّهَ تَعَالَى بِخَلْقِهِ وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ جِسْمٌ مُسْتَقِرٌّ فِى جِهَةِ الأَعْلَى (مُدَّعِينَ أَنَّـهُ لا يُعْقَلُ مَوْجُودٌ إِلَّا فِى مَكَانٍ وَحُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ) أَىْ بَاطِلَةٌ لِأَنَّ فِيهَا قِيَاسَ الْخَالِقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْوُجُودِ التَّحَيُّزُ فِى الْمَكَانِ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْوُجُودِ جَرَيَانُ الزَّمَانِ عَلَى الْمَوْجُودِ وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مُوَحِّدٍ يَعْلَمُ أَنَّ الْمَكَانَ مَخْلُوقٌ وَالزَّمَانَ مَخْلُوقٌ لَمْ يَكُونَا ثُمَّ أَوْجَدَهُمَا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَقَبْلَ خَلْقِ الْمَكَانِ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى مَوْجُودًا بِدِلالَةِ حَدِيثِ الْبُخَارِىِّ وَغَيْرِهِ كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْرُهُ اهـ وَهَؤُلاءِ الْمُخَالِفُونَ يُقِرُّونَ بِذَلِكَ فَهُمْ إِذًا يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ قَبْلَ خَلْقِ الْمَكَانِ وَالْجِهَاتِ بِلا مَكَانٍ وَلا جِهَةٍ فَإِذَا صَحَّ وُجُودُ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ الْمَكَانِ بِلا مَكَانٍ انْتَقَضَ مَا زَعَمُوهُ وَصَحَّ وُجُودُهُ جَلَّ وَعَزَّ بَعْدَ خَلْقِ الْمَكَانِ بِلا مَكَانٍ لِأَنَّهُ لا يَتَغَيَّرُ وَلا يَتَبَدَّلُ. وَمُصِيبَةُ هَؤُلاءِ جَهْلُهُمْ بِأُصُولِ الْعَقَائِدِ وَبِلُغَةِ الْعَرَبِ فَأَخَذُوا لِذَلِكَ بِظَوَاهِرِ الآيَاتِ وَالأَحَادِيثِ الْمُتَشَابِهَةِ مُفَسِّرِينَ لَهَا بِمُقْتَضَى الْحِسِّ بَلْ (وَمُدَّعِينَ أَيْضًا أَنَّ قَوْلَ السَّلَفِ اسْتَوَى بِلا كَيْفٍ مُوَافِقٌ لِذَلِكَ وَلَمْ يَدْرُوا أَنَّ الْكَيْفَ الَّذِى نَفَاهُ السَّلَفُ هُوَ الْجُلُوسُ وَالِاسْتِقْرَارُ وَالتَّحَيُّزُ فِى الْمَكَانِ وَالْمُحَاذَاةُ) أَىِ الْمُقَابَلَةُ أَىْ كَوْنُ الشَّىْءِ فِى مُقَابِلِ شَىْءٍ (وَكُلُّ الْهَيْئَاتِ مِنْ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ وَانْتِقَالٍ) فَقَوْلُ الأَوْزَاعِىِّ وَمَالِكٍ وَاللَّيْثِ بنِ سَعْدٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلا كَيْفِيَّةٍ مَعْنَاهُ ءَامِنُوا بِهَذِهِ الآيَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ لِأَنَّهَا جَاءَتْ فِى الْقُرْءَانِ وَلا تُفَسِّرُوهَا تَفْسِيرًا فَاسِدًا بِنِسْبَةِ الْكَيْفِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالْكَيْفِيَّةُ نَوْعٌ مِنَ الأَعْرَاضِ أَىْ مِنْ صِفَاتِ الْخَلْقِ كَمَا قَالَ الإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الأَشْعَرِىُّ فَيَكُونُ الْمَعْنَى ءَامِنُوا بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِى جَاءَتْ فِى النُّصُوصِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُشَبِّهُوهَا بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ. قَالَ الْحَافِظُ الزَّبِيدِىُّ (وَالَّذِى يَدْحَضُ شُبَهَهُمْ) أَىْ يُبْطِلُهَا هُوَ (أَنْ يُقَالَ لَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ) اللَّهُ (الْعَالَمَ أَوِ الْمَكَانَ هَلْ كَانَ مَوْجُودًا أَمْ لا فَمِنْ ضَرُورَةِ الْعَقْلِ أَنْ يَقُولُوا بَلَى فَيَلْزَمُهُ) أَىِ الْمُشَبِّهُ (لَوْ صَحَّ قَوْلُهُ لا يُعْلَمُ مَوْجُودٌ إِلَّا فِى مَكَانٍ أَحَدُ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَقُولَ الْمَكَانُ وَالْعَرْشُ وَالْعَالَمُ قَدِيمٌ) لِأَنَّـهُ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ لا بِدَايَةَ لِوُجُودِهِ وَيَزْعُمُ أَنَّ الْمَوْجُودَ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِى مَكَانٍ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ لَهُ مَكَانٌ قَدِيمٌ وَهَذَا قَوْلٌ بِوُجُودِ شَرِيكٍ لِلَّهِ فِى الأَزَلِيَّةِ لَمْ يَخْلُقْهُ اللَّهُ وَهَذَا كُفْرٌ بِالإِجْمَاعِ (وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ) كُلُّ مَوْجُودٍ لابُدَّ أَنْ يَكُونَ فِى مَكَانٍ وَالْمَكَانُ حَادِثٌ إِذًا (الرَّبُّ تَعَالَى مُحْدَثٌ وَهَذَا) كُفْرٌ أَيْضًا بِالإِجْمَاعِ وَهُوَ (مَآلُ) أَىْ نِهَايَةُ كَلامِ (الْجَهَلَةِ الْحَشْوِيَّةِ) نِسْبَةً إِلَى الْحَشْوِ الَّذِى لا اعْتِبَارَ لَهُ وَلا مَرْتَبَةَ [أَىْ فَيَكُونُ أَهْلُهُ مُتَأَخِّرِينَ عَنِ الْخَيْرِ بَعِيدِينَ مِنْهُ] (لَيْسَ الْقَدِيمُ بِالْمُحْدَثِ وَالْمُحْدَثُ بِالْقَدِيمِ اﻫ وَقَالَ الْقُشَيْرِىُّ أَيْضًا فِى التَّذْكِرَةِ الشَّرْقِيَّةِ) وَنَقَلَهُ عَنْهُ الزَّبِيدِىُّ فِى شَرْحِ الإِحْيَاءِ (فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ فَيَجِبُ الأَخْذُ بِظَاهِرِهِ) أَىْ إِذَا ادَّعَى الْمُشَبِّهَةُ تَحَكُّمًا بِلا دَلِيلٍ أَنَّـهُ يَجِبُ الأَخْذُ بِظَاهِرِ الآيَةِ الآنِفَةِ الذِّكْرِ (قُلْنَا) فِى الْجَوَابِ (اللَّهُ يَقُولُ أَيْضًا) فِى سُورَةِ الْحَدِيدِ (﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ وَيَقُولُ تَعَالَى) فِى سُورَةِ فُصِّلَتْ (﴿أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطٌ﴾ فَيَنْبَغِى أَيْضًا) عَلَى مُقْتَضَى كَلامِكُمْ (أَنْ نَأْخُذَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الآيَاتِ حَتَّى يَكُونَ) مُسْتَقِرًّا (عَلَى الْعَرْشِ وَعِنْدَنَا وَمَعَنَا) بِذَاتِهِ فِى الأَرْضِ (وَمُحِيطًا بِالْعَالَمِ مُحْدِقًا بِهِ بِالذَّاتِ) كَالدَّائِرَةِ الْمُحِيطَةِ بِمَا فِى دَاخِلِهَا (فِى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَالْوَاحِدُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ بِذَاتِهِ فِى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ بِكُلِّ مَكَانٍ) فَإِنَّ تَعَدُّدَ الأَمْكِنَةِ يَقْتَضِى تَعَدُّدَ الأَجْزَاءِ الْحَالَّةِ فِى كُلِّ مَكَانٍ مِنْهَا فِى وَقْتٍ وَاحِدٍ فَبَطَلَ بِذَلِكَ كَلامُ هَؤُلاءِ الْمُشَبِّهَةِ وَدَحَضَتْ دَعْوَاهُ. وَهَذَا الَّذِى قَالَهُ الْقُشَيْرِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ حُجَّةٌ دَامِغَةٌ لِبَاطِلِهِمْ مُفْحِمَةٌ لِمُتَكَلِّمِيهِمْ قَاطِعَةٌ لِدَعَاوِيهِمْ وَلا يُرَدُّ عَلَيْهِ مَا يُذْكَرُ مِنَ الْكَرَامَاتِ عَنْ بَعْضِ الأَوْلِيَاءِ مِنْ رُؤْيَةِ أَحَدِهِمْ فِى وَقْتٍ وَاحِدٍ فِى أَكْثَرَ مِنْ مَكَانٍ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ مِثْلُ هَذَا لِأَنَّ الْوَلِىَّ مِنْ هَؤُلاءِ يَكُونُ لَهُ شَبَحٌ أَوْ أَكْثَرُ غَيْرُ الْجِسْمِ الأَصْلِىِّ فَيَرَى النَّاسُ أَحَدَ هَذِهِ الأَشْبَاحِ أَىْ مِثَالَ الذَّاتِ الأَصْلِىِّ فِى مَكَانٍ مِنَ الأَمْكِنَةِ بَيْنَمَا يَرَى ءَاخَرُونَ الشَّبَحَ الآخَرَ فِى الْوَقْتِ نَفْسِهِ فِى مَكَانٍ ءَاخَرَ وَلا يَدَّعِى أَحَدٌ أَنَّ الْجِسْمَ الْوَاحِدَ يَكُونُ فِى وَقْتٍ وَاحِدٍ فِى مَكَانَيْنِ عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَجْنُونًا. (قَالَ الْقُشَيْرِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ) فَإِنْ (قَالُوا قَوْلُهُ ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ﴾ يَعْنِى بِالْعِلْمِ وَ﴿بِكُلِّ شَىْءٌ مُّحِيطًا﴾ إِحَاطَةَ الْعِلْمِ) فَلَمْ يَحْمِلُوا هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ عَلَى الظَّاهِرِ (قُلْنَا وَقَوْلُهُ ﴿عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾) لا يُحْمَلُ أَيْضًا عَلَى ظَاهِرِهِ بَلْ مَعْنَاهُ (قَهَرَ وَحَفِظَ وَأَبْقَى انْتَهَى. يَعْنِى أَنَّهُمْ قَدْ أَوَّلُوا هَذِهِ الآيَاتِ وَلَمْ يَحْمِلُوهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا فَكَيْفَ يَعِيبُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ تَأْوِيلَ ءَايَةِ الِاسْتِوَاءِ بِالْقَهْرِ) وَيَزْعُمُونَ أَنَّ التَّأْوِيلَ فِى الآيَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالذَّاتِ وَالصِّفَاتِ تَحْرِيفٌ وَتَعْطِيلٌ (فَمَا هَذَا التَّحَكُّمُ) وَمَا هَذِهِ الدَّعَاوَى الَّتِى لا مُسْتَنَدَ لَهَا وَلا دَلِيلَ.

(ثُمَّ) إِنَّ مِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ تَأْوِيلَ الِاسْتِوَاءِ بِالْقَهْرِ يُشْعِرُ بِكَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى مُغَالِبًا قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ قَاهِرًا فَيَقُولُونَ لِذَلِكَ تَأْوِيلُكُمْ لِلِاسْتِوَاءِ بِالْقَهْرِ مَرْدُودٌ وَتَفْسِيرُكُمْ بَاطِلٌ قُلْنَا هَذَا لا يَلْزَمُنَا (قَالَ الْقُشَيْرِىُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَوْ أَشْعَرَ مَا قُلْنَا تَوَهُّمَ غَلَبَتِهِ) أَىْ تَوَهُّمَ كَوْنِهِ مُغَالِبًا قَبْلَ صَيْرُورَتِهِ غَالِبًا (لَأَشْعَرَ قَوْلُهُ) فِى سُورَةِ الأَنْعَامِ (﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ بِذَلِكَ أَيْضًا حَتَّى يُقَالَ) عَلَى مُقْتَضَى كَلامِكُمْ (كَانَ مَقْهُورًا قَبْلَ خَلْقِ الْعِبَادِ هَيْهَاتَ إِذْ لَمْ يَكُنْ لِلْعِبَادِ وُجُودٌ قَبْلَ خَلْقِهِ إِيَّاهُمْ) فَظَهَرَ أَنَّ مَا ادَّعَيْتُمُوهُ غَيْرُ صَحِيحٍ وَأَنَّهُ كَمَا لا يُشْعِرُ قَوْلُهُ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ بِسَبْقِ مُغَالَبَةٍ أَوْ مَغْلُوبِيَّةٍ لا يُشْعِرُ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ بِالْقَهْرِ مُغَالَبَةً أَوْ مَغْلُوبِيَّةً (بَلْ لَوْ كَانَ الأَمْرُ عَلَى مَا تَوَهَّمَهُ) هَؤُلاءِ (الْجَهَلَةُ مِنْ أَنَّهُ اسْتِوَاءٌ بِالذَّاتِ لَأَشْعَرَ ذَلِكَ بِالتَّغَيُّرِ وَاعْوِجَاجٍ سَابِقٍ عَلَى وَقْتِ الِاسْتِوَاءِ فَإِنَّ الْبَارِئَ تَعَالَى كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ الْعَرْشِ) فَلَوْ كَانَ اسْتِوَاؤُهُ عَلَيْهِ مَعْنَاهُ اتِّخَاذُ كَيْفِيَّةٍ تُنَاسِبُ الْعَرْشَ وَتُلائِمُهُ بَعْدَ حُدُوثِهِ لَأَشْعَرَ ذَلِكَ بِتَغَيُّرٍ عَمَّا قَبْلَ وُجُودِهِ وَانْتِقَالٍ مِنْ كَيْفِيَّةٍ إِلَى أُخْرَى وَهَذَا ظَاهِرُ الْفَسَادِ. (وَمَنْ أَنْصَفَ عَلِمَ أَنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ) فِى تَفْسِيرِ ءَايَةِ الِاسْتِوَاءِ (الْعَرْشُ بِالرَّبِّ اسْتَوَى) أَىْ حَصَلَ فِى الْعَرْشِ أَثَرُ فِعْلٍ فَعَلَهُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هُوَ (أَمْثَلُ مِنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ الرَّبُّ بِالْعَرْشِ اسْتَوَى) إِذْ إِنَّ الأَوَّلَ لَمْ يَنْسُبْ إِلَى اللَّهِ صِفَةً لا تَلِيقُ بِهِ فِى مَا قَالَ وَأَمَّا الثَّانِى فَقَدْ جَعَلَ اللَّهَ تَعَالَى مَحَلًّا لِلتَّأَثُّرِ وَجَعَلَ لِمَخْلُوقٍ هُوَ الْعَرْشُ أَثَرًا فِى الْخَالِقِ تَعَالَى أَىْ جَعَلَ إِحْدَاثَ اللَّهِ لِلْعَرْشِ مُغَيِّرًا لِصِفَتِهِ تَعَالَى وَهُوَ بَاطِلٌ عَقَلًا وَنَقْلًا كَمَا لا يَخْفَى (فَالرَّبُّ إِذًا مَوْصُوفٌ بِالْعُلُوِّ) الْمَعْنَوِىِّ (وَفَوْقِيَّةِ الرُّتْبَةِ وَالْعَظَمَةِ) لا بِعُلُوِّ الْمَسَافَةِ وَلا بِفَوْقِيَّةِ الْجِهَةِ (وَمُنَزَّهٌ عَنِ الْكَوْنِ فِى الْمَكَانِ) الْوَاحِدِ أَوْ فِى كُلِّ الأَمْكِنَةِ (وَعَنِ الْمُحَاذَاةِ اﻫ) وَالْمُقَابَلَةِ وَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ حَرْفَ عَلَى كُلَّمَا وَرَدَ دَلَّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْمَكَانِ أَوْ أَنَّ كَلِمَةَ فَوْقَ حَيْثُمَا اسْتُعْمِلَتْ دَلَّتْ عَلَى الْجِهَةِ الْعُلْيَا فَقَدْ أَبْعَدَ النُّجْعَةَ وَجَاءَ بِمَا يُنَاقِضُ لُغَةَ الْعَرَبِ الَّتِى نَزَلَ بِهَا كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ فِى سُورَةِ ءَالِ عِمْرَانَ ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ الْعُلُوَّ الْحِسِّىَّ وَقَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ الأَعْرَافِ مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ أَنَّـهُ قَالَ ﴿وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾ وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُمْ رَكِبُوا رِقَابَ الْمُؤْمِنِينَ.

(قَالَ الْقُشَيْرِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ نَبَغَتْ) أَىْ ظَهَرَتْ (نَابِغَةٌ مِنَ الرَّعَاعِ) أَىِ السُّفَهَاءِ (لَوْلا اسْتِنْزَالُهُمْ لِلْعَوَامِّ) أَىِ اسْتِدَرَاجُهُمْ لَهُمْ (بِمَا يَقْرُبُ مِنْ أَفْهَامِهِمْ وَيُتَصَوَّرُ فِى أَوْهَامِهِمْ لَأَجْلَلْتُ هَذَا الْكِتَابَ) وَحَفِظْتُهُ (عَنْ تَلْطِيخِهِ بِذِكْرِهِمْ) أَىْ فَلَوْلا حَاجَةُ التَّحْذِيرِ مَا كُنْتُ عَرَّجْتُ عَلَى ذِكْرِهِمْ (يَقُولُونَ نَحْنُ نَأْخُذُ بِالظَّاهِرِ) مِنَ الْمَعَانِى الَّتِى تَحْتَمِلُهَا الآيَاتُ الْمُتَشَابِهَةُ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ (وَنُجْرِى الآيَاتِ الْمُوهِمَةَ تَشْبِيهًا) لِلَّهِ بِخَلْقِهِ (وَالأَخْبَارَ) الْمَرْوِيَّةَ عَنِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْمُوهِمَةَ حَدًّا) لِلْخَالِقِ جَلَّ وَعَزَّ (وَعُضْوًا) لَهُ (عَلَى) هَذَا (الظَّاهِرِ وَلا يَجُوزُ أَنْ نُطَرِّقَ التَّأْوِيلَ إِلَى شَىْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَيَتَمَسَّكُونَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ ءَالِ عِمْرَانَ (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) زَاعِمِينَ أَنَّـهُ يَشْهَدُ عَلَى قَوْلِهِمْ وَيَدُلُّ عَلَى مَقْصِدِهِمْ وَهُوَ زَعْمٌ بَاطِلٌ كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ أَبُو نَصْرٍ (وَهَؤُلاءِ وَالَّذِى أَرْوَاحُنَا بِيَدِهِ أَضَرُّ عَلَى الإِسْلامِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَعَبَدَةِ الأَوْثَانِ لِأَنَّ ضَلالاتِ الْكُفَّارِ) الْمُعْلِنِينَ (ظَاهِرَةٌ يَتَجَنَّبُهَا الْمُسْلِمُونَ وَ)أَمَّا (هَؤُلاءِ) فَإِنَّهُمْ (أَتَوُا الدِّينَ وَالْعَوَامَّ مِنْ طَرِيقٍ يَغْتَرُّ بِهِ الْمُسْتَضْعَفُونَ) الَّذِينَ لا رُسُوخَ لَهُمْ فِى عُلُومِ الْعَقَائِدِ (فَأَوْحَوْا إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ) الَّذِينَ يَتْبَعُونَهُمْ وَيُنَاصِرُونَهُمْ (بِهَذِهِ الْبِدَعِ وَأَحَلُّوا فِى قُلُوبِهِمْ وَصْفَ الْمَعْبُودِ سُبْحَانَهُ بِالأَعْضَاءِ وَالْجَوَارِحِ وَالرُّكُوبِ وَالنُّزُولِ) الْحِسِّىِّ (وَالِاتِّكَاءِ وَالِاسْتِلْقَاءِ وَالِاسْتِوَاءِ بِالذَّاتِ) كَاسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِينَ (وَالتَّرَدُّدِ فِى الْجِهَاتِ فَمَنْ أَصْغَى إِلَى) مَقَالِهِمْ وَعَقَدَ قَلْبَهُ عَلَى اتِّبَاعِ (ظَاهِرِهِمْ يُبَادِرُ بِوَهْمِهِ إِلَى تَخَيُّلِ الْمَحْسُوسَاتِ) فِى حَقِّ الذَّاتِ الْمُقَدَّسِ (فَاعْتَقَدَ الْفَضَائِحَ فَسَالَ بِهِ السَّيْلُ وَهُوَ لا يَدْرِى اﻫ فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ إِنَّ التَّأْوِيلَ) لِلآيَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ (غَيْرُ جَائِزٍ خَبْطٌ) بِلا هِدَايَةِ دَلِيلٍ (وَجَهْلٌ) غَيْرُ مَبْنِىٍّ عَلَى عِلْمٍ (وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عَبَّاسٍ اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ وَتَأْوِيلَ الْكِتَابِ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ بِأَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَأَوَّلُهُ عِنْدَ الْبُخَارِىِّ) وَرَوَى هَذَا اللَّفْظَ ابْنُ مَاجَهْ فِى سُنَنِهِ وَأَحْمَدُ فِى مُسْنَدِهِ وَالطَّبَرَانِىُّ فِى الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ وَلَوْلا جَوَازُ التَّأْوِيلِ وَحُسْنُ الإِتْيَانِ بِهِ فِى مَوْضِعِهِ لَمَا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عَبَّاسٍ أَنْ يُعَلِّمَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ. (قَالَ الْحَافِظُ) عَبْدُ الرَّحْمٰنِ (بنُ الْجَوْزِىِّ فِى كِتَابِهِ الْمَجَالِسُ وَلا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ دُعَاءَ الرَّسُولِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (هَذَا) اﻫ (وَ)قَدْ (شَدَّدَ النَّكِيرَ وَالتَّشْنِيعَ) فِى هَذَا الْكِتَابِ (عَلَى مَنْ يَمْنَعُ التَّأْوِيلَ وَوَسَّعَ الْقَوْلَ فِى ذَلِكَ فَلْيُطَالِعْهُ مَنْ أَرَادَ زِيَادَةَ التَّأَكُّدِ).

(وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ النَّحْلِ (﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّنْ فَوْقِهِمْ﴾ فَوْقِيَّةُ الْقَهْرِ دُونَ) فَوْقِيَّةِ (الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ) أَىْ لَيْسَ فَوْقِيَّةَ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ فَإِنَّ الأُولَى لائِقَةٌ بِالْخَالِقِ تَعَالَى وَالثَّانِيَةَ لا تَلِيقُ بِهِ.

(وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الْفَجْرِ (﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾) هُوَ ظُهُورُ وَمَجِىءُ ءَاثَارِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الإِمَامِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ لِذَلِكَ وَ(لَيْسَ) الْمُرَادُ (مَجِىءَ الْحَرَكَةِ وَالِانْتِقَالِ وَالزَّوَالِ وَإِفْرَاغِ مَكَانٍ وَمِلْءِ ءَاخَرَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ وَمَنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ يَكْفُرُ فَاللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْحَرَكَةَ وَالسُّكُونَ وَكُلَّ مَا كَانَ مِنْ صِفَاتِ الْحَوَادِثِ فَلا يُوصَفُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْحَرَكَةِ وَلا بِالسُّكُونِ وَالْمَعْنِىُّ بِقَوْلِهِ) تَعَالَى (﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ أَىْ أَثَرٌ مِنْ ءَاثَارِ قُدْرَتِهِ) فَيَكُونُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى هَذَا مِنْ طَرِيقِ مَجَازِ الْحَذْفِ حَيْثُ يُحْذَفُ الْمُضَافُ وَيُقَامُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مُقَامَهُ لِوُضُوحِ الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْبَقَرَةِ ﴿وَأُشْرِبُوا فِى قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ﴾ أَىْ حُبَّ الْعِجْلِ (وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ فِى قَوْلِهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الْفَجْرِ (﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ جَاءَتْ قُدْرَتُهُ) اﻫ يَعْنِى ءَاثَارَ قُدْرَتِهِ أَىْ فَتَظْهَرُ فِى ذَلِكَ الْيَوْمِ مَظَاهِرُ قُدْرَةِ اللَّهِ الْعَظِيمَةِ (رَوَاهُ) بِالإِسْنَادِ الصَّحِيحِ (الْبَيْهَقِىُّ فِى مَنَاقِبِ أَحْمَدَ وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُهُ).


(تَفْسِيرُ مَعِيَّةِ اللَّهِ الْمَذْكُورَةِ فِى الْقُرْءَانِ)


(وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الْحَدِيدِ (﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ الإِحَاطَةُ بِالْعِلْمِ) لا بِالْحِسِّ وَالْجِهَاتِ كَمَا فِى الْبَحْرِ الْمُحِيطِ لِلْمُفَسِّرِ اللُّغَوِىِّ الْحَافِظِ أَبِى حَيَّانَ الأَنْدَلُسِىِّ (وَتَأْتِى الْمَعِيَّةُ أَيْضًا بِمَعْنَى النُّصْرَةِ وَالْكِلاءَةِ) كَمَا ذَكَرَهُ الزَّبِيدِىُّ فِى التَّاجِ وَذَلِكَ (كَقَوْلِهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ النَّحْلِ (﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾) فَكِلا الْمَعْنَيَيْنِ أَىِ الإِحَاطَةُ بِالْعِلْمِ وَالنُّصْرَةُ وَالْكِلاءَةُ لُغَةٌ عَرَبِيَّةٌ صَحِيحَةٌ (وَلَيْسَ) الْمُرَادُ بِالْمَعِيَّةِ فِى الآيَتَيْنِ الآنِفَتَىِ الذِّكْرِ مَعْنًى مِنْ مَعَانِى الْجِسْمِيَّةِ وَلَيْسَ (الْمَعْنِىُّ بِهَا الْحُلُولَ وَالِاتِّصَالَ وَيَكْفُرُ مَنْ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ) أَىْ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا الْحُلُولُ أَوِ الِاتِّصَالُ (لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الِاتِّصَالِ وَالِانْفِصَالِ بِالْمَسَافَةِ فَلا يُقَالُ إِنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْعَالَمِ وَلا) إِنَّهُ (مُنْفَصِلٌ عَنْهُ بِالْمَسَافَةِ لِأَنَّ هَذِهِ الأُمُورَ مِنْ صِفَاتِ الْحَجْمِ وَالْحَجْمُ هُوَ الَّذِى يَقْبَلُ الأَمْرَيْنِ) مِنَ الِاتِّصَالِ وَالِانْفِصَالِ وَهُوَ حَادِثٌ (وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلا لَيْسَ بِحَادِثٍ) وَقَدْ (نَفَى ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ) سُبْحَانَهُ (بِقَوْلِهِ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾) وَهِىَ الآيَةُ الْفَاذَّةُ الْجَامِعَةُ لِلتَّنْزِيهِ الْكُلِّىِّ لِلَّهِ تَعَالَى عَنْ مُشَابَهَةِ الْمَخْلُوقِينَ بِأَىِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ فَإِنَّ الشَّىْءَ هُوَ مَا ثَبَتَ وُجُودُهُ سَوَاءٌ كَانَ جِسْمًا أَمْ عَرَضًا حَجْمًا أَمْ صِفَةً أَمْ غَيْرَ ذَلِكَ وَقَدْ أَوْضَحَ ذَلِكَ الرَّاغِبُ الأَصْبَهَانِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَقَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِى الْفِقْهِ الأَكْبَرِ الشَّىْءُ الثَّابِتُ الْوُجُودِ اﻫ.

(وَلا يُوصَفُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْكِبَرِ حَجْمًا وَلا بِالصِّغَرِ وَلا بِالطُّولِ وَلا بِالْقِصَرِ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْحَوَادِثِ) وَأَمَّا كِبَرُ الْقَدْرِ وَالدَّرَجَةِ فَيُوصَفُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ وَعَلَيْهِ نَقُولُ كُلَّ يَوْمٍ فِى صَلَوَاتِنَا وَغَيْرِهَا كَلِمَةَ اللَّهُ أَكْبَرُ مَا شَاءَ اللَّهُ لَنَا أَنْ نَقُولَهَا (وَيَجِبُ طَرْدُ كُلِّ فِكْرَةٍ عَنِ الأَذْهَانِ تُفْضِى) أَىْ تُؤَدِّى (إِلَى تَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَحْدِيدِهِ) فَيَجِبُ نَبْذُ كُلِّ الْخَوَاطِرِ الَّتِى تُفْضِى إِلَى وَصْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمِقْدَارِ وَالشَّكْلِ وَالْهَيْئَةِ فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَخْلُوقٌ وَاللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ وَكُلُّ ذَلِكَ وَهْمٌ أَوْ تَخَيُّلٌ وَاللَّهُ تَعَالَى لا يُدْرِكُهُ الْوَهْمُ كَمَا قَالَ ذُو النُّونِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَهْمَا تَصَوَّرْتَ بِبَالِكَ فَاللَّهُ لا يُشْبِهُ ذَلِكَ اﻫ

وَ(كَانَ الْيَهُودُ قَدِ) اعْتَقَدُوا فِى اللَّهِ تَعَالَى التَّشْبِيهَ وَأَجَازُوا عَلَيْهِ الْجِسْمِيَّةَ وَصِفَاتِ الْبَشَرِ وَظَنُّوا أَنَّهُ يَتَحَرَّكُ صُعُودًا وَنُزُولًا وَيَمْشِى وَيُصَارِعُ وَ(نَسَبُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى) أَيْضًا (التَّعَبَ فَقَالُوا إِنَّهُ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ اسْتَرَاحَ فَاسْتَلْقَى عَلَى قَفَاهُ) فَأَثْبَتُوا لَهُ أَيْضًا الْقَفَا وَالِاسْتِلْقَاءَ وَالْمُمَاسَّةَ لِلْعَرْشِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا (وَ)لا يَخْفَى أَنَّ (قَوْلَهُمْ هَذَا كُفْرٌ وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ) فَمَنْ ضَاهَاهُمْ فِى قَوْلِهِمْ أَوْ فِى مَا يُشْبِهُهُ كَانَ مِثْلَهُمْ (وَ)الَّذِى عَلَيْنَا أَنْ نَعْتَقِدَهُ أَنَّ الرَّبَّ جَلَّ وَعَزَّ مُتَعَالٍ (عَنِ الِانْفِعَالِ كَالإِحْسَاسِ بِالتَّعَبِ وَالآلامِ وَاللَّذَّاتِ) وَالْفَرَحِ وَالْحُزْنِ لِأَنَّهَا عَلامَاتُ الِاحْتِيَاجِ وَسِمَاتُ الْحُدُوثِ (فَالَّذِى تَلْحَقُهُ هَذِهِ الأَحْوَالُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا مَخْلُوقًا يَلْحَقُهُ التَّغَيُّرُ وَهَذَا) أَكْبَرُ أَدِلَّةِ الْحُدُوثِ فَلا جَرَمَ أَنَّـهُ (يَسْتَحِيلُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى) كَمَا (قَالَ) رَبُّنَا (تَعَالَى) فِى سُورَةِ ق (﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاِت وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُّغُوبٍ﴾) أَىْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الأَرْضَ يَوْمَىِ الأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ فِى يَوْمَىِ الثُّلاثَاءِ وَالأَرْبِعَاءِ ثُمَّ خَلَقَ الْبَهَائِمَ وَالأَشْجَارَ وَمَرَافِقَ الْمَعِيشَةِ يَوْمَىِ الْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ وَفِى ءَاخِرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ خَلَقَ سَيِّدَنَا ءَادَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ وَلَمْ يَلْحَقِ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ ذَلِكَ تَعَبٌ وَلا لُغُوبٌ وَ(إِنَّمَا يَلْغُبُ مَنْ يَعْمَلُ بِالْجَوَارِحِ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْجَارِحَةِ) وَلِذَلِكَ قَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فِى الْفِقْهِ الأَبْسَطِ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ لَيْسَتْ كَأَيْدِى خَلْقِهِ وَلَيْسَتْ بِجَارِحَةٍ وَهُوَ خَالِقُ الأَيْدِى وَوَجْهُهُ لَيْسَ كَوُجُوهِ خَلْقِهِ وَهُوَ خَالِقُ كُلِّ الْوُجُوهِ اﻫ وَقَدْ (قَالَ تَعَالَى) فِى سُورَةِ غَافِرٍ (﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ فَاللَّهُ تَعَالَى سَمِيعٌ وَبَصِيرٌ بِلا كَيْفِيَّةٍ) أَىْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ صِفَتَيْنِ تُشْبِهَانِ صِفَاتِ الْخَلْقِ (فَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ) إِذَا وُصِفَ الرَّبُّ بِهِمَا (هُمَا صِفَتَانِ أَزَلِيَّتَانِ بِلا جَارِحَةٍ أَىْ بِلا أُذُنٍ أَوْ حَدَقَةٍ وَبِلا شَرْطِ قُرْبٍ أَوْ بُعْدٍ أَوْ جِهَةٍ وَبِدُونِ انْبِعَاثِ شُعَاعٍ مِنَ الْبَصَرِ أَوْ تَمَوُّجِ هَوَاءٍ. وَمَنْ قَالَ لِلَّهِ أُذُنٌ فَقَدْ كَفَرَ وَلَوْ قَالَ لَهُ أُذُنٌ لَيْسَتْ كَآذَانِنَا) لِأَنَّ مَعْنَى الأُذُنِ لا يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يَرِدْ فِى الشَّرْعِ إِطْلاقُهَا عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ (بِخِلافِ مَنْ قَالَ لَهُ عَيْنٌ لَيْسَتْ كَعُيُونِنَا وَيَدٌ لَيْسَتْ كَأَيْدِينَا بَلْ بِمَعْنَى الصِّفَةِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ لِوُرُودِ إِطْلاقِ الْعَيْنِ وَالْيَدِ فِى الْقُرْءَانِ) صِفَتَيْنِ لِلَّهِ تَعَالَى مَعَ كَوْنِ الْعَيْنِ تَحْتَمِلُ فِى اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْمَعَانِى مَا يَلِيقُ بِاللَّهِ مِمَّا لَيْسَ جِسْمًا وَلا جَارِحَةً وَكَذَلِكَ الْيَدُ (وَلَمْ يَرِدْ إِطْلاقُ الأُذُنِ عَلَيْهِ) كَمَا تَقَدَّمَ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ تَعَدَّى بِوَصْفِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِمَا لَمْ يَصِفْ بِهِ نَفْسَهُ وَتَعَدَّى أَيْضًا بِإِطْلاقِ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الْحَاجَةِ وَيَقْتَضِى الْحُدُوثَ فِى حَقِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلا عُذْرَ يَمْنَعُ الْحُكْمَ بِالْكُفْرِ عَلَيْهِ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ.


(تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الْبَقَرَةِ (﴿فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾)


(قَالَ) اللَّهُ (تَعَالَى) فِى سُورَةِ الْبَقَرَةِ (﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ الْمَعْنَى) أَنَّ الْمَشْرِقَ مِلْكُ لِلَّهِ وَالْمَغْرِبَ مِلْكٌ لِلَّهِ (فَأَيْنَمَا تُوَجِّهُوا وُجُوهَكُمْ فِى صَلاةِ النَّفْلِ فِى السَّفَرِ) عَلَى الرَّاحِلَةِ (فَثَمَّ قِبْلَةُ اللَّهِ أَىْ فَتِلْكَ الْوِجْهَةُ الَّتِى تَوَجَّهْتُمْ إِلَيْهَا هِىَ قِبْلَةٌ لَكُمْ) فَفِى هَذِهِ الآيَةِ إِطْلاقُ لَفْظِ وَجْهِ اللَّهِ مُرَادًا بِالْوَجْهِ هُنَا الْقِبْلَةُ وَهُوَ أَحَدُ مَعَانِيهِ لُغَةً (وَلا يُرَادُ بِالْوَجْهِ الْجَارِحَةُ) الَّتِى نَعْرِفُهَا (وَحُكْمُ مَنْ يَعْتَقِدُ الْجَارِحَةَ لِلَّهِ) أَىْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُتَّصِفٌ بِجَارِحَةٍ مِنَ الْجَوَارِحِ (التَّكْفِيرُ) فَإِنَّ تَكْفِيرَ الْمُجَسِّمِ هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ قَطْعًا وَبِهِ صَرَّحَ الشَّافِعِىُّ وَأَحْمَدُ ابْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا وَنَقَلَ الطَّحَاوِىُّ إِجْمَاعَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِى الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ اﻫ وَعِنْدَئِذٍ فَلا يُلْتَفَتُ إِلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ بِعَدَمِ تَكْفِيرِ الْمُجَسِّمِ أَوْ مَنْ يَنْسُبُ الْجَارِحَةَ إِلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى (لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ لَهُ جَارِحَةٌ لَكَانَ مِثْلًا لَنَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَيْنَا مِنَ الْفَنَاءِ) وَالتَّغَيُّرِ وَالآفَاتِ وَهَذَا ظَاهِرُ الْبُطْلانِ وَالْقَائِلُ بِأَىٍّ مِنْ هَذَيْنِ الأَمْرَيْنِ اللَّازِمِ وَالْمَلْزُومِ جَاهِلٌ بِرَبِّهِ غَيْرُ عَارِفٍ بِهِ. هَذَا (وَقَدْ يُرَادُ بِالْوَجْهِ الْجِهَةُ الَّتِى يُرَادُ بِهَا التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى كَأَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا لِوَجْهِ اللَّهِ وَمَعْنَى ذَلِكَ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ) وَتَقَرُّبًا إِلَيْهِ (تَعَالَى) كَمَا فِى حَدِيثِ ابْنِ حِبَّانَ مَرْفُوعًا أَقْرَبُ مَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ إِذَا كَانَتْ فِى قَعْرِ بَيْتِهَا اﻫ فَلَيْسَ لِلْوَجْهِ فِى هَذَا الْحَدِيثِ مَعْنًى إِلَّا طَاعَةَ اللَّهِ وَاسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْوَجْهِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ لا حَرَجَ فِيهِ (وَ)إِنَّمَا (يَحْرُمُ أَنْ) يُسْتَعْمَلَ مُضَافًا إِلَى اللَّهِ بِمَعْنَى الْجَارِحَةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَمِثْلُهُ يَحْرُمُ أَنْ (يُقَالَ كَمَا شَاعَ بَيْنَ) قِسْمٍ مِنَ (الْجُهَّالِ افْتَحِ النَّافِذَةَ لِنَرَى وَجْهَ اللَّهِ) مَهْمَا كَانَتْ نِيَّةُ اللَّافِظِ بِهِ (لِأَنَّ) هَذَا الْكَلامَ يُوهِمُ أَنَّ لِلَّهِ جِهَةً وَأَنَّهُ يُرَى بِالْعَيْنِ فِى الدُّنْيَا وَكِلاهُمَا بَاطِلٌ فَأَمَّا الأَوَّلُ فَتَقَدَّمَ بَيَانُ بُطْلانِهِ وَأَمَّا الثَّانِى فَلِأَنَّ (اللَّهَ تَعَالَى) أَخْبَرَ فِى سُورَةِ الأَعْرَافِ أَنَّـهُ (قَالَ لِمُوسَى) عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ (﴿لَنْ تَرَانِى﴾) عَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَنْطِقُونَ بِهَذَا الْكَلامِ لا يَفْهَمُونَ مِنْهُ مَعْنَاهُ الْفَاسِدَ بَلْ يَظُنُّونَ أَنَّ مَعْنَاهُ افْتَحِ النَّافِذَةَ لِنَرَى خَلْقَ اللَّهِ فَهَؤُلاءِ لا يُكَفَّرُونَ (وَ)مَعَ ذَلِكَ أَىْ (لَوْ لَمْ يَكُنْ قَصْدُ النَّاطِقِينَ بِهِ رُؤْيَةَ اللَّهِ فَهُوَ حَرَامٌ) لا يَجُوزُ التَّلَفُّظُ بِهِ.


(تَفْسِيرُ) قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ النُّورِ (﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾)


قَالَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِى زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّىٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ (فَقَوْلُهُ تَعَالَى) فِى أَوَّلِ الآيَةِ (﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هَادِى أَهْلِ السَّمَاوَاتِ) وَهُمُ الْمَلائِكَةُ (وَ)الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ مِنْ أَهْلِ (الأَرْضِ لِنُورِ الإِيمَانِ) اﻫ (رَوَاهُ) الطَّبَرِىُّ وَ(الْبَيْهَقِىُّ) وَغَيْرُهُمَا (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا) وَيَدُلُّ عَلَيْهِ ءَاخِرُ الآيَةِ ﴿يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ وَرُوِىَ عَنْ عَلِىٍّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ اللَّهُ نَوَّرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ اﻫ ذَكَرَهُ ابْنُ جُزَىّ وَفِى تَفْسِيرِ ابْنِ السَّمْعَانِىِّ عَنْ قَتَادَةَ وَغَيْرِهِ تَفْسِيرُ ﴿نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ بِمُنَوِّرِهَا اﻫ (فَاللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ نُورًا بِمَعْنَى الضَّوْءِ بَلْ هُوَ الَّذِى خَلَقَ النُّورَ) أَىِ الضَّوْءَ كَمَا (قَالَ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الأَنْعَامِ (﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ أَىْ خَلَقَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نُورًا كَخَلْقِهِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَحُكْمُ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نُورٌ أَىْ ضَوْءٌ التَّكْفِيرُ قَطْعًا) فَإِنَّـهُ مُشَبِّهٌ وَالْمُشَبِّهُ كَافِرٌ.

(وَهَذِهِ الآيَةُ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ أَصْرَحُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ اللَّهَ) تَعَالَى (لَيْسَ حَجْمًا كَثِيفًا كَالسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَيْسَ حَجْمًا لَطِيفًا كَالظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ) لِأَنَّـهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ فِيهَا أَنَّـهُ خَالِقُ الْحَجْمِ الْكَثِيفِ مِثْلِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَالْحَجْمِ اللَّطِيفِ مِثْلِ الظُّلْمَةِ وَالضَّوْءِ (فَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ حَجْمٌ كَثِيفٌ أَوْ لَطِيفٌ فَقَدْ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ وَالآيَةُ شَاهِدَةٌ عَلَى ذَلِكَ).

هَذَا وَ(أَكْثَرُ الْمُشَبِّهَةِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَجْمٌ كَثِيفٌ) مُسْتَقِرٌّ فِى السَّمَاءِ أَوْ عَلَى الْعَرْشِ (وَبَعْضُهُمْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ حَجْمٌ لَطِيفٌ) مُنْتَشِرٌ كَالْهَوَاءِ فِى الأَمَاكِنِ كُلِّهَا أَوْ أَنَّهُ ضَوْءٌ (حَيْثُ) إِنَّهُمْ (قَالُوا إِنَّهُ نُورٌ يَتَلَأْلَأُ) أَبْيَضُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ ضَوْءٌ أَسْوَدُ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ (فَهَذِهِ الآيَةُ وَحْدَهَا تَكْفِى لِلرَّدِّ عَلَى) كُلِّ هَؤُلاءِ وَهِىَ حُجَّةٌ عَلَى (الْفَرِيقَيْنِ) مَنْ شَبَّهَ اللَّهَ بِالْحَجْمِ الْكَثِيفِ وَمَنْ شَبَّهَهُ سُبْحَانَهُ بِالْحَجْمِ اللَّطِيفِ.

(وَهُنَاكَ الْعَدِيدُ مِنَ الْعَقَائِدِ الْكُفْرِيَّةِ) وَكُلُّهَا تَرْجِعُ كَمَا قَدَّمَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى كُفْرِ التَّعْطِيلِ أَوِ التَّشْبِيهِ أَوِ التَّكْذِيبِ (كَاعْتِقَادِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى) غَيْرُ قَادِرٍ أَوْ غَيْرُ عَالِمٍ أَوْ غَيْرُ مُتَكَلِّمٍ أَوْ أَنَّهُ (ذُو لَوْنٍ أَوْ ذُو شَكْلٍ) أَوْ هَيْئَةٍ أَوْ أَنَّـهُ لا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُطَاعَ فِى هَذَا الزَّمَنِ فِى بَعْضِ مَا أَمَرَ بِهِ أَوْ أَنَّ بَعْضَ أَحْكَامِ شَرِيعَةِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَطَلَ فِى هَذَا الزَّمَانِ (فَلْيَحْذَرِ الإِنْسَانُ مِنْ ذَلِكَ جَهْدَهُ عَلَى أَىِّ حَالٍ) أَىْ سَوَاءٌ كَانَ فِى حَالِ الْفَرَحِ أَمِ الْحُزْنِ أَمِ الأَمْنِ أَمِ الْخَوْفِ أَمِ الصِّحَّةِ أَمِ الْمَرَضِ أَمِ السَّعَةِ أَمِ الضِّيقِ فَإِنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَسْتَحِقُّ عَلَيْنَا التَّعْظِيمَ وَالتَّسْلِيمَ لَهُ فِى هَذِهِ الأَحْوَالِ كُلِّهَا.


(مَعْنَى الْقَدَرِ وَالإِيمَانِ بِهِ)


(قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْقَدَرُ هُوَ تَدْبِيرُ الأَشْيَاءِ عَلَى وَجْهٍ مُطَابِقٍ لِعِلْمِ اللَّهِ الأَزَلِىِّ وَمَشِيئَتِهِ الأَزَلِيَّةِ) وَيُقَالُ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى الْقَدَرُ هُوَ جَعْلُ كُلِّ الأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِىَ عَلَيْهِ (فَيُوجِدُهَا) اللَّهُ (فِى الْوَقْتِ الَّذِى عَلِمَ أَنَّهَا تَكُونُ فِيهِ) فَالْمُرَادُ بِالْقَدَرِ هُنَا صِفَةُ اللَّهِ التَّقْدِيرُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْمَقْدُورَ الَّذِى يُوصَفُ بِالْخَيْرِ أَوْ بِالشَّرِّ (فَيَدْخُلُ فِى ذَلِكَ) أَىْ فَيُوجَدُ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ الأَزَلِىِّ (عَمَلُ الْعَبْدِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ بِاخْتِيَارِهِ) فَإِنَّ الإِنْسَانَ إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً مِنَ الْحَسَنَاتِ كَانَ ذَلِكَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ وَإِذَا عَمِلَ سَيِّئَةً مِنَ السَّيِّئَاتِ كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ (وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جِبْرِيلَ حِينَ سَأَلَهُ عَنِ الإِيمَانِ الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ) اﻫ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَمَعْنَاهُ أَنَّ) أَرْكَانَ الإِيمَانِ هِىَ هَذِهِ السِّتَّةُ الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالإِيمَانُ بِمَلائِكَةِ اللَّهِ وَالإِيمَانُ بِالْكُتُبِ الْمُنْزَلَةِ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالإِيمَانُ بِأَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَالإِيمَانُ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْقِيَامَةِ لِلْحِسَابِ وَالإِيمَانُ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ أَىْ بِأَنَّ (الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِى قَدَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى) عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ وَمَشِيئَتِهِ (وَفِيهَا الْخَيْرُ وَالشَّرُّ وُجِدَتْ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ الأَزَلِىِّ) فَالْمُرَادُ بِالإِيمَانِ بِالْقَدَرِ الإِيمَانُ بِاتِّصَافِ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّقْدِيرِ لِكُلِّ مَا يَحْصُلُ فِى هَذَا الْعَالَمِ أَىْ لِكُلِّ الْمَقْدُورَاتِ فَيَرْجِعُ الضَّمِيرُ فِى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ إِلَى الْقَدَرِ لَكِنْ بِمَعْنَى الْمَقْدُورِ لا التَّقْدِيرِ لِأَنَّ الْمَقْدُورَ هُوَ الَّذِى يُوصَفُ بِأَنَّ مِنْهُ خَيْرًا وَشَرًّا وَأَمَّا صِفَةُ اللَّهِ فَلا تُوصَفُ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ (وَأَمَّا تَقْدِيرُ اللَّهِ الَّذِى هُوَ صِفَةُ ذَاتِهِ فَهُوَ لا يُوصَفُ بِالشَّرِّ بَلْ) يُقَالُ (تَقْدِيرُ اللَّهِ لِلشَّرِّ) أَىِ (الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ وَتَقْدِيرُهُ لِلإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ حَسَنٌ مِنْهُ) وَ(لَيْسَ قَبِيحًا) فَالْعَمَلُ الْقَبِيحُ شَرْعًا هُوَ مَا قَبَّحَهُ اللَّهُ وَأَمَّا مَشِيئَةُ اللَّهِ لِحُصُولِ هَذَا الْعَمَلِ وَإِيجَادُهُ لَهُ فَلَيْسَ قَبِيحًا فَكَمَا لا يُقَبَّحُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى تَقْدِيرُ الذَّوَاتِ الْقَبِيحَةِ وَتَخْلِيقُهَا كَذَلِكَ لا يُقَبَّحُ مِنْهُ تَقْدِيرُ الأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ وَتَخْلِيقُهَا (فَإِرَادَةُ اللَّهِ تعَالَى نَافِذَةٌ فِى جَمِيعِ مُرَادَاتِهِ عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ بِهَا) لا تَتَخَلَّفُ (فَمَا عَلِمَ) فِى الأَزَلِ (كَوْنَهُ) فِى وَقْتٍ مُعَيَّنٍ (أَرَادَ كَوْنَهُ فِى الْوَقْتِ الَّذِى) عَلِمَ أَنَّهُ (يَكُونُ فِيهِ) وَأَبْرَزَهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ فِى ذَلِكَ الْوَقْتِ (وَمَا عَلِمَ أَنَّهُ لا يَكُونُ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَكُونَ فَلا) يَكُونُ إِذْ لا (يَحْدُثُ فِى الْعَالَمِ شَىْءٌ) أَىْ لا يُوجَدُ شَىْءٌ (إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَلا يُصِيبُ الْعَبْدَ شَىْءٌ مِنَ الْخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ أَوِ الصِّحَّةِ أَوِ الْمَرَضِ أَوِ الْفَقْرِ أَوِ الْغِنَى أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلا يُخْطِئُ الْعَبْدَ شَىْءٌ قَدَّرَ اللَّهُ وَشَاءَ أَنْ يُصِيبَهُ) وَهَذَا كَمَالٌ فِى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يَقَعُ فِى مِلْكِهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا لا يَشَاءُ لَكَانَ مَغْلُوبًا وَهَذَا مُنَافٍ لِلأُلُوهِيَّةِ وَهَذَا أَمْرٌ أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَأَخَذُوهُ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (فَقَدْ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ الأَنْعَامِ ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَاءِ﴾ وَ(وَرَدَ) فِى الْحَدِيثِ الثَّابِتِ (أَنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَ بَعْضَ بَنَاتِهِ) أَنْ تَقُولَ صَبَاحًا وَمَسَاءً دُعَاءً مِنْ جُمْلَتِهِ (مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ) اﻫ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِى السُّنَنِ ثُمَّ تَوَاتَرَ وَاسْتَفَاضَ بَيْنَ أَفْرَادِ الأُمَّةِ) كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ (وَ)عَلَى هَذَا جَرَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ (رَوَى الْبَيْهَقِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ سَيِّدِنَا عَلِىٍّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَنْ يَخْلُصَ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ يَقِينًا غَيْرَ شَكٍّ) أَىْ يَعْتَقِدَ اعْتِقَادًا جَازِمًا لا يُخَالِجُهُ رَيْبٌ (أَنَّ مَا أَصَابَهُ) أَىْ مِنْ رِزْقٍ أَوْ مُصِيبَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ (لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ وَيُقِرَّ بِالْقَدَرِ كُلِّهِ) اﻫ (أَىْ) فَلا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ أَمْرًا مِنَ الأُمُورِ يَجْرِى فِى هَذَا الْعَالَمِ بِغَيْرِ تَقْدِيرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ (لا يَجُوزُ أَنْ يُؤْمِنَ بِبَعْضِ الْقَدَرِ وَيَكْفُرَ بِبَعْضٍ) فَإِنَّهُ إِذَا فَعَلَ فَقَدْ جَانَبَ الإِيمَانَ وَحَالَفَ الضَّلالَةَ.

(وَرَوَى) الْبَيْهَقِىُّ أَيْضًا (بِالإِسْنَادِ الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ بنَ الْخَطَّابِ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (كَانَ بِالْجَابِيَةِ وَهِىَ أَرْضٌ مِنَ الشَّامِ فَقَامَ خَطِيبًا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِىَ لَهُ وَكَانَ عِنْدَهُ كَافِرٌ مِنْ كُفَّارِ الْعَجَمِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَقَالَ بِلُغَتِهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِلُّ أَحَدًا) أَىْ لا يَشَاءُ الضَّلالَ لِأَحَدٍ وَلا يُقَدِّرُهُ عَلَيْهِ وَلا يَخْلُقُهُ فِيهِ (فَقَالَ عُمَرُ لِلتَّرْجُمَانِ مَاذَا يَقُولُ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِلُّ أَحَدًا فَقَالَ عُمَرُ كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ وَلَوْلا أَنَّكَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ) أَىْ لَعَامَلْتُكَ مُعَامَلَةَ الْمُرْتَدِّ (هُوَ أَضَلَّكَ وَهُوَ يُدْخِلُكَ النَّارَ إِنْ شَاءَ) اﻫ أَىْ إِنْ شَاءَ أَنْ تَمُوتَ عَلَى ضَلالِكَ. (وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ) الأَصْبَهَانِىُّ بِإِسْنَادِهِ (عَنِ ابْنِ أَخِ الزُّهْرِىِّ عَنْ عَمِّهِ) ابْنِ شِهَابٍ (الزُّهْرِىِّ أَنَّ عُمَرَ بنَ الْخَطَّابِ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (كَانَ يُحِبُّ قَصِيدَةَ لَبِيدِ بنِ رَبِيعَةَ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (الَّتِى مِنْهَا هَذِهِ الأَبْيَاتُ) مِنْ بَحْرِ الرَّمَلِ (وَهِىَ

إِنَّ تَقْوَى رَبِّنَـــــــــــــــــا خَيْرُ نَفَلْ وَبِإِذْنِ اللَّهِ رَيْثِى وَعَجَـــــــــــــــــلْ

أَحْمَدُ اللَّهَ فَلا نِــــــــــــــــــــدَّ لَـــــــــــــــهُ بِيَدَيْهِ الْخَيْرُ مَا شَــــــــــاءَ فَعَلْ

مَنْ هَدَاهُ سُبُلَ الْخَيْرِ اهْتَدَى نَاعِمَ الْبَالِ وَمَنْ شَاءَ أَضَلّ)

وَكَانَ لَبِيدٌ مِنَ الشُّعَرَاءِ الْمَشْهُورِينَ لَكِنَّهُ تَرَكَ قَوْلَ الشِّعْرِ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ إِلَّا مَا نَدَرَ كَهَذِهِ الأَبْيَاتِ الآنِفَةِ الذِّكْرِ وَقَوْلِهِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ

الْحَمْدُ لِلَّهِ أَنْ لَمْ يَأْتِنِى أَجَلِى حَتَّى لَبِسْتُ مِنَ الإِسْلامِ سِرْبَالًا

وَكَانَ يَقُولُ أَبْدَلَنِى اللَّهُ مِنَ الشِّعْرِ خَيْرًا مِنْهُ اهـ يَعْنِى الْقُرْءَانَ الْكَرِيمَ (وَمَعْنَى قَوْلِهِ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (إِنَّ تَقْوَى رَبِّنَا خَيْرُ نَفَلْ أَىْ) تَقْوَى اللَّهِ (خَيْرُ مَا يُعْطَاهُ الإِنْسَانُ) لِأَنَّ التَّقْوَى عِبَارَةٌ عَنْ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ كُلِّهَا وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ كُلِّهَا (وَمَعْنَى قَوْلِهِ وَبِإِذْنِ اللَّهِ رَيْثِى وَعَجَلْ أَىْ) إِنَّ إِبْطَائِى وَإِسْرَاعِى كِلاهُمَا بِإِذْنِ اللَّهِ أَىْ (أَنَّـهُ لا يُبْطِىءُ مُبْطِىءٌ وَلا يُسْرِعُ مُسْرِعٌ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَبِإِذْنِهِ) فَيُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ تَأَخُّرَ مَنْ يَتَأَخَّرُ عَنِ الْخَيْرِ وَإِسْرَاعَ مَنْ يُسْرِعُ إِلَى الشَّرِّ وَإِبْطَاءَ مَنْ يُبْطِئُ عَنِ الشَّرِّ وَمُبَادَرَةَ مَنْ يُبَادِرُ إِلَى الْخَيْرِ كُلَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقْدِيرِهِ (وَقَوْلُهُ أَحْمَدُ اللَّهَ فَلا نِدَّ لَهُ أَىْ لا مِثْلَ لَهُ) وَلا عَدِيلَ وَلا كُفْءَ (وَقَوْلُهُ بِيَدَيْهِ الْخَيْرُ أَىْ) هُوَ مَالِكُ الْخَيْرِ أَىْ (وَالشَّرِّ) فَلا يَحْصُلانِ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَتَخْلِيقِهِ عَلَى وَفْقِ مَا جَاءَ فِى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ أَىْ وَالشَّرُّ (وَإِنَّمَا) ثَنَى لَبِيدٌ الْيَدَ تَعْظِيمًا وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِى لُغَةِ الْعَرَبِ وَ(اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْخَيْرِ) دُونَ الشَّرِّ (مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ) وَهُوَ مِنْ أَسَالِيبِ الْبَلاغَةِ الْعَرَبِيَّةِ يُذْكَرُ فِيهِ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ الدَّاخِلَيْنِ تَحْتَ حُكْمٍ وَاحِدٍ اكْتِفَاءً بِأَحَدِهِمَا عَنْ ذِكْرِ الآخَرِ (كَقَوْلِهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ النَّحْلِ (﴿سَرَابِيلَ﴾) أَىْ قُمْصَانًا (﴿تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ أَىْ وَالْبَرْدَ لِأَنَّ السَّرَابِيلَ تَقِى مِنَ الأَمْرَيْنِ لَيْسَ مِنَ الْحَرِّ فَقَطْ) وَيُفْهَمُ ذَلِكَ مِنَ الآيَةِ وَلَوْ لَمْ يُصَرَّحْ بِذِكْرِ الْبَرْدِ (وَقَوْلُهُ مَا شَاءَ فَعَلْ أَىْ مَا أَرَادَ اللَّهُ حُصُولَهُ) فَعَلَهُ أَىْ (لا بُدَّ أَنْ يَحْصُلَ) بِقُدْرَةِ اللَّهِ وَتَخْلِيقِهِ (وَمَا أَرَادَ أَنْ لا يَحْصُلَ فَلا يَحْصُلُ وَقَوْلُهُ مَنْ هَدَاهُ سُبُلَ الْخَيْرِ اهْتَدَى أَىْ مَنْ شَاءَ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الصِّرَاطِ الصَّحِيحِ الْمُسْتَقِيمِ اهْتَدَى) بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَنِّهِ (وَقَوْلُهُ نَاعِمَ الْبَالِ أَىْ مُطْمَئِنَّ الْبَالِ وَقَوْلُهُ وَمَنْ شَاءَ أَضَلّ أَىْ مَنْ شَاءَ) اللَّهُ (لَهُ أَنْ يَكُونَ ضَالًّا أَضَلَّهُ) بِعَدْلِهِ وَعَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ الأَزَلِىِّ وَمَشِيئَتِهِ الأَزَلِيَّةِ فَيَخْتَارُ هَذَا الْعَبْدُ الْكُفْرَ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَبِتَقْدِيرِهِ وَتَخْلِيقِهِ. وَإِنَّمَا كَانَ يُعْجَبُ عُمَرُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَذِهِ الأَبْيَاتِ لِمَا فِيهَا مِنْ جَوَاهِرِ الْعِلْمِ وَأُصُولِ الْعَقِيدَةِ وَخَالِصِ التَّوْحِيدِ (وَ)عَلَى وِزَانِ مَا قَالَهُ لَبِيدٌ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (رَوَى الْبَيْهَقِىُّ عَنِ) الإِمَامِ مُحَمَّدِ بنِ إِدْرِيسَ (الشَّافِعِىِّ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّهُ قَالَ حِينَ سُئِلَ عَنِ الْقَدَرِ

مَا شِئْتَ كَانَ وَإِنْ لَمْ أَشَـــــــــــــــــــأْ وَمَا شِـئْتُ إِنْ لَمْ تَشَأْ لَمْ يَكُنْ

خَلَقْتَ الْعِبَـادَ عَلَى مَا عَلِمْتَ فَفِى الْعِلْمِ يَجْرِى الْفَتَى وَالْمُسِنْ

عَلَى ذَا مَنَنْتَ وَهَـَذا خَذَلْـــــتَ وَهَـــذَا أَعَنْتَ وَذَا لَمْ تُعِــــــــــــــــــــــنْ

فَمِنْهُمْ شَـِقىٌّ وَمِنْهُمْ سَعِيــــــــــدٌ وَهَـذَا قَبِيـحٌ وَهَـذَا حَسَـــــــــــــــــــنْ)

فَفِى هَذِهِ الأَبْيَاتِ يَقُولُ الشَّافِعِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَا رَبِّ مَا سَبَقَتْ بِهِ مَشِيئَتُكَ فِى الأَزَلِ لا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ وَإِنْ لَمْ أَشَأْ وُجُودَهُ لِأَنَّ مَشِيئَتَكَ نَافِذَةٌ وَمُرَادَكَ لا يَتَخَلَّفُ حُصُولُهُ وَأَمَّا مَا أَرَدْتُ أَنَا حُصُولَهُ فَلا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا شِئْتَ أَنْتَ ذَلِكَ وَأَنْتَ يَا رَبَّنَا خَلَقْتَ الْعِبَادَ أَىْ أَبْرَزْتَهُمْ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ عَلَى حَسَبِ مَا سَبَقَ فِى عِلْمِكَ الأَزَلِىِّ وسَعْىُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَلْقِ سَوَاءٌ كَانَ فَتًى أَوْ مُسِنًّا لا يَخْرُجُ عَنْ عِلْمِكَ فَبَعْضُهُمْ مَنَنْتَ عَلَيْهِ فَوَفَّقْتَهُ لِلإِيمَانِ وَالْهُدَى وَالصَّلاحِ أَىْ جَعَلْتَهُ يَصِرُفُ اخْتِيَارَهُ إِلَى ذَلِكَ وَقِسْمٌ مِنْهُمْ خَذَلْتَهُمْ فَلَمْ تُوَفِّقْهُمْ لِلْحَقِّ بَلْ جَعَلْتَهُمْ يَصِرُفُونَ قُدْرَتَهُمْ وَاخْتِيَارَهُمْ لِلشَّرِّ وَأَعَنْتَ فَرِيقًا مِنَ النَّاسِ عَلَى مَا يُرْضِيكَ مِنَ الأَعْمَالِ وَلَمْ تُعِنِ الْفَرِيقَ الآخَرَ عَلَى ذَلِكَ فَصَارَ النَّاسُ مَا بَيْنَ شَقِىٍّ وَسَعِيدٍ وَقَبِيحٍ وَحَسَنٍ وَمُوَفَّقٍ وَمَخْذُولٍ عَلَى حَسَبِ عِلْمِكَ الأَزَلِىِّ وَمَشِيئَتِكَ الأَزَلِيَّةِ وَتَقْدِيرِكَ الَّذِى لا يَتَغَيَّرُ (فَتَبَيَّنَ بِهَذَا) الَّذِى سَبَقَ كُلِّهِ (أَنَّ الضَّمِيرَ) الْمُسْتَتِرَ (فِى) فِعْلِ يَشَاءُ مِنْ (قَوْلِهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ النَّحْلِ (﴿يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِى مَنْ يَشَاءُ﴾ يَعُودُ إِلَى اللَّهِ) أَىْ فَيَكُونُ الْمَعْنَى مَنْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهُ الضَّلالَةَ يَجْعَلُهُ ضَالًّا وَمَنْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهُ الْهُدَى يَجْعَلُهُ مُهْتَدِيًا وَ(لا) يَصِحُّ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ (إِلَى الْعَبْدِ كَمَا زَعَمَتِ الْقَدَرِيَّةُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الأَعْرَافِ (إِخْبَارًا عَنْ سَيِّدِنَا مُوسَى) لَمَّا اخْتَارَ سَبْعِينَ شَخْصًا لِيَأْخُذَهُمْ لِلتَّضَرُّعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ عَبَدَ قِسْمٌ مِنْ قَوْمِهِ الْعِجْلَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ﴿رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّنْ قَبْلُ وَإِيَّاىَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا (إنْ هِىَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وتَهْدِى مَنْ تَشَاءُ) أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ﴾ مَعْنَاهُ يَا رَبِّ مَا حَصَلَ مِنْ أَمْرِ السَّامِرِىِّ وَالْعِجْلِ ابْتِلاءٌ مِنْكَ وَامْتِحَانٌ وَفِتْنَةٌ أَضْلَلْتَ بِهَا الْقِسْمَ الَّذِى شِئْتَ أَنْ يَضِلَّ وَهَدَيْتَ الْقِسْمَ الَّذِى شِئْتَ أَنْ يَهْتَدِىَ فَهَذِهِ الآيَةُ تَرُدُّ تَفْسِيرَ الْمُعْتَزِلَةِ لِلآيَةِ السَّابِقَةِ وَتُبْطِلُهُ فَإِنَّ ءَايَاتِ الْقُرْءَانِ الْعَظِيمِ تَتَعَاضَدُ وَلا تَتَنَاقَضُ (وَكَذَلِكَ) أَىْ بِمِثْلِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ (قَالَتْ طَائِفَةٌ يَنْتَسِبُونَ إِلَى) رَجُلٍ كَانَ شُرْطِيًّا أَيَّامَ الِاحْتِلالِ الْفَرَنْسِىِّ يُدْعَى (أَمِينُ شَيْخُو) تَبِعَهُ أُنَاسٌ تَلَقَّى بَعْضُهُمُ الْعُلُومَ الْعَصْرِيَّةَ لَكِنَّهُمْ لَمْ يَتَلَقَوْا عِلْمَ الدِّينِ فَرَاجَ عَلَيْهِمْ مَا أَلْقَى إِلَيْهِمْ مِنَ السُّمِّ كَقَوْلِهِ بِأَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كُفْرَ الْكُفَّارِ فِى الأَزَلِ وَإِنَّمَا بَعْدَ أَنْ يَصِيرَ الْكُفْرُ فِى قَلْبِ أَحَدِهِمْ يَعْلَمُ بِهِ وَكَقَوْلِهِ إِنَّ جَهَنَّمَ لَيْسَتْ دَارَ عَذَابٍ وَقَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَشَأْ حُصُولَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِى مِنَ الْعِبَادِ وَقَوْلِهِ إِنَّ الْبُخَارِىَّ وَمُسْلِمًا كَانَا يَهُودِيَّيْنِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَتْبَاعُهُ هَؤُلاءِ هُمُ (الَّذِينَ زَعِيمُهُمُ الْيَوْمَ عَبْدُ الْهَادِى الْبَانِىُّ الَّذِى هُوَ بِدِمَشْقَ) اﻫ وَهَذَا الْكَلامُ كَانَ قَبْلَ وَفَاتِهِ فَإِنَّ عَبْدَ الْهَادِى الْبَانِىَّ جَازَاهُ اللَّهُ بِمَا يَسْتَحِقُّ تُوُفِّىَ مُنْذُ بِضْعِ سَنَوَاتٍ وَصَارَ الْمُنْتَسِبُونَ إِلَى هَذِهِ الطَّائِفَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ فِرَقًا تَجْمَعُهَا ضَلالَةُ التَّكْذِيبِ بِالْقَدَرِ (فَقَدْ جَعَلُوا مَشِيئَةَ اللَّهِ تَابِعَةً لِمَشِيئَةِ الْعَبْدِ) وحَرَّفُوا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِى مَنْ يَشَاءُ﴾ (حَيْثُ إِنَّ مَعْنَى الآيَةِ عِنْدَهُمْ إِنْ شَاءَ الْعَبْدُ الِاهْتِدَاءَ شَاءَ اللَّهُ لَهُ الْهُدَى وَإِنْ شَاءَ الْعَبْدُ أَنْ يَضِلَّ أَضَلَّهُ اللَّهُ فَكَذَّبُوا بِالآيَةِ) الَّتِى فِى سُورَةِ التَّكْوِيرِ وَغَيْرِهَا (﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾) فَإِنَّهَا صَرِيحَةٌ فِى كَوْنِ مَشِيئَةِ الْعَبْدِ تَابِعَةً لِمَشِيئَةِ اللَّهِ لا الْعَكْس (فَإِنْ حَاوَلَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِآيَةٍ) أُخْرَى (مِنَ الْقُرْءَانِ لِضِدِّ هَذَا الْمَعْنَى قِيلَ لَهُ الْقُرْءَانُ يَتَصَادَقُ وَلا يَتَنَاقَضُ فَلَيْسَ فِى الْقُرْءَانِ ءَايَةٌ نَقِيضَ ءَايَةٍ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ) أَىْ لا يُقَالُ بِأَنَّ إِحْدَى هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ تَنْسَخُ الأُخْرَى (لِأَنَّ النَّسْخَ لا يَدْخُلُ الْعَقَائِدَ) كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِى كُتُبِ أُصُولِ الْفِقْهِ (وَ)هُوَ (لَيْسَ مُوجِبًا لِلتَّنَاقُضِ) أَىْ لا يَقْتَضِى تَنَاقُضًا بَيْنَ ءَايَةٍ وَأُخْرَى (فَالنَّسْخُ لا يَدْخُلُ فِى الأَخْبَارِ إِنَّمَا هُوَ) دَاخِلٌ (فِى الأَمْرِ وَالنَّهْىِ) فَلا يَقْتَضِى حُصُولُهُ كَذِبَ ءَايَةٍ أَوْ حَدِيثٍ (إِنَّمَا النَّسْخُ بَيَانُ انْتِهَاءِ حُكْمِ ءَايَةٍ سَابِقَةٍ) أَوْ حَدِيثٍ سَابِقٍ (بِحُكْمِ ءَايَةٍ لاحِقَةٍ) أَوْ حَدِيثٍ لاحِقٍ (عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْفِئَةَ لا تُؤْمِنُ بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ) شُذُوذًا مِنْهَا عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ نَصَرَهُمُ اللَّهُ. (وَمِنْ غَبَاوَتِهِمْ) أَىْ غَبَاوَةِ أَتْبَاعِ أَمِين شَيْخُو (الْعَجِيبَةِ أَنَّهُمْ يُفَسِّرُونَ قَوْلَهُ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الْبَقَرَةِ (﴿وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى فَإِنْ قِيلَ لَهُمْ لَوْ كَانَتِ الأَسْمَاءُ هِىَ أَسْمَاءَ اللَّهِ الْحُسْنَى لَمْ يَقُلِ اللَّهُ) فِى سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَيْضًا (﴿فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾ بَلْ لَقَالَ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِى انْقَطَعُوا لَكِنَّهُمْ يُصِرُّونَ عَلَى جَهْلِهِمْ وَتَحْرِيفِهِمْ لِلْقُرْءَانِ) أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِى حَاتِمٍ وَوَكِيعٌ وَعَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ أَنَّـهُ تَعَالَى عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كُلِّ شَىْءٍ خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَّمَهُ اسْمَ الصَّحْفَةِ وَالْقِدْرِ وَالْقَصْعَةِ حَتَّى الْفَسْوَةِ وَالْفُسَيَّةِ اﻫ وَأَخْرَجَ وَكِيعٌ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ قَالَ عَلَّمَهُ اسْمَ كُلِّ شَىْءٍ حَتَّى الْبَعِيرِ وَالْبَقَرَةِ وَالشَّاةِ اﻫ وَأَخْرَجَ عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ عَلَّمَ ءَادَمَ مِنَ الأَسْمَاءِ أَسْمَاءَ خَلْقِهِ اﻫ وَعِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ عَلَّمَ اللَّهُ ءَادَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا وَهِىَ هَذِهِ الأَسْمَاءُ الَّتِى يَتَعَارَفُ بِهَا النَّاسُ إِنْسَانٌ وَدَابَّةٌ وَأَرْضٌ وَبَحْرٌ وَسَهْلٌ وَجَبَلٌ وَحِمَارٌ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الأُمَمِ وَغَيْرِهَا. وَرُوِىَ مِثْلُ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ غَيْرِ مَنْ ذُكِرَ مِنَ السَّلَفِ. وَفِى هَذَا كِفَايَةٌ لِبَيَانِ انْحِرَافِ هَذِهِ الْفِرْقَةِ.

(وَ)هَذِهِ الْعَقِيدَةُ أَىْ أَنَّ كُلَّ شَىْءٍ يَحْصُلُ فِى هَذَا الْعَالَمِ هُوَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ كَانَ خَيْرًا أَمْ شَرًّا جِسْمًا أَمْ فِعْلًا هِىَ مَوْضِعُ إِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ بِمَنْ فِيهِمْ عُلَمَاءُ أَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ الْمُطَهَّرُونَ مِنَ الرِّجْسِ عَلَيْهِمْ سَلامُ اللَّهِ تَعَالَى (رَوَى الْحَاكِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عَلِىَّ الرِّضَا بنَ مُوسَى الْكَاظِمِ) بنِ جَعْفَرِ الصَّادِقِ بنِ مُحَمَّدِ الْبَاقِرِ بنِ عَلِىٍّ زَيْنِ الْعَابِدِينَ بنِ الْحُسَيْنِ الشَّهِيدِ بنِ عَلِىِّ بنِ أَبِى طَالِبٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ (كَانَ يَقْعُدُ فِى الرَّوْضَةِ وَهُوَ شَابٌّ مُلْتَحِفٌ بِمُطْرَفِ) بِتَثْلِيثِ الْمِيمِ (خَزٍّ) أَىْ رِدَاءٍ مِنْ خَزٍّ ذِى أَعْلامٍ (فَيَسْأَلُهُ النَّاسُ وَمَشَايِخُ الْعُلَمَاءِ) أَىْ كِبَارُ السِّنِّ مِنْهُمْ (فِى الْمَسْجِدِ فَسُئِلَ عَنِ الْقَدَرِ فَقَالَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ) أَىْ فِى سُورَةِ الْقَمَرِ (﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ ثُمَّ قَالَ الرِّضَا كَانَ أَبِى يَذْكُرُ عَنْ ءَابَائِهِ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِىَّ بنَ أَبِى طَالِبٍ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (كَانَ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ بِقَدَرٍ) أَىْ بِتَقْدِيرِهِ الأَزَلِىِّ وَمَشِيئَتِهِ لِوُجُودِ الأَشْيَاءِ (حَتَّى الْعَجْزَ وَالْكَيْسَ) أَىْ حَتَّى الضَّعْفَ فِى الْفَهْمِ وَالذَّكَاءَ وَالْفَطَانَةَ (وَإِلَيْهِ الْمَشِيئَةُ) أَىْ لَهُ الْمَشِيئَةُ الشَّامِلَةُ الْعَامَّةُ الَّتِى لا تَتَغَيَّرُ وَالْغَالِبَةُ لِلْمَشِيئَاتِ كُلِّهَا (وَبِهِ الْحَوْلُ) أَىِ التَّحَوُّلُ وَالِابْتِعَادُ عَنِ الشَّرِّ (وَالْقُوَّةُ اﻫ) أَىْ عَلَى الْخَيْرِ كَمَا جَاءَ فِى حَدِيثِ الْبَزَّارِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بنَ مَسْعُودٍ قَالَ لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَعْرِفُ مَعْنَاهَا قَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ لا حَوْلَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلَّا بِعِصْمَةِ اللَّهِ وَلا قُوَّةَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ إِلَّا بِعَوْنِ اللَّهِ اﻫ (فَالْعِبَادُ مُنْسَاقُونَ إِلَى فِعْلِ مَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ بِاخْتِيَارِهِمْ) أَىْ بِمَشِيئَةٍ صَادِرَةٍ عَنْهُمْ قَائِمَةٍ بِهِمْ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ مَحْسُوسٌ (لا بِالإِكْرَاهِ وَالْجَبْرِ) أَىْ فَلَيْسَ فِعْلُهُمْ حَاصِلًا مِنْهُمْ بِلا اخْتِيَارٍ وَمَيْلٍ فَلَيْسُوا (كَالرِّيشَةِ الْمُعَلَّقَةِ) الَّتِى (تُمِيلُهَا الرِّيَاحُ يَمْنَةً وَيَسْرَةً) بِلا اخْتِيَارٍ مِنْهَا (كَمَا تَقُولُ الْجَبْرِيَّةُ) الشَّاذَّةُ فَإِنَّ الْجَبْرِيَّةَ يَزْعُمُونَ أَنَّ فِعْلَ الإِنْسَانِ كُلَّهُ هُوَ كَجَرَيَانِ الْمَاءِ الأَوَّلُ يَحْصُلُ بِلا اخْتِيَارٍ مِنَ الإِنْسَانِ كَمَا يَحْصُلُ الثانِى بِلا اخْتِيَارٍ مِنَ الْمَاءِ وَهَذَا تَكْذِيبٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ لِلْعِبَادِ فِى هَذِهِ الآيَةِ الْمَشِيئَةَ الْخَاصَّةَ بِهِمْ وَالْقَائِمَةَ فِيهِمْ وَبَيَّنَ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهَا تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لا تَخْرُجُ عَمَّا عَلِمَ اللَّهُ وَشَاءَ وَقَدَّرَ وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِى لا مَحِيدَ عَنْهُ فَإِنَّ كُلًّا مِنَّا يُحِسُّ بِالْفَرْقِ بَيْنَ تَحْرِيكِ يَدِهِ بِإِرَادَتِهِ لِلْمُصَافَحَةِ مَثَلًا أَوْ لِلْكِتَابَةِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ وَبَيْنَ ارْتِجَافِهَا مِنَ الْبَرْدِ وَيَعْرِفُ كُلٌّ مِنَّا بِالضَّرُورَةِ أَنَّ النَّوْعَ الأَوَّلَ مِنَ الْحَرَكَةِ صَاحَبَهُ مَشِيئَةٌ حَدَثَتْ فِى الْقَلْبِ وَمَيْلٌ إِلَى الْفِعْلِ حَصَلَ فِيهِ ثُمَّ هَذِهِ الْمَشِيئَةُ الْحَادِثَةُ وَالْمَيْلُ الْحَاصِلُ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَا بِخَلْقِ خَالِقٍ لِأَنَّـهُ لا يَصِحُّ فِى الْعَقْلِ تَرَجُّحُ وُجُودِ الْمُمْكِنِ عَلَى عَدَمِهِ بِلا مُرَجِّحٍ كَمَا سَبَقَ شَرْحُهُ وَلا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الإِنْسَانُ هُوَ خَالِقَ مَشِيئَتِهِ وَمَيْلِ قَلْبِهِ لِأَنَّ كُلًّا مِنَّا يَعْرِفُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ يَحْدُثُ فِيهِ فَجْأَةً مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ مِنْهُ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حُدُوثُ ذَلِكَ فِيهِ بِتَخْصِيصِ وَتَخْلِيقِ خَالِقٍ عَالِمٍ مُرِيدٍ قَادِرٍ وَهُوَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى أَنَّ الإِنْسَانَ لَوْ كَانَ هُوَ الْخَالِقَ لإِرَادَتِهِ الْحَادِثَةِ لَاحْتَاجَ هَذَا التَّخْلِيقُ فِى وُجُودِهِ إِلَى إِرَادَةٍ أُخْرَى سَابِقَةٍ تُوجَدُ فِيهِ وَلَاحْتَاجَ تَخْلِيقُ هَذِهِ الإِرَادَةِ مِنْهُ إِلَى إِرَادَةٍ سَابِقَةٍ وَهَكَذَا لا إِلَى أَوَّلٍ وَهَذَا مُحَالٌ لِأَنَّهُ مُفْضٍ إِلَى التَّسَلْسُلِ وَهُوَ مُحَالٌ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ وَمَا أَفْضَى إِلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ. وَإِذَا كَانَتْ إِرَادَةُ الْعَبْدِ مَخْلُوقَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَهِىَ عَمَلُ قَلْبِهِ فَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الأَعْمَالِ بِالأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا لِلَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ الْقَلْبَ هُوَ أَمِيرُ الْجَوَارِح ِوَالْحَاكِمُ عَلَيْهَا وَمِنْ هُنَا قَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فِى الْوَصِيَّةِ وَالْعَبْدُ مَعَ أَعْمَالِهِ وَإِقْرَارِهِ وَمَعْرِفَتِهِ مَخْلُوقٌ فَلَمَّا كَانَ الْفَاعِلُ مَخْلُوقًا فَأَفْعَالُهُ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ مَخْلُوقًةً اﻫ فَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ وَالطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ يَصْدُرَانِ مِنَ الْعَبْدِ بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ مَشِيئَةَ الْعَبْدِ هَذِهِ وَأَعْمَالَهُ وَيُبْرِزُهَا مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ الأَزَلِىِّ بِاسْتِعْدَادِ الْعَبْدِ وَبِمَا يَصْدُرُ مِنْهُ (وَلَوْ لَمْ يَشَإِ اللَّهُ عِصْيَانَ الْعُصَاةِ وَكُفْرَ الْكَافِرِينَ وَإِيمَانَ الْمُؤْمِنِينَ وَطَاعَةَ الطَّائِعِينَ لَمَا خَلَقَ الْجَنَّةَ) دَارًا لِأَهْلِ النَّعِيمِ قَبْلَ وُجُودِ أَهْلِهَا (وَ)لَمَا خَلَقَ (النَّارَ) وَشَاءَ أَنْ تَكُونَ دَارًا يُعَذَّبُ فِيهَا أَهْلُ الْجَحِيمِ الَّذِينَ تَبِعُوا الشَّيَاطِينَ الَّذِينَ قَدْ خَلَقَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَمَكَّنَهُمْ مِنَ الإِغْوَاءِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى الضَّلالَةَ وَرَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ بنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَيْثُ قَالَ لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ لا يُعْصَى لَمَا خَلَقَ إِبْلِيسَ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِى الِاعْتِقَادِ.

(وَمَنْ يَنْسُبُ لِلَّهِ تَعَالَى خَلْقَ الْخَيْرِ دُونَ الشَّرِّ) لِزَعْمِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَاءَ حُصُولَ الْخَيْرِ فَقَطْ وَلَمْ يَشَأْ حُصُولَ الشَّرِّ بَلْ حَصَلَ الشَّرُّ فِى الْعَالَمِ بِغَيْرِ مَشِيئَةِ اللَّهِ وَرُغْمًا عَنْهُ (فَقَدْ نَسَبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْعَجْزَ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ) لَمَا كَانَ دِينُ الْمَجُوسِ بَاطِلًا وَلَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ وَ(لَكَانَ لِلْعَالَمِ مُدَبِّرَانِ) أَوْ أَكْثَرُ (مُدَبِّرُ خَيْرٍ وَمُدَبِّرُ شَرٍّ) أَوْ أَكْثَرُ (وَهَذَا كُفْرٌ وَإِشْرَاكٌ) كَمَا لا يَخْفَى (وَهَذَا الرَّأْىُ السَّفِيهُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى يَجْعَلُ اللَّهَ تَعَالَى فِى مُلْكِهِ مَغْلُوبًا) أَىْ نَاقِصَ الْمَشِيئَةِ وَالْقُدْرَةِ وَمَكْسُورَ السُّلْطَانِ (لِأَنَّهُ عَلَى حَسَبِ اعْتِقَادِهِ) أَىِ اعْتِقَادِ الْمُخَالِفِ الَّذِى يَنْفِى عُمُومَ مَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ (اللَّهُ تَعَالَى أَرَادَ الْخَيْرَ فَقَطْ فَيَكُونُ قَدْ وَقَعَ الشَّرُّ مِنْ عَدُوِّهِ إِبْلِيسَ وَأَعْوَانِهِ الْكُفَّارِ رَغْمَ إِرَادَتِهِ) وَذَلِكَ يَعْنِى قَصْرَ تَعَلُّقِ إِرَادَتِهِ تَعَالَى بِبَعْضِ الْمُمْكِنَاتِ دُونَ بَعْضٍ وَقَصْرَ قُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ دُونَ بَعْضٍ وَكَوْنَ غَيْرِهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْفَذَ مِنْهُ مَشِيئَةً وَأَتَمَّ قُدْرَةً وَأَعْلَى سُلْطَانًا (وَ)إِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا صَرِيحَ الْعَجْزِ وَوَاضِحَ الْمَغْلُوبِيَّةِ فَأَىُّ شَىْءٍ يَكُونُ الْعَجْزُ إِذًا وَلِذَلِكَ (يَكْفُرُ مَنْ يَعْتَقِدُ هَذَا الرَّأْىَ) كَمَا صَرَّحَ بِهِ الأَكَابِرُ سَلَفًا وَخَلَفًا كَمَا سَيَأْتِى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (لِمُخَالَفَتِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى) فِى سُورَةِ يُوسُفَ (﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾ أَىْ) يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ وَ(لا أَحَدَ يَمْنَعُ نَفَاذَ مَشِيئَتِهِ) رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِى حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ فِى قَوْلِهِ ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾ قَالَ فَعَّالٌ اﻫ وَقَالَ الإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِىُّ فِى التَّأْوِيلاتِ ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾ أَىْ لا مَرَدَّ لِقَضَائِهِ إِذَا قَضَى أَمْرًا كَانَ لِقَوْلِهِ أَىْ فِى سُورَةِ الرَّعْدِ ﴿لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ﴾ اﻫ

هَذَا حُكْمُ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ أَحَدًا غَيْرَ اللَّهِ يُشَارِكُهُ سُبْحَانَهُ فِى صِفَةِ التَّخْلِيقِ (وَ)أَمَّا (حُكْمُ مَنْ يَنْسُبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْخَيْرَ وَيَنْسُبُ إِلَى الْعَبْدِ الشَّرَّ أَدَبًا) أَىْ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادِ أَوْ قَوْلِ إِنَّهُ لَيْسَ بِخَلْقِ اللَّهِ (أَنَّـهُ لا حَرَجَ عَلَيْهِ) كَمَا لَوْ قَالَ كُلُّ خَيْرٍ فِينَا فَمِنَ اللَّهِ وَمَا يَنْزِلُ بِنَا مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِينَا أَوْ كَأَنْ قَالَ الْخَيْرُ مِنَ اللَّهِ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْهِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ أَنَّنَا نَقُولُ يَا رَبِّ الْخَيْرُ مِنْكَ وَلا نَقُولُ يَا رَبِّ الشَّرُّ مِنْكَ فَإِنَّ إِفْرَادَ الشَّرِّ بِالذِّكْرِ إِسَاءَةُ أَدَبٍ مَعَ اللَّهِ وَذَلِكَ كَمَا نَقُولُ اللَّهُ خَالِقُ الْمَلائِكَةِ وَالإِنْسِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ وَالْجِنِّ الْمُؤْمِنِينَ وَالشَّيَاطِينِ وَالْبَهَائِمِ النَّافِعَةِ كَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْبَهَائِمِ الضَّارَّةِ كَالْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ وَلا نُفْرِدُ الشَّيَاطِينَ وَالْخَنَازِيرَ وَالْقِرَدَةَ بِالذِّكْرِ فَنَقُولَ مَثَلًا اللَّهُ خَالِقُ الشَّيَاطِينِ وَالْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ فَإِنَّهُ إِسَاءَةُ أَدَبٍ كَمَا لا يَخْفَى (أَمَّا إِذَا اعْتَقَدَ) الْقَائِلُ (أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ) الْحَسَنَ دُونَ الْقَبِيحِ وَ(الْخَيْرَ دُونَ الشَّرِّ فَحُكْمُهُ التَّكْفِيرُ) قَطْعًا كَمَا سَلَف.

(وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا عَذَّبَ الْعَاصِىَ) الَّذِى شَاءَ لَهُ الْوُقُوعَ فِى الْمَعْصِيَةِ وَقَدَّرَهَا عَلَيْهِ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ الأَزَلِىِّ (فَبِعَدْلِهِ) يُعَذِّبُهُ (مِنْ غَيْرِ ظُلْمٍ) لَهُ بِذَلِكَ (وَإِذَا أَثَابَ الْمُطِيعَ) الَّذِى مَنَّ عَلَيْهِ بِتَوْفِيقِهِ لِلطَّاعَةِ (فَبِفَضْلِهِ) يُثِيبُهُ (مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ عَلَيْهِ لِأَنَّ الظُّلْمَ إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ مِمَّنْ لَهُ ءَامِرٌ وَنَاهٍ) وَذَلِكَ أَنَّ الظُّلْمَ هُوَ التَّصَرُّفُ فِى مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ أَوْ هُوَ مُخَالَفَةُ أَمْرِ وَنَهْىِ مَنْ لَهُ الأَمْرُ وَالنَّهْىُ (وَلا ءَامِرَ لِلَّهِ وَلا نَاهِىَ لَهُ فَهُوَ يَتَصَرَّفُ فِى مِلْكِهِ كَمَا يَشَاءُ لِأَنَّهُ) لا يَجِبُ عَلَيْهِ شَىْءٌ وَهُوَ (خَالِقُ الأَشْيَاءِ) كُلِّهَا (وَمَالِكُهَا) الْحَقِيقِىُّ إِذِ الْعِبَادُ أَنْفُسُهُمْ وَمَا يَمْلِكُونَ مِلْكٌ لَهُ سُبْحَانَهُ فَيَفْعَلُ عَزَّ وَجَلَّ فِى مِلْكِهِ مَا يُرِيدُ وَلا يَكُونُ ذَلِكَ جَوْرًا وَلا خِلافًا لِلْحِكْمَةِ (وَ)مِصْدَاقُ ذَلِكَ فِى مَا (قَدْ جَاءَ فِى الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِى رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِى مُسْنَدِهِ وَالإِمَامُ أَبُو دَاوُدَ فِى سُنَنِهِ وَابْنُ حِبَّانَ عَنِ ابْنِ الدَّيْلَمِىِّ) عَبْدِ اللَّهِ بنِ فَيْرُوز أَنَّـهُ (قَالَ أَتَيْتُ أُبَىَّ بنَ كَعْبٍ) صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَقُلْتُ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ إِنَّهُ حَدَثَ فِى نَفْسِى شَىْءٌ مِنْ هَذَا الْقَدَرِ) أَىْ خَطَرَ بِبَالِى خَاطِرٌ خَبِيثٌ يَتَعَلَّقُ بِالْقَدَرِ (فَحَدِّثْنِى لَعَلَّ اللَّهَ يَنْفَعُنِى) بِمَا تَقُولُ (قَالَ) أُبَىٌّ (إِنَّ اللَّهَ لَوْ عَذَّبَ أَهْلَ أَرْضِهِ) مِنْ إِنْسٍ وَجِنٍّ (وَسَمَاوَاتِهِ) أَىِ الْمَلائِكَةَ (لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ) أَىْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِى الأَزَلِ أَنْ يُعَذِّبَ كُلَّ عِبَادِهِ الطَّائِعَ وَالْعَاصِىَ لَمَا كَانَ هَذَا ظُلْمًا مِنْهُ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِى مِلْكِهِ كَمَا يَشَاءُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ شَىْءٌ قَالَ (وَلَوْ رَحِمَهُمْ) مِنَ الْعَذَابِ (كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ) أَىْ أَنَّ مَنْ يرَحَمُهُ اللَّهُ فَيُنَعِّمُهُ فِى الآخِرَةِ يَكُونُ تَنَعُّمُهُ بِفَضْلِ اللَّهِ وَكَرَمِهِ لا شَيْئًا وَاجِبًا عَلَى اللَّهِ بِسَبَبِ عَمَلِهِ بَلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَرْحَمَ كُلَّ عِبَادِهِ الطَّائِعَ مِنْهُمْ وَالْعَاصِىَ وَلا يُعَذِّبَ مِنْهُمْ أَحَدًا فِى الآخِرَةِ لَمَا كَانَ ذَلِكَ سَفَهًا مِنْهُ تَعَالَى وَلا مُنَافِيًا لِلْحِكْمَةِ فَالأَمْرُ كَمَا بَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَحَدًا لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وُجُوبًا عَلَى اللَّهِ بِعَمَلِهِ وَإِنَّمَا يَدْخُلُهَا مَنْ يَدْخُلُهَا بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى قَالُوا وَلا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَلا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِى اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ اﻫ رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ وَغَيْرُهُ قَالَ أُبَىٌّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (وَلَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا) لِلْجِهَادِ (فِى سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ) مِنْ رِزْقٍ أَوْ مُصِيبَةٍ أَوْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ (لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ وَلَوْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا) الِاعْتِقَادِ لَمُتَّ كَافِرًا وَ(دَخَلْتَ النَّارَ قَالَ) ابْنُ الدَّيْلَمِىِّ (ثُمَّ أَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بنَ مَسْعُودٍ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (فَحَدَّثَنِى مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ أَتَيْتُ حُذَيْفَةَ بنَ الْيَمَانِ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (فَحَدَّثَنِى مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ أَتَيْتُ زَيْدَ بنَ ثَابِتٍ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (فَحَدَّثَنِى مِثْلَ ذَلِكَ) لَكِنْ (عَنِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) اﻫ وَلَيْسَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ كَالثَّلاثَةِ الَّذِينَ قَبْلَهُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.

(وَرَوَى مُسْلِمٌ فِى صَحِيحِهِ وَالْبَيْهَقِىُّ فِى كِتَابِ الْقَدَرِ) وَغَيْرُهُمَا (عَنْ أَبِى الأَسْوَدِ الدُّؤَلِىِّ) وَيُقَالُ أَيْضًا الدِئَلِىّ وَالدِّيلِىّ وَاسْمُهُ ظَالِمُ بنُ عَمْرٍو (قَالَ قَالَ لِى عِمْرَانُ بنُ الْحُصَيْنِ) الْخُزَاعِىُّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ وَأَوْلِيَائِهِمْ (أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ الْيَوْمَ وَيَكْدَحُونَ) أَىْ يَسْعَوْنَ (فِيهِ أَشَىْءٌ قُضِىَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبَقَ) أَىْ قُدِّرَ عَلَيْهِمْ حُصُولُهُ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ الأَزَلِىِّ (أَوْ) هُوَ (فِيمَا يُسْتَقْبَلُونَ بِهِ) أَىْ شَىْءٌ جَدِيدٌ لَمْ يَسْبِقْ بِهِ عِلْمٌ لِلَّهِ تَعَالَى ولا تَقْدِيرٌ أَجِبْ عَنْ ذَلِكَ ءَاخِذًا (مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَ)عَلَى حَسَبِ دِينِهِ الَّذِى (ثَبَتَتِ الْحُجَّةُ) بِهِ (عَلَيْهِمْ) قَالَ أَبُو الأَسْوَدِ (قُلْتُ بَلْ شَىْءٌ قُضِىَ عَلَيْهِمْ) خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى (وَمَضَى عَلَيْهِمْ) بِتَقْدِيرِهِ عَزَّ وَجَلَّ (قَالَ فَقَالَ) عِمْرَانُ مُمْتَحِنًا (أَفَلا يَكُونُ ظُلْمًا قَالَ) أَبُو الأَسْوَدِ (فَفَزِعْتُ مِنْ ذَلِكَ فَزَعًا شَدِيدًا وَقُلْتُ كُلُّ شَىْءٍ خَلْقُهُ وَمِلْكُ يَدِهِ) فَلا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ ظُلْمٌ وَلا يَتَصَرَّفُ إِلَّا فِى مِلْكِهِ (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ءَامِرٌ وَلا نَاهٍ (وَهُمْ يُسْأَلُونَ) لِأَنَّهُمْ عَبِيدٌ مَأْمُورُونَ وَمَنْهِيُّونَ (قَالَ) أَبُو الأَسْوَدِ (فَقَالَ لِى) عِمْرَانُ (يَرْحَمُكَ اللَّهُ إِنِّى لَمْ أُرِدْ بِمَا سَأَلْتُكَ إِلَّا لِأَحْزِرَ عَقْلَكَ) أَىْ أُقَدِّرَهُ وَأَمْتَحِنَ فَهْمَكَ (إِنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ) قَبِيلَةِ (مُزَيْنَةَ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ) صَلَّى اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَقَالا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ الْيَوْمَ وَيَكْدَحُونَ فِيهِ أَشَىْءٌ قُضِىَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبَقَ أَوْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُونَ بِهِ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ وَثَبَتَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بَلْ شَىْءٌ قُضِىَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى) أَىْ فِى سُورَةِ الشَّمْسِ (﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾) أَىْ وَمَنْ خَلَقَهَا وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى (﴿فَأَلْهَمَهَا﴾) أَىِ اللَّهُ (﴿فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾) اﻫ فَأَقْسَمَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أَنَّ الْفُجُورَ الَّذِى يَحْصُلُ هُوَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ وَخَلْقِهِ وَالتَّقْوَى كَذَلِكَ فَلَيْسَ خَلْقُ أَعْمَالِ الْعِبَادِ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا الْعِبَادُ يَكْتَسِبُونَهَا اكْتِسَابًا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْبَقَرَةِ ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ فَمَنْ عَمِلَ خَيْرًا فَبِفَضْلِ اللَّهِ (وَ)مَنْ عَمِلَ غَيْرَ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ اللَّوْمَ عَلَى مَا اكْتَسَبَ كَمَا (صَحَّ حَدِيثُ) رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ (فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ) الَّذِى وَفَّقَهُ لِذَلِكَ (وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ) اﻫ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِى ذَرٍّ عَنِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. أَمَّا الأَوَّلُ وَهُوَ مَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُتَفَضِّلٌ عَلَيْهِ بِالإِيجَادِ وَالتَّوْفِيقِ مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ عَلَيْهِ فَلْيَحْمَدِ الْعَبْدُ رَبَّهُ عَلَى تَفَضُّلِهِ عَلَيْهِ أَمَّا الثَّانِى وَهُوَ مَنْ وَجَدَ شَرًّا فَلِأَنَّهُ تَعَالَى أَبْرَزَ بِقُدْرَتِهِ) الأَزَلِيَّةِ (مَا كَانَ) أَىْ وُجِدَ (مِنْ مَيْلِ الْعَبْدِ السَّيِئِ) إِذْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ بِعِلْمِهِ الأَزَلِىِّ مَا يَمِيلُ إِلَيْهِ الإِنْسَانُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ فَأَظْهَرَ بِقُدْرَتِهِ مَا كَانَ الْعَبْدُ مُسْتَعِدًّا لَهُ (فَمَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ فَبِعَدْلِهِ) فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لا يَظْلِمُ أَحَدًا وَيَفْعَلُ فِى مِلْكِهِ مَا يَشَاءُ (وَمَنْ هَدَاهُ فَبِفَضْلِهِ) فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لا يَجِبُ عَلَيْهِ شَىْءٌ وَلا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ فِى خِذْلانِ مَنْ خَذَلَهُمْ وَتَعْذِيبِ مَنْ يُعَذِّبُهُمْ كَمَا أَنَّـهُ لا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ فِى خَلْقِهِ الأَلَمَ فِى الأَطْفَالِ الصِّغَارِ وَفِى الْبَهَائِمِ الَّتِى تُذْبَحُ لِانْتِفَاعِنَا بِهَا وَلَيْسَ يَتِمُّ أَمْرُ هَذَا الدِّينِ وَلا تَثْبُتُ لِأَحَدٍ قَدَمٌ فِى الإِسْلامِ إِلَّا عَلَى ظَهْرِ التَّسْلِيمِ وَالِاسْتِسْلامِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَيْسَتْ أَعْمَالُنَا إِلَّا أَعْلامَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ أَىْ هِىَ عَلامَاتٌ عَلَى مَا تَكُونُ عَلَيْهِ حَالُ الْعَبْدِ فِى الآخِرَةِ مِنْ حَيْثُ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَلَيْسَتْ مُوجِبَةً شَيْئًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى (وَلَوْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ وَ)لَمْ يَبْعَثِ الرُّسُلَ إِلَيْهِمْ ثُمَّ (أَدْخَلَ فَرِيقًا الْجَنَّةَ) لِعِلْمِهِ الأَزَلِىِّ بِأَنَّهُمْ مُحْسِنُونَ (وَ)أَدْخَلَ (فَرِيقًا النَّارَ لِسَابِقِ عِلْمِهِ أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ لَكَانَ شَأْنُ الْمُعَذَّبِ مِنْهُمْ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِقَوْلِهِ) فِى سُورَةِ طَه (﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ ءَايَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَّذِلَّ وَنَخْزَى﴾ فَأَرْسَلَ اللَّهُ) قَطْعًا لِعُذْرِ الْكُفَّارِ (الرُّسُلَ) مُبَلِّغِينَ لِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ وَ(مُبَشِّرِينَ) مَنْ أَطَاعَ بِالثَّوَابِ الْعَظِيمِ (وَمُنْذِرِينَ) مَنْ أَبَى بِالْعَذَابِ الأَلِيمِ (لِيُظْهِرَ) اللَّهُ (مَا فِى اسْتِعْدَادِ الْعَبْدِ) أَىْ مَا فِى اسْتِعْدَادِ قِسْمٍ مِنَ الْعَبِيدِ (مِنَ الطَّوْعِ وَ)مَا فِى اسْتِعْدَادِ الْقِسْمِ الآخَرِ مِنَ (الإِبَاءِ فَيَهْلِكُ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ) قَامَتْ عَلَيْهِ وَدَلِيلٍ (وَيَحْيَا مَنْ حَىَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) أَقَامَهَا اللَّهُ لَهُ وَحُجَّةٍ اسْتَرْشَدَ بِهَا (فَأَخْبَرَنَا) اللَّهُ (أَنَّ قِسْمًا مِنْ خَلْقِهِ مَصِيرُهُمُ النَّارُ بِأَعْمَالِهِمُ الَّتِى يَعْمَلُونَ بِاخْتِيَارِهِمْ وَكَانَ تَعَالَى عَالِمـًا بِعِلْمِهِ الأَزَلِىِّ أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) فَشَاءَ بِمَشِيئَتِهِ الأَزَلِيَّةِ لَهُمْ عَدَمَ الإِيمَانِ وَلَوْ شَاءَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ النَّاسِ مُؤْمِنِينَ لَكَانُوا كَذَلِكَ كَمَا (قَالَ تَعَالَى) فِى سُورَةِ السَّجْدَةِ (﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّى لَأَمْلَأَنَّ جَهَّنَمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِى هَذِهِ الآيَةِ أَنَّهُ قَالَ فِى الأَزَلِ) بِكَلامِهِ الأَزَلِىِّ الْقَائِمِ بِذَاتِهِ الْمُقَدَّسِ ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾ أَىْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَهْتَدِىَ الإِنْسُ وَالْجِنُّ كُلُّهُمْ لَكَانُوا جَمِيعُهُمْ مُهْتَدِينَ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَشَأْ أَنْ يَهْتَدِىَ الْكُلُّ وَإِنَّمَا شَاءَ الْهِدَايَةَ لِقِسْمٍ وَالضَّلالَ لِقِسْمٍ كَبِيرٍ مِنْهُمْ وَشَاءَ أَنْ يَمُوتَ هَؤُلاءِ عَلَى الضَّلالِ فَيَدْخُلُونَ النَّارَ وَيَمْلَؤُونَهَا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ (﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ وَقَوْلُهُ صِدْقٌ لا يَتَخَلَّفُ لِأَنَّ التَّخَلُّفَ أَىِ التَّغَيُّرَ) فِى خَبَرِهِ أَوْ وَعْدِهِ أَوْ وَعِيدِهِ (كَذِبٌ وَالْكَذِبُ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ) أَىْ مُسْتَحِيلٌ فِى حَقِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَ(قَالَ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الأَنْعَامِ (﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ أَىْ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَشَأْ هِدَايَةَ جَمِيعِكُمْ إِذْ لَمْ يَسْبِقِ الْعِلْمُ بِذَلِكَ) وَالْمَشِيئَةُ تَابِعَةٌ لِلْعِلْمِ كَمَا تَقَدَّمَ، حَكَى الإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِىُّ عَنِ الإِمَامِ أَبِى حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ الْكَلامُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَدَرِيَّةِ فِى حَرْفَيْنِ يُقَالُ لَهُمْ هَلْ عَلِمَ اللَّهُ مَا يَكُونُ مِنَ الْعِبَادِ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلُوا فَإِنْ قَالُوا لا كَفَرُوا لِأَنَّهُمْ جَهَّلُوا رَبَّهُمْ وَإِنْ قَالُوا عَلِمَ يُقَالُ لَهُمْ هَلْ شَاءَ خِلافَ مَا عَلِمَهُ فَإِنْ قَالُوا نَعَمْ كَفَرُوا لِأَنَّهُمْ قَالُوا شَاءَ أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا وَإِنْ قَالُوا لا رَجَعُوا إِلَى قَوْلِنَا اﻫ وَلِذَلِكَ قَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِىُّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ الْقَدَرِىُّ إِذَا سَلَّمَ الْعِلْمَ خُصِمَ اﻫ (فَالْعِبَادُ مُنْسَاقُونَ إِلَى فِعْلِ مَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ) سَوَاءٌ كَانَ إِيمَانًا أَمْ كُفْرًا طَاعَةً أَمْ مَعْصِيَةً (بِاخْتِيَارِهِمْ لا بِالإِكْرَاهِ وَالْجَبْرِ) وَذَلِكَ عَلَى وَفْقِ عِلْمِ اللَّهِ الأَزَلِىِّ وَمَشِيئَتِهِ الأَزَلِيَّةِ فَلَيْسَ الْعِبَادُ مُجَرَّدِينَ مِنَ الِاخْتِيَارِ كَالرِّيشَةِ الَّتِى تَتَقَاذَفُهَا الرِّيَاحُ وَلا هُمْ خَالِقُونَ لِأَعْمَالِهِمْ بَلِ الْعِبَادُ مُخْتَارُونَ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ.

(وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَمْرِ الْقَدَرِ لَيْسَ مِنَ الْخَوْضِ الَّذِى نَهَى النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ إِذَا ذُكِرَ الْقَدَرُ فَأَمْسِكُوا) اﻫ (رَوَاهُ الطَّبَرَانِىُّ لِأَنَّ هَذَا) الْكَلامَ الَّذِى تَقَدَّمَ (تَفْسِيرٌ لِلْقَدَرِ الَّذِى وَرَدَ بِهِ النَّصُّ) وَأُمِرْنَا بِالتَّصْدِيقِ بِهِ (وَأَمَّا الْمَنْهِىُّ عَنْهُ فَهُوَ الْخَوْضُ فِيهِ لِلْوُصُولِ إِلَى) مَعْرِفَةِ (سِرِّهِ) فَهُوَ أَمْرٌ لا تَصِلُ إِلَيْهِ عُقُولُنَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلا نَبِىٌّ مُرْسَلٌ وَلِذَلِكَ (فَقَدْ) نُهِينَا عَنْ تَكَلُّفِ التَّوَصُّلِ إِلَى حَقِيقَتِهِ كَمَا (رَوَى) الإِمَامُ (الشَّافِعِىُّ وَالْحَافِظُ) أَبُو الْقَاسِمِ (بنُ عَسَاكِرَ عَنْ) سَيِّدِنَا (عَلِىٍّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِلسَّائِلِ عَنِ الْقَدَرِ سِرُّ اللَّهِ فَلا تَتَكَلَّفْ) مُحَاوَلَةَ الْوُصُولِ إِلَى مَعْرِفَةِ حَقِيقَتِهِ فَإِنَّ الْقَدَرَ أَىِ التَّقْدِيرَ صِفَةٌ لِلْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَيْسَ عِلْمُنَا بِالْخَالِقِ عِلْمَ إِحَاطَةٍ (فَلَمَّا أَلَحَّ عَلَيْهِ) السَّائِلُ (قَالَ لَهُ أَمَّا إِذْ أَبَيْتَ فَإِنَّهُ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ لا جَبْرٌ وَلا تَفْوِيضٌ) اﻫ أَىْ لَيْسَ الْعَبْدُ مُجْبَرًا عَلَى أَفْعَالِهِ بِلا اخْتِيَارٍ مِنْهُ بَلْ تَحْصُلُ أَفْعَالُهُ الِاخْتِيَارِيَّةُ بِمَشِيئَتِهِ وَلَكِنَّ الأَمْرَ لَيْسَ مُفَوَّضًا إِلَيْهِ بِحَيْثُ تَخْرُجُ مَشِيئَتُهُ عَنْ مَشِيئَة الله تَعَالَى.

(وَاعْلَمْ أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ذَمَّ الْقَدَرِيَّةَ وَهُمْ فِرَقٌ) أَوْصَلَهَا الإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ التَّمِيمِىُّ إِلَى مَا يَزِيدُ عَنْ عِشْرِينَ فِرْقَةً (فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْعَبْدُ خَالِقٌ لِجَمِيعِ فِعْلِهِ الِاخْتِيَارِىِّ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ خَالِقُ الشَّرِّ) مِنْ أَفْعَالِهِ (دُونَ الْخَيْرِ) فَإِنَّ اللَّهَ يَخْلُقُهُ (وَكِلا الْفَرِيقَيْنِ كُفَّارٌ) لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شَرِيكًا فِى التَّخْلِيقِ فَلَمْ يُقِرُّوا بِوَحْدَانِيَّةِ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِذَلِكَ (قَالَ) فِيهِمْ (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَبْلَ ظُهُورِهِمْ تَنْبِيهًا لِأُمَّتِهِ وَتَحْذِيرًا (الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ) اﻫ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَرْفُوعًا (وَفِى رِوَايَةٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ لِكُلِّ أُمَّةٍ مَجُوسٌ وَمَجُوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا قَدَر) اﻫ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ حُذَيْفَةَ عَنِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَإِنَّمَا شَبَّهَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَجُوسِ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا لِلَّهِ تَعَالَى شَرِيكًا فِى الْخَالِقِيَّةِ كَالْمَجُوسِ (وَفِى كِتَابِ الْقَدَرِ لِلْبَيْهَقِىِّ وَكِتَابِ تَهْذِيبِ الآثَارِ لِلإِمَامِ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِىِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِى لَيْسَ لَهُمَا نَصِيبٌ فِى الإِسْلامِ الْقَدَرِيَّةُ وَالْمُرْجِئَةُ) اﻫ (فَالْمُعْتَزِلَةُ هُمُ الْقَدَرِيَّةُ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا اللَّهَ وَالْعَبْدَ سَوَاسِيَةً بِنَفْىِ الْقُدْرَةِ عَنْهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَا يُقْدِرُ عَلَيْهِ عَبْدَهُ فَكَأَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ خَالِقَيْنِ فِى الْحَقِيقَةِ كَمَا أَثْبَتَ الْمَجُوسُ خَالِقَيْنِ خَالِقًا لِلْخَيْرِ هُوَ عِنْدَهُمُ النُّورُ وَخَالِقًا لِلشَّرِّ هُوَ عِنْدَهُمُ الظَّلامُ) وَأَمَّا الْمُرْجِئَةُ فَكَانُوا يَقُولُونَ لا يَضُرُّ مَعَ الإِيمَانِ ذَنْبٌ فَمَهْمَا عَمِلَ الْمُؤْمِنُ مِنَ الذُّنُوبِ وَمَاتَ بِلا تَوْبَةٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ عَذَابٌ. وَسُمِّىَ الْقَدَرِيَّةُ بِهَذَا الِاسْمِ لِنَفْيِهِمُ الْقَدَرَ وَسُمِّىَ الْمُرْجِئَةُ مُرْجِئَةً لِأَنَّهُمْ قَالُوا بِإِرْجَاءِ الْعَذَابِ عَنِ الْمُؤْمِنِ أَىْ بِتَأْخِيرِهِ وَنَفْيِهِ عَنْهُ عَلَى الإِطْلاقِ.

وَجَمَعَ الْمُعْتَزِلَةُ إِلَى ضَلالَةِ الْقَدَرِيَّةِ الْقُدَمَاءِ بِنَفْىِ مَشِيئَةِ اللَّهِ وَتَخْلِيقِهِ لِلشَّرِّ إِلَى ضَلالاتٍ أُخْرَى شَذُّوا بِهَا عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْهَا مَا يَصِلُ إِلَى دَرَجَةِ الْكُفْرِ وَمِنْهَا مَا لا يَصِلُ إِلَى ذَلِكَ لَكِنَّهُ بِدْعَةٌ فِى الِاعْتِقَادِ يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهَا عَذَابَ النَّارِ.

وَلْيُعْلَمْ أَنَّ الصَّوَابَ الَّذِى لا يَصِحُّ غَيْرُهُ تَكْفِيرُ الْقَدَرِيَّةِ بِبِدْعَتِهِمْ وَذَلِكَ لِنَصِّ الْقُرْءَانِ عَلَيْهِ وَلِمَا صَحَّ مِنْ نُصُوصٍ حَدِيثِيَّةٍ فِيهِ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا وَلِقِيَامِ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَلَى تَكْفِيرِهِمْ وَمَعَ الصَّحَابَةِ أَئِمَّةُ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ كَالإِمَامِ أَبِى حَنِيفَةَ وَالإِمَامِ مَالِكٍ وَالإِمَامِ الشَّافِعِىِّ وَالإِمَامِ أَحْمَدَ وَالإِمَامِ الأَوْزَاعِىِّ وَالسُّفْيَانَيْنِ وَإِمَامِ أَهْلِ الْبَيْتِ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ وَغَيْرِهِمْ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَتَبِعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَئِمَّةُ تَبَعِ الأَتْبَاعِ وَالْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَأَكَابِرُ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ جَاءُوا بَعْدَهُمْ إِلَى أَيَّامِنَا. وَأَمَّا مَا زَعَمَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ تَصْحِيحِ عَدَمِ تَكْفِيرِهِمْ فَهُوَ قَوْلٌ سَاقِطٌ لا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ إِذْ كَيْفَ يَصِحُّ قَوْلٌ فِى مُقَابِلِ الْقُرْءَانِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بَلْ كُلُّ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ مَرْدُودٌ يُطْرَحُ فِى كُلِّ سَهْلٍ وَحَزْنٍ.

(وَ)إِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَلْيُعْلَمْ أَنَّ (الْهِدَايَةَ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا إِبَانَةُ الْحَقِّ وَالدُّعَاءُ إِلَيْهِ) أَىِ الأَمْرُ بِهِ (وَنَصْبُ الأَدِلَّةِ عَلَيْهِ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَصِحُّ إِضَافَةُ الْهِدَايَةِ إِلَى الرُّسُلِ وَإِلَى كُلِّ دَاعٍ لِلَّهِ) تَعَالَى (كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فِى سُورَةِ الشُّورَى (﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾) أَىْ إِنَّكَ يَا مُحَمَّدُ تَدُلُّ عَلَى الطَّرِيقِ الْقَوِيمِ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّكَ تَخْلُقُ الِاهْتِدَاءَ فِى قُلُوبِ النَّاسِ كَمَا قَالَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ فِى سُورَةِ الْقَصَصِ ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ أَىْ لا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَخْلُقَ الِاهْتِدَاءَ فِى قَلْبِ مَنْ أَحْبَبْتَ اهْتِدَاءَهُ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ أَىْ لَكِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِى يَخْلُقُ الِاهْتِدَاءَ فِى قَلْبِ مَنْ شَاءَ لَهُ الِاهْتِدَاءَ فِى الأَزَلِ. (وَ)جَاءَتِ الْهِدَايَةُ أَيْضًا عَلَى مَعْنَى تَبْيِينِ الْحَقِّ وَالدِّلالَةِ عَلَيْهِ فِى (قَوْلِهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ فُصِّلَتْ (﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾) أَىْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى لِثَمُودَ طَرِيقَ الْهُدَى وَأَرْسَلَ فِيهِمْ نَبِىَّ اللَّهِ صَالِحًا فَكَذَّبُوهُ وَاخْتَارُوا الضَّلالَ وَلَمْ يَقْبَلُوا الإِيمَانَ فَأَمَرَ اللَّهُ سَيِّدَنَا جِبْرِيلَ فَصَاحَ بِهِمْ فَهَلَكُوا (وَالثَّانِى) مِنْ مَعَانِى الْهِدَايَةِ مَا يَكُونُ (مِنْ جِهَةِ هِدَايَةِ اللَّهِ لِعِبَادِهِ) عَلَى مَعْنَى إِيجَادِ (أَىْ خَلْقِ الِاهْتِدَاءِ فِى قُلُوبِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الأَنْعَامِ (﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ﴾) أَىْ أَنْ يَجْعَلَهُ مُهْتَدِيًا (﴿يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ﴾) وَيُزَيِّنْهُ لَهُ (﴿وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا﴾ وَالإِضْلالُ) هُوَ (خَلْقُ الضَّلالِ فِى قُلُوبِ أَهْلِ الضَّلالِ) فَمَنْ شَاءَ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الإِيمَانِ فَيَضِيقُ صَدْرُهُ عَنْهُ وَيَنْفُرُ قَلْبُهُ عَنْ قَبُولِهِ (فَالْعِبَادُ) مَخْلُوقُونَ مُحْتَاجُونَ مَقْهُورُونَ فِى قَبْضَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَحْتَ سُلْطَانِهِ (مَشِيئَتُهُمْ تَابِعَةٌ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ) لا غَالِبَةٌ لَهَا (قَالَ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الإِنْسَانِ وَغَيْرِهَا (﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ وَهَذِهِ الآيَةُ مِنْ أَوْضَحِ الأَدِلَّةِ عَلَى ضَلالِ) الْقَدَرِيَّةِ وَمِنْهُمْ (جَمَاعَةُ أَمِين شَيْخُو لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنْ شَاءَ الْعَبْدُ الْهِدَايَةَ يَهْدِيهِ اللَّهُ وَإِنْ شَاءَ الْعَبْدُ الضَّلالَ يُضِلُّهُ اللَّهُ فَمَاذَا يَقُولُونَ فِى هَذِهِ الآيَةِ) الَّتِى تَقَدَّمَتْ (﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ﴾ فَإِنَّهَا صَرِيحَةٌ فِى سَبْقِ مَشِيئَةِ اللَّهِ عَلَى مَشِيئَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّ اللَّهَ) تَعَالَى (نَسَبَ الْمَشِيئَةَ إِلَيْهِ وَمَا رَدَّهَا إِلَى الْعِبَادِ فَأُولَئِكَ كَأَنَّهُمْ قَالُوا مَنْ يُرِدِ الْعَبْدُ أَنْ يَشْرَحَ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ يَشْرَحُ اللَّهُ صَدْرَهُ) فَجَعَلُوا مَشِيئَةَ الْعَبْدِ سَابِقَةً عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ أَىْ غَالِبَةً لَهَا (ثُمَّ قَوْلُهُ) تَعَالَى (﴿وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ﴾) يَشْهَدُ لِمَا نَقُولُ (فَلا يُمْكِنُ أَنْ يَرْجِعَ الضَّمِيرُ فِى يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ إِلَى الْعَبْدِ لِأَنَّ هَذَا يَجْعَلُ الْقُرْءَانَ رَكِيكًا ضَعِيفَ الْعِبَارَةِ وَالْقُرْءَانُ) فِى (أَعْلَى) دَرَجَاتِ (الْبَلاغَةِ لا يُوجَدُ فَوْقَهُ بَلاغَةٌ فَبَانَ بِذَلِكَ جَهْلُهُمُ الْعَمِيقُ وَغَبَاوَتُهُمْ) أَىْ بَلادَةُ ذِهْنِهِمْ (الشَّدِيدَةُ وَ)كَمَا قَدَّمْنَا (عَلَى مُوجَبِ كَلامِهِمْ يَكُونُ مَعْنَى الآيَةِ ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ﴾ أَنَّ الْعَبْدَ الَّذِى يُرِيدُ أَنْ يَهْدِيَهُ اللَّهُ يَشْرَحُ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْهُدَى وَهَذَا عَكْسُ اللَّفْظِ الَّذِى أَنْزَلَهُ اللَّهُ وَهَكَذَا كَانَ اللَّازِمُ عَلَى مُوجَبِ اعْتِقَادِهِمْ أَنْ يَقُولَ اللَّهُ وَالْعَبْدُ الَّذِى يُرِيدُ أَنْ يُضِلَّهُ اللَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا وَ)حَمْلُ الآيَةِ عَلَى (هَذَا) الْمَعْنَى (تَحْرِيفٌ لِلْقُرْءَانِ لإِخْرَاجِهِ) بِذَلِكَ (عَنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِى نَزَلَ بِهَا الْقُرْءَانُ وَفَهِمَ الصَّحَابَةُ الْقُرْءَانَ عَلَى مُوجَبِهَا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمْ) أَىِ الصَّحَابَةَ (يَفْهَمُونَ الْقُرْءَانَ عَلَى خِلافِ مَا تَفْهَمُهُ هَذِهِ الْفِرْقَةُ) الْمُحَرِّفَةُ (اتِّفَاقُ الْمُسْلِمِينَ سَلَفِهِمْ وَخَلَفِهِمْ عَلَى قَوْلِهِمْ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ) يَقُولُهَا الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ مِنْهُمْ بِلا نَكِيرٍ وَلا دَفْعٍ مِنْ أَحَدٍ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ.


(تَقْدِيرُ اللَّهِ لا يَتَغَيَّرُ)


(اعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيرَ اللَّهِ تَعَالَى الأَزَلِىَّ) لِمَا يَحْدُثُ فِى هَذَا الْعَالَمِ (لا يُغَيِّرُهُ شَىْءٌ لا دَعْوَةُ دَاعٍ وَلا صَدَقَةُ مُتَصَدِّقٍ وَلا صَلاةُ مُصَلٍّ وَلا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْحَسَنَاتِ بَلْ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْخَلْقُ عَلَى مَا قَدَّرَ) اللَّهُ (لَهُمْ فِى الأَزَلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَغَيَّرَ ذَلِكَ) وَلا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَقِدَ الإِنْسَانُ أَنَّهُ إِنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ أَوْ وَصَلَ رَحِمَهُ أَوْ دَعَا دُعَاءً يُغَيِّرُ اللَّهُ مَشِيئَتَهُ فَلا يَبْتَلِيهِ بِمُصِيبَةٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ أَرَادَ أَنْ تُصِيبَهُ لِأَنَّ فِى ذَلِكَ نِسْبَةَ تَغَيُّرِ الْمَشِيئَةِ إِلَى اللَّهِ وَالتَّغَيُّرُ صِفَةُ الْمَخْلُوقِ لا صِفَةُ الْخَالِقِ وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَا مُحَمَّدُ إِنِّى إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لا يُرَدُّ اﻫ وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ فِى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ ق ﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ﴾ (وَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الرَّعْدِ (﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَحْوَ وَالإِثْبَاتَ فِى تَقْدِيرِ اللَّهِ) أَىْ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَالَى تَتَغَيَّرُ (بَلِ الْمَعْنَى فِى هَذَا أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ كَتَبَ مَا يُصِيبُ الْعَبْدَ مِنْ عِبَادِهِ مِنَ الْبَلاءِ وَالْحِرْمَانِ وَالْمَوْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ) إِنْ لَمْ يَدْعُ رَبَّهُ أَوْ لَمْ يَصِلْ رَحِمَهُ (وَ)كَتَبَ (أَنَّهُ إِنْ دَعَا اللَّهَ تَعَالَى أَوْ أَطَاعَهُ فِى صِلَةِ الرَّحِمِ وَغَيْرِهَا لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ الْبَلاءُ وَرَزَقَهُ كَثِيرًا أَوْ عَمَّرَهُ طَوِيلًا) وَهَذَا الَّذِى يُقَالُ لَهُ الْقَضَاءُ الْمُعَلَّقُ أَىْ مَا كُتِبَ أَنَّهُ يَحْصُلُ إِنْ حَصَلَ شَىْءٌ مُعَيَّنٌ غَيْرُهُ وَلا يَحْصُلُ إِنْ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ الْغَيْرُ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ بِعِلْمِهِ الأَزَلِىِّ أَىَّ الأَمْرَيْنِ يَحْصُلُ وَشَاءَ بِمَشِيئَتِهِ الأَزَلِيَّةِ حُصُولَهُ (وَكَتَبَ فِى أُمِّ الْكِتَابِ) أَىْ فِى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ (مَا هُوَ كَائِنٌ) أَىْ مَا يَحْصُلُ (مِنَ الأَمْرَيْنِ فَالْمَحْوُ وَالإِثْبَاتُ) الْمَذْكُورُ فِى الآيَةِ (رَاجِعٌ إِلَى أَحَدِ الْكِتَابَيْنِ) أَىْ إِلَى الْكِتَابِ الَّذِى كُتِبَ فِيهِ الْقَضَاءُ الْمُعَلَّقُ لا إِلَى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ (كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا (فَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِىُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا (فِى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ قَالَ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنْ أَحَدِ الْكِتَابَيْنِ هُمَا كِتَابَانِ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ اﻫ وَالْمَحْوُ يَكُونُ فِى غَيْرِ الشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ فَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِىُّ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ فِى تَفْسِيرِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الدُّخَانِ (﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ يُفْرَقُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ مَا يَكُونُ فِى السَّنَةِ مِنْ رِزْقٍ أَوْ مُصِيبَةٍ) أَىْ يُعْلِمُ اللَّهُ فِى هَذِهِ اللَّيْلَةِ الْمُبَارَكَةِ الْمَلائِكَةَ بِمَا يَحْصُلُ لِلْعِبَادِ فِى السَّنَةِ الْقَادِمَةِ مَنْ يُوَسَّعُ عَلَيْهِ فِى الرِّزْقِ وَمَنْ يُضَيَّقُ عَلَيْهِ فِيهِ وَمَنْ يَصِيرُ فِى حَالِ خَوْفٍ وَمَنْ يَكُونُ فِى حَالِ أَمْنٍ وَبِغَيْرِ ذَلِكَ قَالَ (فَأَمَّا كِتَابُ الشَّقَاءِ وَالسَّعَادَةِ فَإِنَّهُ ثَابِتٌ لا يُغَيَّرُ اﻫ) وَأَقْوَى مِنْ ذَلِكَ إِسْنَادًا مَا رُوِىَ فِى تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهَا جَاءَتْ فِى النَّسْخِ أَىْ أَنَّ مَعْنَاهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَنْسَخُ مَا يَشَاءُ مِنَ الْقُرْءَانِ وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ فَلا يَنْسَخُهُ اﻫ وَعَلَى هَذَا حَمَلَهَا الإِمَامُ الشَّافِعِىُّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (فَلِذَلِكَ لا يَصِحُّ) أَنْ يُقَالَ يَا رَبِّ إِنْ كُنْتَ قَدَّرْتَ عَلَىَّ الشَّقَاءَ طُولَ عُمْرِى أَوِ الْفَقْرَ طُولَ عُمْرِى فَغَيِّرْ مَشِيئَتَكَ وَتَقْدِيرَكَ لِأَنَّكَ قُلْتَ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَلَمْ يَثْبُتْ (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّعَاءُ الَّذِى فِيهِ إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِى فِى أُمِّ الْكِتَابِ عِنْدَكَ شَقِيًّا فَامْحُ عَنِّى اسْمَ الشَّقَاءِ وَأَثْبِتْنِى عِنْدَكَ سَعِيدًا وَإِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِى فِى أُمِّ الْكِتَابِ مَحْرُومًا مُقَتَّرًا عَلَىَّ رِزْقِى فَامْحُ عَنِّى حِرْمَانِى وَتَقْتِيرَ رِزْقِى وَأَثْبِتْنِى عِنْدَكَ سَعِيدًا مُوَفَّقًا لِلْخَيْرِ فَإِنَّكَ تَقُولُ فِى كِتَابِكَ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) اﻫ (وَلا) ثَبَتَ (مَا أَشْبَهَهُ وَلَمْ يَصِحَّ هَذَا الدُّعَاءُ أَيْضًا عَنْ) سَيِّدِنَا (عُمَرَ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (وَلا عَنْ مُجَاهِدٍ وَلا غَيْرِهِمَا مِنَ السَّلَفِ كَمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ الْقَدَرِ لِلْبَيْهَقِىِّ).

(وَلْيُعْلَمْ) يَقِينًا (أَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ) تَعَالَى (وَتَقْدِيرَهُ لا يَتَغَيَّرَانِ لِأَنَّ التَّغَيُّرَ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ) إِذْ هُوَ عَلامَةُ الْحُدُوثِ وَالِاحْتِيَاجِ فَلا يَجُوزُ نِسْبَتُهُ إِلَى الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. (وَأَمَّا حَدِيثُ) ابْنِ مَاجَه (لا يَرُدُّ الْقَدَرَ شَىْءٌ إِلَّا الدُّعَاءُ فَهَذَا) لا يُرَادُ بِهِ أَنَّ تَقْدِيرَ اللَّهِ الأَزَلِىَّ وَمَشِيئَتَهُ الأَزَلِيَّةَ يَتَغَيَّرَانِ بِالدُّعَاءِ بَلْ هَذَا (رَاجِعٌ إِلَى الْقَدَرِ الْمُعَلَّقِ لَيْسَ إِلَى الْقَدَرِ الْمُبْرَمِ) وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ.




(تَقْسِيمُ الأُمُورِ إِلَى أَرْبَعَةٍ)


مِمَّا يُنَاسِبُ مَا تَقَدَّمَ وَيَزِيدُ فِى إِيضَاحِهِ أَنْ يُقَالَ (الأُمُورُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ) الْقِسْمُ (الأَوَّلُ شَىْءٌ شَاءَهُ اللَّهُ) أَىْ شَاءَ حُصُولَهُ (وَأَمَرَ بِهِ) أَىْ أَمَرَ بِفِعْلِهِ (وَهُوَ إِيمَانُ الْمُؤْمِنِينَ وَطَاعَةُ الطَّائِعِينَ وَ)الْقِسْمُ (الثَّانِى شَىْءٌ شَاءَهُ اللَّهُ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ وَهُوَ عِصْيَانُ الْعُصَاةِ وَكُفْرُ الْكَافِرِينَ) وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الأُمُورِ الَّتِى تَحْصُلُ فِى هَذَا الْعَالَمِ مِمَّا لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ الْعِبَادَ بِفِعْلِهَا لا وُجُوبًا وَلا اسْتِحْبَابًا (إِلَّا أَنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكُفْرَ مَعَ أَنَّهُ خَلَقَهُ بِمَشِيئَتِهِ وَلا يَرْضَاهُ لِعِبَادِهِ) كَمَا (قَالَ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الزُّمَرِ (﴿وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ﴾) وَمِثْلُ الْكُفْرِ سَائِرُ الْمَعَاصِى وَالْمَكْرُوهَاتُ لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ بِهَا وَلا يُحِبُّهَا(وَ)الْقِسْمُ (الثَّالِثُ أَمْرٌ لَمْ يَشَأْهُ اللَّهُ وَأَمَرَ بِهِ وَهُوَ الإِيمَاُن بِالنِّسْبَةِ لِلْكَافِرِينَ الَّذِينَ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ يَمُوتُونَ عَلَى الْكُفْرِ أُمِرُوا بِالإِيمَانِ وَ)لَكِنْ (لَمْ يَشَأْهُ لَهُمْ) فَلَمْ يُؤْمِنُوا وَمِثْلُ ذَلِكَ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ أَمَرَ اللَّهُ بِهَا عِبَادًا مِنْ عِبَادِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ لا يَفْعَلُونَهَا وَكَوْنِهِ لَمْ يَشَأْ لَهُمْ فِعْلَهَا كَالتَّوْبَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْعُصَاةِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ مُقِيمُونَ عَلَى مَعَاصِيهِمْ (وَ)الْقِسْمُ (الرَّابِعُ أَمْرٌ لَمْ يَشَأْهُ) اللَّهُ (وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ وَهُوَ الْكُفْرُ بِالنِّسْبَةِ لِلأَنْبِيَاءِ وَالْمَلائِكَةِ) نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهُ وَعَلِمَ أَنَّهُمْ لا يَأْتُونَهُ وَشَاءَ أَلَّا يَقَعُوا فِيهِ فَلَمْ يَحْصُلْ مِنْهُمْ وَمِثْلُ ذَلِكَ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ مِنْ مُحَرَّمَاتٍ وَمَكْرُوهَاتٍ وَمُبَاحَاتٍ لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ بِهَا وَعَلِمَ أَنَّهَا لا تَحْصُلُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْعِبَادِ فَلَمْ يَشَأْ حُصُولَهَا مِنْهُمْ فَاجْتَنَبُوهَا وَلَمْ يَفْعَلُوهَا. فَلَيْسَ الأَمْرُ وَالْمَشِيئَةُ مُتَلازِمَيْنِ كَمَا زَعَمَ الْمُعْتَزِلَةُ أَنَّ كُلَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَقَدْ شَاءَ حُصُولَهُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ سَيِّدَنَا إِبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ وَلَدِهِ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلامُ وَلَمْ يَشَأْ حُصُولَ الذَّبْحِ بَلْ شَاءَ فِدَاءَ إِسْمَاعِيلَ بِكَبْشٍ مِنَ الْجَنَّةِ.

وَلَيْسَ النَّهْىُ عَمَّا شَاءَ حُصُولَهُ مُنَافِيًا لِلْحِكْمَةِ فَلا يُقَالُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا أَنَّ اللَّهَ شَاءَ حُصُولَ الْكُفْرِ مِنَ الْعِبَادِ لَمَا نَهَى عَنْهُ كَمَا زَعَمَ الْمُعْتَزِلَةُ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُوَافِقُونَنَا فِى أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ وُقُوعَهُمْ فِى الْكُفْرِ وَمَعَ ذَلِكَ نَهَاهُمْ عَنْهُ فَكَمَا أَنَّ نَهْيَهُمْ عَمَّا عَلِمَ حُصُولَهُ لا يُنَافِى الْحِكْمَةَ فَكَذَلِكَ نَهْيُهُمْ عَمَّا شَاءَ حُصُولَهُ لا يُنَافِى الْحِكْمَةَ وَقَرَّبَ أَهْلُ الْعِلْمِ ذَلِكَ إِلَى الأَفْهَامِ بِأَمْثِلَةٍ ذَكَرُوهَا مِنْهَا أَنَّ رَجُلًا أَرَادَ أَنْ يُظْهِرَ لِصَدِيقِهِ أَنَّ عَبْدَهُ لا يُطِيعُهُ فِى مَا يَأْمُرُهُ بِهِ فَأَمَرَ الْعَبْدَ بِفِعْلِ شَىْءٍ مَعَ عَدَمِ إِرَادَةِ السَّيِّدِ أَنْ يُنَفِّذَ الْعَبْدُ الأَمْرَ فَظَهَرَ جَلِيًّا أَنَّهُ لا تَلازُمَ بَيْنَ الأَمْرِ وَالْمَشِيئَةِ.

وَلَيْسَ عِقَابُ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعُصَاةِ الَّذِينَ فَعَلُوا الْمَعَاصِىَ بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى وَتَخْلِيقِهِ ظُلْمًا مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ لِأَنَّهُ إِنَّمَا عَاقَبَهُمْ عَلَى فِعْلِهِمْ لَهَا بِإِرَادَتِهِمُ الَّتِى وَإِنْ كَانَتْ مَخْلُوقَةً لِلَّهِ فَقَدْ قَامَتْ بِهِمْ فَكَانُوا فِى أَفْعَالِهِمْ مُخْتَارِينَ وَلِأَنَّ الرَّبَّ يَفْعَلُ فِى مِلْكِهِ مَا يُرِيدُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ دَفْعُ ضَرَرٍ عَنِ الْعَبْدِ وَلا فِعْلُ مَا هُوَ الأَصْلَحُ لَهُ (وَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِالْقُرْءَانِ الْكَرِيمِ فَلَيَقِفْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الأَنْبِيَاءِ (﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ فَلا يُقَالُ) لِلِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ (كَيْفَ يُعَذِّبُ الْعُصَاةَ عَلَى مَعَاصِيهِمُ الَّتِى شَاءَ وُقُوعَهَا مِنْهُمْ فِى الآخِرَةِ) فَإِنَّ الِاعْتِرَاضَ عَلَى اللَّهِ كُفْرٌ بَلْ هُوَ أَوَّلُ كُفْرٍ كَفَرَهُ إِبْلِيسُ فَإِنَّهُ اعْتَرَضَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى حِينَ أَمَرَهُ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ وَقَالَ خَلَقْتَنِى مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ أَىْ فَأَنَا أَفْضَلُ مِنْهُ بِزَعْمِهِ فَكَيْفَ تَأْمُرُنِى أَنْ أَسْجُدَ لَهُ وَأَمَّا إِذَا أَرَادَ شَخْصٌ الِاسْتِفْهَامَ عَنِ الْحِكْمَةِ وَلَمْ يَقْصِدِ الِاعْتِرَاضَ فَقَالَ لِمَاذَا شَاءَ اللَّهُ كُفْرَ الْكَافِرِينَ وَقَدْ كَتَبَ عَلَيْهِمْ دُخُولَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِى الْعَقِيدَةِ وَلا إِثْمَ.


(تَوْحِيدُ اللَّهِ فِى الْفِعْلِ)


التَّوْحِيدُ الَّذِى أَمَرَنَا اللَّهُ بِهِ هُوَ اعْتِقَادُ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ فِى ذَاتِهِ وَفِى صِفَاتِهِ وَفِى فِعْلِهِ فَمَعْنَى كَوْنِ اللَّهِ وَاحِدًا فِى ذَاتِهِ أَنَّ ذَاتَهُ لَيْسَ مُرَكَّبًا وَلا يَقْبَلُ الِانْقِسَامَ لِأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْحَجْمِ وَالْحَدِّ وَمَعْنَى كَوْنِ اللَّهِ وَاحِدًا فِى صِفَاتِهِ أَنَّ صِفَاتِهِ تَعَالَى لا تُشْبِهُ صِفَاتِ غَيْرِهِ وَمَعْنَى كَوْنِهِ تَعَالَى وَاحِدًا فِى فِعْلِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ الَّذِى يُبْرِزُ الأَشْيَاءَ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِى ذَلِكَ أَحَدٌ فَلا فَاعِلَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إِلَّا اللَّهُ وَهُوَ مَعْنَى مَا قَالَهُ الإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الأَشْعَرِىُّ إِنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ التَّفَرُّدُ النَّافِى لِلِاشْتِرَاكِ وَالِازْدِوَاجِ فِى الذَّاتِ وَالْفِعْلِ وَالصِّفَةِ لِأَنَّهُ فِى ذَاتِهِ غَيْرُ مُنْقَسِمٍ وَفِى نَعْتِهِ لا مِثْلَ لَهُ وَفِى تَدْبِيرِهِ لا شَرِيكَ لَهُ فَهُوَ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الأَوْجُهِ اﻫ فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَالِقُ الأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ (رُوِىَ عَنِ الْجُنَيْدِ) الْبَغْدَادِىِّ (إِمَامِ الصُّوفِيَّةِ الْعَارِفِينَ عِنْدَمَا سُئِلَ عَنِ التَّوْحِيدِ أَنَّهُ قَالَ الْيَقِينُ ثُمَّ اسْتُفْسِرَ عَنْ مَعْنَاهُ فَقَالَ إِنَّهُ لا مُكَوِّنَ لِشَىْءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ مِنَ الأَعْيَانِ وَالأَعْمَالِ خَالِقٌ لَهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى اﻫ قَالَ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الصَّافَّاتِ (﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ﴾) أَىْ خَلَقَ ذَواتِكُمْ (﴿وَمَا تَعْمَلُونَ﴾) أَىْ أَعْمَالَكُمْ فَمَا مَصْدَرِيَّةٌ مُؤَوَّلَةٌ هِىَ وَمَا بَعْدَهَا بِالْمَصْدَرِ وَالْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ شَىْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ سَوَاءٌ كَانَ ذَاتًا أَمْ صِفَةً لَمْ يَخْلُقْهُ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى كَمَا قَالَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ﴾ (وَ)كَـمَا (قَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ صَانِعُ) أَىْ خَالِقُ (كُلِّ صَانِعٍ وَصَنْعَتِهِ) اﻫ أَىْ وَعَمَلِهِ (رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِىُّ وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (إِذِ الْعِبَادُ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَإِنَّمَا يَكْتَسِبُونَهَا) اكْتِسَابًا وَلَيْسَ الْخَلْقُ لِغَيْرِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى (فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الرَّعْدِ (﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ﴾ تَمَدَّحَ تَعَالَى بِذَلِكَ) فَدَلَّ أَنَّهُ لا يُوجَدُ شَىْءٌ بِغَيْرِ تَخْلِيقِهِ (لِأَنَّهُ شَىْءٌ يَخْتَصُّ بِهِ) إِذْ لَوْ كَانَ لَهُ فِيهِ شَرِيكٌ لَمْ يَكُنْ فِى ذَلِكَ تَمَدُّحٌ لَهُ (وَذَلِكَ يَقْتَضِى الْعُمُومَ وَالشُّمُولَ لِلأَعْيَانِ وَالأَعْمَالِ وَالْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ) لِأَنَّ الأَفْعَالَ أَشْيَاءُ كَالأَعْيَانِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ خَالِقَهَا فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ لِلَّهِ لَكَانَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ خَالِقًا لِقِسْمٍ مِنَ الأَشْيَاءِ دُونَ جَمِيعِهَا وَلَكَانَ قَوْلُهُ ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ﴾ كَذِبًا تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا (وَ)قَدْ (قَالَ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الأَنْعَامِ (﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ سَاقَ اللَّهُ الصَّلاةَ وَالنُّسُكَ وَالْمَحْيَا وَالْمَمَاتَ فِى مَسَاقٍ وَاحِدٍ وَجَعَلَهَا مِلْكًا لَهُ) وَالصَّلاةُ وَالنُّسُكُ إِشَارَةٌ إِلَى الأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَالْمَحْيَا وَالْمَمَاتُ إِشَارَةٌ إِلَى الصِّفَاتِ غَيْرِ الِاخْتِيَارِيَّةِ (فَكَمَا أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ كَذَلِكَ اللَّهُ خَالِقٌ لِلأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ كَالصَّلاةِ وَالنُّسُكِ وَ)خَالِقُ (الْحَرَكَاتِ الِاضْطِرَارِيَّةِ مِنْ بَابِ الأَوْلَى) دَلَّنَا الْقُرْءَانُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى دِلالَةً وَاضِحَةً وَبَيَّنَ لَنَا أَنَّ هَذَا مَا يَجِبُ عَلَيْنَا الإِيمَانُ بِهِ (وَإِنَّمَا تَمْتَازُ الأَعْمَالُ الِاخْتِيَارِيَّةُ أَىِ الَّتِى لَنَا فِيهَا مَيْلٌ بِكَوْنِهَا مُكْتَسَبَةً لَنَا فَهِىَ مَحَلُّ التَّكْلِيفِ) أَىْ مَا يُحَاسَبُ الْعَبْدُ عَلَى فِعْلِهِ وَأَمَّا غَيْرُ الِاخْتِيَارِيَّةِ فَلَيْسَتْ مُكْتَسَبَةً لَنَا. (وَالْكَسْبُ الَّذِى هُوَ فِعْلُ الْعَبْدِ وَعَلَيْهِ يُثَابُ أَوْ يُؤَاخَذُ فِى الآخِرَةِ هُوَ تَوْجِيهُ الْعَبْدِ قَصْدَهُ وَإِرَادَتَهُ نَحْوَ الْعَمَلِ أَىْ) أَنْ (يَصْرِفَ إِلَيْهِ قُدْرَتَهُ فَيَخْلُقَهُ اللَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ) وَلِأَجْلِهِ أُضِيفَتِ الأَفْعَالُ الِاخْتِيَارِيَّةُ إِلَى الْعَبْدِ وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ أُثِيبَ الْعَبْدُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهَا خَيْرًا وَاسْتَحَقَّ الْعِقَابَ عَلَى مَا كَانَ مِنْهَا ذَنْبًا (فَالْعَبْدُ كَاسِبٌ لِعَمَلِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى خَالِقٌ لِعَمَلِ هَذَا الْعَبْدِ الَّذِى هُوَ كَسْبٌ لَهُ وَهُوَ مِنْ أَغْمَضِ الْمَسَائِلِ فِى هَذَا الْعِلْمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الْبَقَرَةِ (﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾) أَىْ تَنْتَفِعُ بِمَا عَمِلَتْ مِنَ الْخَيْرِ بِمَشِيئَتِهَا وَقُدْرَتِهَا الْحَادِثَتَيْنِ بِإِحْدَاثِ اللَّهِ لَهُمَا (﴿وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾) أَىْ عَلَيْهَا وَبَالُ مَا عَمِلَتْ مِنَ الْمَعَاصِى بِمَشِيئَتِهَا وَقُدْرَتِهَا الْحَادِثَتَيْنِ فَتَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ بِذَلِكَ (فَلَيْسَ الإِنْسَانُ مَجْبُورًا) خَالِيًا عَنِ الإِرَادَةِ (لِأَنَّ الْجَبْرَ يُنَافِى التَّكْلِيفَ) وَالشَّرْعُ قَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ الإِنْسَانَ مُكَلَّفٌ.

(وَهَذَا) أَىْ أَنَّ الإِنْسَانَ مُخْتَارٌ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ لَهُ اخْتِيَارٌ تَابِعٌ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ لا هُوَ مُخْتَارٌ اسْتِقْلالًا عَنْ مَشِيئَةِ اللَّهِ وَلا هُوَ مُجَرَّدٌ مِنَ الِاخْتِيَارِ هَذَا (هُوَ الْمَذْهَبُ الْحَقُّ وَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ أَىْ) خَارِجٌ عَنْ (مَذْهَبِ الْجَبْرِيَّةِ) فَلَيْسَ فِيهِ نَفْىُ تَكْلِيفِ الْعَبْدِ (وَ)خَارِجٌ عَنْ مَذْهَبِ (الْقَدَرِيَّةِ) فَلَيْسَ فِيهِ نِسْبَةُ الْعَجْزِ إِلَى اللَّهِ.

(وَيَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ أَعْمَالَهُ كَالْمُعْتَزِلَةِ) لِأَنَّهُ كَذَّبَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الرَّعْدِ ﴿قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ﴾ وَغَيْرِهِ مِنَ الآىِ (كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ كَلامُ الْقَدَرِيَّةِ كُفْرٌ) اﻫ (وَالْقَدَرِيَّةُ هُمُ الْمُعْتَزِلَةُ) الْقَائِلُونَ بِأَنَّ مَشِيئَةَ الْعَبْدِ تَنْفُذُ وَلا تَنْفُذُ مَشِيئَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ الْعَبْدَ هُوَ الَّذِى يَخْلُقُ فِعْلَهُ وَلَيْسَ اللَّهُ هُوَ الْخَالِقَ وَلِذَا (قَالَ أَبُو يُوسُفَ) يَعْقُوبُ بنُ إِبْرَاهِيمَ الأَنْصَارِىُّ أَكْبَرُ أَصْحَابِ الإِمَامِ أَبِى حَنِيفَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا (الْمُعْتَزِلَةُ زَنَادِقَةٌ) اﻫ كَيْفَ لا وَقَدْ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهُمُ الْقُدْرَةَ عَلَيْهَا فَلَمَّا أَعْطَاهُمُ الْقُدْرَةَ عَلَيْهَا صَارَ عَاجِزًا عَنْهَا اﻫ وَكَيْفَ وَقَدْ جَعَلُوا مَعَ اللَّهِ خَالِقِينَ كَثِيرِينَ يُشَارِكُونَهُ فِى صِفَةِ الْخَالِقِيَّةِ (وَ)لِذَلِكَ (وَصَفَهُمُ) الإِمَامُ (أَبُو مَنْصُورٍ) عَبْدُ الْقَاهِرِ بنُ طَاهِرٍ (التَّمِيمِىُّ) الْبَغْدَادِىُّ (فِى كِتَابِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفِرَقِ بِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ) اﻫ (وَأَبُو مَنْصُورٍ هُوَ الَّذِى قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِىُّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ وَقَالَ الإِمَامُ الْكَبِيرُ إِمَامُ أَصْحَابِنَا) يَعْنِى الشَّافِعِيَّةَ وَالأَشْعَرِيَّةَ (أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِىُّ) اﻫ (وَهُوَ مِمَّنْ كَتَبَ عَنْهُمُ الْبَيْهَقِىُّ فِى الْحَدِيثِ. وَلا تَغْتَرَّ بِعَدَمِ تَكْفِيرِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ لَهُمْ) فَإِنَّهُ مُعَاكِسٌ لِكَلامِ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ (فَقَدْ) ثَبَتَ عَنِ الإِمَامِ الشَّافِعِىِّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَرَّحَ بِتَكْفِيرِ بَعْضِ رُءُوسِ الْمُعْتَزِلَةِ أَعْنِى حَفْصًا الْمُنْفَرِدَ وَقَالَ لَهُ لَقَدْ كَفَرْتَ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ اﻫ رَوَاهُ الْبَيْهَقِىُّ وَثَبَتَ عَنِ الإِمَامِ أَبِى حَنِيفَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ تَكْفِيرُهُمْ كَمَا فِى الْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ وَغَيْرِهَا مِنْ رَسَائِلِهِ وَنَقَلَهُ عَنْهُ الْمَاتُرِيدِىُّ وَالطَّحَاوِىُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَسَاطِينِ مَذْهَبِهِ. وَثَبَتَ عَنِ الإِمَامِ مَالِكٍ تَكْفِيرُهُمْ أَيْضًا كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِىُّ وَغَيْرُهُ وَنَقَلَهُ عَنْهُ أَبُو بَكْرِ بنُ الْعَرَبِىِّ وَءَاخَرُونَ مِنْ أَسَاطِينِ الْمَالِكِيَّةِ. وَكَفَّرَهُمُ الإِمَامُ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ كَمَا رَوَاهُ عَنْهُ وَلَدُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَالإِمَامُ الْبَيْهَقِىُّ وَنَقَلَهُ عَنْهُ أَبُو الْفَضْلِ التَّمِيمِىُّ وَالْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِىِّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَكَابِرِ الْحَنَابِلَةِ بَلْ (نَقَلَ الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ التَّمِيمِىُّ الْبَغْدَادِىُّ فِى كِتَابِهِ أُصُولُ الدِّينِ وَكَذَلِكَ فِى كِتَابِهِ تَفْسِيرُ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ تَكْفِيرَهُمْ عَنِ الأَئِمَّةِ. وَ)مِمَّا (قَالَ الإِمَامُ الْبَغْدَادِىُّ فِى كِتَابِهِ تَفْسِيرُ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ أَصْحَابُنَا أَجْمَعُوا عَلَى تَكْفِيرِ الْمُعْتَزِلَةِ) اﻫ (أَىِ الَّذِينَ يَقُولُونَ الْعَبْدُ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ الِاخْتِيَارِيَّةَ وَكَذَلِكَ الَّذِينَ يَقُولُونَ فَرْضٌ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَفْعَلَ مَا هُوَ الأَصْلَحُ لِلْعِبَادِ) أَىِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَفْعَلَ بِالْعَبْدِ مَا هُوَ أَصْلَحُ لِهَذَا الأَخِيرِ قَالَ عُلَمَاءُ أَهْلِ السُّنَّةِ لَوْ كَانَ الأَمْرُ كَذَلِكَ لَمَا قَدَرَ الرَّبُّ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ غَيْرَ مَا خَلَقَ وَلَخَلَقَ الْعِبَادَ كُلَّهُمْ فِى الْجَنَّةِ إِذْ هُوَ الأَصْلَحُ لَهُمْ. (وَقَوْلُهُ) أَىْ أَبِى مَنْصُورٍ التَّمِيمِىِّ (أَصْحَابُنَا يَعْنِى بِهِ الأَشْعَرِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ بَلْ هُوَ رَأْسٌ كَبِيرٌ فِى الشَّافِعِيَّةِ كَمَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ) الْهَيْتَمِىُّ (وَهُوَ) فَوْقَ هَذَا (إِمَامٌ مُقَدَّمٌ فِى النَّقْلِ مَعْرُوفٌ بِذَلِكَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَالأُصُولِيِّينَ وَالْمُؤَرِّخِينَ الَّذِينَ أَلَّفُوا فِى الْفِرَقِ فَمَنْ أَرَادَ مَزِيدَ التَّأَكُّدِ فَلْيُطَالِعْ كُتُبَهُ هَذِهِ فَلا يُدَافَعُ نَقْلُهُ بِكَلامِ الْبَاجُورِىِّ وَأَمْثَالِهِ) مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ (مِمَّنْ هُوَ مِنْ قَبْلِ عَصْرِهِ) أَىِ الْبَاجُورِىِّ (أَوْ بَعْدَهُ) فَلا يَسُوغُ لِمُنْتَسِبٍ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِىِّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُخَالِفَ كَلامَ إِمَامِ مَذْهَبِهِ وَأَصْحَابِهِ الأَوَائِلِ كَمَا لا يَسُوغُ لِمُنْتَسِبٍ إِلَى مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ أَوِ الْمَالِكِيَّةِ أَوِ الْحَنَابِلَةِ مُخَالَفَةُ أَئِمَّةِ مَذَاهِبِهِمْ وَأَصْحَابِهِمُ الأَوَائِلِ فِى هَذِهِ الْمَسْئَلَةِ. وَالْعَجَبُ مِنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ كَيْفَ يَجْرُؤُونَ أَنْ يَقُولُوا إِنَّ تَكْفِيرَ الْقَدَرِيَّةِ فِيهِ خِلافٌ وَالرَّاجِحُ عَدَمُ تَكْفِيرِهِمْ اﻫ فَإِنْ قَالُوا ذَلِكَ مَعَ جَهْلِهِمْ بِمَا قَالَهُ أَئِمَّةُ الْمَذَاهِبِ فَقَدْ تَكَلَّمُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِهِ عِلْمًا وَتَسَوَّرُوا مَرْتَبَةً لَيْسُوا لَهَا أَهْلًا وَإِنْ كَانُوا قَالُوا مَا قَالُوا مَعَ عِلْمِهِمْ بِمَا قَالَهُ الأَئِمَّةُ الأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُمْ فَأَمْرُهُمْ أَعْجَبُ وَأَعْجَبُ كَيْفَ يُقَدِّمُونَ رَأْيَهُمْ أَوْ رَأْىَ بَعْضِ مَنْ سَبَقَهُمْ عَلَى كَلامِ أَئِمَّةِ الْهُدَى فَيَجْعَلُونَ كَلامَ الأَئِمَّةِ مَرْجُوحًا وَرَأْيَهُمُ الْمُخَالِفَ رَاجِحًا. وَمِنْ أَعْجَبِ مَا رَأَيْتُ فِى هَذَا الْبَابِ كَلامُ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ نَقَلَ عَنِ الإِمَامِ مَالِكٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ النَّصَّ عَلَى تَكْفِيرِ الْقَدَرِيَّةِ وَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِنَقْلِهِ تَكْفِيرَهُمْ عَنِ السَّلَفِ عَامَّةً ثُمَّ قَالَ وَالرَّاجِحُ عَدَمُ تَكْفِيرِهِمْ اﻫ وَلا أَدْرِى كَيْفَ يَرْجَحُ رَأْىٌ عَلَى خِلافِ كَلامِ الأَئِمَّةِ وَمَجْمُوعِ السَّلَفِ وَهَلْ أَخَذْنَا الدِّينَ إِلَّا مِنْهُمْ وَعَنْ طَرِيقِهِمْ وَهَلْ يَكُونُ الْقَوْلُ الْمُخَالِفُ لِأُصُولِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا شَاذًّا مُبْتَدَعًا غَيْرَ قَوِىٍّ وَلا رَاجِحٍ لا يُقَامُ لَهُ وَزْنٌ وَلا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ وَالْعَاصِمُ مِنَ الزَّلَلِ هُوَ اللَّهُ.

(وَأَمَّا كَلامُ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ تَرْكِ تَكْفِيرِهِمْ) أَىِ الْمُعْتَزِلَةِ (فَمَحْمُولٌ عَلَى مِثْلِ بِشْرٍ) أَىْ بِشْرِ بنِ غِيَاثٍ (الْمِرِّيسِىِّ وَالْمَأْمُونِ) بنِ الرَّشِيدِ (الْعَبَّاسِىِّ فَإِنَّ بِشْرًا كَانَ مُوَافِقَهُمْ فِى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْءَانِ) أَىْ فِى إِطْلاقِ لَفْظِ الْقُرْءَانُ مَخْلُوقٌ مَعَ عَدَمِ إِرَادَةِ الْكَلامِ الذَّاتِىِّ الَّذِى هُوَ صِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعَ عَدَمِ إِرَادَةِ نَفْىِ صِفَةِ الْكَلامِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (وَكَفَّرَهُمْ فِى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الأَفْعَالِ) أَىْ كَفَّرَ مَنْ يَقُولُ بِمَقَالَةِ الْقَدَرِيَّةِ إِنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ فِعْلَهُ (فَلا) يُحْتَجُّ بِعَدَمِ تَكْفِيرِ بَعْضِ السَّلَفِ لِهَذَيْنِ وَأَمْثَالِهِمَا عَلَى عَدَمِ كُفْرِ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى الإِطْلاقِ أَوْ عَلَى نَفْىِ التَّكْفِيرِ عَنِ الْقَدَرِيَّةِ وَلا (يُحْكَمُ عَلَى جَمِيعِ مَنِ انْتَسَبَ إِلَى الِاعْتِزَالِ بِحُكْمٍ وَاحِدٍ) فَلا يُقَالُ كُلُّ مَنِ انْتَسَبَ إِلَيْهِمْ كَافِرٌ بِلا اسْتِثْنَاءٍ كَمَا لا يُقَالُ إِنَّ كُلَّ مَنِ انْتَسَبَ إِلَيْهِمْ لَيْسَ كَافِرًا (وَ)إِنْ كَانَ (يُحْكَمُ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْهُمْ بِكَوْنِهِ ضَالًّا) فَإِنْ وَصَلَ إِلَى حَدِّ الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَشَأْ حُصُولَ الشَّرِّ أَوْ بِأَنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ فِعْلَهُ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ وَإِنْ كَانَ اقْتَصَرَ عَلَى الْقَوْلِ بِالْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ أَوْ عَلَى نَفْىِ رُؤْيَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِرَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ فَاسِقٌ لَكِنِ الرَّاجِحُ عَدَمُ تَكْفِيرِهِ.




(الدَّلِيلُ الْعَقْلِىُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ بِأَنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ)


(قَالَ أَهْلُ الْحَقِّ امْتَنَعَ خَلْقُ الْعَبْدِ لِفِعْلِهِ لِعُمُومِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ وَعِلْمِهِ) أَىْ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتَهُ وَمَشِيئَتَهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالأَشْيَاءِ كُلِّهَا (وَبَيَانُ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ عَامَّةٌ وَعِلْمَهُ عَامٌّ وَإِرَادَتَهُ عَامَّةٌ) كَذَلِكَ (فَإِنَّ نِسْبَتَهَا إِلَى الْمُمْكِنَاتِ) سَوَاءٌ كَانَتْ أَحْجَامًا أَمْ صِفَاتٍ لِلأَحْجَامِ أَىْ فَسَوَاءٌ كَانَتْ أَجْسَامًا أَمْ أَعْمَالًا هِىَ (نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِنَّ وُجُودَ الْمُمْكِنِ الْعَقْلِىِّ إِنَّمَا احْتَاجَ إِلَى) الإِلَهِ (الْقَادِرِ مِنْ حَيْثُ إِمْكَانُهُ وَحُدُوثُهُ) أَىْ أَنَّ كَوْنَهُ مُمْكِنًا وَكَوْنَهُ حَادِثًا اقْتَضَى احْتِيَاجُهُ إِلَى الإِلَهِ الْقَادِرِ لإِيجَادِهِ وَإِحْدَاثِهِ (فَلَوْ تَخَصَّصَتْ صِفَاتُهُ هَذِهِ بِبَعْضِ الْمُمْكِنَاتِ) أَىْ لَوْ تَعَلَّقَ عِلْمُهُ تَعَالَى بِبَعْضِ الْمُمْكِنَاتِ دُونَ بَعْضٍ أَوْ تَعَلَّقَتْ قُدْرَتُهُ تَعَالَى بِبَعْضِ الْمُمْكِنَاتِ دُونَ بَعْضٍ أَوْ تَعَلَّقَتْ مَشِيئَتُهُ تَعَالَى بِبَعْضِ الْمُمْكِنَاتِ دُونَ بَعْضٍ (لَلَزِمَ اتِّصَافُهُ تَعَالَى بِنَقِيضِ تِلْكَ الصِّفَاتِ مِنَ الْجَهْلِ) بِبَعْضِ الأُمُورِ (وَالْعَجْزِ) عَنْ إِنْفَاذِ بَعْضِ مَا شَاءَهُ (وَذَلِكَ نَقْصٌ وَالنَّقْصُ عَلَيْهِ مُحَالٌ. وَ)كَذَلِكَ (لَاقْتَضَى تَخَصُّصُهَا) أَىْ تَخَصُّصُ الصِّفَاتِ أَىْ بِبَعْضِ الْمُمْكِنَاتِ دُونَ بَعْضٍ (مُخَصِّصًا) خَصَّصَهَا بِهَذَا الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ الآخَرِ (وَتَعَلَّقَّ الْمُخَصِّصُ عِنْدَئِذٍ بِذَاتِ الْوَاجِبِ الْوُجُودِ وَصِفَاتِهِ وَذَلِكَ مُحَالٌ) لِأَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمُخَصِّصُ وَيُؤَثِّرُ فِيهِ الْمُؤَثِّرُ هُوَ مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ بِلا شَكٍّ وَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُحْدَثًا مَخْلُوقًا (فَإِذًا ثَبَتَ عُمُومُ صِفَاتِهِ) مِنْ عِلْمٍ وَقُدْرَةٍ وَمَشِيئَةٍ. (فَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى إِيجَادَ حَادِثٍ وَأَرَادَ الْعَبْدُ خِلافَهُ وَنَفَذَ مُرَادُ الْعَبْدِ دُونَ مُرَادِ اللَّهِ لَلَزِمَ) أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ مُحْدَثًا وُجِدَ بَعْدَ عَدَمٍ وَهَذَا مُحَالٌ وَ(لَلَزِمَ) أَيْضًا (الْمُحَالُ الْمَفْرُوضُ فِى إِثْبَاتِ إِلَهَيْنِ) أَىْ لَكَانَ وُجُودُ إِلَهَيْنِ جَائِزًا يَصِحُّ فِى الْعَقْلِ وَلَمَا كَانَ مُحَالًا فَإِنَّ اسْتِحَالَةَ تَعَدُّدِ الإِلَهِ مُسْتَنِدَةٌ إِلَى اسْتِحَالَةِ غَلَبَةِ مَشِيئَةِ الْمَخْلُوقِ لِمَشِيئَةِ الْخَالِقِ (وَتَعَدُّدُ الإِلَهِ مُحَالٌ بِالْبُرْهَانِ) الْعَقْلِىِّ وَالنَّقْلِىِّ (فَمَا أَدَّى إِلَى الْمُحَالِ) مِنْ قَوْلٍ أَوِ اعْتِقَادٍ فَهُوَ بَاطِلٌ (مُحَالٌ) أَىْ مُسْتَحِيلُ الْوُجُودِ أَيْضًا فَثَبَتَ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ مَا قَالَهُ أَهْلُ السُّنَّةِ نَصَرَهُمُ اللَّهُ مِنْ أَنَّ كُلَّ مَا يَحْصُلُ فِى الْعَالَمِ هُوَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَةِ اللَّهِ وَمَشِيئَةِ اللَّهِ وَتَخْلِيقِ اللَّهِ لا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ لَمْحَةُ نَاظِرٍ وَلا فَلْتَةُ خَاطِرٍ وَلا عَزْمُ عَازِمٍ وَلا أَمْرُ ءَامِرٍ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِىِّ الْعَظِيمِ.


(إِثْبَاتُ أَنَّ الأَسْبَابَ الْعَادِيَّةَ لا تُؤَثِّرُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا الْمُؤَثِّرُ الْحَقِيقِىُّ هُوَ اللَّهُ)


السَّبَبُ كَمَا عَرَّفَهُ عُلَمَاءُ التَّوْحِيدِ حَادِثٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى حَادِثٍ ءَاخَرَ يُقَالُ لَهُ الْمُسَبَّبُ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَقَدْ يَتَخَلَّفُ فَيُوجَدُ السَّبَبُ وَلا يُوجَدُ الْمُسَبَّبُ كَالدَّوَاءِ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الشِّفَاءِ وَالطَّعَامِ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الشِّبَعِ وَالْمَاءِ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الرِّىِّ وَالسِّكِّينِ يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الْقَطْعِ وَالنَّارِ يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الإِحْرَاقِ وَهَكَذَا وَلَيْسَ شَىْءٌ مِنَ الأَسْبَابِ خَالِقًا لِمُسَبَّبَاتِهِ فَالدَّوَاءُ لا يَخْلُقُ الشِّفَاءَ وَالطَّعَامُ لا يَخْلُقُ الشِّبَعَ وَالْمَاءُ لا يَخْلُقُ الرِّىَّ وَالسِّكِّينُ لا تَخْلُقُ الْقَطْعَ وَالنَّارُ لا تَخْلُقُ الإِحْرَاقَ وَإِنَّمَا خَالِقُ الأَسْبَابِ وَمُسَبَّبَاتِهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ الْمُؤَثِّرُ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَيْسَ غَيْرُ. وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الآيَاتُ الْقُرْءَانِيَّةُ وَالأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ فِى الدِّلالَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَاعْتَضَدَ ذَلِكَ أَيْضًا بِمُشَاهَدَاتٍ عَدِيدَةٍ وَوَقَائِعَ كَثِيرَةٍ رَوَاهَا الثِّقَاتُ وَقَيَّدَهَا الأَكَابِرُ وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ مَا (ذَكَرَ الْحَاكِمُ صَاحِبُ الْمُسْتَدْرَكِ فِى تَارِيخِ نَيْسَابُورَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا زَكَرِيَّا يَحْيَى بنَ مُحَمَّدٍ الْعَنْبَرِىَّ يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ عِيسَى بنَ مُحَمَّدِ بنِ عِيسَى الطَّهْمَانِىَّ الْمَرْوَزِىَّ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُظْهِرُ مَا شَاءَ إِذَا شَاءَ مِنَ الآيَاتِ وَالْعِبَرِ فِى بَرِيَّتِهِ فَيَزِيدُ الإِسْلامَ بِهَا عِزًّا وَقُوَّةً وَيُؤَيِّدُ مَا أُنْزِلَ) عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مِنَ الْهُدَى وَالْبَيِّنَاتِ وَيَنْشُرُ أَعْلامَ النُّبُوَّةِ وَيُوضِحُ دِلالَةَ الرِّسَالَةِ وَيُوثِقُ عُرَى الإِسْلامِ وَيُثْبِتُ حَقَائِقَ الإِيمَانِ مَنًّا مِنْهُ) أَىْ فَضْلًا (عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَزِيَادَةً فِى الْبُرْهَانِ بِهِمْ وَحُجَّةً عَلَى مَنْ عَانَدَ فِى طَاعَتِهِ) فَأَعْرَضَ عَنِ الإِيمَانِ بِهِ وَبِرُسُلِهِ (وَأَلْحَدَ فِى دِينِهِ) أَىْ كَذَّبَهُ (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ) أَىْ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ (وَيَحْيَا مَنْ حَىَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) أَىْ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ أَيْضًا (فَلَهُ الْحَمْدُ) أَىْ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لَهُ (لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ذُو الْحُجَّةِ الْبَالِغَةِ) الْمَتِينَةِ (وَالْعِزِّ الْقَاهِرِ) الَّذِى لا يُنَازَعُ (وَالطَّوْلِ) أَىِ الْفَضْلِ (الْبَاهِرِ) أَىِ الْقَوِىِّ الْغَالِبِ (وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ نَبِىِّ الرَّحْمَةِ وَرَسُولِ الْهُدَى وَعَلَيْهِ وَعَلَى ءَالِهِ الطَّاهِرِينَ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. وَإِنَّ مِمَّا أَدْرَكْنَا عِيَانًا وَشَاهَدْنَاهُ فِى زَمَانِنَا وَأَحَطْنَا عِلْمًا بِهِ) أَىْ تَحَقَّقْنَا مِنْهُ (فَزَادَنَا يَقِينًا فِى دِينِنَا وَتَصْدِيقًا لِمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَدَعَا إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ فَرَغَّبَ فِيهِ مِنَ الْجِهَادِ مِنْ فَضِيلَةِ الشُّهَدَاءِ) أَىْ شُهَدَاءِ الْمَعْرَكَةِ (وَبَلَّغَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ إِذْ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ) فِى سُورَةِ ءَالِ عِمْرَانَ (﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ﴾ أَنِّى وَرَدْتُ فِى سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَلاثِينَ وَمِائَتَيْنِ مَدِينَةً مِنْ مَدَائِنِ خُوَارِزْمَ) قَاعِدَةَ بِلادِ خُرَاسَانَ (تُدْعَى هَزَارَاسْب) وَمَعْنَاهَا بِالْفَارِسِيَّةِ أَلْفُ فَرَسٍ (وَهِىَ فِى غَرْبِىِّ وَادِى) أَىْ نَهَرِ (جَيْحُونَ) الَّذِى يَفْصِلُ بَيْنَ خُوَارِزْمَ وَخُرَاسَانَ وَبَيْنَ بُخَارَى وَسَمَرْقَنْد فَإِذَا قِيلَ بِلادُ مَا وَرَاءَ النَّهَرِ كَانَ هَذَا النَّهَرُ هُوَ الْمَعْنِىَّ (وَمِنْهَا) أَىْ هَزَارَاسْب (إِلَى الْمَدِينَةِ الْعُظْمَى) أَىِ الْجُرْجَانِيَّةِ قَاعِدَةِ خُوَارِزْمَ (مَسَافَةُ نِصْفِ يَوْمٍ وَخُبِّرْتُ أَنَّ بِهَا امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ الشُّهَدَاءِ رَأَتْ رُؤْيَا كَأَنَّهَا أُطْعِمَتْ فِى مَنَامِهَا شَيْئًا فَهِىَ لا تَأْكُلُ شَيْئًا وَلا تَشْرَبُ مُنْذُ عَهْدِ أَبِى الْعَبَّاسِ بنِ طَاهِرٍ وَالِى خُرَاسَانَ وَكَانَ تُوُفِّىَ قَبْلَ ذَلِكَ بِثَمَانِ سِنِينَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ مَرَرْتُ بِتِلْكَ الْمَدِينَةِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ) أَىْ بَعْدَ نَحْوِ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ سَمَاعِ خَبَرِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ قَالَ (فَرَأَيْتُهَا وَحَدَّثَتْنِى بِحَدِيثِهَا فَلَمْ أَسْتَقْصِ عَلَيْهَا) بَحْثًا وَتَتَبُّعًا (لِحَدَاثَةِ سِنِّى) أَىْ ءَانَذَاكَ (ثُمَّ إِنِّى عُدْتُ إِلَى خُوَارِزْمَ فِى ءَاخِرِ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ فَرَأَيْتُهَا) حَيَّةً (بَاقِيَةً وَوَجَدْتُ حَدِيثَهَا شَائِعًا مُسْتَفِيضًا) بَيْنَ النَّاسِ مَشْهُورًا (وَهَذِهِ الْمَدِينَةُ عَلَى مَدْرَجَةِ الْقَوَافِلِ) يَمُرُّ بِهَا الْمُسَافِرُونَ وَيَنْزِلُونَهَا فِى سَفَرِهِمْ (وَكَانَ الْكَثِيرُ مِمَّنْ نَزَلَهَا إِذَا بَلَغَهُمْ قِصَّتُهَا أَحَبُّوا أَنْ يَنْظُرُوا إِلَيْهَا فَلا يَسْأَلُونَ عَنْهَا رَجُلًا ولا امْرَأَةً وَلا غُلامًا إِلَّا عَرَفَهَا وَدَلَّ عَلَيْهَا فَلَمَّا وَافَيْتُ النَّاحِيَةَ طَلَبْتُهَا) أَىْ قَصَدْتُهَا لِلِقَائِهَا (فَوَجَدْتُهَا غَائِبَةً عَلَى عِدَّةِ فَرَاسِخَ) مِنْ فَرَاسِخِ خُرَاسَانَ أَوْ مِنَ الْفَرَاسِخِ الْمَعْرُوفَةِ وَوَاحِدُهَا ثَلاثَةُ أَمْيَالٍ وَالْمِيلُ أَرْبَعَةُ ءَالافِ خَطْوَةٍ وَفَرَاسِخُ خُرَاسَانَ أَطْوَلُ كَمَا سَيَأْتِى قَالَ (فَمَضَيْتُ فِى أَثَرِهَا) أَىْ تَبِعْتُ أَثَرَهَا (مِنْ قَرْيَةٍ إِلَى قَرْيَةٍ فَأَدْرَكْتُهَا بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ تَمْشِى مِشْيَةً قَوِيَّةً فَإِذَا هِىَ امْرَأَةٌ نَصَفٌ) أَىْ فِى مُتَوَسِّطِ الْعُمُرِ الْغَالِبِ (جَيِّدَةُ الْقَامَةِ حَسَنَةُ الثُّدَيَّةِ ظَاهِرَةُ الدَّمِ مُتَوَرِّدَةُ الْخَدَّيْنِ ذَكِيَّةُ الْفُؤَادِ) أَىْ لَبِيبَةٌ (فَسَايَرَتْنِى) أَىْ مَشَتْ مَعِى (وَأَنَا رَاكِبٌ فَعَرَضْتُ عَلَيْهَا مَرْكَبًا) أَىْ دَابَّةً تَرْكَبُهَا (فَلَمْ) تَقْبَلْ وَلَمْ (تَرْكَبْهُ وَأَقْبَلَتْ تَمْشِى مَعِى بِقُوَّةٍ وَحَضَرَ مَجْلِسِى قَوْمٌ مِنَ التُّجَّارِ وَالدَّهَاقِينَ) أَىْ مُلَّاكِ الأَرَاضِى (وَفِيهِمْ) أَىْ بَيْنَ مَنْ حَضَرَهُ (فَقِيهٌ يُسَمَّى مُحَمَّدَ بنَ حَمْدَوَيْهِ الْحَارِثِىَّ وَقَدْ كَتَبَ عَنْهُ) الْحَدِيثَ (مُوسَى بنُ هَارُونَ الْبَزَّارُ بِمَكَّةَ كَهْلٌ لَهُ عِبَادَةٌ وَرِوَايَةٌ لِلْحَدِيثِ وَ)فِيهِمْ أَيْضًا (شَابٌّ حَسَنٌ يُسَمَّى عَبْدَ اللَّهِ ابن عَبْدِ الرَّحْمٰنِ وَكَانَ) عَلَى وَظِيفَةِ أَنَّهُ (يُحَلِّفُ أَصْحَابَ الْمَظَالِمِ بِنَاحِيَتِهِ فَسَأَلْتُهُمْ عَنْهَا فَأَحْسَنُوا الثَّنَاءَ عَلَيْهَا وَقَالُوا عَنْهَا خَيْرًا وَقَالُوا إِنَّ أَمْرَهَا ظَاهِرٌ) أَىْ مَعْرُوفٌ مُقَرَّرٌ (عِنْدَنَا فَلَيْسَ فِينَا مَنْ يَخْتَلِفُ فِيهَا قَالَ الْمُسَمَّى عَبْدَ اللَّهِ بنَ عَبْدِ الرَّحْمٰنِ أَنَا أَسْمَعُ حَدِيثَهَا مُنْذُ أَيَّامِ الْحَدَاثَةِ) أَىِ الصِّغَرِ (وَنَشَأْتُ وَالنَّاسُ يَتَفَاوَضُونَ فِى خَبَرِهَا وَقَدْ فَرَّغْتُ بَالِى لَهَا وَشَغَلْتُ نَفْسِىَ بِالِاسْتِقْصَاءِ عَلَيْهَا فَلَمْ أَرَ إِلَّا سِتْرًا وَعَفَافًا) أَىْ فَلَمْ يَعْرِفْ عَنْهَا مَا يَعِيبُهَا فِى دِينٍ وَلا خُلُقٍ (وَلَمْ أَعْثُرْ لَهَا عَلَى كَذِبٍ فِى دَعْوَاهَا وَلا حِيلَةٍ فِى التَّلْبِيسِ) أَىِ الْخِدَاعِ (وَذَكَرَ أَنَّ مَنْ كَانَ يَلِى خُوَارِزْمَ مِنَ الْعُمَّالِ) أَىِ الْوُلاةِ (كَانُوا فِيمَا خَلا يَسْتَحْضِرُونَهَا) أَىْ يَطْلُبُونَ حُضُورَهَا (وَيَحْصُرُونَهَا) إِلَيْهِمُ (الشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ وَالأَكْثَرَ فِى بَيْتٍ يُغْلِقُونَهُ عَلَيْهَا) فَيَحْبِسُونَهَا فِيهِ (وَيُوَكِّلُونَ مَنْ يُرَاعِيهَا) أَىْ يُرَاقِبُهَا (فَلا يَرَوْنَهَا تَأْكُلُ وَلا تَشْرَبُ وَلا يَجِدُونَ لَهَا أَثَرَ بَوْلٍ وَلا غَائِطٍ فَيَبَرُّونَهَا) أَىْ يُحْسِنُونَ إِلَيْهَا بِمَالٍ (وَيَكْسُونَهَا) أَىْ يُعْطُونَهَا اللِّبَاسَ (وَيُخْلُونَ سَبِيلَهَا) أَىْ يَتْرُكُونَهَا (فَلَمَّا تَوَاطَأَ) أَىْ تَوَافَقَ (أَهْلُ النَّاحِيَةِ عَلَى تَصْدِيقِهَا اسْتَقْصَصْتُهَا عَنْ حَدِيثِهَا) أَىْ طَلَبْتُ مِنْهَا أَنْ تَقُصَّهُ عَلَىَّ (وَسَأَلْتُهَا عَنِ اسْمِهَا وَشَأْنِهَا كُلِّهِ فَذَكَرَتْ أَنَّ اسْمَهَا رَحْمَةُ بِنْتُ إِبْرَاهِيمَ وَأَنَّهُ كَانَ لَهَا زَوْجٌ نَجَّارٌ فَقِيرٌ مَعِيشَتُهُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ يَأْتِيهِ رِزْقُهُ يَوْمًا فَيَوْمًا) أَىْ يُحَصِّلُ كُلَّ يَوْمٍ مَعِيشَتَهُ لِيَوْمٍ وَاحِدٍ (لا فَضْلَ) أَىْ لا زِيَادَةَ (فِى كَسْبِهِ عَنْ قُوتِ أَهْلِهِ وَأَنَّهَا وَلَدَتْ لَهُ عِدَّةَ أَوْلادٍ) قَالَتْ (وَجَاءَ الأَقْطَعُ مَلِكُ) كُفَّارِ (التُّرْكِ) فِى ذَلِكَ الزَّمَنِ (إِلَى الْقَرْيَةِ) أَىْ مَدِينَةِ هَزَارَاسْب (فَعَبَرَ الْوَادِىَ عِنْدَ جُمُودِهِ إِلَيْنَا فِى زُهَاءِ ثَلاثَةِ ءَالافِ فَارِسٍ وَأَهْلُ خُوَارِزْمَ يَدْعُونَهُ كَسْرَى) بِفَتْحِ الْكَافِ (قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ) أَىْ عِيسَى بنُ مُحَمَّدٍ الطَّهْمَانِىُّ (وَالأَقْطَعُ هَذَا كَانَ كَافِرًا عَاتِيًا) أَىْ شَدِيدَ الظُّلْمِ (شَدِيدَ الْعَدَاوَةِ لِلْمُسْلِمِينَ قَدْ أَثَّرَ عَلَى أَهْلِ الثُّغُورِ) أَىْ أَضَرَّ بِأَهْلِ النَّوَاحِى الَّتِى تَلِى بِلادَ الْكُفَّارِ (وَأَلَحَّ عَلَى أَهْلِ خُوَارِزْمَ بِالسَّبْىِ وَالْقَتْلِ وَالْغَارَاتِ) أَىْ كَرَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ (وَكَانَ وُلاةُ خُرَاسَانَ يَتَأَلَّفُونَهُ) أَىْ يُدَارُونَهُ (وَأَشْبَاهَهُ مِنْ عُظَمَاءِ) كُفَّارِ (الأَعَاجِمِ لِيَكُفُّوا غَارَاتِهِمْ عَنِ الرَّعِيَّةِ وَيَحْقِنُوا) أَىْ يَحْفَظُوا (دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ فَيَبْعَثُونَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِأَمْوَالٍ وَأَلْطَافٍ كَثِيرَةٍ وَأَنْوَاعٍ مِنْ فَاخِرِ الثِّيَابِ وَإِنَّ هَذَا الْكَافِرَ اسْتَاءَ فِى بَعْضِ السِّنِينَ عَلَى السُّلْطَانِ) قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ (وَلا أَدْرِى لِمَ ذَاكَ أَسْتَبْطَأَ الْمَبَارَّ) أَىِ الْهَدَايَا (عَنْ وَقْتِهَا أَمِ اسْتَقَلَّ مَا بَعَثَ إِلَيْهِ) أَىْ وَجَدَهُ قَلِيلًا (فِى جَنْبِ مَا بُعِثَ إِلَى نُظَرَائِهِ مِنَ الْمُلُوكِ فَأَقْبَلَ فِى جُنُودِهِ وَاسْتَعْرَضَ الطُّرُقَ فَعَاثَ وَأَفْسَدَ وَقَتَلَ وَمَثَّلَ فَعَجَزَ عَنْهُ خُيُولُ خُوَارِزْمَ وَبَلَغَ خَبَرُهُ أَبَا الْعَبَّاسِ عَبْدَ اللَّهِ بنَ طَاهِرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَأَنْهَضَ) أَىْ أَرْسَلَ (إِلَيْهِ أَرْبَعَةً مِنَ الْقُوَّادِ طَاهِرَ بنَ إِبْرَاهِيمَ بنِ مُدْرِكٍ وَيَعْقُوبَ بنَ مَنْصُورِ بنِ طَلْحَةَ وَمِيكَالَ مَوْلَى طَاهِرٍ وَهَارُونَ الْعَيَّاضَ وَشَحَنَ الْبَلَدَ بِالْعَسَاكِرِ وَالأَسْلِحَةِ وَرَتَّبَهُمْ فِى أَرْبَاعِ الْبَلَدِ كُلٌّ فِى رُبْعٍ فَحَمَوِا الْحَرِيمَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ إِنَّ وَادِىَ جَيْحُونَ وَهُوَ الَّذِى فِى أَعْلَى نَهْرِ بَلَخ جَمَدَ لَمَّا اشْتَدَّ الْبَرْدُ وَهُوَ وَادٍ عَظِيمٌ شَدِيدُ الطُّغْيَانِ كَثِيرُ الآفَاتِ وَإِذَا امْتَدَّ كَانَ عَرْضُهُ نَحْوًا مِنْ فَرْسَخٍ وَإِذَا جَمَدَ انْطَبَقَ فَلَمْ يُوصَلْ مِنْهُ إِلَى شَىْءٍ) مِنَ الْمَاءِ (حَتَّى يُحْفَرَ فِيهِ كَمَا تُحْفَرُ الآبَارُ فِى الصُّخُورِ وَقَدْ رَأَيْتُ كِثَفَ الْجَمَدِ عَشَرَةَ أَشْبَارٍ وَأُخْبِرْتُ أَنَّهُ كَانَ فِيمَا مَضَى يَزِيدُ عَلَى عِشْرِينَ شِبْرًا وَإِذَا هُوَ انْطَبَقَ صَارَ الْجَمَدُ جِسْرًا لِأَهْلِ الْبَلَدِ تَسِيرُ عَلَيْهِ الْعَسَاكِرُ وَالْعَجَلُ) أَىِ الْمَرْكَبَاتُ ذَوَاتُ الدَّوَالِيبِ (وَالْقَوَافِلُ فَيَنْظِمُ مَا بَيْنَ الشَّاطِئَيْنِ وَرُبَّمَا دَامَ الْجَمَدُ مِائَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَإِذَا قَلَّ الْبَرْدُ فِى عَامٍ بَقِىَ سَبْعِينَ يَوْمًا إِلَى نَحْوِ ثَلاثَةِ أَشْهُرٍ. قَالَتِ الْمَرْأَةُ فَعَبَرَ الْكَافِرُ) النَّهْرَ (فِى خَيْلِهِ) بِسَبَبِ جُمُودِهِ (إِلَى بَابِ الْحِصْنِ وَقَدْ تَحَصَّنَ النَّاسُ وَضَمُّوا أَمْتِعَتَهُمْ) إِلَيْهِمْ وَلَمْ يُفَرِّقُوهَا وَقَصَدَ الْكُفَّارُ أَهْلَ الْبَلَدِ (وَصَبَّحُوا الْمُسْلِمِينَ) أَىْ هَاجَمُوهُمْ صَبَاحًا (وَأَضَرُّوا بِهِمْ فَحُصِرَ مِنْ ذَلِكَ أَهْلُ النَّاحِيَةِ وَأَرَادُوا الْخُرُوجَ) أَىْ إِلَى خَارِجِ السُّورِ لِقِتَالِ الْغُزَاةِ (فَمَنَعَهُمُ الْعَامِلُ دُونَ أَنْ تَتَوَافَى عَسَاكِرُ السُّلْطَانِ) أَىِ الْمُرْتَزِقَةُ (وَتَتَلاحَقَ الْمُتَطَوِّعَةُ) لِلْجِهَادِ (فَشَدَّ طَائِفَةٌ مِنْ شُبَّانِ النَّاسِ وَأَحْدَاثِهِمْ فَتَقَارَبُوا مِنَ السُّورِ بِمَا أَطَاقُوا حَمْلَهُ مِنَ السِّلاحِ وَحَمَلُوا) لِحَمَاسَتِهِمْ (عَلَى الْكَفَرَةِ) وَظَنُّوا أَنَّهُمْ يَغْلِبُونَهُمْ (فَتَهَارَجَ الْكَفَرَةُ) أَىْ تَظَاهَرُوا بِالْهَزِيمَةِ عَلَى غَيْرِ نِظَامٍ (وَاسْتَجَرُّوهُمْ) أَىْ أَغْرَوْا شَبَابَ الْمُسْلِمِينَ لِيَلْحَقُوهُمْ وَيَخْرُجُوا (مِنْ بَيْنِ الأَبْنِيَةِ وَالْحِيطَانِ) أَىِ الْبَسَاتِينِ (فَلَمَّا أَصْحَرُوا) أَىْ صَارُوا فِى فَضَاءٍ لا بُنْيَانَ فِيهِ (كَـرَّ) أُولَئِكَ (التُّرْكُ عَلَيْهِمْ وَصَارَ الْمُسْلِمُونَ فِى مِثْلِ الْحَرَجَةِ) أَىْ فِى وَسَطِ الْكُفَّارِ مُحَاطِينَ بِهِمْ وَلا يُوصَلُ إِلَيْهِمْ كَالشَّجَرَةِ تَكُونُ بَيْنَ الأَشْجَارِ لا تَصِلُ إِلَيْهَا الآكِلَةُ لِتَرْعَى (فَتَحَصَّنُوا وَاتَّخَذُوا دَارَةً) أَيْ حَاجِزًا يَحُوطُهُمْ (يُحَارِبُونَ مِنْ وَرَائِهَا وَانْقَطَعَ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْحِصْنِ وَبَعُدَتِ الْمَعُونَةُ عَنْهُمْ فَحَارَبُوا كَأَشَدِّ حَرْبٍ وَثَبَتُوا حَتَّى تَقَطَّعَتِ الأَوْتَارُ) جَمْعُ وَتَرٍ (وَالْقِسِىُّ) جَمْعُ قَوْسٍ (وَأَدْرَكَهُمُ التَّعَبُ وَمَسَّهُمُ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ وَقُتِلَ مُعْظَمُهُمْ وَأُثْخِنَ الْبَاقُونَ بِالْجِرَاحَاتِ. وَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِمُ اللَّيْلُ) أَىْ دَخَلَ (تَحَاجَزَ الْفَرِيقَانِ) أَىْ تَوَقَّفَا عَنْ مُحَارَبَةِ أَحَدِهِمَا الآخَرَ. (قَالَتِ الْمَرْأَةُ وَرُفِعَتِ النَّارُ عَلَى الْمَنَاظِرِ سَاعَةَ عُبُورِ الْكَافِرِ) أَىْ لإِيصَالِ الْخَبَرِ بِعُبُورِهِ (فَاتَّصَلَ الْخَبَرُ بِالْجُرْجَانِيَّةِ وَهِىَ مَدِينَةٌ عَظِيمَةٌ فِى قَاصِيَةِ) أَىْ طَرَفِ (خُوَارِزْمَ) وَهِىَ قَاعِدَتُهَا كَمَا تَقَدَّمَ (وَكَانَ) الْقَائِدُ (مِيكَالُ مَوْلَى طَاهِرٍ بِهَا فِى عَسْكَرٍ فَخَفَّ فِى الطَّلَبِ) أَىْ أَسْرَعَ فِى قَصْدِ النَّاحِيَةِ الَّتِى عَبَرَ الْكَافِرُ إِلَيْهَا (هَيْبَةً لِلأَمِيرِ أَبِى الْعَبَّاسِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ طَاهِرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَكَضَ إِلَى هَزَارَاسْب فِى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَرْبَعِينَ فَرْسَخًا بِفَرَاسِخِ خُوَارِزْمَ وَفِيهَا فَضْلٌ كَثِيرٌ عَلَى فَرَاسِخِ خُرَاسَانَ) أَىْ تَزِيدُ عَلَيْهَا زِيَادَةً كَبِيرَةً (وَغَدَا التُّرْكُ) أَىْ بَكَّرُوا غُدْوَةً (لِلْفَرَاغِ مِنْ أَمْرِ أُولَئِكَ النَّفَرِ) أَىِ الْجَمَاعَةِ (فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذِ ارْتَفَعَتْ لَهُمُ الأَعْلامُ السُّودُ) عَلامَةُ الْجُنْدِ الْعَبَّاسِىِّ (وَسَمِعُوا أَصْوَاتَ الطُّبُولِ) الَّتِى تُرَافِقُ الْعَسْكَرَ (فَأَفْرَجُوا) أَىْ تَفَرَّقُوا (عَنِ الْقَوْمِ) وَانْهَزَمُوا (وَوَافَى) أَىْ حَضَرَ (مِيكَالُ مَوْضِعَ الْمَعْرَكَةِ فَوَارَى الْقَتْلَى) أَىْ غَطَّاهُمْ (وَحَمَلَ الْجَرْحَى) مِنْ سَاحَةِ الْقِتَالِ إِلَى حَيْثُ يُدَاوَوْنَ (قَالَتِ الْمَرْأَةُ وأُدْخِلَ الْحِصْنَ عَلَيْنَا عَشِيَّةَ ذَلِكَ زُهَاءُ أَرْبَعِمِائَةِ جِنَازَةٍ فَلَمْ تَبْقَ دَارٌ إِلَّا حُمِلَ إِلَيْهَا قَتِيلٌ وَعَمَّتِ الْمُصِيبَةُ وَارْتَجَّتِ النَّاحِيَةُ بِالْبُكَاءِ قَالَتْ وَوُضِعَ زَوْجِى بَيْنَ يَدَىَّ قَتِيلًا فَأَدْرَكَنِى مِنَ الْجَزَعِ وَالْهَلَعِ عَلَيْهِ مَا يُدْرِكُ الْمَرْأَةَ الشَّابَّةَ عَلَى زَوْجِهَا أَبِى الأَوْلادِ وَكَانَتْ لَنَا عِيَالٌ) أَىْ صِغَارٌ يَحْتَاجُونَ فِى مَعِيشَتِهِمْ إِلَى مَنْ يُعِيلُهُمْ (قَالَتْ فَاجْتَمَعَ النِّسَاءُ مِنْ قَرَابَاتِى وَالْجِيرَانُ يُسْعِدْنَنِى عَلَى الْبُكَاءِ) أَىْ يُسَاعِدْنَنِى فِى حَالِ بُكَائِى وَحُزْنِى (وَجَاءَ الصِّبْيَانُ وَهُمْ أَطْفَالٌ لا يَعْقِلُونَ مِنَ الأَمْرِ شَيْئًا) أَىْ لا يُدْرِكُونَ مَعْنَى هَذِهِ الْمُصِيبَةِ (يَطْلُبُونَ الْخُبْزَ وَلَيْسَ عِنْدِى مَا أُعْطِيهِمْ فَضِقْتُ صَدْرًا بِأَمْرِى ثُمَّ إِنِّى سَمِعْتُ أَذَانَ الْمَغْرِبِ فَفَزِعْتُ إِلَى الصَّلاةِ) أَىْ بَادَرْتُ إِلَيْهَا (فَصَلَّيْتُ مَا قَضَى لِى رَبِّى ثُمَّ سَجَدْتُ أَدْعُو وَأَتَضَرَّعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَسْأَلُهُ) أَنْ يُلْهِمَنِى (الصَّبْرَ وَأَنْ يَجْبُرَ يُتْمَ صِبْيَانِى فَذَهَبَ بِىَ النَّوْمُ) أَىْ نِمْتُ (فِى سُجُودِى فَرَأَيْتُ فِى مَنَامِى كَأَنِّى فِى أَرْضٍ خَشْنَاءَ) أَىْ (ذَاتِ حِجَارَةٍ وَأَنَا أَطْلُبُ زَوْجِى) أَىْ أَبْحَثُ عَنْهُ (فَنَادَانِى رَجُلٌ إِلَى أَيْنَ أَيَّتُهَا الْحُرَّة قُلْتُ أَطْلُبُ زَوْجِى فَقَالَ خُذِى ذَاتَ الْيَمِينِ قَالَتْ فَأَخَذْتُ ذَاتَ الْيَمِينِ فَرُفِعَ لِى) أَىْ ظَهَرَ لِى (أَرْضٌ سَهْلَةٌ طَيِّبَةُ الرَّىِّ ظَاهِرَةُ الْعُشْبِ وَإِذَا) هُنَاكَ (قُصُورٌ وَأَبْنِيَةٌ لا أَحْفَظُ أَنْ أَصِفَهَا) أَىْ أَعْجِزُ عَنْ وَصْفِهَا (وَلَمْ أَرَ مِثْلَهَا وَإِذَا أَنْهَارٌ تَجْرِى عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ بِغَيْرِ أَخَادِيدَ) أَىْ لَيْسَتْ فِى مِثْلِ الْخَنَادِقِ وَ(لَيْسَ لَهَا حَافَاتٌ) عَلَى صِفَةِ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ (فَانْتَهَيْتُ إِلَى قَوْمٍ جُلُوسٍ حَلَقًا حَلَقًا) أَىْ فِى دَوَائِرَ (عَلَيْهِمْ ثِيَابٌ خُضْرٌ قَدْ عَلاهُمُ النُّورُ فَإِذَا هُمُ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى الْمَعْرَكَةِ يَأْكُلُونَ عَلَى مَوَائِدَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَجَعَلْتُ أَتَخَلَّلُهُمْ) أَىْ أَمْشِى بَيْنَهُمْ (وَأَتَصَفَّحُ وُجُوهَهُمْ) أَىْ أَتَأَمَلُّهَا (أَبْغِى زَوْجِى لِكَىْ يَنْظُرَنِى فَنَادَانِى يَا رَحْمَةُ يَا رَحْمَةُ فَيَمَّمْتُ) أَىْ قَصَدْتُ (الصَّوْتَ فَإِذَا بِهِ فِى مِثْلِ حَالِ مَنْ رَأَيْتُ مِنَ الشُّهَدَاءِ وَجْهُهُ مِثْلُ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَهُوَ يَأْكُلُ مَعَ رُفْقَةٍ لَهُ قُتِلُوا يَوْمَئِذٍ مَعَهُ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ إِنَّ هَذِهِ الْبَائِسَةَ جَائِعَةٌ مُنْذُ الْيَوْمَ أَفَتَأْذَنُونَ لِى أَنْ أُنَاوِلَهَا شَيْئًا تَأْكُلُهُ فَأَذِنُوا لَهُ فَنَاوَلَنِى كِسْرَةَ خُبْزٍ قَالَتْ وَأَنَا أَعْلَمُ حِينَئِذٍ أَنَّهُ خُبْزٌ وَلَكِنْ لا أَدْرِى كَيْفَ يُخْبَزُ هُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ وَاللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَالسُّكَّرِ وَأَلْيَنُ مِنَ الزُّبْدِ وَالسَّمْنِ) أَىْ أَشَدُّ طَرَاوَةً مِنْهُمَا (فَأَكَلْتُهُ فَلَمَّا اسْتَقَرَّ فِى جَوْفِى قَالَ اذْهَبِى كَفَاكِ اللَّهُ مَؤُونَةَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مَا حَيِيْتِ فِى الدُّنْيَا فَانْتَبَهْتُ مِنْ نَوْمِى شَبْعَى رَيَّى لا أَحْتَاجُ إِلَى طَعَامٍ وَلا شَرَابٍ وَمَا ذُقْتُهُمَا مُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَى يَوْمِى هَذَا وَلا شَيْئًا يَأْكُلُهُ النَّاسُ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ وَكَانَتْ تَحْضُرُنَا وَكُنَّا نَأْكُلُ فَتَتَنَحَّى) أَىْ تَبْتَعِدُ عَنَّا (وَتَأْخُذُ عَلَى أَنْفِهَا تَزْعُمُ أَنَّهَا تَتَأَذَّى مِنْ رَائِحَةِ الطَّعَامِ فَسَأَلْتُهَا أَتَتَغَذَّى بِشَىْءٍ أَوْ تَشْرَبُ شَيْئًا غَيْرَ الْمَاءِ) يُعَوِّضُهَا مِنْهُ (فَقَالَتْ لا فَسَأَلْتُهَا هَلْ يَخْرُجُ مِنْهَا رِيحٌ أَوْ أَذًى) أَىْ بَوْلٌ أَوْ غَائِطٌ (كَمَا يَخْرُجُ مِنَ النَّاسِ قَالَتْ لا عَهْدَ لِي بِالأَذَى مُنْذُ ذَلِكَ الزَّمَانِ قُلْتُ وَالْحَيْضُ أَظُنُّهَا قَالَتِ انْقَطَعَ بِانْقِطَاعِ الطُّعْمِ) أَىِ الأَكْلِ (قُلْتُ هَلْ تَحْتَاجِينَ حَاجَةَ النِّسَاءِ إِلَى الرِّجَالِ قَالَتْ أَمَا تَسْتَحِى مِنِّى تَسْأَلُنِى عَنْ مِثْلِ هَذَا قُلْتُ إِنِّى لَعَلِّى أُحَدِّثُ النَّاسَ عَنْكِ وَلا بُدَّ أَنْ أَسْتَقْصِىَ قَالَتْ لا أَحْتَاجُ قُلْتُ فَتَنَامِينَ قَالَتْ نَعَمْ أَطْيَبَ نَوْمٍ قُلْتُ فَمَا تَرَيْنَ فِى مَنَامِكِ قَالَتْ مِثْلَ مَا تَرَوْنَ قُلْتُ فَتَجِدِينَ لِفَقْدِ الطَّعَامِ وَهْنًا) بِسُكُونِ الْهَاءِ وَفَتْحِهَا الضَّعْفُ (فِى نَفْسِكِ قَالَتْ مَا أَحْسَسْتُ بِجُوعٍ مُنْذُ طَعِمْتُ ذَلِكَ الطَّعَامَ وَكَانَتْ تَقْبَلُ الصَّدَقَةَ فَقُلْتُ لَهَا مَا تَصْنَعِينَ بِهَا قَالَتْ أَكْتَسِى وَأَكْسُو وَلَدِى قُلْتُ فَهَلْ تَجِدِينَ الْبَرْدَ وَتَتَأَذَّيْنَ بِالْحَرِّ قَالَتْ نَعَمْ قُلْتُ فَهَلْ تَدْرِينَ كَلَلَ اللُّغُوبِ وَالإِعْيَاءِ إِذَا مَشَيْتِ) أَىْ هَلْ تُحِسِّينَ بِالتَّعَبِ عِنْدَ ذَلِكَ (قَالَتْ نَعَمْ أَلَسْتُ مِنَ الْبَشَرِ قُلْتُ فَتَتَوَضَّئِينَ لِلصَّلاةِ قَالَتْ نَعَمْ قُلْتُ لِمَ) أَىْ طَالَمَا لا يَخْرُجُ مِنْكِ رِيحٌ وَلا بَوْلٌ وَلا غَائِطٌ وَلا دَمُ حَيْضٍ (قَالَتْ أَمَرَنِى الْفُقَهَاءُ بِذَلِكَ قُلْتُ إِنَّهُمْ أَفْتَوْهَا عَلَى حَدِيثِ لا وُضُوءَ إِلَّا مِنْ حَدَثٍ أَوْ نَوْمٍ وَذَكَرَتْ لِى أَنَّ بَطْنَهَا لاصِقٌ بِظَهْرِهَا فَأَمَرْتُ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِنَا فَنَظَرَتْ) إِلَى بَطْنِهَا (فَإِذَا بَطْنُهَا كَمَا وَصَفَتْ) أَىْ لاصِقٌ بِظَهْرِهَا (وَإِذَا قَدِ اتَّخَذَتْ كِيسًا فَضَمَّتِ الْقُطْنَ وَشَدَّتْهُ عَلَى بَطْنِهَا كَىْ لا يَنْقَصِفَ ظَهْرُهَا إِذَا مَشَتْ) قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ عِيسَى (ثُمَّ لَمْ أَزَلْ أَخْتَلِفُ إِلَى هَزَارَاسْب بَيْنَ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلاثِ فَتَحْضُرُنِى فَأُعِيدُ مَسْأَلَتَهَا) أَىْ سُؤَالَهَا (فَلا تَزِيدُ وَلا تَنْقُصُ وَعَرَضْتُ كَلامَهَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمٰنِ الْفَقِيهِ فَقَالَ أَنَا أَسْمَعُ هَذَا الْكَلامَ مُنْذُ نَشَأْتُ فَلا أَجِدُ مَنْ يَدْفَعُهُ) أَىْ يُنْكِرُهُ (أَوْ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَّهَا تَأْكُلُ أَوْ تَشْرَبُ أَوْ تَتَغَوَّطُ اﻫ فَهَذِهِ الْقِصَّةُ فِيهَا أَنْ لا تَلازُمَ عَقْلِىٌّ بَيْنَ فُقْدَانِ) بِضَمِّ الْفَاءِ وَفَتْحِهَا (الأَكْلِ وَبَيْنَ الْمَرَضِ وَذَهَابِ الصِّحَّةِ وَانْهِدَامِ الْبُنْيَةِ) أَىْ لا يَلْزَمُ فىِ حُكْمِ الْعَقْلِ مِنْ عَدَمِ الأَكْلِ ذَهَابَ الصِّحَّةِ وَإِنَّمَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِذَلِكَ لَيْسَ غَيْرُ وَيَجُوزُ أَنْ تَنْخَرِمَ هَذِهِ الْعَادَةُ (وَكَذَلِكَ سَائِرُ الأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ) لا يَلْزَمُ فِى حُكْمِ الْعَقْلِ أَنْ تُوجَدَ مُسَبَّبَاتُهَا عِنْدَ وُجُودِهَا بَلْ (يَصِحُّ عَقْلًا أَنْ تَتَخَلَّفَ مَفْعُولاتُهَا) أَىْ مَا يَتَسَبَّبُ وَيَنْشَأُ عَنْهَا فِى الْعَادَةِ (وَ)ذَلِكَ (أَنَّ) الأَسْبَابَ لَيْسَتْ خَالِقَةً لِمُسَبَّبَاتِهَا وَإِنَّمَا تَحْصُلُ (الأَشْيَاءُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى) فَإِنْ لَمْ يَشَإِ اللَّهُ حُصُولَ الْمُسَبَّبِ لا يَحْصُلُ وَلَوْ وُجِدَ السَّبَبُ وَإِذَا شَاءَ اللَّهُ حُصُولَ الْمُسَبَّبِ مِنْ غَيْرِ وُجُودِ السَّبَبِ حَصَلَ عَلَى وَفْقِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِى مُجَابِى الدَّعْوَةِ لِابْنِ أَبِى الدُّنْيَا الْقُرَشِىِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ أَخْبَرَنِى الْعَبَّاسُ بنُ هِشَامِ بنِ مُحَمَّدٍ الْكُوفِىُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِى أَبَانِ بنِ دَارِمٍ يُقَالُ لَهُ زُرْعَةُ شَهِدَ قَتْلَ الْحُسَيْنِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَمَى الْحُسَيْنَ بِسَهْمٍ فَأَصَابَ حَنَكَهُ فَجَعَلَ يَتَلَقَّى الدَّمَ يَقُولُ هَكَذَا إِلَى السَّمَاءِ فَيَرْمِى بِهِ وَذَلِكَ أَنَّ الْحُسَيْنَ دَعَا بِمَاءٍ لِيَشْرَبَ فَلَمَّا رَمَاهُ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ فَقَالَ اللَّهُمَّ ظَمِّئْهُ اللَّهُمَّ ظَمِّئْهُ قَالَ فَحَدَّثَنِى مَنْ شَهِدَهُ وَهُوَ يَمُوتُ وَهُوَ يَصِيحُ مِنَ الْحَرِّ فِى بَطْنِهِ وَالْبَرْدِ فِى ظَهْرِهِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْمَرَاوِحُ وَالثَّلْجُ وَخَلْفَهُ الْكَانُونُ وَهُوَ يَقُولُ اسْقُونِى أَهْلَكَنِى الْعَطَشُ فَيُؤْتَى بِعُسٍّ عَظِيمٍ فِيهِ السَّوِيقُ أَوِ الْمَاءُ وَاللَّبَنُ لَوْ شَرِبَهُ خَمْسَةٌ لَكَفَاهُمْ قَالَ فَيَشْرَبُهُ ثُمَّ يَعُودُ فَيَقُولُ اسْقُونِى أَهْلَكَنِى الْعَطَشُ قَالَ فَانْقَدَّ بَطْنُهُ كَانْقِدَادِ الْبَعِيرِ اﻫ

(وَ)تَشْهَدُ قِصَّةُ رَحْمَةِ بِنْتِ إِبْرَاهِيمَ رَحِمَهَا اللَّهُ تَعَالَى أَيْضًا لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ الشَّرْعِيَّةُ مِنْ (أَنَّ الشُّهَدَاءَ لَهُمْ حَيَاةٌ بَرْزَخِيَّةٌ) أَىْ بَعْدَ اسْتِشْهَادِهِمْ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ فَتَتَنَعَّمُ أَرْوَاحُهُمْ فِى الْجَنَّةِ وَيَصِلُ أَثَرُ هَذَا النَّعِيمِ إِلَى أَجْسَادِهِمْ فِى الْقُبُورِ فَلا تَبْلَى وَيَبْقَى جَرَيَانُ الدَّمِ فِيهَا كَمَا شُوهِدَ ذَلِكَ فِى شُهَدَاءِ أُحُدٍ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مَا لا يُحْصَى مِنَ الْمَرَّاتِ (فَسُبْحَانَ الْقَدِيرِ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ).


(تَنْبِيهٌ مُهِمٌّ)


(لا يُعْفَى الْجَاهِلُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الأُصُولِ) بَلْ يَجِبُ وُجُوبًا عَيْنِيًّا عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا يَجِبُ وَذَلِكَ بِمَعْرِفَةِ أَنَّهُ ذَاتٌ لا يُشْبِهُ الذَّوَاتِ وَلا هُوَ مُعَطَّلٌ عَنِ الصِّفَاتِ وَمَعْرِفَةِ ثَلاثَ عَشْرَةَ صِفَةً مِنْهَا لا يَسْلَمُ مِنَ الْكَبِيرَةِ مَنْ قَصَّرَ فِى مَعْرِفَتِهَا (وَلا يُعْذَرُ فِى مَا يَقَعُ مِنْهُ مِنَ الْكُفْرِ) نَتِيجَةَ ذَلِكَ التَّقْصِيرِ وَ(لِعَدَمِ اهْتِمَامِهِ بِالدِّينِ) وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَنَّهُ يُعْذَرُ بِالْجَهْلِ فِى مَا لَوْ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ أَوِ اعْتَقَدَ عَدَمَ نَفَاذِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِى كُلِّ مُرَادَاتِهِ سُبْحَانَهُ أَوْ شَتَمَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوِ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ غَيْرُ عَارِفٍ بِأَنَّ مَا اعْتَقَدَهُ أَوْ قَالَهُ كُفْرٌ قَوْلٌ فَاسِدٌ صَرَّحَ الْمُحَقِّقُونَ بِأَنَّهُ خِلافُ الصَّحِيحِ فَلا يُقَامُ لَهُ وَزْنٌ (وَلَوْ كَانَ الْجَهْلُ يُسْقِطُ الْمُؤَاخَذَةَ لَكَانَ الْجَهْلُ خَيْرًا مِنَ الْعِلْمِ وَهَذَا خِلافُ قَوْلِهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الزُّمَرِ (﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾) فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ يَعْلُو عَلَى الْجَهْلِ وَأَنَّ الْعَالِمَ خَيْرٌ مِنَ الْجَاهِلِ وَالنُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ (إِلَّا أَنَّ مَنْ كَانَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِإِسْلامٍ) أَىْ أَسْلَمَ مِنْ وَقْتٍ قَرِيبٍ (وَنَحْوَهُ) أَىْ شَبِيهَ قَرِيبِ الْعَهْدِ بِالإِسْلامِ كَمَنْ نَشَأَ بَعِيدًا عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ (لا يَكْفُرُ بِإِنْكَارِ) حُكْمٍ مِنَ الأَحْكَامِ الَّتِى لا تُعْرَفُ إِلَّا بِالنَّقْلِ وَلَيْسَ فِى إِنْكَارِهَا جَهْلًا مُنَاقَضَةٌ لِلشَّهَادَتَيْنِ وَذَلِكَ كَإِنْكَارِ (فَرْضِيَّةِ الصَّلاةِ وَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إِنْ لَمْ يَكُنْ سَمِعَ أَنَّ هَذَا) مِنْ (دِينِ الإِسْلامِ) أَىْ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ عِلْمٌ بِهَذِهِ الأَحْكَامِ وَلا بِمَثِيلِهَا مِمَّا يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِهَا لُزُومًا وَاضِحًا لِكُلِّ أَحَدٍ فَإِنَّ مَنْ سَمِعَ تَحْرِيمَ قَوْلِ أُفٍ لِلْوَالِدِ يَعْرِفُ مِنْ ذَلِكَ تَحْرِيمَ ضَرْبِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَدْ سَمِعَ هَذِهِ الْمَسْئَلَةَ بِعَيْنِهَا. (وَالْفَرْضُ الأَوَّلُ) عَلَى الشَّخْصِ (فِى حَقِّ الأَهْلِ) أَىْ تُجَاهَ أَهْلِهِ (تَعْلِيمُهُمْ أُصُولَ الْعَقِيدَةِ كَىْ لا يَقَعُوا فِى الْكُفْرِ بِجَهْلِهِمْ بِالْعَقِيدَةِ) فَإِنَّ الطِّفْلَ إِذَا تُرِكَ بِلا تَعْلِيمٍ قَدْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ يَسْكُنُ السَّمَاءَ أَوْ يَتَنَقَّلُ مَعَ الْغَيْمِ أَوْ يَسْكُنُ الْكَعْبَةَ أَوْ أَنَّ لَهُ لَوْنًا أَبْيَضَ أَوْ أَسْوَدَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ (فَإِنِ اعْتَقَدُوا أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ نُورَانِىٌّ أَبْيَضُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَاسْتَمَرُّوا بَعْدَ الْبُلُوغِ عَلَى ذَلِكَ فَمَاتُوا عَلَيْهِ خُلِّدُوا فِى النَّارِ نَتِيجَةَ اعْتِقَادَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ) هَذِهِ. وَكَمْ مِنَ النَّاسِ لا يَهْتَمُّونَ بِتَعْلِيمِ أَوْلادِهِمْ أُمُورَ الدِّينِ وَإِنَّمَا يُعَامِلُونَ أَوْلادَهُمْ مُعَامَلَةَ الدَّوَابِّ الَّتِى يَمْلِكُونَهَا فَيُطْعِمُونَهُمْ وَيَكْسُونَهُمْ وَيُؤْوُونَهُمْ وَيُدَاوُونَهُمْ إِذَا مَرِضُوا وَلا يَهْتَمُّونَ بِمَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَيَنْشَأُ الْوَلَدُ كَافِرًا وَهُوَ لا يَدْرِى أَوْ يَعِيشُ غَارِقًا فِى الْمَعَاصِى وَهُوَ لا يَعْلَمُ نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُعِيذَنَا مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ وَأَمَّا مَنْ يَهْتَمُّ بِتَعَلُّمِ عِلْمِ الدِّينِ وَتَعْلِيمِهِ لِأَهْلِهِ فَهُمُ الأَقَلُّ فِى هَذِهِ الأَيَّامِ بَيْنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الإِسْلامِ مِصْدَاقَ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِى رَوَاهُ مُسْلِمٌ بَدَأَ الدِّينُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا اهـ وَمِصْدَاقَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مِنْ بَعْدِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ الْقَابِضُ فِيهَا عَلَى دِينِهِ كَقَابِضٍ عَلَى جَمْرٍ اهـ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِى الْمُسْتَدْرَكِ وَمَعَ ذَلِكَ فَالْعَاقِلُ لا يَتْرُكُ طَرِيقَ السَّلامَةِ وَلَوْ قَلَّ سَالِكُوهَا وَلا يُضَيِّعُ سَبِيلَ الْجَنَّةِ وَلَوِ اعْتَرَضَتْهُ الْمَكَارِهُ (قَالَ الْفُضَيْلُ بنُ عِيَاضٍ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ لا تَسْتَوْحِشْ طُرُقَ الْهُدَى لِقِلَّةِ أَهْلِهَا وَ(لا يَغُرَنَّكَ كَثْرَةُ الْهَالِكِينَ) اﻫ (فَهَلْ هَذَا الْجَهْلُ فِى الْعَقِيدَةِ هُوَ نَتِيجَةُ مَحَبَّةِ الأَهْلِ لِأَبْنَائِهِمْ) أَوْ هُوَ نَتِيجَةُ إِهْمَالِ الِاعْتِنَاءِ بِهِمْ. (وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الذَّارِيَاتِ (﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ وَجَاءَ فِى تَفْسِيرِ الآيَةِ أَىْ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَأْمُرَهُمْ بِعِبَادَتِهِ) وَمَنْ لَمْ يَعْرِفِ الْمَعْبُودَ كَيْفَ يَعْبُدُهُ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ أَوَامِرَ السَّيِّدِ كَيْفَ يُطِيعُهُ (وَبَعْدَ أَنْ جَاءَنَا الْهُدَى وَهُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَامَتْ عَلَيْنَا الْحُجَّةُ بِهِ) إِذْ قَدْ أَدَّى الأَمَانَةَ وَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ كَمَا أَمَرَهُ رَبُّهُ جَلَّ وَعَزَّ (فَلا عُذْرَ لَنَا) بِتَقْصِيرِنَا (قَالَ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الإِسْرَاءِ (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) أَىْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيُعَذِّبَ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ الأَنْبِيَاءِ وَنَحْنُ قَدْ بَلَغَتْنَا الدَّعْوَةُ فَمَنْ أَعْرَضَ أَوْ زَاغَ أَوْ فَجَرَ أَوْ فَسَقَ فَلا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ.


(النُّبُوَّةُ)


(اشْتِقَاقُهَا) أَىِ النُّبُوَّةِ (مِنَ النَّبَإِ أَىِ الْخَبَرِ لِأَنَّ النُّبُوَّةَ إِخْبَارٌ عَنِ اللَّهِ أَوْ مِنَ النَّبْوَةِ وَهِىَ الرِّفْعَةُ) أَىْ عُلُوُّ الدَّرَجَةِ (فَالنَّبِىُّ عَلَى) الْقَوْلِ (الأَوَّلِ) أَىْ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ اشْتِقَاقَهَا مِنَ النَّبَإِ (فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ) فَهُوَ نَبِىءٌ بِمَعْنَى مُنْبِىءٍ (لِأَنَّهُ يُخْبِرُ عَنِ اللَّهِ بِمَا يُوحَى إِلَيْهِ أَوْ) هُوَ (فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ) أَىْ نَبِىءٌ بِمَعْنَى مُنْبَأٌ (أَىْ مُخْبَرٌ عَنِ اللَّهِ أَىْ يُخْبِرُهُ الْمَلَكُ عَنِ اللَّهِ) تَعَالَى. وَلَيْسَ فِى حُكْمِ الْعَقْلِ مَا يُحِيلُ بِعْثَةَ الأَنْبِيَاءِ (فَالنُّبُوَّةُ جَائِزَةٌ عَقْلًا لَيْسَتْ مُسْتَحِيلَةً) فَإِنَّهُ لا يَلْزَمُ عَلَى حُصُولِهَا مُحَالٌ بَلْ قَدْ عُلِمَ حُصُولُهَا بِالْحِسِّ وَثَبَتَتْ نُبُوَّةُ كَثِيرٍ مِنَ الْبَشَرِ بِالدَّلِيلِ. (وَ)ذَلِكَ (أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ الأَنْبِيَاءَ رَحْمَةً لِلْعِبَادِ إِذْ لَيْسَ فِى الْعَقْلِ) الطَّبِيعِىِّ (مَا يُسْتَغْنَى بِهِ عَنْهُمْ لِأَنَّ الْعَقْلَ لا يَسْتَقِلُّ بِمَعْرِفَةِ الأَشْيَاءِ الْمُنْجِيَةِ فِى الآخِرَةِ فَفِى بِعْثَةِ الأَنْبِيَاءِ مَصْلَحَةٌ ضَرورِيَّةٌ) لَهُمْ (لِحَاجَتِهِمْ لِذَلِكَ فَاللَّهُ مُتَفَضِّلٌ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ فَهِىَ) إِذًا (سَفَارَةٌ بَيْنَ الْحَقِّ تَعَالَى وَبَيْنَ الْخَلْقِ) تَكَرَّمَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا عَلَى عَبِيدِهِ.


(الْفَرْقُ بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ) غَيْرِ الرُّسُلِ (وَ)الأَنْبِيَاءِ (الرُّسُلِ)


(اعْلَمْ أَنَّ النَّبِىَّ) غَيْرَ الرَّسُولِ (وَ)النَّبِىَّ (الرَّسُولَ يَشْتَرِكَانِ فِى) كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا رَجُلًا أُنْزِلَ عَلَيْهِ (الْوَحْىُ فَكُلٌّ) مِنْهُمَا (قَدْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ بِشَرْعٍ يَعْمَلُ بِهِ لِتَبْلِيغِهِ لِلنَّاسِ) فَلا نُبُوَّةَ فِى النِّسَاءِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ يُوسُفَ وَسُورَةِ النَّحْلِ وَسُورَةِ الأَنْبِيَاءِ ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِى إِلَيْهِمْ﴾ وَلا يَكُونُ نَبِىٌّ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِتَبْلِيغِ النَّاسِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْحَجِّ ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَّسُولٍ وَلا نَبِىٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى﴾ أَىْ إِذَا بَلَّغَ ﴿أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ﴾ فَلا صِحَّةَ لِمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَنَّ النَّبِىَّ غَيْرَ الرَّسُولِ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ بِشَرْعٍ وَلَمْ يُؤْمَرْ بِتَبْلِيغِهِ فَإِنَّهُ لا رِسَالَةَ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَمْرٌ بِالتَّبْلِيغٌ (غَيْرَ أَنَّ) النَّبِىَّ (الرَّسُولَ يَأْتِى بِنَسْخِ بَعْضِ شَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ) أَىْ يُوحِى اللَّهُ إِلَيْهِ بِأَحْكَامٍ تَنْسَخُ قِسْمًا مِنَ الأَحْكَامِ الَّتِى كَانَتْ فِى شَرِيعَةِ الرَّسُولِ الَّذِى قَبْلَهُ أَىْ وَلا تَنْسَخُ بَاقِىَ الأَحْكَامِ فَتَكُونُ الأَحْكَامُ الَّتِى لَمْ تُنْسَخْ شَرِيعَةً لِلرَّسُولِ الْمُتَأَخِّرِ وَلَوْ لَمْ يُنَصَّ لَهُ عَلَيْهَا حُكْمًا حُكْمًا (أَوْ) يَأْتِى الرَّسُولُ الْمُتَأَخِّرُ (بِشَرْعٍ جَدِيدٍ) يَنْسَخُ شَرْعَ الرَّسُولِ الَّذِى قَبْلَهُ فَلا تَكُونُ أَحْكَامُ شَرْعِ الرَّسُولِ الْمُتَقَدِّمِ شَرْعًا لِلرَّسُولِ الْمُتَأَخِّرِ إِلَّا مَا نُصَّ لَهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْهَا (وَ)أَمَّا (النَّبِىُّ غَيْرُ الرَّسُولِ) فَإِنَّهُ (يُوحَى إِلَيْهِ لِيَتَّبِعَ شَرْعَ رَسُولٍ قَبْلَهُ وَلِيُبَلِّغَهُ) هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِى ذَكَرَهُ الإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِىُّ وَغَيْرُهُ فِى الْفَرْقِ بَيْنَ النَّبِىِّ الرَّسُولِ وَالنَّبِىِّ غَيْرِ الرَّسُولِ (فَلِذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ كُلُّ رَسُولٍ نَبِىٌّ وَلَيْسَ كُلُّ نَبِىٍّ رَسُولًا) وَلَوْ كَانَ النَّبِىُّ غَيْرُ الرَّسُولِ إِنْسَانًا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ بِشَرْعٍ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِتَبْلِيغِهِ لَمَا صَحَّتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ وَلا اسْتَقَامَتْ (ثُمَّ أَيْضًا يَفْتَرِقَانِ) أَىِ الرِّسَالَةُ وَالنُّبُوَّةُ (فِى أَنَّ الرِّسَالَةَ يُوصَفُ بِهَا الْمَلَكُ وَالْبَشَرُ) فَيُقَالُ أَرْسَلَ اللَّهُ جِبْرِيلَ إِلَى النَّبِيِّينَ كَمَا يُقَالُ أَرْسَلَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الإِنْسِ وَالْجِنِّ (وَالنُّبُوَّةَ لا تَكُونُ إِلَّا فِى الْبَشَرِ) فَلا نَبِىَّ مِنَ الْمَلائِكَةِ وَلا نَبِىَّ مِنَ الْجِنِّ.


(مَا يَجِبُ لِلأَنْبِيَاءِ وَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمْ)


(يَجِبُ لِلأَنْبِيَاءِ الصِّدْقُ) أَىْ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ كُلُّ نَبِىٍّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ صَادِقًا (وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الْكَذِبُ) فَلَمْ يَصْدُرْ مِنْ نَبِىٍّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ كَذْبَةٌ قَطُّ لا صَغِيرَةٌ وَلا كَبِيرَةٌ (وَتَجِبُ لَهُمُ الْفَطَانَةُ) أَىِ الذَّكَاءُ (وَ)إِلَّا لَعَجَزُوا عَنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الْكُفَّارِ وَعَنْ إِرْشَادِ النَّاسِ إِلَى مَصَالِحِ ءَاخِرَتِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَلِذَا (يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمْ) أَىْ لا يَلِيقُ بِأَىٍّ مِنْهُمُ (الْبَلادَةُ) فِى الذِّهْنِ (وَالْغَبَاوَةُ) أَىْ ضَعْفُ الْفَهْمِ فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مُتَّصِفًا بِذَلِكَ (وَتَجِبُ لَهُمْ) أَىْ لِكُلِّ نَبِىٍّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ (الأَمَانَةُ) فَلا تَصْدُرُ مِنْ أَىٍّ مِنْهُمْ خِيَانَةٌ فِى قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ حَالٍ وَقَدْ رَفَعَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَعْلَى مَقَامَهُمْ وَاصْطَفَاهُمْ عَلَى الْبَشَرِ وَاخْتَارَهُمْ لِرِسَالاتِهِ وَلِذَلِكَ حَفِظَهُمْ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِى لا تَلِيقُ بِمَقَامِهِمُ الْعَالِى هَذَا (فَالأَنْبِيَاءُ سَالِمُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْكَبَائِرِ) قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا وَذَلِكَ بِالإِجْمَاعِ (وَ)هُمْ سَالِمُونَ مِنَ الْوُقُوعِ فِى (صَغَائِرِ الْخِسَّةِ) أَىِ الَّتِى تَدُلُّ عَلَى دَنَاءَةٍ فِى نَفْسِ فَاعِلِهَا كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا أَيْضًا وَبِالإِجْمَاعِ كَذَلِكَ (وَهَذِهِ) أَىِ السَّلامَةُ مِنَ الْكُفْرِ وَالْكَبَائِرِ وَصَغَائِرِ الْخِسَّةِ (هِىَ الْعِصْمَةُ الْوَاجِبَةُ) أَىِ اللَّازِمَةُ (لَهُمْ) كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الأَشْعَرِىُّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرُهُ (وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الْخِيَانَةُ) كَمَا تَقَدَّمَ.

(وَيَجِبُ لَهُمُ الصِّيَانَةُ فَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الرَّذَالَةُ) وَهِىَ صِفَاتُ الدُّونِ مِنَ النَّاسِ كَاخْتِلاسِ النَّظَرِ إِلَى امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ بِشَهْوَةٍ (وَ)يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ (السَّفَاهَةُ) أَىِ التَّصَرُّفُ بِخِلافِ الْحِكْمَةِ كَالَّذِى يَشْتِمُ يَمِينًا وَشِمَالًا (وَ)يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ (الْجُبْنُ) فَكُلُّهُمْ ثَابِتُو الْقَلْبِ شُجْعَانٌ (وَ)كَذَا (كُلُّ مَا يُنَفِّرُ عَنْ قَبُولِ الدَّعْوَةِ مِنْهُمْ) فَكُلُّهُمْ لا يُقَصِّرُونَ فِى التَّبْلِيغِ فُصَحَاءُ يُحْسِنُونَ التَّعْبِيرَ عَمَّا يُرِيدُونَ وَلَيْسَ فِى أَلْسِنَتِهِمْ عِلَّةٌ تَجْعَلُ كَلامَهُمْ غَيْرَ مَفْهُومٍ لِلسَّامِعِينَ وَلا يَحْصُلُ مِنْهُمْ سَبْقُ لِسَانٍ لا فِى الشَّرْعِيَّاتِ وَلا فِى الْعَادِيَّاتِ وَكُلُّهُمْ ثَابِتُو الْعُقُولِ لا يُصِيبُهُمْ جُنُونٌ وَلا تَغْلِبُهُمْ سَوْدَاءُ وَلا يَصْرَعُهُمُ الْجِنُّ وَلا يُؤَثِّرُ السِّحْرُ فِى عُقُولِهِمْ وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الإِغْمَاءُ وَالنِّسْيَانُ الَّذِى لا يَخْدِشُ مَرْتَبَتَهُمْ (وَكَذَلِكَ) كَانُوا جَمِيعًا ذَوِى خِلْقَةٍ سَوِيَّةٍ وَوُجُوهٍ حَسَنَةٍ وَأَصْوَاتٍ حَسَنَةٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَعْرَجُ وَلا كَسِيحٌ وَلا أَعْمَى خِلْقَةً بَلْ (يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمْ كُلُّ مَرَضٍ مُنَفِّرٍ) لِلنَّاسِ مِنْهُمْ كَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ وَخُرُوجِ الدُّودِ مِنَ الْوَجْهِ وَالْبَدَنِ.

هَذَا مُخْتَصَرُ مَا يَجِبُ لِأَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمْ وَهُوَ أَمْرٌ مَعْرِفَتُهُ مُهِمَّةٌ وَمُتَأَكِّدَةٌ فَإِنَّ وَصْفَهُمْ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ بِمَا لا يَلِيقُ بِهِمْ شَدِيدُ الْخَطَرِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ مُسْلِمٍ أَنَّ صَفِيَّةَ زَوْجَ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَتْهُ بِحَاجَةٍ تُكَلِّمُهُ بِهَا فَمَرَّ بِهِمَا رَجُلانِ فَلَمَّا رَأَيَا انْشِغَالَهُ مَعَهَا أَسْرَعَا بِالْمَسِيرِ فَنَادَاهُمَا وَقَالَ هَذِهِ صَفِيَّةُ فَقَالا سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِى مِنِ ابْنِ ءَادَمَ مَجْرَى الدَّمِ فِى الْعُرُوقِ وَإِنِّى خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِى قُلُوبِكُمَا شَيْئًا أَىْ مِمَّا لا يَلِيقُ نِسْبَتُهُ إِلَى نَبِىٍّ فَتَهْلِكَا اﻫ (فَمَنْ نَسَبَ إِلَيْهِمُ الْكَذِبَ أَوِ الْخِيَانَةَ أَوِ الرَّذَالَةَ أَوِ السَّفَاهَةَ أَوِ الْجُبْنَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ) مِمَّا يَحُطُّ مِنْ مَرْتَبَتِهِمْ كَمَنْ زَعَمَ بِأَنَّ أَصْلَ سَيِّدِنَا ءَادَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ قِرْدٌ (فَقَدْ كَفَرَ).


(الْمُعْجِزَةُ)


(اعْلَمْ أَنَّ السَّبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ النَّبِىِّ الْمُعْجِزَةُ) وَلِذَلِكَ أَعْطَاهَا اللَّهُ لِكُلِّ نَبِىٍّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ (وَهِىَ أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ) أَىْ مُخَالِفٌ لَهَا كَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ فَلْقَتَيْنِ بِإِشَارَةِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَأْتِى عَلَى وَفْقِ دَعْوَى مَنِ ادَّعَوِا النُّبُوَّةَ) أَىْ مُوَافِقًا لِدَعْوَاهُمْ لا يُنَاقِضُهَا وَهُوَ (سَالِمٌ مِنَ الْمُعَارَضَةِ بِالْمِثْلِ) أَىْ لا يَسْتَطِيعُ مُعَارِضٌ لَهُمْ أَنْ يَأْتِىَ بِمِثْلِ مَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْخَوَارِقِ (فَمَا كَانَ مِنَ الأُمُورِ عَجِيبًا وَلَمْ يَكُنْ خَارِقًا لِلْعَادَةِ) كَحِفْظِ أَبْيَاتِ شِعْرٍ بِمُجَرَّدِ سَمَاعِهَا مِنَ الْمَرَّةِ الأُولَى وَكَسُرْعَةِ حِسَابِ نَتِيجَةِ الضَّرْبِ أَوِ الْجَمْعِ أَوِ الطَّرْحِ أَوِ الْقِسْمَةِ فِى الْحِسَابِ مِنْ غَيْرِ الِاسْتِعَانَةِ بِالْكِتَابَةِ فِى ذَلِكَ وَكَحِفْظِ كِتَابٍ مِنْ عِدَّةِ مُجَلَّدَاتٍ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ وَكَالْغَوْصِ تَحْتَ الْمَاءِ لِمُدَّةِ خَمْسِ دَقَائِقَ بِنَفَسٍ وَاحِدٍ (فَلَيْسَ بِمُعْجِزَةٍ. وَكَذَلِكَ مَا كَانَ خَارِقًا لَكِنَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ) أَىْ لَمْ يَدَّعِ الشَّخْصُ الَّذِى حَصَلَ هَذَا الْخَارِقُ عَلَى يَدِهِ أَنَّهُ نَبِىٌّ (كَالْخَوَارِقِ الَّتِى تَظْهَرُ عَلَى أَيْدِى الأَوْلِيَاءِ أَتْبَاعِ الأَنْبِيَاءِ) كَتَنَاوُلِهِمُ السُّمَّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَضَرَّرُوا وَدُخُولِهِمُ النَّارَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْتَرِقُوا وَنَحْوِ ذَلِكَ (فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُعْجِزَةٍ) لِلْوَلِىِّ الَّذِى يَحْصُلُ لَهُ (بَلْ يُسَمَّى كَرَامَةً) وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِنَ الْخَوَارِقِ غَيْرَ مُوَافِقٍ لِلدَّعْوَى كَالَّذِى حَصَلَ لِمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ فَإِنَّهُ مَسَحَ عَلَى وَجْهِ رَجُلٍ أَعْوَرَ لِيُشْفَى فَعَمِيَتْ عَيْنُهُ الأُخْرَى فَلَيْسَ مُعْجِزَةً (وَكَذَلِكَ لَيْسَ مِنَ الْمُعْجِزَةِ مَا يُسْتَطَاعُ مُعَارَضَتُهُ بِالْمِثْلِ) بِأَنْ يَعْتَرِضَ شَخْصٌ عَلَى فَاعِلِهِ قَائِلًا لَهُ أَنْتَ لَسْتَ نَبِيًّا وَهَا أَنَا ذَا أَفْعَلُ كَمِثْلِ فِعْلِكَ ثُمَّ يَأْتِىَ بِخَارِقٍ يُشْبِهُ الْخَارِقَ الَّذِى فَعَلَهُ الآخَرُ وَذَلِكَ (كَالسِّحْرِ فَإِنَّهُ) يَحْصُلُ مِنْهُ خَوَارِقُ أَحْيَانًا لَكِنَّهُ (يُعَارَضُ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ) وَكَمْ مِنْ سَاحِرٍ قَلَّدَ سَاحِرًا ءَاخَرَ وَأَتَى بِمِثْلِ مَا فَعَلَ وَأَمَّا مُعْجِزَاتُ الأَنْبِيَاءِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ مُنْذُ حَصَلَتْ لَهُمْ إِلَى يَوْمِنَا أَنْ يُعَارِضَهَا بِالْمِثْلِ.

(وَالْمُعْجِزَةُ قِسْمَانِ قِسْمٌ يَقَعُ بَعْدَ اقْتِرَاحٍ مِنَ النَّاسِ عَلَى الَّذِى ادَّعَى النُّبُوَّةَ) أَىْ بَعْدَ أَنْ يَطْلُبُوا مِنْهُ أَنْ يُرِيَهُمْ ءَايَةً تَشْهَدُ لِصِدْقِهِ (وَقِسْمٌ يَقَعُ مِنْ غَيْرِ اقْتِرَاحٍ) أَىْ طَلَبٍ مِنْ أَحَدٍ (فَالأَوَّلُ نَحْوُ نَاقَةِ صَالِحٍ الَّتِى خَرَجَتْ مِنَ الصَّخْرَةِ اقْتَرَحَ قَوْمُهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا مَبْعُوثًا إِلَيْنَا لِنُؤْمِنَ بِكَ فَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ نَاقَةً وَفَصِيلَهَا فَأَخْرَجَ لَهُمْ) مِنْ جَوْفِ الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ (نَاقَةً مَعَهَا فَصِيلُهَا أَىْ وَلَدُهَا) مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهَا أَبٌ وَلا أُمٌّ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ تَتَطَوَّرَ مِنْ صِغَرٍ إِلَى كِبَرٍ وَكَانَ يَكْفِيهِمْ جَمِيعًا لَبَنُهَا (فَانْدَهَشُوا) مِنْ هَذَا الْخَارِقِ الَّذِى حَصَلَ عَلَى يَدَيْهِ (فَآمَنُوا بِهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَاذِبًا فِى قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ لَمْ يَأْتِ بِهَذَا الأَمْرِ الْعَجِيبِ الْخَارِقِ لِلْعَادَةِ الَّذِى لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَنْ يُعَارِضَهُ بِمِثْلِ مَا أَتَى بِهِ) وَنَزَلَ هَذَا الأَمْرُ مَنْزِلَةَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى صَدَقَ عَبْدِى فِى مَا يُبَلِّغُهُ عَنِّى (فَثَبَتَتِ الْحُجَّةُ) عَلَى الَّذِينَ عَلِمُوهُ وَقَامَتْ (عَلَيْهِمْ وَلا يَسَعُهُمْ إِلَّا الإِذْعَانُ) لِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِىُّ (وَالتَّصْدِيقُ) بِهِ (لِأَنَّ الْعَقْلَ يُوجِبُ تَصْدِيقَ مَنْ أَتَى بِمِثْلِ هَذَا الأَمْرِ الَّذِى لا يُسْتَطَاعُ مُعَارَضَتُهُ بِالْمِثْلِ مِنْ قِبَلِ الْمُعَارِضِينَ فَمَنْ لَمْ يُذْعِنْ وَعَانَدَ يُعَدُّ مُهْدِرًا لِقِيمَةِ الْبُرْهَانِ الْعَقْلِىِّ) وَإِنَّمَا شَأْنُ الْمُعْجِزَةِ الْحَاصِلَةِ فِى هَذِهِ الْحَالِ كَمَا لَوْ كَانَ لِمَلِكٍ عَادَةً بِالْخُرُوجِ كُلَّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً بَيْنَ حَاشِيَتِهِ وَجُنْدِهِ فَيَخْرِقُ بِهِمْ شَوَارِعَ بَلَدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَوَقَّفَ أَوْ يُشِيرَ إِلَى إِنْسَانٍ مِنَ الرَّعِيَّةِ أَوْ يُكَلِّمَهُ ثُمَّ تَعَرَّضَ لَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فِى يَوْمِ مَوْكِبِهِ فَقَالَ أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّهُ قَدْ حَصَلَ مَعِى كَذَا وَكَذَا وَأَنْتَ تَعْلَمُ ذَلِكَ وَتَعْرِفُهُ وَلَيْسَ يُصَدِّقُنِى أَهْلِى عَلَيْهِ فَإِنْ كُنْتَ تُصَدِّقُنِى عَلَى مَا أَقُولُ فَتَوَقَّفْ وَاتْرُكْ مَوْكِبَكَ وَجِئْ إِلَىَّ حَتَّى أُقَبِّلَ يَدَكَ فَفَعَلَ الْمَلِكُ مَا طَلَبَ فَإِنَّ هَذَا مِنَ الْمَلِكِ يَكُونُ بِمَثَابَةِ قَوْلِهِ قَدْ صَدَقَ هَذَا الإِنْسَانُ فِيمَا يَنْسُبُ إِلَىَّ وَيَقُولُ عَنِّى.

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِى وَهُوَ الَّذِى يَقَعُ مِنْ غَيْرِ اقْتِرَاحٍ فَكَحَادِثَةِ تَكَلُّمِ الذِّئْبِ وَشَهَادَتِهِ الَّتِى رَوَاهَا أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ وَأَبُو سَعِيدٍ الْمَالِينِىُّ وَالْبَيْهَقِىُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِى الدَّلائِلِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَسَعِيدُ ابْنُ مَنْصُورٍ فِى سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِى هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُمْ وَفِيهَا أَنَّهُ بَيْنَمَا رَاعٍ يَرْعَى بِالْحَرَّةِ إِذْ عَرَضَ ذِئْبٌ لِشَاةٍ مِنْ شِيَاهِهِ فَحَالَ الرَّاعِى بَيْنَ الذِّئْبِ وَالشَّاةِ فَقَالَ الذِّئْبُ تَحُولُ بَيْنِى وَبَيْنَ طَعَامٍ سَاقَهُ اللَّهُ إِلَىَّ فَقَالَ الرَّاعِى الْعَجَبُ مِنْ ذِئْبٍ يَتَكَلَّمُ بِكَلامِ الإِنْسِ فَقَالَ الذِّئْبُ أَلا أُحَدِّثُكَ بِأَعْجَبَ مِنِّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْحَرَّتَيْنِ يُحَدِّثُ النَّاسَ بِأَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ فَأَتَى الرَّاعِى الْمَدِينَةَ ثُمَّ دَخَلَ عَلَى النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِحَدِيثِ الذِّئْبِ فَأَمَرَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أَنْ يُخْبِرَ النَّاسَ بِمَا حَصَلَ ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَ الرَّاعِى اﻫ الْحَدِيثَ.


بَعْضٌ (مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِى حَصَلَتْ لِمَنْ قَبْلَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)


(وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِى حَصَلَتْ لِمَنْ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مِنَ الأَنْبِيَاءِ (عَدَمُ تَأْثِيرِ النَّارِ الْعَظِيمَةِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بَعْدَمَا رَمَاهُ النُّمْرُودُ فِيهَا (حَيْثُ لَمْ تُحْرِقْهُ وَلا ثِيَابَهُ. وَمِنْهَا انْقِلابُ عَصَا مُوسَى) عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ (ثُعْبَانًا حَقِيقِيًّا) عَظِيمًا (ثُمَّ عَوْدُهَا إِلَى حَالَتِهَا بَعْدَ أَنِ اعْتَرَفَ السَّحَرَةُ الَّذِينَ أَحْضَرَهُمْ فِرْعَوْنُ) وَجَمَعَهُمْ (لِمُعَارَضَتِهِ وَأَذْعَنُوا) لِمَا جَاءَ بِهِ (فَآمَنُوا بِاللَّهِ وَكَفَرُوا بِفِرْعَوْنَ وَاعْتَرَفُوا لِمُوسَى) عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ (بِأَنَّهُ صَادِقٌ فِى مَا جَاءَ بِهِ. وَمِنْهَا مَا ظَهَرَ لِلْمَسِيحِ) عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ (مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى) كَمَا حَصَلَ مَعَ رَجُلٍ مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى النَّعْشِ يَذْهَبُونَ بِهِ لِيَدْفِنُوهُ فَدَعَا الْمَسِيحُ رَبَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يُحْيِيَهُ فَأَحْيَاهُ اللَّهُ تَعَالَى (وَذَلِكَ أَيْضًا لا يُسْتَطَاعُ مُعَارَضَتُهُ بِالْمِثْلِ فَلَمْ تَسْتَطِعِ الْيَهُودُ الَّذِينَ كَانُوا مُولَعِينَ بِتَكْذِيبِهِ وَحَرِيصِينَ عَلَى الِافْتِرَاءِ عَلَيْهِ أَنْ يُعَارِضُوهُ بِالْمِثْلِ. وَقَدْ أَتَى أَيْضًا بِعَجِيبَةٍ أُخْرَى عَظِيمَةٍ وَهِىَ إِبْرَاءُ الأَكْمَهِ) أَىِ الَّذِى وُلِدَ أَعْمَى (فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ مُعَارَضَتَهُ بِالْمِثْلِ مَعَ تَوَفُّرِ الطِّبِّ فِى ذَلِكَ الْعَصْرِ) وَاشْتِهَارِ أَهْلِهِ بِهِ (فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِهِ فِى كُلِّ مَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ وُجُوبِ عِبَادَةِ الْخَالِقِ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ إِشْرَاكٍ بِهِ وَوُجُوبِ مُتَابَعَتِهِ فِى الأَعْمَالِ الَّتِى يَأْمُرُهُمْ بِهَا).

وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ أَكْثَرَ الأَنْبِيَاءِ مُعْجِزَاتٍ حَتَّى قِيلَ بِأَنَّهَا تَبْلُغُ ثَلاثَةَ ءَالافِ مُعْجِزَةٍ.


بَعْضٌ (مِنْ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)


(وَأَمَّا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى جَمِيعِ إِخْوَانِهِ الأَنْبِيَاءِ) وَسَلَّمَ (حَنِينُ الْجِذْعِ( وَهُوَ خَبَرٌ مُتَوَاتِرٌ يُوجِبُ تَوَاتُرُهُ الْعِلْمَ الْقَطْعِىَّ بِمَضْمُونِهِ (وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَنِدُ حِينَ يَخْطُبُ إِلَى جِذْعِ نَخْلٍ فِى مَسْجِدِهِ قَبْلَ أَنْ يُعْمَلَ لَهُ الْمِنْبَرُ) ثُمَّ قِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ عَمِلْنَا لَكَ مِنْبَرًا فَقَالَ افْعَلُوا إِنْ شِئْتُمْ (فَلَمَّا عُمِلَ لَهُ الْمِنْبَرُ صَعِدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَبَدَأَ بِالْخُطْبَةِ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَنَّ الْجِذْعُ) أَىْ بَكَى كَبُكَاءِ الطِّفْلِ الصَّغِيرِ شَوْقًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (حَتَّى سَمِعَ حَنِينَهُ) كُلُّ (مَنْ فِى الْمَسْجِدِ فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْتَزَمَهُ أَىْ ضَمَّهُ وَاعْتَنَقَهُ) فَصَارَ يَخِفُّ بُكَاؤُهُ شَيْئًا فَشَيْئًا كَالطِّفْلِ الصَّغِيرِ إِذَا هُدِّئَ مِنَ الْبُكَاءِ (فَسَكَتَ) اﻫ وَكَانَ الْحَسَنُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ يَقُولُ يَا نَاسُ الْجِذْعُ يَحِنُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْتُمْ أَوْلَى بِأَنْ تَحِنُّوا اﻫ وَلا يَخْفَى مَا يَلْزَمُ مِنْ بُكَاءِ الْجِذْعِ وَشَوْقِهِ مِنْ كَوْنِهِ حَيًّا عِنْدَ ذَلِكَ أَىْ بِحَيَاةٍ تَلِيقُ بِهِ مِنْ غَيْرِ رُوحٍ إِذِ الْقَوْلُ بِكَوْنِ الأَشْجَارِ وَالْجَمَادَاتِ لَهَا أَرْوَاحٌ تَكْذِيبٌ لِلنُّصُوصِ وَخَرْقٌ لِلإِجْمَاعِ.

(وَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْطَاقُ الْعَجْمَاءِ أَىِ الْبَهِيمَةِ) الَّتِى لا تَتَكَلَّمُ فَقَدْ (رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ) فِى مُسْنَدِهِ (وَالْبَيْهَقِىُّ) فِى الدَّلائِلِ (بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ يَعْلَى بنِ مُرَّةَ الثَّقَفِىِّ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ بَيْنَمَا نَسِيرُ مَعَ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ مَرَّ بِنَا بَعِيرٌ يُسْنَى عَلَيْهِ) أَىْ يُحْمَلُ عَلَيْهِ الْمَاءُ لِيُنْقَلَ مِنْ مَكَانٍ إِلَى ءَاخَرَ (فَلَمَّا رَءَاهُ الْبَعِيرُ جَرْجَرَ) أَىْ أَخْرَجَ صَوْتًا مِنْ حَلْقِهِ (فَوَضَعَ جِرَانَهُ) أَىْ خَفَضَ مُقَدَّمَ عُنُقِهِ (فَوَقَفَ عَلَيْهِ) أَىْ عِنْدَهُ (النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَيْنَ صَاحِبُ هَذَا الْبَعِيرِ فَجَاءَهُ فَقَالَ بِعْنِيهِ فَقَالَ بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّهُ لِأَهْلِ بَيْتٍ مَا لَهُمْ مَعِيشَةٌ غَيْرُهُ) أَىْ يُحَصِّلُونَ مَعِيشَتَهُمْ مِنَ الأُجْرَةِ الَّتِى يَأْخُذُونَهَا لِلنَّقْلِ عَلَيْهِ (فَقَالَ النَّبِىُّ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ أَمْرِهِ فَإِنَّهُ شَكَى كَثْرَةَ الْعَمَلِ وَقِلَّةَ الْعَلَفِ فَأَحْسِنُوا إِلَيْهِ) اﻫ (وَأَخْرَجَ ابْنُ شَاهِينَ فِى دَلائِلِ النُّبُوَّةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ جَعْفَرٍ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُما (قَالَ أَرْدَفَنِى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ خَلْفَهُ) أَىْ أَرْكَبَنِى خَلْفَهُ عَلَى الْبَعِيرِ (فَدَخَلَ حَائِطَ) أَىْ بُسْتَانَ (رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَإِذَا جَمَلٌ) هُنَاكَ (فَلَمَّا رَأَى النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَنَّ) أَىْ بَكَى كَالطِّفْلِ (فَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ فَأَتَاهُ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ) أَىِ الْمَوْضِعَ الَّذِى يَعْرَقُ مِنْهُ خَلْفَ أُذُنِهِ (فَسَكَنَ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ فَجَاءَ فَتًى مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ هَذَا لِى فَقَالَ أَلا تَتَّقِى اللَّهَ فِى هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِى مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا فَإِنَّهُ شَكَى إِلىَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ) أَىْ تُتْعِبُهُ (وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ كَمَا قَالَ الْمُحَدِّثُ) الْحَافِظُ مُحَمَّدُ (مُرْتَضَى) الْحُسَيْنِىُّ نَسَبًا (الزَّبِيدِىُّ) ثُمَّ الْمِصْرِىُّ مَوْطِنًا (فِى شَرْحِ إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ) الْمُسَمَّى إِتْحَافَ السَّادَةِ الْمُتَّقِينَ.

(وَمِنْهَا تَفَجُّرُ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بِالْمُشَاهَدَةِ فِى عِدَّةِ مَوَاطِنَ) أَىْ مَوَاضِعَ (فِى مَشَاهِدَ عَظِيمَةٍ) مِنَ النَّاسِ (وَرَدَتْ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ يُفِيدُ مَجْمُوعُهَا الْعِلْمَ الْقَطْعِىَّ الْمُسْتَفَادَ مِنَ التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِىِّ) فَإِنَّ كُلًّا مِنْ هَذِهِ الْحَوَادِثِ رُوِيَتْ بِطَرِيقِ الأَفْرَادِ لَكِنَّهَا كُلَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى أَمْرٍ مُشْتَرَكٍ حَصَلَ فِيهَا كُلِّهَا وَهُوَ نُبُوعُ الْمَاءِ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَكُونُ هَذَا الأَمْرُ الْمُشْتَرَكُ قَدْ تَوَاتَرَ أَىْ رُوِىَ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ يَقْتَضِى مَجْمُوعُهَا الْقَطْعَ بِحُصُولِهِ وَذَلِكَ كَكَرَمِ حَاتِمٍ الطَّائِىِّ فَإِنَّ كُلَّ حَادِثَةٍ مِنْ حَوَادِثِ كَرَمِهِ رُوِيَتْ مِنْ طَرِيقٍ لا يَبْلُغُ التَّوَاتُرَ لَكِنَّ كُلًّا مِنْهَا فِيهِ ذِكْرُ كَرَمِهِ وَهُوَ أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهَا كُلِّهَا وَهِىَ حَوَادِثُ كَثِيرَةٌ رُوِيَتْ مِنْ طُرُقٍ عَدِيدَةٍ تَنَاقَلَهَا النَّاسُ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ وَطَبَقَةً بَعْدَ طَبَقَةٍ بِحَيْثُ لا يُقْبَلُ اتِّفَاقُهُمْ جَمِيعِهِمْ عَلَى الْكَذِبِ بِشَأْنِ كَرَمِهِ فَمِثْلُ هَذَا يُقَالُ لَهُ تَوَاتُرٌ مَعْنَوِىٌّ لا يَسَعُ الْعَاقِلَ أَنْ يَنْفِيَهُ وَيُكَذِّبَ بِهِ (وَ)أَمْرُ نُبُوعِ الْمَاءِ مِنَ الْيَدِ (لَمْ يَحْصُلْ لِغَيْرِ نَبِيِّنَا) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الأَنْبِيَاءِ (حَيْثُ نَبَعَ) الْمَاءُ (مِنْ عَظْمِهِ وَعَصَبِهِ وَلَحْمِهِ وَدَمِهِ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ تَفَجُّرِ الْمِيَاهِ مِنَ الْحَجَرِ الَّذِى ضَرَبَهُ مُوسَى) فَإِنَّ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَدْ خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِحَجَرٍ يَحْمِلُهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ مَعَهُمْ فِى سَفَرِهِمْ فَإِذَا احْتَاجُوا الْمَاءَ ضَرَبَهُ سَيِّدُنَا مُوسَى بِعَصَاهُ فَتَخْرُجُ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا مِنَ الْمَاءِ عَلَى عَدَدِ أَسْبَاطِ بَنِى إِسْرَائِيلَ فَيَسْتَقِى كُلُّ سِبْطٍ مِنْ عَيْنٍ مِنْهَا لَكِنَّ نُبُوعَ الْمَاءِ مِنْ يَدِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْجَبُ (لِأَنَّ خُرُوجَ الْمَاءِ مِنَ الْحِجَارَةِ مَعْهُودٌ بِخِلافِهِ مِنْ بَيْنِ اللَّحْمِ وَالدَّمِ). وَخَبَرُ نُبُوعِ الْمَاءِ مِنْ يَدِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ (رَوَاهُ) عِدَّةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ (جَابِرٌ وَأَنَسٌ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو لَيْلَى الأَنْصَارِىُّ وَأَبُو رَافِعٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ) بِلَفْظِ (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ حَانَتْ صَلاةُ الْعَصْرِ وَالْتَمَسَ الْوَضُوءَ) بِفَتْحِ الْوَاوِ أَىْ طَلَبَ مَاءً يَتَوَضَّأُ بِهِ (فَلَمْ يَجِدُوهُ فَأُتِىَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَضُوءٍ) بِفَتْحِ الْوَاوِ قَلِيلٍ (فَوَضَعَ يَدَهُ فِى ذَلِكَ الإِنَاءِ فَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَتَوَضَّئُوا فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ أَصَابِعِهِ فَتَوَضَّأَ النَّاسُ حَتَّى تَوَضَّئُوا مِنْ عِنْدِ ءَاخِرِهِمْ) اﻫ (وَفِى رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِىِّ قَالَ الرَّاوِى لِأَنَسٍ كَمْ كُنْتُمْ قَالَ ثَلاثَمِائَةٍ) اﻫ (وَ)هَذَا مَا حَصَلَ فِى أَحَدِ الْمَوَاطِنِ وَفِى بَعْضِ الْمَوَاطِنِ الأُخْرَى كَانَ عَدَدُهُمْ أَكْثَرَ فَقَدْ (رَوَى الْبُخَارِىُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَيْضًا) قَالَ (عَطِشَ النَّاسُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ) إِذْ لَمْ يَجِدُوا مَاءً (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ يَتَوَضَّأُ مِنْهَا فَجَهَشَ النَّاسُ) أَىْ أَقْبَلُوا إِلَيْهِ (فَقَالَ مَا لَكُمْ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ عِنْدَنَا مَا نَتَوَضَّأُ بِهِ وَلا مَا نَشْرَبُهُ إِلَّا مَا بَيْنَ يَدَيْكَ فَوَضَعَ يَدَهُ فِى الرَّكْوَةِ فَجَعَلَ الْمَاءُ يَفُورُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ كَأَمْثَالِ الْعُيُونِ فَشَرِبْنَا وَتَوَضَّأْنَا فَقِيلَ كَمْ كُنْتُمْ قَالَ لَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا كُنَّا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً) اﻫ أَىْ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَة (وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمَاءَ كَانَ يَنْبُعُ مِنْ نَفْسِ اللَّحْمِ الْكَائِنِ فِى الأَصَابِعِ) أَىْ أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ نَفْسِ يَدِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا مُرُورًا مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ الَّتِى كَانَتْ فِى الرَّكْوَةِ (وَبِهِ صَرَّحَ النَّوَوِىُّ فِى شَرْحِ مُسْلِمٍ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ جَابِرٍ فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَخْرُجُ وَفِى رِوَايَةٍ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ) اﻫ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

(وَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رَدُّ عَيْنِ قَتَادَةَ) بنِ النُّعْمَانِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (بَعْدَ انْقِلاعِهَا فَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِىُّ فِى الدَّلائِلِ عَنْ قَتَادَةَ بنِ النُّعْمَانِ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّهُ أُصِيبَتْ عَيْنُهُ يَوْمَ بَدْرٍ فَسَالَتْ حَدَقَتُهُ عَلَى وَجْنَتِهِ فَأَرَادُوا أَنْ يَقْطَعُوهَا) فَإِنَّهُ لا يَنْتَفِعُ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ عَادَةً (فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَقَالَ لا) أَىْ لا تَقْطَعُوهَا (فَدَعَا بِهِ فَغَمَزَ حَدَقَتَهُ بِرَاحَتِهِ) فَشُفِيَتْ عَيْنُهُ (فَكَانَ) بَعْدَ ذَلِكَ (لا يَدْرِى أَىَّ عَيْنَيْهِ أُصِيبَتْ اﻫ وَفِى هَاتَيْنِ الْمُعْجِزَتَيْنِ) أَىْ نُبُوعِ الْمَاءِ مِنَ الْيَدِ وَإِبْرَاءِ عَيْنِ قَتَادَةَ (قَالَ بَعْضُ الْمَادِحِينَ شِعْرًا مِنَ الْبَسِيطِ

إِنْ كَانَ مُوسَى سَقَى الأَسْبَاطَ مِنْ حَجَرٍ فَإِنَّ فِى الْكَفِّ مَعْنًى لَيْسَ فِى الْحَجَــــــــــرِ

إِنْ كَانَ عِيسَى بَرَا الأَعْمَى بِدَعْوَتِـــــــــهِ فَكَمْ بِرَاحَتِـِه قَــــــــــــــــــــــــدْ رَدَّ مِنْ بَصَـرِ)

وَمَعْنَى قَوْلِهِ إِنْ كَانَ عِيسَى بَرَا الأَعْمَى بِدَعْوَتِهِ أَىْ إِنْ كَانَ الأَعْمَى بَرِئَ بِدَعْوَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ. وَقَدْ قَالَ إِمَامُنَا مُحَمَّدُ بنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِىُّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ مَا أَعْطَى اللَّهُ نَبِيًّا مُعْجِزَةً إِلَّا وَأَعْطَى مُحَمَّدًا مِثْلَهَا أَوْ أَعْظَمَ مِنْهَا فَقِيلَ لَهُ إِنَّ عِيسَى أَحْيَا الْمَوْتَى فَقَالَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَنَّ الْجِذْعُ إِلَيْهِ وَهَذَا أَكْبَرُ اﻫ أَىْ لِأَنَّ الْمَيِّتَ كَانَ لَهُ عَهْدٌ بِالْحَيَاةِ وَأَمَّا الْجِذْعُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ بِالْحَنِينِ.

(وَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (تَسْبِيحُ الطَّعَامِ فِى يَدِهِ) فَقَدْ (أَخْرَجَ الْبُخَارِىُّ مِنْ حَدِيثِ) عَبْدِ اللَّهِ (بنِ مَسْعُودٍ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ كُنَّا نَأْكُلُ مَعَ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّعَامَ وَنَحْنُ نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ) اﻫ (وَهَذِهِ الْمُعْجِزَاتُ الثَّلاثُ) أَىْ تَسْبِيحُ الطَّعَامِ وَحَنِينُ الْجِذْعِ وَنُبُوعُ الْمَاءِ (أَعْجَبُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى الَّذِى هُوَ إِحْدَى مُعْجِزَاتِ الْمَسِيحِ) عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى وِزَانِ قَوْلِ الشَّافِعِىِّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ.

(وَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإِسْرَاءُ) مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ (وَ)تَلا ذَلِكَ (الْمِعْرَاجُ) مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى السَّمَوَاتِ السَّبْعِ ثُمَّ إِلَى مَا فَوْقَهَا وَالرُّجُوعُ إِلَى مَكَّةَ فِى أَقَلَّ مِنْ لَيْلَةٍ وَ(الإِسْرَاءُ ثَبَتَ بِنَصِّ الْقُرْءَانِ وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ) وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْحَقِّ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى حُصُولِهِ (فَيَجِبُ الإِيمَانُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْرَى اللَّهُ بِهِ لَيْلًا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى) بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ وَفِى الْيَقَظَةِ (وَأَمَّا الْمِعْرَاجُ فَقَدْ ثَبَتَ بِنَصِّ الأَحَادِيثِ وَأَمَّا الْقُرْءَانُ فَلَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ نَصًّا صَرِيحًا لا يَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا لَكِنَّهُ وَرَدَ فِيهِ مَا يَكَادُ يَكُونُ نَصًّا صَرِيحًا) وَلِذَلِكَ لا يُكَفَّرُ مُنْكِرُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُعَانِدًا وَأَمَّا الإِسْرَاءُ فَمُنْكِرُهُ مُكَذِّبٌ لِصَرِيحِ الْقُرْءَانِ (فَالإِسْرَاءُ قَدْ جَاءَ فِيهِ) صَرِيحُ (قَوْلِهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الإِسْرَاءِ ﴿سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾ أَىْ تنَزَّهَ اللَّهُ الَّذِى أَسْرَى بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَصَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ بِعَبْدِهِ فِى هَذِهِ الآيَةِ مَعَ أَنَّ عَبِيدَ اللَّهِ كَثِيرٌ إِظْهَارًا لِشَرَفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ فِى مَكَّةَ ﴿إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَا﴾ فِى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ﴿الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ أَىْ جَعَلْنَا الْبَرَكَةَ فِيمَا حَوْلَهُ مِنْ بِلادِ الشَّامِ ﴿لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَاتِنَا﴾ أَىْ لِأَجْلِ أَنْ نُطْلِعَهُ عَلَى عَجَائِبِ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِى تَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَسُمِّىَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ كَذَلِكَ لِحُرْمَتِهِ أَىْ لِشَرَفِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ وَسُمِّىَ الْمَسْجِدُ الأَقْصَى كَذَلِكَ لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿لَيْلًا﴾ مَعَ أَنَّ الإِسْرَاءَ لا يَكُونُ إِلَّا فِى اللَّيْلِ فَأُرِيدَ مِنْهُ تَأْكِيدُ تَقْلِيلِ مُدَّةِ الإِسْرَاءِ وَأَنَّهَا كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ (أَمَّا الْمِعْرَاجُ فَقَدْ وَرَدَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى) فِى سُورَةِ النَّجْمِ (﴿وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾) أَىْ رَأَى مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ مَرَّةً ثَانِيَةً (﴿عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى﴾) وَهِىَ شَجَرَةٌ أَصْلُهَا فِى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ وَتَمْتَدُّ إِلَى السَّابِعَةِ (﴿عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى﴾) وَهَذِهِ الآيَاتُ فِيهَا شِبْهُ تَصْرِيحٍ بِصُعُودِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّمَوَاتِ (فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ) تَعَالَى (﴿وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ رُؤْيَةً مَنَامِيَّةً قُلْنَا هَذَا تَأْوِيلٌ) لِلَفْظِ ﴿رَءَاهُ﴾ أَىْ إِخْرَاجٌ لَهُ عَنْ ظَاهِرِهِ الَّذِى يُفِيدَ الرُّؤْيَةَ بِالْعَيْنِ إِلَى مَعْنًى بَعِيدٍ وَهُوَ رُؤْيَا الْمَنَامِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ عَقْلِىٍّ وَلا نَقْلِىٍّ (وَ)هَذَا مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ (لا يَسُوغُ تَأْوِيلُ النَّصِّ) الْقُرْءَانِىِّ أَوِ الْحَدِيثِىِّ (أَىْ إِخْرَاجُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ لِغَيْرِ دَلِيلٍ عَقْلِىٍّ قَاطِعٍ أَوْ سَمْعِىٍّ ثَابِتٍ كَمَا قَالَهُ الرَّازِىُّ فِى الْمَحْصُولِ) إِذِ التَّأْوِيلُ بِلا دَلِيلٍ عَبَثٌ تُصَانُ عَنْهُ نُصُوصُ الشَّرِيعَةِ (وَلَيْسَ هُنَا دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ) أَىْ عَلَى التَّأْوِيلِ وَكَانَ الإِسْرَاءُ رُكُوبًا عَلَى الْبُرَاقِ وَهُوَ دَابَّةٌ مِنْ دَوَابِّ الْجَنَّةِ وَالْعُرُوجُ إِلَى السَّمَاءِ بِوَاسِطَةِ الْمِعْرَاجِ أَىِ الْمِرْقَاةِ وَهُوَ شِبْهُ السُّلَّمِ دَرَجَاتُهُ وَاحِدَةٌ مِنْهَا مِنْ فِضَّةٍ وَالأُخْرَى مِنْ ذَهَبٍ وَهَكَذَا (وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أُتِيْتُ) أَىْ أَتَانِى جِبْرِيلُ (بِالْبُرَاقِ وَهُوَ دَابَّةٌ) أَىْ مِنْ دَوَابِّ الْجَنَّةِ (أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ) أَىْ يَضَعُ رِجْلَهُ فِى الْمَوْضِعِ الَّذِى يَنْتَهِى إِلَيْهِ نَظَرُهُ فَتَسَعُ كُلُّ خَطْوَةٍ مِنْ خَطَوَاتِهِ مَدَّ بَصَرِهِ (قَالَ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلَقَةِ الَّتِى يَرْبِطُ بِهَا الأَنْبِيَاءُ قَالَ ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ) أَىِ الأَقْصَى (فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ) أَىْ إِمَامًا بِالأَنْبِيَاءِ جَمِيعًا (ثُمَّ خَرَجْتُ فَجَائَنِى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ) أَىْ مِنْ خَمْرِ الْجَنَّةِ اللَّذِيذِ الَّذِى لا يُسْكِرُ وَلا يُصْدِعُ الرَّأْسَ (وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ) أَىْ غَيْرِ رَائِبٍ (فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ فَقَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ) اﻫ أَىْ مَا يُوَافِقُ الْعَهْدَ الَّذِى أُخِذَ عَلَى الأَرْوَاحِ يَوْمَ أَلَسْتُ أَىْ مَا يُوَافِقُ الدِّينَ أَىِ التَّمَسُّكَ بِالدِّينِ وَقِيلَ لَهُ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ اﻫ رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ وَغَيْرُهُ (قَالَ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ إِلَى ءَاخِرِ الْحَدِيثِ. وَفِى الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الإِسْرَاءَ وَالْمِعْرَاجَ كَانَا فِى لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ) كَمَا يَظْهَرُ وَاضِحًا مِنْ سِيَاقِهِ وَكَانَا (بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ يَقَظَةً) كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ تَوَافُقُ ظَوَاهِرِ الرِّوَايَاتِ وَلَمْ يَكُنِ الْمِعْرَاجُ رُؤْيَا مَنَامٍ (إِذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّهُ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَصَلَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ نَامَ. أَمَّا رُؤْيَةُ النَّبِىِّ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لِرَبِّهِ) تَعَالَى بِقَلْبِهِ لا بِبَصَرِهِ فِى تِلْكَ اللَّيْلَةِ أَىْ فِى (لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ فَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِىُّ فِى الْمُعْجَمِ الأَوْسَطِ بِإِسْنَادٍ قَوِىٍّ) كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ (رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ مَرَّتَيْنِ) اﻫ (وَرَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ بِإِسْنَادٍ قَوِىٍّ) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ) اﻫ (وَالْمُرَادُ أَنَّهُ رَءَاهُ بِقَلْبِهِ) أَىْ أَزَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَلْبِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحِجَابَ وَجَعَلَ لِقَلْبِهِ قُوَّةَ الرَّؤْيَةِ وَالنَّظَرِ فَرَأَى الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ بِهَذِهِ الرَّؤْيَةِ (بِدَلِيلِ حَدِيثِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِى الْعَالِيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ قَالَ رَأَى رَبَّهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ) اﻫ

(تَنْبِيهٌ. قَالَ الْغَزَالِىُّ فِى إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ الصَّحِيحُ أَنَّ النَّبِىَّ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَمْ يَرَ رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ) اﻫ (وَمُرَادُهُ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ بِعَيْنِهِ إِذْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَأَيْتُهُ بِعَيْنِى وَلا أَنَّ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ أَوِ التَّابِعِينَ أَوْ أَتْبَاعِهِمْ قَالَ رَءَاهُ بِعَيْنَىْ رَأْسِهِ).


(وَجْهُ دِلالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى صِدْقِ النَّبِىِّ)


(الأَمْرُ الْخَارِقُ الَّذِى يَظْهَرُ عَلَى يَدِ مَنِ ادَّعَوُا النُّبُوَّةَ مَعَ التَّحَدِّى مَعَ عَدَمِ مُعَارَضَتِهِ بِالْمِثْلِ) وَهُوَ الَّذِى نُسَمِّيهِ الْمُعْجِزَةَ (نَازِلٌ مَنْزِلَةَ قَوْلِ اللَّهِ صَدَقَ عَبْدِى فِى كُلِّ مَا يُبَلِّغُ عَنِّى أَىْ) كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ صَدَقَ عَبْدِى مُوسَى فِى كُلِّ مَا يُبَلِّغُ عَنِّى وَصَدَقَ عَبْدِى عِيسَى فِى كُلِّ مَا يُبَلِّغُ عَنِّى وَصَدَقَ عَبْدِى مُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِمْ فِى كُلِّ مَا يُبَلِّغُ عَنِّى إِذْ (لَوْلا أَنَّهُ صَادِقٌ فِى دَعْوَاهُ لَمَا أَظْهَرَ اللَّهُ لَهُ هَذِهِ الْمُعْجِزَةَ فَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ صَدَقَ عَبْدِى هَذَا الَّذِى ادَّعَى النُّبُوَّةَ فِى دَعْوَاهُ لِأَنِّى أَظْهَرْتُ لَهُ هَذِهِ الْمُعْجِزَةَ لِأَنَّ الَّذِى يُصَدِّقُ الْكَاذِبَ) أَىْ يَقُولُ بِصِدْقِ الْكَذِبَ الَّذِى يَعْلَمُ أَنَّ الْكَاذِبَ يَفْتَرِيهِ (كَاذِبٌ) مِثْلُهُ (وَاللَّهُ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا خَلَقَهُ) أَىْ خَلَقَ الأَمْرَ الْخَارِقَ الْمُعْجِزَ (لِتَصْدِيقِهِ) أَىْ لِتَصْدِيقِ مَنْ حَصَلَ عَلَى يَدِهِ. وَلا يَخْفَى مَا هُوَ مِنَ الأُمُورِ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ (إِذْ كُلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى وَقَلْبَ الْعَصَا ثُعْبَانًا وَإِخْرَاجَ نَاقَةٍ مِنْ صَخْرَةٍ صَمَّاءَ لَيْسَ بِمُعْتَادٍ).


(السَّبِيلُ إِلَى الْعِلْمِ بِالْمُعْجِزَةِ بِالْقَطْعِ وَالْيَقِينِ) أَىِ الطَّرِيقُ إِلَى الْعِلْمِ قَطْعًا وَيَقِينًا بِحُصُولِ الْمُعْجِزَةِ.


(الْعِلْمُ) أَىِ الْقَطْعِىُّ (بِالْمُعْجِزَاتِ يَحْصُلُ) بِطَرِيقَيْنِ (بِالْمُشَاهَدَةِ لِمَنْ شَاهَدُوهَا وَبِبُلُوغِ خَبَرِهَا بِطَرِيقِ التَّوَاتُرِ فِى حَقِّ مَنْ لَمْ يَشْهَدْهَا) وَالتَّوَاتُرُ مَعْنَاهُ انْتِقَالُ الْخَبَرِ عَنْ عَدَدٍ كَبِيرٍ شَهِدَ الْمُعْجِزَةَ بِوَاسِطَةِ عَدَدٍ كَبِيرٍ يَنْقُلُ عَنْهُمْ وَهَكَذَا فِى كُلِّ طَبَقَةٍ إِلَى أَنْ يَصِلَ الْخَبَرُ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ وَمِنْ هَذَا الطَّرِيقِ إِلَيْنَا وَيَكُونُ الْعَدَدُ فِى كُلِّ طَبَقَةٍ بِحَيْثُ لا يُمْكِنُ أَنْ يَتَوَاطَئُوا عَلَى الْكَذِبِ (وَذَلِكَ كَعِلْمِنَا بِالْبُلْدَانِ النَّائِيَةِ وَالْحَوَادِثِ التَّارِيخِيَّةِ الثَّابِتَةِ) يَقِينًا (الْوَاقِعَةِ لِمَنْ قَبْلَنَا مِنَ الْمُلُوكِ وَالأُمَمِ) كَمَعْرِفَتِنَا بِوُجُودِ الصِّينِ وَالْيَابَانِ وَإِنْ لَمْ نَرَهُمَا وَوُجُودِ حَاتِمٍ الطَّائِىِّ وَهَارُونَ الرَّشِيدِ وَسَلاطِينِ الدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ وَمُلُوكِ فَرَنْسَا وَبِريطَانِيَا وَنَحْوِهِمْ وَإِنْ كُنَّا لَمْ نُشَاهِدْهُمْ (وَ)لَمْ نَلْتَقِ بِهِمْ إِذِ (الْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ يَقُومُ مَقَامَ الْمُشَاهَدَةِ). وَبِقَوْلِنَا عَدَدٍ كَبِيرٍ شَهِدَ الْمُعْجِزَةَ أَخْرَجْنَا مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ عَدَدٌ كَبِيرٌ لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَنْ شُهُودٍ حِسِّىٍّ بَلْ كَانَ اتِّفَاقًا عَلَى قَضِيَّةٍ عَقْلِيَّةٍ فَإِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ لا تُعَدُّ خَبَرًا مُتَوَاتِرًا وَبِقَوْلِنَا فِى كُلِّ طَبَقَةٍ أَخْرَجْنَا الْخَبَرَ الَّذِى مَرْجِعُهُ الْحِسُّ وَالْمُشَاهَدَةُ لَكِنْ نَقَصَ عَدَدُ نَاقِلِيهِ فِى بَعْضِ الطَّبَقَاتِ عَنِ التَّوَاتُرِ فَإِنَّهُ لا يُعَدُّ عِنْدَئِذٍ مُتَوَاتِرًا وَلا يُوجِبُ الْعِلْمَ الْقَطْعِىَّ الضَّرُورِىَّ. وَقَدْ ثَبَتَ نَقْلُ قِسْمٍ مِنْ مُعْجِزَاتِ الأَنْبِيَاءِ وَمِنْ بَيْنِهَا بَعْضُ مُعْجِزَاتِ رَسُولِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَذَلِكَ كَالْقُرْءَانِ الْكَرِيمِ وَحَنِينِ الْجِذْعِ وَنُبُوعِ الْمَاءِ مِنْ يَدِهِ الشَّرِيفَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَوَجَبَ الإِذْعَانُ لِمَنْ أَتَى بِهَا) أَىْ بِالْمِعْجِزَةِ الْمَنْقُولَةِ بِالتَّوَاتُرِ (عَقْلًا كَمَا أَنَّهُ وَاجِبٌ شَرْعًا) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ مُعَانِدًا مُهْدِرًا لِقِيمَةِ الدَّلِيلِ الْعَقْلِىِّ.


(الإِيمَانُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ) لِقِسْمٍ مِنَ النَّاسِ (وَنَعِيمِهِ) لِقِسْمٍ مِنْهُمْ (وَسُؤَالِهِ)


(قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) فِى سُورَةِ غَافِرٍ (﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾) وَالْمَعْنَى أَنَّ النَّارَ تُعْرَضُ عَلَيْهِمْ فَفِى الآيَةِ قَلْبٌ لِلْمُبَالَغَةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الشَّيْخَيْنِ وَابْنِ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا أَىْ يَحْصُلُ لَهُمْ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً أَوَّلَ النَّهَارِ وَمَرَّةً ءَاخِرَ النَّهَارِ وَالآيَةُ صَرِيحَةٌ فِى أَنَّ هَذَا الْعَرْضَ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِى الدُّنْيَا فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حُصُولُهُ بَعْدَ الدَّفْنِ وَلِذَلِكَ قَالَ الْبِقَاعِىُّ فِى نَظْمِ الدُّرَرِ إِنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَصٌّ فِى عَذَابِ الْقَبْرِ كَمَا نُقِلَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَمُحَمَّدِ بنِ كَعْبٍ اﻫ (وَقَالَ تَعَالَى) فِى سُورَةِ طَه (﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِى﴾) أَىْ أَعْرَضَ عَنِ الإِيمَانِ (﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾) أَىْ مَعِيشَةً ضَيِّقَةً ﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ فَفِى الآيَةِ بَيَانُ أَنَّ الْمَعِيشَةَ الضَّيِّقَةَ تَحْصُلُ لَهُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَقَدْ فَسَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَذَابِ الْقَبْرِ كَمَا رَوَاهُ مَرْفُوعًا ابْنُ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِىُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْبَيْهَقِىُّ مِنْ طَرِيقِهِ وَطَرِيقِ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا (فَهَاتَانِ الآيَتَانِ وَارِدَتَانِ فِى عَذَابِ الْقَبْرِ لِلْكُفَّارِ وَأَمَّا عُصَاةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الَّذِينَ مَاتُوا قَبْلَ التَّوْبَةِ فَهُمْ صِنْفَانِ صِنْفٌ يُعْفِيهِمُ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ) فَلا يُصِيبُهُمْ (وَصِنْفٌ يُعَذِّبُهُمُ) اللَّهُ فِى الْقَبْرِ (ثُمَّ يَنْقَطِعُ عَنْهُمُ) الْعَذَابُ (وَيُؤَخَّرُ لَهُمْ بَقِيَّةُ عَذَابِهِمْ إِلَى الآخِرَةِ فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِىُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِىُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِىُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ (مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ) أَىْ أَثْبَتَ لَهُمَا الْعَذَابَ فِى الْقَبْرِ (وَمَا يُعَذَّبَانِ فِى كَبِيرِ إِثْمٍ) أَىْ بِحَسَبِ مَا يَتَوَهَّمُ النَّاسُ (قَالَ بَلَى) أَىْ فِى الْحَقِيقَةِ إِنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ فِى ذَنْبٍ كَبِيرٍ (أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَمْشِى بِالنَّمِيمَةِ) وَهِىَ نَقْلُ الْكَلامِ بَيْنَ اثْنَيْنِ لِلإِفْسَادِ بَيْنَهُمَا (وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ) أَىْ لا يَتَنَزَّهُ مِنَ الْبَوْلِ بَلْ يَتَلَوَّثُ بِهِ (ثُمَّ دَعَا) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بِعَسِيبٍ رَطْبٍ) أَىْ بِغُصْنِ نَخْلٍ أَخْضَرَ (فَشَقَّهُ اثْنَيْنِ فَغَرَسَ عَلَى هَذَا وَاحِدًا) مِنْ جِهَةِ رَأْسِهِ (وَعَلَى هَذَا وَاحِدًا) مِنْ جِهَةِ رَأْسِهِ أَيْضًا (ثُمَّ قَالَ لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا) أَىْ لَعَلَّ عَذَابُ الْقَبْرِ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا دَامَ هَذَانِ الشِّقَانِ رَطْبَيْنِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ الْبُخَارِىِّ وَفِيهَا لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا اﻫ قَالَ ابْنُ دَقِيقٍ الْعِيد فِى إِحْكَامِ الأَحْكَامِ وَغَيْرُهُ إِنَّ التَّسْبِيحَ إِذَا حَصَلَ بِحَضْرَةِ الْمَيِّتِ حَصَلَتْ لَهُ بَرَكَتُهُ فَخُفِّفَ عَنْهُ مِنَ الْعَذَابِ وَهَذَا يَطَّرِدُ فِى كُلِّ مَا فِيهِ رُطُوبَةٌ فِى النَّبَاتِ وَكَذَلِكَ مَا فِيهِ بَرَكَةٌ كَالذِّكْرِ وَتِلاوَةِ الْقُرْءَانِ مِنْ بَابِ أَوْلَى اهـ وَلِهَذَا اسْتَحَبَّ الْعُلَمَاءُ قِرَاءَةَ الْقُرْءَانِ عِنْدَ الْقَبْرِ وَأَمَّا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ أَنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَأَحْبَبْتُ بِشَفَاعَتِى أَنْ يُرَفَّهَ عَنْهُمَا فَلَيْسَ فِيهِ نَفْىُ فَائِدَةِ الْجَرِيدِ الرَّطْبِ بَلْ تَشَفَّعَ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَكُونَ فِى تَسْبِيحِ الْجَرِيدِ الأَخْضَرِ فَائِدَةٌ لِلْمَيِّتِ الْمُسْلِمِ فَيُخَفَّفُ عَنْهُمَا بِذَلِكَ ثُمَّ يَنْسَحِبُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَكُونُ بَعْدَهُمَا وَلِهَذَا أَوْصَى بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَنْ يُجْعَلَ عَلَى قَبْرِهِ الْجَرِيدُ وَكَذَا بَعْضُ التَّابِعِينَ وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ بَعْدَهُمْ فِى الأُمَّةِ إِلَى أَيَّامِنَا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ نَفْعٌ فِى وَضْعِ الْجَرِيدِ عَلَى الْقَبْرِ لَمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ لَكَانَ عَبَثًا وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ مُنَزَّهٌ عَنْهُ بَلِ الأَصْلُ فِى أَفْعَالِهِ هَذِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ أَنَّهَا لِلتَّعْلِيمِ وَلِتَقْتَدِىَ بِهَا الأُمَّةُ لا لِلْخُصُوصِيَّةِ كَمَا ذَكَرَهُ الأُصُولِيُّونَ.

(وَاعْلَمْ أَنَّهُ ثَبَتَ فِى الأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ) الْمَرْفُوعَةِ وَالْمَوْقُوفَةِ (عَوْدُ الرُّوحِ إِلَى الْجَسَدِ فِى الْقَبْرِ) أَىْ بَعْدَ الدَّفْنِ (كَحَدِيثِ الْبَرَاءِ بنِ عَازِبٍ) الطَّوِيلِ (الَّذِى رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِىُّ وَأَبُو عَوَانَةَ وَصَحَّحَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ) وَفِيهِ وَيُعَادُ الرُّوحُ إِلَى جَسَدِهِ اﻫ (وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا (مَرْفُوعًا مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِى الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِلَّا عَرَفَهُ وَرَدَّ عَلَيْهِ السلَّامَ) اﻫ (رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ) فِى التَّمْهِيدِ وَالِاسْتِذْكَارِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ كَمَا نَقَلَ الْمُنَاوِىُّ فِى فَيْضِ الْقَدِيرِ عَنِ الْحَافِظِ الْعِرَاقِىِّ (وَ)رَوَاهُ الْحَافِظُ (عَبْدُ الْحَقِّ الإِشْبِيلِىُّ وَصَحَّحَهُ) فِى كِتَابِ الْعَاقِبَةِ لَهُ (فَيَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ رُجُوعَ الرُّوحِ إِلَى الْبَدَنِ كُلِّهِ وَذَلِكَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَوْ إِلَى بَعْضِهِ. وَيَتَأَكَّدُ عَوْدُ الْحَيَاةِ فِى الْقَبْرِ إِلَى الْجَسَدِ مَزِيدَ تَأَكُّدٍ فِى حَقِّ الأَنْبِيَاءِ فَإِنَّهُ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ (الأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ فِى قُبُورِهِمْ يُصَلُّونَ) اﻫ (صَحَّحَهُ) الْحَافِظُ (الْبَيْهَقِىُّ) فِى جُزْءِ حَيَاةِ الأَنْبِيَاءِ (وَأَقَرَّهُ الْحَافِظُ) ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلانِىُّ فَحَكَمَ بِقُوَّتِهِ فِى الْفَتْحِ وَيَشْهَدُ لَهُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ لَيْلَةَ الإِسْرَاءِ بِقَبْرِ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّى فِيهِ اﻫ وَغَيْرُ ذَلِكَ (وَرَوَى الْبُخَارِىُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِى قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ إِذَا انْصَرَفُوا أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولانِ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِى هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ) أَىِ الْكَامِلُ (فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ فَيُقَالُ لَهُ انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا) أَىْ وَيَعْرِفُ حِينَذَاكَ فَضْلَ الإِسْلامِ مَعْرِفَةً عِيَانِيَّةً كَمَا كَانَ يَعْرِفُ فِى الدُّنْيَا مَعْرِفَةً قَلْبِيَّةً (وَأَمَّا الْكَافِرُ أَوِ الْمُنَافِقُ) شَكَّ الرَّاوِى (فَيَقُولُ لا أَدْرِى كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِيهِ فَيُقَالُ) أَىْ لَهُ (لا دَرَيْتَ وَلا تَلَيْتَ) أَىْ لا عَرَفْتَ إِهَانَةً لَهُ (ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ بَيْنَ أُذُنَيْهِ) أَىْ ضَرْبَةً لَوْ ضُرِبَ بِهَا الْجَبَلُ لَانْدَكَّ (فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ) أَىْ مِنْ حَيَوَانٍ (إِلَّا الثَّقَلَيْنِ) أَىِ الإِنْسَ وَالْجِنَّ فَإِنَّ اللَّهَ حَجَبَ تِلْكَ الصَّيْحَةَ عَنْ أَسْمَاعِهِمْ وَلَوْلا ذَلِكَ لَمَا تَدَافَنَ النَّاسُ. (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَمْرِو) بنِ الْعَاصِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ فَتَّانَىِ الْقَبْرِ) أَىِ الْمَلَكَيْنِ اللَّذَيْنِ يَمْتَحِنَانِ النَّاسَ فِى الْقَبْرِ (فَقَالَ عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَتُرَدُّ عَلَيْنَا عُقُولُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ) أَىْ عِنْدَ السُّؤَالِ (قَالَ نَعَمْ كَهَيْئَتِكُمُ الْيَوْمَ) اﻫ أَىْ فَيَكُونُ الْجَوَابُ بِالْجَسَدِ وَالرُّوحِ (قَالَ فَبِفِيهِ الْحَجَرُ) أَىْ فَسَكَتَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَانْقَطَعَ عَنِ الْكَلامِ لِأَنَّهُ سَمِعَ خِلافَ مَا كَانَ يَظُنُّهُ (وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قُبِرَ الْمَيِّتُ أَوِ الإِنْسَانُ) شَكَّ الرَّاوِى (أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ) أَىْ لَوْنُهُمَا أَسْوَدُ مَمْزُوجٌ بِزُرْقَةٍ (يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا مُنْكَرٌ وَلِلآخَرِ نَكِيرٌ فَيَقُولانِ لَهُ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِى هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ قَائِلٌ) أَىْ فِى الْجَوَابِ لَهُمَا (مَا كَانَ يَقُولُ) أَىْ قَبْلَ الْمَوْتِ (فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا قَالَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَيَقُولانِ لَهُ إِنْ كُنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّكَ لَتَقُولُ ذَلِكَ ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِى قَبْرِهِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا فِى سَبْعِينَ ذِرَاعًا) أَىْ إِنْ كَانَ تَقِيًّا (وَيُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ فَيُقَالُ لَهُ نَمْ فَيَنَامُ كَنَوْمِ الْعَرُوسِ الَّذِى لا يُوقِظُهُ إِلَّا أَحَبُّ أَهْلِهِ) إِلَيْهِ أَىْ بِلا قَلَقٍ وَلا وَحْشَةٍ (حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا) أَىْ وَمِثْلُهُ الْكَافِرُ الْمُعْلِنُ (قَالَ لا أَدْرِى كُنْتُ أَسْمَعُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَكُنْتُ أَقُولُهُ فَيَقُولانِ لَهُ إِنْ كُنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ ذَلِكَ ثُمَّ يُقَالُ لِلأَرْضِ الْتَئِمِى فَتَلْتَئِمُ عَلَيْهِ) أَىْ فَتَضِيقُ (حَتَّى تَخْتَلِفَ أَضْلاعُهُ) أَىْ تَتَشَابَكَ (فَلا يَزَالُ مُعَذَّبًا حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ) اﻫ (وَالْحَدِيثَانِ رَوَاهُمَا ابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُمَا) وَرَوَاهُمَا غَيْرُهُ كَذَلِكَ (فَفِى الأَوَّلِ مِنْهُمَا إِثْبَاتُ عَوْدِ الرُّوحِ إِلَى الْجَسَدِ فِى الْقَبْرِ وَالإِحْسَاسِ وَفِى الثَّانِى إِثْبَاتُ اسْتِمْرَارِ الرُّوحِ فِى الْقَبْرِ وَإِثْبَاتُ النَّوْمِ) فِيهِ (وَذَلِكَ مَا لَمْ يَبْلَ الْجَسَدُ) وَأَمَّا بَعْدَ بِلاهُ فَالرُّوحُ تَنْتَقِلُ مِنَ الْقَبْرِ وَلا تَكُونُ فِيهِ. (وَهَذَا النَّعِيمُ) فِى الْقَبْرِ هُوَ (لِلْمُؤْمِنِ الْقَوِىِّ وَهُوَ الَّذِى يُؤَدِّى الْفَرَائِضَ وَيَجْتَنِبُ الْمَعَاصِىَ وَهُوَ الَّذِى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَسَنَتُهُ) أَىْ دَارُ جُوعٍ وَضِيقٍ لَهُ أَىْ إِنَّ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ لِمَا يَلْقَاهُ مِنَ النَّعِيمِ فِى الآخِرَةِ كَالسِّجْنِ وَالسَّنَةِ (فَإِذَا فَارَقَ الدُّنْيَا فَارَقَ السِّجْنَ وَالسَّنَةَ) اﻫ (حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ يَعْنِى الْمُؤْمِنَ الْكَامِلَ. ثُمَّ إِذَا بَلِىَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا عَجْبُ الذَّنَبِ) وَهُوَ عَظْمٌ صَغِيرٌ قَدْرُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ (يَكُونُ رُوحُ الْمُؤْمِنِ التَّقِىِّ فِى الْجَنَّةِ وَتَكُونُ أَرْوَاحُ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الَّذِينَ مَاتُوا بِلا تَوْبَةٍ بَعْدَ بِلَى الْجَسَدِ فِيمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَبَعْضُهُمْ فِى السَّمَاءِ الأُولَى وَتَكُونُ أَرْوَاحُ الْكُفَّارِ بَعْدَ بِلَى الْجَسَدِ فِى سِجِّينَ وَهُوَ مَكَانٌ فِى الأَرْضِ السُّفْلَى) فَوْقَ جَهَنَّمَ (وَأَمَّا الشُّهَدَاءُ فَتَصْعَدُ أَرْوَاحُهُمْ فَوْرًا إِلَى الْجَنَّةِ) مَعَ أَنَّ أَجْسَادَهُمْ لا تَبْلَى وَتَكُونُ أَرْوَاحُهُمْ فِى جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ وَتَأْوِى إِلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ بِالْعَرْشِ فَتَتَنَعَّمُ أَرْوَاحُهُمْ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ.

(تَنْبِيهٌ. يُسْتَثْنَى مِنَ السُّؤَالِ) أَىْ مِنْ سُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ (النَّبِىُّ وَالشُّهَدَاءُ أَىْ شُهَدَاءُ الْمَعْرَكَةِ وَكَذَلِكَ الطِّفْلُ أَىِ الَّذِى مَاتَ دُونَ الْبُلُوغِ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يُمْكِنُ سُؤَالُ عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنَ الأَمْوَاتِ) الَّذِينَ دُفِنُوا فِى وَقْتٍ وَاحِدٍ (فَالْجَوَابُ مَا قَالَ الْحَـلِـيـمِـىُّ إِنَّ الأَشْبَهَ أَنْ يَكُونَ مَلائِكَةُ السُّؤَالِ جَمَاعَةً كَثِيرَةً يُسَمَّى بَعْضُهُمْ مُنْكَرًا وَبَعْضُهُمْ نَكِيرًا فَيُبْعَثُ إِلَى كُلِّ مَيِّتٍ اثْنَانِ مِنْهُمْ) اﻫ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا اثْنَيْنِ فَقَطْ وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا أَشْبَاحٌ كَثِيرَةٌ تُدِيرُهَا رُوحٌ وَاحِدَةٌ.


(حُكْمُ مُنْكِرِ عَذَابِ الْقَبْرِ)


عَذَابُ الْقَبْرِ لِقِسْمٍ مِنَ النَّاسِ مَعْلُومٌ وُقُوعُهُ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ (وَ)لِذَلِكَ (يَكْفُرُ مُنْكِرُ عَذَابِ الْقَبْرِ) كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ عِدَّةٌ فَإِنَّ مُنْكِرَهُ مُكَذِّبٌ (لِقَوْلِ اللَّهِ) تَعَالَى فِى سُورَةِ غَافِرٍ (﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾) وَهُوَ مُكَذِّبٌ لِأَمْرٍ مَعْلُومٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِالضَّرُورَةِ (بِخِلافِ مُنْكِرِ سُؤَالِهِ فَلا يَكْفُرُ) لِكَوْنِ ذَلِكَ لَيْسَ مِمَّا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ وَلَكِنَّهُ يَفْسُقُ (إِلَّا أَنْ يَكُونَ) إِنْكَارُهُ (عَلَى وَجْهِ الْعِنَادِ) فَإِنَّهُ يَكْفُرُ عِنْدَئِذٍ.


(الْبَعْثُ)


(الْبَعْثُ حَقٌّ) وَاقِعٌ (وَهُوَ خُرُوجُ الْمَوْتَى مِنَ الْقُبُورِ) الَّتِى دُفِنُوا فِيهَا (بَعْدَ إِعَادَةِ الْجَسَدِ الَّذِى أَكَلَهُ التُّرَابُ إِنْ كَانَ مِنَ الأَجْسَادِ الَّتِى يَأْكُلُهَا التُّرَابُ وَهِىَ أَجْسَادُ غَيْرِ الأَنْبِيَاءِ وَشُهَدَاءِ الْمَعْرَكَةِ وَبَعْضِ الأَوْلِيَاءِ لِمَا) صَحَّ فِى حَدِيثِ أَبِى دَاوُدَ وَغَيْرِهِ أَنَّ الأَرْضَ لا تَأْكُلُ أَجْسَادَ الأَنْبِيَاءِ وَلِمَا (تَوَاتَرَ مِنْ مُشَاهَدَةِ) الشُّهَدَاءِ بَعْدَ سِنِينَ طَوِيلَةٍ مِنْ دَفْنِهِمْ لَمْ تَأْكُلِ الأَرْضُ أَجْسَادَهُمْ وَقَدْ شُوهِدَ هَذَا فِى شُهَدَاءِ أُحُدٍ وَغَيْرِهِمْ وَلِمَا ثَبَتَ مِنْ مُشَاهَدَةِ (بَعْضِ الأَوْلِيَاءِ) لَمْ تَبْلَ أَجْسَادُهُمْ عِنْدَ فَتْحِ قُبُورِهِمْ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ مِنْ دَفْنِهِمْ وَمِنْهُمُ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بنُ الصَّلاحِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فُتِحَ قَبْرُهُ بَعْدَ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِمِائَةِ سَنَةٍ مِنْ دَفْنِهِ فَوُجِدَ صَحِيحَ الْجِسْمِ وَالْكَفَنِ. (وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) كَمَا أَخْبَرَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ فِى حَدِيثِ الْبُخَارِىِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ يُفِيقُ مِنَ الصَّعْقَةِ لَكِنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ فَأَجِدُ مُوسَى مُتَعَلِّقًا بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ فَلا أَدْرِى أَأَفَاقَ قَبْلِى أَوْ جُوزِىَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ اﻫ أَىْ فَلَمْ يُصْعَقْ عِنْدَ النَّفْخَةِ الأُولَى فِى الْبُوقِ لِأَنَّهُ كَانَ صُعِقَ فِى الدُّنْيَا قَبْلَ ذَلِكَ وَإِذَا كَانَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَدْرِى هَلْ يَسْبِقُهُ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ بِالإِفَاقَةِ أَوْ لا فَنَحْنُ أَوْلَى بِأَنْ لا نَدْرِىَ أَيَّهُمَا يُبْعَثُ أَوَّلًا (وَ)أَمَّا غَيْرُ الأَنْبِيَاءِ فَقَدْ رُوِىَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ (أَهْلَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ) يَكُونُونَ (مِنْ أَوَّلِ مَنْ يُبْعَثُ).


(الْحَشْرُ)


(وَالْحَشْرُ حَقٌّ) كَائِنٌ (وَهُوَ أَنْ يُجْمَعُوا) أَىِ النَّاسُ (بَعْدَ الْبَعْثِ) وَالْخُرُوجُ مِنَ الْقُبُورِ (إِلَى مَكَانٍ) وَهُوَ أَرْضُ الشَّامِ كَمَا جَاءَ فِى الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ أَرْضَ الشَّامِ تُمَدُّ لِتَكُونَ مَحْشَرَ كُلِّ النَّاسِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهَا مِنَ النَّوَاحِى الْمُخْتَلِفَةِ وَإِنْ كَانَ قِسْمٌ مِنْهُمْ لا يَصِلُها (وَيَكُونُ) ذَلِكَ (عَلَى الأَرْضِ الْمُبَدَّلَةِ وَهِىَ أَرْضٌ مُسْتَوِيَةٌ كَالْجِلْدِ الْمَشْدُودِ لا جِبَالَ فِيهَا وَلا وِدْيَانَ أَكْبَرُ وَأَوْسَعُ مِنْ أَرْضِنَا هَذِهِ بَيْضَاءُ كَالْفِضَّةِ) فَإِنَّ النَّاسَ بَعْدَ الْبَعْثِ يُنْقَلُونَ إِلَى ظُلْمَةٍ عِنْدَ الصِّرَاطِ فَتُبَدَّلُ أَوْصَافُ هَذِهِ الأَرْضِ الَّتِى خَرَجُوا مِنْهَا ثُمَّ يُعَادُونَ إِلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ لِيَكُونَ حَشْرُهُمْ عَلَى الأَرْضِ الْمُبَدَّلَةِ (وَيَكُونُ الْحَشْرُ) لِلنَّاسِ (عَلَى ثَلاثَةِ أَحْوَالٍ قِسْمٌ) مِنْهُمْ (طَاعِمُونَ كَاسُونَ رَاكِبُونَ عَلَى نُوقٍ رَحَائِلُهَا) جَمْعُ رِحَالَةٍ وَكَانَ الْعَرَبُ يُطْلِقُونَهَا عَلَى السَّرْجِ مِنْ جِلْدٍ لَيْسَ فِيهَا خَشَبٌ كَمَا فِى اللِّسَانِ وَأَمَّا رَحَائِلُ هَذِهِ النُّوقِ فَهِىَ (مِنْ ذَهَبٍ وَ)رَاكِبُوهَا (هُمُ الأَتْقِيَاءُ. وَقِسْمٌ) ثَانٍ يُحْشَرُونَ (حُفَاةً عُرَاةً وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ. وَقِسْمٌ) ثَالِثٌ (يُحْشَرُونَ وَ)هُمْ (يُجَرُّونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ وَهُمُ الْكُفَّارُ) بِأَنْوَاعِهِمْ.


(الْحِسَابُ)


(وَالْحِسَابُ حَقٌّ) حَاصِلٌ بِلا رَيْبٍ (وَهُوَ عَرْضُ أَعْمَالِ الْعِبَادِ عَلَيْهِمْ وَيَكُونُ بِتَكْلِيمِ اللَّهِ لِلْعِبَادِ جَمِيعِهِمْ) مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ الذَّاتِىَّ (فَيَفْهَمُونَ مِنْ كَلامِ اللَّهِ) تَعَالَى (السُّؤَالَ عَمَّا فَعَلُوا بِالنِّعَمِ الَّتِى أَعْطَاهُمُ اللَّهُ إِيَّاهَا فَيُسَرُّ الْمُؤْمِنُ التَّقِىُّ وَلا يُسَرُّ الْكَافِرُ لِأَنَّهُ لا حَسَنَةَ لَهُ فِى الآخِرَةِ بَلْ يَكَادُ يَغْشَاهُ الْمَوْتُ) مِنْ شِدَّةِ ضِيقِهِ (فَقَدْ وَرَدَ فِى الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ) مَرْفُوعًا (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ اﻫ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِىُّ) وَقَالَ هَذَا حَسَنٌ صَحِيحٌ. كَمَا يُعْطَى كُلُّ إِنْسَانٍ الْكِتَابَ الَّذِى كَتَبَهُ لَهُ الْمَلَكَانِ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَأْخُذُهُ بِيَمِينِهِ فَإِنْ كَانَ تَقِيًّا قَالَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ فِى الْقُرْءَانِ الْكَرِيمِ فِى سُورَةِ الْحَاقَّةِ ﴿هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّى ظَنَنْتُ أَنِّى مُلاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ﴾ وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَأْخُذُهُ بِشِمَالِهِ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ وَيَقُولُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِى الْقُرْءَانِ ﴿يَا لَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّى مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّى سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ﴾.


(الْمِيزَانُ)


(وَالْمِيزَانُ) أَىْ مِيزَانُ الآخِرَةِ (حَقٌّ وَهُوَ) جِسْمٌ مَحْسُوسٌ (كَمِيزَانِ الدُّنْيَا) مِنْ حَيْثُ تَرْكِيبُهُ وَإِنْ كَانَ أَكْبَرَ مِنْ حَيْثُ حَجْمُهُ (لَهُ قَصَبَةٌ وَعَمُودٌ وَكَفَّتَانِ كَفَّةٌ لِلْحَسَنَاتِ وَكَفَّةٌ لِلسَّيِّئَاتِ تُوزَنُ بِهِ الأَعْمَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) لِيَظْهَرَ مَنْ يَسْتَحِقُّ دُخُولَ الْجَنَّةِ وَمَنْ يَسْتَحِقُّ عَذَابَ النَّارِ (وَالَّذِى يَتَوَلَّى وَزْنَهَا جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ) عَلَيْهِمَا السَّلامُ (وَمَا) الَّذِى (يُوزَنُ) يَوْمَئِذٍ قَالَ بَعْضُهُمُ الأَعْمَالُ نَفْسُهَا يُحَوِّلُهَا اللَّهُ أَجْسَامًا فَتُوزَنُ وَقَالَ ءَاخَرُونَ (إِنَّمَا هُوَ الصَّحَائِفُ الَّتِى كُتِبَ عَلَيْهَا الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ) فَتُوضَعُ صَحَائِفُ الْحَسَنَاتِ فِى كَفَّةٍ وَصَحَائِفُ السَّيِّئَاتِ فِى كَفَّةٍ (فَمَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ فَهُوَ مِنَ أَهْلِ النَّجَاةِ) وَالْفَوْزِ (وَمَنْ تَسَاوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّجَاةِ أَيْضًا وَلَكِنَّهُ أَقَلُّ رُتْبَةً مِنَ الطَّبَقَةِ الأُولَى وَأَرْفَعُ مِنَ الثَّالِثَةِ) وَهَؤُلاءِ هُمْ أَهْلُ الأَعْرَافِ وَهُوَ سُورُ الْجَنَّةِ يَمْكُثُونَ مُدَّةً عَلَيْهِ ثُمَّ يَدْخُلُونَهَا (وَمَنْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ فَهُوَ) مُسْتَحِقٌّ لِلْعَذَابِ وَهُوَ (تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ) مُدَّةً فِى النَّارِ ثُمَّ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ (وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ) فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَذَابٍ (وَأَمَّا الْكَافِرُ فَتَرْجَحُ كَفَّةُ سَيِّئَاتِهِ لا غَيْرُ لِأَنَّهُ لا حَسَنَاتِ لَهُ فِى الآخِرَةِ لِأَنَّهُ أُطْعِمَ بِحَسَنَاتِهِ فِى الدُّنْيَا) كَمَا صَحَّ مَرْفُوعًا فِى حَدِيثِ مُسْلِمٍ وَابْنِ حِبَّانَ وَاللَّفْظُ لَهُ وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِهِ فِى الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الآخِرَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُعْطَى بِهَا خَيْرًا اﻫ.


(الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ)


(الثَّوَابُ) الأُخْرَوِىُّ (عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ لَيْسَ بِحَقٍّ لِلطَّائِعِينَ وَاجِبٍ عَلَى اللَّهِ) إِذْ لا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ شَىْءٌ وَلا يُكْرِهُهُ أَحَدٌ (وَإِنَّمَا هُوَ فَضْلٌ مِنْهُ) وَكَرَمٌ (وَهُوَ الْجَزَاءُ الَّذِى يُجْزَى بِهِ الْمُؤْمِنُ مِمَّا يَسُرُّه فِى الآخِرَةِ) عَلَى مَا عَمِلَ مِنَ الطَّاعَاتِ فِى الدُّنْيَا. (وَالْعِقَابُ لا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ أَيْضًا إِيقَاعُهُ لِلْعُصَاةِ) فِى الآخِرَةِ (وَإِنَّمَا) عِقَابُهُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ (هُوَ عَدْلٌ مِنْهُ وَهُوَ مَا يَسُوءُ الْعَبْدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) جَزَاءً عَلَى مَا ارْتَكَبَهُ مِنَ الْمَعَاصِى (وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ أَكْبَرَ وَأَصْغَرَ فَالْعِقَابُ الأَكْبَرُ هُوَ دُخُولُ النَّارِ) أَىْ جَهَنَّمَ (وَالْعِقَابُ الأَصْغَرُ مَا سِوَى ذَلِكَ) مِنَ الْعَذَابِ وَهُوَ دُونَ عَذَابِ النَّارِ (كَأَذَى حَرِّ الشَّمْسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنَّهَا) تَقْتَرِبُ مِنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ(تُسَلَّطُ عَلَى الْكُفَّارِ فَيَعْرَقُونَ حَتَّى يَصِلَ عَرَقُ أَحَدِهِمْ إِلَى فِيهِ) أَىْ فَمِهِ (وَلا يَتَجَاوَزُ عَرَقُ هَذَا الشَّخْصِ إِلَى شَخْصٍ ءَاخَرَ بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ) وَتَبْلُغُ شِدَّةُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ (حَتَّى يَقُولَ الْكَافِرُ مِنْ شِدَّةِ مَا يُقَاسِى مِنْهَا رَبِّ أَرِحْنِى وَلَوْ إِلَى النَّارِ) وَكُلُّ هَذَا مَذْكُورٌ فِى حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا (وَيَكُونُ الْمُؤْمِنُونَ الأَتْقِيَاءُ تِلْكَ السَّاعَةَ) أَىِ الْمُدَّةَ (تَحْتَ ظِلِّ الْعَرْشِ وَهَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ) الَّذِى أَخْرَجَهُ الْبُخَارِىُّ وَغَيْرُهُ (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِى ظِلِّهِ) يَوْمَ لا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ اﻫ (أَىْ فِى ظِلِّ عَرْشِهِ) وَأَمَّا أَهْلُ الْكَبَائِرِ منَ الْمُؤْمِنِينَ فَيُعَاقَبُونَ بِحَرِّ الشَّمْسِ لَكِنْ عِقَابًا أَقَلَّ مِمَّا يُقَاسِيهِ الْكُفَّارُ.


(الصِّرَاطُ)


(وَالصِّرَاطُ حَقٌّ) يَجِبُ الإِيمَانُ بِهِ وَمَعْنَاهُ لُغَةً الطَّرِيقُ (وَهُوَ) هُنَا (جِسْرٌ عَرِيضٌ مَمْدُودٌ عَلَى جَهَنَّمَ) أَىْ فَوْقَهَا (تَرِدُ عَلَيْهِ الْخَلائِقُ) وَيَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهِ (فَمِنْهُمْ مَنْ يَرِدُهُ وُرُودَ دُخُولٍ) إِلَى النَّارِ (وَهُمُ الْكُفَّارُ وَبَعْضُ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ أَىْ) إِنَّهُمْ (يَزِلُّونَ مِنْهُ إِلَى جَهَنَّمَ) فَالْكَافِرُ يَقَعُ مِنْهُ إِلَى النَّارِ فِى ابْتِدَاءِ وُرُودِهِ وَأَمَّا الْعُصَاةُ الْمَذْكُورُونَ فَيَمْشُونَ عَلَيْهِ مَسَافَةً ثُمَّ يَقَعُونَ مِنْهُ (وَمِنْهُمْ) أَىْ مِنَ النَّاسِ (مَنْ يَرِدُهُ وُرُودَ مُرُورٍ فِى هَوَائِهِ) مِنْ غَيْرِ أَنْ تَمَسَّهُ قَدَمُهُ (فَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يَمُرُّ كَالْبَرْقِ الْخَاطِفِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَطَرْفَةِ عَيْنٍ) كَمَا جَاءَ بِذَلِكَ الْحَدِيثُ (وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ) إِذْ لا يُسَاعِدُ الشَّرْعُ وَلا تُسَاعِدُ اللُّغَةُ عَلَى تَأْوِيلِ هَذَا الْوَارِدِ فِيهِ وَإِخْرَاجِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُرُ الصِّرَاطَ مَشْيًا وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ الْكَلالِيبُ الْمَوْجُودَةُ عَلَى جَانِبَىِ الصِّرَاطِ فَيَكَادُ يَقَعُ ثُمَّ تُفْلِتُهُ فَيَمُرُّ عَلَى الصِّرَاطِ فَهُوَ مَخْدُوشٌ نَاجٍ (وَأَحَدُ طَرَفَيْهِ) أَىِ الصِّرَاطِ (فِى الأَرْضِ الْـمُبَدَّلَةِ وَ)الطَّرَفُ (الآخَرُ فِيمَا يَلِى الْجَنَّةَ) أَىْ فِيمَا هُوَ قَبْلَهَا بَعْدَ النَّارِ. (وَقَد وَرَدَ فِى صِفَتِهِ أَنَّهُ دَحْضٌ مَزَلَّةٌ) أَىْ زَلِقٌ يَزِلُّ عَنْهُ النَّاسُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَجَاءَ فِى ذِكْرِهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ (وَمِمَّا وَرَدَ أَنَّهُ أَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ وَأَدَقُّ مِنَ الشَّعْرَةِ كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ) فِى كِتَابِ الإِيمَانِ مِنْ صَحِيحِهِ (عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ (بَلَغَنِى أَنَّهُ أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرةِ وَأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ) اﻫ (وَلَمْ يَرِدْ ذَلِكَ مَرْفُوعًا) لَفْظًا (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَلَيْسَ الْمُرَادُ ظَاهِرَهُ) أَىْ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الصِّرَاطَ مِنْ حَيْثُ الْحَجْمُ دَقِيقٌ جِدًّا (بَلْ هُوَ عَرِيضٌ) كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ الأَحَادِيثُ (وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّ خَطَرَهُ عَظِيمٌ فَإِنَّ يُسْرَ) أَىْ سُهُولَةَ (الْجَوَازِ) أَىِ الْعُبُورِ (عَلَيْهِ وَعُسْرَهُ عَلَى قَدْرِ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِى وَلا يَعْلَمُ حُدُودَ ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ فَقَدْ وَرَدَ فِى الصَّحِيحِ أَنَّهُ تَجْرِى بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ) اﻫ وَ(مَعْنَاهُ أَنَّ أَعْمَالَهُمْ تَصِيرُ لَهُمْ قُوَّةَ السَّيْرِ) أَىْ كَمَا قَالَ النَّوَوِىُّ فِى شَرْحِ مُسْلِمٍ يَكُونُونَ فِى سُرْعَةِ الْمُرُورِ عَلَى حَسَبِ مَرَاتِبِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ اﻫ


(الْحَوْضُ)


(وَالْحَوْضُ حَقٌّ) يَجِبُ الإِيمَانُ بِهِ (وَهُوَ مَكَانٌ) وَاسِعٌ وَمَجْمَعٌ مِنَ الْمَاءِ كَبِيرٌ (أَعَدَّ اللَّهُ فِيهِ شَرَابًا لِأَهْلِ الْجنَّةِ يَشْرَبُونَ مِنْهُ قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَبَعْدَ مُجَاوَزَةِ الصِّرَاطِ فَلِنَبِيِّنَا) عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ (حَوْضٌ تَرِدُهُ أُمَّتُهُ فَقَطْ لا تَرِدُهُ أُمَمُ غَيْرِهِ طُولُهُ مَسِيرَةُ شَهْرٍ وَعَرْضُهُ كَذَلِكَ ءَانِيَتُهُ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ شَرَابُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَأَطْيَبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ) وَهَلْ هُوَ قَبْلَ الصِّرَاطِ أَوْ بَعْدَهُ أَوْ هُنَاكَ حَوْضَانِ حَوْضٌ قَبْلَ الصِّرَاطِ وَحَوْضٌ بَعْدَهُ أَقْوَالٌ قَالَ شَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ إِنَّ الأَشْبَهَ أَنَّهُ حَوْضٌ وَاحِدٌ بَعْدَ الصِّرَاطِ لِمَا وَرَدَ أَنَّهُ يَنْصَبُّ فِيهِ مِنْ مَاءِ الْجَنَّةِ (وَقَدْ أَعَدَّ اللَّهُ) تَعَالَى (لِكُلِّ نَبِىٍّ حَوْضًا) تَشْرَبُ مِنْهُ أُمَّتُهُ (وَأَكْبَرُ الأَحْوَاضِ حَوْضُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).



(صِفَةُ الْجَنَّةِ)


(وَالْجَنَّةُ حَقٌّ فَيَجِبُ الإِيمَانُ بِهَا وَأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ الآنَ كَمَا يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ) قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِى (الْقُرْءَانِ) فِى سُورَةِ ءَالِ عِمْرَانَ ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ النَّجْمِ ﴿عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى﴾ أَىْ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (وَ)كَـمَا يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِى (الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ) دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءُ اﻫ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ (وَهِىَ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ لَيْسَتْ مُتَّصِلَةً بِهَا) أَعْلاهَا الْفِرْدَوْسُ (وَسَقْفُهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ) وَهُوَ أَوْسَعُ مِنْهَا (وَأَهْلُهَا) أَىْ مَنْ يَدْخُلُهَا مِنَ الْبَشَرِ (عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ ءَادَمَ سِتُّونَ ذِرَاعًا طُولًا فِى سَبْعَةِ أَذْرُعٍ عَرْضًا جَمِيلُو الصُّورَةِ جُرْدٌ) أَىْ لا شَعَرَ عَلَى أَجْسَادِهِمْ (مُرْدٌ) أَىْ لا لِحًى لَهُمْ فَلَيْسَ لَهُمْ شَعَرٌ إِلَّا شَعَرُ الرَّأْسِ وَالأَجْفَانِ وَالْحَاجِبَيْنِ وَكُلُّهُمْ كَأَنَّهُمْ (فِى عُمْرِ ثَلاثَةٍ وَثَلاثِينَ عَامًا خَالِدُونَ فِيهَا) لا يَمُوتُونَ وَ(لا يَخْرُجُونَ مِنْهَا أَبَدًا) وَلا يَنْقَطِعُ نَعِيمُهُمْ (وَ)مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِى طُولِهِمْ وَعَرْضِهِمْ (قَدْ صَحَّ) بِهِ (الْحَدِيثُ بِأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ ءَادَمَ سِتُّونَ ذِرَاعًا فِى السَّمَاءِ) اﻫ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِىُّ زَادَ أَحْمَدُ (فِى سَبْعَةِ أَذْرُعٍ عَرْضًا) اﻫ (وَقَالَ رَسُولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِى وَصْفِهَا) أَىِ الْجَنَّةِ هَلْ مُشَمِّرٌ لِلْجَنَّةِ فَإِنَّ الْجَنَّةَ لا خَطَرَ لَهَا أَىْ لا مِثْلَ لَهَا (هِىَ وَرَبِّ الْكَعْبةِ نُورٌ يتَلأْلأُ) أَىْ هِىَ مَمْلُوءَةٌ بِالأَنْوَارِ (وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ) أَىْ ذَاتُ خُضْرَةٍ كَثِيرَةٍ يَانِعَةٍ مُعْجِبَةِ الْمَنْظَرِ (وَقَصْرٌ مَشِيدٌ) أَىْ ذَاتُ قُصُورٍ عَالِيَةٍ مُرْتَفِعَةٍ (وَنَهْرٌ مُطَّرِدٌ) أَىْ ذَاتُ أَنْهَارٍ جَارِيَةٍ (وَفَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ نَضِيجَةٌ) أَىْ فَاكِهَةٌ لَذِيذَةٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِى يُرْغَبُ فِيهِ أَكْلُهَا (وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ) أَىْ زَوْجَاتٌ أَبْكَارٌ خِمَارُ إِحْدَاهُنَّ عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَهُوَ لا يَحْجُبُ جَمَالَ شَعْرِهَا (وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ) تَتَفَتَّقُ عَنْهَا شَجَرَةٌ تُسَمَّى طُوبَى (فِى مُقَامٍ أَبَدِىٍّ) أَىْ يَمْكُثُ فِيهَا أَهْلُهَا بِلا انْتِهَاءٍ وَلا خُرُوجٍ (فِى حَبْرَةٍ) أَىْ سُرُورٍ دَائِمٍ (وَنَضْرَةٍ) بِحَيْثُ تَكُونُ وُجُوهُ أَهْلِهَا حَسَنَةً لَيْسَ عَلَيْهَا كَآبَةٌ قَالُوا نَحْنُ الْمُشَمِّرُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ قُولُوا إِنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ ذَكَرَ الْجِهَادَ وَحَثَّ عَلَيْهِ اﻫ (رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ).


(صِفَةُ جَهَنَّمَ)


(وَالنَّارُ حَقٌّ) مَوْجُودَةٌ (فَيَجِبُ الإِيمَانُ بِهَا وَبِأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ الآنَ كَمَا يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنَ الآيَاتِ وَالأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ) قَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْبَقَرَةِ ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ وَاطَّلَعْتُ فِى النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاء اﻫ أَىْ رَأَى عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ مِثَالَ مَا سَيَكُونُ عَلَيْهِ الْحَالُ فِى الآخِرَةِ (وَهِىَ مَكَانٌ أَعَدَّهُ اللَّهُ) تَعَالَى (لِعَذَابِ الْكُفَّارِ الَّذِى لا يَنْتَهِى أَبَدًا وَبَعْضِ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ) مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الَّذِينَ يُعَذَّبُونَ مُدَّةً ثُمَّ يُخْرَجُونَ مِنْهَا إِلَى الْجَنَّةِ (وَمَكَانُهَا تَحْتَ الأَرْضِ السَّابِعَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلةً بِهَا) أَىْ أَنَّ الأَرْضَ السَّابِعَةَ عَالَمٌ مُسْتَقِلٌّ وَالنَّارُ تَحْتَهَا عَالَمٌ مُسْتَقِلٌّ (وَ)هِىَ نَارٌ حِسِّيَّةٌ عَذَابُهَا شَدِيدٌ كَمَا جَاءَ فِى كِتَابِ اللَّهِ وَثَبَتَ فِى حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ نَارَ الدُّنْيَا مَهْمَا اشْتَدَّتْ لا تَزِيدُ عَنْ جُزْءٍ مِنْ سَبْعِينَ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ الَّتِى أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى احْمَرَّتْ ثُمَّ أَلْفًا حَتَّى ابْيَضَّتْ ثُمَّ أَلْفًا حَتَّى اسْوَدَّتْ فَهِىَ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ يَتَعَذَّبُ فِيهَا مَنْ يَدْخُلُهَا بِالرُّوحِ وَالْجَسَدِ وَ(يَزِيْدُ اللَّهُ فِى حَجْمِ الْكَافِرِ) أَىْ إِذَا صَارَ (فِى النَّارِ لِيَزْدَادَ عَذَابًا) بِزِيَادَةِ الْحَجْمِ الَّذِى يُلاقِيهِ الْعَذَابُ (حَتَّى يَكُونَ) جِلْدُهُ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا وَ(ضِرْسُهُ كَجَبَلِ أُحُدٍ وَهُوَ خَالِدٌ فِى النَّارِ أَبَدًا) لا يَخْرُجُ مِنْهَا وَ(لا يَمُوتُ فِيهَا وَ)لا يُرْفَعُ عَنْهُ الْعَذَابُ أَىْ (لا يَحْيَا أَىْ حَيَاةً) طَيِّبَةً هَنِيئَةً (فِيهَا رَاحَةٌ) بَلْ لا يُخَفَّفُ عَنْهُ الْعَذَابُ وَلَوْ مُجَرَّدَ تَخْفِيفٍ كَمَا قَالَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ فِى سُورَةِ طَهَ ﴿لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى﴾ وَكَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ فِى سُورَةِ فَاطِرٍ ﴿وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا﴾ وَكَمَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِى سُورَةِ النِّسَاءِ ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ (لَيْسَ لَهُمْ فِيهَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) وَهُوَ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِى مِنْ جُوعٍ (وَشَرَابُهُمْ مِنْ) حَمِيمٍ وَغَسَّاقٍ أَىْ مِنَ (الْمَاءِ الْحَارِّ الْمُتَنَاهِى الْحَرَارَةِ) وَمَا يَسِيلُ مِنْ جُلُودِ أَهْلِ النَّارِ.

(وَأَمَّا) مَا تَقَدَّمَ مِنْ (كَوْنِ الْجَنَّةِ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَذَلِكَ ثَابِتٌ فِيمَا صَحَّ مِنَ الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ (وَفَوْقَهُ يَعْنِى الْفِرْدَوْسَ عَرْشُ الرَّحْمٰنِ) اﻫ رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ (وَأَمَّا كَوْنُ جَهَنَّمَ تَحْتَ الأَرْضِ السَّابِعَةِ فَقَدْ قَالَ) الْحَافِظُ (أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ) النَّيْسَابُورِىُّ (فِى الْمُسْتَدْرَكِ إِنَّ ذَلِكَ جَاءَتْ فِيهِ رِوَايَاتٌ صَحِيحَةٌ) اﻫ.


(الشَّفَاعَةُ)


(وَالشَّفَاعَةُ حَقٌّ) وَاقِعٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (وَهِىَ) لُغَةً (سُؤَالُ الْخَيْرِ مِنَ الْغَيْرِ لِلْغَيْرِ) وَأَمَّا فِى الآخِرَةِ فَهِىَ طَلَبُ إِسْقَاطِ الْعِقَابِ عَنْ قِسْمٍ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ دُخُولَ النَّارِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (فَيَشْفَعُ النَّبِيُّونَ وَالْعُلَمَاءُ الْعَامِلُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَالْمَلائِكَةُ) رَوَى التِّرْمِذِىُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ مِنْ أُمَّتِى مَنْ يَشْفَعُ لِلْفِئَامِ أَىِ الْجَمَاعَةِ الْكَثِيرَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْفَعُ لِلْقَبِيلَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْفَعُ لِلْعُصْبَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْفَعُ لِلرَّجُلِ حَتَّى يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ اﻫ (وَيَشْفَعُ نَبِيُّنَا) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِهِ) أَىْ لِقِسْمٍ مِنْهُمْ (فَقَدْ جَاءَ فِى الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ شَفَاعَتِى لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِى) اﻫ (رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ) وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ مَرْفُوعًا وَقَالَ الْبُوصِيرِىُّ إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ خُيِّرْتُ بَيْنَ الشَّفَاعَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَدْخُلَ نِصْفُ أُمَّتِى الْجَنَّةَ فَاخْتَرْتُ الشَّفَاعَةَ لِأَنَّهَا أَعَمُّ وَأَكْفَى أَتَرَوْنَهَا لِلْمُتَّقِينَ لا وَلَكِنَّهَا لِلْمُذْنِبِينَ الْخَطَّائِينَ الْمُتَلَوِّثِينَ اﻫ (أَىْ) أَنَّ (غَيْرَ أَهْلِ الْكَبَائِرِ لَيْسُوا بِحَاجَةٍ لِلشَّفَاعَةِ) إِذْ لا عَذَابَ عَلَيْهِمْ (وَتَكُونُ) أَىِ الشَّفَاعَةُ (لِبَعْضِهِمْ) أَىْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ (قَبْلَ دُخُولِهِمُ النَّارَ وَلِبَعْضٍ بَعدَ دُخُولِهِمْ قَبْلَ أَنْ تَمْضِىَ الْمُدَّةُ الَّتِى يَسْتَحِقُّونَ بِمَعَاصِيهِمُ) الْمُكْثَ بِقَدْرِهَا وَقِسْمٌ مِنْ فُسَّاقِ الْمُسْلِمِينَ لا يُشْفَعُ لَهُمْ بَلْ يُعَذَّبُونَ فِى النَّارِ ثُمَّ يُخْرَجُونَ مِنْهَا بِرَحْمَةِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ.

(وَلا تَكُونُ) الشَّفَاعَةُ (لِلْكُفَّارِ) كَمَا (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الأَنْبِيَاءِ (﴿وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَىْ لِمَنِ ارْتَضَى الإِسْلامَ دِينًا اﻫ رَوَاهُ الْبَيْهَقِىُّ فِى الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَغَيْرِهِ وَقَالَ الْحَسَنُ لِمَنِ ارْتَضَى لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ اﻫ رَوَاهُ عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ (وَأَوَّلُ شَافِعٍ يَشْفَعُ هُوَ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَفِى حَدِيثِ التِّرْمِذِىِّ أَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ اهـ وَفِى حَدِيثِ الْبُخَارِىِّ ثُمَّ يُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ سَلْ تُعْطَ واشْفَعْ تُشَفَّع اﻫ.




(الرُّوْحُ)


(يَجِبُ الإِيمَانُ بِالرُّوحِ وَهِىَ جِسْمٌ لَطِيفٌ) وَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا جِسْمًا مَا جَاءَ فِى الشَّرْعِ مِنْ وَصْفِهَا بِدُخُولِ الْجَسَدِ وَانْفِكَاكِهَا عَنْهُ وَتَعْذِيبِ بَعْضِهَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَتَنْعِيمِ بَعْضِهَا إِذِ الْمَعَانِى لا يُقَالُ فِيهَا ذَلِكَ وَيَشْهَدُ عَلَى لَطَافَتِهَا الْحِسُّ مِنْ كَوْنِنَا لا نَقْبِضُ عَلَيْهَا بِأَيْدِينَا وَ(لا يَعْلَمُ حَقِيقَتَهُ) أَىْ حَقِيقَةَ هَذَا الْجِسْمِ اللَّطِيفِ (إِلَّا اللَّهُ وَ)بِهَا يَحْيَى الْمَلائِكَةُ وَالإِنْسُ وَالْجِنُّ وَغَيْرُهُمْ أَىْ (قَدْ أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ أَنْ تَسْتَمِرَّ الْحَيَاةُ فِى أَجْسَامِ الْمَلائِكَةِ وَالإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْبَهَائِمِ مَا دَامَتْ تِلْكَ الأَجْسَامُ اللَّطِيفَةُ مُجْتَمِعَةً مَعَهَا وَتُفَارِقَهَا إِذَا فَارَقَتْهَا تِلْكَ الأَجْسَامُ وَهِىَ حَادِثَةٌ لَيْسَتْ قَدِيمَةً فَمَنْ قَالَ إِنَّهَا قَدِيمَةٌ لَيْسَتْ مَخْلُوقَةً فَقَدْ كَفَرَ) لِأَنَّهُ ادَّعَى قِدَمَ غَيْرِ اللَّهِ وَزَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْهُ (وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ الْبَهَائِمُ لا أَرْوَاحَ لَهَا كَمَا قَالَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ مُتَوَلِّى الشَّعْرَاوِىُّ فِى كِتَابَيْهِ التَّفْسِيرِ وَالْفَتَاوَى وَذَلِكَ تَكْذِيبٌ لِلْقُرْءَانِ وَإِنْكَارٌ لِلْعِيَانِ قَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ التَّكْوِيرِ ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾) أَىْ رَجَعَتِ الأَرْوَاحُ إِلَيْهَا فَبُعِثَتْ ثُمَّ حُشِرَتْ (وَ)تَكْذِيبٌ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِى (قَالَ) فِيهِ (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَتُؤَدَّنَّ الْحُقُوقُ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ) اﻫ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) فَيَقْتَضِى ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ بُعِثَتْ قَبْلَ ذَلِكَ وَهُوَ أَيْضًا تَكْذِيبٌ لِلإِجْمَاعِ الْمَعْلُومِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ.


(بَيَانُ أَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ شَامِلَةٌ فِى الدُّنْيَا لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ خَاصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ فِى الآخِرَةِ)


(وَاللَّهُ تَعَالَى يَرْحَمُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فِى الدُّنْيَا وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلًّا) فَالْمُؤْمِنُ تَنَالُهُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِى الدُّنْيَا وَتَنَالُ الْكَافِرَ أَيْضًا (أَمَّا فِى الآخِرَةِ فَرَحْمَتُهُ خَاصَّةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الأَعْرَافِ (﴿وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ أَىْ وَسِعَتْ فِى الدُّنْيَا كُلَّ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ ﴿فَسَأَكْتُبُهَا﴾ أَىْ فِى الآخِرَةِ ﴿لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ أَىْ أَخُصُّهَا لِمَنِ اتَّقَى الشِّرْكَ وَسَائِرَ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ) أَىْ لِمَنْ مَاتَ عَلَى الإِيمَانِ (وَقَالَ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الأَعْرَافِ أَيْضًا (﴿وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ أَىْ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْكَافِرِينَ الرِّزْقَ النَّافِعَ وَالْمَاءَ الْمُرْوِىَ فِى الآخِرَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَضَاعُوا أَعْظَمَ حُقُوقِ اللَّهِ الَّذِى لا بَدِيلَ لَهُ وَهُوَ الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) وَأَصَرُّوا عَلَى ذَلِكَ وَقَصَدُوا الْبَقَاءَ عَلَى الْكُفْرِ وَاجْتَنَبُوا الإِيمَانَ حَتَّى جَاءَهُمُ الْمَوْتُ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَجَازَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعَذَابِ الْبَاقِى فِى الآخِرَةِ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَقَائِدَ تُعْتَقَدُ لِلدَّوَامِ فَكَانَ عِقَابُهُمْ عَلَيْهَا دَائِمًا جَزَاءً وِفَاقًا.

(ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ) تَعَالَى (جَعَلَ الدُّخُولَ فِى الإِسْلامِ الَّذِى هُوَ أَفْضَلُ نِعَمِ اللَّهِ سَهْلًا وَذَلِكَ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجَعَلَ الْكُفْرَ سَهْلًا) كَذَلِكَ (فَكَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ تَدُلُّ عَلَى الِاسْتِخْفَافِ بِاللَّهِ أَوْ شَرِيعَتِهِ) أَوْ رُسُلِهِ أَوْ دِينِهِ (تُخْرِجُ قَائِلَهَا مِنَ الإِيمَانِ وَتُوقِعُهُ فِى الْكُفْرِ الَّذِى هُوَ أَسْوَأُ الأَحْوَالِ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ اللَّهِ) تَعَالَى (أَحْقَرَ مِنَ الْحَشَرَاتِ وَالْوُحُوشِ) كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِى صَحِيحِهِ لا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمُ الَّذِينَ مَاتُوا فِى الْجَاهِلِيَّةِ فَوَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ الَّذِى يُدَهْدِهُهُ الْجُعَلُ بِأَنْفِهِ خَيْرٌ مِنْ هَؤُلاءِ الْمُشْرِكِينَ اﻫ وَ(سَوَاءٌ تَكَلَّمَ بِهَا جَادًّا أَوْ مَازِحًا أَوْ غَضْبَانَ) كَمَا سَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ (وَقَدْ شُرِحَ ذَلِكَ فِى كُتُبِ الْفِقْهِ فِى الْمَذَاهِبِ) الأَرْبَعَةِ (الْمُعْتَبَرَةِ وَحَكَمُوا أَنَّ الْمُتَلَفِّظَ بِهَا يَكْفُرُ).

وَفِى مَا (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الأَنْفَالِ (﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ عِبْرَةٌ لِذِى لُبٍّ.


(الْبِدْعَةُ)


(الْبِدْعَةُ لُغَةً مَا أُحْدِثَ علَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ) أَىْ مَا فَعَلَهُ فَاعِلٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْذُوَ فِيهِ حَذْوَ أَحَدٍ سَبَقَهُ (وَشَرْعًا) هِىَ (الْمُحْدَثُ الَّذِى لَمْ يَنُصَّ علَيْهِ) بِعَيْنِهِ (الْقُرْءَانُ) أَىْ لَمْ يُصَرِّحِ الْكِتَابُ بِالإِذْنِ فِيهِ (وَلا) أَذِنَ فِيهِ (الْحَدِيثُ) نَصًّا عَلَيْهِ (وَ)هِىَ (تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ كَمَا يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ) الْبُخَارِىِّ وَمُسْلِمٍ عَنْ (عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَحْدَثَ فِى أَمْرِنَا) أَىْ دِينِنَا (هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ) اﻫ (أَىْ مَرْدُودٌ) وَذَلِكَ أَنَّ الأَمْرَ الْمُسْتَحْدَثَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ دَاخِلًا تَحْتَ قَوَاعِدِ مَا حَثَّ عَلَيْهِ فَهُوَ (الْقِسْمُ الأَوَّلُ) الْمُسَمَّى (الْبِدْعَةَ الْحَسَنَةَ وَتُسَمَّى) أَيْضًا (السُّنَّةَ الْحَسَنَةَ) وَبِدْعَةَ الْهُدَى وَسُنَّةَ الْهُدَى (وَهِىَ الْمُحْدَثُ الَّذِى يُوَافِقُ الْقُرْءَانَ وَالسُّنَّةَ) وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ دَاخِلَةً تَحْتَ قَوَاعِدِ مَا طَلَبَ الشَّرْعُ تَرْكَهُ فَهُوَ (الْقِسْمُ الثَّانِى) الْمُسَمَّى (الْبِدْعَةَ السَّيِّئَةَ وَتُسَمَّى) أَيْضًا (السُّنَّةَ السَّيِّئَةَ) وَبِدْعَةَ الضَّلالَةِ وَسُنَّةَ الضَّلالَةِ (وَهِىَ الْمُحْدَثُ الَّذِى يُخَالِفُ الْقُرْءَانَ وَالْحَدِيثَ. وَهَذَا التَّقْسِيمُ مَفْهُومٌ أَيْضًا) فَضْلًا عَنْ حَدِيثِ مُسْلِمٍ السَّابِقِ (مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِىِّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَنَّ فِى الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَىْءٌ وَمَنْ سَنَّ فِى الإِسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَىْءٌ) اﻫ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ). وَلَفْظُ هَذَا الْحَدِيثِ عَامٌّ وَهُوَ صَرِيحٌ فِى انْقِسَامِ الْبِدْعَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالدِّينِ إِلَى قِسْمَيْنِ حَسَنَةٍ وَقَبِيحَةٍ وَلِذَلِكَ قَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فِى جَمْعِ النَّاسِ فِى قِيَامِ رَمَضَانَ عَلَى إِمَامٍ وَاحِدٍ نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ وَالَّتِى تَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ اﻫ فَعَدَّ تِلْكَ الطَّاعَةَ بِدْعَةً وَسَمَّاهَا بِدْعَةً حَسَنَةً. وَقَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِىُّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّ الْبِدْعَةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالدِّينِ عَلَى ضَرْبَيْنِ كَمَا سَيَأْتِى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَلا يَجُوزُ قَصْرُ السُّنَّةِ الْحَسَنَةِ فِى هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الصَّدَقَةِ وَنَحْوِهَا بِدَعْوَى أَنَّ سَبَبَ وُرُودِهِ أَنَّ النَّبِىَّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ حَثَّ عَلَى التَّصَدُّقِ عَلَى قَوْمٍ فَجَاءَ شَخْصٌ بِشَىْءٍ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَىْ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ فَتَبِعَهُ غَيْرُهُ حَتَّى اجْتَمَعَ عِنْدَ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَكْفِى هَؤُلاءِ الْقَوْمَ فَقَالَ مَنْ سَنَّ إِلَى ءَاخِرِهِ فَإِنَّ السَّبَبَ وَإِنْ كَانَ خَاصًّا فَاللَّفْظُ عَامٌّ وَالْعِبْرَةُ هُنَا كَمَا قَالَ عُلَمَاءُ الأُصُولِ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لا بِخُصُوصِ السَّبَبِ اﻫ

كَمَا لا يَجُوزُ إِلْغَاءُ عُمُومِ هَذَا الْحَدِيثِ لِأَجْلِ مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مَرْفُوعًا مَنْ أَحْيَى سُنَّةً كَانَتْ أُمِيتَتْ إِلَخ اﻫ فَإِنَّ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ مُخْتَلِفَانِ وَرَدَا عَلَى سَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَلا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا فَلا يُخَصُّ أَحَدُهُمَا بِالآخَرِ وَلا يُرَجَّحُ أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ بَلْ يُعْمَلُ بِهِمَا فَيُقَالُ مَنْ أَحْدَثَ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرٌ وَمَنْ أَحْيَى سُنَّةً أُمِيتَتْ فَلَهُ أَجْرٌ وَهَذَا ظَاهِرٌ بِلا لَبْسٍ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِى دَاودَ وَغَيْرِهِ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ فَهُوَ مِنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الأَحَادِيثِ كَمَا قَالَ النَّوَوِىُّ وَغَيْرُهُ وَمَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ لا تُوَافِقُ الشَّرْعَ فَهِىَ بِدْعَةٌ قَبِيحَةٌ وَسُنَّةٌ ضَلالَةٌ جَمْعًا بَيْنَ الأَدِلَّةِ وَمَنْعًا لإِلْغَاءِ أَىٍّ مِنْهَا.

(فَمِنَ الْقِسْمِ الأَوَّلِ) أَىِ السُّنَّةِ الْحَسَنَةِ أَوِ الْبِدْعَةِ الْحَسَنَةِ (الِاحْتِفَالُ بِمَوْلِدِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِى شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ) عَلَى مَا هُوَ مُشْتَهَرٌ (الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ مَلِكُ إِرْبِلَ فِى الْقَرْنِ السَّابِعِ الْهِجْرِىِّ) وَكَانَ عَالِمًا عَادِلًا شُجَاعًا مُجَاهِدًا كَثِيرَ الْكَرَمِ وَالإِحْسَانِ إِلَى الضُّعَفَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَوَافَقَهُ الْعُلَمَاءُ فِيمَا فَعَلَ. نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَافِظُ السُّيُوطِىُّ وَغَيْرُهُ. (وَ)مِنْهُ (تَنْقِيطُ التَّابِعِىِّ الْجَلِيلِ يَحْيَى بنِ يَعْمَرَ الْمُصْحَفَ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالتَّقْوَى) تُوُفِّىَ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ (وَأَقَرَّ) فِعْلَهُ (ذَلِكَ) الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَ(الْعُلَمَاءُ) بَعْدَهُمْ (مِنْ مُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ وَاسْتَحْسَنُوهُ) وَلَمْ يُضَلِّلُوا مَنْ فَعَلَهُ مَعَ أَنَّهُ أَمْرٌ دِينِىٌّ مُتَعَلِّقٌ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى (وَلَمْ يَكُنِ) الْمُصْحَفُ (مُنَقَّطًا عِنْدَمَا أَمْلَى الرَّسُولُ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (عَلَى كَتَبَةِ الْوَحْىِ وَكَذَلِكَ عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ لَـمَّـا كَتَبَ الْمَصَاحِفَ الْخَمْسَةَ أَوِ السِّتَّةَ) وَأَرْسَلَهَا إِلَى الأَمْصَارِ (لَمْ تَكُنْ) هَذِهِ (مُنَقَّطَةً. وَمُنْذُ ذَلِكَ التَّنْقِيطِ لَمْ يَزَلِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ إِلَى الْيَوْمِ فَهَلْ يُقَالُ فِى هَذَا إِنَّهُ بِدْعَةُ ضَلالَةٍ) وَهَلْ يُقَالُ إِنَّ كُلَّ الْمُسْلِمِينَ ضَلُّوا فِى هَذَا الأَمْرِ (لِأَنَّ الرَّسُولَ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَمْ يَفْعَلْهُ) وَلَمْ يُفْعَلْ بِحَضْرَتِهِ فَيُقِرَّهُ (فَإِنْ كَانَ الأَمْرُ كَذَلِكَ) عِنْدَ حَشَوِيَّةِ هَذَا الْعَصْرِ (فَلْيَتْرُكُوا هَذِهِ الْمَصَاحِفَ الْمُنَقَّطَةَ أَوْ لِيَكْشِطُوا هَذَا التَّنْقِيطَ مِنَ الْمَصَاحِفِ حَتَّى تَعُودَ مُجَرَّدَةً كَمَا فِى أَيَّامِ) سَيِّدِنَا (عُثْمَانَ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ لِيَقْرَءُوا فِيهَا عِنْدَئِذٍ. وَهَذَا الَّذِى ذُكِرَ مِنْ كَوْنِ يَحْيَى بنِ يَعْمَرَ هُوَ أَوَّلَ مَنْ نَقَطَ الْمُصْحَفَ نَصَّ عَلَيْهِ الْحُفَّاظُ وَالْمُؤَرِّخُونَ (قَالَ) الْحَافِظُ (أَبُو بَكْرِ بنُ أَبِى دَاوُدَ صَاحِبِ السُّنَنِ فِى كِتَابِهِ) الْمُسَمَّى كِتَابَ (الْـمَصَاحِفِ أَوَّلُ مَنْ نَقَطَ الْـمَصَاحِفَ يَحْيَى بنُ يَعْمَرَ وَهُوَ مِنْ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ رَوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ اﻫ)

(وَمِنَ الْقِسْمِ الثَّانِى) أَىْ بِدَعِ الضَّلالَةِ (الْمُحْدَثَاتُ فِى الِاعْتِقَادِ) أَىِ الِاعْتِقَادَاتُ الْحَادِثَةُ عَلَى خِلافِ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ (كَبِدْعَةِ الْمُعْتَزِلَةِ) الَّذِينَ أَنْكَرُوا عُمُومَ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِكُلِّ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَنْكَرُوا خَلْقَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَنْكَرُوا قِيَامَ صِفَاتِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ وَالْحَيَاةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلامِ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى (وَ)كَبِدْعَةِ (الْخَوَارِجِ) الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ كَافِرٌ مُخَلَّدٌ فِى النَّارِ (وَغَيْرِهِمْ مِنَ الَّذِينَ خَرَجُوا عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِى الْمُعْتَقَدِ. وَ)مِنْهَا (كِتَابَةُ ص أَوْ صَلْعَمْ بَعْدَ اسْمِ النَّبِىِّ بَدَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ نَصَّ الْمُحَدِّثُونَ) كَالْحَافِظِ الْعِرَاقِىِّ وَالْحَافِظِ السُّيُوطِىِّ (فِى كُتُبِ مُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ كِتَابَةَ الصَّادِ مُجَرَّدَةً) بَعْدَ اسْمِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ (مَكْرُوهٌ وَمَعَ هَذَا لَمْ يُحَرِّمُوهَا فَمِنْ أَيْنَ لِهَؤُلاءِ الْمُتَنَطِّعِينَ الْمُشَوِّشِينَ أَنْ يَقُولُوا عَنْ عَمَلِ الْمَوْلِدِ) إِنَّهُ (بِدْعَةٌ مُحَرَّمَةٌ) وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا قِرَاءَةُ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ الْعَطِرَةِ وَأَخْبَارُ وِلادَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ لِلنَّاسِ وَكُلُّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ عُمُومِ مَا أَمَرَ الشَّرْعُ بِهِ (وَ)مِنْ أَيْنَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا (عَنِ الصَّلاةِ عَلَى النَّبِىِّ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (جَهْرًا عَقِبَ الأَذَانِ إِنَّهَا بِدْعَةٌ مُحَرَّمَةٌ) وَهِىَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ عُمُومِ الأَمْرِ بِالصَّلاةِ عَلَيْهِ إِذَا ذُكِرَ (بِدَعْوَى أَنَّ الرَّسُولَ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا فَعَلَهُ وَ)أَنَّ (الصَّحَابَةَ لَمْ يَفْعَلُوهُ) هَذَا تَحْرِيمٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ وَفَتْوًى بِغَيْرِ عِلْمٍ وَادِّعَاءُ قَاعِدَةٍ لا أَصْلَ لَهَا فِى الْكِتَابِ وَلا فِى السُّنَّةِ.

(وَمِنْهُ) أَىْ وَمِنَ الْقِسْمِ الثَّانِى (تَحْرِيفُ اسْمِ اللَّهِ إِلَى ءَاهٍ وَنَحْوِهِ) عِنْدَ الذِّكْرِ (كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الطُّرُقِ فَإِنَّ هَذَا مِنَ الْبِدَعِ الْـمُحَرَّمَةِ) قَالَ شَيْخُ شُيُوخِ الشَّاذِلِيَّةِ فِى وَقْتِهِ ظَافِرُ بنُ مُحَمَّد ظَافِر الْمَدَنِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِى الرِّسَالَةِ الظَّافِرِيَّةِ فِى ءَادَابِ الطَّرِيقَةِ الشَّاذِلِيَّةِ إِنَّهُ لا يَجُوزُ قَصْرُ لامِ لَفْظِ الْجَلالَةِ اللَّه فِى أَىِّ طَبَقَةٍ مِنْ طَبَقَاتِ الذِّكْرِ مَهْمَا أَسْرَعَ بِهَا الذَّاكِرُ وَأَنَّ الذِّكْرَ بِلَفْظِ الْجَلالَةِ اللَّه يَكُونُ بِدُونِ حَذْفِ شَىْءٍ مِنْهُ وَلا يَكُونُ بِلَفْظِ هِى وَلا بِلَفْظِ ءَاهٍ اﻫ وَقَرَّظَ رِسَالَتَهُ هَذِهِ عِدَّةٌ مِنَ الْمَشَايِخِ مِنَ الْمَذَاهِبِ الْمُخْتَلِفَةِ فِى زَمَانِهِ اﻫ

(قَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِىُّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُحْدَثَاتُ مِنَ الأُمُورِ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا مَا أُحْدِثَ مِمَّا يُخَالِفُ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً أَوْ إِجْمَاعًا أَوْ أَثَرًا) أَىْ مِمَّا يُخَالِفُ الْقُرْءَانَ أَوِ الْحَدِيثَ أَوْ إِجْمَاعَ مُجْتَهِدِى الأُمَّةِ أَوْ مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ لَهُ بَيْنَهُمْ (فَهَذِهِ الْبِدْعَةُ الضَّلالَةُ وَالثَّانِيَةُ مَا أُحْدِثَ مِنَ الْخَيْرِ وَلا يُخَالِفُ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً أَوْ إِجْمَاعًا وَهَذِهِ مُحْدَثَةٌ غَيْرُ مَذْمُومَةٍ) اﻫ (رَوَاهُ الْبَيْهَقِىُّ بِالإِسْنَادِ) الْمُتَّصِلِ عَنِ الإِمَامِ الشَّافِعِىِّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (فِى كِتَابِهِ مَنَاقِبُ الشَّافِعِىِّ) وَانْظُرْ قَوْلَهُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الْخَيْرِ فَإِنَّهُ قَاضٍ عَلَى مُحَاوَلَةِ الْوَهَّابِيَّةِ تَأْوِيلَ كَلامِهِ بِأَنَّ مُرَادَهُ الْبِدْعَةَ اللُّغَوِيَّةَ الَّتِى لا تَعَلُّقَ لَهَا بِالدِّينِ. وَانْظُرْ قَوْلَ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ السَّابِقَ الَّذِى رَوَاهُ الإِمَامُ مَالِكٌ وَالْبُخَارِىُّ وَغَيْرُهُمَا نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ وَالَّتِى تَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ اﻫ فَإِنَّهُ قَاضٍ عَلَى تَمَحُّلاتِ الْوَهَّابِيَّةِ وَمُحَاوَلَةِ تَأْوِيلِهِمْ لِكَلامِهِ بِمِثْلِ مَا حَاوَلُوا تَأْوِيلَ كَلامِ الإِمَامِ الشَّافِعِىِّ بِهِ فَإِنَّهُ يُوضِحُ بِلا لَبْسٍ أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ بِدْعَةُ خَيْرٍ فِيهَا ثَوَابٌ لَكِنَّ تَأْخِيرَ الْقِيَامِ إِلَى ءَاخِرِ اللَّيْلِ أَفْضَلُ وَأَكْثَرُ ثَوَابًا وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.


(إِثْبَاتُ أَنَّ التَّوَسُّلَ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ جَائِزٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ شِرْكًا كَمَا تَقُولُ الْوَهَّابِيَّةُ)


(اعْلَمْ أَنَّهُ) قَدْ قَامَتِ الأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّوَسُّلِ بِالذَّوَاتِ الصَّالِحَةِ وَبِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَمَنَعَ الْوَهَّابِيَّةُ التَّوَسُّلَ بِذَوَاتِ الصَّالِحِينَ فِى حَالِ غَيْبَتِهِمْ وَبَعْدَ الْمَوْتِ وَ(لا دَلِيلَ حَقِيقِىٌّ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّوَسُّلِ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ فِى حَالِ الْغَيْبَةِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِمْ) كَمَا زَعَمَ مُجَسِّمَةُ الْعَصْرِ (بِدَعْوَى أَنَّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ لِغَيْرِ اللَّهِ) وَهِىَ دَعْوَى فَاسِدَةٌ لا تَتَّفِقُ مَعَ مَعْنَى الْعِبَادَةِ (لِأَنَّهُ لَيْسَ عِبَادَةً لِغَيْرِ اللَّهِ مُجَرَّدُ النِّدَاءِ لِحَىٍّ أَوْ مَيِّتٍ وَلا مُجرَّدُ التَّعْظِيمِ وَلا مُجَرَّدُ الِاسْتِغَاثَةِ بِغَيْرِ اللَّهِ وَلا مُجَرَّدُ قَصْدِ قَبْرِ وَلِىٍّ لِلتَّبَرُّكِ وَلا مُجَرَّدُ طَلَبِ مَا لَمْ تَجْرِ بِهِ الْعَادَةُ بَيْنَ النَّاسِ وَلا مُجَرَّدُ صِيغَةِ الِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى أَىْ لَيْسَ ذَلِكَ شِرْكًا لِأَنَّهُ لا يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ تَعْرِيفُ الْعِبَادَةِ) الآتِى إِنْ شَاءَ اللَّهُ (عِنْدَ اللُّغَوِيِّينَ) وَإِنَّمَا النِّدَاءُ الَّذِى هُوَ شِرْكٌ نِدَاءٌ مَخْصُوصٌ وَالتَّعْظِيمُ الَّذِى هُوَ شِرْكٌ هُوَ تَعْظِيمٌ مَخْصُوصٌ وَكَذَلِكَ الِاسْتِغَاثَةُ وَالِاسْتِعَانَةُ وَالطَّلَبُ وَقَصْدُ الْقَبْرِ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا شِرْكًا فِى حَالٍ مَخْصُوصَةٍ أَىْ عِنْدَ اقْتِرَانِهِ بِأَمْرٍ مَخْصُوصٍ لا عَلَى الإِطْلاقِ فَلَيْسَ كُلٌّ مِنْهَا بِإِطْلاقِهِ عِبَادَةً لِغَيْرِ اللَّهِ وَذَلِكَ (لِأَنَّ الْعِبَادَةَ عِنْدَهُمْ) أَىْ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ هِىَ (الطَّاعَةُ مَعَ الْخُضُوعِ. قَالَ الأَزْهَرِىُّ الَّذِى هُوَ أَحَدُ كِبَارِ اللُّغَوِيِّينَ) الْمُتَوَفَّى سَنَةَ سَبْعِينَ وَثَلاثِمِائَةٍ (فِى) الْمُجَلَّدِ الثَّالِثِ مِنْ (كِتَابِ تَهْذِيبِ اللُّغَةِ نَقْلًا عَنِ الزَّجَّاجِ) الْمُتَوَفَّى سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ وَثَلاثِمِائَةٍ وَ(الَّذِى هُوَ مِنْ أَشْهَرِهِمْ) أَىْ أَشْهَرِ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ (الْعِبَادَةُ فِى لُغَةِ الْعَرَبِ الطَّاعَةُ مَعَ الْخُضُوعِ اﻫ وَقَالَ) قَبْلَهُ (مِثْلَهُ الْفَرَّاءُ) مِنْ كِبَارِ أَهْلِ اللُّغَةِ الْكُوفِيِّينَ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ سَبْعٍ وَمِائَتَينِ (كَمَا) فِى كِتَابِهِ مَعَانِى الْقُرْءَانِ وَإِعْرَابِهِ وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْهُ (فِى) الْمُجَلَّدِ الثَّالِثِ مِنْ (لِسَانِ الْعَرَبِ لِابْنِ مَنْظُورٍ) وَأَقَرَّهُ (وَقَالَ بَعْضُهُمْ) وَهُوَ الإِمَامُ الْفَقِيهُ الْحَافِظُ اللُّغَوِىُّ تَقِىُّ الدِّينِ السُّبْكِىُّ فِى فَتَاوِيهِ الْعِبَادَةُ (أَقْصَى غَايَةِ الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ اﻫ وَقَالَ بَعْضٌ نِهَايَةُ التَّذَلُّلِ كَمَا يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ كَلامِ) الرَّاغِبِ الأَصْبَهَانِىِّ فِى مُفْرَدَاتِهِ وَنَقَلَهُ عَنْهُ (شَارِحُ الْقَامُوسِ مُرْتَضَى الزَّبِيدِىُّ خَاتِمَةُ اللُّغَوِيِّينَ) فِى شَرْحِهِ عَلَى الْقَامُوسِ الْمُسَمَّى تَاجَ الْعَرُوسِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ مُتَقَدِّمِيهِمْ وَمُتَأَخِّرِيهِمْ مُطْبِقُونَ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ هِىَ أَقْصَى دَرَجَاتِ الْخُضُوعِ وَالتَّذَلُّلِ (وَهَذَا الَّذِى يَسْتَقِيمُ لُغَةً وَعُرْفًا. وَلَيْسَ مُجَرَّدُ التَّذَلُّلِ) أَىِ الَّذِى لَمْ يَبْلُغْ أَقْصَى دَرَجَاتِهِ (عِبَادَةً لِغَيْرِ اللَّهِ وَإِلَّا لَكَفَرَ كُلُّ مَنْ يَتَذَلَّلُ لِلْمُلُوكِ وَالْعُظَمَاءِ وَقَدْ ثَبَتَ) خِلافُ ذَلِكَ فِى الشَّرْعِ وَهُوَ فِى مَا صَحَّ مِنْ (أَنَّ مُعَاذَ بنَ جَبَلٍ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (لَمَّا قَدِمَ مِنَ الشَّامِ سَجَدَ لِرَسُولِ اللَّهِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَقَالَ الرَّسُولُ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا هَذَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى رَأَيْتُ أَهْلَ الشَّامِ يَسْجُدُونَ لِبَطَارِقَتِهِمْ) جَمْعُ بِطْرِيقٍ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَهُوَ مِنَ الرُّومِ كَالْقَائِدِ مِنَ الْعَرَبِ (وَأَسَاقِفَتِهِمْ) أَىْ عُلَمَائِهِمْ (وَأَنْتَ أَوْلَى بِذَلِكَ فَقَالَ لا تَفْعَلْ لَوْ كُنْتُ ءَامُرُ أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا) اﻫ (رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمَا وَ)مَوْضِعُ الشَّاهِدِ أَنَّهُ (لَمْ يَقُلْ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَرْتَ) إِذْ سَجَدْتَ لِى (وَلا قَالَ لَهُ أَشْرَكْتَ مَعَ أَنَّ سُجُودَهُ لِلنَّبِىِّ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَظْهَرٌ كَبِيرٌ مِنْ مَظَاهِرِ التَّذَلُّلِ) وَهُوَ كَانَ جَائِزًا فِى الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ لَكِنَّهُ مُحَرَّمٌ فِى الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَلَوْ بِقَصْدِ التَّحِيَّةِ (فَهَؤُلاءِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ الشَّخْصَ لِأَنَّهُ قَصَدَ قَبْرَ الرَّسُولِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ لِلتَّبَرُّكِ) زَاعِمِينَ أَنَّ هَذَا شِرْكٌ قَدْ خَرَجُوا عَنِ الصَّوَابِ وَجَازَفُوا بِغَيْرِ حَقٍّ لِأَنَّ مَنْ يَقْصِدُ قَبْرَ النَّبِىِّ أَوِ الْوَلِىِّ لِلتَّبَرُّكِ لَمْ يُعَظِّمْهُ بِذَلِكَ غَايَةَ التَّعْظِيمِ فَمِنْ أَيْنَ يَدْخُلُ الشِّرْكُ عَلَيْهِ (فَهُمْ جَهِلُوا مَعْنَى الْعِبَادَةِ) وَهَجَمُوا عَلَى التَّكْفِيرِ بِغَيْرِ حَقٍّ (وَخَالَفُوا مَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ سَلَفًا وَخَلَفًا لَمْ يَزَالُوا يَزُورُونَ قَبْرَ النَّبِىِّ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لِلتَّبَرُّكِ وَلَيْسَ مَعْنَى الزِّيَارَةِ لِلتَّبَرُّكِ) عِنْدَ أَحَدٍ مِنْهُمْ (أَنَّ الرَّسُولَ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَخْلُقُ لَهُمُ الْبَرَكَةَ) لِتَكُونَ زِيَارَتُهُمْ شِرْكِيَّةً بِذَلِكَ (بَلِ الْمَعْنَى) عِنْدَهُمْ جَمِيعًا (أَنَّهُمْ يَرْجُونَ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ لَهُمُ الْبَرَكَةَ بِزِيَارَتِهِمْ لِقَبْرِهِ) وَهَذَا لا شِرْكَ فِيهِ وَلا مَحْظُورَ (وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِىُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ) كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ (عَنْ مَالِكِ الدَّارِ وَكَانَ خَازِنَ) سَيِّدِنَا (عُمَرَ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ أَصَابَ النَّاسَ قَحْطٌ) أَىْ مَجَاعَةٌ (فِى زَمَانِ عُمَرَ) أَىْ فِى خِلافَتِهِ وَانْقَطَعَ الْمَطَرُ عَنْهُمْ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ (فَجَاءَ رَجُلٌ) أَىْ مِنَ الصَّحَابَةِ يُقَالُ لَهُ بِلالُ بنُ الْحَارِثِ الْمُزَنِىُّ (إِلَى قَبْرِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَسْقِ لِأُمَّتِكَ) أَىِ اطْلُبْ مِنَ اللَّهِ السُّقْيَا لَهُمْ (فَإِنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا فَأُتِىَ الرَّجُلُ فِى الْمَنَامِ) أَىْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِى الْمَنَامِ يُكَلِّمُهُ (فَقِيلَ لَهُ أَقْرِئْ عُمَرَ السَّلامَ) أَىْ سَلِّمْ لِى عَلَيْهِ (وَأَخْبِرْهُ أَنَّهُمْ يُسْقَوْنَ) أَىْ يُنْزِلُ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ (وَقُلْ لَهُ عَلَيْكَ الْكَيْسَ الْكَيْسَ) أَىْ تَفَكَّرْ فِى مَا يَنْبَغِى فِعْلُهُ مِمَّا لَمْ تَفْعَلْ لِتَزُولَ هَذِهِ النَّازِلَةُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ (فَأَتَى الرَّجُلُ عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ فَبَكَى عُمَرُ وَقَالَ يَا رَبُّ مَا ءَالُوا إِلَّا مَا عَجَزْتُ) أَىْ لا أَتْرُكُ إِلَّا مَا عَجَزْتُ عَنْهُ ثُمَّ جَمَعَ عُمَرُ النَّاسَ وَأَخْبَرَهُمْ بِمَا رَأَى بِلالُ بنُ الْحَارِثِ فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ أَيْنَ أَنْتَ عَنِ الِاسْتِسْقَاءِ فَجَمَعَ النَّاسَ وَاسْتَسْقَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ حَتَّى سُمِّىَ ذَلِكَ الْعَامُ عَامَ الْفَتْقِ لِكَثْرَةِ مَا نَبَتَ مِنَ الْعُشْبِ فَسَمِنَتِ الْمَوَاشِى بِرَعْيِهِ حَتَّى تَفَتَّقَتْ بِالشَّحْمِ (وَقَدْ جَاءَ فِى) الْفُتُوحِ عَنْ سَيْفٍ (تَفْسِيرُ هَذَا الرَّجُلِ) الَّذِى قَصَدَ قَبْرَ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأَى الرُّؤْيَا (أَنَّهُ بِلالُ بنُ الْحَارِثِ الْمُزَنِىُّ الصَّحَابِىُّ) كَمَا تَقَدَّمَ وَبِهَذَا فَسَّرَهُ الْحَافِظُ فِى الْمُجَلَّدِ الثَّانِى مِنْ فَتْحِ الْبَارِى (فَهَذَا الصَّحَابِىُّ قَدْ قَصَدَ قَبْرَ الرَّسُولِ لِلتَّبَرُّكِ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ) سَيِّدُنَا (عُمَرُ وَلا غَيْرُهُ) مِنَ الصَّحَابَةِ (فَبَطَلَ دَعْوَى ابْنِ تَيْمِيَةَ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَارَةَ شِرْكِيَّةٌ. وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ وَلِىُّ الدِّينِ) ابْنُ الْحَافِظِ زَيْنِ الدِّينِ (الْعِرَاقِىُّ فِى حَدِيثِ أَبِى هُرَيْرَةَ) الَّذِى أَخْرَجَهُ الْبُخَارِىُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا (أَنَّ مُوسَى) عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلاةُ وَالسَّلامُ (قَالَ رَبِّ أَدْنِنِى مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ وَأَنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَاللَّهِ لَوْ أَنِّى عِنْدَهُ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَنْبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ فِيهِ اسْتِحْبَابُ مَعْرِفَةِ قُبُورِ الصَّالِحِينَ لِزِيَارَتِهَا وَالْقِيَامِ بِحَقِّهَا اﻫ) ذَكَـرَهُ فِى الْمُجَلَّدِ الثَّالِثِ مِنْ طَرْحِ التَّثْرِيبِ (وَ)قُرْبَ مَدِينَةِ الْخَلِيلِ فِى فِلَسْطِينَ الْيَوْمَ قَبْرٌ بِقُرْبِهِ كَثِيبٌ أَحْمَرُ مَشْهُورٌ أَنَّهُ قَبْرُ سَيِّدِنَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ.

(قَالَ الْحَافِظُ الضِّيَاءُ) الْمَقْدِسِىُّ (حَدَّثَنِى سَالِمُ التَّلِّ قَالَ مَا رَأَيْتُ اسْتِجَابَةَ الدُّعَاءِ أَسْرَعَ مِنْهَا عِنْدَ هَذَا الْقَبْرِ. وَحَدَّثَنِى الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُونُسَ الْمَعْرُوفُ بِالأَرْمَنِىِّ أَنَّهُ زَارَ هَذَا الْقَبْرَ وَأَنَّهُ نَامَ فَرَأَى فِى مَنَامِهِ قُبَّةً عِنْدَهُ وَفِيهَا شَخْصٌ أَسْمَرُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ أَنْتَ مُوسَى كَلِيمُ اللَّهِ أَوْ قَالَ نَبِىُّ اللَّهِ فَقَالَ نَعَمْ فَقُلْتُ قُلْ لِى شَيْئًا فَأَوْمَأَ إِلَىَّ بِأَرْبَعِ أَصَابِعَ وَوَصَفَ طُولَهُنَّ فَانْتَبَهْتُ وَلَمْ أَدْرِ مَا قَالَ فَأَخْبَرْتُ الشَّيْخَ ذَيَّالًا بِذَلِكَ فَقَالَ يُولَدُ لَكَ أَرْبَعَةُ أَوْلادٍ فَقُلْتُ أَنَا قَدْ تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً لَمْ أَقْرَبْهَا فَقَالَ تَكُونُ غَيْرَ هَذِهِ فَتَزَوَّجْتُ أُخْرَى فَوَلَدَتْ لِى أَرْبَعةَ أَوْلادٍ اﻫ) وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِىُّ فِى تَارِيخِ بَغْدَادَ عَنِ الْحَسَنِ بنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلَّالِ الْحَنْبَلِىِّ أَنَّهُ قَالَ مَا هَمَّنِى أَمْرٌ فَقَصَدْتُ قَبْرَ مُوسَى بنِ جَعْفَرٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فَتَوَسَّلْتُ بِهِ إِلَّا سَهَّلَ اللَّهُ تَعَالَى لِى مَا أُحِبُّ اﻫ وَرَوَى عَنِ الْحَافِظِ الْفَقِيهِ اللُّغَوِىِّ الْمُجْتَهِدِ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِىِّ أَنَّهُ قَالَ قَبْرُ مَعْرُوفٍ التِّرْيَاقُ الْمُجَرَّبُ اﻫ أَىْ أَنَّهُ كَثِيرُ النَّفْعِ كَالتِّرْيَاقِ الَّذِى هُوَ دَوَاءٌ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ. وَكُتُبُ عُلَمَاءِ الأُمَّةِ وَحُفَّاظِهَا قَدِيمِينَ وَمُحْدَثِينَ مَلِيئَةٌ بِالْحَثِّ عَلَى زِيَارَةِ قُبُورِ الصَّالِحِينَ رَجَاءَ الْبَرَكَةِ وَحُصُولِ الْمَنْفَعَةِ فَكَيْفَ يَتَجَرَّأُ بَعْدَ ذَلِكَ أَحَدٌ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ فَضْلًا عَنْ تَكْفِيرِ مَنْ يَفْعَلُهُ وَالْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالشِّرْكِ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلامَةَ وَالْبُعْدَ عَنِ الْغُلُوِّ (وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِى الْمُسْنَدِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ) فِى فَتْحِ الْبَارِى (أَنَّ الْحَارِثَ بنَ حَسَّانٍ الْبَكْرِىَّ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ فِى طَرِيقِهِ عَجُوزًا مِنْ بَنِى تَمِيمٍ تَقْصِدُ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَأْذَنَ لِلْعَجُوزِ فَأَذِنَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَرَى كَلامٌ فِى حَضْرَتِهِ عَارَضَتْ فِيهِ الْعَجُوزُ الْحَارِثَ بنَ حَسَّانٍ فِى غَرَضِهِ الَّذِى سَافَرَ لِأَجْلِهِ فَقَالَ إِنَّمَا مَثَلِى مَا (قَالَ) الأَوَّلُ مَعْزَاءُ حَمَلَتْ حَتْفَهَا حَمَلْتُ هَذِهِ وَلا أَشْعُرُ أَنَّهَا كَانَتْ لِى خَصْمًا ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ (لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعُوذُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ أَكُونَ كَوَافِدِ عَادٍ) اﻫ (الْحَدِيثَ بِطُولِهِ) وَهُوَ (دَلِيلٌ يُبْطِلُ قَوْلَ الْوَهَّابِيَّةِ) أَنَّ (الِاسْتِعَاذَةَ بِغَيْرِ اللَّهِ شِرْكٌ) فَإِنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُلْ لِلْحَارِثِ أَشْرَكْتَ لِقَوْلِكَ وَرَسُولِهِ فَإِنَّ الْحَارِثَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ جَمَعَ الِاسْتِعَاذَةَ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الِاسْتِعَاذَةِ بِاللَّهِ فَإِنَّهُ اسْتَعَاذَ عَلَى الْحَقِيقَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ الْخَالِقُ لِلْعَوْنِ وَأَمَّا اسْتِعَاذَتُهُ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَى مَعْنَى أَنَّهُ سَبَبٌ وَفِى صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِى مَسْعُودٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَضْرِبُ غُلاَمَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ أَعُوذُ بِاللَّهِ قَالَ فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ فَقَالَ أَعُوذُ بِرَسُولِ اللَّهِ فَتَرَكَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهِ لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ قَالَ فَأَعْتَقَهُ اهـ فَمَا كَانَ مِنِ اسْتِعَاذَةٍ أَوْ طَلَبٍ أَوْ تَوَسُّلٍ بِمَخْلُوقٍ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَلا حَرَجَ فِيهِ وَلا مَحْذُورَ وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ الْفَقِيهُ اللُّغَوِىُّ تَقِىُّ الدِّينِ السُّبْكِىُّ فِى شِفَاءِ السَّقَامِ إِنَّ التَّوَسُّلَ وَالِاسْتِغَاثَةَ وَالتَّجَوُّهَ وَالتَّوَجُّهَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ اﻫ (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً فِى الأَرْضِ سِوَى الْحَفَظَةِ) سَيَّاحِينَ فِى الْفَلاةِ (يَكْتُبُونَ مَا يَسْقُطُ مِنْ وَرَقِ الشَّجَرِ فَإِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ عَرْجَةٌ بِأَرْضٍ فَلاةٍ فَلْيُنَادِ أَعِينُوا عِبَادَ اللَّهِ) اﻫ قَالَ فِى مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ (رَوَاهُ الطَّبَرَانِىُّ) اﻫ (وَقَالَ) أَىِ (الْحَافِظُ الْهَيْثَمِىُّ) أَيْضًا (رِجَالُهُ ثِقَاتٌ) اﻫ وَأَخْرَجَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِى الأَمَالِىِّ الْمِصْرِيَّةِ بِلَفْظِ فَإِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ عَرْجَةٌ فِى فَلاةٍ فَلْيُنَادِ يَا عِبَادَ اللَّهِ أَعِينُوا وَقَالَ إِنَّهُ حَسَنٌ اﻫ وَثَبَتَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بنَ عُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا خَدِرَتْ رِجْلُهُ فَقِيلَ لَهُ اذْكُرْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيْكَ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ فَشُفِيَتْ رِجْلُهُ فِى الْحَالِ اﻫ وَرَوَى هَذَا الأَثَرَ الأَكَابِرُ بِالأَسَانِيدِ الْجَيِّدَةِ وَأَثْبَتُوهُ فِى كُتُبِهِمْ بِلا نَكِيرٍ مِنْ ذَلِكَ رِوَايَةُ الإِمَامِ الْبُخَارِىِّ فِى الأَدَبِ الْمُفْرَدِ عَنْ أَبِى نُعَيْمٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِى إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمٰنِ بنِ سَعْدٍ قَالَ خَدِرَتْ رِجْلُ ابْنِ عُمَرَ الْحَدِيثَ اﻫ وَمِنْهَا رِوَايَةُ الإِمَامِ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِىِّ فِى غَرِيبِ الْحَدِيثِ ثَنَا أَحْمَدُ بنُ يُونُسَ ثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ أَبِى إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمٰنِ بنِ سَعْدٍ جِئْتُ ابْنَ عُمَرَ الْحَدِيثَ اﻫ وَمِنْهَا رِوَايَةُ الْحَافِظِ ابْنِ السُّنِّىِّ مِنْ طَرِيقِ عَلِىِّ بنِ الْجَعْدِ ثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ أَبِى إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمٰنِ بنِ سَعْدٍ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ الْحَدِيثَ اﻫ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلانِ مَا حَاوَلَهُ نَاصِرُ الدِّينِ الأَلْبَانِىُّ مِنْ تَضْعِيفِ هَذَا الأَثَرِ لَمَّا وَجَدَهُ نَاقِضًا لِعَقِيدَتِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْوَهَّابِيَّةِ إِنَّ مَا رُوِىَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنَ السَّلَفِ مِنْ مُنَادَاةِ الْمَحْبُوبِ عِنْدَ خَدَرِ الرِّجْلِ إِنَّمَا هُوَ لِاسْتِحْضَارِ ذِكْرِ الْمَحْبُوبِ فِى الْقَلْبِ وَالشَّوْقِ لَهُ اﻫ قُلْنَا كَلامُنَا لَيْسَ فِى هَذَا فَإِنَّكُمْ تُكَفِّرُونَ مَنْ نَادَى مَيِّتًا أَوْ غَائِبًا أَوِ اسْتَعَانَ بِهِ وَلا شَكَّ أَنَّ مِنَ السَّلَفِ مَنْ قَدْ نَادَى مَيِّتًا وَغَائِبًا وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُهُمْ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا حُصُولَ مَنْفَعَةِ زَوَالِ الْخَدَرِ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَأَنْتُمْ فِى الْحَقِيقَةِ مُكَفِّرُونَ لِهَؤُلاءِ السَّلَفِ وَمُكَفِّرُونَ لِحُفَّاظِ الْحَدِيثِ وَالْعُلَمَاءِ الَّذِينَ نَقَلُوا فِعْلَهُمْ وَأَقَرُّوهُ وَأَوْدَعُوهُ كُتُبَهُمْ وَلَمْ يَعْتَرِضُوا عَلَيْهِ فَالصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَأَتْبَاعُ التَّابِعِينَ فِى وَادٍ وَأَنْتُمْ فِى وَادٍ ءَاخَرَ وَمَعْنَى قَوْلِكُمْ إِنَّ مَنِ اسْتَحْضَرَ فِى قَلْبِهِ ذِكْـرَ الْمَحْبُوبِ وَالشَّوْقَ إِلَيْهِ جَازَ لَهُ الشِّرْكُ عِنْدَ ذَلِكَ فَمَا أَشَدَّ تَنَاقُضَكُمْ وَمَا أَبْعَدَ كَلامَكُمْ عَنِ الْحَقِّ (وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيَاتِى خَيْرٌ لَكُمْ تُحْدِثُونَ وَيُحْدَثُ لَكُمْ وَوَفَاتِى خَيْرٌ لَكُمْ) فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ يَنْفَعُنَا بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى خِلافِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ التَّيْمِيُّونَ (تُعْرَضُ عَلَىَّ أَعْمَالُكُمْ) أَىْ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لا بِكُلِّ تَفَاصِيلِهَا كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ الَّذِينَ يُوَجَّهُونَ قِبَلَ الْحَوْضِ وَغَيْرُهُ (فَمَا رَأَيْتُ مِنْ خَيْرٍ حَمِدْتُ اللَّهَ عَلَيْهِ وَمَا رَأَيْتُ مِنْ شَرٍّ اسْتَغْفَرْتُ لَكُمْ) اﻫ (رَوَاهُ الْبَزَّارُ) فِى مُسْنَدِهِ (وَ)قَالَ الْهَيْثَمِىُّ فِى مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ (رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ) اﻫ فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ مَعَ أَحَادِيثَ وَءَاثَارٍ أُخَرَ أَنَّ الْمَيِّتَ لا يَصِيرُ بَعْدَ مَوْتِهِ كَالْخَشَبَةِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ نَفْعٌ مِنْ قِسْمٍ مِنَ الْمَوْتَى بَعْدَ مَوْتِهِمْ لِلأَحْيَاءِ وَهَذَا لا يُخَالِفُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِى مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ إِذَا مَاتَ ابْنُ ءَادَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلاثٍ اﻫ الْحَدِيثَ لِأَنَّ الْعَمَلَ الَّذِى يَنْقَطِعُ هُوَ عَمَلُ الْمَيِّتِ التَّكْلِيفِىُّ الَّذِى يَكُونُ لَهُ جَزَاءٌ عَلَيْهِ لا كُلُّ عَمَلٍ (وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِىُّ فِى مُعْجَمَيْهِ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ عَنْ عُثْمَانَ بنِ حُنَيْفٍ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَخْتَلِفُ) أَىْ يَتَرَدَّدُ (إِلَى عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (فَكَانَ عُثْمَانُ لا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ وَلا يَنْظُرُ فِى حَاجَتِهِ) لِشِدَّةِ انْشِغَالِهِ فَيَنْسَى (فَلَقِىَ عُثْمَانَ بنَ حُنَيْفٍ فَشَكَا إِلَيْهِ ذَلِكَ فَقَالَ ائْتِ الْمِيضَأَةَ فَتَوَضَّأْ ثُمَّ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قُلِ اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ نَبِىِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ إِنِّى أَتَوَجَّهُ بِكَ إِلَى رَبِّى فِى حَاجَتِى لِتُقْضَى لِى ثُمَّ رُحْ حَتَّى أَرُوحَ مَعَكَ فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ فَفَعَلَ مَا قَالَ) لَهُ عُثْمَانُ بنُ حُنَيْفٍ (ثُمَّ أَتَى بَابَ عُثْمَانَ) بنِ عَفَّانَ (فَجَاءَ الْبَوَّابُ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَأَدْخَلَهُ عَلَى عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (فَأَجْلَسَهُ عَلَى طِنْفِسَتِهِ) أَىْ بِسَاطِهِ (فَقَالَ مَا حَاجَتُكَ فَذَكَرَ لَهُ حَاجَتَهُ فَقَضَى لَهُ حَاجَتَهُ وَقَالَ مَا ذَكَرْتُ حَاجَتَكَ حَتَّى كَانَتْ) أَىْ جَاءَتْ (هَذِهِ السَّاعَةُ) أَىْ مَا ذَكَـرْتُهَا إِلَّا الآنَ فَقَضَى لَهُ حَاجَتَهُ (ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ فَلَقِىَ عُثْمَانَ بنَ حُنَيْفٍ فَقَالَ جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا مَا كَانَ يَنْظُرُ فِى حَاجَتِى وَلا يَلْتَفِتُ إِلَىَّ حَتَّى كَلَّمْتَهُ فِىَّ فَقَالَ عُثْمَانُ بنُ حُنَيْفٍ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (وَاللَّهِ مَا كَلَّمْتُهُ وَلَكِنْ شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَتَاهُ ضَرِيرٌ فَشَكَى إِلَيْهِ ذَهَابَ بَصَرِهِ فَقَالَ إِنْ شِئْتَ صَبَرْتَ وَإِنْ شِئْتَ دَعَوْتُ لَكَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ شَقَّ عَلَىَّ ذَهَابُ بَصَرِى وَإِنَّهُ لَيْسَ لِى قَائِدٌ فَقَالَ لَهُ ائْتِ الْمِيضَأَةَ فَتَوَضَّأْ وَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قُلْ هَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ فَفَعَلَ الرَّجُلُ مَا قَالَ فَوَاللَّهِ مَا تَفَرَّقْنَا وَلا طَالَ بِنَا الْمَجْلِسُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْنَا الرَّجُلُ وَقَدْ أَبْصَرَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِهِ ضُرٌّ قَطُّ اهـ قَالَ الطَّبَرَانِىُّ) فِى كُلٍّ مِنْ مُعْجَمَيْهِ (وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ اﻫ وَالطَّبَرَانِىُّ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ لا يُصَحِّحُ حَدِيثًا مَعَ اتِّسَاعِ كِتَابِهِ الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ) فَإِنَّهُ (مَا قَالَ عَنْ حَدِيثٍ أَوْرَدَهُ) فِيهِ (وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ إِلَّا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ) بِطُولِهِ (فِى) مُعْجَمِهِ (الصَّغِيرِ وَصَحَّحَهُ) كَمَا تَقَدَّمَ وَلَمْ يُصَحِّحْ فِيهِ غَيْرَهُ (فَفِيهِ دَلِيلٌ) عَلَى (أَنَّ الأَعْمَى تَوَسَّلَ بِالنَّبِىِّ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فِى غَيْرِ حَضْرَتِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِ عُثْمَانَ بنِ حُنَيْفٍ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (حَتَّى دَخَلَ عَلَيْنَا الرَّجُلُ وَفِيهِ أَنَّ التَّوَسُّلَ بِالنَّبِىِّ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (جَائِزٌ فِى حَالَةِ حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ) بِدَلِيلِ أَمْرِ عُثْمَانَ بنِ حُنَيْفٍ لِصَاحِبِ الْحَاجَةِ أَنْ يَتَوَسَّلَ بِنَبِىِّ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ بَعْدَ وَفَاتِهِ (فَبَطَلَ قَوْلُ ابْنِ تَيْمِيَةَ لا يَجُوزُ التَّوَسُّلُ إِلَّا بِالْحَىِّ الْحَاضِرِ) اﻫ وَهِىَ قَاعِدَةٌ ابْتَدَعَهَا لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهَا أَحَدٌ حَتَّى مِنْ أَسْلافِهِ الْمُجَسِّمَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ عِنْدَ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ إِنَّهُ يُقَدَّرُ فِيهِ مَحْذُوفٌ فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلامِ عَلَى مُوجَبِ دَعْوَاهُ اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِدُعَاءِ نَبِيِّنَا وَهَذَا بَاطِلٌ كَمَا سَبَقَ لِأَنَّهُ يَقْتَضِى أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا جَاهِلِينَ بِالْحَقِيقَةِ وَبِأُصُولِ الِاعْتِقَادِ وَلِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلأُصُولِ فَإِنَّ عُلَمَاءَ الأُصُولِ لا يُجَوِّزُون التَّأْوِيلَ إِلَّا لِدَلِيلٍ عَقْلِىٍّ قَاطِعٍ أَوْ نَقْلِىٍّ ثَابِتٍ فَالأَصْلُ فِى مَا جَاءَ فِى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِبْقَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَعَدَمُ التَّقْدِيرِ وَالتَّأْوِيلِ إِلَّا لِدَلِيلٍ وَلا دَلِيلَ هُنَا إِلَّا رَأْىُ ابْنِ تَيْمِيَةَ الَّذِى جَعَلَهُ أَصْلًا وَأَرَادَ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَشَرَطَ مَا لَمْ يَشْرُطْهُ شَرْعُ اللَّهِ تَعَالَى (وَكُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِى كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ. وَأَمَّا تَمَسُّكُ بَعْضِ الْوَهَّابِيَّةِ لِدَعْوَى ابْنِ تَيْمِيَةَ هَذِهِ فِى رِوَايَةِ حَدِيثِ التِّرْمِذِىِّ الَّذِى فِيهِ اللَّهُمَّ شَفِّعْهُ فِىَّ وَشَفِّعْنِى فِى نَفْسِى فَلا يُفِيدُ أَنَّهُ لا يُتَبَرَّكُ بِذَاتِ النَّبِىِّ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا يُتَوَسَّلُ بِهِ فِى غَيْبَتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ إِذْ إِنَّ الصَّحَابِىَّ الأَعْمَى رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ دَعَا اللَّهَ مُتَوَسِّلًا بِالنَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعَافِيَهُ وَدَعَا اللَّهَ أَنْ يُحَقِّقَ مُرَادَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُرَادَهُ فِى الشِّفَاءِ وَلَيْسَ فِى ذَلِكَ تَنَاقُضٌ يُوجِبُ الإِخْرَاجَ عَنِ الظَّاهِرِ وَالتَّقْدِيرِ وَالتَّأْوِيلِ (بَلِ التَّبَرُّكُ) وَالتَّوَسُّلُ (بِذَاتِ النَّبِىِّ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِجْمَاعٌ لَمْ يُخَالِفْهُ إِلَّا ابْنُ تَيْمِيَةَ) كَيْفَ (وَالرَّسُولُ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (هُوَ الَّذِى قَالَ فِيهِ الْقَائِلُ) شِعْرًا مِنَ الطَّوِيلِ مِنْ جُمْلَتِهِ

(وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ثِمَالَ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلأَرَامِلِ)

أَوْرَدَهُ الْبُخَارِىُّ) فِى كِتَابِ الِاسْتِسْقَاءِ مِنْ صَحِيحِهِ ورُوِى بِتَثْلِيثِ اللَّامِ مِنْ ثِمَال وَتَثْلِيثِ الْهَاءِ مِنْ عِصْمَة وَفِيهِ مَدْحُ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ أَبْيَضُ وَأَنَّ الْمَطَرَ يُطْلَبُ مِنَ اللَّهِ بِوَجْهِهِ أَىْ أَنَّهُ يُتَوَسَّلُ بِذَاتِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِطَلَبِ الْمَطَرِ وَهَذَا قَدْ قِيلَ لِلنَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُنْكِرْهُ وَذَاتُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ مَوْجُودَةٌ قَبْلَ الْمَوْتِ وَبَعْدَهُ فَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ إِنَّمَا يُتَوَسَّلُ بِدُعَائِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ لا بِذَاتِهِ فَقَدْ أَبْعَدَ النُّجْعَةَ وَأَتَى بِمَا لا طَائِلَ تَحْتَهُ (وَأَمَّا تَوَسُّلُ) سَيِّدِنَا (عُمَرَ بِالْعَبَّاسِ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا (بَعْدَ مَوْتِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ لِأَنَّ الرَّسُولَ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قَدْ مَاتَ) كَمَا تَوَهَّمَ بَعْضُ النَّاسِ (بَلْ كَانَ لِأَجْلِ رِعَايَةِ حَقِّ قَرَابَتِهِ مِنَ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) كَمَا بَيَّنَهُ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ نَفْسُهُ وَسَيَأْتِى كَلامُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَ(بِدَلِيلِ قَوْلِ الْعَبَّاسِ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (حِينَ قَدَّمَهُ) سَيِّدُنَا (عُمَرُ اللَّهُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ تَوَجَّهُوا بِى إِلَيْكَ لِمَكَانِى) أَىْ لِمَكَانَتِى وَمَنْزِلَتِى (مِنْ نَبِيِّكَ) اﻫ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَتَبَيَّنَ بُطْلانُ رَأْىِ ابْنِ تَيْمِيَةَ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ مُنْكِرِى التَّوَسُّلِ رَوَى هَذَا الأَثَرَ الزُّبَيْرُ بنُ بَكَّارٍ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ) فِى فَتْحِ الْبَارِى وَصَنِيعُهُ فِى إِيرَادِهِ فِى الْفَتْحِ يَدُلُّ عَلَى تَقْوِيَتِهِ لَهُ (وَيُسْتَأْنَسُ لَهُ أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِى الْمُسْتَدْرَكِ) عَلَى الصَّحِيحَيْنِ (أَنَّ عُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرَى لِلْعَبَّاسِ مَا يَرَى الْوَلَدُ لِوَالِدِهِ يُعَظِّمُهُ وَيُفَخِّمُهُ وَيَبَرُّ قَسَمَهُ فَاقْتَدُوا أَيُّهَا النَّاسُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ) أَىْ بِتَعْظِيمِهِ وَتَفْخِيمِهِ (وَاتَّخِذُوهُ وَسِيلَةً إِلَى اللَّهِ فِى مَا نَزَلَ بِكُمْ) اﻫ أَىْ مِنِ انْقِطَاعِ الْمَطَرِ (فَهَذَا يُوضِّحُ سَبَبَ تَوَسُّلِ عُمَرَ بِالْعَبَّاسِ) وَفِى هَذِهِ الآثَارِ فَوَائِدُ أُخْرَى مِنْهَا مَا قَالَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِى الْفَتْحِ عَقِبَ إِيرَادِهِ هَذِهِ الْقِصَّةَ وَنَصُّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ قِصَّةِ الْعَبَّاسِ اسْتِحْبَابُ الِاسْتِشْفَاعِ بِأَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلاحِ وَأَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ اﻫ وَمِنْهَا أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْمَكَانِ بِمَعْنَى الْمَكَانَةِ شَائِعٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعَرَبِ كَمَا فِى قَوْلِهِ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ سَيِّدِنَا إِدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلامُ فِى سُورَةِ مَرْيَمَ ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا﴾ أَىْ خَصَصْنَاهُ بِمَرْتَبَةٍ عَالِيَةٍ فَيَصِحُّ لِذَلِكَ السُّؤَالُ بِأَيْنَ عَنِ الْمَحَلِّ الْحِسِّىِّ وَالْمَحَلِّ الْمَعْنَوِىِّ وَعَنِ الْحَيِّزِ وَعَنِ الْمَكَانَةِ (فَلا الْتِفَاتَ بَعْدَ هَذَا) كُلِّهِ (إِلَى دَعْوَى بَعْضِ هَؤُلاءِ الْمُشَوِّشِينَ أَنَّ) حَدِيثَ الأَعْمَى غَيْرُ صَحِيحٍ لِكَوْنِهِ يُخَالِفُ أُصُولَ التَّوْحِيدِ فِى تَخَيُّلاتِهِمُ الْبَاطِلَةِ زَاعِمِينَ أَنَّ (الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ فِى) شَأْنِ الأَعْمَى فِى (إِسْنَادِهِ أَبُو جَعْفَرٍ وَهُوَ رَجُلٌ مَجْهُولٌ وَلَيْسَ كَمَا زَعَمُوا بَلْ أَبُو جَعْفَرٍ هَذَا هُوَ أَبُو جَعْفَرٍ الْخَطْمِىُّ) كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ التِّرْمِذِىُّ وَابْنُ السُّنِّىِّ وَالْحَاكِمُ وَالإِمَامُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِىُّ عِنْدَ رِوَايَتِهِمْ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ (ثِقَةٌ) وَثَّقَهُ الْحَافِظُ ابْنُ مَعِينٍ وَالْحَافِظُ النَّسَائِىُّ وَالْحَافِظُ الطَّبَرَانِىُّ وَالْحَافِظُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُمْ (وَكَذَلِكَ دَعْوَى بَعْضِهِمْ وَهُوَ نَاصِرُ الدِّينِ الأَلْبَانِىُّ) فِى كِتَابِهِ التَّوَسُّلُ (أَنَّ مُرَادَ الطَّبَرَانِىِّ بِقَوْلِهِ وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ الْقَدْرُ الأَصْلِىُّ) الْمَرْفُوعُ (وَهُوَ مَا فَعَلَهُ الرَّجُلُ الأَعْمَى فِى حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَقَطْ وَلَيْسَ مُرَادُهُ مَا فَعَلَهُ الرَّجُلُ أَيَّامَ عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَ)كَلامُهُ (هَذَا مَرْدُودٌ) لِمُخَالَفَتِهِ عَادَةَ الْحُفَّاظِ فِى عِبَارَاتِهِمْ وَ(لِأَنَّ عُلَمَاءَ الْمُصْطَلَحِ قَالُوا الْحَدِيثُ يُطْلَقُ عَلَى الْمَرْفُوعِ إِلَى النَّبِىِّ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَالْمَوْقُوفِ عَلَى الصَّحَابَةِ أَىْ أَنَّ كَلامَ الرَّسُولِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يُسَمَّى حَدِيثًا وَقَوْلَ الصَّحَابِىِّ) وَفِعْلَهُ (يُسَمَّى حَدِيثًا وَلَيْسَ لَفْظُ الْحَدِيثِ مَقْصُورًا عَلَى كَلامِ النَّبِىِّ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَقَطْ فِى اصْطِلاحِهِمْ وَهَذَا الْمُمَوِّهُ كَلامُهُ لا يُوَافِقُ) نُصُوصَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَلا يُوَافِقُ (الْمُقَرَّرَ فِى عِلْمِ الْمُصْطَلَحِ) فِى مُخْتَصَرَاتِهِ وَمُطَوَّلاتِهِ (فَلْيَنْظُرْ مَنْ شَاءَ فِى كِتَابِ تَدْرِيبِ الرَّاوِى) لِلْحَافِظِ السُّيُوطِىِّ (وَالإِفْصَاحِ) بِتَكْمِيلِ النُكَتِ عَلَى ابْنِ الصَّلاحِ لِلْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ (وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ الْمُصْطَلَحِ) الْمَشْهُورَةِ كَمُقَدِّمَةِ ابْنِ الصَّلاحِ وَغَيْرِهَا (فَإِنَّ الأَلْبَانِىَّ لَمْ يَجُرَّهُ إِلَى هَذِهِ الدَّعْوَى إِلَّا شِدَّةُ تَعَصُّبِهِ لِهَوَاهُ وَعَدَمُ مُبَالاتِهِ بِمُخَالَفَةِ) إِجْمَاعِ (الْعُلَمَاءِ كَسَلَفِهِ ابْنِ تَيْمِيَةَ) الَّذِى خَرَقَ الإِجْمَاعَ فِى أَكْثَرَ مِنْ سِتِّينَ مَسْأَلَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ فَضْلًا عَنْ مُخَالَفَاتِهِ فِى الأُصُولِ.

(أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا (الَّذِى رَوَاهُ التِّرْمِذِىُّ) فِى كِتَابِ صِفَةِ الْقِيَامَةِ مِنْ سُنَنِهِ (أَنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ) اﻫ (فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى مَنْعِ التَّوَسُّلِ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ) وَلا عَلَى أَنَّ سُؤَالَ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى مَمْنُوعٌ وَأَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِغَيْرِ اللَّهِ مَمْنُوعَةٌ (لِأَنَّ الْحَدِيثَ مَعْنَاهُ أَنَّ الأَوْلَى بِأَنْ يُسْأَلَ وَيُسْتَعَانَ بِهِ) هُوَ (اللَّهُ تَعَالَى وَلَيْسَ مَعْنَاهُ لا تَسْأَلْ غَيْرَ اللَّهِ وَلا تَسْتَعِنْ بِغَيْرِ اللَّهِ. نَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فِى مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِى سُنَنِهِ (لا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا وَلا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِىٌّ) اﻫ (فَكَمَا لا يُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ عَدَمُ جَوَازِ صُحْبَةِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ وَ)لا عَدَمُ جَوَازِ (إِطْعَامِ غَيْرِ التَّقِىِّ وَإِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الأَوْلَى فِى الصُّحْبَةِ الْمُؤْمِنُ وَأَنَّ الأَوْلَى بِالإِطْعَامِ هُوَ التَّقِىُّ كَذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ لا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا الأَوْلَوِيَّةُ وَأَمَّا التَّحْرِيمُ الَّذِى يَدَّعُونَهُ فَلَيْسَ فِى هَذَا الْحَدِيثِ) لاسِيَّمَا وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَيْسَ فِيهِ أَدَاةُ النَّهْىِ فَكَيْفَ تَجَرَّأَتِ الْوَهَّابِيَّةُ عَلَى الِاسْتِدْلالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِمَنْعِ التَّوَسُّلِ وَمَنْعِ نِدَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالطَّلَبِ مِنْهُ زَاعِمِينَ أَنَّهُ يَفْتَحُ بَابَ الشِّرْكِ بَلْ وَصَلَ الأَمْرُ بِهِمْ إِلَى تَكْفِيرِ مَنْ يَضَعُ كَفَّهُ عَلَى شَبِيكَةِ الْقَبْرِ النَّبَوِىِّ مَعَ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ الأَنْصَارِىَّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ جَاءَ إِلَى الْقَبْرِ النَّبَوِىِّ فَوَضَعَ خَدَّهُ عَلَيْهِ وَقَالَ إِنِّى لَمْ ءَاتِ الْحَجَرَ وَلَكِنِّى أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اﻫ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِى الْمُسْتَدْرَكِ وَصَحَّحَهُ وَوَافَقَهُ الذَّهَبِىُّ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ وَإِلَى اللَّهِ الْمَلْجَأُ وَالْمُشْتَكَى. نَعَمْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِنَّ الأَوْلَى وَالأَفْضَلَ أَنْ لا يَضَعَ الزَّائِرُ كَفَّهُ عَلَى الشَّبِيكَةِ لِمُرَاعَاةِ الأَدَبِ فِى حَضْرَةِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ حَىٌّ فِى قَبْرِهِ فَيَقِفُ أَمَامَهُ الزَّائِرُ كَمَا كَانَ لِيَقِفَ لَوْ دَخَلَ حَضْرَتَهُ قَبْلَ الْوَفَاةِ وَلَكِنْ هَذَا أَمْرٌ وَالتَّحْرِيمُ وَالتَّكْفِيرُ أَمْرٌ مُخْتَلِفٌ بِمَرَّةٍ. (وَلا فَرْقَ بَيْنَ التَّوَسُّلِ وَالِاسْتِغَاثَةِ) مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمُسْتَغِيثَ بِالنَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا مُرَادُهُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ الْعَوْنَ مُتَّخِذًا ذِكْرَ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَبًا لِذَلِكَ وَلِهَذَا (فَالتَّوَسُّلُ) قَدْ (يُسَمَّى اسْتِغَاثَةً كَمَا جَاءَ فِى حَدِيثِ الْبُخَارِىِّ أَنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَبْلُغَ الْعَرَقُ نِصْفَ الأُذُنِ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ ثُمَّ مُوسَى ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ الْحَدِيثَ) هَكَذَا لَفْظُهُ (فِى رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا (لِحَدِيثِ الشَّفَاعَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفِى رِوَايَةِ أَنَسٍ رُوِىَ) الْحَدِيثُ (بِلَفْظِ الِاسْتِشْفَاعِ وَكِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ فِى الصَّحِيحِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الِاسْتِشْفَاعَ وَالِاسْتِغَاثَةَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ) كَمَا سَبَقَ نَقْلُهُ عَنِ الْحَافِظِ السُّبْكِىِّ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّ التَّوَسُّلَ وَالِاسْتِغَاثَةَ وَالتَّجَوُّهَ وَالتَّوَجُّهَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ اﻫ (فَسَمَّى الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الطَّلَبَ مِنْ ءَادَمَ أَنْ يَشْفَعَ لَهُمْ إِلَى رَبِّهِمُ اسْتِغَاثَةً) فَكَيْفَ يَجْرُؤُ الْوَهَّابِىُّ عَلَى مَنْعِ الِاسْتِغَاثَةِ بِمَنْ مَاتَ بَلْ وَعَلَى تَكْفِيرِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ. سُبْحَانَكَ رَبِّى هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (ثُمَّ الرَّسُولُ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (سَمَّى الْمَطَرَ مُغِيثًا فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ بِالإِسْنَادِ الصَّحِيحِ) كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْحَافِظُ الْبُوصِيرِىُّ فِى مِصْبَاحِ الزُّجَاجَةِ (أَنَّ الرَّسُولَ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قَالَ اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا مَرِيعًا) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَىْ خَصِيبًا (نَافِعًا غَيْرَ ضَارٍّ عَاجِلًا غَيْرَ ءَاجِلٍ) اﻫ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِىُّ وَغَيْرُهُمْ (فَالرَّسُولُ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (سَمَّى الْمَطَرَ مُغِيثًا لِأَنَّهُ يُنْقِذُ مِنَ الشِّدَّةِ بِإِذْنِ اللَّهِ) مَعَ أَنَّ الْمَطَرَ لا رُوحَ فِيهِ وَلا إِرَادَةَ فَإِذَا جَازَ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ يُنْقِذُ وَيُغِيثُ جَازَ بِالأَوْلَى وَصْفُ الرَّجُلِ الصَّالِحِ الَّذِى جَعَلَ اللَّهُ لَهُ تَصَرُّفًا بَعْدَ الْمَوْتِ بِالْمُنْقِذِ وَالْمُغِيثِ (كَذَلِكَ) فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ جَوَازُ طَلَبِ الْعَوْنِ مِنَ (النَّبِىِّ وَالْوَلِىِّ) لِأَنَّهُمَا (يُنْقِذَانِ مِنَ الشِّدَّةِ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى) سَوَاءٌ كَانَ مَا يُطْلَبُ مِنْهُمَا مِمَّا جَرَتِ الْعَادَةُ أَنْ يَطْلُبَهُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أَمْ لا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ حِبَّانَ فِى صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمِ فِى الْمُسْتَدْرَكِ وَصَحَّحَهُ وَوَافَقَهُ الذَّهَبِىُّ أَنَّ سَيِّدَنَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ طَلَبَ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنْ تَدُلَّهُ عَلَى قَبْرِ سَيِّدِنَا يُوسَفَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَالَتْ لا أَفْعَلُ حَتَّى تُعْطِيَنِى حُكْمِى فَسَأَلَهَا عَنْ حُكْمِهَا فَقَالَتْ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ فِى الْجَنَّةِ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا سَيِّدُنَا مُوسَى ذَلِكَ وَلا قَالَ قَدْ طَلَبْتِ مِنِّى مَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ أَنْ يُطْلَبَ مِنَ الْمَخْلُوقِ بَلْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ أُعْطِهَا حُكْمَهَا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الأَحَادِيثِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.


(التَّبَرُّكُ) أَىْ طَلَبُ زِيَادَةِ الْخَيْرِ (بِآثَارِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)


(اعْلَمْ أَنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَانُوا يَتَبَرَّكُونَ) أَىْ يَطْلُبُونَ مِنَ اللَّهِ الزِّيَادَةَ مِنَ الْخَيْرِ (بِآثَارِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَىْ بِذَاتِهِ وَمَا هُوَ مِنْهُ كَشَعَرِهِ الشَّرِيفِ وَبِمَا انْفَصَلَ عَنْهُ كَعَرَقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا لَمَسَهُ وَلابَسَهُ وَحَلَّ فِيهِ كَقَمِيصِهِ وَجُبَّتِهِ (فِى حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ وَلا زَالَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا عَلَى ذَلِكَ. وَجَوَازُ هَذَا الأَمْرِ يُعْرَفُ مِنْ فِعْلِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَ)إِقْرَارِهِ وَفِعْلِ الصَّحَابَةِ بَعْدَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ بَيَنْهُمْ فَمِنَ الأَوَّلِ أَىِ التَّبَرُّكِ بِذَاتِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا هُوَ مِنْهُ التَّبَرُّكُ بِشَعَرِهِ وَأَظْفَارِهِ وَ(ذَلِكَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَمَ شَعَرَهُ حِينَ حَلَقَ فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَ)قَسَمَ (أَظْفَارَهُ. أَمَّا اقْتِسَامُ الشَّعَرِ فَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِىُّ) فِى كِتَابِ الْوُضُوءِ مِنْ صَحِيحِهِ (وَمُسْلِمٌ) فِى كِتَابِ الْحَجِّ مِنْ صَحِيحِهِ (مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (فَفِى لَفْظِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ) أَىْ أَنَسًا (قَالَ لَمَّا رَمَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَمْرَةَ وَنَحَرَ نُسُكَهُ وَحَلَقَ نَاوَلَ الْحَالِقَ شِقَّهُ) أَىْ شِقَّ رَأْسِهِ (الأَيْمَنِ فَحَلَقَ ثُمَّ دَعَا أَبَا طَلْحَةَ الأَنْصَارِىَّ فَأَعْطَاهُ ثُمَّ نَاوَلَهُ) أَىِ الْحَالِقَ (الشِّقَّ الأَيْسَرَ فَقَالَ احْلِقْ فَحَلَقَ فَأَعْطَاهُ) أَىِ الشَّعَرَ (أَبَا طَلْحَةَ فَقَالَ اقْسِمْهُ بَيْنَ النَّاسِ) اﻫ (وَفِى رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ) فِى كِتَابِ الْحَجِّ مِنْ صَحِيحِهِ (أَيْضًا فَبَدَأَ بِالشِّقِّ الأَيْمَنِ فَوَزَّعَهُ الشَّعْرَةَ وَالشَّعْرَتَيْنِ بَيْنَ النَّاسِ ثُمَّ قَالَ بِالأَيْسَرِ فَصَنَعَ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ هَهُنَا أَبُو طَلْحَةَ فَدَفَعَهُ إِلَى أَبِى طَلْحَةَ) اﻫ (وَفِى رِوَايَةٍ أُخْرَى لِمُسْلِمٍ) فِى كِتَابِ الْحَجِّ مِنْ صَحِيحِهِ (أَيْضًا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ قَالَ لِلْحَلَّاقِ هَا وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْجَانِبِ الأَيْمَنِ فَقَسَمَ شَعَرَهُ بَيْنَ مَنْ يَلِيهِ ثُمَّ أَشَارَ إِلَى الْحَلَّاقِ إِلَى الْجَانِبِ الأَيْسَرِ فَحَلَقَهُ فَأَعْطَاهُ أُمَّ سُلَيْمٍ) اﻫ (فَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ وَزَّعَ بِنَفْسِهِ بَعْضًا بَيْنَ النَّاسِ الَّذِينَ يَلُونَهُ وَأَعْطَى بَعْضًا لِأَبِى طَلْحَةَ لِيُوَزِّعَهُ فِى سَائِرِهِمْ وَأَعْطَى بَعْضًا أُمَّ سُلَيْمٍ فَفِيهِ) ثُبُوتُ (التَّبَرُّكِ بِآثَارِ الرَّسُولِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا هُوَ جُزْءٌ مِنْهُ (فَقَدْ قَسَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَعَرَهُ لِيَتَبَرَّكُوا بِهِ وَلِيَسْتَشْفِعُوا إِلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ مِنْهُ وَيَتَقَرَّبُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ. قَسَمَ) شَعَرَهُ (بَيْنَهُمْ لِيَكُونَ بَرَكَةً بَاقِيَةً بَيْنَهُمْ وَتَذْكِرَةً لَهُمْ) لا لِيَدْفِنُوهُ وَلا لِيَأْكُلُوهُ وَلا لِيَرْمُوهُ وَلا لِيَحْرِقُوهُ فَأَخَذَ بَعْضُهُمْ شَعْرَةً وَبَعْضُهُمْ شَعْرَتَيْنِ وَبَعْضُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَكَانُوا يَتَبَرَّكُونَ بِهِ فِى حَيَاتِهِ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ حَتَّى إِنَّهُمْ كَانُوا يَغْمِسُونَهُ فِى الْمَاءِ فَيَسْقُونَ هَذَا الْمَاءَ بَعْضَ الْمَرْضَى تَبَرُّكًا بِأَثَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ثُمَّ تَبِعَ الصَّحَابَةَ فِى خُطَّتِهِمْ) أَىْ خَصْلَتِهِمْ (فِى التَّبَرُّكِ بِآثَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَسْعَدَهُ اللَّهُ وَتَوَارَدَ ذَلِكَ) وَتَنَاقَلَهُ (الْخَلَفُ عَنِ السَّلَفِ) وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ الإِمَامِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ رَأَيْتُ أَبِى يَأْخُذُ شَعْرَةً مِنْ شَعَرِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَضَعُهَا عَلَى فِيهِ يُقَبِّلُهَا وَأَحْسَبُ أَنِّى رَأَيْتُهُ يَضَعُهَا عَلَى عَيْنِهِ وَيَغْمِسُهَا فِى الْمَاءِ وَيَشْرَبُهُ يَسْتَشْفِى بِهِ وَرَأَيْتُهُ أَخَذَ قَصْعَةَ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَسَلَهَا فِى حُبِّ الْمَاءِ أَىِ الْخَابِيَةِ الَّتِى يُجْعَلُ فِيهَا أَوْ فِى جُبِّ الْمَاءِ أَىْ بِئْرِهِ ثُمَّ شَرِبَ فِيهَا إِلَخ اﻫ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِى الْحِلْيَةِ وَغَيْرُهُ (وَأَمَّا اقْتِسَامُ الأَظْفَارِ فَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِى مُسْنَدِهِ أَنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلَّمَ أَظْفَارَهُ وَقَسَمَهَا بَيْنَ النَّاسِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِيَأْكُلَهَا النَّاسُ بَلْ لِيَتَبَرَّكُوا بِهَا. أَمَّا) تَبَرَّكُهُمْ بِمَا انْفَصَلَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِمِثَالُهُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عِنْدَهَا فَعَرِقَ فَجَعَلَتْ تُنَشِّفُ ذَلِكَ الْعَرَقَ فَتَعْصِرَهُ فِى قَوَارِيرِهَا فَأَفَاقَ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهَا عَمَّا تَفْعَلُ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَرْجُو بَرَكَتَهُ لِصِبْيَانِنَا قَالَ أَصَبْتِ اﻫ وَمِثَالُ تَبَرُّكِهِمْ بِمَا لابَسَهُ أَوْ لَمَسَهُ أَوْ حَلَّ فِيه (جُبَّتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِى) كِتَابِ اللِّبَاسِ وَالزِّينَةِ مِنَ (الصَّحِيحِ عَنْ مَوْلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِى بَكْرٍ قَالَ أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا) أَىْ أَسْمَاءُ (جُبَّةً طَيَالِسَةً كِسْرَوَانِيَّةً) نِسْبَةٌ إِلَى كِسْرَى أَىْ مِنْ صِنَاعَةِ الْعَجَمِ (لَهَا لِبْنَةُ) بِكَسْرِ اللَّامِ وَإِسْكَانِ الْبَاءِ وَهِىَ رُقْعَةٌ فِى جَيْبِ الْقَمِيصِ أَىْ فَتْحَتِهِ (دِيبَاجٍ) أَىْ حَرِيرٍ (وَفَرْجَيْهَا مَكْفُوفَيْنِ) أَىْ وَرَأَيْتُ فَرْجَيْهَا أَىْ شِقَّيْهَا شِقًّا مِنْ خَلْفٍ وَشِقًّا مِنْ قُدَّامٍ مَكْفُوفَيْنِ أَىْ مَعْطُوفَىِ الأَطْرَافِ (وَقَالَتْ هَذِهِ جُبَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ فَلَمَّا قُبِضَتْ قَبَضْتُهَا وَكَانَ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُهَا فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا لِلْمَرْضَى نَسْتَشْفِى بِهَا) اﻫ (وَفِى رِوَايَةٍ) عِنْدَ أَحْمَدَ فِى مُسْنَدِهِ (نَغْسِلُهَا لِلْمَرِيضِ مِنَّا) اﻫ (وَعَنْ حَنْظَلَةَ ابْنِ حِذْيَمٍ قَالَ وَفَدْتُ مَعَ جَدِّى حِذْيَمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِى بَنِينَ) أَىْ أَوْلادًا وَأَوْلادَ أَوْلادٍ (ذَوِى لِحًى وَغَيْرَهُمْ وَهَذَا أَصْغَرُهُمْ فَأَدْنَانِى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَىْ قَرَّبَنِى (وَمَسَحَ رَأْسِى وَقَالَ بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ قَالَ الذَّيَّالُ) وَهُوَ الرَّاوِى عَنْ حَنْظَلَةَ (فَلَقَدْ رَأَيْتُ حَنْظَلَةَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْوَارِمِ وَجْهُهُ أَوِ الشَّاةِ الْوَارِمِ ضَرْعُهَا فَيَقُولُ بِسْمِ اللَّهِ) وَاضِعًا يَدَهُ (عَلَى مَوْضِعِ كَفِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَمْسَحُهُ فَيَذْهَبُ الْوَرَمُ) انْتَهَى (رَوَاهُ الطَّبَرَانِىُّ فِى الأَوْسَطِ وَالْكَبِيرِ بِنَحْوِهِ وَ)قَالَ الْحَافِظُ الْهَيْثَمِىُّ فِى مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ رَوَاهُ (أَحْمَدُ فِى حَدِيثٍ طَوِيلٍ وَرِجَالُ أَحْمَدَ ثِقَاتٌ) اﻫ (وَعَنْ ثَابِتٍ) الْبُنَانِىِّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ كُنْتُ إِذَا أَتَيْتُ أَنَسًا يُخْبَرُ بِمَكَانِى فَأَدْخُلُ عَلَيْهِ فَآخُذُ بِيَدَيْهِ فَأُقَبِّلُهُمَا وَأَقُولُ بِأَبِى هَاتَانِ الْيَدَانِ اللَّتَانِ مَسَّتَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُقَبِّلُ عَيْنَيْهِ وَأَقُولُ بِأَبِى هَاتَانِ الْعَيْنَانِ اللَّتَانِ رَأَتَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) اﻫ (رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى فِى مُسْنَدِهِ وَ)قَالَ الْهَيْثَمِىُّ فِى الْمَجْمَعِ (رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ غَيْرُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أَبِى بَكْرٍ الْمُقَدَّمِىِّ وَهُوَ ثِقَةٌ) اﻫ

(وَعَنْ دَاوُدَ بنِ أَبِى صَالِحٍ قَالَ أَقْبَلَ مَرْوَانُ) بنُ الْحَكَمِ فِى أَثْنَاءِ حُكْمِهِ عَلَى الْمَدِينَةِ (يَوْمًا فَوَجَدَ رَجُلًا وَاضِعًا وَجْهَهُ عَلَى الْقَبْرِ فَقَالَ أَتَدْرِى مَا تَصْنَعُ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ أَبُو أَيُّوبَ) خَالِدُ بنُ زَيْدٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (فَقَالَ نَعَمْ) أَىْ أَنَا أَعْرِفُ مَا أَصْنَعُ (جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ ءَاتِ الْحَجَرَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لا تَبْكُوا عَلَى الدِّينِ إِذَا وَلِيَهُ أَهْلُهُ وَلَكِنِ ابْكُوا عَلَيْهِ إِذَا وَلِيَهُ غَيْرُ أَهْلِهِ) اﻫ وَكَلامُهُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ مَرْوَانَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ أَىْ لَيْسَ أَهْلًا لِتَوَلِّى الإِمَارَةِ وَالْحُكْمِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِىُّ فِى الْكَبِيرِ وَالأَوْسَطِ. وَرَوَى الْبَيْهَقِىُّ فِى دَلائِلِ النُّبُوَّةِ وَالْحَاكِمُ فِى مُسْتَدْرَكِهِ وَغَيْرُهُمَا بِالإِسْنَادِ أَنَّ خَالِدَ بنَ الْوَلِيدِ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (فَقَدَ قَلَنْسُوَةً لَهُ يَوْمَ) مَعْرَكَةِ (الْيَرْمُوكِ فَقَالَ اطْلُبُوهَا فَلَمْ يَجِدُوهَا ثُمَّ طَلَبُوهَا فَوَجَدُوهَا فَقَالَ خَالِدٌ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَلَقَ رَأْسَهُ فَابْتَدَرَ النَّاسُ جَوَانِبَ شَعَرِهِ فَسَبَقْتُهُمْ إِلَى نَاصِيَتِهِ فَجَعَلْتُهَا فِى هَذِهِ الْقَلَنْسُوَةِ فَلَمْ أَشْهَدْ قِتَالًا وَهِىَ مَعِى إِلَّا رُزِقْتُ النَّصْرَ) اﻫ (وَهَذِهِ الْقِصَّةُ صَحِيحَةٌ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الشَّيْخُ حَبِيبُ الرَّحْمٰنِ الأَعْظَمِىُّ) الْهِنْدِىُّ الْمُحَدِّثُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى (فِى تَعْلِيقِهِ عَلَى الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ فَقَالَ قَالَ الْبُوصِيرِىُّ) أَىْ فِى إِتْحَافِ الْخِيَرَةِ الْمَهَرَةِ (رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى) أَىْ فِى مُسْنَدِهِ (بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَقَالَ الْهَيْثَمِىُّ) أَىْ فِى مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ (رَوَاهُ الطَّبَرَانِىُّ وَأَبُو يَعْلَى بِنَحْوِهِ وَرِجَالُهُمَا رِجَالُ الصَّحِيحِ اﻫ فَلا الْتِفَاتَ بَعْدَ هَذَا إِلَى دَعْوَى مُنْكِرِى التَّوَسُّلِ وَالتَّبَرُّكِ بِآثَارِهِ الشَّرِيفَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَالْغَرِيبُ أَنَّ مَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ يَنْتَسِبُ إِلَى الْمَذْهَبِ الْحَنْبَلِىِّ مَعَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بنَ الإِمَامِ أَحْمَدَ فِى كِتَابِ الْعِلَلِ وَمَعْرِفَةِ الرِّجَالِ قَالَ سَأَلْتُهُ يَعْنِى أَبَاهُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ الرَّجُلِ يَمَسُّ مِنْبَرَ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَتَبَرَّكُ بِمَسِهِ وَيُقَبِّلُهُ وَيَفْعَلُ بِالْقَبْرِ مِثْلَ ذَلِكَ أَوْ نَحْوَ هَذَا يُرِيدُ بِذَلِكَ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ لا بَأْسَ بِذَلِكَ اﻫ وَرَوَى الْحَافِظُ الْحَنْبَلِىُّ الضِّيَاءُ الْمَقْدِسِىُّ فِى كِتَابِهِ الْحِكَايَاتُ الْمَنْثُورَةُ الْمَحْفُوظِ بِظَاهِرِيَّةِ دِمَشْقَ أَنَّ الْحَافِظَ عَبْدَ الْغَنِىِّ بنَ سَعِيدٍ الْحَنْبَلِىَّ كَانَتْ خَرَجَتْ لَهُ دُمَّلَةٌ فَأَعْيَاهُ عِلاجُهَا فَذَهَبَ إِلَى قَبْرِ الإِمَامِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ فَمَسَحَهَا فَتَعَافَى اﻫ وَرَوَى الْحَافِظُ الْحَنْبَلِىُّ عَبْدُ الرَّحْمٰنِ ابْنُ الْجَوْزِىِّ فِى مَنَاقِبِ الإِمَامِ أَحْمَدَ تَبَرُّكَ الإِمَامِ الشَّافِعِىِّ بِقَمِيصِ الإِمَامِ أَحْمَدَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا اﻫ

وَقَدْ نَظَمَ الأَدِيبُ الشَّيْخُ غَانِمُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمٰنِ الْفَوَارِىُّ مَا ذَكَـرَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِى التَّبَرُّكِ فِى أُرْجُوزَةٍ سَهْلَةٍ شَاعَتْ عَلَى أَلْسِنَةِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ فَقَالَ

أَبْدَأُهَـا بِقَـــــــــــــوْلِ بِـــــــــــــــــــــــــسْـــــمِ اللَّهِ تَنَـزَّهَ الرَّحْمٰنُ عَنْ أَشْــبَـــــــــــــــــــــــــاهِ

وَأَحْمَـدُ الإِلَهَ ذَا الْجَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلالِ لِفَضْـلِهِ بِالْهَـدْىِ وَالنَّــــــــــــــــــــــوَالِ

ثُمَّ الصَّلاةُ وَالسَّـلامُ مِنَّــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا عَلَى نَبِىٍّ لِلْفَــــــــــــــــلاحِ سَــــــــــنَّا

طَرِيقَـةَ التَّبَـرُّكِ الْمَيْمُونَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــهْ فِى ذَاكَ أَهْـلُ الْعِلْمِ يَتْبَعُـونَــهْ

فَإِنْ رَأَيْتُمْ مَنْ أَتَاكُمْ يَدَّعِـــــــــــــــــــى بِأَنَّـــــــــــــــــهُ غَـْيرَ الْهُدَى لَمْ يَتْبَـعِ

وَقَدْ أَحَـلَّ حُرْمَةً ضَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــلالا مِنْ جَهلِهِ أَوْ حَـرَّمَ الْحَــــــلالا

قُولُوا لَهُ إِذْ حَـرَّمَ التَّبَرُّكَـــــــــــــــــــــــــــــــــــا بِأَثَـرِ النَّبِىِّ زَادَ شَـــرُّكَــــــــــــــــــــــــــــــــا

إِنَّ اقْتِسَــــــــــــــامَ الشَّعْرِ يَا مُمَـــــــــارِى رَوَاهُ مُسْـِلمٌ كَذَا الْبُخَــــــــــــارِى

وَقِسْمَةُ الأَظْفَــــــــــــــارِ أَيْضًا تُسْنَدُ صَحِيحَةً كَمَـا رَوَاهَا أَحْمَــــــــدُ

وَجُبَّةُ النَّبِىِّ سَـلْ أَسْـمَــــــــــــــــــــــــــــــــــاءَ أَمَـا رَأَتْ فِى مَائِهَا الشِّـفَـــــــــــاءَ

هَـاكَ دَلِيلًا مِنْ أَبِى أَيُّـــــــــــــــــــــــــوبِ يَمَسُّ بِالْخـَدِّ ثَرَى الْمَحْبُـــــــــوبِ

أَنْعِمْ بِهِ رَدًّا عَلَى مَنْ أَنْكَــــــــــــــــرَا جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ الْحَجَرَا

فَمُسْـلِمٌ أُولاهُـــــــــــــــــمَا رَوَاهَـــــــــــــــــــا صَحِيحَةَ الإِسْـنَادِ عَنْ مَوْلاهَا

وَأَحْمَدٌ رَوَى الْحَدِيثَ الثَّـــــــــــــــــانِى رَدَّ الصَّحَــــــــــــــــابِىِّ عَلَى مَرْوَانِ

وَخَالِدٌ لِلْجَيْشِ فِى قَـــــــــــــــــلَنْسُوَةْ قَالَ اطْلُبُوا سَبَبُ ذاكَ مــــا هُوَهْ

لِأَنَّ فِى الطَّيَّاتِ شَعْرَاتِ النَّبِىّ وَذَاكَ فِى الْيَرْمُوكِ يَرْوِى الْبَيْهَقِىّ

وَمَسْحُ أَحْمَدٍ لِرَأْسِ حَنْظَلَــــــــــــــهْ بِكَفِّـهِ وَدَاعِيًـــــــــــــــا بِالْخَـــــــــــــيْرِ لَــــــــــــهْ

مَنْ جَاءَهُ وَالْوَجْهُ مِنْــــــــــهُ وَارِمُ بِمَسْـــــــــــــــــــحَةٍ يَعُــــــــــــودُ وَهُوَ سَـــــالِمُ

بَرَكَـةُ النَّبِىِّ طَــــــــــــــــــــــــــــــابَ عَرْفُهُ مَــــــــــــوْضِـعُ كَــــــــــــــــفِّهِ فَكَــــــيْفَ كَفُّهُ

الطَّبَـرَانِىُّ رَوَى وَأَحْمَــــــــــــــــــــــــــــــــــــدُ مُـــــــــــطَوَّلًا عَنِ الثِّقَــــــــــــــاتِ يُسْــــــنِدُ

وَثَابِتٌ قَدْ كَرَّرَ التَّقْبِيـــــــــــــــــــلا يـَــــــــــــــــدًا وَعَيْنًا رَأَتِ الرَّسُـــــــــــــــــــــــولا

وَأَنَسٌ عَنْ مِثْلِ ذَاكَ مَا زَجَرْ مُجَــــــــــــــــوِّزًا رَوَى أَبُــــــو يَعْلَى الأَثَـــــرْ

يَا إِخْوَتِى مِنْ فَضْلِـــــــهِ تَبَرَّكُوا تَمَسَّكُــــــــــــوا بِهَدْيِهِ لا تَتْرُكُـــــــــــــــــــــــوا

أَجَـازَهُ نَبِيُّنَـا الْمُعَظَّــــــــــــــــــــــــــــــــــــمُ فَــــــــــفَتِّشُوا عَنْ ذَيْلِ مَـــــــــــــــــــنْ يُحَرِّمُ

فَإِنَّهُ أَخُو الْجَهُولِ فِى الْغَبَــــــــــا وَمِثْـــــــــــــــــــلَهُ يَأْبَى الْكَــــــــــرِيمُ يَصْحَبَا

نَظَمْتُهـا مُرْشِـدَةً عَــــــــــــــــــــــــــزِيزَهْ أَكْرِمْ بِهَا فِى الْخَيْرِ مِنْ أُرْجُوزَهْ اﻫ

(الِاجْتِهَادُ وَالتَّقْلِيدُ)


(الِاجْتِهَادُ هُوَ اسْتِخْرَاجُ الأَحْكَامِ الَّتِى لَمْ يَرِدْ فِيهَا نَصٌّ صَرِيحٌ لا يَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدًا) أَىْ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ نَبِىُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الآيَاتِ وَالأَحَادِيثِ قِسْمَانِ قِسْمٌ صَرِيحٌ لا يَحْتَمِلُ أَىَّ مَعْنًى ءَاخَرَ فَهَذَا لا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ وَفِى مِثْلِهِ قَالَ أَبُو بَكْرِ بنُ الْمُنْذِرِ فِى كِتَابِ الأَوْسَطِ لَهُ إِذَا ثَبَتَ الْخَبَرُ ارْتَفَعَ النَّظَرُ اﻫ وَقِسْمٌ تَتَجَاذَبُهُ الِاحْتِمَالاتُ فَهُوَ مَجَالُ نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ فَضْلًا عَنْ قَضَايَا تَحْصُلُ وَمَسَائِلَ تُطْرَحُ لَمْ يُذْكَرْ حُكْمُهَا تَصْرِيحًا فِى الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ وَلَمْ يَسْبِقْ فِيهَا إِجْمَاعٌ مِنَ الأُمَّةِ فَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ يَبْذُلُ وُسْعَهُ لِاسْتِخْرَاجِ حُكْمِهَا مُسْتَنِدًا عَلَى الأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ فِى الشَّرِيعَةِ وَعَلَى قَوَاعِدَ مَأْخُوذَةٍ مِنْهَا وَلا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِى مَوْرِدِ النَّصِّ وَلا تَشَهِّيًا مِنْ غَيْرِ رُجُوعٍ إِلَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ وَمِنْ غَيْرِ بَذْلِ الْجُهْدِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِى ذَلِكَ. رَوَى الْبَيْهَقِىُّ فِى مَنَاقِبِ الشَّافِعِىِّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ الإِمَامَ الشَّافِعِىَّ عَنْ حُكْمِ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِىُّ قَدْ جَاءَ فِيهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ وَهَلْ تَقُولُ بِذَلِكَ فَقَالَ الشَّافِعِىُّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ هَلْ تَرَى عَلَى وَسَطِى زُنَّارًا هَلْ تَرَانِى خَرَجْتُ مِنَ الْكَنِيسَةِ أُشْهِدُكُمْ أَنَّنِى مَتَى مَا قُلْتُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا ثُمَّ لَمْ ءَاخُذْ بِهِ أَنَّ عَقْلِىَ يَكُونُ قَدْ ذَهَبَ اﻫ (فَالْمُجْتَهِدُ مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ) اسْتِنْبَاطِ الأَحْكَامِ الَّتِى لَمْ يَرِدْ فِيهَا نَصٌّ صَرِيحٌ وَلا أَجْمَعَتْ عَلَيْهَا الأُمَّةُ. وَإِنَّمَا يَتَحَصَّلُ لَهُ (ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ حَافِظًا لِآيَاتِ الأَحْكَامِ) أَىِ الآيَاتِ الْمُتَضَمِّنَةِ أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً وَقِيلَ هِىَ خَمْسُمِائَةٍ وَلَمْ يَرْتَضِهِ قَوْمٌ وَقَالُوا هِىَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ (وَأَحَادِيثِ الأَحْكَامِ) وَقِيلَ هِىَ خَمْسُمِائَةٍ أَيْضًا وَلَمْ يَرْتَضِهِ قَوْمٌ وَقَالُوا بَلْ أَكْثَرُ (وَ)مُحَصِّلًا (مَعْرِفَةَ أَسَانِيدِهَا وَمَعْرِفَةَ أَحْوَالِ رِجَالِ الإِسْنَادِ) لِيَحْكُمَ عَلَى الأَحَادِيثِ تَصْحِيحًا (وَ)تَضْعِيفًا وَتَرْجِيحًا وَتَقْدِيمًا لِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ بِنَاءً لِاجْتِهَادِهِ لا تَقْلِيدًا لِغَيْرِهِ مَعَ (مَعْرِفَةِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ) مِنَ الآيَاتِ وَالأَحَادِيثِ حَتَّى لا يَعْتَمِدَ عَلَى حُكْمٍ مَنْسُوخٍ وَيُهْمِلَ الِاعْتِمَادَ عَلَى النَّاسِخِ عِلْمًا بِأَنَّ النَّسْخَ هُوَ رَفْعُ حُكْمٍ شَرْعِىٍّ سَابِقٍ بِحُكْمٍ لاحِقٍ وَيَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ وَالْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ إِلَّا حَيْثُ كَانَتْ دِلالَةُ الْكِتَابِ قَطْعِيَّةً فَلا يُنْسَخُ إِلَّا بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ (وَ)لا بُدَّ أَيْضًا لِبُلُوغِ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ مِنْ مَعْرِفَةِ مَا هُوَ مِنَ الأَحْكَامِ عَامٌّ وَمَا هُوَ خَاصٌّ فَإِنَّهُ إِذَا تَعَارَضَ فِى الظَّاهِرِ نَصَّانِ أَحَدُهُمَا عَامٌّ وَالآخَرُ خَاصٌّ لَزِمَ تَقْدِيمُ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ فَمَنْ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ (الْعَامِّ وَالْخَاصِّ) عَجَزَ عَنْ فِعْلِ ذَلِكَ (وَ)مَعَ ذَلِكَ لا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ (الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ) فَإِنَّ الْمُطْلَقَ هُوَ مَا دَلَّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هِىَ مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ أَىْ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ أَىِّ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهَا وَأَمَّا الْمُقَيَّدُ فَهُوَ مَا قُيِّدَ بِصِفَةٍ مِنَ الصِّفَاتِ أَىْ بِعَارِضٍ مِنَ الْعَوَارِضِ الَّتِى تَعْرِضُ لِلْمَاهِيَّةِ وَذَلِكَ كَالْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ عِنْدَ الإِمَامِ أَحْمَدَ بِلَفْظِ يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّهُ مُطْلَقٌ لَمْ يُقَيَّدْ فِيهِ الْمَسْحُ بِحَالٍ وَلا عَارِضٍ لَكِنَّهُ قَدْ رُوِىَ مُقَيَّدًا عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ بِلَفْظِ إِذَا تَطَهَّرَ فَلَبِسَ اﻫ فَيَحْتَاجُ الْمُجْتَهِدُ عِنْدَ وُرُودِ أَخْبَارٍ وَءَايَاتٍ مُطْلَقَةٍ وَأُخْرَى مُقَيَّدَةٍ أَنْ يَعْرِفَ مَتَى يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَمَتَى لا يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَإِنْ لَمْ يُمَيِّزِ الْمُطْلَقَ مِنَ الْمُقَيَّدِ وَلا عَرَفَ قَوَاعِدَ حَمْلِ الأَوَّلِ عَلَى الثَّانِى تَخَبَّطَ عِنْدَ الِاسْتِنْبَاطِ وَخَرَجَ مِنْ رَأْسِهِ الْعَجَبُ (وَمَعَ) مَا تَقَدَّمَ يُشْتَرَطُ لِلِاجْتِهَادِ (إِتْقَانُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِحَيْثُ إِنَّهُ) أَىِ الْمُجْتَهِدَ (يَحْفَظُ مَدْلُولاتِ أَلْفَاظِ النُّصُوصِ) أَىْ يَفْهَمُ جَيِّدًا مَعَانِىَ النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ وَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ (عَلَى حَسَبِ اللُّغَةِ الَّتِى نَزَلَ بِهَا الْقُرْءَانُ) وَجَاءَتْ بِهَا الأَحَادِيثُ أَىْ عَلَى حَسَبِ مَا كَانَ الْعَرَبُ يَتَكَلَّمُونَ فِى زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِى سُورَةِ الشُّعَرَاءِ ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُّبِينٍ﴾ وَقَالَ فِى سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ ﴿بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾ فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ لُغَةَ الْعَرَبِ عَلَى حَسَبِ كَلامِ أَهْلِهَا فِى زَمَنِ الْوَحْىِ عَجَزَ عَنْ مَعْرِفَةِ مَعَانِى الآيَاتِ وَالأَحَادِيثِ فَهُوَ بِالأَوْلَى عَاجِزٌ عَنْ مَعْرِفَةِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ أَحْكَامٍ وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الِاجْتِهَادُ وَلا الْهُجُومُ عَلَى الْفَتْوَى وَكَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَأَتْبَاعُهُمْ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ بِالسَّلِيقَةِ إِذْ كَانُوا يَنْشَأُونَ بَيْنَ قَوْمٍ يَتَكَلَّمُونَ عَلَى الصَّوَابِ لَمْ تَدْخُلْ لُغَتَهُمْ عُجْمَةٌ وَلا خَالَطَهَا لَحْنٌ أَوْ عَامِيَّةٌ وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدِ انْقَطَعَ السَّلِيقِيُّونَ فَمَنْ أَرَادَ مَعْرِفَةَ لُغَةِ الْعَرَبِ احْتَاجَ إِلَى دِرَاسَةِ النَّحْوِ وَالصَّرْفِ وَالْبَلاغَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إِلَى الْحَدِّ الَّذِى يُتْقِنُ بِوَاسِطَتِهِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ لُغَةِ الْقُرْءَانِ.

(وَ)يَحْتَاجُ الْمُجْتَهِدُ كَذَلِكَ (إِلَى مَعْرِفَةِ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُجْتَهِدُونَ وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ لا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرِقَ الإِجْمَاعَ أَىْ إِجْمَاعَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ) فَإِنَّ الْمُجْتَهِدِينَ إِذَا أَجْمَعُوا عَلَى قَوْلٍ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يُخَالِفَ الإِجْمَاعَ فَيَأْتِىَ بِقَوْلٍ ءَاخَرَ وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ إِذَا انْقَسَمُوا عَلَى قَوْلَيْنِ فِى الْمَسْأَلَةِ لَمْ يَجُزِ اسْتِحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ لِأَنَّ انْقِسَامَهُمْ عَلَى قَوْلَيْنِ فَقَطْ اتِّفَاقٌ مِنْهُمْ عَلَى سُقُوطِ كُلِّ قَوْلٍ غَيْرِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ (وَيُشْتَرَطُ فَوْقَ ذَلِكَ شَرْطٌ وَهُوَ رُكْنٌ عَظِيمٌ فِى الِاجْتِهَادِ وَهُوَ فِقْهُ النَّفْسِ أَىْ قُوَّةُ الْفَهْمِ وَالإِدْرَاكِ) فَإِنَّ الشَّخْصَ لَوْ أَحَاطَ بِآيَاتِ الأَحْكَامِ وَأَحَادِيثِ الأَحْكَامِ وَمَهَرَ فِى لُغَةِ الْعَرَبِ وَعَرَفَ النَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ وَالْمُطْلَقَ مِنَ الْمُقَيَّدِ وَالْعَامَّ مِنَ الْخَاصِّ وَمَوَاضِعَ الإِجْمَاعِ وَالْخِلافِ قَدْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَخْلِصَ أَحْكَامَ الْحَوَادِثِ مُبَاشَرَةً مِنَ الْقُرْءَانِ وَالسُّنَّةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَرَائِحَ تَخْتَلِفُ وَالأَفْهَامَ تَتَفَاوَتُ فِى الْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِخْرَاجِ وَالِاسْتِنْبَاطِ فَلِذَلِكَ قَالُوا إِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِى الْمُجْتَهِدِ قُوَّةُ الْقَرِيحَةِ وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَارِفِينَ بِاللُّغَةِ وَالنَّحْوِ وَأَسَالِيبِ كَلامِ الْعَرَبِ وَأَشْعَارِهِمْ كَثْرَةٌ وَلَكِنْ قِلَّةٌ مِنْ بَيْنِهِمْ مَنْ يَبْرَعُ فِى النَّظْمِ وَالنَّثْرِ.

(وَتُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ وَهِىَ السَّلامَةُ مِنَ الْكَبَائِرِ وَمِنَ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى الصَّغَائِرِ بِحَيْثُ تَغْلِبُ عَلَى حَسَنَاتِهِ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ) مَعَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى مُرُوءَةِ أَمْثَالِهِ لِيَجُوزَ اسْتِفْتَاؤُهُ وَتَقْلِيدُهُ مِنْ قِبَلِ غَيْرِهِ إِذْ لا يَجُوزُ اسْتِفْتَاءُ غَيْرِ الثِّقَةِ الْعَدْلِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.

(وَأَمَّا الْمُقَلِّدُ فَهُوَ الَّذِى لَمْ يَصِلْ إِلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ) فَلَهُ رُخْصَةٌ بِأَنْ يَعْمَلَ بِأَىِّ مَذْهَبٍ يُرِيدُ وَيَتْبَعَ أَىَّ إِمَامٍ مِنَ الأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ سَوَاءٌ تَبِعَ وَاحِدًا مِنْهُمْ فِى كُلِّ أُمُورِهِ أَمْ تَبِعَ وَاحِدًا فِى بَعْضِ الأُمُورِ وَءَاخَرَ فِى أُمُورٍ أُخْرَى وَثَالِثًا فِى مَسَائِلَ غَيْرِ الَّتِى تَبِعَ فِيهَا الأَوَّلَيْنِ وَهَكَذَا. هَذَا مِنْ حَيْثُ الإِجْمَالُ وَأَمَّا عِنْدَ التَّفْصِيلِ فَالْمُجْتَهِدُ الْمُطْلَقُ هُوَ الْمُجْتَهِدُ الْقَادِرُ عَلَى اسْتِنْبَاطِ الأَحْكَامِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَفْقَ قَوَاعِدَ قَعَّدَهَا وَأُصُولٍ أَصَّلَهَا مُرْتَكِزًا فِى ذَلِكَ عَلَى نُصُوصِ الشَّرِيعَةِ وَهَذَا لا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ مُجْتَهِدًا ءَاخَرَ بَلْ يَتَّبِعُ اجْتِهَادَهُ فِى كُلِّ الْمَسَائِلِ الَّتِى تَحْتَاجُ إِلَى الِاجْتِهَادِ. وَهُنَاكَ مُجْتَهِدٌ مُنْتَسِبٌ وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى اسْتِنْبَاطِ الأَحْكَامِ مُبَاشَرَةً مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَكِنْ وَفْقَ الْقَوَاعِدِ وَالأُصُولِ الَّتِى كَانَ وَضَعَهَا الْمُجْتَهِدُ الْمُطْلَقُ فَهُوَ مُجْتَهِدٌ وَافَقَتْ أُصُولُهُ أُصُولَ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ فَانْتَسَبَ إِلَيْهِ وَقَدْ يُخَالِفُهُ فِى أَحْكَامِ بَعْضِ الْفُرُوعِ وَأَمَّا الْعَالِمُ الْعَاجِزُ عَنِ الِاسْتِنْبَاطِ مُبَاشَرَةً مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِنَقْصٍ عِنْدَهُ فِى بَعْضِ الآلاتِ مَعَ قُدْرَتِهِ وَأَهْلِيَّتِهِ لِلِاسْتِنْبَاطِ مِنْ كَلامِ إِمَامٍ مِنَ الأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ فَيُقَالُ لَهُ مُجْتَهِدٌ فِى الْمَذْهَبِ فَتَكُونُ نُصُوصُ إِمَامِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ الأَصْلَ الَّذِى يَسْتَخْرِجُ مِنْهُ أَحْكَامَ الْحَوَادِثِ وَمِثْلُ هَذَا يُسْتَفْتَى فِى الْحَوَادِثِ فَيُفْتِى مُسْتَنْبِطًا مِنْ نُصُوصِ الْمَذْهَبِ مَا لا يَخْرُجُ فِيهِ عَنْ مُقْتَضَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الإِمَامُ فَإِنْ لَمْ يَصِلِ الشَّخْصُ إِلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ لَكِنَّهُ كَانَ قَادِرًا عَلَى التَّرْجِيحِ بَيْنَ أَقْوَالِ إِمَامِ الْمَذْهَبِ وَالْمُجْتَهِدِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَيْهِ وَالْمُجْتَهِدِينَ فِى الْمَذْهَبِ الَّذِينَ يُسَمَّوْنَ أَيْضًا أَصْحَابَ الْوُجُوهِ اقْتَصَرَ عَمَلُهُ عَلَى بَيَانِ الرَّاجِحِ مِنَ الْمَرْجُوحِ وَلا يُفْتِى فِى الْحَوَادِثِ إِلَّا نَقْلًا عَنِ الْمُجْتَهِدِينَ قَبْلَهُ مُعْتَمِدًا مَا يَعْتَقِدُهُ رَاجِحًا مِنْ كَلامِهِمْ وَأَمَّا مَنْ قَصُرَ عَنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ الأَخِيرَةِ لَكِنَّهُ كَانَ عَارِفًا بِأَقْوَالِ الْمَذْهَبِ وَأَدِلَّتِهَا وَمَا قَالَهُ عُلَمَاءُ الْمَذْهَبِ الَّذِينَ يَعْلُونَهُ رُتْبَةً فَتَكُونُ وَظِيفَتُهُ نَقْلَ مَا قَالُوهُ وَبَيَانَهُ وَإِيضَاحَهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُرَجِّحَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ أَوْ أَنْ يَسْتَنْبِطَ فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يُقَمْ لِكَلامِهِ وَزْنٌ فَإِنْ قَصُرَ الشَّخْصُ عَنْ كُلِّ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ وَلَمْ يَعْرِفْ أَقْوَالَ الْمَذْهَبِ وَوُجُوهَهُ وَتَرْجِيحَاتِهِ وَأَدِلَّتَهُ فَهُوَ عَامِّىٌّ لا مَذْهَبَ لَهُ وَهُوَ الْمُقَلِّدُ الْمَحْضُ الَّذِى لا يَعْرِفُ مَآخِذَ الأَحْكَامِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَفْتِىَ أَىَّ عَالِمٍ مُسْتَأْهِلٍ مِنْ أَىِّ مَذْهَبٍ كَانَ فِى مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ.

وَلْيُعْلَمْ أَنَّ الشَّخْصَ قَدْ يَبْلُغُ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ فِى بَابٍ دُونَ بَابٍ وَمَسْأَلَةٍ دُونَ مَسْأَلَةٍ وَقَدْ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى التَّرْجِيِحِ فِى بَعْضِ الأَقْوَالِ أَوِ الْوُجُوهِ دُونَ الْبَعْضِ الآخَرِ فَيَنْطَبِقُ عَلَيْهِ فِى كُلِّ بَابٍ أَوْ مَسْأَلَةٍ الأَحْكَامُ الْمُنَاسِبَةُ لِأَهْلِيَّتِهِ فِيهَا.

(وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى هَاتَيْنِ الْمَرْتَبَتَيْنِ) أَىِ الْمُجْتَهِدِ وَالْمُقَلِّدِ (قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِى فَوَعَاهَا فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا فَرُبَّ مُبَلِّغٍ) عَلَى وَزْنِ اسْمِ الْفَاعِلِ (لا فِقْهَ عِنْدَهُ) اﻫ (رَوَاهُ التِّرْمِذِىُّ) فِى كِتَابِ الْعِلْمِ مِنْ سُنَنِهِ (وَابْنُ حِبَّانَ) فِى صَحِيحِهِ وَ(الشَّاهِدُ فِى الْحَدِيثِ قَوْلُهُ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَرُبَّ مُبَلِّغٍ لا فِقْهَ عِنْدَهُ) اﻫ (وَفِى رِوَايَةٍ) عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ (وَرُبَّ مُبَلَّغٍ) عَلَى وَزْنِ اسْمِ الْمَفْعُولِ (أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ) اﻫ (فَإِنَّهُ يُفْهِمُنَا أَنَّ مِمَّنْ يَسْمَعُونَ الْحَدِيثَ مِنَ الرَّسُولِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ حَظُّهُ أَنْ يَرْوِىَ مَا سَمِعَهُ لِغَيْرِهِ وَيَكُونَ هُوَ فَهْمُهُ أَقَلَّ مِنْ فَهْمِ مَنْ يُبَلِّغُهُ بِحَيْثُ إِنَّ مَنْ يُبَلِّغُهُ هَذَا السَّامِعُ يَسْتَطِيعُ مِنْ قُوَّةِ قَرِيحَتِهِ أَنْ يَسْتَخِرَجَ مِنْهُ أَحْكَامًا وَمَسَائِلَ وَيُسَمَّى هَذَا الِاسْتِنْبَاطَ وَ)يَكُونُ فِى الْوَقْتِ نَفْسِهِ الْمُبَلِّغُ (الَّذِى سَمِعَ) الْحَدِيثَ مُبَاشَرَةً مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَيْسَ عِنْدَهُ هَذِهِ الْقَرِيحَةُ الْقَوِيَّةُ إِنَّمَا يَفْهَمُ الْمَعْنَى الَّذِى هُوَ قَرِيبٌ مِنَ اللَّفْظِ) وَ(مِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ يَكُونُ أَقَلَّ فَهْمًا) أَىْ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِنْبَاطُ (مِمَّنْ يَسْمَعُ مِنْهُمْ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّابِعِينَ (وَفِى) بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مَا يُصَرّحُ أَيْضًا بِذَلِكَ فَفِى (لَفْظٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ) اﻫ (وَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ فِى) كِتَابِ الْعِلْمِ مِنْ سُنَنِ (التِّرْمِذِىِّ وَ)فِى صَحِيحِ (ابْنِ حِبَّانَ. وَهَذَا الْمُجْتَهِدُ هُوَ مَوْرِدُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ) أَىْ لِاجْتِهَادِهِ وَإِصَابَتِهِ (وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ) اﻫ أَىْ لِاجْتِهَادِهِ وَإِنْ لَمْ يُصِبْ (رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ) فِى كِتَابِ الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ صَحِيحِهِ. وَأَمَّا غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ إِذَا تَسَوَّرَ مَرْتَبَةَ الِاجْتِهَادِ وَأَفْتَى فِى الْحَوَادِثِ وَالنَّوَازِلِ لَمْ يَنَلْهُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا الإِثْمُ وَالْوِزْرُ لِأَنَّهُ أَفْتَى بِغَيْرِ عِلْمٍ وَعَصَى اللَّهَ بِذَلِكَ (وَإِنَّمَا خَصَّ رَسُولُ اللَّهِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فِى هَذَا الْحَدِيثِ الْحَاكِمَ بِالذِّكْرِ) مَعَ أَنَّ مُضَاعَفَةَ الثَّوَابِ عِنْدَ الِاجْتِهَادِ وَالإِصَابَةِ وَعَدَمَ مُضَاعَفَةِ الأَجْرِ عِنْدَ الِاجْتِهَادِ مِنْ غَيْرِ الإِصَابَةِ يَشْمَلُ كُلَّ مُجْتَهِدٍ سَوَاءٌ كَانَ حَاكِمًا أَمْ غَيْرَ حَاكِمٍ (لِأَنَّهُ) أَىِ الْحَاكِمَ (أَحْوَجُ إِلَى الِاجْتِهَادِ مِنْ غَيْرِهِ فَقَدْ مَضَى مُجْتَهِدُونَ فِى السَّلَفِ مَعَ كَوْنِهِمْ حَاكِمِينَ كَالْخُلَفَاءِ السِّتَّةِ) الرَّاشِدِينَ (أَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِىٍّ وَالْحَسَنِ بنِ عَلِىٍّ وَعُمَرَ بنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ (وَ)كَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ خَلِيفَةً مِثْلِ (شُرَيحٍ الْقَاضِى. وَ)مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّاسَ يَنْقَسِمُونَ إِلَى مُجْتَهِدٍ وَغَيْرِ مُجْتَهِدٍ مَا نَقَلَتْهُ مُصَنَّفَاتُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِذْ (قَدْ عَدَّ) بَعْضُ (عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ الَّذِينَ أَلَّفُوا فِى كُتُبِ مُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ الْمُفْتِينَ) أَىِ الْمُجْتَهِدِينَ (فِى الصَّحَابَةِ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ) ذَكَرَهُ السُّيُوطِىُّ فِى تَدْرِيبِ الرَّاوِى وَغَيْرُهُ حَتَّى (قِيلَ) كَانُوا (نَحْوَ سِتَّةٍ وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ) إِنَّ (نَحْوَ مِائَتَيْنِ مِنْهُمْ) أَىْ مِنَ الصَّحَابَةِ (بَلَغَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ وَهَذَا الْقَوْلُ) الثَّانِى (هُوَ الأَصَحُّ. فَإِذَا كَانَ الأَمْرُ فِى الصَّحَابَةِ هَكَذَا فَمِنْ أَيْنَ يَصِحُّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْءَانَ وَيُطَالِعَ فِى بَعْضِ الْكُتُبِ أَنْ يَقُولَ أُولَئِكَ رِجَالٌ وَنَحْنُ رِجَالٌ) أَىْ فَنَحْنُ قَادِرُونَ عَلَى الِاجْتِهَادِ (فَلَيْسَ عَلَيْنَا أَنْ نُقَلِّدَهُمْ) اﻫ (وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ أَكْثَرَ السَّلَفِ كَانُوا غَيْرَ مُجْتَهِدِينَ بَلْ كَانُوا مُقَلِّدِينَ لِلْمُجْتَهِدِينَ فِيهِمْ) عَامِلِينَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَتَىِ الأَنْبِيَاءِ وَالنَّحْلِ ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ (فَفِى) كِتَابِ الصُّلْحِ مِنْ (صَحِيحِ الْبُخَارِىِّ أَنَّ رَجُلًا كَانَ أَجِيرًا لِرَجُلٍ فَزَنَا بِامْرَأَتِهِ فَسَأَلَ أَبُوهُ) عَمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى ابْنِهِ (فَقِيلَ لَهُ إِنَّ عَلَى ابْنِكَ مِائَةَ شَاةٍ وَأَمَة) يَدْفَعُهَا لِزَوْجِ الْمَرْأَةِ (ثُمَّ سَأَلَ أَهْلَ الْعِلْمِ فَقَالُوا لَهُ إِنَّ عَلَى ابْنِكَ جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ) وَلَيْسَ هُنَاكَ مَالٌ يَجِبُ دَفْعُهُ لِلزَّوْجِ فِى هَذِهِ الْحَالِ (فَجَاءَ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ زَوْجِ الْمَرْأَةِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنِى هَذَا كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا) أَىْ أَجِيرًا عِنْدَهُ (وَزَنَا بِامْرَأَتِهِ فَقَالَ لِى نَاسٌ عَلَى ابْنِكَ الرَّجْمُ فَفَدَيْتُ ابْنِى مِنْهُ بِمِائَةٍ مِنَ الْغَنَمِ وَوَلِيدَةٍ ثُمَّ سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَقَالُوا إِنَّمَا عَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ) أَىْ عَلَى وَفْقِ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْءَانُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَاطِبًا زَوْجَ الْمَرْأَةِ (أَمَّا الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ فَرَدٌّ عَلَيْهِ) أَىْ عَلَى وَالِدِ الزَّانِى وَقَالَ مُخَاطِبًا هَذَا الأَخِيرَ (وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ) اﻫ (فَهَذَا الرَّجُلُ مَعَ كَوْنِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ سَأَلَ أُنَاسًا مِنَ الصَّحَابَةِ فَأَخْطَأُوا الصَّوَابَ ثُمَّ سَأَلَ عُلَمَاءَ مِنْهُمْ) فَأَجَابُوا بِالصَّوَابِ (ثُمَّ أَفْتَاهُ الرَّسُولُ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بِمَا يُوَافِقُ مَا قَالَهُ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءُ) وَلَمْ يُعَاتِبْهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ لِأَنَّهُ اسْتَفْتَى أَهْلَ الْعِلْمِ وَلا قَالَ لَهُ كَانَ عَلَيْكَ أَنْ تَجْتَهِدَ (فَإِذَا كَانَ الرَّسُولُ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَفْهَمَنَا أَنَّ بَعْضَ مَنْ كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْهُ الْحَدِيثَ لَيْسَ لَهُمْ فِقْهٌ أَىْ مَقْدِرَةٌ عَلَى اسْتِخْرَاجِ الأَحْكَامِ مِنْ حَدِيثِهِ وَإِنَّمَا حَظُّهُمْ أَنْ يَرْوُوا عَنْهُ مَا سَمِعُوهُ مَعَ كَوْنِهِمْ) سَلِيقِيِّينَ (يَفْهَمُونَ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ) الْفَصِيحَةَ وَ(الْفُصْحَى) عَلَى وَجْهِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تُدَاخِلَ لُغتَهُمْ عُجْمَةٌ وَلا عَامِيَّةٌ (فَمَا بَالُ هَؤُلاءِ الْغَوْغَاءِ الَّذِينَ) لا يَعْرِفُونَ اللُّغَةَ وَلا يَتَحَقَّقُ فِيهِمُ الشَّرْطُ السَّابِقُ شَرْحُهُ لِلِاجْتِهَادِ (يَتَجَرَّءُونَ عَلَى قَوْلِ أُولَئِكَ رِجَالٌ وَنَحْنُ رِجَالٌ) فَلا نَحْتَاجُ إِلَى تَقْلِيدِهِمْ وَقَوْلُهُمْ (أُولَئِكَ رِجَالٌ يَعْنُونَ) بِهِ (الْمُجْتَهِدِينَ كَالأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ) وَالسُّفْيَانَيْنِ وَالأَوْزَاعِىِّ وَأَمْثَالِهِمْ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِمَّنِ اجْتَمَعَ فِيهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ وَالْوَرَعِ مَا يَنْدُرُ أَنْ يَجْتَمِعَ فِى إِنْسَانٍ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ وَإِلَى اللَّهِ الْمُشْتَكَى.

(وَفِى هَذَا الْمَعْنَى مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ) فِى كِتَابِ الطَّهَارَةِ مِنْ سُنَنِهِ (مِنْ قِصَّةِ الرَّجُلِ الَّذِى كَانَتْ بِرَأْسِهِ شَجَّةٌ) أَىْ جُرْحٌ بِسَبَبِ ضَرْبَةٍ تَلَقَّاهَا (فَأَجْنَبَ فِى لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فَاسْتَفْتَى مَنْ مَعَهُ فَقَالُوا لَهُ اغْتَسِلْ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ قَتَلُوهُ) أَىْ تَسَبَّبُوا فِى مَوْتِهِ (قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَلا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِىِّ السُّؤَالُ) اﻫ (أَىْ شِفَاءُ الْجَهْلِ السُّؤَالُ أَىْ سُؤَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ) مُتَابِعًا كَلامَهُ (إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً ثُمَّ يَمْسَحُ عَلَيْهَا وَيَغْسِلُ سَائِرَ جَسَدِهِ) وَهَذَا (الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) كَمَا تَقَدَّمَ (وَغَيْرُهُ) وَهُوَ يَشْهَدُ لِمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنْ أَنَّ حَظَّ قِسْمٍ مِنَ النَّاسِ هُوَ اسْتِفْتَاءُ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ عَمَّا يَعْرِضُ لَهُمْ مِنَ النَّوَازلِ وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُفْتُوا فِيهَا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَكْمِلُوا الشُّرُوطَ الْمَطْلُوبَةَ فِى الْمُفْتِى (فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الِاجْتِهَادُ يَصِحُّ مِنْ مُطْلَقِ الْمُسْلِمِينَ لَمَا ذَمَّ رَسُولُ اللَّهِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَفْتَوْهُ) أَىْ أَفْتَوْا صَاحِبَ الشَّجَّةِ أَنْ يَغْسِلَ رَأْسَهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَغْسِلُهُ لِلطَّهَارَةِ مِنَ الْجَنَابَةِ (وَ)هُمْ (لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْفَتْوَى. ثُمَّ وَظِيفَةُ الْمُجْتَهِدِ الَّتِى هِىَ خَاصَّةٌ لَهُ) وَلا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ فِيهَا (الْقِيَاسُ أَىْ أَنْ يَعْتَبِرَ مَا) يَطْرَأُ مِنَ الْحَادِثَاتِ مِمَّا (لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ) أَىْ لَمْ يُصَرِّحِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ بِحُكْمِهِ (بِمَا وَرَدَ فِيهِ نَصٌّ) يُصَرِّحُ بِحُكْمِهِ (لِشَبَهٍ بَيْنَهُمَا) فَيُلْحَقَ مَا لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ بِالأَصْلِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لِعِلَّةٍ تَجْمَعُهُمَا (فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنَ الَّذِينَ) يَدَّعُونَ الِاجْتِهَادَ وَ(يَحُثُّونَ أَتْبَاعَهُمْ عَلَى الِاجْتِهَادِ مَعَ كَوْنِهِمْ وَكَوْنِ مَتْبُوعِيهِمْ بَعِيدِينَ عَنْ هَذِهِ الرُّتْبَةِ فَهَؤُلاءِ يُخَرِّبُونَ وَيَدْعُونَ أَتْبَاعَهُمْ إِلَى التَّخْرِيبِ فِى أُمُورِ الدِّينِ) وَمَنْهَجُهُمْ يَقْتَضِى الْفَوْضَى فِى الأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَهِىَ قَبِيحَةٌ مَذْمُومَةٌ (وَشَبِيهٌ بِهَؤُلاءِ أُنَاسٌ تَعَوَّدُوا فِى مَجَالِسِهِمْ أَنْ يُوَزِّعُوا عَلَى الْحَاضِرِينَ تَفْسِيرَ ءَايَةٍ أَوْ حَدِيثٍ) مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ (مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ لَهُمْ تَلَقٍّ مُعْتَبَرٌ مِنْ أَفْوَاهِ الْعُلَمَاءِ فَهَؤُلاءِ الْمُدَّعُونَ) لِلِاجْتِهَادِ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا مِمَّنْ لَمْ يَتَأَهَّلْ لِذَلِكَ (شَذُّوا عَنْ عُلَمَاءِ الأُصُولِ) أَىْ أُصُولِ الْفِقْهِ (لِأَنَّ عُلَمَاءَ الأُصُولِ قَالُوا الْقِيَاسُ وَظِيفَةُ الْمُجْتَهِدِ وَخَالَفُوا عُلَمَاءَ الْحَدِيثِ أَيْضًا) فَإِنَّ ءَالافًا وَءَالافًا مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ الَّذِينَ مَضَوْا كَانُوا يَرْجِعُونَ فِى أَحْكَامِ الدِّينِ إِلَى أَقْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ وَلَمْ يَدَّعُوا أَهْلِيَّةَ الْفَتْوَى مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْفَظُونَ ءَالافًا وَأَحْيَانًا عَشَرَاتِ الآلافِ بَلْ وَمِئَاتِ الآلافِ مِنَ الأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ الشَّرِيفَةِ مَعَ مَعْرِفَةِ أَسَانِيدِهَا وَأَحْوَالِ الرُّوَاةِ إِلَى جَانِبِ حِفْظِ الْقُرْءَانِ وَإِتْقَانِ اللُّغَةِ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَدَّعِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ بَلِ انْتَسَبُوا إِلَى الْمَذَاهِبِ الْمَعْرُوفَةِ فَكَانَ يَحْيَى بنُ مَعِينٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِىُّ وَالزَّيْلَعِىُّ وَابْنُ قُطْلُوبُغَا وَبَدْرُ الدِّينِ الْعَيْنِىُّ وَمُرْتَضَى الزَّبِيدِىُّ مَثَلًا عَلَى الْمَذْهَبِ الْحَنَفِىِّ وَكَانَ سُحْنُونُ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَالْقَاضِى عَبْدُ الْوَهَّابِ وَابْنُ رُشْدٍ الْجَدُّ وَالْحَافِظُ ابْنُ رَشِيدٍ وَمُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ فَرَحٍ الْقُرْطُبِىُّ الْمُفَسِّرُ وَأَبُو الْعَبَّاسِ الْقَسْطَلَّانِىُّ شَارِحُ الْبُخَارِىِّ عَلَى الْمَذْهَبِ الْمَالِكِىِّ وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِىُّ وَأَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِىُّ وَعَلِىُّ بنُ الْحَسَنِ ابْنُ عَسَاكِرَ وَمُحْيِى الدِّينِ النَّوَوِىُّ وَزَيْنُ الدِّينِ الْعِرَاقِىُّ وَوَلَدُهُ وَلِىُّ الدِّينِ وَنُورُ الدِّينِ الْهَيْثَمِىُّ وَالشِّهَابُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلانِىُّ عَلَى الْمَذْهَبِ الشَّافِعِىِّ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ وَالضِّيَاءُ الْمَقْدِسِىُّ وَأَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِىِّ وَابْنُ عَقِيلٍ وَابْنُ قُدَامَةَ وَابْنُ رَجَبٍ عَلَى الْمَذْهَبِ الْحَنْبَلِىِّ وَلَمْ يَرَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ لِنَفْسِهِ اسْتِحْقَاقَ رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ إِلَّا النَّادِرُ النَّادِرُ مِنْهُمْ مِمَّنْ رَزَقَهُ اللَّهُ قُوَّةَ الْقَرِيحَةِ وَالْفَهْمِ مَعَ الْعِلْمِ الْكَافِى بِذَلِكَ كَابْنِ الْمُنْذِرِ وَابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِىِّ وَأَبِى ثَوْرٍ وَبَعْضٍ ءَاخَرِينَ.



(خَاتِمَةٌ) نَافِعَةٌ


(خُلاصَةُ مَا مَضَى مِنَ الأَبْحَاثِ أَنَّ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أَىِ اعْتَقَدَ جَازِمًا بِمَعْنَى لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَنَطَقَ بِالشَّهَادَةِ وَلَوْ مَرَّةً فِى الْعُمُرِ وَرَضِىَ بِذَلِكَ اعْتِقَادًا فَهُوَ مُسْلِمٌ مُؤْمِنٌ) لا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ إِذَا مَاتَ عَلَى الإِيمَانِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِى مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِى كِتَابِ الإِيمَانِ مِنْ صَحِيحِهِ مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ اﻫ أَىْ حَرَّمَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُدَ فِى نَارِ جَهَنَّمَ وَإِنْ دَخَلَهَا بِذُنُوبِهِ فَإِنَّهُ لا بُدَّ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ (وَمَنْ عَرَفَ وَنَطَقَ وَلَمْ يَعْتَقِدْ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ وَلا بِمُؤْمِنٍ عِنْدَ اللَّهِ وَأَمَّا عِنْدَنَا فَهُوَ مُسْلِمٌ لِخَفَاءِ بَاطِنِهِ عَلَيْنَا) فَإِنَّهُ (وَإِنْ كَانَ يَتَظَاهَرُ بِالإِسْلامِ) فَحَقِيقَةُ أَمْرِهِ أَنَّهُ يُبْغِضُ (وَيَكْرَهُ الإِسْلامَ بَاطِنًا أَوْ يَتَرَدَّدُ فِى قَلْبِهِ هَلِ الإِسْلامُ صَحِيحٌ أَمْ لا فَهُوَ مُنَافِقٌ كَافِرٌ وَهُوَ دَاخِلٌ فِى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ النِّسَاءِ (﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ فَهُوَ وَالْكَافِرُ الْمُعْلِنُ خَالِدَانِ فِى النَّارِ خُلُودًا أَبَدِيًّا) لا يَخْرُجَانِ مِنْهَا وَلا يَتَوَقَّفُ عَذَابُهُمَا.

وَمَنْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ بِحَقِّيَّةِ الإِسْلامِ بَعْدَ أَنْ كَانَ كَافِرًا وَلَكِنْ لَمْ يَنْطِقْ بِالشَّهَادَتَيْنِ لِلدُّخُولِ فِى الإِسْلامِ فَهُوَ كَافِرٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بِالإِجْمَاعِ كَمَا نَقَلَهُ الْقَاضِى عِيَاضٌ وَالنَّوَوِىُّ وَغَيْرُهُمَا (وَقَوْلُ الْبَعْضِ يَصِحُّ إِيمَانُ الْكَافِرِ بِلا نُطْقٍ مَعَ التَّمَكُّنِ قَوْلٌ بَاطِلٌ لا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ) وَإِنْ قَوَّاهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ لِمُخَالَفَتِهِ سَنَنَ الأَئِمَّةِ وَنُصُوصَهُمْ، هَذَا فِى مَنْ وُلِدَ مِنْ أَبَوَيْنِ كَافِرَيْنِ (وَ)أَمَّا غَيْرُهُ فَقَدْ (قَالَ بَعْضُهُمْ) أَىْ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ (مَنْ نَشَأَ بَيْنَ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ يَكْفِيهِ الْمَعْرِفَةُ وَالِاعْتِقَادُ لِصِحَّةِ إِسْلامِهِ وَإِيمَانِهِ لَوْ لَمْ يَنْطِقْ بِالْمَرَّةِ) بِالشَّهَادَتَيْنِ قَبْلَ الْبُلُوغِ أَوْ بَعْدَهُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ بِمُجَرَّدِ وِلادَتِهِ تَجْرِى عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ بِالتَّبَعِيَّةِ لِوَالِدِهِ ثُمَّ عِنْدَ التَّمْيِّيزِ أَوِ الْبُلُوغِ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ مَا يُوجِبُ سُقُوطَ هَذَا الْحُكْمِ عَنْهُ فَيَبْقَى حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ جَارِيًا عَلَيْهِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ وَفِعْلُ السَّلَفِ.

(ثُمَّ مَنْ صَحَّ لَهُ أَصْلُ الإِيمَانِ وَالإِسْلامِ وَلَوْ لَمْ يَقُمْ بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ الْعَمَلِيَّةِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصِيَامِ رَمَضَانَ وَلَمْ يَجْتَنِبِ الْمُحَرَّمَاتِ إِلَى أَنْ مَاتَ وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ قَبْلَ أَنْ يَتُوبَ فَقَدْ نَجَا مِنَ الْخُلُودِ الأَبَدِىِّ فِى النَّارِ ثُمَّ) هَؤُلاءِ قِسْمَانِ (قِسْمٌ مِنْهُمْ يُسَامِحُهُمُ اللَّهُ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ بِلا عَذَابٍ وَقِسْمٌ مِنْهُمْ يُعَذِّبُهُمْ) مُدَّةً فِى جَهَنَّمَ (ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ) مِنْهَا (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُسَامِحُهُ وَمَنْ لا يُسَامِحُهُ. وَأَمَّا مَنْ مَاتَ بَعْدَ أَنْ تَابَ فَأَدَّى) بَعْدَ التَّوْبَةِ (جَمِيعَ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَاجْتَنَبَ الْمُحَرَّمَاتِ) كُلَّهَا (فَهُوَ كَأَنَّهُ لَمْ يُذْنِبْ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لا ذَنْبَ لَهُ) اﻫ وَهُوَ (حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) فِى كِتَابِ الزُّهْدِ مِنْ سُنَنِهِ (عَنْ) عَبْدِ اللَّهِ (بنِ مَسْعُودٍ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ. وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الشَّخْصَ إِذَا أَذْنَبَ ثُمَّ تَابَ ثُمَّ أَذْنَبَ ثُمَّ تَابَ فَإِنَّ تَوْبَتَهُ تُقْبَلُ مَهْمَا تَكَرَّرَ مِنْهُ الذَّنْبُ ثُمَّ التَّوْبَةُ وَإِنَّمَا يُغْلَقُ بَابُ التَّوْبَةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا (وَفِى) كِتَابِ الْجِهَادِ وَالسِّيَرِ مِنْ (صَحِيحِ الْبُخَارِىِّ أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُسْلِمُ أَوْ أُقَاتِلُ قَالَ أَسْلِمْ ثُمَّ قَاتِلْ فَأَسْلَمَ فَقَاتَلَ فَقُتِلَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمِلَ قَلِيلًا وَأُجِرَ كَثِيرًا) اﻫ (أَىْ لِأَنَّهُ نَالَ الشَّهَادَةَ بَعْدَ أَنْ هَدَمَ الإِسْلامُ كُلَّ ذَنْبٍ قَدَّمَهُ فَالْفَضْلُ لِلإِسْلامِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُسْلِمْ لَمْ يَنْفَعْهُ أَىُّ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ. وَهَذَا الرَّجُلُ كَانَ الْتَحَقَ بِالْمُجَاهِدِينَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ قَوْمَهُ الَّذِينَ هُمْ مُسْلِمُونَ خَرَجُوا) لِلْجِهَادِ فَخَرَجَ مَعَهُمْ (مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْلِمَ ثُمَّ أَلْهَمَهُ اللَّهُ أَنْ يَسْأَلَ الرَّسُولَ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السُّؤَالَ الَّذِى مَضَى ذِكْرُهُ (فَسَأَلَ فَأَرْشَدَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنْ يُسْلِمَ ثُمَّ يُقَاتِلَ) فَفَعَلَ فَاسْتُشْهِدَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ.


(خَاتِمَةُ الْخَاتِمَةِ)


(لِيُفَكِّرِ الْعَاقِلُ فِى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) فِى سُورَةِ ق (﴿مَّا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ فَإِنَّ مَنْ فَكَّرَ فِى ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّ كُلَّ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ فِى الْجِدِّ أَوِ الْهَزْلِ أَوْ فِى حَالِ الرِّضَى أَوِ الْغَضَبِ يُسَجِّلُهُ الْمَلَكَانِ) ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُمْحَى مَا سَجَّلُوهُ إِلَّا الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ (فَهَلْ يَسُرُّ الْعَاقِلَ أَنْ يَرَى فِى كِتَابِهِ حِينَ يُعْرَضُ عَلَيْهِ فِى الْقِيَامَةِ) كَلِمَاتِ الْكُفْرِ أَوْ سِبَابًا بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ قَذْفًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ مِثْلِ (هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْخَبِيثَةِ بَلْ يَسُوؤُهُ ذَلِكَ وَيُحْزِنُهُ حِينَ لا يَنْفَعُ النَّدَمُ) فَمَا دَامَ الأَمْرُ كَذَلِكَ (فَلْيَعْتَنِ بِحِفْظِ لِسَانِهِ) وَالِاحْتِرَازِ (مِنَ الْكَلامِ بِمَا يَسُوؤُهُ إِذَا عُرِضَ عَلَيْهِ فِى الآخِرَةِ) رَوَى التِّرْمِذِىُّ عَنْ مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَإِنَّا مُؤَاخَذُونَ بِمَا نَنْطِقُ بِهِ فَقَالَ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ اﻫ وَ(قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصْلَتَانِ مَا إِنْ تَجَمَّلَ الْخَلائِقُ بِمِثْلِهِمَا حُسْنُ الْخُلُقِ وَطُولُ الصَّمْتِ) اﻫ (رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بنُ مُحَمَّدٍ أَبُو بَكْرِ بن أَبِى الدُّنْيَا الْقُرَشِىُّ فِى كِتَابِ الصَّمْتِ) فَلْيَحْرِصِ الشَّخْصُ عَلَى الصَّمْتِ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ كَمَا رَوَى التِّرْمِذِىُّ مَرْفُوعًا إِنَّكَ لا تَزَالُ سَالِمًا مَا سَكَتَّ فَإِذَا تَكَلَّمْتَ كُتِبَ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ اﻫ وَمِنْ أَطَايِبِ الْكَلامِ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِىُّ فِى الْكَبِيرِ وَغَيْرُهُ عَنِ الْمُنَيْذِرِ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ كَانَ يَكُونُ بِإِفْرِيقِيَّةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا فَأَنَا الزَّعِيمُ أَىِ الْكَافِلُ وَالضَّامِنُ لَآخُذَنَّ بِيَدِهِ حَتَّى أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ اﻫ وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِىُّ وَالنَّسَائِىُّ أَنَّ مَنْ قَالَ بَعْدَ صَلاةِ الصُّبْحِ وَهُوَ ثَانٍ رِجْلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِى وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ كُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَغُفِرَ لَهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ أَىْ مِنَ الْكَبَائِرِ وَرُفِعَ عَشْرَ دَرَجَاتٍ وَكَانَ يَوْمَهُ ذَلِكَ كُلَّهُ فِى حِرْزٍ اﻫ وَفِى رِوَايَةٍ عِنْدَ التِّرْمِذِىِّ عَلَى إِثْرِ الْمَغْرِبِ اﻫ وَعِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ مَرْفُوعًا أَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ إِذَا أَصْبَحَ نَالَ مِثْلَ ذَلِكَ قَالَ وَمَنْ قَالَهُنَّ إِذَا صَلَّى الْمَغْرِبَ دُبُرَ صَلاتِهِ فَمِثْلُ ذَلِكَ حَتَّى يُصْبِحَ اﻫ

انْتَهَى كِتَابُ نُورِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الْكَاشِفِ لِطَرِيقِ أَهْلِ النَّعِيمِ الأَبدِى يَوْمَ السَّبْتِ الْخَامِسَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانِ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَلاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَأَلْفٍ بِحَمْدِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ سُبْحَانَهُ لا إِلَهَ غَيْرُهُ وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِهِ وَعَبْدِهِ وَعَلَى ءَالِهِ وَصَحْبِهِ.
TohaKepriben

Previous Post Next Post