كتاب الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم


بِسْمِ الله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى مُحَمَّدٍ سَيِّدِ الأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَعَلَى ءَالِهِ الطَّاهِرِينَ وَصَحَابَتِهِ الطَّيِّبِينَ.

بِسْمِ الله أَيْ أَبْتَدِئُ بِاسْمِ الله، وَلَفْظُ الْجَلالَةِ الله عَلَمٌ لِلذَّاتِ الْمُقَدَّسِ الْمُسْتَحِقِّ لِنِهَايَةِ التَّعْظِيمِ وَغَايَةِ الْخُضُوعِ وَمَعْنَاهُ مَنْ لَهُ الإِلَهِيَّةُ وَهِيَ الْقُدْرَةُ عَلَى الِاخْتِرَاعِ أَيْ إِخْرَاجِ الْمَعْدُومِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَالرَّحْمٰنُ مَعْنَاهُ الْكَثِيرُ الرَّحْمَةِ بِالْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي الدُّنْيَا وَبِالْمُؤْمِنِينَ فِي الآخِرَةِ. أَمَّا الرَّحِيمُ فَمَعْنَاهُ الْكَثِيرُ الرَّحْمَةِ بِالْمُؤْمِنِينَ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ.

الشَّرْحُ أَيْ هَذَا بَيَانٌ لِلصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ أَيْ لِلطَّرِيقِ الْحَقِّ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: الْحَمْدُ لِلَّهِ.

الشَّرْحُ الْحَمْدُ مَعْنَاهُ الثَّنَاءُ بِاللِّسَانِ عَلَى الْجَمِيلِ الِاخْتِيَارِيِّ عَلَى جِهَةِ التَّبْجِيلِ وَالتَّعْظِيمِ. وَمَعْنَى الْجَمِيلِ الِاخْتِيَارِيِّ أَيِ الشَّىْءُ الَّذِي أَنْعَمَ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ عَلَيْهِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى رَسُولِ الله.

الشَّرْحُ الصَّلاةُ هُنَا مَعْنَاهَا التَّعْظِيمُ أَيْ نَطْلُبُ مِنَ الله تَعَالَى أَنْ يَزِيدَ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا تَعْظِيمًا، وَأَمَّا السَّلامُ فَمَعْنَاهُ الأَمَانُ أَيْ نَطْلُبُ مِنَ الله لِرَسُولِهِ الأَمَانَ مِمَّا يَخَافُهُ عَلَى أُمَّتِهِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: قَالَ الله تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا الله وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ [سُورَةَ الْحَشْرِ/18].

الشَّرْحُ أَيْ لِيَنْظُرِ الْمَرْءُ مَا يُعِدُّ وَيُقَدِّمُ لِآخِرَتِهِ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالآخِرَةُ يَنْفَعُ فِيهَا تَقْوَى الله. وَالتَّقْوَى هِيَ أَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ وَاجْتِنَابُ الْمُحَرَّمَاتِ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْوَاجِبَاتِ تَعَلُّمُ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ، فَلا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنَ الْمُتَّقِينَ مَا لَمْ يَتَعَلَّمْ مَا فَرَضَ الله عَلَى عِبَادِهِ مَعْرِفَتَهُ مِنْ عِلْمِ دِينِهِ، فَلا يَكُونُ مِثْلُ هَذَا مُتَّقِيًا مَهْمَا أَتْعَبَ نَفْسَهُ فِي الْعِبَادَاتِ وَجَاهَدَ نَفْسَهُ بِتَحَمُّلِ مَشَقَّاتِ الْعِبَادَةِ وَكَفِّهَا عَنْ هَوَاهَا.

وَأَكْثَرُ الْمُتَصَوِّفَةِ الْيَوْمَ لا يَطْلُبُونَ الْعِلْمَ الشَّرْعِيَّ إِلَى الْقَدْرِ الْكَافِي إِنَّمَا يَمِيلُونَ إِلَى الإِكْثَارِ مِنَ الذِّكْرِ فَهَؤُلاءِ لا يَصِيرُونَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الله الصَّالِحِينَ مَهْمَا تَعِبُوا وَمَهْمَا صَحِبُوا أَوْلِيَاءَ الله وَخَدَمُوهُمْ إِلَّا إِذَا أَتَتْهُمْ نَفْحَةٌ فَيَتَعَلَّمُونَ وَيَجِدُّونَ فِي الْعَمَلِ، فَهَؤُلاءِ مِنْ أَهْلِ الْعِنَايَةِ، وَأَمَّا الَّذِينَ بَقُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْجَهْلِ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ يَصِلُونَ إِلَى الله بِالذِّكْرِ وَمَحَبَّةِ الأَوْلِيَاءِ فَهَؤُلاءِ مَخْدُوعُونَ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مُحَاسَبَةِ الْعَبْدِ نَفْسَهُ، وَمَعْنَى الْغَدِ هُوَ الآخِرَةُ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ الله عَنْهُ وَكَرَّمَ وَجْهَهُ: «الْيَوْمَ الْعَمَلُ وَغَدًا الْحِسَابُ»، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ.

الشَّرْحُ قَوْلُ «كَرَّمَ وَجْهَهُ» عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ اسْتَحْدَثَهُ النَّاسُ بَعْدَ مِائَةِ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ وَفَاةِ عَلِيٍّ وَلا بَأْسَ بِقَوْلِهِ وَقَوْلِ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَلَيْسَ قَوْلُ «كَرَّمَ الله وَجْهَهُ» خَاصًّا بِسَيِّدِنَا عَلِيٍّ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ لِصَنَمٍ كَمَا يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ بَلْ يُوجَدُ غَيْرُهُ فِي الصَّحَابَةِ مَنْ لَمْ يَسْجُدْ لِصَنَمٍ كَعَبْدِ الله بنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ الله عَنْهُمَا وَفِيهِمْ مَنْ وُلِدَ ضِمْنَ الْكَعْبَةِ كَمَا وُلِدَ عَلِيٌّ فِي الْكَعْبَةِ فَإِنَّ حَكِيمَ بنَ حِزَامٍ وُلِدَ فِي الْكَعْبَةِ.

وَتَمَامُ الرِّوَايَةِ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ: «ارْتَحَلَتِ الدُّنْيَا وَهِيَ مُدْبِرَةٌ وَارْتَحَلَتِ الآخِرَةُ وَهِيَ مُقْبِلَةٌ فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ وَلا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، الْيَوْمَ الْعَمَلُ وَلا حِسَابَ وَغَدًا الْحِسَابُ وَلا عَمَل».

وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «ارْتَحَلَتِ الدُّنْيَا» أَيْ سَارَتِ الدُّنْيَا، وَمَعْنَى «مُدْبِرَةٌ» أَيِ الدُّنْيَا سَائِرَةٌ إِلَى الِانْقِطَاعِ وَالآخِرَةُ سَارَتْ مُقْبِلَةً فَالدُّنْيَا دَارُ الْعَمَلِ، وَالآخِرَةُ دَارُ الْجَزَاءِ عَلَى الْعَمَلِ، دَارُ الْحِسَابِ وَلَيْسَتْ دَارَ الْعَمَلِ. وَالرِّقَاقُ كِتَابٌ مَخْصُوصٌ فِي أَوَاخِرِ الْجَامِعِ الْمُسْنَدِ لِلْبُخَارِيِّ.
 

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: أَعْظَمُ حُقُوقِ الله عَلَى عِبَادِهِ اعْلَمْ أَنَّ أَعْظَمَ حُقُوقِ الله تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ هُوَ تَوْحِيدُهُ تَعَالَى وَأَنْ لا يُشْرَكَ بِهِ شَىْءٌ، لِأَنَّ الإِشْرَاكَ بِالله هُوَ أَكْبَرُ ذَنْبٍ يَقْتَرِفُهُ الْعَبْدُ وَهُوَ الذَّنْبُ الَّذِي لا يَغْفِرُهُ الله وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ. قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَآءُ﴾ [سُورَةَ النِّسَاء/48].

الشَّرْحُ مَعْرِفَةُ الله تَعَالَى مَعَ إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ أَيْ نِهَايَةِ التَّذَلُّلِ هُوَ أَعْظَمُ حُقُوقِ الله عَلَى عِبَادِهِ، وَأَكْبَرُ ذَنْبٍ يَقْتَرِفُهُ الْعَبْدُ هُوَ الْكُفْرُ وَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ: كُفْرٌ شِرْكٌ وَكُفْرٌ غَيْرُ شِرْكٍ، فَكُلُّ شِرْكٍ كُفْرٌ وَلَيْسَ كُلُّ كُفْرٍ شِرْكًا، لِذَلِكَ كَانَ أَعْظَمُ حُقُوقِ الله عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا.

وَالْكُفْرُ أَكْبَرُ الظُّلْمِ قَالَ الله تَعَالَى ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/254] فُظُلْمُ الْكَافِرِ بِكُفْرِهِ أَعْظَمُ مِنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ ءَالافَ الآلافِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْلالٍ لِقَتْلِهِمْ.

وَقَدْ أَخْبَرَ الله تَعَالَى أَنَّهُ يَغْفِرُ كُلَّ الذُّنُوبِ لِمَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ الْمُسْلِمِينَ الْمُتَجَنِّبِينَ لِلْكُفْرِ بِنَوْعَيْهِ الإِشْرَاكِ بِالله تَعَالَى الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ غَيْرِهِ وَالْكُفْرِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِشْرَاكٌ كَتَكْذِيبِ الرَّسُولِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِالله أَوْ بِرَسُولِهِ مَعَ تَوْحِيدِ الله تَعَالَى وَتَنْزِيهِهِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: «إِنَّ الله لَيَغْفِرُ لِعَبْدِهِ مَا لَمْ يَقَعِ الْحِجَابُ» قَالُوا: وَمَا وُقُوعُ الْحِجَابِ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: «أَنْ تَمُوتَ النَّفْسُ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ.

فَالْكُفْرُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ هُوَ الذَّنْبُ الَّذِي لا يَغْفِرُهُ الله أَيْ لِمَنِ اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ إِلَى الْمَوْتِ أَوْ إِلَى حَالَةِ الْيَأْسِ مِنَ الْحَيَاةِ بِرُؤْيَةِ مَلَكِ الْمَوْتِ وَمَلائِكَةِ الْعَذَابِ أَوْ إِدْرَاكِ الْغَرَقِ بِحَيْثُ أَيْقَنَ بِالْهَلاكِ وَنَحْوِهِ فَذَاكَ مُلْحَقٌ بِالْمَوْتِ.

فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْكُفْرَ لا يُغْفَرُ إِلَّا بِالإِسْلامِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَكُونُ مَقْبُولًا فِيهِ، فَمَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْوَقْتِ الَّذِي يُقْبَلُ فِيهِ فَلا يَمْحُو إِسْلامُهُ كُفْرَهُ. فَالْكُفْرُ هُوَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ وَبَعْدَهُ قَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/191] أَيِ الشِّرْكُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ، فَالشِّرْكُ هُوَ أَعْظَمُ الظُّلْمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [سُورَةَ لُقْمَان/13]، وَقَوْلِهِ: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ وَمَعْنَاهُ أَكْبَرُ الظُّلْمِ هُوَ الْكُفْرُ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَكَذَلِكَ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ لا يَغْفِرُهَا الله لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ الله لَهُمْ﴾ [سُورَةَ مُحَمَّد/34].

الشَّرْحُ هَذِهِ الآيَةُ فِيهَا النَّصُّ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ كَافِرًا لا يَغْفِرُ الله لَهُ، وَهَذَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ لِأَنَّ هَذَا قَيْدٌ لِعَدَمِ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ.

وَمَعْنَى ﴿وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله﴾ أَيْ وَمَنَعُوا النَّاسَ مِنَ الدُّخُولِ فِي الإِسْلامِ، وَلَيْسَ هَذَا شَرْطًا لِلْحِرْمَانِ مِنَ الْمَغْفِرَةِ بَلِ الْكَافِرُ مَحْرُومٌ مِنَ الْمَغْفِرَةِ إِنْ مَنَعَ النَّاسَ مِنَ الإِسْلامِ أَوْ لَمْ يَمْنَعْ بَلْ وَلَوْ سَاعَدَ الْمُسْلِمِينَ فِي إِدْخَالِ النَّاسِ فِي دِينِهِمْ، لَكِنَّ الْكَافِرَ الَّذِي يَصُدُّ النَّاسَ مِنَ الإِسْلامِ أَشَدُّ ذَنْبًا مِنَ الْكَافِرِ الَّذِي يَكْفُرُ بِنَفْسِهِ وَلا يَصُدُّ غَيْرَهُ عَنِ الإِيـمَانِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَقَدْ قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ الله وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ وَالْجَنَّةَ حَقٌّ وَالنَّارَ حَقٌّ أَدْخَلَهُ الله الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ»، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

الشَّرْحُ هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ اتَّفَقَ عَلَى إِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي كِتَابَيْهِمَا الْمَعْرُوفَيْنِ بَيْنَ الأُمَّةِ الإِسْلامِيَّةِ، وَمَعْنَاهُ يَتَضَمَّنُ أَنَّ الإِنْسَانَ إِذَا مَاتَ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا الله وَتَجَنَّبَ عِبَادَةَ غَيْرِهِ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَيَشْهَدُ أَنَّ عِيسَى عَبْدُ الله وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ وَيَشْهَدُ أَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ - أَيْ مَوْجُودَتَانِ - يُدْخِلُهُ الله الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ أَيْ وَلَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ.

وَمَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ» أَنَّ الْمَسِيحَ بِشَارَةُ الله لِمَرْيَمَ الَّتِي بَشَّرَتْهَا بِهَا الْمَلائِكَةُ بِأَمْرِهِ قَبْلَ أَنْ تَحْمِلَ بِهِ، فَإِنَّ الْمَلَكَ جِبْرِيلَ بَشَّرَهَا بِهِ، قَالَ لَهَا أَنَا رَسُولٌ مِنَ الله لِأُعْطِيَكِ غُلامًا زَكِيًّا أَيْ طَيِّبًا.

وَقَوْلُهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وُرُوحٌ مِنْهُ» مَعْنَاهُ أَنَّ رُوحَ الْمَسِيحِ رُوحٌ صَادِرَةٌ مِنَ الله تَعَالَى خَلْقًا وَتَكْوِينًا، أَيْ رُوحُهُ رُوحٌ مُشَرَّفٌ كَرِيْمٌ عَلَى الله، وَإِلَّا فَجَمِيعُ الأَرْوَاحِ صَادِرَةٌ مِنَ الله تَعَالَى تَكْوِينًا لا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ رُوحٍ وَرُوحٍ وَكَلِمَةُ «رُوحٌ مِنْهُ» لَيْسَ مَعْنَاهَا أَنَّ الْمَسِيحَ عِيسَى جُزْءٌ مِنَ الله إِنَّمَا مَعْنَاهَا رُوحٌ وُجِدَتْ بِإِيْجَادِ الله أَيِ الله أَوْجَدَهَا مِنَ الْعَدَمِ لَيْسَ مَعْنَاهَا أَنَّهُ جُزْءٌ مِنَ الله كَمَا ادَّعَى بَعْضُ مُلُوكِ النَّصَارَى احْتَجَّ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمَسِيحَ جُزْءٌ مِنَ الله فَرَدَّ عَلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ بِهَذِهِ الآيَةِ ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ﴾ [سُورَةَ الْجَاثِيَة/13]، فَسَكَتَ ذَلِكَ الْمَلِكُ لِأَنَّ كَلِمَةَ ﴿مِّنْهُ﴾ فِي النَّصَّيْنِ مَوْجُودَةٌ، فَكَمَا أَنَّهَا لا تَدُلُّ فِي الآيَةِ عَلَى أَنَّ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جُزْءٌ مِنَ الله كَذَلِكَ لا تَدُلُّ كَلِمَةُ ﴿مِّنْهُ﴾ فِي ءَايَةِ ﴿وَرُوحٌ مِّنْهُ﴾ عَلَى أَنَّ رُوحَ عِيسَى جُزْءٌ مِنَ الله.

وَمَعْنَى الآيَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ الله تَعَالَى سَخَّرَ لِبَنِي ءَادَمَ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ أَيْ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنَ الله خَلْقًا وَتَكْوِينًا وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهَا أَجْزَاءٌ مِنْهُ تَعَالَى. فَالْمَلائِكَةُ مُسَخَّرُونَ لِبَنِي ءَادَمَ بِحِفْظِهِمْ لَهُمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَإِنْزَالِ الْمَطَرِ وَإِرْسَالِ الرِّيَاحِ الَّتِي يَنْتَفِعُونَ بِهَا وَالدُّعَاءِ لَهُمْ أَيْ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ بَنِي ءَادَمَ خَاصَّةً.

وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: «وَالْجَنَّةَ حَقٌّ وَالنَّارَ حَقٌّ» مَعْنَاهُ أَنَّهُمَا مَوْجُودَتَانِ وَبَاقِيَتَانِ وَأَنَّهُمَا دَارَا جَزَاءٍ، فَالْجَنَّةُ دَارُ جَزَاءٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالنَّارُ دَارُ جَزَاءٍ لِلْكَافِرِينَ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَفِي حَدِيثٍ ءَاخَرَ: «فَإِنَّ الله حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلَّا الله يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ الله» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

الشَّرْحُ الْمَعْنَى أَنَّ الله تَعَالَى حَرَّمَ عَلَى النَّارِ أَيِ الدَّوَامَ فِيهَا إِلَى الأَبَدِ مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلَّا الله يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ الله أَيْ إِنْ قَالَ ذَلِكَ مُعْتَقِدًا فِي قَلْبِهِ لا مُنَافِقًا لِيُرْضِيَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ فِي قَلْبِهِ غَيْرُ رَاضٍ بِالإِسْلامِ إِمَّا بِشَكِّهِ فِي الْوَحْدَانِيَّةِ أَوْ بِتَكْذِيبِهِ فِي قَلْبِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَمَعْنَى «يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ الله» أَيْ يَبْتَغِي الْقُرْبَ إِلَى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَيْسَ لِمُرَاءَاةِ النَّاسِ بِدُونِ اعْتِقَادٍ. وَالْوَجْهُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ يَأْتِي بِمَعَانٍ عَدِيدَةٍ مِنْهَا الْقَصْدُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

أَسْتَغْفِرُ الله ذَنْبًا لَسْتُ مُحْصِيَهُ # رَبَّ الْعِبَادِ إِلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْعَمَلُ

أَيِ الْقَصْدُ. وَكَذَلِكَ وَرَدَ حَدِيثٌ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ وَهَذَا لَفْظُ ابْنِ حِبَّانَ «الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ فَإِذَا خَرَجَتِ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ وَأَقْرَبُ مَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ إِلَى وَجْهِ الله إِذَا كَانَتْ فِي قَعْرِ بَيْتِهَا» وَمَعْنَى وَجْهِ الله هُنَا طَاعَةُ الله.

وَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الْوَجْهَ إِذَا أُضِيفَ إِلَى الله فِي الْقُرْءَانِ أَوْ فِي الْحَدِيثِ مَعْنَاهُ الْجَسَدُ الَّذِي هُوَ مُرَكَّبٌ عَلَى الْبَدَنِ فَهُوَ لَمْ يَعْرِفْ رَبَّهُ لِأَنَّ هَذِهِ هَيْئَةُ الإِنْسَانِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالْبَهَائِمِ فَكَيْفَ يَكُونُ خَالِقُ الْعَالَمِ مِثْلَهُمْ. فَالله لَيْسَ حَجْمًا بِالْمَرَّةِ، لا هُوَ حَجْمٌ لَطِيفٌ وَلا هُوَ حَجْمٌ كَثِيفٌ لِأَنَّ الْعَالَمَ حَجْمٌ كَثِيفٌ وَحَجْمٌ لَطِيفٌ. ثُمَّ هَذَا الْحَجْمُ لَهُ صِفَاتٌ حَرَكَةٌ وَسُكُونٌ وَتَغَيُّرٌ وَلَوْنٌ وَانْفِعَالٌ وَتَحَيُّزٌ فِي الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ وَالله تَعَالَى لَيْسَ كَذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ مَوْجُودٌ غَيْرُ مُتَحَيِّزٍ فِي الْجِهَاتِ وَالأَمَاكِنِ لِأَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَهَا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَكَانَ لَهُ أَمْثَالٌ فِي خَلْقِهِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَيَجِبُ قَرْنُ الإِيـمَانِ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ بِشَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا الله، وَذَلِكَ أَقَلُّ شَىْءٍ يَحْصُلُ بِهِ النَّجَاةُ مِنَ الْخُلُودِ الأَبَدِيِّ فِي النَّارِ.

الشَّرْحُ أَنَّ اعْتِقَادَ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا الله وَحْدَهُ لا يَكْفِي مَا لَمْ يُقْرَنْ بِاعْتِقَادِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، فَالْجَمْعُ بَيْنَ الشَّهَادَتَيْنِ ضَرُورِيٌّ لِلنَّجَاةِ مِنَ الْخُلُودِ الأَبَدِيِّ فِي النَّارِ. وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي مَرَّ ءَانِفًا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ الأَحَادِيثِ الَّتِي لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا شَهَادَةُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله مَا يَشْمَلُ الشَّهَادَةَ الأُخْرَى لِأَنَّ ذِكْرَ الشَّهَادَةِ الأُولَى صَارَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ مَلْحُوظًا فِيهِ الشَّهَادَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ شَهَادَةُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، وَلَيْسَ الْمَعْنِيُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَشِبْهِهِ أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا الله بِدُونِ الشَّهَادَةِ الأُخْرَى يَكْفِي لِلنَّجَاةِ مِنَ الْخُلُودِ الأَبَدِيِّ فِي النَّارِ بَلْ لا بُدَّ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الشَّهَادَتَيْنِ وَذَلِكَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ لَّمْ يُؤْمِنْ بِالله وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا﴾ [سُورَةَ الْفَتْح/13] فَتُحْمَلُ هَذِهِ الأَحَادِيثُ عَلَى مَا يُوَافِقُ هَذِهِ الآيَةَ، فَحَدِيثُ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَأْتِي مُنَاقِضًا لِلْقُرْءَانِ، وَمَنْ تَوَهَّمَ خِلافَ ذَلِكَ فَهُوَ لِقُصُورِ فَهْمِهِ وَشِدَّةِ جَهْلِهِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: مَعْنَى الشَّهَادَتَيْنِ

الشَّرْحُ أَيْ أَنَّ هَذَا بَيَانُ مَعْنَى الشَّهَادَتَيْنِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: فَمَعْنَى شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا الله إِجْمَالًا أَعْتَرِفُ بِلِسَانِي وَأَعْتَقِدُ وَأُذْعِنُ بِقَلْبِي أَنَّ الْمَعْبُودَ بِحَقٍّ هُوَ الله تَعَالَى فَقَطْ.

الشَّرْحُ أَنَّ مَعْنَى لا إِلَهَ إِلَّا الله إِجْمَالًا أَيْ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ اعْتِرَافٌ مَعَ الِاعْتِقَادِ وَالإِذْعَانِ بِأَنَّهُ لا يَسْتَحِقُّ الأُلُوهِيَّةَ أَحَدٌ إِلَّا الله أَيْ لا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ غَايَةَ الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ إِلَّا هُوَ، وَالإِلَهُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الْمَعْبُودُ بِحَقٍّ ثُمَّ اسْتَعْمَلَهُ الْمُشْرِكُونَ لِمَا يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِ الله.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَمَعْنَى شَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله أَعْتَرِفُ بِلِسَانِي وَأُذْعِنُ بِقَلْبِي أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلٌ مِنْ عِنْدِ الله إِلَى كَافَّةِ الْعَالَمِينَ مِنْ إِنْسٍ وَجِنٍّ.

الشَّرْحُ أُذْعِنُ بِمَعْنَى أَعْتَقِدُ لِأَنَّ الِاعْتِرَافَ وَحْدَهُ مِنْ دُونِ اعْتِقَادٍ لا يَكْفِي، فَالْمَعْرِفَةُ إِذَا اقْتَرَنَ بِهَا الإِذْعَانُ أَيْ رِضَا النَّفْسِ بِالشَّىْءِ الَّذِي عَرَفَتْهُ هِيَ الإِيـمَانُ الَّذِي هُوَ مَقْبُولٌ عِنْدَ الله. وَأَمَّا الْمَعْرِفَةُ وَحْدَهَا فَلا تَكْفِي لِأَنَّ الله تَعَالَى أَخْبَرَ عَنِ الْيَهُودِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ مُحَمَّدًا أَنَّهُ نَبِيٌّ فَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/146] لَكِنْ لَمْ تُذْعِنْ نُفُوسُهُمْ فَلِذَلِكَ كَانُوا يُكَذِّبُونَهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ نَبِيٌّ لِأَنَّ التَّوْرَاةَ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى فِيهَا الإِخْبَارُ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله لَكِنَّ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ حُرِّفَا لَفْظًا بَعْدَ أَنْ حُرِّفَا مَعْنًى.

وَقَوْلُهُ: «مُرْسَلٌ مِنْ عِنْدِ الله إِلَى كَافَّةِ الْعَالَمِينَ مِنْ إِنْسٍ وَجِنٍّ» فَالْعَالَمُونَ هُنَا هُمُ الإِنْسُ وَالْجِنُّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [سُورَةَ الْفُرْقَان/1]، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ مُرْسَلٌ إِلَى كَافَّةِ الإِنْسِ مِنْ عُرْبٍ وَعَجَمٍ وَإِلَى كَافَّةِ الْجِنِّ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: صَادِقٌ فِي كُلِّ مَا يُبَلِّغُهُ عَنِ الله تَعَالَى، لِيُؤْمِنُوا بِشَرِيعَتِهِ وَيَتَّبِعُوهُ.

الشَّرْحُ يَجِبُ الإِيـمَانُ بِأَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا صَادِقٌ فِي كُلِّ مَا جَاءَ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ الأُمُورِ الَّتِي سَتَحْدُثُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَأُمُورِ الآخِرَةِ أَوْ أُمُورِ الأُمَمِ السَّابِقَةِ أَوْ تَحْلِيلِ شَىْءٍ أَوْ تَحْرِيْمِهِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَالْمُرَادُ بِالشَّهَادَتَيْنِ نَفْيُ الأُلُوهِيَّةِ عَمَّا سِوَى الله وَإِثْبَاتُهَا لِلَّهِ تَعَالَى مَعَ الإِقْرَارِ بِرِسَالَةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

الشَّرْحُ هَذِهِ الْعِبَارَةُ فِيهَا نَفْيُ أَنْ يَكُونَ شَىْءٌ سِوَى الله يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ، وَفِيهَا إِثْبَاتُ أَنَّ الله وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ أَيْ مَعَ الِاعْتِرَافِ وَالإِيـمَانِ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَنْبَغِي مَعْرِفَةُ مَعْنَى الْعِبَادَةِ عَلَى مَا هُوَ الْمُرَادُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَجْهَلُونَ ذَلِكَ وَهُمُ الْوَهَّابِيَّةُ وَيَظُنُّونَ أَنَّ قَوْلَ الشَّخْصِ يَا مُحَمَّدُ أَوْ يَا رَسُولَ الله أَوْ يَا شَيْخُ عَبْدَ الْقَادِرِ الْجِيلانِيَّ أَوْ يَا عَلِيُّ أَوْ يَا حَسَنُ أَوْ يَا حُسَيْنُ وَنَحْوِ ذَلِكَ عِبَادَةٌ لِلرَّسُولِ وَلِمَنْ ذُكِرُوا فَعَلَى زَعْمِهِمْ هُوَ كَافِرٌ بِنِدَائِهِ لِلرَّسُولِ وَلِمَنْ ذُكِرَ بَعْدَهُ وَهَذَا مِنْ أَجْهَلِ الْجَهْلِ، فَنِدَاءُ غَيْرِ الله مِنْ رَسُولٍ أَوْ وَلِيٍّ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَمَاتِهِ لَيْسَ عِبَادَةً لِغَيْرِ الله إِنَّمَا الْعِبَادَةُ كَمَا شَرَحَ عُلَمَاءُ اللُّغَةِ غَايَةُ التَّذَلُّلِ.

هَؤُلاءِ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ يَقُولُونَ يَا رَسُولَ الله عِنْدَ الضِّيقِ أَوِ الْفَرَحِ مَا تَذَلَّلُوا لِلرَّسُولِ غَايَةَ التَّذَلُّلِ إِنَّمَا يُعَظِّمُونَ الرَّسُولَ تَعْظِيمًا، ثُمَّ قَدْ يَقْصِدُونَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُفَرِّجَ الله عَنْهُمُ الْكَرْبَ أَوْ يَقْضِيَ لَهُمْ حَاجَاتِهِمْ إِكْرَامًا لِلرَّسُولِ وَالأَوْلِيَاءِ بِمَا لَهُمْ عِنْدَ الله مِنَ الْكَرَامَةِ. فَإِذَا كَانَ قَوْلُ يَا فُلانُ لِمَلِكٍ مِنَ الْمُلُوكِ أَوْ نَحْوِهِ فِي وَجْهِهِ لِيُسَاعِدَهُ فِي حَاجَتِهِ الَّتِي يُرِيدُهَا أَوْ لِيَدْفَعَ عَنْهُ مَا يُزْعِجُهُ وَيُؤْذِيهِ جَائِزًا لَيْسَ عِبَادَةً لَهُ فَكَيْفَ يَكُونُ إِذَا حَصَلَ هَذَا لِأَهْلِ الْقُبُورِ أَوْ لِلأَحْيَاءِ الَّذِينَ هُمْ غَيْرُ حَاضِرِينَ عِبَادَةً لَهُمْ. فَاعْتِقَادُ الْوَهَّابِيَّةِ هَذَا مَنْشَؤُهُ الْجَهْلُ بِمَعْنَى الْعِبَادَةِ أَلَيْسَ ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ الله أَنَّهُ عَلَّمَ بَعْضَ أُمَّتِهِ أَنْ يَقُولَ فِي غَيْرِ حَضْرَتِهِ يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَتَوَجَّهُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي لِتُقْضَى لِي فَفَعَلَ ذَلِكَ الشَّخْصُ وَهُوَ رَجُلٌ أَعْمَى أَرَادَ أَنْ يَكْشِفَ الله بَصَرَهُ فِي غَيْرِ حَضْرَةِ الرَّسُولِ ثُمَّ عَادَ إِلَى الرَّسُولِ وَهُوَ فِي مَكَانِهِ وَقَدْ أَبْصَرَ. ثُمَّ الصَّحَابِيُّ الَّذِي كَانَ عِنْدَ الرَّسُولِ تِلْكَ السَّاعَةَ عَلَّمَ شَخْصًا فِي زَمَنِ عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ عِنْدَ عُثْمَانَ فَمَا كَانَ يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ لِشُغْلِ بَالِهِ فَفَعَلَ الرَّجُلُ مِثْلَ فِعْلِ ذَلِكَ الأَعْمَى ثُمَّ جَاءَ إِلَى عُثْمَانَ فَقَضَى لَهُ حَاجَتَهُ.

ثُمَّ لَمْ يَزَلِ الْمُسْلِمُونَ يَذْكُرُونَ هَذَا الْحَدِيثَ وَيَعْمَلُونَ بِهِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا وَأَوْدَعَهُ حُفَّاظُ الْحَدِيثِ كُتُبَهُمْ الْحَافِظُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَافِظُ التِّرْمِذِيُّ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْحَافِظُ النَّوَوِيُّ وَالْحَافِظُ ابْنُ الْجَزَرِيِّ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ ذَكَرُوهُ فِي مُؤَلَّفَاتِهِمْ [وَالْحَدِيثُ صَحَّحَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَقَالَ فِي مُعْجَمَيْهِ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ: وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ] فَالْوَهَّابِيَّةُ بِقَوْلِهِمْ إِنَّ هَذَا شِرْكٌ وَكُفْرٌ يَكُونُونَ كَفَّرُوا هَؤُلاءِ الْحُفَّاظَ الَّذِينَ أَوْدَعُوا كُتُبَهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ لِيُعْمَلَ بِهِ فَنَعُوذُ بِالله مِنْ فَسَادِ الْفَهْمِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَمَنْ لَّمْ يُؤْمِنْ بِالله وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا﴾ [سُورَةَ الْفَتْح/ 13].

الشَّرْحُ هَذِهِ الآيَةُ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ أَنَّ الإِيـمَانَ بِمُحَمَّدٍ لا بُدَّ مِنْهُ لِصِحَّةِ الإِيـمَانِ أَيْ لِكَوْنِ الْعَبْدِ مُؤْمِنًا عِنْدَ الله بِحَيْثُ إِنَّ مَنْ شَكَّ فِي ذَلِكَ أَوْ أَنْكَرَ فَهُوَ كَافِرٌ لِأَنَّهُ عَانَدَ الْقُرْءَانَ. وَهَذِهِ الآيَةُ أَيْضًا تُعْطِي أَنَّ مَنْ ءَامَنَ بِالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَعْمَلْ شَيْئًا مِنَ الْفَرَائِضِ لَيْسَ بِكَافِرٍ وَأَنَّهُ لَيْسَ خَالِدًا فِي النَّارِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَإِنَّا أَعْتَدْنَا﴾ أَيْ هَيَّأْنَا ﴿لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا﴾ أَيْ نَارَ جَهَنَّمَ لِكُفْرِهِمْ. وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَمَنْ لَّمْ يُؤْمِنْ بِالله وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا﴾ حَيْثُ دَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالله وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ كَافِرٌ وَلَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمُنْتَسِبِينَ لِلتَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ لِأَنَّ الْقُرْءَانَ سَمَّاهُمْ أَهْلَ الْكِتَابِ وَسَمَّاهُمْ كَافِرِينَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِمُحَمَّدٍ. وَالتَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ الْمُنَزَّلانِ فِيهِمَا الأَمْرُ بِالإِيـمَانِ بِمُحَمَّدٍ غَيْرَ أَنَّ هَؤُلاءِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَيْهِمَا لَمْ يَعْمَلُوا بِالْكِتَابَيْنِ وَلَوْ عَمِلُوا بِهِمَا لَاتَّبَعُوا مُحَمَّدًا لِأَنَّ الْكِتَابَيْنِ حُرِّفَا تَحْرِيفًا بَالِغًا وَحُذِفَ مِنْهُمَا ذِكْرُ الإِيـمَانِ بِمُحَمَّدٍ، وَالآنَ لَمْ يَبْقَ بَيْنَ الْبَشَرِ إِلَّا الْمُحَرَّفُ، وَلِأَجْلِ انْتِسَابِ الْيَهُودِ إِلَى التَّوْرَاةِ وَالنَّصَارَى إِلَى الإِنْجِيلِ انْتِسَابًا بِاللَّفْظِ سَمَّاهُمُ الْقُرْءَانُ أَهْلَ الْكِتَابِ وَكَفَّرَهُمْ قَالَ الله تَعَالَى ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان/70].

وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى كُفْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾ [سُورَةَ الْبَيِّنَة/6] أَيْ شَرُّ الْخَلْقِ. وَبَعْضُ النَّاسِ الْجُهَّالِ يَقُولُونَ الْقُرْءَانُ يَقُولُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَعْنَاهُ لَيْسُوا كُلُّهُمْ كُفَّارًا وَهَذَا جَهْلٌ بِاللُّغَةِ لِأَنَّ «مِنْ» هَذِهِ بَيَانِيَّةٌ وَلَيْسَتْ لِلتَّبْعِيضِ مَعْنَاهُ الْكُفَّارُ إِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: فَهَذِهِ الآيَةُ صَرِيْحَةٌ فِي تَكْفِيرِ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ نَازَعَ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ يَكُونُ قَدْ عَانَدَ الْقُرْءَانَ وَمَنْ عَانَدَ الْقُرْءَانَ كَفَرَ.

الشَّرْحُ أَنَّ مَنْ خَالَفَ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ فَأَنْكَرَ الإِيـمَانَ بِمُحَمَّدٍ فَهُوَ كَافِرٌ. فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الإِنْسَانَ يَكُونُ مُؤْمِنًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ غَيْرِ إِيـمَانٍ بِمُحَمَّدٍ فَهُوَ كَافِرٌ كَمَا أَنَّهُ مَنْ كَانَ فِي زَمَانِ عِيسَى أَوْ زَمَانِ مُوسَى أَوْ غَيْرِهِمَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ إِذَا كَذَّبَ أَحَدًا مِنْهُمْ وَاعْتَرَفَ بِوُجُودِ الله وَلَمْ يَعْبُدْ غَيْرَهَ فَهُوَ كَافِرٌ لِأَنَّ الله أَرْسَلَ هَؤُلاءِ لِيُصَدَّقُوا وَيُتَّبَعُوا فَتَكْذِيبُهُمْ تَكْذِيبٌ لِلَّهِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ الإِسْلامِيُّونَ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ دَانَ بِغَيْرِ الإِسْلامِ. وَعَلَى تَكْفِيرِ مَنْ لَمْ يُكَفِّرْهُ أَوْ شَكَّ أَوْ تَوَقَّفَ كَأَنْ يَقُولَ: أَنَا لا أَقُولُ إِنَّهُ كَافِرٌ أَوْ غَيْرُ كَافِرٍ.

الشَّرْحُ أَنَّ مَنِ اتَّخَذَ لِنَفْسِهِ دِينًا غَيْرَ دِينِ الإِسْلامِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ تَرَدَّدَ فِي تَكْفِيرِهِ أَيْ فِي تَكْفِيرِ مَنْ لا يَدِينُ بِالإِسْلامِ بَلْ يَدِينُ بِغَيْرِهِ مِنْ يَهُودِيَّةٍ أَوْ مَجُوسِيَّةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ يَكْفُرُ، وَكَذَلِكَ الَّذِي يَقُولُ لَعَلَّهُ كَافِرٌ وَلَعَلَّهُ غَيْرُ كَافِرٍ وَلَوْ كَانَ هَذَا الشَّخْصُ مِمَّنْ يَدَّعِي الإِسْلامَ لَفْظًا، بَلْ وَلَوِ اعْتَقَدَ هَذَا الشَّخْصُ وَظَنَّ أَنَّهُ مُسْلِمٌ، فَإِنْكَارُ كُفْرِهِ وَالتَّرَدُّدُ فِي كُفْرِهِ كُفْرٌ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَاعْلَمْ بِإِسْتِيقَانٍ أَنَّهُ لا يَصِحُّ الإِيـمَانُ وَالإِسْلامُ وَلا تُقْبَلُ الأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ بِدُونِ الشَّهَادَتَيْنِ بِلَفْظِ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا الله وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُمَا وَلَوْ بِغَيْرِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. وَيَكْفِي لِصِحَّةِ الإِسْلامِ النُّطْقُ مَرَّةً فِي الْعُمُرِ وَيَبْقَى وُجُوبُهَا فِي كُلِّ صَلاةٍ لِصِحَّةِ الصَّلاةِ، هَذَا فِيمَنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ الإِسْلامِ ثُمَّ أَرَادَ الدُّخُولَ فِي الإِسْلامِ.

الشَّرْحُ قَوْلُهُ: «وَاعْلَمْ بِاسْتِيقَانٍ» أَيْ جَازِمًا بِلا شَكٍّ أَنَّهُ لا يَصِحُّ الإِيـمَانُ وَالإِسْلامُ وَلا تُقْبَلُ الأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ بِدُونِ النُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ بِلَفْظِ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا الله وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، وَلا يُشْتَرَطُ خُصُوصُ هَذَا اللَّفْظِ بَلْ يَكْفِي مَا يُعْطِي مَعْنَاهُمَا كَقَوْلِ لا رَبَّ إِلَّا الله مُحَمَّدٌ نَبِيُّ الله، وَكَذَلِكَ لَوْ نَطَقَ بِمَا يُعْطِي مَعْنَاهُمَا بِغَيْرِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَهَذَا النُّطْقُ يَكْفِي مَرَّةً وَاحِدَةً فِي الْعُمُرِ لِصِحَّةِ الإِسْلامِ هَذَا فِيمَنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ الإِسْلامِ ثُمَّ أَرَادَ الدُّخُولَ فِي الإِسْلامِ، وَبَعْدَ تِلْكَ الْمَرَّةِ يَبْقَى وُجُوبُهَا فِي كُلِّ صَلاةٍ لِصِحَّةِ الصَّلاةِ.

ثُمَّ إِنَّ الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ لا تَكُونُ مَقْبُولَةً عِنْدَ الله بِدُونِ الإِيـمَانِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ [سُورَةَ النِّسَاء/124].



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَأَمَّا مَنْ نَشَأَ عَلَى الإِسْلامِ وَكَانَ يَعْتَقِدُ الشَّهَادَتَيْنِ فَلا يُشْتَرَطُ فِي حَقِّهِ النُّطْقُ بِهِمَا بَلْ هُوَ مُسْلِمٌ لَوْ لَمْ يَنْطِقْ.

الشَّرْحُ مَنْ نَشَأَ عَلَى الإِسْلامِ بَيْنَ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ مَا دَامَ اعْتِقَادُهُ عَلَى مَعْنَى الشَّهَادَتَيْنِ فَهُوَ مُسْلِمٌ مُؤْمِنٌ وَلَوْ لَمْ يَنْطِقْ بِهِمَا بِلِسَانِهِ حَتَّى مَاتَ، لَكِنَّهُ يَكُونُ عَاصِيًا مُرْتَكِبًا لِلْكَبِيرَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْطِقْ بِهِمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَقَالَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الله تَعَالَى: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ» حَدِيثٌ قُدْسِيٌّ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَأَفْضَلُ وَأَوَّلُ فَرْضٍ هُوَ الإِيـمَانُ بِالله وَرَسُولِهِ.

الشَّرْحُ الْحَدِيثُ الْقُدْسِيُّ هُوَ الْحَدِيثُ الَّذِي صَدَّرَهُ رَسُولُ الله بِقَالَ الله أَوْ يَقُولُ الله أَوْ بِمَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ، أَمَّا الْحَدِيثُ النَّبَوِيُّ فَمَا صَدَّرَهُ الصَّحَابِيُّ بِقَالَ الرَّسُولُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّ أَعْظَمَ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى الله هُوَ أَدَاءُ فَرَائِضِ الله وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الأَكَابِرِ:«مَنْ شَغَلَهُ الْفَرْضُ عَنِ النَّفْلِ فَهُوَ مَعْذُورٌ وَمَنْ شَغَلَهُ النَّفْلُ عَنِ الْفَرْضِ فَهُوَ مَغْرُورٌ» ذَكَرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ، فَالْعَمَلُ بِالْفَرْضِ يُقَرِّبُ إِلَى الله أَكْثَرَ مِنَ الْعَمَلِ بِالنَّوَافِلِ، فَعَلَيْكُمْ بِتَقْدِيمِ الْفَرْضِ عَلَى النَّفْلِ عَمَلًا بِالْقَاعِدَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَفْضَلُ الأَعْمَالِ عَلَى الإِطْلاقِ هُوَ الإِيـمَانُ بِالله وَرَسُولِهِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَاعْتِقَادُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا الله فَقَطْ لا يَكْفِي مَا لَمْ يُقْرَنْ بِاعْتِقَادِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله قَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا الله وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ الله لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان/32] أَيْ لا يُحِبُّ الله مَنْ تَوَلَّى عَنِ الإِيـمَانِ بِالله وَالرَّسُولِ لِكُفْرِهِمْ وَالْمُرَادُ بِطَاعَةِ الله وَالرَّسُولِ فِي هَذِهِ الآيَةِ الإِيـمَانُ بِهِمَا.

الشَّرْحُ مَعْنَى ﴿قُلْ أَطِيعُوا الله وَالرَّسُولَ﴾ أَيْ بِالإِيـمَانِ بِهِمَا ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ أَيْ أَعْرَضُوا عَنْ ذَلِكَ ﴿فَإِنَّ الله لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ أَيْ فَهُمْ كُفَّارٌ لا يُحِبُّهُمُ الله وَلَوْ أَحَبَّهُمْ لَرَزَقَهُمُ الإِيـمَانَ بِالله وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالله وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَافِرٌ وَأَنَّ الله تَعَالَى لا يُحِبُّهُ لِكُفْرِهِ، فَمَنْ قَالَ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ لِأَنَّهُ خَلَقَ الْجَمِيعَ فَقَدْ كَذَّبَ الْقُرْءَانَ، فَيُقَالُ لَهُ: الله خَلَقَ الْجَمِيعَ لَكِنْ لا يُحِبُّ الْكُلَّ.

الشَّرْحُ الله خَلَقَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ لَكِنَّهُ لا يُحِبُّ سِوَى الْمُسْلِمِينَ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: الْفَرْضُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ وَاعْلَمْ أَنَّ النُّطْقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي عُمُرِهِ بِنِيَّةِ الْفَرْضِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِأَنَّهُمْ لا يُوجِبُونَ التَّحِيَّاتِ فِي الصَّلاةِ إِنَّمَا هُمْ يَعْتَبِرُونَهَا سُنَّةً وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ كَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَجِبُ فِي كُلِّ صَلاةٍ لِصِحَّةِ الصَّلاةِ.

الشَّرْحُ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا الله وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله ضَرُورِيَّةٌ فِي كُلِّ صَلاةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَهِيَ عِنْدَهُمْ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ، وَالسُّنَّةُ الْمُؤَكَّدَةُ هِيَ مَا كَانَ يُوَاظِبُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكْفِي عِنْدَهُمْ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ وَيَنْتَظِرَ بِقَدْرِ «السَّلامُ عَلَيْكُمْ» ثُمَّ يَقُول «السَّلامُ عَلَيْكُمْ»، فَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يُوجِبُونَ النُّطْقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَرَّةً وَاحِدَةً بَعْدَ الْبُلُوغِ بِنِيَّةِ الْفَرْضِ لِأَنَّهُمْ لا يُوجِبُونَهَا فِي الصَّلاةِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: لا دِينَ صَحِيحٌ إِلَّا الإِسْلامُ . الدِّينُ الْحَقُّ عِنْدَ الله الإِسْلامُ. قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان/85].

الشَّرْحُ أَنَّ الَّذِي يَطْلُبُ دِينًا غَيْرَ الإِسْلامِ يَدِينُ بِهِ فَلَنْ يَقْبَلَهُ الله مِنْهُ، فَالدِّينُ الصَّحِيحُ عِنْدَ الله هُوَ الإِسْلامُ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لا يُسَمَّى مَا سِوَى الإِسْلامِ دِينًا بَلْ يُقَالُ دِينُ الْيَهُودِ وَدِينُ الْمَجُوسِ لَكِنَّهُ دِينٌ بَاطِلٌ، وَقَدْ أَمَرَ الله تَعَالَى الرَّسُولَ أَنْ يَقُولَ ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [سُورَةَ الْكَافِرُون/6] أَيْ أَنَا مَا أَزَالُ عَلَى دِينِي الَّذِي هُوَ حَقٌّ وَأَنْتُمْ لَكُمْ دِينُكُمُ الْبَاطِلُ فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَتْرُكُوهُ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَقَالَ تَعَالَى أَيْضًا: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الإِسْلامُ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان/19].

الشَّرْحُ أَيْ أَنَّ الدِّينَ الصَّحِيحَ الَّذِي ارْتَضَاهُ الله لِعِبَادِهِ مِنَ الْبَشَرِ وَالْجِنِّ وَالْمَلائِكَةِ الإِسْلامُ لا غَيْرُ وَمَا سِوَاهُ مِنَ الأَدْيَانِ فَهُوَ بَاطِلٌ. وَهُوَ الدِّينُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، ءَادَمُ وَأَوْلادُهُ مَا كَانُوا يَدِينُونَ إِلَّا بِالإِسْلامِ إِنَّمَا نَشَأَ الْكُفْرُ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ الله تَعَالَى ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/213] أَيْ كُلُّهُمْ عَلَى الإِسْلامِ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْبَشَرُ بَقِيَ بَعْضُهُمْ عَلَى الإِسْلامِ وَكَفَرَ بَعْضٌ فَدَانَ بِغَيْرِ الإِسْلامِ، ثُمَّ لَمَّا اخْتَلَفُوا بَعَثَ الله النَّبِيِّينَ لِيُبَشِّرُوا مَنْ أَسْلَمَ بِالْجَنَّةِ وَيُنْذِرُوا مَنْ كَفَرَ بِالْعَذَابِ فِي الآخِرَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا فِي هَذِهِ الآيَةِ ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ أَيْ كُلُّهُمْ عَلَى الإِسْلامِ فَاخْتَلَفُوا ﴿فَبَعَثَ الله النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: فَكُلُّ الأَنْبِيَاءِ مُسْلِمُونَ، فَمَنْ كَانَ مُتَّبِعًا لِمُوسَى صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مُسْلِمٌ مُوسَوِيٌّ، وَمَنْ كَانَ مُتَّبِعًا لِعِيسَى صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مُسْلِمٌ عِيسَوِيٌّ، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِمَنِ اتَّبَعَ مُحَمَّدًا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْلِمٌ مُحَمَّدِيٌّ.

الشَّرْحُ أَنَّ الأَنْبِيَاءَ جَمِيعَهُمْ دِينُهُمُ الإِسْلامُ فَكَانَ ءَادَمُ عَلَى الإِسْلامِ وَكَذَلِكَ الأَنْبِيَاءُ بَعْدَهُ إِلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ كَانُوا كُلُّهُمْ يَعْبُدُونَ الله وَلا يُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئًا، فَمَنْ كَانَ فِي زَمَنِ مُوسَى صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآمَنَ بِالله رَبًّا وَصَدَّقَ بِرِسَالَةِ مُوسَى فَهُوَ مُسْلِمٌ مُوسَوِيٌّ أَيْ مِنْ أَتْبَاعِ مُوسَى، وَكَذَلِكَ الأَمْرُ فِيمَنْ كَانَ فِي أَيَّامِ عِيسَى فَآمَنَ بِالله وَصَدَّقَ بِعِيسَى فَهُوَ مُسْلِمٌ عِيسَوِيٌّ. وَمَعْنَى مُسْلِمٌ مُحَمَّدِيٌّ أَيْ مُسْلِمٌ مُتَّبِعٌ مُحَمَّدًا فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ تَوْحِيدِ الله وَتَصْدِيقِ الأَنْبِيَاءِ وَالإِيـمَانِ بِوُجُودِ الْمَلائِكَةِ الْمُكْرَمِينَ وَالإِيـمَانِ بِالْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ وَالإِيـمَانِ بِالْيَوْمِ الآخِرِ الَّذِي يُجَازَى فِيهِ الْعِبَادُ الْمُؤْمِنُونَ بِأَعْمَالِهِمْ بِإِدْخَالِهِمُ الْجَنَّةَ وَالْكَافِرُونَ بِإِدْخَالِهِمْ جَهَنَّمَ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ فِيهَا نَعِيمٌ مَحْسُوسٌ وَجَهَنَّمَ فِيهَا ءَالامٌ مَحْسُوسَةٌ، وَأَنَّهُ لا خَالِقَ لِلأَجْسَامِ وَلا لِشَىْءٍ مِنَ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ إِلَّا الله. فَكُلُّ الأَنْبِيَاءِ جَاءُوا بِهَذَا لا يَخْتَلِفُونَ فِي هَذَا إِنَّمَا تَخْتَلِفُ الأَحْكَامُ الَّتِي أَنْزَلَهَا الله عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ الله تَعَالَى فَرَضَ عَلَى أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأُمَمِهِمْ صَلاتَيْنِ وَأَنْزَلَ عَلَى بَعْضِ الأَنْبِيَاءِ خَمْسِينَ صَلاةً، وَأَوْجَبَ فِيمَا أَوْجَبَ عَلَى بَعْضٍ أَنْ يَدْفَعُوا رُبُعَ أَمْوَالِهِمْ زَكَاةً، وَأَنْزَلَ عَلَى بَعْضٍ تَحَتُّمَ قَتْلِ الْقَاتِلِ، وَأَنْزَلَ عَلَى ءَادَمَ تَحْلِيلَ زِوَاجِ الأَخِ بِأُخْتِهِ الَّتِي هِيَ تَوْأَمَةُ أَخِيهِ الآخَرِ، وَكُلٌّ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فِي شَرِيعَةِ ذَلِكَ النَّبِيِّ، وَالله تَعَالَى يُغَيِّرُ الأَحْكَامَ الَّتِي كَانَتْ فِي شَرْعِ نَبِيٍّ سَبَقَهُ وَهُوَ الْعَلِيمُ بِمَصَالِحِ عِبَادِهِ، وَالْمَصَالِحُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ الأَزْمَانِ وَالأَحْوَالِ.

وَكُلُّ نَبِيٍّ فِي زَمَانِهِ يَجِبُ التَّقَيُّدُ بِهِ فِي الإِيـمَانِ وَالأَحْكَامِ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ فَلَمَّا جَاءَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ ءَاخِرُهُمْ أَنْزَلَ الله عَلَيْهِ أَحْكَامًا لَمْ تَكُنْ فِي شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الأَنْبِيَاءِ كَالصَّلاةِ فِي الأَمَاكِنِ الَّتِي هُيِّئَتْ لِلصَّلاةِ وَغَيْرِهَا وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الأَنْبِيَاءِ بَلْ كَانَ مَفْرُوضًا عَلَيْهِمْ أَنْ يُصَلُّوا فِي أَمَاكِنَ مَخْصُوصَةٍ هُيِّئَتْ لِلصَّلاةِ وَهِيَ الْمَسَاجِدُ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَكَانَ لِتِلْكَ الأَمَاكِنِ عِنْدَ أُولَئِكَ اسْمٌ غَيْرُ الْمَسْجِدِ وَكَانَ أُولَئِكَ لا تُقْبَلُ صَلاتُهُمْ إِلَّا فِي مَسَاجِدِهِمْ وَلا تَصِحُّ صَلاتُهُمْ فِي بُيُوتِهِمْ وَلا فِي مَتَاجِرِهِمْ وَلا فِي مَزَارِعِهِمْ وَلا فِي الْبَرِّيَّةِ وَالْغَابَةِ، إِلَّا أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْمُسْلِمِينَ هَدَمَ فِرْعَوْنُ مَسَاجِدَهُمْ فَأَذِنَ الله لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا فِي بُيُوتِهِمْ، وَأَنْزَلَ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ التَّيَمُّمَ بِالتُّرَابِ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ أَوِ الْعَجْزِ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي شَرَائِعِ الأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ بَلْ كَانُوا يَتَوَضَّئُونَ وَيُصَلُّونَ فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا مَا يَتَوَضَّئُونَ بِهِ تَوَقَّفُوا عَنِ الصَّلاةِ حَتَّى يَجِدُوا الْمَاءَ.

قِصَّةٌ غَرِيبَةٌ فِيهَا دِلالَةٌ عَلَى أَنَّ سَيِّدَنَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ أَوْصَى بِاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ إِذَا ظَهَرَ: خَرَجَ مِنَ الْيَمَنِ أَرْبَعَةُ أَشْخَاصٍ قَاصِدِينَ مَكَّةَ فَأَدْرَكَهُمُ اللَّيْلُ فِي الْبَرِّيَّةِ فَنَزَلُوا فِي بَعْضِ اللَّيْلِ فِي أَرْضٍ فَنَامُوا إِلَّا جَعْدَ بنَ قَيْسٍ الْمُرَادِيَّ فَسَمِعَ هَاتِفًا لا يَرَى شَخْصَهُ يَقُولُ:

أَلا أَيُّهَا الرَّكْبُ الْمُعَرِّسُ بَلِّغُوا # إِذَا مَا وَصَلْتُمْ لِلْحَطِيمِ وَزَمْزَمَا

مُحَـــمَّدًا الْمَبْعُوثَ مِنَّا تَحِيَّةً # مِنْ حَيْـــــثُ سَــــارَ وَيَـمَّـمَا

وَقُولُوا لَهُ إِنَّا لِدِينِكَ شِيــــعَةٌ # بِذَلِكَ أَوْصَانَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَا

فَهَذَا الْهَاتِفُ جِنِّيٌّ مُؤْمِنٌ أَدْرَكَ عِيسَى قَبْلَ رَفْعِهِ إِلَى السَّمَاءِ وَءَامَنَ بِهِ وَسَمِعَ مِنْهُ وَصِيَّتَهُ بِالإِيـمَانِ بِمُحَمَّدٍ إِذَا ظَهَرَ وَاتِّبَاعِهِ، فَلَّمَا وَصَلُوا إِلَى مَكَّةَ سَأَلَ أَهْلَ مَكَّةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فَاجْتَمَعَ بِهِ فَآمَنَ بِهِ وَأَسْلَمَ وَذَلِكَ كَانَ فِي أَوَّلِ بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ قَبْلَ أَنْ يَنْتَشِرَ خَبَرُهُ فِي الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَمَعْنَى الْمُعَرِّسِ أَيِ الْمُسَافِرُ الَّذِي يَنْزِلُ فِي ءَاخِرِ اللَّيْلِ لِيَسْتَرِيحَ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَالإِسْلامُ هُوَ الدِّينُ الَّذِي رَضِيَهُ الله لِعِبَادِهِ وَأَمَرَنَا بِاتِّبَاعِهِ.

الشَّرْحُ أَنَّ الإِسْلامَ هُوَ الدِّينُ الَّذِي أَحَبَّهُ الله لِعِبَادِهِ وَأَمَرَنَا بِاتِّبَاعِهِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَلا يُسَمَّى الله مُسْلِمًا كَمَا تَلَفَظَّ بِهِ بَعْضُ الْجُهَّالِ.

الشَّرْحُ الله تَعَالَى لا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى مُسْلِمًا فَلَيْسَ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى مُسْلِمٌ بَلِ اسْمُهُ السَّلامُ أَيِ السَّالِمُ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ وَعَيْبٍ. الْمُسْلِمُ مَعْنَاهُ الْمُنْقَادُ، الله لا يَنْقَادُ بَلْ يُنْقَادُ لَهُ فَلا يُقَالُ لَهُ مُسْلِمٌ. وَلا يَجُوزُ تَسْمِيَةُ الله إِلَّا بِمَا جَاءَ فِي الْقُرْءَانِ أَوْ فِي حَدِيثِ رَسُولِ الله الثَّابِتِ أَوْ أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الأُمَّةُ، فَتَسْمِيَةُ بَعْضِ النَّاسِ الله تَعَالَى سَبَبًا وَعِلَّةً كُفْرٌ كَمَا قَالَ الإِمَامُ الْعَلَّامَةُ رُكْنُ الإِسْلامِ عَلِيٌّ السُّغْدِيُّ مِنْ أَكَابِرِ الْحَنَفِيَّةِ. وَلا يَجُوزُ تَسْمِيَتُهُ رُوحًا لِأَنَّ الرُّوحَ مَخْلُوقَةٌ. فَتَسْمِيَةُ الله سَبَبًا وَعِلَّةً وَرُوحًا كُفْرٌ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا اسْتَحْدَثَهُ بَعْضُ جَهَلَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ فَسَمَّوِا الله الْخَمَّارَ وَالْعِيَاذُ بِالله.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: فَقَدِيمًا كَانَ الْبَشَرُ جَمِيعُهُمْ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ هُوَ الإِسْلامُ.

الشَّرْحُ أَنَّ الْبَشَرَ فِي زَمَنِ ءَادَمَ كَانُوا كُلُّهُمْ عَلَى الإِسْلامِ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ كَافِرٌ. هُوَ عَلَّمَ أَوْلادَهُ الدِّينَ كَمَا عَلَّمَهُمْ أُصُولَ الْمَعِيشَةِ وَعَمِلَ لَهُمُ الدِّينَارَ وَالدِّرْهَمَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ الْمَعِيشَةِ، فَصَلَّى الله عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى ءَادَمَ وَسَائِرِ الأَنْبِيَاءِ وَسَلَّمَ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَإِنَّمَا حَدَثَ الشِّرْكُ وَالْكُفْرُ بِالله تَعَالَى بَعْدَ النَّبِيِّ إِدْرِيسَ.

الشَّرْحُ أَنَّهُ حَدَثَ الْكُفْرُ بَعْدَ ءَادَمَ بِأَلْفِ سَنَةٍ وَذَلِكَ بَعْدَ وَفَاةِ إِدْرِيسَ. فَأَوَّلُ الأَنْبِيَاءِ ءَادَمُ ثُمَّ ابْنُهُ شِيثٌ ثُمَّ إِدْرِيسُ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: فَكَانَ نُوحٌ أَوَّلَ نَبِيٍّ أُرْسِلَ إِلَى الْكُفَّارِ يَدْعُو إِلَى عِبَادِةِ الله الْوَاحِدِ الَّذِي لا شَرِيكَ لَهُ.

الشَّرْحُ أَنَّهُ بَعْدَ وَفَاةِ إِدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلامُ حَصَلَ الشِّرْكُ بَيْنَ النَّاسِ وَاسْتَمَرُّوا عَلَى هَذَا زَمَانًا إِلَى أَنْ بَعَثَ الله نُوحًا يَدْعُوهُمْ إِلَى الإِسْلامِ. فَبَيْنَ إِدْرِيسَ وَنُوحٍ عَلَيْهِمَا السَّلامُ أَلْفُ سَنَةٍ وَتِلْكَ الْفَتْرَةُ تُسَمَّى الْجَاهِلِيَّةَ الأُولَى، فَبِهَذَا يَكُونُ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ هُوَ أَوَّلَ نَبِيٍّ أُرْسِلَ إِلَى الْكُفَّارِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الإِسْلامِ. فَآدَمُ مِنْ جُمْلَةِ الأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ مَنْ أَنْكَرَ نُبُوَّتَهُمْ يَكْفُرُ، فَكَمَا أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ نُبُوَّةَ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٍ يَكْفُرُ كَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنْ أَنْكَرَ نُبُوَّةَ ءَادَمَ، كَمَا نَقَلَ ابْنُ حَزْمٍ الإِجْمَاعَ عَلَى نُبُوَّةِ ءَادَمَ، بَلْ هُوَ نَبِيٌّ رَسُولٌ كَمَا وَرَدَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الَّذِي أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ وَأَقَرَّهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ، وَلا مَعْنَى لإِنْكَارِ الْوَهَّابِيَّةِ رِسَالَةَ ءَادَمَ وَلَعَلَّ بَعْضَهُمْ يُنْكِرُ نُبُوَّتَهُ وَلا حُجَّةَ لَهُمْ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الَّذِي فِيهِ أَنَّ النَّاسَ يَأْتُونَ ءَادَمَ لِيَشْفَعَ لَهُمْ ثُمَّ نُوحًا فَيَقُولُونَ لِنُوحٍ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى قَوْمِهِ الْمُنْتَشِرِينَ فِي الأَرْضِ [فِي الْجُزْءِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ فَتْحِ الْبَارِي (ص/365) وَمِنَ الأَجْوِبَةِ أَنَّ رِسَالَةَ ءَادَمَ كَانَتْ إِلَى بَنِيهِ وَهُمْ مُوَحِّدُونَ لِيُعَلِّمَهُمْ شَرِيعَتَهُ وَنُوحٌ كَانَتْ رِسَالَتُهُ إِلَى قَوْمٍ كُفَّارٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ اهـ] لِأَنَّ الأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ بَعْدَهُ كَانَ النَّبِيُّ يُرْسَلُ إِلَى قَوْمِهِ كَمَا حَكَى الله عَنْ عِيسَى أَنَّهُ قَالَ ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُم﴾ [سُورَةَ الصَّف/6] فَقَدْ خَالَفَتِ الْوَهَّابِيَّةُ فِي قَوْلِهَا هَذَا قَوْلَ الله تَعَالَى ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَّاحِدَةً﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ كُلُّهُمْ عَلَى الإِسْلامِ، فَمَاذَا تَقُولُ الْوَهَّابِيَّةُ عَنْ ءَادَمَ وَأَوْلادِهِ أَتَقُولُ إِنَّهُمْ كَانُوا يَعِيشُونَ عِيشَةَ الْبَهَائِمِ لا يَعْرَفُونَ مَا يَأْتُونَ وَمَا يَذَرُونَ! وَكَفَاهُمْ هَذَا خِزْيًا.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَقَدْ حَذَّرَ الله جَمِيعَ الرُّسُلِ مِنْ بَعْدِهِ مِنَ الشِّرْكِ.

الشَّرْحُ تَحْذِيرُ الرُّسُلِ مِنَ الشِّرْكِ الْمَقْصُودُ بِهِ تَحْذِيرُ أُمَمِهِمْ لِأَنَّ الأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ مِنَ الشِّرْكِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: فَقَامَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَجْدِيدِ الدَّعْوَةِ إِلَى الإِسْلامِ بَعْدَ أَنِ انْقَطَعَ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ فِي الأَرْضِ مُؤَيَّدًا بِالْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ.

الشَّرْحُ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَى النَّبِيِّ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْبَشَرِ عَلَى الأَرْضِ مُسْلِمٌ غَيْرُهُ فَعَرَبُ الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ كَانُوا يَعْبُدُونَ الأَوْثَانَ، وَأَهْلُ فَارِسٍ كَانُوا يَعْبُدُونَ النَّارَ، وَسَائِرُ أَهْلِ الأَرْضِ كَانَتْ لَهُمْ أَصْنَامٌ أَوْ أَشْيَاءُ أُخْرَى يَعْبُدُونَهَا، فَقَامَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو إِلَى الإِسْلامِ مُؤَيَّدًا بِمُعْجِزَاتٍ تَدُلُّ عَلَى نُبُوَّتِهِ فَهُوَ مُجَدِّدُ الدَّعْوَةِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: فَدَخَلَ الْبَعْضُ فِي الإِسْلامِ.

الشَّرْحُ كَالْجَعْدِ بنِ قَيْسٍ الْمُرَادِيِّ الَّذِي أَسْلَمَ بِسَبَبِ مَا سَمِعَهُ مِنَ الْجِنِّيِّ الَّذِي كَانَ فِي أَيَّامِ كَانَ عِيسَى عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ وَدَعَى إِلَى الإِسْلامِ إِلَى أَنْ أَدْرَكَ زَمَانَ مُحَمَّدٍ فَآمَنَ بِعِيسَى وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَجَحَدَ بِنُبُوَّتِهِ أَهْلُ الضَّلالِ الَّذِينَ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ مُشْرِكًا قَبْلًا كَفِرْقَةٍ مِنَ الْيَهُودِ عَبَدَتْ عُزَيْرًا فَازْدَادُوا كُفْرًا إِلَى كُفْرِهِمْ.

الشَّرْحُ قَوْلُهُ: «جَحَدَ» أَيْ أَنْكَرَ، وَأَمَّا عُزَيْرٌ فَهُوَ رَجُلٌ مِنَ الصَّالِحِينَ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِنُبُوَّتِهِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَءَامَنَ بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَعَبْدِ الله بنِ سَلامٍ عَالِمِ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَهِ، وَأَصْحَمَةَ النَّجَاشِيِّ مَلِكِ الْحَبَشَةِ وَكَانَ نَصْرَانِيًّا ثُمَّ اتَّبَعَ الرَّسُولَ اتِّبَاعًا كَامِلًا وَمَاتَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ الله وَصَلَّى عَلَيْهِ الرَّسُولُ صَلاةَ الْغَائِبِ يَوْمَ مَاتَ. أَوْحَى الله إِلَيْهِ بِمَوْتِهِ. ثُمَّ كَانَ يُرَى عَلَى قَبْرِهِ فِي اللَّيَالِي نُورٌ وَهَذَا دَلِيلٌ أَنَّهُ صَارَ مُسْلِمًا كَامِلًا وَلِيًّا مِنْ أَوْلِيَاءِ الله رَضِيَ الله عَنْهُ.

الشَّرْحُ أَنَّ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَالِمَ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ عَبْدَ الله بنَ سَلامٍ وَهُوَ مِنَ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ. وَمِنْهُمُ النَّجَاشِيُّ الَّذِي عَاشَ بَعْدَ إِسْلامِهِ سَبْعَ سَنَوَاتٍ، وَلَمَّا مَاتَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَاتَ الْيَوْمَ رَجُلٌ صَالِحٌ، فَقُومُوا فَصَلُّوا عَلَى أَخِيكُمْ أَصْحَمَةَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَأَصْحَمَةُ اسْمُ النَّجَاشِيِّ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَالْمَبْدَأُ الإِسْلامِيُّ الْجَامِعُ لِجَمِيعِ أَهْلِ الإِسْلامِ عِبَادَةُ الله وَحْدَهُ.

الشَّرْحُ الْمَبْدَأُ أَيِ الأَسَاسُ الْجَامِعُ لِجَمِيعِ أَهْلِ الإِسْلامِ مِنْ لَدُنِ ءَادَمَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ هُوَ الإِيـمَانُ بِالله وَحْدَهُ أَيْ أَنْ لا يُشْرَكَ بِهِ شَىْءٌ، ثُمَّ هَؤُلاءِ لا يَصِحُّ إِيـمَانُهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِنَبِيِّ عَصْرِهِمْ. هَذَا الْمَبْدَأُ جَمَعَ أَهْلَ الإِسْلامِ كُلَّهُمْ، هَذَا الْمَعْنَى يَشْمَلُهُمْ لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ يَعْبُدُونَ الله وَحْدَهُ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: حُكْمُ مَنْ يَدَّعِي الإِسْلامَ لَفْظًا وَهُوَ مُنَاقِضٌ لِلإِسْلامِ مَعْنًى

الشَّرْحُ أَيْ أَنَّ هَذَا بَيَانُ حُكْمِ مَنْ يَزْعُمُ الإِسْلامَ بِلِسَانِهِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلإِسْلامِ فِي الْحَقِيقَةِ بِاعْتِقَادِ أَوْ قَوْلِ أَوْ فِعْلِ مَا يُنَافِيهِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: هُنَاكَ طَوَائِفُ عَدِيدَةٌ كَذَّبَتِ الإِسْلامَ مَعْنًى وَلَوِ انْتَمَوْا لِلإِسْلامِ بِقَوْلِهِمُ الشَّهَادَتَيْنِ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا الله وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله وَصَلَّوْا وَصَامُوا لِأَنَّهُمْ نَاقَضُوا الشَّهَادَتَيْنِ بِاعْتِقَادِ مَا يُنَافِيهِمَا فَإِنَّهُمْ خَرَجُوا مِنَ التَّوْحِيدِ بِعِبَادَتِهِمْ لِغَيْرِ الله فَهُمْ كُفَّارٌ لَيْسُوا مُسْلِمِينَ، كَالَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أُلُوهِيَّةَ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ أَوِ الْخَضِرِ أَوِ الْحَاكِمِ بِأَمْرِ الله وَغَيْرِهِمْ أَوْ بِمَا فِي حُكْمِ ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ.

الشَّرْحُ يَعْنِي أَنَّ هُنَاكَ أُنَاسًا يَدَّعُونَ الإِسْلامَ وَهُمْ فِرَقٌ مُتَعَدِّدَةٌ ثُمَّ يُنَاقِضُونَ الإِسْلامَ فَهَؤُلاءِ لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ مُؤْمِنِينَ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَقُولُ لَفْظًا لا إِلَهَ إِلَّا الله مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله ثُمَّ يَعْبُدُ شَيْئًا مِنْ خَلْقِ الله كَأُنَاسٍ يَعْبُدُونَ عَلِيًّا وَهُوَ الْخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأُنَاسٍ يَعْبُدُونَ الْخَضِرَ وَهُوَ نَبِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ الرَّاجِحِ، وَأُنَاسٍ يَعْتَقِدُونَ الأُلُوهِيَّةَ لِلْحَاكِمِ بِأَمْرِ الله الَّذِي كَانَ فِي الْقَاهِرَةِ يَعْبُدُ الشَّيَاطِينَ يَخْتَلِي وَيَعْبُدُ فِي خَلَوَاتِهِ الرُّوحَانِيِّينَ أَيِ الْجِنَّ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَحُكْمُ مَنْ يَجْحَدُ الشَّهَادَتَيْنِ التَّكْفِيرُ قَطْعًا وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا أَبَدًا لا يَنْقَطِعُ فِي الآخِرَةِ عَنْهُ الْعَذَابُ إِلَى مَا لا نِهَايَةَ لَهُ وَمَا هُوَ بِخَارِجٍ مِنَ النَّارِ.

الشَّرْحُ أَنَّ مَنْ يُنْكِرُ مَعْنَى الشَّهَادَتَيْنِ فَهُوَ كَافِرٌ قَطْعًا بِلا شَكٍّ، وَالْكَافِرُ إِذَا دَخَلَ جَهَنَّمَ فِي الآخِرَةِ فَلا يَخْرُجُ مِنْهَا أَبَدًا قَالَ الله تَعَالَى: ﴿إِنَّ الله لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ [سُورَةَ الأَحْزَاب]. وَفِي هَذِهِ الْمَسْئَلَةِ خَالَفَ جَهْمٌ وَابْنُ تَيْمِيَةَ، وَكَانَ ابْنُ تَيْمِيَةَ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ هَذَا كَفَّرَ جَهْمًا لِقَوْلِهِ بِفَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ثُمَّ شَارَكَهُ ابْنُ تَيْمِيَةَ فِي نِصْفِ عَقِيدَتِهِ فَقَالَ بِفَنَاءِ النَّارِ فَهُوَ أَخُو جَهْمٍ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَمَنْ أَدَّى أَعْظَمَ حُقُوقِ الله بِتَوْحِيدِهِ تَعَالَى أَيْ تَرْكِ الإِشْرَاكِ بِهِ شَيْئًا وَتَصْدِيقِ رَسُولِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَخْلُدُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خُلُودًا أَبَدِيًّا وَإِنْ دَخَلَهَا بِمَعَاصِيهِ وَمَآلُهُ فِي النِّهَايَةِ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ الْخُرُوجُ مِنَ النَّارِ وَدُخُولُ الْجَنَّةِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ قَدْ نَالَ الْعِقَابَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ إِنْ لَمْ يَعْفُ الله عَنْهُ.

الشَّرْحُ أَنَّ الَّذِي أَدَّى أَعْظَمَ حُقُوقِ الله وَهُوَ الإِيـمَانُ بِالله وَرَسُولِهِ وَاجْتَنَبَ الْكُفْرَ هَذَا إِنْ مَاتَ لا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ إِنْ دَخَلَهَا مَهْمَا كَانَتْ ذُنُوبُهُ وَلا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ بَعْدَ أَنْ يُعَاقَبَ بِذُنُوبِهِ الَّتِي كَانَ اقْتَرَفَهَا، هَذَا إِنْ لَمْ يَغْفِرِ الله لَهُ ذُنُوبَهُ، فَحُكْمُ الْمُسْلِمِ الْعَاصِي الَّذِي مَاتَ قَبْلَ التَّوْبَةِ أَنَّهُ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ إِمَّا أَنْ يُعَذِّبَهُ الله ثُمَّ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَإِمَّا أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلَّا الله وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيـمَانٍ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

الشَّرْحُ أَيْ أَنَّ مَنْ مَاتَ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيـمَانٍ أَيْ أَقَلُّ الإِيـمَانِ لا بُدَّ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ النَّارِ وَإِنْ دَخَلَهَا بِمَعَاصِيهِ. وَالذَّرُّ هُوَ الَّذِي مِثْلُ الْغُبَارِ يُرَى لَمَّا يَدْخُلُ نُورُ الشَّمْسِ مِنَ الْكَوَّهِ، وَيُطْلَقُ عَلَى النَّمْلِ الأَحْمَرِ الصَّغِيرِ، وَإِذَا أَرَدْتَ الْمُفْرَدَ قُلْتَ ذَرَّةٌ وَيُقَالُ لِلْجَمْعِ ذَرٌّ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَأَمَّا الَّذِي قَامَ بِتَوْحِيدِهِ تَعَالَى وَاجْتَنَبَ مَعَاصِيَهُ وَقَامَ بِأَوَامِرِهِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّهَ بِلا عَذَابٍ حَيْثُ النَّعِيمُ الْمُقِيمُ الْخَالِدُ.

الشَّرْحُ أَنَّ الَّذِي ءَامَنَ بِالله عَزَّ وَجَلَّ وَنَزَّهَهُ عَنْ مُشَابَهَةِ خَلْقِهِ وَأَدَّى الْفَرَائِضَ وَاجْتَنَبَ الْمُحَرَّمَاتِ فَهُوَ التَّقِيُّ الَّذِي مَآلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ لا يَلْقَى جُوعًا وَلا عَطَشًا وَلا نَكَدًا فِي الْقَبْرِ وَلا فِي الآخِرَةِ بَلْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ حَيْثُ النَّعِيمُ الْمُقِيمُ، فَيَكُونُ مَأْوَاهُ الَّذِي لا يَخْرُجُ مِنْهُ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: بِدِلالَةِ الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ». وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «إِقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [سُورَةَ السَّجْدَة/17] رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ.

الشَّرْحُ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ أَيْ شَىْءٌ تَقَرُّ بِهِ أَعْيُنُهُمْ أَيْ تَفْرَحُ بِهِ مِمَّا لَمْ يُطْلِعِ الله عَلَيْهِ مَلائِكَتَهُ وَلا أَنْبِيَائَهُ، فَالنَّعِيمُ الْخَاصُّ الْمُعَدُّ لِلصَّالِحِينَ لَمْ يَرَهُ الرَّسُولُ وَلا الْمَلائِكَةُ وَلا خُزَّانُ الْجَنَّةِ الْمُوَظَّفُونَ هُنَاكَ، وَقَدْ فُسِّرَتِ الآيَةُ بِهَذَا الَّذِي جَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ.



بَيَانُ أَقْسَامِ الْكُفْرِ .

وَاعْلَمْ يَا أَخِي الْمُسْلِمَ أَنَّ هُنَاكَ اعْتِقَادَاتٍ وَأَفْعَالًا وَأَقْوَالًا تَنْقُضُ الشَّهَادَتَيْنِ وَتُوقِعُ فِي الْكُفْرِ لِأَنَّ الْكُفْرَ ثَلاثَةُ أَنْوَاعٍ: كُفْرٌ اعْتِقَادِيٌّ وَكُفْرٌ فِعْلِيٌّ وَكُفْرٌ لَفْظِيٌّ، وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ كَالنَّوَوِيِّ وَابْنِ الْمُقْرِي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنِ عَابِدِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْبُهُوتِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّيْخِ مُحَمَّدِ عِلَّيْشٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ فَلْيَنْظُرْهَا مَنْ شَاءَ. وَكَذَلِكَ غَيْرُ عُلَمَاءِ الْمَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ الْمَاضِينَ كَالأَوْزَاعِيِّ فَإِنَّهُ كَانَ مُجْتَهِدًا لَهُ مَذْهَبٌ كَانَ يُعْمَلُ بِهِ ثُمَّ انْقَرَضَ أَتْبَاعُهُ.

الشَّرْحُ أَنَّ مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ أَهْلُ الْحَقِّ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ ثَلاثَةُ أَقْسَامٍ ءَايَاتٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَحْلِفُونَ بِالله مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ﴾ [سُورَةَ التَّوْبَة/74] فَهَذِهِ الآيَةُ يُفْهَمُ مِنْهَا أَنَّ الْكُفْرَ مِنْهُ قَوْلِيٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾ [سُورَةَ الْحُجُرَات/15] فَهَذِهِ الآيَةُ يُفْهَمُ مِنْهَا أَنَّ الْكُفْرَ مِنْهُ اعْتِقَادِيٌّ لِأَنَّ الِارْتِيَابَ أَيِ الشَّكَّ يَكُونُ بِالْقَلْبِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ﴾ [سُورَةَ فُصِّلَت/37] يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْكُفْرَ مِنْهُ فِعْلِيٌّ، وَهَذِهِ الْمَسْئَلَةُ إِجْمَاعِيَّةٌ اتَّفَقَ عَلَيْهَا عُلَمَاءُ الْمَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ.

وَكُلٌّ مِنَ الثَّلاثَةِ كُفْرٌ بِمُفْرَدِهِ فَالْكُفْرُ الْقَوْلِيُّ كُفْرٌ وَلَوْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ اعْتِقَادٌ وَلا فِعْلٌ، وَالْكُفْرُ الْفِعْلِيُّ كُفْرٌ وَلَوْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ اعْتِقَادٌ وَانْشِرَاحُ الصَّدْرِ بِهِ وَلا قَوْلٌ، وَالْكُفْرُ الِاعْتِقَادِيُّ كُفْرٌ وَلَوْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ قَوْلٌ وَلا فِعْلٌ. وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ لِلْقَوْلِ الْكُفْرِيِّ انْشِرَاحُ الصَّدْرِ فِي الْمُكْرَهِ عَلَى قَوْلِ الْكُفْرِ بِالْقَتْلِ وَنَحْوِهِ. فَالْمُكْرَهُ هُوَ الَّذِي لا يَكْفُرُ لِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ بَعْدَ أَنْ أُكْرِهَ إِلَّا أَنْ يَشْرَحَ صَدْرَهُ بِمَا يَقُولُهُ فَعِنْدَئِذٍ يَكْفُرُ، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ الْمُكْرَهَ عَلَى قَوْلِ الْكُفْرِ إِنْ قَالَ كَلِمَةَ الْكُفْرِ لإِنْقَاذِ نَفْسِهِ مِمَّا هَدَّدَهُ بِهِ الْكُفَّارُ وَقَلْبُهُ غَيْرُ مُنْشَرِحٍ بِمَا يَقُولُهُ فَلا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ، وَأَمَّا إِنْ تَغَيَّرَ خَاطِرُهُ بَعْدَ الإِكْرَاهِ فَشَرَحَ صَدْرَهُ بِقَوْلِ الْكُفْرِ كَفَرَ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الله تَعَالَى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِالله مِنْ بَعْدِ إِيـمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيـمَانِ وَلَكِنْ مَّنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [سُورَةَ النَّحْل/106] فَأَلْغَى هَذَا الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الإِسْلامِ وَجَاءَتْ بِهِ هَذِهِ الآيَةُ أَشْخَاصٌ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ أَحَدُهُمْ سَيِّدُ سَابِقٍ فِي كِتَابِهِ فِقْهِ السُّنَّةِ وَحَسَنُ قَاطِرْجِي وَشَخْصٌ مِنْ ءَالِ هُضَيْبِي فِي كِتَابٍ سَمَّاهُ «دُعَاةٌ لا قُضَاةٌ» وَشَخْصٌ سُورِيٌّ مِنْ ءَالِ الإِدِلْبِي. فَلْيُحْذَرْ هَؤُلاءِ فَهَؤُلاءِ حَرَّفُوا شَرْعَ الله وَخَالَفُوا حُكَّامَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْخُلَفَاءِ وَنُوَّابِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَقُولُونَ لِلشَّخْصِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ وَالرِّدَّةِ عِنْدَ تَقْدِيمِهِ إِلَيْهِمْ لِلْحُكْمِ عَلَيْهِ هَلْ كُنْتَ شَارِحًا صَدْرَكَ بِمَا قُلْتَ مِنْ قَوْلِ الْكُفْرِ بَلْ كَانُوا يُجْرُونَ عَلَيْهِ حُكْمَ الرِّدَّةِ بِمُجَرَّدِ اعْتِرَافِهِ أَوْ شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ قَالَ كَلِمَةَ كَذَا مِنَ الْكُفْرِ. وَهَذِهِ كُتُبُ التَّوَارِيخِ الإِسْلامِيَّةِ تَشْهَدُ بِذَلِكَ فِي الْوَقَائِعِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِيهَا كَوَاقِعَةِ قَتْلِ الْحَلَّاجِ فَإِنَّهُ أُصْدِرَ عَلَيْهِ حُكْمُ الرِّدَّةِ لِقَوْلِهِ أَنَا الْحَقُّ أَيْ أَنَا الله وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ كَلِمَاتِ الرِّدَّةِ، فَأَصْدَرَ الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ الْمَالِكِيُّ فِي بَغْدَادَ أَيَّامَ الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِرِ بِالله حُكْمًا عَلَيْهِ فَقُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلاهُ ثُمَّ قُطِعَتْ رَقَبَتُهُ ثُمَّ أُحْرِقَتْ جُثَّتُهُ ثُمَّ ذُرَّ رَمَادُهُ فِي دِجْلَةَ، وَهَذَا التَّشْدِيدُ عَلَيْهِ لِيَرْتَدِعَ أَتْبَاعُهُ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ أَتْبَاعٌ عُرِفُوا بِالْحَلَّاجِيَّةِ. وَكَانَ الإِمَامُ الْجُنَيْدُ رَضِيَ الله عَنْهُ سَيِّدُ الطَّائِفَةِ الصُّوفِيَّةِ تَفَرَّسَ فِيهِ بِمَا ءَالَ إِلَيْهِ أَمْرُهُ لِأَنَّهُ قَالَ لِلْحَلَّاجِ: «لَقَدْ فَتَحْتَ فِي الإِسْلامِ ثُغْرَةً لا يَسُدُّهَا إِلَّا رَأْسُكَ».

وَجَهَلَةُ الْمُتَصَوِّفَةِ خَالَفُوا سَيِّدَ الصُّوفِيَّةِ الْجُنَيْدَ فَصَارُوا يُهَوِّنُونَ أَمْرَ النُّطْقِ بِكَلِمَاتِ الرِّدَّةِ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إِلَى التَّصَوُّفِ فَلا يُكَفِّرُونَ أَحَدًا مِنْهُمْ لِقَوْلِ أَنَا الله أَوْ أَنَا الْحَقُّ، أَوْ قَالَ إِنَّ الرَّسُولَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُ جَمِيعَ مَا يَعْلَمُهُ الله، أَوْ إِنَّ الله يَحُلُّ فِي الأَشْخَاصِ، أَوْ إِنَّ الله كَانَ وَاحِدًا ثُمَّ صَارَ كَثِيرًا فَيَزْعُمُونَ أَنَّ الْعَالَمَ أَجْزَاءٌ مِنَ الله.

أَمَّا الصُّوفِيَّةُ الْحَقِيقِيُّونَ فَهُمْ بَرِيئُونَ مِنْهُمْ، فَهَؤُلاءِ فِي وَادٍ وَأُولَئِكَ فِي وَادٍ ءَاخَرَ. بَلْ قَالَ الإِمَامُ الْجُنَيْدُ رَضِيَ الله عَنْهُ: لَوْ كُنْتُ حَاكِمًا لَضَرَبْتُ عُنُقَ مَنْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ لا مَوْجُودَ إِلَّا الله.

وَمِنْ شَأْنِ هَؤُلاءِ أَعْنِي جَهَلَةَ الْمُتَصَوِّفَةِ أَنْ يَقُولُوا إِذَا نُقِلَ عَنْ أَحَدِهِمْ كَلِمَةُ كُفْرٍ «يُؤَوَّلُ» وَلَوْ كَانَتْ مِمَّا لا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ وَهَؤُلاءِ مِنْ أَبْعَدِ خَلْقِ الله عَنْ عِلْمِ الدِّينِ، فَإِنَّ عُلَمَاءَ الإِسْلامِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ التَّأْوِيلَ الْبَعِيدَ لا يُقْبَلُ إِنَّمَا التَّأْوِيلُ يُقْبَلُ إِذَا كَانَ قَرِيبًا قَالَ ذَلِكَ الإِمَامُ الْكَبِيرُ حَبِيبُ بنُ رَبِيعٍ الْمَالِكِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الشَّافِعِيُّ وَالشَّيْخُ الإِمَامُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ، وَنُقِلَ مَعْنَى هَذَا عَنِ الإِمَامِ مُحَمَّدِ بنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ.

بَيَانٌ - هَذِهِ الْكَلِمَةُ لا مَوْجُودَ إِلَّا الله أَحْدَثَهَا مَلاحِدَةُ الْمُتَصَوِّفَةِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ وَحْدَةَ الْوُجُودِ ثُمَّ بَعْضُ الْعَوَامِّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ صَارُوا يَقُولُونَهَا مِنْ غَيْرِ فَهْمٍ لِمَعْنَاهَا وَيَظُنُّونَ أَنَّ مَعْنَاهَا أَنَّ الله هُوَ الْمُسَيْطِرُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ فَهَؤُلاءِ لا يَكْفُرُونَ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَهَا وَلا يَفْهَمُونَ مَعْنَاهَا الْكُفْرِيَّ. وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرٌ مِنْهَا قَوْلُ بَعْضِ الْمَلاحِدَةِ عَنِ الله هُوَ الْكُلُّ، وَقَوْلُهُمْ مَا فِي الْوُجُودِ إِلَّا الله، عَصَمَنَا الله مِنْ ذَلِكَ. وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ لا مَوْجُودَ إِلَّا الله وَقَوْلُ مَا فِي الْوُجُودِ إِلَّا الله وَأَمْثَالُهُمَا كَانَتْ فِي الْفَلاسِفَةِ الْيُونَانِيِّينَ. كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ جُمْلَةَ الْعَالَمِ هُوَ الله بِمَا فِيهِ مِنْ ذَوِي الرُّوحِ وَالْجَمَادِ حَتَّى قَالَ بَعْضُ الشَّاذِلِيَّةِ الْيَشْرُطِيَّةِ لِبَعْضِ النَّاسِ الَّذِينَ حَضَرُوا مَجَالِسَهُمْ أَنْتَ الله وَهَذَا الْجِدَارُ الله.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: الْكُفْرُ الِاعْتِقَادِيُّ: مَكَانُهُ الْقَلْبُ كَنَفْيِ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الله تَعَالَى الْوَاجِبَةِ لَهُ إِجْمَاعًا كَوُجُودِهِ وَكَوْنِهِ قَادِرًا وَكَوْنِهِ سَمِيعًا بَصِيرًا أَوِ اعْتِقَادِ أَنَّهُ نُورٌ بِمَعْنَى الضَّوْءِ أَوْ أَنَّهُ رُوحٌ، قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْغَنِيِّ النَّابُلُسِيُّ: مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الله مَلَأَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَوْ أَنَّهُ جِسْمٌ قَاعِدٌ فَوْقَ الْعَرْشِ فَهُوَ كَافِرٌ وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ.

الشَّرْحُ أَنَّ مَنْ نَفَى وُجُودَ الله بِقَلْبِهِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَكَذَلِكَ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الله غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ أَوْ شَكَّ فِي قُدْرَتِهِ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ. فَلا يُعْذَرُ أَحَدٌ فِي الْجَهْلِ بِقُدْرَةِ الله وَنَحْوِهَا مِنْ صِفَاتِهِ مَهْمَا بَلَغَ الْجَهْلُ بِصَاحِبِهِ. وَأَمَّا إِذَا قَالَ قَائِلٌ الله نُورٌ فَلا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ إِلَّا إِذَا كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ نُورٌ بِمَعْنَى الضَّوْءِ عِنْدَئِذٍ يَكْفُرُ، أَمَّا إِذَا قَالَ الله نُورٌ وَلَمْ يُفْهَمْ مَاذَا يَقْصِدُ فَلا يُكَفَّرُ، وَلا يُقَالُ لَهُ حَرَامٌ أَنَّ تَقُولَ هَذَا لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي تَعْدَادِ أَسْمَاءِ الله الْحُسْنَى عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ وَرَدَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ تَعْدَادِ أَسْمَاءِ الله الْمُنِيرُ وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِاسْمِ الله النُّورِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: الْكُفْرُ الْفِعْلِيُّ: كَإِلْقَاءِ الْمُصْحَفِ فِي الْقَاذُورَاتِ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَلَوْ لَمْ يَقْصِدِ الِاسْتِخْفَافَ، لِأَنَّ فِعْلَهُ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِخْفَافِ. أَوْ أَوْرَاقِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، أَوْ أَيِّ وَرَقَةٍ عَلَيْهَا اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الله تَعَالَى مَعَ الْعِلْمِ بِوُجُودِ الِاسْمِ فِيهَا.

الشَّرْحُ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِذَا رَمَى اسْمَ الله فِي الْقَاذُورَاتِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْفَافِ كَفَرَ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْفَافِ فَلا يَكُونُ رِدَّةً وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمُصْحَفِ فَإِنَّ رَمْيَهُ فِي الْقَاذُورَاتِ كُفْرٌ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِخْفَافِ، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ فِي كُتُبِهِمْ تَرْكُ وَرَقَةٍ فِي الْقَاذُورَاتِ مَكْتُوبٌ فِيهَا قُرْءَانٌ اسْتِخْفَافًا رِدَّةٌ وَكُفْرٌ، أَمَّا الَّذِي يَتْرُكُهَا لَيْسَ لِلِاسْتِخْفَافِ بِهَا بَلْ يَعْتَقِدُ أَنَّ لَهَا حُرْمَةً لَكِنْ تَرَكَهَا تَكَاسُلًا فَإِنَّهُ لا يَكْفُرُ وَلَكِنَّهُ أَثِمَ إِثْمًا كَبِيرًا، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْمَالِكِيَّةُ يُوَافِقُ عَلَيْهِ سَائِرُ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الأُخْرَى لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ نَصُّوا عَلَيْهِ أَمَّا الآخَرُونَ فَلَمْ يَنُصُّوا عَلَيْهِ فِيمَا أَعْلَمُ لَكِنْ قَوَاعِدُهُمْ تُوَافِقُ عَلَى ذَلِكَ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَمَنْ عَلَّقَ شِعَارَ الْكُفْرِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَإِنْ كَانَ بِنِيَّةِ التَّبَرُّكِ أَوِ التَّعْظِيمِ أَوِ الِاسْتِحْلالِ كَانَ مُرْتَدًّا.

الشَّرْحُ أَمَّا إِنْ عَلَّقَهُ لا بِنِيَّةِ إِحْدَى هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ فَلا يَكْفُرُ لَكِنَّهُ أَثِمَ إِثْمًا كَبِيرًا.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: الْكُفْرُ الْقَوْلِيُّ: كَمَنْ يَشْتِمُ الله بِقَوْلِهِ وَالْعِيَاذُ بِالله مِنَ الْكُفْرِ: أُخْتَ رَبِّكَ، أَوِ ابْنَ الله، يَقَعُ الْكُفْرُ هُنَا وَلَوْ لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّ لِلَّهِ أُخْتًا أَوِ ابْنًا.

الشَّرْحُ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ الله تَعَالَى: شَتَمَنِي ابْنُ ءَادَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ» وَفَسَّرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: «وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ الله وَلَدًا» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَلَوْ نَادَى مُسْلِمٌ مُسْلِمًا ءَاخَرَ بِقَوْلِهِ: يَا كَافِرُ بِلا تَأْوِيلٍ كَفَرَ الْقَائِلُ لِأَنَّهُ سَمَّى الإِسْلامَ كُفْرًا.

الشَّرْحُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرُهُ أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ رَمَى مُسْلِمًا بِالْكُفْرِ أَوْ قَالَ عَدُوَّ الله إِلَّا عَادَتْ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ كَمَا قَالَ» وَفِي لَفْظٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ: «إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا فَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَ وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ»، فَقَدْ حَذَّرَنَا رَسُولُ الله فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَنْ نَقُولَ لِمُسْلِمٍ: كَافِرٌ، أَوْ عَدُوَّ الله، وَبَيَّنَ لَنَا أَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ لِمُسْلِمٍ يَعُودُ عَلَيْهِ وَبَالُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، أَمَّا مَنْ قَالَ لِمُسْلِمٍ يَا عَدُوَّ الله أَوْ أَنْتَ عَدُوُّ الله بِسَبَبٍ شَرْعِيٍّ فَلَيْسَ عَلَيْهِ حَرَجٌ، أَيْ لَيْسَ فِيهِ مَعْصِيَةٌ. وَإِنْ كَانَ قَالَ لَهُ ذَلِكَ مُتَأَوِّلًا بِنَوْعِ تَأْوِيلٍ فَلا يَكْفُرُ، وَالتَّأْوِيلُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ اعْتَمَدَ عَلَى سَبَبٍ فِي ذَلِكَ الشَّخْصِ ظَنَّهُ مُخْرِجًا مِنَ الإِسْلامِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ مُخْرِجًا مِنَ الإِسْلامِ، وَكَانَ لَهُ فِي ذَلِكَ نَوْعُ شُبْهَةٍ أَيِ الْتِبَاسٍ فَإِنَّ الْمُكَفِّرَ هُنَا لا يَكْفُرُ كَمَا أَنَّ الْمُكَفَّرَ لَمْ يَكْفُرْ، ومِثَالُ ذَلِكَ رَجُلٌ بَلَغَهُ أَنَّ فُلانًا انْتَحَرَ فَقَالَ مَاتَ كَافِرًا وَالْعِيَاذُ بِالله، فَهَذَا الْمُكَفِّرُ إِنْ كَانَ جَاهِلًا يَظُنُّ أَنَّ الِانْتِحَارَ وَحْدَهُ كُفْرٌ وَلا يَعْرِفُ أَنَّ الِانْتِحَارَ بِمُجَرَّدِهِ لَيْسَ كُفْرًا لَمْ يَكْفُرْ لِأَنَّهُ لَهُ تَأْوِيلًا.

وَمِنَ التَّأْوِيلِ أَيْضًا أَنْ يَفْعَلَ هَذَا الْمُسْلِمُ فِعْلًا يُشْبِهُ فِعْلَ الْكُفَّارِ فَيَظُنُّ بِهِ أَنَّهُ لا يُحِبُّ الإِسْلامَ أَوْ لا يَعْتَقِدُ الإِسْلامَ فَكَفَّرَهُ بِنَاءً عَلَى هَذَا الظَّنِّ، لِمَا رَأَى مِنْهُ مِنْ فِعْلٍ خَبِيثٍ أَوْ قَوْلٍ خَبِيثٍ.

ثُمَّ إِنَّهُ يُوجَدُ مَسْئَلَةٌ نَفِيسَةٌ يَنْبَغِي بَيَانُهَا أَلا وَهِيَ أَنَّهُ لا يَكْفُرُ مَنْ لَمْ يُكَفِّرْ مَنْ وَقَعَ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ إِنَّمَا يَكْفُرُ مَنْ لَمْ يُكَفِّرْ مَنْ وَقَعَ فِي بَعْضِ الأَنْوَاعِ الأُخْرَى مِنَ الْكُفْرِ، لِأَنَّ الْكُفْرَ نَوْعَانِ:

نَوْعٌ ظَاهِرٌ لَيْسَ فِيهِ خِلافٌ بِأَنَّهُ كُفْرٌ بَيْنَ الأَئِمَّةِ وَبِأَنَّ مَنْ فَعَلَهُ فَقَدْ كَفَرَ فَمَنْ لَمْ يُكَفِّرْ فَاعِلَهُ يَكْفُرُ. فَالْكُفْرُ الَّذِي مَنْ لَمْ يُكَفِّرْ صَاحِبَهُ يَكْفُرُ هُوَ كَسَبِّ الله أَوِ الأَنْبِيَاءِ أَوِ احْتِقَارِ دِينِ الإِسْلامِ أَوْ إِنْكَارِ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ أَوِ الثَّوَابِ أَوِ الْعِقَابِ هَذَا مَنْ شَكَّ فِي كُفْرِهِ يَكْفُرُ.

وَالنَّوْعُ الآخَرُ هُوَ الْكُفْرُ الَّذِي هُوَ كُفْرٌ لَكِنَّهُ إِذَا إِنْسَانٌ لَمْ يُكَفِّرْ مَنْ حَصَلَ مِنْهُ ذَلِكَ الْكُفْرُ لا يَكْفُرُ مَعَ أَنَّ هَذَا كُفْرٌ كَمَا أَنَّ ذَاكَ كُفْرٌ لَكِنَّ مَنْ لَمْ يُكَفِّرْ هَذَا الَّذِي ارْتَكَبَ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ لا يَكْفُرُ، مِثَالُ ذَلِكَ: لَوْ سَبَّ شَخْصٌ عَزْرَائِيلَ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ وَأَمَّا مَنْ شَكَّ فِي كُفْرِهِ فَلا يَكْفُرُ إِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ عِنَادٍ، لِأَنَّهُ يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ كَرَامَةُ عَزْرَائِيلَ، أَمَّا مَنْ كَانَ يَعْرِفُ أَنَّهُ كَأُولَئِكَ الْكِبَارِ كَجِبْرِيلَ وَكَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الَّذِي سَبَّهُ يَعْرِفُ ذَلِكَ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُكَفِّرْهُ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ. وَأَمَّا الَّذِي يَشُكُّ فِي كُفْرِ سَابِّ جِبْرِيلَ فَيَكْفُرُ فَإِنَّ كُفْرَ هَذَا لا يَخْفَى عَلَى الْعَوَامِّ فَضْلًا عَنِ الْخَوَاصِّ.

فَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ الَّتِي يُرَدِّدُهَا بَعْضُ النَّاسِ لَيْسَتْ قَاعِدَةً فَانْبُذُوهَا وَحَذِّرُوا مِنْهَا لِأَنَّهُ لا يَصِحُّ أَنْ تُقَالَ، وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ هِيَ: «مَنْ لَمْ يُكَفِّرْ كَافِرًا كَفَرَ». هَذِهِ الْكَلِمَةُ لا تُقَالُ لِأَنَّ الْكُفْرَ نَوْعَانِ نَوْعٌ شَأْنُهُ أَنَّهُ مَنْ لَمْ يُكَفِّرْ فَاعِلَهُ يَكْفُرُ وَنَوْعٌ لا يُكَفَّرُ مَنْ تَرَدَّدَ هَلْ هَذَا كُفْرٌ أَمْ لا. مِثَالُ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَوْ سَبَّ شَخْصٌ عَزْرَائِيلَ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ وَأَمَّا مَنْ شَكَّ فِي كُفْرِهِ فَلا يَكْفُرُ إِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ عِنَادٍ، وَأَمَّا الَّذِي يَشُكُّ فِي كُفْرِ سَابِّ جِبْرِيلَ فَيَكْفُرُ فَإِنَّ كُفْرَ هَذَا لا يَخْفَى عَلَى الْعَوَامِّ فَضْلًا عَنِ الْخَوَاصِّ. فَالْكُفْرُ الَّذِي مَنْ لَمْ يُكَفِّرْ صَاحِبَهُ يَكْفُرُ هُوَ كَسَبِّ الله أَوِ الأَنْبِيَاءِ أَوِ احْتِقَارِ دِينِ الإِسْلامِ أَوْ إِنْكَارِ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ أَوِ الثَّوَابِ أَوِ الْعِقَابِ فَإِنَّ هَذَا مَنْ شَكَّ فِي كُفْرِهِ يَكْفُرُ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَيَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ لِلْمُسْلِمِ يَا يَهُودِيُّ أَوْ أَمْثَالَهَا مِنَ الْعِبَارَاتِ بِنِيَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ إِلَّا إِذَا قَصَدَ أَنَّهُ يُشْبِهُ الْيَهُودَ فَلا يَكْفُرُ.

الشَّرْحُ إِنْ كَانَ هُنَاكَ شَىْءٌ ظَنَّ مِنْ أَجْلِهِ أَنَّهُ كَفَرَ فَقَالَ لَهُ يَا كَافِرُ لا نُكَفِّرُهُ كَأَنْ كَانَ يَرَاهُ يُجَالِسُ الْكُفَّارَ وَيَوَادُّهُمْ وَيُخَالِطُهُمْ أَوْ يُوَافِقُهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِهِمْ فَقَالَ لَهُ أَنْتَ كَافِرٌ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ يَعْتَقِدُ اعْتِقَادَهُمْ أَوْ أَنَّهُ يَسْتَحْسِنُ دِينَهُمْ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَلَوْ قَالَ شَخْصٌ لِزَوْجَتِهِ «أَنْتِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الله» أَوْ «أَعْبُدُكِ» كَفَرَ إِنْ كَانَ يَفْهَمُ مِنْهَا الْعِبَادَةَ الَّتِي هِيَ خَاصَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى.

الشَّرْحُ هَذَا اللَفْظُ صَرِيحٌ فِي الْكُفْرِ لِأَنَّ الله يَجِبُ مَحَبَّتُهُ أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ شَىْءٍ، فَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَكْثَرَ مِنَ الله فَقَدْ كَفَرَ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَعْبُدُكِ وكَانَ يَفْهَمُ مِنْهَا أُحِبُّكِ مَحَبَّةً شَدِيدَةً فَهَذَا لا نُكَفِّرُهُ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَلَوْ قَالَ شَخْصٌ لِآخَرَ «الله يَظْلِمُكَ كَمَا ظَلَمْتَنِي» كَفَرَ الْقَائِلُ لِأَنَّهُ نَسَبَ الظُّلْمَ إِلَى الله تَعَالَى، إِلَّا إِذَا كَانَ يَفْهَمُ أَنَّ مَعْنَى يَظْلِمُكَ يَنْتَقِمُ مِنْكَ فَلا نُكَفِّرُهُ بَلْ نَنْهَاهُ.

الشَّرْحُ الظُّلْمُ مُسْتَحِيلٌ عَلَى الله قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾، [سُورَةَ فُصِّلَت/46]، وَالظُّلْمُ مَعْنَاهُ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِمَا لا يَرْضَى، وَالله يَتَصَرَّفُ بِمِلْكِهِ فَنَحْنُ وَمَا نَمْلِكُ مِلْكٌ لَهُ.

فَمَنْ يَقُولُ الله يَظْلِمُكَ وَيَقِفُ عِنْدَهَا يَكْفُرُ وَلا تَأْوِيلَ لِكَلامِهِ، وَمَنْ يَشُكُّ فِي ذَلِكَ يَكْفُرُ وَلَوْ نَوَى أَنَّهُ يَنْتَقِمُ مِنْكَ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ الله يَظْلِمُكَ كَمَا ظَلَمْتَنِي إِنْ فَهِمَ مِنْهُ الله يَنْتَقِمُ مِنْكَ قَالَ بَعْضُهم لا يَكْفُرُ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَلَوْ قَالَ شَخْصٌ لِشَخْصٍ ءَاخَرَ وَالْعِيَاذُ بِالله «يَلْعَنْ رَبَّكَ» كَفَرَ. وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ لِلْمُسْلِمِ «يَلْعَنْ دِينَكَ» قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِنْ قَصَدَ سِيرَتَهُ فَلا يَكْفُرُ. قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: يَكْفُرُ إِنْ أَطْلَقَ، أَيْ إِنْ لَمْ يَقْصِدْ سِيرَتَهُ وَلا قَصَدَ دِينَ الإِسْلامِ.

الشَّرْحُ أَنَّ الَّذِي يَقُولُ يَلْعَنْ رَبَّكَ كَفَرَ كُفْرًا صَريِحًا لا تَأْوِيلَ لَهُ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ لِلْمُسْلِمِ يَلْعَنْ دِينَكَ فَإِنْ قَصَدَ سِيرَتَهُ أَيْ عَادَتَهُ وَأَخْلاقَهُ فَلا يَكْفُرُ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ وَالْعِيَاذُ بِالله «فُلانٌ زَاحَ رَبِّي» لِأَنَّ هَذَا فِيهِ نِسْبَةُ الْحَرَكَةِ وَالْمَكَانِ لِلَّهِ. وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ وَالْعِيَاذُ بِالله «قَدَّ الله» يَقْصِدُ الْمُمَاثَلَةَ. وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنْ نَسَبَ إِلَى الله جَارِحَةً مِنَ الْجَوَارِحِ كَقَوْلِ بَعْضِ السُّفَهَاءِ «يَا زُبَّ الله» وَهُوَ لَفْظٌ صَرِيحٌ فِي الْكُفْرِ لا يُقْبَلُ فِيهِ التَّأْوِيلُ.

الشَّرْحُ أَنَّ الَّذِينَ يَتَلَفَّظُونَ بِهَذَا اللَّفْظِ يَفْهَمُونَ أَنَّ مَعْنَى الزُّبِّ الآلَةُ الَّتِي هِيَ الذَّكَرُ، وَلا يُسْتَبْعَدُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْجَهَلَةِ اعْتِقَادُ أَنَّ الله لَهُ هَذِهِ الآلَةُ فَقَدْ أَخْبَرَنِي ثِقَةٌ بِأَنَّهُ كَانَ يُحَذِّرُ أَهْلَهُ الَّذِينَ بِبَلْدَةِ بلُودَان مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ قَالَ حَذَّرْتُ امْرَأَةً مِنْ قَرَائِبِي كَبِيرَةً فِي السِّنِّ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَقَالَتْ أَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ الشَّىْءُ، وَلَقَدْ شَاعَتْ فِي عِدَّةِ قُرَى فِي لُبْنَانَ وَفِي سُورِيَا فَلا يَجُوزُ السُّكُوتُ عَنِ النَّهْيِ عَنْهَا بَلِ النَّهْيُ عَنْهَا أَوْلَى مِنَ النَّهْيِ عَنِ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَالرِّبَا وَالسُّفُورِ وَكَشْفِ الْمَرْأَةِ رَأْسَهَا فِي الطَّرِيقِ وَعَنِ السِّينَمَا، وَكَثِيرٌ مِنَ الْخُطَبَاءِ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّفُورِ وَالسِّينَمَا وَلَمْ نَسْمَعْ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْخُطَبَاءِ أَنَّهُ نَهَى عَنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ. قَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِ الشَّامِ: وَلَمْ أَسْمَعْ مَنْ يَنْهَى عَنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ إِلَّا شَيْخًا يُقَالُ لَهُ الشَّيْخُ خَالِدُ النَّقْشَبَنْدِيُّ نَهَى عَنْهَا عَلَى الْمِنْبَرِ فِي الزَّبَدَانِي.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ «أَنَا رَبُّ مَنْ عَمِلَ كَذَا».

الشرح أَنَّ قَائِلَ هَذِهِ الْعِبَارَةِ يَكْفُرُ لِأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ رَبًّا لِلْعِبَادِ، أَمَّا إِذَا قَالَ أَنَا رَبُّ هَذِهِ الصَّنْعَةِ كَالتِّجَارَةِ بِمَعْنَى أَنِّي خَبِيرٌ بِهَا فَلا يَكْفُرُ، وَكَذَلِكَ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ كَانَ يَمْلِكُ شَيْئًا كَدَابَّةٍ أَوْ بُسْتَانٍ أَوْ جَارِيَةٍ أَوْ عَبْدٍ: فُلانٌ رَبُّ هَذِهِ الدَّابَّةِ أَوْ رَبُّ هَذِهِ الْجَارِيَةِ أَوْ رَبُّ هَذَا الْعَبْدِ بِمَعْنَى سَيِّدِهِ، وَمِنْ هَذَا مَا جَاءَ فِي الْقُرْءَانِ الْكَرِيْمِ مِنْ قَوْلِ يُوسُفَ: ﴿اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾ [سُورَةَ يُوسُف/42] فَمَنْ كَانَ فِي صُورَةِ الْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ حَقِيقَةً مَمْلُوكًا لِلشَّخْصِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ هَذَا عَبْدُ فُلانٍ، وَيُقَالُ لِلَّذِي هُوَ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ هَذَا رَبُّ فُلانٍ، أَمَّا النَّاسُ الأَحْرَارُ فَلا، لا يُقَالُ أَنَا رَبُّ النَّجَّارِينَ أَوْ رَبُّ الْبَنَّائِينَ، وَكَذَلِكَ لا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِطَبِيبِ الْعُيُونِ رَبُّ الْعُيُونِ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ تَلَقَّوِا الْعِلْمَ فِي مِصْرَ أَنَّهُ كَانَ طَبِيبُ عُيُونٍ مَاهِرٌ فَقَالَ عَنْ نَفْسِهِ: أَنَا رَبُّ الْعُيُونِ فَأُصِيبَ بِالْعَمَى، هُوَ كَفَرَ بِقَوْلِهِ هَذَا أَمَّا لَوْ قَالَ أَنَا رَبُّ طِبِّ الْعُيُونِ فَلا يَكْفُرُ.

هَذَا إِنْ كَانَ يَفْهَمُ الْقَائِلُ تَصَرُّفَاتِ كَلِمَةِ رَبٍّ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ وَأَمَّا مَنْ لا يَفْهَمُ ذَلِكَ فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِحَالِهِ، فَقَدْ عُرِفَ فِي اللُّغَةِ أَنْ يُقَالَ رَبُّ هَذِهِ الْجَارِيَةِ أَوْ رَبُّ هَذِهِ الدَّارِ أَوْ رَبُّ هَذَا الْبُسْتَانِ بِمَعْنَى مُسْتَحِقِّةِ، قَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: رَبُّ كُلِّ شَىْءٍ مُسْتَحِقُّهُ. وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الشَّخْصُ بَارِعًا فِي النَّحْوِ فَقَالَ قَائِلٌ: فُلانٌ رَبُّ النَّحْوِ فَلا يَكْفُرُ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ بَارِعًا فِي النِّجَارَةِ فَقَالَ فُلانٌ رَبُّ النِّجَارَةِ فَلا يَكْفُرُ، أَمَّا لَوْ قَالَ فُلانٌ رَبُّ النَّجَّارِينَ فَيَكْفُرُ لِأَنَّهُ لا مَعْنَى لَهُ إِلَّا أَنَّهُ خَالِقُهُمْ.

تَنْبِيهٌ: مِنَ الأَلْفَاظِ الْمُسْتَقْبَحَةِ مَا شَاعَ فِي بَعْضِ الْبِلادِ مِنْ قَوْلِهِمْ رَبُّ الْعَائِلَةِ وَيَعْنُونَ بِهِ صَاحِبَ الْعَائِلَةِ فَإِنَّهُ لا يَصِحُّ لُغَةً وَصْفُ شَخْصٍ بِأَنَّهُ رَبُّ الأَشْخَاصِ الأَحْرَارِ أَمَّا الْعَبِيدُ الْمَمْلُوكُونَ وَالإِمَاءُ الْمَمْلُوكَاتُ فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فُلانٌ رَبُّ هَؤُلاءِ الْعَبِيدِ وَرَبُّ هَؤُلاءِ الإِمَاءِ بِمَعْنَى الْمُسْتَحِقِّ وَالْمُخْتَصِّ بِمِلْكِهِمْ، أَمَّا مَنْ قَالَ فُلانٌ رَبُّ الْعَائِلَةِ أَوْ قَالَ رَبُّ الأُسْرَةِ وَكَانَ يَفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ صَاحِبُهُمْ وَيَكْفِيهِمْ حَاجَاتِهِمْ فَلا يَكْفُرُ.

وَأَمَّا حَدِيثُ: «الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ الله وَأَحَبُّهُمْ إِلَى الله أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ» فَلَيْسَ صَحِيحًا بَلْ هُوَ حَدِيثٌ سَاقِطٌ شَدِيدُ الضَّعْفِ وَبَعْضُ النَّاسِ يَفْهَمُونَهُ عَلَى اللُّغَةِ الْمَحَلِّيَّةِ فَيَقَعُونَ فِي الْكُفْرِ، فَإِنَّهُمْ يَفْهَمُونَ مِنْ كَلِمَةِ «عِيَال» أَبْنَاءَ وَلَيْسَ الْمَعْنَى كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْعِيَالَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ مَعْنَاهُ النَّاسُ الَّذِينَ يُنْفِقُ عَلَيْهِمُ الشَّخْصُ لَوْ كَانُوا أَعْمَامَهُ وَأَخْوَالَهُ وَزَوْجَاتِهِ وَوَالِدَيْهِ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ تَحْتَ نَفَقَتِهِ وَرِعَايَتِهِ لِكَوْنِهِمْ مُحْتَاجِينَ إِلَيْهِ وَيَكْفِيهِمْ نَفَقَاتِهِمْ، وَلا يُوجَدُ فِي اللُّغَةِ عِيَالٌ بِمَعْنَى الأَوْلادِ. وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ مِنْ جُمْلَةِ مَا أَخْرَجَهُ النَّاسُ عَنْ مَعْنَاهُ الأَصْلِيِّ فِي اللُّغَةِ إِلَى غَيْرِ مَعْنَاهُ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي مَرَّ ذِكْرُهُ لَكَانَ مَعْنَاهُ «فُقَرَاءُ الله» كَمَا قَالَ الْمُنَاوِيُّ عِنْدَ شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي أَوْرَدَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ عَنِ الْبَشَرِ أَبْنَاءُ الله أَوْ أَوْلادُ الله بِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ أَيْ أَنَّهُ كَافِيهِمْ بِالرِّزْقِ كَفَرَ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ هَذِهِ الآيَةَ: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [سُورَةَ الْمَائِدَة/18] وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ «أَرْبَابُ الْقُلُوبِ» أَيْ أَصْحَابُ الْعُقُولِ الْمُتَنَوِّرَةِ بِالتَّقْوَى لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ هَؤُلاءِ خَالِقُو الْعُقُولِ، وَالْقُلُوبُ هُنَا بِمَعْنَى الْعُقُولِ وَيَقَعُ فِي بَعْضِ مُؤَلَّفَاتِ الْعُلَمَاءِ قَوْلُ «رَبُّ الأَرْبَابِ» يَعْنُونَ أَنَّ الله مَالِكُ الْمُلَّاكِ وَهَذَا صَحِيحٌ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ وَالْعِيَاذُ بِالله «خَوَتْ رَبِّي» [أَيْ جَنَّنَ] أَوْ قَالَ لِلْكَافِرِ «الله يُكْرِمُكَ» بِقَصْدِ أَنْ يُحِبَّهُ الله كَفَرَ لِأَنَّ الله تَعَالَى لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ الله لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان/32].

الشَّرْحُ مَعْنَى أَكْرَمَهُ الله فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَسَّعَّ عَلَيْهِ الرِّزْقَ فَمَنْ قَالَ هَذَا لِكَافِرٍ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَلا يَكْفُرُ، أَمَّا إِنْ قَالَ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى أَنْ يُحِبَّهُ الله كَفَرَ وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ أَيْ فَإِنْ أَعْرَضُوا عَنِ الإِيـمَانِ بِالله وَالرَّسُولِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ لِلْكَافِرِ «الله يَغْفِرُ لَكَ»، إِنْ قَصَدَ أَنَّ الله تَعَالَى يَغْفِرُ لَهُ وَهُوَ عَلَى كُفْرِهِ إِلَى الْمَوْتِ.

الشَّرْحُ أَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ لِلْكَافِرِ وَقَصَدَ أَنْ يَغْفِرَ الله لَهُ وَهُوَ كَافِرٌ مَعَ مُوَاظَبَتِهِ عَلَى الْكُفْرِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى ذَلِكَ كَفَرَ، وَأَمَّا إِنْ قَصَدَ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ بِالإِسْلامِ فَلا يَكْفُرُ، قَالَ الله تَعَالَى: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ [سُورَةَ التوبة/113].



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنْ قَالَ لِمَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ «الله يَرْحَمُهُ» بِقَصْدِ أَنْ يُريِحَهُ فِي قَبْرِهِ لا بِقَصْدِ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْهُ عَذَابَ الْقَبْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنَالَ رَاحَةً فَإِنَّهُ إِنْ قَالَ ذَلِكَ بِهَذَا الْقَصْدِ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لا يَكْفُرُ.

الشَّرْحُ أَنَّ التَّرَحُّمَ عَلَى الْكَافِرِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ جَائِزٌ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَهْتَدِيَ فَيُسْلِمَ فَيَمُوتَ عَلَى الإِسْلامِ، أَمَّا إِذَا مَاتَ فَقَدْ فَاتَهُ الإِيـمَانُ، قَالَ الله تَعَالَى ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف/156] أَيْ وَسَعِتْ رَحْمَةُ الله فِي الدُّنْيَا كُلَّ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ أَمَّا فِي الآخِرَةِ فَقَدْ جَعَلَهَا الله خَاصَّةً بِالْمُؤْمِنِينَ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَيَكْفُرُ مَنْ يَسْتَعْمِلُ كَلِمَةَ الْخَلْقِ مُضَافَةً لِلنَّاسِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَكُونُ فِيهِ بِمَعْنَى الإِبْرَازِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ كَأَنْ يَقُولَ شَخْصٌ مَا: «أُخْلُقْ لِي كَذَا كَمَا خَلَقَكَ الله».

الشَّرْحُ الْخَلْقُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَهُ خَمْسَةُ مَعَانٍ أَحَدُهَا بِمَعْنَى الإِبْرَازِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى لا تُسْتَعْمَلُ مُضَافَةً إِلَى غَيْرِ الله، أَمَّا عَلَى الْمَعَانِي الأُخْرَى فَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا مُضَافَةً لِغَيْرِ الله. وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ كَلِمَةِ فُلانٌ اخْتَرَعَ كَذَا فَلا يَضُرُّ بِالإِعْتِقَادِ.

وَمِنَ الأَلْفَاظِ الْبَشِعَةِ الشَّنِيعَةِ قَوْلُ بَعْضِ النَّاسِ عِنْدَ الْغَضَبِ مِنْ شَخْصٍ أَحْسِبُ الله مَا خَلَقَكَ وَيُرِيدُونَ بِذَلِكَ أَضْرِبُكَ ضَرْبًا شَدِيدًا.

وَكَذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ عِنْدَ الْغَضَبِ مِنْ شَخْصٍ ضَرَبَ لَهُمْ وَلَدًا مِنْ أَوْلادِهِمْ الَّذِي يَضْرِبُكَ مَا خَلَقَهُ الله، فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِيهِ نَفْيُ وُجُودِ مَا خَلَقَهُ الله إِلَّا أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لا يَفْهَمُونَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ إِلَّا أَنَّهُمْ يَضْرِبُونَ هَذَا الشَّخْصَ ضَرْبًا شَدِيدًا وَيَعْتَبِرُونَهُ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَوْجُودًا.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَيَكْفُرُ مَنْ يَشْتِمُ عَزْرَائِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ كَمَا قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ «فِي تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ»، أَوْ أَيَّ مَلَكٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ.

الشَّرْحُ أَنَّ مَنْ شَتَمَ عَزْرَائِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَكْفُرُ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ فَرْحُونٍ الْمَالِكِيُّ فِي تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ، وَكَذَا يَكْفُرُ مَنْ شَتَمَ أَيَّ مَلَكٍ مِنَ مَلائِكَةِ الله كَجِبْرِيلَ وَإِسْرَافِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ نَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ الإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ اسْمَ مَلَكِ الْمَوْتِ عَزْرَائِيلُ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَكَذَلِكَ مَنْ يَقُولُ «أَنَا عَايِف الله»، أَيْ كَرِهْتُ الله. وَيَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ: «الله لا يَتَحَمَّلُ فُلانًا» إِذَا فَهِمَ الْعَجْزَ أَوْ أَنَّ الله يَنْزَعِجُ مِنْهُ، أَمَّا إِذا َكَانَ يَفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ أَنَّ الله يَكْرَهُهُ فَلا يَكْفُرُ.

الشَّرْحُ أَنَّ مَنْ قَالَ: «الله لا يَتَحَمَّلُ فُلانًا» فَحُكْمُهُ عَلَى حَسَبِ فَهْمِهِ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ، فَإِنْ كَانَ يَفْهَمُ مِنْهَا نِسْبَةَ الْعَجْزِ إِلَى الله أَوْ أَنَّ الله يَنْزَعِجُ مِنْهُ وَيَحْصُلُ لَهُ انْفِعَالٌ يَكْفُرُ، أَمَّا إِنْ كَانَ يَفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَنَّ الله لا يُحِبُّ هَذَا الإِنْسَانَ لِفِسْقِهِ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَلا يَكْفُرُ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَيَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ: «يَلْعَنْ سَمَاءَ رَبِّكَ»، لِأَنَّهُ اسْتَخَفَّ بِالله تَعَالَى.

الشَّرْحُ إِنَّمَا يَكْفُرُ قَائِلُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ لِأَنَّهُ اسْتَخَفَّ بِالله تَعَالَى، وَأَمَّا الَّذِي يَقُولُ يَلْعَنْ سَمَاكَ فَهَذَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ عَلَى حَسَبِ فَهْمِهِ فَإِنْ كَانَ يَفْهَمُ مِنْهَا السَّمَاءَ الَّتِي هِيَ مَسْكَنُ الْمَلائِكَةِ كَفَرَ لِأَنَّ الله جَعَلَهَا قِبْلَةَ الدُّعَاءِ وَمَهْبِطَ الرَّحَمَاتِ وَالْبَرَكَاتِ فَعَظَّمَ شَأْنَهَا، وَإِنْ كَانَ يَفْهَمُ مِنْهَا سَقْفَ الْبَيْتِ أَوِ الْفَرَاغَ الَّذِي يَلِي مَوْضِعَ إِقَامَةِ هَذَا الشَّخْصِ فَلا يَكْفُرُ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَكَذَلِكَ مَنْ يُسَمِّي الْمَعَابِدَ الدِّينِيَّةَ لِلْكُفَّارِ «بُيُوتَ الله»، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَوْلا دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ﴾ [سُورَةَ الْحَج/40] فَالْمُرَادُ بِهِ مَعَابِدُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَمَّا كَانُوا عَلَى الإِسْلامِ لِأَنَّهَا كَمَسَاجِدِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ حَيْثُ إِنَّ الْكُلَّ بُنِيَ لِتَوْحِيدِ الله وَتَمْجِيدِهِ لا لِعِبَادَةِ غَيْرِ الله فَقَدْ سَمَّى الله الْمَسْجِدَ الأَقْصَى مَسْجِدًا وَهُوَ لَيْسَ مِنْ بِنَاءِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ. فَلْيَتَّقِ الله امْرُؤٌ وَلْيَحْذَرْ أَنْ يُسَمِّيَ مَا بُنِيَ لِلشِّرْكِ بُيُوتَ الله وَمَنْ لَمْ يَتَّقِ الله قَالَ مَا شَاءَ.

الشَّرْحُ جَعَلَ الله تَعَالَى الْحُكَّامَ يَدْفَعُونَ الأَذَى وَالضَّرَرَ فَأَقَامَهُمُ الله لِذَلِكَ فَصَارَ بِهِمُ الأَمَانُ وَلَوْلا ذَلِكَ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ لِلنَّصَارَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى شَرِيعَةِ الْمَسِيحِ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ. وَالصَّوَامِعُ جَمْعُ صَوْمَعَةٍ وَهِيَ أَبْنِيَةٌ مُحَدَّبَةُ الرُّءُوسِ تُبْنَى عَلَى أَمَاكِنَ مُرْتَفِعَةٍ يَتَعَبَّدُ فِيهَا الرَّاهِبُ، وَاسِعَةُ الأَسْفَلِ ضَيِّقَةُ الأَعْلَى، وَالْبِيَعُ جَمْعُ بِيعَةٍ وَهِيَ الأَمَاكِنُ الَّتِي كَانَ يَتَعَبَّدُ فِيهَا النَّصَارَى قَبْلَ أَنْ يَكْفُرُوا، وَالصَّلَوَاتُ يُقَالُ لِلْوَاحِدَةِ مِنْهَا صَلُوتَا - وَهِيَ لُغَةٌ عِبْرِيَّةٌ كَمَا فِي كِتَابِ الْقَامُوسِ الْمُحِيطِ - وَهِيَ الأَمَاكِنُ الَّتِي كَانَتِ الْيَهُودُ تَتَعَبَّدُ فِيهَا قَبْلَ أَنْ يَكْفُرُوا بِتَكْذِيبِهِمُ الْمَسِيحَ فَإِنَّهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ كَانُوا مُسْلِمِينَ عَلَى شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ الأَصْلِيَّةِ قَبْلَ التَّحْرِيفِ، وَالْمَسَاجِدُ الْمُرَادُ بِهَا فِي الآيَةِ مَسَاجِدُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، وَكُلُّ هَذِهِ مَسَاجِدُ، إِلَّا الصَّوَامِعَ يَبْنِيهَا شَخْصٌ وَاحِدٌ عَلَى التِّلالِ وَيَقْصِدُونَ بِذَلِكَ التَّفَرُّغَ لِعِبَادَةِ الله كَخَلَوَاتِ الصُّوفِيَّةِ عِنْدَنَا، قَالَ تَعَالَى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى﴾ [سُورَةَ الإِسْرَاء/1] فَالله سَمَّاهُ الْمَسْجِدَ الأَقْصَى مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بِنَاءِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ فَقَدْ بَنَاهُ سَيِّدُنَا ءَادَمُ ثُمَّ جُدِّدَ بِنَاؤُهُ عِدَّةَ مَرَّاتٍ.

وَلْيُعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ: «وَمَنْ لَمْ يَتَّقِ الله قَالَ مَا شَاءَ» لَيْسَ فِيهِ الرِّضَى لِلْكَافِرِ بِكُفْرِهِ، فَإِنَّ مَنْ يَقُولُ لِكَافِرٍ مُتَهَكِّمًا بِهِ مُسْتَهْزِءًا سَاخِرًا بِهِ بَعْدَمَا يَنْصَحُهُ فَيَجِدُهُ مُعَانِدًا: «إِنْ شِئْتَ اكْفُرْ» لا يُكَفَّرُ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَعْرِضُ عَلَيْهِ الْكُفْرَ بَلْ هَذَا إِنْكَارٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَزَجْرٌ لَيْسَ أَمْرًا لَهُ بِالْكُفْرِ، وَمَعْنَاهُ إِنْ كَفَرْتَ أَنْتَ مَاذَا تَضُرُّنِي فِي الآخِرَةِ أَنْتَ تَضُرُّ نَفْسَكَ إِذَا كَفَرْتَ بِكُفْرِكَ هَذَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي سُورَةِ الْكَهْفِ: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا﴾ فَإِنَّهُ تَهْدِيدٌ وَلَيْسَ تَرْخِيصًا لِمَنْ شَاءَ أَنْ يَكْفُرَ فِي الْكُفْرِ. فَلا وَجْهَ لِقَوْلِ بَعْضِ الْمُلْحِدِينَ الْمُحَرِّفِينَ إِنَّ هَذِهِ الآيَةَ فِيهَا حُرِّيَّةُ الْفِكْرِ بِمَعْنَى أَنَّ الإِنْسَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ الإِسْلامَ أَوْ غَيْرَهُ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا﴾ أَيْ أَنَّ الْكُفَّارَ مَحْفُوفُونَ فِي جَهَنَّمَ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَكَذَلِكَ مَنْ حَدَّثَ حَدِيثًا كَذِبًا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَذِبٌ فَقَالَ: الله شَهِيدٌ عَلَى مَا أَقُولُ بِقَصْدِ أَنَّ الله يَعْلَمُ أَنَّ الأَمْرَ كَمَا قُلْتُ لِأَنَّهُ نَسَبَ الْجَهْلَ لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الله يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ لَيْسَ صَادِقًا.

الشَّرْحُ الله يَعْلَمُ الْكَاذِبَ كَاذِبًا وَيَعْلَمُ الصَّادِقَ صَادِقًا، فَمَنْ قَالَ الله شَهِيدٌ أَنِّي مَا عَمِلْتُ كَذَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ عَمِلَ ذَلِكَ الشَّىْءَ يَكْفُرُ لِأَنَّهُ نَسَبَ الْجَهْلَ إِلَى الله، وَأَمَّا إِنْ كَانَ نَاسِيًا أَنَّهُ عَمِلَ ذَلِكَ الشَّىْءَ فَقَالَ الله شَهِيدٌ أَنِّي مَا عَمِلْتُ ذَلِكَ الشَّىْءَ فَلا يَكْفُرُ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْسُبِ الْجَهْلَ إِلَى الله.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَكَذَلِكَ لا يَجُوزُ الْقَوْلُ: «كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى دِينِهِ الله يُعِينُهُ» بِقَصْدِ الدُّعَاءِ لِكُلٍّ.

الشَّرْحُ لِيُعْلَمْ أَنَّ الإِعَانَةَ مَعْنَاهَا التَّمْكِينُ وَالإِقْدَارُ وَلَيْسَ الرِّضَا كَمَا يَتَوَهَّمُ بَعْضُ النَّاسِ، فَالله تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَعَانَ الْمُؤْمِنَ عَلَى إِيـمَانِهِ وَالْكَافِرَ عَلَى كُفْرِهِ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهَذَا التَّعْبِيرِ الإِمَامُ مُحَمَّدُ الأَمِيرُ الْمَالِكِيُّ وَهُوَ مِنْ مَشَاهِيرِ عُلَمَاءِ الْقَرْنِ الثَّانِي عَشَرَ الْهِجْرِيِّ وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ عِلَيَّشٍ الْمَالِكِيُّ مُفْتِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي كِتَابِهِ الإِرْشَادِ وَغَيْرُهُمْ، فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمَسْئَلَةَ فِيهَا تَفْصِيلٌ فَمَنْ قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ بِقَصْدِ الدُّعَاءِ أَيِ الطَّلَبِ بِأَنْ يُعِينَ الله الْكَافِرِينَ عَلَى الْكُفْرِ كَفَرَ لِأَنَّ فِيهِ الرِّضَا بِالْكُفْرِ لِلْغَيْرِ، وَأَمَّا إِذَا أَرَادَ الإِخْبَارَ فَلا يَكْفُرُ لِأَنَّ الله هُوَ الَّذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَلا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ مَحْكُومِيَّةٌ وَلا نَاهِيَ لَهُ، قَالَ الله تَعَالَى ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ [سُورَةَ الشَّمْس/8].

وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّ الله يُعِينُ الْكَافِرَ عَلَى كُفْرِهِ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ الْبَاقِرُ النَّقْشَبَنْدِيُّ، فَلا عِبْرَةَ بِإِنْكَارِ بَعْضِ الرَّعَاعِ الْمُدَّعِينَ لِلتَّصَوُّفِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى النَّقْشَبَنْدِيَّةِ حَيْثُ أَنْكَرُوا عَلَيْنَا ذَلِكَ وَاسْتَعْظَمُوهُ وَذَلِكَ مِنْ فَرْطِ الْجَهْلِ، لِأَنَّ مَعْنَى الإِعَانَةِ التَّمْكِينُ، فَالله تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُمَكِّنُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الإِيـمَانِ وَهُوَ الَّذِي يُقَدِّرُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي يُمَكِّنُ الْكَافِرَ مِنَ الْكُفْرِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَدَّرَهُ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ الْكُفْرَ.

فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَصِحُّ اعْتِقَادُ أَنَّ الله هُوَ يُعِينُ الْمُؤْمِنَ عَلَى الإِيـمَانِ وَفِعْلِ الصَّالِحَاتِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُعِينُ الْكَافِرَ عَلَى الْكُفْرِ وَعَلَى الْمَعَاصِي. وَأَمَّا الدُّعَاءُ لِلْكَافِرِ وَالْعَاصِي بِالْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ فَهَذَا لا يَجُوزُ، فَالأَوَّلُ أَيِ الدُّعَاءُ لِلْكَافِرِ بِالْكُفْرِ كُفْرٌ وَأَمَّا الدُّعَاءُ لِلْعَاصِي بِأَنْ يُمَكِّنَهُ الله مِنْ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ فَذَلِكَ مَعْصِيَةٌ وَلَيْسَ كُفْرًا.

وَفِي قَوْلِ الله تَعَالَى: ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان/26] أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الله هُوَ الَّذِي أَعَانَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ مَلَكُوا وَالْكُفَّارَ الَّذِينَ مَلَكُوا فَنُمْرُودُ وَفِرْعَوْنُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ مُلُوكِ الْكُفْرِ الَّذِينَ أَفْسَدُوا فِي الأَرْضِ وَدَعَوُا النَّاسَ إِلَى الْكُفْرِ الله تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَعْطَاهُمْ هَذِهِ الْقُدْرَةَ فَهُوَ الَّذِي أَعَانَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ الله عَنْهُ:

خَلَقْتَ الْعِبَادَ عَلَى مَا عَلِمْتَ # فَفِي الْعِلْمِ يَجْرِي الْفَتَى وَالْمُسِنْ

عَلَى ذَا مَنَنْتَ وَهَــذَا خَذَلْتَ # وَهَـــــــــذَا أَعَنْتَ وَذَا لَمْ تُــعِنْ

فِيهِ إِثْبَاتُ أَنَّ الْعِبَادَ يَجْرُونَ فِيمَا عَلِمَ الله مِنْهُمْ، فَمَنْ عَلِمَ الله مِنْهُ أَنَّهُ يُؤْمِنُ ءَامَنَ وَمَنْ عَلِمَ الله مِنْهُ أَنَّهُ يَكْفُرُ كَفَرَ. وَقَوْلُهُ «وَهَذَا أَعَنْتَ وَذَا لَمْ تُعِنْ» مَعْنَاهُ هَذَا الَّذِي وَفَّقْتَهُ لِلْخَيْرِ أَعَنْتَهُ عَلَى الْخَيْرِ وَأَمَّا إِذَا لَمْ تُعِنْ أَيْ لَمْ تُعِنْهُ عَلَى الْخَيْرِ وَأَعَنْتَهُ عَلَى الشَّرِّ فَهَذَا لَمْ تُعِنْهُ عَلَى الْخَيْرِ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ الله لا يُعِينُ عَلَى الشَّرِّ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَيَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ مُعَمِّمًا كَلامَهُ: «الْكَلْبُ أَحْسَنُ مِنْ بَنِي ءَادَمَ».

الشَّرْحُ هَذَا اللَّفْظُ لَفْظٌ عَامٌّ يُؤَدِّي إِلَى تَكْذِيبِ قَوْلِ الله تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءادَمَ﴾ [سُورَةَ الإِسْرَاء/70]، وَأَمَّا إِنْ كَانَ هَذَا الشَّخْصُ فِي كَلامِهِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَحْسَنُ مِنَ الشَّخْصِ الْمُخَاطَبِ فِي بَعْضِ الْخِصَالِ كَالْوَفَاءِ لِصَاحِبِهِ الَّذِي يَرْعَاهُ فَلا يَكْفُرُ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: أَوْ مَنْ يَقُولُ «الْعَرَبُ جَرَبٌ»، أَمَّا إِذَا خَصَّصَ كَلامَهُ لَفْظًا أَوْ بِقَرِينَةِ الْحَالِ كَقَوْلِهِ الْيَوْمَ الْعَرَبُ فَسَدُوا ثُمَّ قَالَ الْعَرَبُ جَرَبٌ فَلا يَكْفُرُ.

الشَّرْحُ يَكْفُرُ مَنْ قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مَعَ التَّعْمِيمِ لِأَنَّ كَلامَهُ هَذَا شَمَلَ الأَنْبِيَاءَ وَغَيْرَهُمُ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَيَكْفُرُ مَنْ يُسَمِّي الشَّيْطَانَ بِـ «بِسْمِ الله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ» لا إِنْ ذَكَرَ الْبَسْمَلَةَ بِنِيَّةِ التَّعَوُّذِ بِالله مِنْ شَرِّهِ.

الشَّرْحُ هَذِهِ الْكَلِمَةُ الشَّرِيفَةُ مَنْ جَعَلَهَا عِبَارَةً عَنِ الشَّيْطَانِ يَكْفُرُ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِسْمِ الله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ عِنْدَ إِرَادَةِ ذِكْرِ الشَّيْطَانِ بِنِيَّةِ التَّعَوُّذِ بِالله مِنْ شَرِّهِ كَأَنَّهُ يُرِيدُ الشَّيْطَانُ يَحْفَظُنَا الله مِنْ شَرِّهِ بِبَرَكَةِ الْبَسْمَلَةِ فَلا يَكْفُرُ. وَهَذَا يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ كَثِيرٍ مِنَ الْعَوَامِّ عَلَى وَجْهٍ يُوهِمُ أَنَّ الشَّيْطَانَ هُوَ بِسْمِ الله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَهُنَاكَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ وَالْكُتَّابِ يَكْتُبُ كَلِمَاتٍ كُفْرِيَّةً كَمَا كَتَبَ أَحَدُهُمْ «هَرَبَ الله» فَهَذَا مِنْ سُوءِ الأَدَبِ مَعَ الله الْمُوقِعِ فِي الْكُفْرِ وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي كِتَابِهِ الشِّفَا: «لا خِلافَ أَنَّ سَابَّ الله تَعَالَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَافِرٌ» اهـ وَيَكْفُرُ مَنْ يَسْتَحْسِنُ هَذِهِ الأَقْوَالَ وَالْعِبَارَاتِ وَمَا أَكْثَرَ انْتِشَارَهَا فِي مُؤَلَّفَاتٍ عَدِيدَةٍ.

الشَّرْحُ أَنَّ قَائِلَ كَلِمَةِ هَرَبَ الله كَفَرَ لِأَنَّهُ اسْتَخَفَّ بِالله وَنَسَبَ إِلَيْهِ التَّحَيُّزَ فِي الْمَكَانِ وَالْحَرَكَةَ وَالْفِرَارَ، وَمَا قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي كِتَابِ الشِّفَا دَلِيلٌ عَلَى كُفْرِ مَنْ قَالَ مِثْلَ هَذِهِ الأَلْفَاظِ الشَّنِيعَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَسُوءُ الأَدَبِ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاسْتِهْزَاءِ بِحَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ أَوْ بِعَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهِ كُفْرٌ.

الشَّرْحُ مَنِ اسْتَهْزَأَ بِنَبِيٍّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ بِحَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ أَوْ بِعَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهِ كَفَرَ وَذَلِكَ كَالَّذِي يَسْتَهْزِئُ بِلُبْسِ الْعِمَامَةِ وَلُبْسِ الْقَمِيصِ أَيْ مَا يُعْرَفُ عِنْدَ النَّاسِ الْيَوْمَ بِالْجَلَّابِيَّةِ، أَوْ يَسْتَهْزِئُ بِاسْتِعْمَالِ السِّوَاكِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ النَّبِيَّ فَعَلَ ذَلِكَ وَمَدَحَهُ، أَوْ يَسْتَهْزِئُ بِرَوَاتِبِ الصَّلَوَاتِ أَوْ قِيَامِ اللَّيْلِ أَوْ صِيَامِ النَّفْلِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ أَنَّهُ فَعَلَهُ وَمَدَحَهُ كَإِعْفَاءِ اللِّحْيَةِ وَنَحْوِهِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَالِاسْتِهْزَاءُ بِمَا كُتِبَ فِيهِ شَىْءٌ مِنَ الْقُرْءَانِ الْكَرِيْمِ، أَوِ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، أَوِ بِشَعَائِرِ الإِسْلامِ أَوْ بِحُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الله تَعَالَى كُفْرٌ قَطْعًا.

الشَّرْحُ أَنَّ مَنِ اسْتَهْزَأَ وَلَوْ بِآيَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الْقُرْءَانِ فَقَدْ كَفَرَ، وَكَذَا لَوْ زَادَ حَرْفًا فِي الْقُرْءَانِ عِنَادًا أَوْ جَحَدَ حَرْفًا مِنْهُ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنِ اسْتَهْزَأَ بِنَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ الله بِأَنْ نَسَبَ إِلَيْهِ الْقَبَائِحَ وَالرَّذَائِلَ كَالَّذِي يَقُولُ عَنْ سَيِّدِنَا ءَادَمَ يُشْبِهُ الْقُرُودَ، أَوْ يَقُولُ عَنْ سَيِّدِنَا يُوسُفَ إِنَّهُ قَصَدَ الزِّنَى أَيْ نَوَى، أَوْ يَقُولُ عَنْ سَيِّدِنَا مُوسَى إِنَّهُ عَصَبِيُّ الْمِزَاجِ بِمَعْنَى سَيِّءِ الْخُلُقِ، أَوْ يَقُولُ عَنْ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ «نِسْوَنْجِي» وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَأَمَّا الَّذِي يَقُولُ عَنْ سَيِّدِنَا مُوسَى إِنَّهُ كَانَ فِيهِ حِدَّةٌ فَلا يَكْفُرُ. وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنِ اسْتَهْزَأَ بِشَعَائِرِ دِينِ الله كَالصَّلاةِ وَالأَذَانِ أَوْ بِمَسَائِلِ الشَّرْعِ، وَالشَّعَائِرُ جَمْعُ شَعِيرَةٍ وَالشَّعِيرَةُ بِمَعْنَى الْمَعْلَمِ أَيْ مَا هُوَ مِنْ عَلامَاتِ الدِّينِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَكَذَلِكَ اسْتِحْسَانُ الْكُفْرِ مِنْ غَيْرِهِ كُفْرٌ لِأَنَّ الرِّضَى بِالْكُفْرِ كُفْرٌ.

الشَّرْحُ أَنَّ مَنِ اسْتَحْسَنَ الْكُفْرَ الَّذِي فَعَلَهُ غَيْرُهُ يَكْفُرُ، فَإِذَا قِيلَ لِشَخْصٍ إِنَّ فُلانًا كَفَرَ فَاسْتَحْسَنَ هَذِهِ الْكُفْرِيَّةَ فِي نَفْسِهِ أَوْ بِلِسَانِهِ كَأَنْ قَالَ لا بَأْسَ بِهَا يَكْفُرُ، لِأَنَّهُ لِمَّا يَسْتَحْسِنُ كُفْرَ غَيْرِهِ رَضِيَ بِهِ وَالرِّضَا بِكُفْرِ الْغَيْرِ كُفْرٌ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ﴾ [سُورَةَ الزُّمَر/7]. وَمِنْ عَلامَاتِ الرِّضَا أَنْ يُصَفِّقَ لَهُ عَلَى وَجْهِ الرِّضَا وَالتَّأْيِيدِ لَهُ عَلَى مَا قَالَهُ، وَكَذَلِكَ مِنْ عَلامَاتِ الرِّضَا الضَّحِكُ لِقَوْلِهِ كَلِمَةَ الْكُفْرِ عَلَى وَجْهِ الْمُوَافَقَةِ لَهُ عَلَى قَوْلِهِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ مَغْلُوبًا بِضَحِكِهِ فَلا يَكْفُرُ. أَمَّا مَا أَخْبَرَ الله بِهِ عَنْ مُوسَى مِنْ قَوْلِهِ دُعَاءً عَلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا﴾ [سُورَةَ يُونُس/88] فَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الرِّضَا بِكُفْرِهِمْ إِنَّمَا لِأَنَّهُ أَيِسَ مِنْ إِيـمَانِهِمْ فَقَالَ ذَلِكَ إِرَادَةَ التَّشْدِيدِ عَلَيْهِمْ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَلا يَكْفُرُ مَنْ نَقَلَ [كِتَابَةً أَوْ قَوْلًا] عَنْ غَيْرِهِ كُفْرِيَّةً حَصَلَتْ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْسَانٍ لَهَا بِقَوْلِهِ: قَالَ فُلانٌ كَذَا وَلَوْ أَخَّرَ صِيغَةَ قَالَ إِلَى ءَاخِرِ الْجُمْلَةِ فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِي نِيَّتِهِ ذِكْرُ أَدَاةِ الْحِكَايَةِ مُؤَخَّرَةً عَنِ الِابْتِدَاءِ.

الشَّرْحُ أَنَّ مَنْ قَالَ: «قَالَ فُلانٌ كَذَا» وَأَوْرَدَ كُفْرِيَّةً بِدُونِ اسْتِحْسَانٍ لا يَكْفُرُ، سَوَاءٌ كَانَ كِتَابَةً أَوْ قَوْلًا، أَمَّا إِذَا أَخَّرَ صِيغَةَ الْحِكَايَةِ إِلَى ءَاخِرِ الْجُمْلَةِ كَأَنْ قَالَ: الْمَسِيحُ ابْنُ الله قَوْلُ النَّصَارَى أَوْ قَالَتْهُ النَّصَارَى فَإِنَّ هَذَا حِكَايَةٌ مَانِعَةٌ لِلْكُفْرِ عَنِ الْحَاكِي بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ فِي نِيَّتِهِ ذِكْرُ أَدَاةِ الْحِكَايَةِ ءَاخِرَ الْجُمْلَةِ قَبْلَ الْبَدْءِ بِهَا، وَأَمَّا إِنْ كَانَ فِي نِيَّتِهِ أَنْ يَذْكُرَ أَدَاةَ الْحِكَايَةِ مُؤَخَّرَةً ثُمَّ نَسِيَ فَلا يَكْفُرُ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: مَا يُسْتَثْنَى مِنْ أَلْفَاظِ الْكُفْرِ الْقَوْلِيِّ يُسْتَثْنَى مِنَ الْكُفْرِ اللَّفْظِيِّ: حَالَةُ سَبْقِ اللِّسَانِ: أَيْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِشَىْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إِرَادَةٍ بَلْ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ وَلَمْ يَقْصِدْ أَنْ يَقُولَهُ بِالْمَرَّةِ.

الشَّرْحُ أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلامٍ غَيْرِ كُفْرِيٍّ فَأَخْطَأَ لِسَانُهُ فَخَرَجَتْ مِنْهُ كَلِمَةٌ كُفْرِيَّةٌ مِنْ دُونِ قَصْدٍ مِنْهُ لِلنُّطْقِ بِهَا لا يَكْفُرُ وَذَلِكَ كَأَنْ يَقْصِدَ أَنْ يَقُولَ «وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» فَيَسْبِقُ لِسَانُهُ فَيَقُول: «وَمَا أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ» فَلا مُؤَاخَذَةَ عَلَيْهِ فِي هَذَا. وَقَدْ مَثَّلَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَبْقِ اللِّسَانِ بِرَجُلٍ فَقَدَ دَابَّتَهُ فِي الصَّحْرَاءِ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ اللهمَّ أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ فَقَالَ مِنْ شِدَّةِ فَرَحِهِ اللهمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَحَالَةُ غَيْبُوبَةِ الْعَقْلِ: أَيْ عَدَمِ صَحْوِ الْعَقْلِ.

الشَّرْحُ أَنَّ مَنْ غَابَ عَقْلُهُ فَنَطَقَ وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالِ بِكَلامٍ كُفْرِيٍّ لا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ بِسَبَبِ هَذَا وَذَلِكَ لِارْتِفَاعِ التَّكْلِيفِ عَنْهُ حِينَذَاكَ، وَيَشْمَلُ هَذَا النَّائِمَ وَالْمَجْنُونَ وَنَحْوَهُمَا كَالْوَلِيِّ إِذَا غَابَ عَقْلُهُ بِالْوَجْدِ فَتَكَلَّمَ بِمَا يُخَالِفُ شَرْعَ الله فِي حَالِ جَذْبِهِ مِمَّا هُوَ مِنْ أَلْفَاظِ الْكُفْرِ فَإِنَّهُ لا حَرَجَ عَلَيْهِ عِنْدَئِذٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا الْمَجْذُوبَ وَكَذَلِكَ الْمَجْنُون يُنْهَيَانِ عَنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَحَالَةُ الإِكْرَاهِ: فَمَنْ نَطَقَ بِالْكُفْرِ بِلِسَانِهِ مُكْرَهًا بِالْقَتْلِ وَنَحْوِهِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيـمَانِ فَلا يَكْفُرُ قَالَ تَعَالَى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِالله مِنْ بَعْدِ إِيـمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيـمَانِ وَلَكِنْ مَّنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله﴾ الآيَةَ [سُورَةَ النَّحْل/106].

الشَّرْحُ لِيُعْلَمْ أَنَّ النِّيَّةَ إِذَا خَالَفَتِ الشَّرْعَ فَهِيَ بَاطِلَةٌ وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ، فَيَجِبُ تَطْبِيقُ الأَمْرَيْنِ عَلَى مَا يُوَافِقُ الشَّرْعَ، فَلَيْسَ الأَمْرُ الَّذِي كُلِّفَ بِهِ الْعِبَادُ النِّيَّةَ فَقَطْ وَلا الْعَمَلَ فَقَطْ بَلْ كُلِّفْنَا بِأَمْرَيْنِ تَحْسِينِ النِّيَّةِ وَتَحْسِينِ الْعَمَلِ فَلا يَجُوزُ أَنْ نُهْمِلَ وَاحِدًا مِنَ الأَمْرَيْنِ، وَالْعَجَبُ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يُورِدُونَ هَذَا الْحَدِيثَ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ فَيَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ غَيْرَهُمْ، فَإِنَّهُمْ يُورِدُونَهُ لِدَفْعِ تَكْفِيرِ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِالْكُفْرِ عَمْدًا عَلَى وَجْهِ الْمِزَاحِ أَوْ فِي حَالِ الْغَضَبِ. وَمِنْ فَرْطِ الْجَهْلِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْكُفْرِ احْتِجَاجُ بَعْضِ هَؤُلاءِ بِقَوْلِ الله تَعَالَى: ﴿لا يُؤَاخِذُكُمُ الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/225] ظَنُّوا أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَعْنَاهَا أَنَّ الإِنْسَانَ لا يَكْفُرُ إِذَا لَمْ يَقْصِدْ بِكَلامِ الْكُفْرِ الْكُفْرَ، وَمَعْنَى هَذِهِ الآيَةِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ بِلا إِرَادَةٍ كَقَوْلِ لا وَالله وَبَلَى وَالله بِدُونِ إِرَادَةٍ لا يُكْتَبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الأَيْمَانِ الَّتِي هِيَ جَمْعُ يَمِينٍ وَهُوَ الْقَسَمُ وَبَيْنَ التَّلَفُّظِ بِكَلامِ الْكُفْرِ، فَلا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ هَذِهِ الآيَةِ وَبَيْنَ مَسْئَلَةِ مَنْ تَلَفَّظَ بِالْكُفْرِ وَهُوَ لا يَقْصِدُ الْكُفْرَ. وَهَؤُلاءِ لَمْ يَعْرِفُوا مَعْنَى ذَلِكَ الْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ الأَعْمَالَ الَّتِي أَمَرَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِبَادَهُ بِهَا لا تَكُونُ مُعْتَبَرَةً إِلَّا بِالنِّيَّةِ كَالصَّلاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَالطَّهَارَةِ عَنِ الْحَدَثَيْنِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ، كُلُّ هَذَا لا يَكُونُ مَقْبُولًا عِنْدَ الله إِلَّا بِالنِّيَّةِ، لَيْسَ مَعْنَاهُ كَمَا يَقُولُ سَيِّدُ سَابِقٍ الَّذِي فَتَحَ لِلنَّاسِ بَابًا مِنَ الْكُفْرِ وَاسِعًا وَوَرَّطَ بِهِ خَلْقًا كَثِيرًا، فَإِنَّهُ يَقُولُ: الأَلْفَاظُ الْكُفْرِيَّةُ لا تُؤَثِّرُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ شَارِحًا صَدْرَكَ بِهَا وَنَاوِيًا مَعْنَاهَا وَمُعْتَقِدًا، فَإِنَّهُ جَعَلَ بِقَوْلِهِ هَذَا كُلَّ الْعِبَادِ فِي حُكْمِ الْمُكْرَهِ، وَالله تَعَالَى اسْتَثْنَى الْمُكْرَهَ فِي كِتَابِهِ بِحُكْمٍ خَاصٍّ، قَالَ تَعَالَى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِالله مِنْ بَعْدِ إِيـمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيـمَانِ وَلَكِنْ مَّنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [سُورَةَ النَّحْل/106] فَقَدْ جَعَلَ لِلْمُكْرَهِ حُكْمًا خَاصًّا لا يَتَجَاوَزُهُ إِلَى غَيْرِهِ وَهُوَ أَنَّ الْمُكْرَهَ بِالْقَتْلِ أَوْ نَحْوِهِ كَقَطْعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ إِذَا نَطَقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ تَحْتَ الإِكْرَاهِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيـمَانِ عِنْدَ نُطْقِهِ بِمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ مِنَ الْقَوْلِ الْكُفْرِيِّ لَيْسَ عَلَيْهِ غَضَبٌ مِنَ الله وَلا يُعَذَّبُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكْفُرْ، هَذَا مَعْنَى الآيَةِ. وَلَكِنَّ الْمُكْرَهَ إِذَا ثَبَتَ فَلَمْ يُجِبِ الْكُفَّارَ لِمَا أَرَادُوا مِنْهُ فَقَتَلُوهُ يَكُونُ قَدْ فَازَ بِالشَّهَادَةِ.

وَأَمَّا غَيْرُ الْمُكْرَهِ فَإِنَّهُ لا يُشْتَرَطُ لِلْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ انْشِرَاحُ الصَّدْرِ وَلا مَعْرِفَةُ الْحُكْمِ لِحَدِيثِ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: حَالَةُ الْحِكَايَةِ لِكُفْرِ الْغَيْرِ: فَلا يَكْفُرُ الْحَاكِي كُفْرَ غَيْرِهِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الرِّضَى وَالِاسْتِحْسَانِ، وَمُسْتَنَدُنَا فِي اسْتِثْنَاءِ مَسْئَلَةِ الْحِكَايَةِ قَوْلُ الله تَعَالَى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ الله وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ الله﴾ [سُورَةَ التَّوْبَة/30]، ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ الله مَغْلُولَةٌ﴾ [سُورَةَ الْمَائِدَة/64].

الشَّرْحُ مِمَّا هُوَ مُهِمٌّ مَعْرِفَتُهُ أَنَّ مَا ذُكِرَ هُنَا لَيْسَ مُشَابِهًا لِمَا قَالَهُ أَحْمَدُ دِيدَات وَبَعْضٌ غَيْرُهُ فَكَلامُهُمْ كُفْرٌ صَرِيحٌ لا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ وَهُوَ قَوْلُهُمْ نَحْنُ أَبْنَاءُ الله مِنْ بَابِ الْمَجَازِ، فَإِنَّ هَؤُلاءِ وَافَقُوا الْيَهُودَ بِقَوْلِهِمْ هَذَا لِأَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا قَالُوا نَحْنُ أَبْنَاءُ الله مَا قَصَدُوا أَنَّ الله وَلَدَهُمْ إِنَّمَا قَصَدُوا أَنَّ الله يُعِزُّهُمْ، وَمَعَ ذَلِكَ الله تَعَالَى كَفَّرَهُمْ فَنَحْنُ أَيْضًا نُكَفِّرُ هَؤُلاءِ عَمَلًا بِحُكْمِ الْقُرْءَانِ: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ﴾ [سُورَةَ الْمَائِدَة/18]. وَلا اعْتِبَارَ لِقَوْلِ بَعْضِ هَؤُلاءِ: «نَحْنُ لا نَقْصِدُ الْبُنُوَّةَ بِمَعْنَى الْوِلادَةِ إِنَّمَا نَقْصِدُ الْعِنَايَةَ وَالْعَطْفَ وَالرَّحْمَةَ»، فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ إِطْلاقَ نِسْبَةِ الْبُنُوَّةِ إِلَى الله وَلَوْ قُصِدَ بِهِ الْحَنَانُ كُفْرٌ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: ثُمَّ الْحِكَايَةُ الْمَانِعَةُ لِكُفْرِ حَاكِي الْكُفْرِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي أَوَّلِ الْكَلِمَةِ الَّتِي يَحْكِيهَا عَمَّنْ تَكَلَّمَ بِكُفْرٍ، أَوْ بَعْدَ ذِكْرِهِ الْكَلِمَةَ عَقِبَهَا وَقَدْ كَانَ نَاوِيًا أَنْ يَأْتِيَ بِأَدَاةِ الْحِكَايَةِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَةَ الْكُفْرِ، فَلَوْ قَالَ: الْمَسِيحُ ابْنُ الله قَوْلُ النَّصَارَى، أَوْ قَالَتْهُ النَّصَارَى، فَهِيَ حِكَايَةٌ مَانِعَةٌ لِلْكُفْرِ عَنِ الْحَاكِي. وَحَالَةُ كَوْنِ الشَّخْصِ مُتَأَوِّلًا بِاجْتِهَادِهِ فِي فَهْمِ الشَّرْعِ: فَإِنَّهُ لا يَكْفُرُ الْمُتَأَوِّلُ إِلَّا إِذَا كَانَ تَأَوُّلُهُ فِي الْقَطْعِيَّاتِ فَأَخْطَأَ فَإِنَّهُ لا يُعْذَرُ كَتَأَوُّلِ الَّذِينَ قَالُوا بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَأَزَلِيَّتِهِ كَابْنِ تَيْمِيَةَ. وَأَمَّا مِثَالُ مَنْ لا يَكْفُرُ مِمَّنْ تَأَوَّلَ فَهُوَ كَتَأَوُّلِ الَّذِينَ مَنَعُوا الزَّكَاةَ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ بِأَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ لِأَنَّ صَلاتَهُ كَانَتْ عَلَيْهِمْ سَكَنًا لَهُمْ وَطُهْرَةً - أَيْ رَحْمَةً وَطُمَأْنِينَةً - وَأَنَّ ذَلِكَ انْقَطَعَ بِمَوْتِهِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يُكَفِّرُوهُمْ لِذَلِكَ لِأَنَّ هَؤُلاءِ فَهِمُوا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ﴾ [سُورَةَ التوبة/103] أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ خُذْ أَيْ يَا مُحَمَّدُ الزَّكَاةَ لِتَكُونَ إِذَا دَفَعُوهَا إِلَيْكَ سَكَنًا لَهُمْ، وَأَنَّ هَذَا لا يَحْصُلُ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَلا يَجِبُ عَلَيْهِمْ دَفْعُهَا لِأَنَّهُ قَدْ مَاتَ وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِأَخْذِهَا مِنْهُمْ، وَلَمْ يَفْهَمُوا أَنَّ الْحُكْمَ عَامٌّ فِي حَالِ حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ وَإِنَّمَا قَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ كَمَا قَاتَلَ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ فِي دَعْوَاهُ النُّبُوُّةَ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ قَهْرًا بِدُونِ قِتَالٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا ذَوِي قُوَّةٍ فَاضْطُرَّ إِلَى الْقِتَالِ. وَكَذَلِكَ الَّذِينَ فَسَّرُوا قَوْلَ الله تَعَالَى: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنْتَهُونَ﴾ بِأَنَّهُ تَخْيِيرٌ وَلَيْسَ تَحْريِمًا لِلْخَمْرِ فَشَرِبُوهَا لِأَنَّ عُمَرَ مَا كَفَّرَهُمْ وَإِنَّمَا قَالَ: «اجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ ثَمَانِينَ، ثُمَّ إِنْ عَادُوا فَاقْتُلُوهُمْ» اهـ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ.

الشَّرْحُ أَيْ إِنْ عَادُوا إِلَى اسْتِحْلالِ الْخَمْرِ أَمَّا فِي زَمَانِنَا هَذَا فَلا عُذْرَ لِمَنْ يُنْكِرُ حُرْمَةَ الْخَمْرِ مِمَّنْ كَانَ يَعِيشُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ فِي زَمَانِنَا انْتَشَرَ حُرْمَةُ الْخَمْرِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَلا يَخْفَى عَلَى مَنْ يَعِيشُ بَيْنَهُمْ ذَلِكَ، فَصَارَ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: إِنَّمَا كَفَّرُوا الآخَرِينَ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَنِ الإِسْلامِ لِتَصْدِيقِيهِمْ لِمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ الَّذِي ادَّعَى الرِّسَالَةَ، فَمُقَاتَلَتُهُمْ لِهَؤُلاءِ الَّذِينَ تَأَوَّلُوا مَنْعَ الزَّكَاةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ لِأَخْذِ الْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَذَلِكَ كَقِتَالِ الْبُغَاةِ فَإِنَّهُمْ لا يُقَاتَلُونَ لِكُفْرِهِمْ بَلْ يُقَاتَلُونَ لِرَدِّهِمْ إِلَى طَاعَةِ الْخَلِيفَةِ، كَالَّذِينَ قَاتَلَهُمْ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ فِي الْوَقَائِعِ الثَّلاثِ: وَقْعَةِ الْجَمَلِ، وَوَقْعَةِ صِفِّينَ مَعَ مُعَاوِيَةَ، وَوَقْعَةِ النَّهْرَوَانِ مَعَ الْخَوَارِجِ عَلَى أَنَّ مِنَ الْخَوَارِجِ صِنْفًا هُمْ كُفَّارٌ حَقِيقَةً فَأُولَئِكَ لَهُمْ حُكْمُهُمُ الْخَاصُّ.

الشَّرْحُ الَّذِي يُصَدِّقُ مَنْ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ بَعْدَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ فَهُوَ كَافِرٌ مُكَذِّبٌ لِقَوْلِ الله ﴿وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: «وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ»، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَمَّا الْبُغَاةُ الظَّالِمُونَ الَّذِينَ تَمَرَّدُوا عَلَى الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ كَالَّذِينَ تَمَرَّدُوا عَلَيْهِ فِي الْوَقَائِعِ الثَّلاثِ الْمَشْهُورَةِ فَلَيْسَ لَهُمْ حُكْمُ الْمُرْتَدِّينَ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو زُرْعَةَ الْعِرَاقِيُّ فِي نُكَتِهِ: «وَقَالَ شَيْخُنَا الْبُلْقِينِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ بِلا تَأْوِيلٍ لِيَخْرُجَ الْبُغَاةُ وَالْخَوَارِجُ الَّذِينَ يَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَ أَهْلِ الْعَدْلِ وَأَمْوَالَهُمْ وَيَعْتَقِدُونَ تَحْرِيْمَ دِمَائِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ، وَالَّذِينَ أَنْكَرُوا وُجُوبَ الزَّكَاةِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّأْوِيلِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ الله عَنْهُمْ لَمْ يُكَفِّرُوهُمْ» اهـ. وَهَذَا شَاهِدٌ مِنْ مَنْقُولِ الْمَذْهَبِ لِمَسْئَلَةِ التَّأْوِيلِ بِالِاجْتِهَادِ.

الشَّرْحُ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْخَوَارِجِ مِنْهُمْ مَنْ كَفَّرَهُمْ بِلا اسْتِثْنَاءٍ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَّرَ فِرْقَةً مِنْهُمْ مَخْصُوصَةً. فَالَّذِينَ كَفَّرُوهُمْ جُمْلَةً اعْتَمَدُوا عَلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ ثُمَّ لا يَعُودُونَ إِلَيْهِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَهَذَا الْحَدِيثُ ظَاهِرُهُ يَشْهَدُ بِتَكْفِيرِهِمْ لِأَنَّ فِيهِ وَصْفَ الرَّسُولِ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الإِسْلامِ خُرُوجَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، أَيْ كَمَا يُصِيبُ السَّهْمُ الطَّرِيدَةَ وَيَخْرُجُ مِنْهَا بِسُرْعَةٍ، فَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لا بَأْسَ بِالْقَوْلِ بِتَكْفِيرِهِمْ. وَالْخَوَارِجُ هُمْ أَوَّلُ فِرْقَةٍ شَذَّتْ فِي الِاعْتِقَادِ عَنْ مُعْتَقَدِ الصَّحَابَةِ فَقَاتَلَهُمْ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ فَأَبَادَهُمْ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ، وَمِنْ ضَلالاتِهِمْ تَكْفِيرُ مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى كُفْرِهِمْ حُكْمُهُمْ عَلَى كُلِّ مَنْ خَالَفَ مُعْتَقَدَهُمْ بِالْكُفْرِ وَالتَّخْلِيدِ فِي النَّارِ فَكَانُوا هُمْ أَحَقَّ بِالِاسْمِ مِنْهُمْ.

وَكَذَلِكَ يُسْتَدَلُّ عَلَى كُفْرِ الْخَوَارِجِ بِقَوْلِ رَسُولِ الله: «لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ»، وَفِي لَفْظٍ: «ثَمُود» وَكُلٌّ مِنْهُمَا إِنَّمَا هَلَكَ بِالْكُفْرِ. وَبِقَوْلِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ»، وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: «إِنَّهُمْ أَبْغَضُ الْخَلْقِ إِلَى الله تَعَالَى» وَلا يُوصَفُ بِذَلِكَ إِلَّا الْكُفَّارُ.

وَمَبْدَأُ أَمْرِهِمْ حَصَلَ لَمَّا وَافَقَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ عَلَى تَحْكِيمِ الْحَكَمَيْنِ، فَانْحَازَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ طَائِفَةٌ مِمَّنْ كَانُوا يُقَاتِلُونَ مَعَهُ، فَرَأَوْا هَذَا التَّحْكِيمَ ضَلالًا وَكُفْرًا، وَقَالُوا كَيْفَ يُحَكِّمُ مَخْلُوقًا وَالله يَقُولُ: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام/57] فَظَنُّوا مِنْ فَسَادِ أَفْهَامِهِمْ أَنَّ عَلِيًّا خَالَفَ الْقُرْءَانَ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لَمْ يُخَالِفْ فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ الله عَنْهُ: «كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ» أَيْ مَا وَضَعُوا هَذِهِ الآيَةَ فِي مَحَلِّهَا.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَمِمَّا يَشْهَدُ مِنَ الْمَنْقُولِ فِي مَسْئَلَةِ الِاجْتِهَادِ بِالتَّأَوُّلِ وَحِكَايَةِ الْكُفْرِ قَوْلُ شَمْسِ الدِّينِ الرَّمْلِيِّ فِي شَرْحِهِ عَلَى مِنْهَاجِ الطَّالِبِينَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الرِّدَّةِ فِي شَرْحِ قَوْلِ النَّوَوِيِّ: الرِّدَّةُ قَطْعُ الإِسْلامِ بِنِيَّةٍ أَوْ قَوْلِ كُفْرٍ مَا نَصُّهُ: فَلا أَثَرَ لِسَبْقِ لِسَانٍ أَوْ إِكْرَاهٍ، وَاجْتِهَادٍ وَحِكَايَةِ كُفْرٍ.

وَقَوْلُ الْمُحَشِّي - أَيْ صَاحِبِ الْحَاشِيَةِ عَلَى الشَّرْحِ - نُورِ الدِّينِ عَلِيِّ الشَّبْرَامَلِّسِي الْمُتَوَفَّى سَنَةَ أَلْفٍ وَسَبْعٍ وَثَمَانِينَ، عِنْدَ قَوْلِ الرَّمْلِيِّ: «وَاجْتِهَادٍ» مَا نَصُّهُ: أَيْ لا مُطْلَقًا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ نَحْوِ كُفْرِ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ مَعَ أَنَّهُ بِالِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلالِ. قَالَ الْمُحَشِّي الآخَرُ عَلَى الرَّمْلِيِّ أَحْمَدُ بنُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الْمَعْرُوفُ بِالْمَغْرِبِيِّ الرَّشِيدِيِّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ أَلْفٍ وَسِتٍّ وَتِسْعِينَ قَوْلُهُ «وَاجْتِهَادٍ» أَيْ فِيمَا لَمْ يَقُمِ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى خِلافِهِ بِدَلِيلِ كُفْرِ نَحْوِ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ مَعَ أَنَّهُ بِالِاجْتِهَادِ اهـ، وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مُتَأَوِّلٍ يَمْنَعُ عَنْهُ تَأْوِيلُهُ التَّكْفِيرَ، فَلْيَجْعَلْ طَالِبُ الْعِلْمِ قَوْلَ الرَّشِيدِيِّ الْمَذْكُورَ فِيمَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى ذُكْرٍ - يَعْنِي أَنْ يَكُونَ مُسْتَحْضِرًا لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي قَلْبِهِ لِأَنَّهَا مُهِمَّةٌ -، لِأَنَّ التَّأَوُّلَ مَعَ قِيَامِ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ لا يَمْنَعُ التَّكْفِيرَ عَنْ صَاحِبِهِ وَقَوْلُنَا فِي الْخَوَارِجِ بِاسْتِثْنَاءِ بَعْضِهِمْ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يُكَفَّرُوا لِثُبُوتِ مَا يَقْتَضِي التَّكْفِيرَ فِي بَعْضِهِمْ كَمَا يُؤَيِّدُهُ قَوْلُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ رَوَوْا أَحَادِيثَ الْخَوَارِجِ.

الشَّرْحُ قَوْلُهُمْ بِالتَّأْوِيلِ وَالِاجْتِهَادِ مَعْنَاهُ عَلَى حَسَبِ مَا هُوَ أَرَادَ أَنْ يَطْلُبَ مَا هُوَ الْحَقُّ فَإِذَا أَخْطَأَ الشَّخْصُ فِي هَذَا الْبَابِ لا يُكَفَّرُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْقَطْعِيَّاتِ، فَمَنِ اجْتَهَدَ فِي الْقَطْعِيَّاتِ فَأَخْطَأَ لا يُعْذَرُ. هَذَا غَيْرُ الِاجْتِهَادِ الَّذِي هُوَ مُقَابِلُ التَّقْلِيدِ، لِأَنَّ هُنَاكَ مَرْتَبَتَيْنِ مَرْتَبَةَ الِاجْتِهَادِ وَمَرْتَبَةَ التَّقْلِيدِ، فَالِاجْتِهَادُ لِمَنْ يَحْفَظُ ءَايَاتِ الأَحْكَامِ وَأَحَادِيثَ الأَحْكَامِ وَيَكُونُ قَوِيَّ الذَّاكِرَةِ قَوِيَّ الْعَقْلِ مَعَ التُّقَى وَالْعَدَالَةِ كَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَكَثِيرِينَ مِنَ السَّلَفِ، أَمَّا الِاجْتِهَادُ فِي هَذَا الْبَابِ فَمَعْنَاهُ أَنَّ الشَّخْصَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ وَيَصِلَ إِلَيْهِ فَقَالَ كَلِمَةً شَاذَّةً كَهَؤُلاءِ الَّذِينَ قَالُوا: الزَّكَاةُ كَانَتْ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ فَرْضًا لِأَنَّ الرَّسُولَ لَمَّا يَدْعُو لِلْمُزَكِّي دُعَاؤُهُ هَذَا سَكَنٌ لِلْمُزَكِّينَ، أَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ فَقَدِ انْقَطَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَتْ وَاجِبَةً، مِثْلُ هَذَا يُقَالُ لَهُ اجْتِهَادٌ وَيُقَالُ لَهُ تَأْوِيلٌ أَيْضًا فَهَؤُلاءِ لا نُكَفِّرُهُمْ، لِأَنَّ الَّذِي يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِ الْقَطْعِيِّ يُقَالُ غَلِطَ وَلا يُكَفَّرُ. وَأَمَّا مُحَارَبَةُ أَبِي بَكْرٍ لَهُمْ فَلِأَنَّهُمُ امْتَنَعُوا عَنْ أَدَاءِ الْحَقِّ الْوَاجِبِ وَكَانُوا جَمْعًا لَهُمْ قُوَّةٌ فَقَاتَلَهُمْ مَعَ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مُسَيْلِمَةَ وَءَامَنُوا بِدَعْوَاهُ النُّبُوَّةَ.

أَمَّا فِي الْقَطْعِيَّاتِ فَلا عِبْرَةَ بِالِاجْتِهَادِ، كَابْنِ تَيْمِيَةَ الَّذِي اجْتَهَدَ فَقَالَ الْعَالَمُ أَزَلِيٌّ بِجِنْسِهِ أَيْ لَمْ يَتَقَدَّمِ الله جِنْسَ الْعَالَمِ بِالْوُجُودِ بَلْ قَالَ وَهَذَا كَمَالٌ لِلَّهِ ذَكَرَ هَذَا فِي كِتَابِ شَرْحِ حَدِيثِ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ [انْظُرِ الْكِتَابَ (ص/193)، وَمَجْمُوعَ الْفَتَاوَى (18/239)] وَلَمْ يَدْرِ أَنَّ هَذَا قَوْلٌ مِنْهُ بِأَنَّ الله مَا خَلَقَ جِنْسَ الْعَالَمِ إِنَّمَا خَلَقَ الأَفْرَادَ الْمُعَيَّنَةَ، وَقَالَ أَيْضًا عَنِ الْعَرْشِ إِنَّ جِنْسَهُ قَدِيمٌ لا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ أَيْ لَمْ يَسْبِقْهُ الْعَدَمُ كَمَا أَنَّ الله لَمْ يَسْبِقْهُ الْعَدَمُ، فَقَدْ سَاوَى بِقَوْلِهِ هَذَا جِنْسَ الْعَالَمِ مَعَ الله وَأَيُّ كُفْرٍ وَشِرْكٍ هَذَا. نَقَلَ هَذَا عَنْهُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ الثِّقَةُ جَلالُ الدِّينِ الدَّوَّانِيُّ فِي شَرْحِ الْعَضُدِيَّةِ. فَلا يُخَلِّصُهُ اجْتِهَادُهُ هَذَا مِنَ الْكُفْرِ، وَكَالَّذِي قَالَ الْكُفَّارُ يَنْقَطِعُ عَذَابُهُمْ بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ فَإِنَّهُ عَلَى زَعْمِهِ أَرَادَ الْوُصُولَ إِلَى الْحَقِّ فَلا يَمْنَعُ تَأْوِيلُهُ هَذَا عَنْهُ التَّكْفِيرَ، فَالْمُتَأَوِّلُ فِي الْقَطْعِيَّاتِ لا يُعْذَرُ إِذَا أَخْطَأَ وَإِلَّا لَلَزِمَ تَرْكُ تَكْفِيرِ النَّصَارَى لِأَنَّهُمْ عَلَى حَسَبِ زَعْمِهِمِ اجْتَهَدُوا، وَالْبُوذِيُّونَ أَيْضًا اجْتَهَدُوا عَلَى حَسَبِ زَعْمِهِمْ فَرَأَوْا أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ حَقٌّ فَدَانُوا بِهِ، فَالَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّ كُلَّ مُتَأَوِّلٍ يُعْذَرُ مَهْمَا كَانَ تَأَوُّلُهُ فَقَدْ عَطَّلَ الشَّرِيعَةَ. وَمِمَّنْ قَالَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ بِالِاجْتِهَادِ ابْنُ سِينَا وَالْفَارَابِيُّ فَكَفَّرَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَلا نُسَمِّي هَذَيْنِ وَأَمْثَالَهُمْ بِالْفَلاسِفَةِ الإِسْلامِيِّينَ كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُهُمْ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ إِرَسْطُو لِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ بِزَمَانٍ بَعِيدٍ، لِأَنَّ تَسْمِيَتَهُمْ بِذَلِكَ تُوهِمُ أَنَّهُمْ مَا خَرَجُوا مِنَ الإِسْلامِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ مِنْ أَنَّهُ قَالَ «إِخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا» فَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ لِلْحُكْمِ عَلَى جَمِيعِهِمْ بِالإِسْلامِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ إِسْنَادًا عَنْ عَلِيٍّ، وَقَدْ قَطَعَ الْحَافِظُ الْمُجْتَهِدُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ بِتَكْفِيرِهِمْ وَغَيْرُهُ، وَحُمِلَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلافِ أَحْوَالِ الْخَوَارِجِ بِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ وَصَلَ إِلَى حَدِّ الْكُفْرِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَصِلْ، وَهَذِهِ الْمَسْئَلَةُ بَعْضُهُمْ عَبَّرَ عَنْهَا بِالِاجْتِهَادِ وَبَعْضُهُمْ عَبَّرَ عَنْهَا بِالتَّأْوِيلِ، فَمِمَّنْ عَبَّرَ بِالتَّأْوِيلِ الْحَافِظُ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ سِرَاجُ الدِّينِ الْبُلْقِينِيُّ الَّذِي قَالَ فِيهِ صَاحِبُ الْقَامُوسِ «عَلَّامَةُ الدُّنْيَا» وَعَبَّرَ بَعْضُ شُرَّاحِ مِنْهَاجِ الطَّالِبِينَ بِالِاجْتِهَادِ وَكِلْتَا الْعِبَارَتَيْنِ لا بُدَّ لَهُمَا مِنْ قَيْدٍ مَلْحُوظٍ.

وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مُتَأَوِّلٍ يَمْنَعُ عَنْهُ تَأْوِيلُهُ التَّكْفِيرَ، فَلا يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ ذَلِكَ مُطْلَقٌ لِأَنَّ الإِطْلاقَ فِي ذَلِكَ انْحِلالٌ وَمُرُوقٌ مِنَ الدِّينِ. أَلا تَرَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الإِسْلامِ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْفَلْسَفَةِ مَرَقُوا مِنَ الدِّينِ بِاعْتِقَادِهِمُ الْقَوْلَ بِأَزَلِيَّةِ الْعَالَمِ اجْتِهَادًا مِنْهُمْ وَمَعَ ذَلِكَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَكْفِيرِهِمْ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْمُحَدِّثُ الْفَقِيهُ بَدْرُ الدِّينِ الزَّرْكَشِيُّ فِي شَرْحِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ أَنَّ ذَكَرَ الْفَرِيقَيْنِ مِنْهُمُ الْفَرِيقَ الْقَائِلَ بِأَزَلِيَّةِ الْعَالَمِ بِمَادَّتِهِ وَصُورَتِهِ وَالْفَرِيقَ الْقَائِلَ بِأَزَلِيَّةِ الْعَالَمِ بِمَادَّتِهِ أَيْ بِجِنْسِهِ فَقَطْ مَا نَصُّهُ: «اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَضْلِيلِهِمْ وَتَكْفِيرِهِمْ» وَكَذَلِكَ الْمُرْجِئَةُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لا يَضُرُّ مَعَ الإِيـمَانِ ذَنْبٌ كَمَا لا تَنْفَعُ مَعَ الْكُفْرِ حَسَنَةٌ إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ اجْتِهَادًا وَتَأْوِيلًا لِبَعْضِ النُّصُوصِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا فَلَمْ يُعْذَرُوا [فَإِنَّهُمْ تَأَوَّلُوا هَذِهِ الآيَةَ ﴿وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ﴾ حَمَلُوهَا عَلَى أَنَّ مَعْنَاهَا لا عُقُوبَةَ فِي الآخِرَةِ إِلَّا عَلَى الْكَافِرِ. وَهَذَا التَّأَوُّلُ لا يَنْفَعُهُمْ] وَكَذَلِكَ ضَلَّ فِرَقٌ غَيْرُهُمْ وَهُمْ مُنْتَسِبُونَ إِلَى الإِسْلامِ كَانَ زَيْغُهُمْ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ بِالتَّأْوِيلِ، نَسْأَلُ الله الثَّبَاتَ عَلَى الْحَقِّ.

قَاعِدَةٌ: اللَّفْظُ الَّذِي لَهُ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَالآخَرُ لَيْسَ كُفْرًا، وَكَانَ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ كُفْرٌ ظَاهِرًا لَكِنْ لَيْسَ صَرِيْحًا، لا يُكَفَّرُ قَائِلُهُ حَتَّى يُعْرَفَ مِنْهُ أَيَّ الْمَعْنَيَيْنِ أَرَادَ، فَإِنْ قَالَ أَرَدْتُ الْمَعْنَى الْكُفْرِيَّ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الرِّدَّةِ وَإِلَّا فَلا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ.

الشَّرْحُ مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ كَلِمَةَ النَّبِيِّ فِي اللُّغَةِ تَأْتِي بِمَعْنَى الأَرْضِ الْمُحْدَوْدِبَةِ الْمُرْتَفِعَةِ وَتَأْتِي بِمَعْنَى مَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ، فَلَوْ قَالَ شَخْصٌ الصَّلاةُ عَلَى النَّبِيِّ مَكْرُوهَةٌ وَأَرَادَ أَنَّ الصَّلاةَ عَلَى الأَرْضِ الْمُحْدَوْدِبَةِ مَكْرُوهَةٌ لِأَنَّ الشَّخْصَ لا يَخْشَعُ فِي صَلاتِهِ عَلَيْهَا فَكَلامُهُ صَحِيحٌ، وَأَمَّا إِنْ أَرَادَ أَنَّ الصَّلاةَ عَلَى النَّبِيِّ أَيْ مُحَمَّدٍ مَكْرُوهَةٌ فَهُوَ كُفْرٌ لِأَنَّ ذَلِكَ تَكْذِيبٌ لِلشَّرِيعَةِ قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الله وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [سُورَةَ الأَحْزَاب/56].

وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ قَائِلٌ الْخُبْزُ خَيْرٌ مِنَ الله فَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ نِعْمَةٌ مِنَ الله فَلا يَكْفُرُ، أَمَّا إِنْ أَرَادَ أَنَّ هَذَا أَفْضَلُ مِنَ الله يَكْفُرُ، لِأَنَّ كَلِمَةَ خَيْرٍ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ تَأْتِي بِمَعْنَى أَفْضَل وَتَأْتِي بِمَعْنَى نِعْمَةٍ فَيُحْكَمُ عَلَى الْقَائِلِ بِحَسَبِ الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ اللَّفْظُ لَهُ مَعَانٍ كَثِيرَةٌ وَكَانَ كُلُّ مَعَانِيهِ كُفْرًا وَكَانَ مَعْنًى وَاحِدٌ مِنْهَا غَيْرَ كُفْرٍ لا يُكَفَّرُ إِلَّا أَنْ يُعْرَفَ مِنْهُ إِرَادَةُ الْمَعْنَى الْكُفْرِيِّ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْحَنَفِيِّينَ فِي كُتُبِهِمْ. وَأَمَّا مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي الْكَلِمَةِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ قَوْلًا بِالتَّكْفِيرِ وَقَوْلٌ وَاحِدٌ بِتَرْكِ التَّكْفِيرِ أُخِذَ بِتَرْكِ التَّكْفِيرِ فَلا مَعْنَى لَهُ، وَلا يَصِحُّ نِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَى مِالِكٍ، وَلا إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا نَسَبَ سَيِّدُ سَابِقٍ شِبْهَ ذَلِكَ إِلَى مَالِكٍ، وَهُوَ شَائِعٌ عَلَى أَلْسِنَةِ بَعْضِ الْعَصْرِيِّينَ فَلْيَتَّقُوا الله.

الشَّرْحُ أَنَّهُ يَنْبَغِي الْحَذَرُ مِمَّا يَقُولُهُ بَعْضُ الْمُؤَلِّفِينَ عَنْ مَالِكٍ رَضِيَ الله عَنْهُ أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ عَلَى تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ قَوْلًا بِالتَّكْفِيرِ وَقَوْلٍ وَاحِدٍ بِتَرْكِ التَّكْفِيرِ يُؤْخَذُ بِهَذَا الْقَوْلِ الْوَاحِدِ، وَهَذِهِ لا أَصْلَ لَهَا عَنْ مَالِكٍ وَلا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَلا تَثْبُتُ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمَا، وَهَذَا لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ لَهَا عِدَّةُ مَعَانٍ أَحَدُ مَعَانِيهَا لَيْسَ كُفْرًا وَالأُخْرَى كُلُّهَا كُفْرٌ وَإِنَّمَا بَعْضُ الْمُؤَلِّفِينَ يُورِدُونَهَا فِي الْكَلِمَةِ الصَّرِيْحَةِ فِي الْكُفْرِ. وَإِنَّمَا الَّذِي فِي عِبَارَاتِ الْفُقَهَاءِ وَفِي مُؤَلَّفَاتِهِمْ أَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ بِلَفْظٍ لَهُ أَوْجُهٌ عَدِيدَةٌ تَقْتَضِي التَّكْفِيرَ وَوَجْهٌ وَاحِدٌ لا يَقْتَضِي التَّكْفِيرَ يَحْكُمُ الْمُفْتِيُّ بِالْوَجْهِ الْوَاحِدِ إِلَّا أَنْ يَقُولَ الْمُتَلَّفِظُ بِهِ إِنَّهُ أَرَادَ غَيْرَ ذَلِكَ الْوَجْهِ فَلا يَنْفَعُهُ فَتْوَى الْمُفْتِي وَتَبِينُ امْرَأَتُهُ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الَّذِي يَتَلَفَّظُ بِلَفْظٍ لَهُ عِدَّةُ مَعَانٍ وَلَهُ مَعْنًى وَاحِدٌ لا يَقْتَضِي التَّكْفِيرَ وَالْمَعَانِي الأُخَرُ تَقْتَضِي التَّكْفِيرَ لا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ إِلَّا أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ أَرَادَ الْمَعْنَى الْكُفْرِيَّ. وَقَدْ ذُكِرَ لِذَلِكَ مِثَالٌ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ الْحَسَنِ رَضِيَ الله عَنْهُ وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قِيلَ لَهُ: صَلِّ، فَقَالَ: لا أُصَلِّي، فَإِنْ أَرَادَ لا أُصَلِّي لِأَنِّي قَدْ صَلَّيْتُ لا يَكْفُرُ، وَإِنْ أَرَادَ لا أُصَلِّي لِقَوْلِكَ لا يَكْفُرُ، وَكَذَا إِنْ أَرَادَ لا أُصَلِّي أَنَا مُتَكَاسِلٌ لا يَكْفُرُ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لا يُصَلِّي لِأَنَّهُ مُسْتَخِفٌّ بِهَا كَفَرَ. وَيُفْهَمُ مِنْ لَفْظِ الْمَتْنِ أَيْضًا أَنَّ مَا كَانَ مِنَ الْكَلامِ فِيهِ اسْتِخْفَافٌ بِالدِّينِ أَوْ إِنْكَارُ مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ نُكَفِّرُ قَائِلَهُ وَلَوْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ أَلْفُ إِنْسَانٍ وَلا نَنْظُرُ إِلَى كَثْرَةِ الْمُخَالِفِينَ وَإِنَّمَا نَنْظُرُ إِلَى مُوَافَقَةِ الْحَقِّ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: قَالَ الْعُلَمَاءُ: أَمَّا الصَّرِيحُ أَيِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدٌ يَقْتَضِي التَّكْفِيرَ فَيُحْكَمُ عَلَى قَائِلِهِ بِالْكُفْرِ كَقَوْلِ أَنَا الله حَتَّى لَوْ صَدَرَ هَذَا اللَّفْظُ مِنْ وَلِيٍّ فِي حَالَةِ غَيْبَةِ عَقْلِهِ يُعَزَّرُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُوَ مُكَلَّفًا تِلْكَ السَّاعَةَ قَالَ ذَلِكَ عِزُّ الدِّينِ بنُ عَبْدِ السَّلامِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّعْزِيرَ يُؤَثِّرُ فِيمَنْ غَابَ عَقْلُهُ كَمَا يُؤَثِّرُ فِي الصَّاحِي الْعَاقِلِ وَكَمَا يُؤَثِّرُ فِي الْبَهَائِمِ فَإِنَّهَا إِذَا جَمَحَتْ فَضُرِبَتْ تَكُفُّ عَنْ جُمُوحِهَا مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِعَاقِلَةٍ. كَذَلِكَ الْوَلِيُّ الَّذِي نَطَقَ بِالْكُفْرِ فِي حَالِ الْغَيْبَةِ لَمَّا يُضْرَبُ أَوْ يُصْرَخُ عَلَيْهِ يَكُفُّ لِلزَّاجِرِ الطَّبِيعِيِّ. عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ لا يَصْدُرُ مِنْهُ كُفْرٌ فِي حَالِ حُضُورِ عَقْلِهِ إِلَّا أَنْ يَسْبِقَ لِسَانُهُ أَوْ يَغِيبَ عَقْلُهُ، لِأَنَّ الْوَلِيَّ مَحْفُوظٌ مِنَ الْكُفْرِ بِخِلافِ الْمَعْصِيَةِ الْكَبِيرَةِ أَوِ الصَّغِيرَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ عَلَى الْوَلِيِّ لَكِنْ لا يَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ بَلْ يَتُوبُ عَنْ قُرْبٍ. وَقَدْ يَحْصُلُ مِنَ الْوَلِيِّ مَعْصِيَةٌ كَبِيرَةٌ قَبْلَ مَوْتِهِ بِقَلِيلٍ لَكِنْ لا يَمُوتُ إِلَّا وَقَدْ تَابَ كَطَلْحَةَ بنِ عُبَيْدِ الله وَالزُّبَيْرِ بنِ الْعَوَّامِ رَضِيَ الله عَنْهُمَا فَإِنَّهُمَا خَرَجَا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنْهُ بِوُقُوفِهِمَا مَعَ الَّذِينَ قَاتَلُوهُ فِي الْبَصْرَةِ فَذَكَّرَ عَلِيٌّ كُلًّا مِنْهُمَا حَدِيثًا، أَمَّا الزُّبَيْرُ فَقَالَ لَهُ أَلَمْ يَقُلْ لَكَ رَسُولُ الله «إِنَّكَ لَتُقَاتِلَنَّ عَلِيًّا وَأَنْتَ ظَالِمٌ لَهُ» فَقَالَ نَسِيتُ، فَذَهَبَ مُنْصَرِفًا عَنْ قِتَالِهِ ثُمَّ لَحِقَهُ فِي طَرِيقِهِ رَجُلٌ مِنْ جَيْشِ عَلِيٍّ فَقَتَلَهُ. فَتَابَ بِتَذْكِيرِ عَلِيٍّ لَهُ فَلَمْ يَمُتْ إِلَّا تَائِبًا. وَأَمَّا طَلْحَةُ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاهُ» فَذَهَبَ مُنْصَرِفًا فَضَرَبَهُ مَرْوَانُ بنُ الْحَكَمِ فَقَتَلَهُ. وَهُوَ أَيْضًا تَابَ وَنَدِمَ عِنْدَ ذِكْرِ عَلِيٍّ لَهُ هَذَا الْحَدِيثَ. فَكُلٌّ مِنْهُمَا مَا مَاتَ إِلَّا تَائِبًا. وَكِلا الْحَدِيثَيْنِ صَحِيحٌ بَلِ الْحَدِيثُ الثَّانِي مُتَوَاتِرٌ. وَقَدْ ذَكَرَ الإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الأَشْعَرِيُّ أَنَّ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ مَغْفُورٌ لَهُمَا لِأَجْلِ الْبِشَارَةِ الَّتِي بَشَّرَهُمَا رَسُولُ الله بِهَا مَعَ ثَمَانِيَةٍ ءَاخَرِينَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَهَذَا مِنَ الإِمَامِ أَبِي الْحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ إِثْبَاتٌ أَنَّهُمَا أَثِمَا. وَكَذَلِكَ قَالَ فِي حَقِّ عَائِشَةَ لِأَجْلِ أَنَّهَا مُبَشَّرَةٌ أَيْضًا وَكَانَتْ نَدِمَتْ نَدَمًا شَدِيدًا مِنْ وُقُوفِهَا فِي الْمُقَاتِلِينَ لِعَلِيٍّ حَتَّى كَانَتْ لَمَّا تَذْكُرُ سَيْرَهَا إِلَى الْبَصْرَةِ وَوُقُوفَهَا مَعَ الْمُقَاتِلِينَ لِعَلِيٍّ تَبْكِي بُكَاءً شَدِيدًا يَبْتَلُّ مِنْ دُمُوعِهَا خِمَارُهَا. وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ أَيْضًا. وَقَالَ فِي غَيْرِهِمَا مِنْ مُقَاتِلِي عَلِيٍّ مِنْ أَهْلِ وَقْعَةِ الْجَمَلِ وَمِنْ أَهْلِ صِفِّينَ الَّذِينَ قَاتَلُوا مَعَ مُعَاوِيَةَ عَلِيًّا «مُجَوَّزٌ غُفْرَانُهُ وَالْعَفْوُ عَنْهُ» كَمَا نَقَلَ ذَلِكَ الإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بنُ فُورَك عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ فِي كِتَابِهِ مُجَرَّدِ مَقَالاتِ الأَشْعَرِيِّ، وَابْنُ فُورَك تِلْمِيذُ تِلْمِيذِ أَبِي الْحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ وَهُوَ أَبُو الْحَسَنِ الْبَاهِلِيُّ رَضِيَ الله عَنْهُمْ. وَمَا يَظُنُّ بَعْضُ الْجَهَلَةِ مِنْ أَنَّ الْوَلِيَّ لا يَقَعُ فِي مَعْصِيَةٍ فَهُوَ جَهْلٌ فَظِيعٌ. فَهَؤُلاءِ الثَّلاثَةُ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعَائِشَةُ مِنْ أَكَابِرِ الأَوْلِيَاءِ.

الشَّرْحُ أَنَّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ كُفْرٌ صَرِيحٌ يَكْفُرُ وَلا يُقْبَلُ لَهُ تَأْوِيلٌ إِلَّا إِذَا كَانَ لا يَفْهَمُ مَعْنَى الْكَلِمَةِ الَّتِي قَالَهَا فَعِنْدَئِذٍ لا يُكَفَّرُ، فَمَنْ حَصَلَ مِنْهُ كُفْرٌ صَرِيحٌ يُنْظَرُ إِلَى فَهْمِهِ وَلا يُنْظَرُ إِلَى قَصْدِهِ فَإِنْ كَانَ يَفْهَمُ الْمَعْنَى الْكُفْرِيَّ وَقَالَ لَمْ أَقْصِدْهُ كَفَرَ وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ تَأَوُّلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَفْهَمِ الْمَعْنَى الْكُفْرِيَّ لا يَكْفُرُ وَلَكِنْ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَأَمَّا مَنْ حَصَلَ مِنْهُ كَلامٌ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ بِحَسَبِ وَضْعِ اللُّغَةِ أَحَدُهُمَا كُفْرٌ وَالآخَرُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا يُنْظَرُ إِلَى قَصْدِهِ فَإِنْ كَانَ أَرَادَ الْمَعْنَى الْكُفْرِيَّ كَفَرَ وَإِلَّا فَلا يَكْفُرُ.

وَأَمَّا مَنْ قَالَ كَلِمَةً كُفْرِيَّةً لا تَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدًا بِحَسَبِ وَضْعِ اللُّغَةِ وَلَكِنْ هُوَ ظَنَّ أَنَّ لَهَا مَعْنًى ءَاخَرَ غَيْرَ كُفْرِيٍّ فَقَالَهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي ظَنَّهُ غَيْرَ كُفْرِيٍّ فَلا يَكْفُرُ.



تَنْبِيهٌ

ثُمَّ هُنَا فَائِدَةٌ مُهِمَّةٌ وَهِيَ أَنَّهُ إِذَا شَخْصٌ حَصَلَتْ مِنْهُ مَسْئَلَةٌ تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا كُفْرٌ وَالآخَرُ لَيْسَ كُفْرًا وَشَكَّ هَلْ قَصَدَ عِنْدَ نُطْقِهِ الْمَعْنَى الْكُفْرِيَّ أَوْ غَيْرَهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّشَهُّدُ احْتِيَاطًا عَلَى الْفَوْرِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ هَذَا الْكُفْرُ مِنَ الْكُفْرِ الصَّرِيحِ فَلا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَتَشَهَّدَ جَزْمًا لِلْخَلاصِ مِنَ الْكُفْرِ وَإِنْ تَذَكَّرَ كَلِمَةً قَالَهَا وَتَذَكَّرَ أَيْضًا أَنَّهُ قَصَدَ مِنْهَا مَعْنًى هُوَ كُفْرٌ بِالإِجْمَاعِ لا يُخْتَلَفُ فِي كَوْنِهِ كُفْرًا وَلَكِنْ لِجَهْلِهِ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ هَذَا كُفْرٌ فَلا يَنْفَعُهُ تَشَهُّدُ الِاحْتِيَاطِ عِنْدَئِذٍ بَلْ يَتَشَهَّدُ جَزْمًا بَعْدَ عِلْمِهِ لِلْحُكْمِ وَإِعْتِقَادِهِ الصَّوَابَ.

وَأَمَّا تَعْزِيرُ الْوَلِيِّ الْغَائِبِ بِالْوَجْدِ مَثَلًا فَيَكُونُ بِحَبْسِهِ عَنِ النَّاسِ وَعَزْلِهِ عَنْهُمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الْخَلِيفَةِ حَتَّى لا يَنْفَتِنَ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ؛ وَيَصْرِفُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ نَفَقَاتِهِ هَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ وَلا مَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ مِنْ وَالِدٍ أَوْ وَلَدٍ وَلا يَتْرُكُ النَّاسَ يَخْتَلِطُونَ بِهِ لِأَنَّ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، فَقَدْ قَالَ الْفُقَهَاءُ: إِذَا عُرِفَ شَخْصٌ بِالإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ فَالإِمَامُ أَيِ الْخَلِيفَةُ عَلَيْهِ أَنْ يُرَاعِيَ الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ وَذَلِكَ بِحَجْزِهِ عَنِ النَّاسِ فَلا يَتْرُكُهُ يَخْتَلِطُ بِهِمْ لِئَلَّا يَسْتَمِرَّ ضَرَرُهُ لِلنَّاسِ بِالإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ. وَمَا يَحْصُلُ مِنَ الْكَلامِ الْكُفْرِيِّ مِنْ هَذَا الْوَلِيِّ حَالَةَ غَيْبَةِ عَقْلِهِ لا يُكْتَبُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْوَلِيَّ مَعْصُومٌ مِنَ الْكُفْرِ، لِأَنَّ مَنْ صَارَ مِنْ أَحْبَابِ الله لا يَنْقَلِبُ بَعْدَ ذَلِكَ عَدُوًّا لَهُ. الْوَلِيُّ لَوْ كَانَ فِي حَالَةِ غَيْبُوبَةِ عَقْلِهِ وَصَدَرَ مِنْهُ كَلامٌ فَاسِدٌ يُزْجَرُ بِالْحَبْسِ وَالِانْتِهَارِ وَالضَّرْبِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تِلْكَ السَّاعَةَ غَائِبَ الْعَقْلِ يُؤَثِّرُ فِيهِ الضَّرْبُ وَالزَّجْرُ. الْحِمَارُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ عَقْلٌ إِذَا أَسَاءَ التَّصَرُّفَ إِذَا صَرَخْنَا عَلَيْهِ أَوْ ضَرَبْنَاهُ يَكُفُّ وَيُغَيِّرُ هَيْأَتَهُ كَذَلِكَ هَذَا الْوَلِيُّ لا يُتْرَك.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ: اتَّفَقَ الأُصُولِيُّونَ عَلَى أَنَّ مَنْ نَطَقَ بِكَلِمَةِ الرِّدَّةِ - أَيِ الْكُفْرِ - وَزَعَمَ أَنَّهُ أَضْمَرَ تَوْرِيَةً [أَيْ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَعْنًى بَعِيدًا عَنِ الْمَعْنَى الْمُتَبَادِرِ مِنَ الْكَلِمَةِ] كُفِّرَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَأَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَيْ فَلا يَنْفَعُهُ التَّأْوِيلُ الْبَعِيدُ كَالَّذِي يَقُولُ: «يَلْعَنُ رَسُولَ الله» وَيَقُولُ قَصْدِي بِرَسُولِ الله الصَّوَاعِقُ.

الشَّرْحُ هَذَا الْقَوْلُ ذَكَرَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَبْدُ الْمَلِكِ الْجُوَيْنِيُّ فِي كِتَابِ الإِرْشَادِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ نَطَقَ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ بِالْكُفْرِ وَزَعَمَ أَنَّهُ أَضْمَرَ تَوْرِيَةً أَيْ تَأْوِيلًا بَعِيدًا لا يُقْبَلُ مِنْهُ بَلْ يَكُونُ كَافِرًا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. أَمَّا التَّأْوِيلُ الْقَرِيبُ إِنْ أَبْدَاهُ الشَّخْصُ إِنْ كَانَ صَادِقًا فِي دَعْوَاهُ يَنْفَعُهُ.

وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا يُؤَوَّلُ كُلُّ لَفْظٍ مُنْحَرِفٍ وَإِنَّمَا يُؤَوَّلُ مَا كَانَ تَأْوِيلُهُ قَرِيبًا، وَأَمَّا مَا كَانَ صَرِيْحًا فِي الْمَعْنَى الْفَاسِدِ فَلا يُؤَوَّلُ، فَالْحَذَرَ مِنْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يُؤَوِّلُونَ الصَّرِيحَ لِمَنْ يَفْهَمُ مَعْنَاهُ. وَقَوْلُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ الْمَذْكُورُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّوْرِيَةِ الَّتِي لا يَحْتَمِلُهَا اللَّفْظُ، أَمَّا التَّوْرِيَةُ الَّتِي يَحْتَمِلُهَا اللَّفْظُ فَإِنَّهَا تَنْفَعُ بِالتَّأْوِيلِ، فَلْيُعْلَمْ ذَلِكَ. فَمِنَ التَّوْرِيَةِ الْبَعِيدَةِ الَّتِي لا يَحْتَمِلُهَا اللَّفْظُ قَوْلُ بَعْضِ جَهَلَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ:

كَفَرْتُ بِدِينِ الله وَالْكُفْرُ وَاجِبٌ # لَدَيَّ وَعِنْدَ الْمُسْلِمِينَ حَرَامُ

يَنْسِبُونَ هَذَا لِلْحَلَّاجِ وَيَسْتَحْسِنُونَهُ، وَكَذَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ:

وَمَا الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ إِلَّا إِلَهُنَا # وَمَا الله إِلَّا رَاهِبٌ فِي كَنِيسَتِي

وَيَقُولُونَ فِي تَأْوِيلِهِ إِذَا أُنْكِرَ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُمْ إِلَهُنَا مَعْنَاهُ إِلَى الأَرْضِ أَيِ الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ مَرْجِعُهُمْ إِلَى التُّرَابِ. قَوْلُ بَعْضِهِمْ:

أَلا بِالذِّكْرِ تَزْدَادُ الذُّنُوبُ # وَتَنْطَمِسُ الْبَصَائِرُ وَالْقُلُوبُ

فَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَنْ لَقِيتُهُ مِنَ الْمُتَعَسِّفِينَ: يُؤَوَّلُ بِأَنَّهُ أَرَادَ الذِّكْرَ مَعَ الْغَفْلَةِ.

وَكَذَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: وُجُودُكَ ذَنْبٌ لا يُقَاسُ بِهِ ذَنْبُ، إِلَى أَمْثَالٍ لِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ. وَهَؤُلاءِ بَعْضُهُمْ مَلاحِدَةٌ يُظْهِرُونَ الإِسْلامَ وَلا يَعْتَقِدُونَهُ مَعَ دَعْوَى التَّصَوُّفِ، وَبَعْضُهُمْ مِنْ شِدَّةِ الْجَهْلِ يَظُنُّونَ أَنَّ هَذَا صَوَابٌ، فَهَؤُلاءِ ضَرَرُهُمْ عَلَى بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ أَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ الْكُفَّارِ الْمُعْلِنِينَ الَّذِينَ لا يَنْتَسِبُونَ إِلَى الإِسْلامِ كَالْمَجُوسِ وَالْبُوذِيِّينَ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَقَدْ عَدَّ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ كَالْفَقِيهِ الْحَنَفِيِّ بَدْرِ الرَّشِيدِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْقَرْنِ الثَّامِنِ الْهِجْرِيِّ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً فَيَنْبَغِي الِاطِّلاعُ عَلَيْهَا فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ الشَّرَّ يَقَعْ فِيهِ فَلْيُحْذَرْ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَحَدِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ أَخَذَ لِسَانَهُ وَخَاطَبَهُ: يَا لِسَانُ قُلْ خَيْرًا تَغْنَمْ، وَاسْكُتْ عَنْ شَرٍّ تَسْلَمْ، مِنْ قَبْلِ أَنْ تَنْدَمَ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَكْثَرُ خَطَايَا ابْنِ ءَادَمَ مِنْ لِسَانِهِ»، [رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ] وَمِنْ هَذِهِ الْخَطَايَا الْكُفْرُ وَالْكَبَائِرُ.

الشَّرْحُ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ قَالَ مِنَ الْكَلامِ مَا هُوَ خَيْرٌ كَذِكْرِ الله وَأَفْضَلُهُ التَّهْلِيلُ كَسَبَ ثَوَابًا، وَأَنَّ مَنْ أَمْسَكَ لِسَانَهُ عَمَّا فِيهِ مَعْصِيَةٌ فَقَدْ حَفِظَ نَفْسَهُ وَسَلِمَ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَحْفَظْ لِسَانَهُ فَقَدْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْهَلاكِ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْمَهَالِكِ سَبَبُهَا اللِّسَانُ، فَإِنْ مَاتَ وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ فَإِنَّهُ يَنْدَمُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ النَّدَمُ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَفِي حَدِيثٍ ءَاخَرَ لِلرَّسُولِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.

الشَّرْحُ مَعْنَى حَدِيثِ الشَّيْخَيْنِ أَنَّ الإِنْسَانَ قَدْ يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةٍ لا يَرَى أَنَّ فِيهَا ذَنْبًا وَلا يَرَاهَا ضَارَّةً لَهُ يَسْتَوْجِبُ بِهَا النُّزُولَ إِلَى قَعْرِ جَهَنَّمَ كَمَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُنْشَرِحَ الْبَالِ أَوْ غَيْرَ مُنْشَرِحٍ، وَقَعْرُ جَهَنَّمَ مَسَافَةُ سَبْعِينَ عَامًا وَذَلِكَ مَحَلُّ الْكُفَّارِ لا يَصِلُهُ عُصَاةُ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمَسَافَةَ الَّتِي تُوصِلُ إِلَى قَعْرِ جَهَنَّمَ هِيَ هَذِهِ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ أَنَّهُ بَيْنَمَا كَانَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ إِذْ سَمِعُوا وَجْبَةً أَيْ صَوْتًا فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَدْرُونَ مَا هَذَا» قَالُوا: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: «هَذَا حَجَرٌ رُمِيَ بِهِ فِي النَّارِ مُنْذُ سَبْعِينَ خَرِيفًا فَهُوَ يَهْوِي فِي النَّارِ الآنَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَعْرِهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ثُمَّ إِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ الأَشْيَاءِ هَلْ هِيَ كُفْرٌ أَمْ لا، فَقَالَ بَعْضٌ إِنَّهَا كُفْرٌ وَقَالَ بَعْضٌ إِنَّهَا لَيْسَتْ كُفْرًا. هَؤُلاءِ الْعُلَمَاءُ بَعْضُهُمْ مُجْتَهِدٌ اجْتِهَادًا مُطْلَقًا وَبَعْضُهُمْ مُجْتَهِدُونَ فِي الْمَذْهَبِ وَهَاكَ الْبَيَان. قَالَ فِي فَتَاوَى قَاضِيخَان مَا نَصُّهُ: رَجُلٌ صَلَّى إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ مُتَعَمِّدًا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ الله تَعَالَى أَنَّهُ يَكْفُرُ وَإِنْ أَصَابَ الْقِبْلَةَ، وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ رَحِمَهُ الله تَعَالَى، وَكَذَا إِذَا صَلَّى فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ أَوْ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ، وَبَعْضُ الْمَشَايِخِ قَالُوا إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِتَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/115] لا يَكُونُ كَافِرًا، وَقَالَ مَشَايِخُ بُخَارَا مِنْهُمُ الْقَاضِي الإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ السُّغْدِيُّ وَشَمْسُ الأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ رَحِمَهُ الله تَعَالَى: لَوْ صَلَّى إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ لا يَكْفُرُ وَكَذَا إِذَا صَلَّى فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ لِأَنَّ الصَّلاةَ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ جَائِزَةٌ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ وَهُوَ التَّطَوُّعُ عَلَى الدَّابَّةِ وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَوَّزَ الصَّلاةَ فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ [وَهُوَ قَوْلٌ لِمَالِكٍ مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ الْمَذْهَبِ] فَلا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ، أَمَّا إِذَا صَلَّى بِغَيْرِ الطَّهَارَةِ مُتَعَمِّدًا فَإِنَّهُ يَصِيرُ كَافِرًا، وَقَالَ شَمْسُ الأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ رَحِمَهُ الله تَعَالَى يَكُونُ زِنْدِيقًا لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُجَوِّزِ الصَّلاةَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ فَيَكُونُ اسْتِخْفَافًا بِالله تَعَالَى اهـ وَالْقَوْلُ الصَّحِيحُ الَّذِي يُوَافِقُ قَوَاعِدَ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ لا يَكْفُرُ وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْهُ الِاسْتِخْفَافُ بِالدِّينِ.



فَائِدَةٌ مُهِمَّةٌ . مَنْ يَأْتِي بِأَحْدَى أَنْوَاعِ هَذِهِ الْكُفْرِيَّاتِ هُوَ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُهُ الصَّالِحَةُ وَحَسَنَاتُهُ جَمِيعُهَا فَلا تُحْسَبُ لَهُ ذَرَّةٌ مِنْ حَسَنَةٍ كَانَ سَبَقَ لَهُ أَنْ عَمِلَهَا مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ صِيَامٍ أَوْ صَلاةٍ وَنَحْوِهَا. إِنَّمَا تُحْسَبُ لَهُ الْحَسَنَاتُ الْجَدِيدَةُ الَّتِي يَقُومُ بِهَا بَعْدَ تَجْدِيدِ إِيـمَانِهِ قَالَ تَعَالَى ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيـمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾ [سُورَةَ الْمَائِدَة/5].

الشَّرْحُ أَنَّ الشَّخْصَ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا ثُمَّ صَدَرَ مِنْهُ كُفْرٌ فَإِنَّ أَعْمَالَهُ الصَّالِحَةَ تَحْبَطُ كُلُّهَا فَيَخْسَرُ حَسَنَاتِهِ السَّابِقَةَ كُلَّهَا مِنْ صَلاةٍ أَوْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْخَيْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيـمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾ فَإِنْ رَجَعَ إِلَى الإِسْلامِ لَمْ تَرْجِعْ إِلَيْهِ حَسَنَاتُهُ الَّتِي خَسِرَهَا، وَأَمَّا ذُنُوبُهُ الَّتِي عَمِلَهَا فِي أَثْنَاءِ الرِّدَّةِ وَقَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّهَا لا تُمْحَى عَنْهُ بِرُجُوعِهِ إِلَى الإِسْلامِ وَإِنَّمَا الَّذِي يُغْفَرُ لَهُ بِذَلِكَ هُوَ الْكُفْرُ لا غَيْرُ، بِخِلافِ الْكَافِرِ الأَصْلِيِّ فَإِنَّ ذُنُوبَهُ تُمْحَى بِإِسْلامِهِ لِقَوْلِ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الإِسْلامُ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. أَمَّا حَسَنَاتُهُ الَّتِي كَانَ عَمِلَهَا قَبْلَ إِسْلامِهِ فَلا تُكْتَبُ لَهُ بَعْدَ أَنْ يُسْلِمَ، وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ وَمَنْ قَالَ بِأَنَّ حَسَنَاتِهِ تَعُودُ لَهُ فَهُوَ غَالِطٌ لَكِنْ لا يُكَفَّرُ إِنْ كَانَ مِمَّنْ يَخْفَى عَلَيْهِ الْحُكْمُ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَإِذَا قَالَ أَسْتَغْفِرُ الله قَبْلَ أَنْ يُجِدِّدَ إِيـمَانَهُ بِقَوْلِهِ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا الله وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله وَهُوَ عَلَى حَالَتِهِ هَذِهِ فَلا يَزِيدُهُ قَوْلُهُ أَسْتَغْفِرُ الله إِلَّا إِثْمًا وَكُفْرًا لِأَنَّهُ يُكَذِّبُ قَوْلَ الله تَعَالَى ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ الله لَهُمْ﴾ [سُورَةَ مُحَمَّد/34]، وَقَوْلَهُ تَعَالَى ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ [سُورَةَ النِّسَاء].

الشَّرْحُ أَنَّ مَنْ كَفَرَ ثُمَّ قَالَ أَسْتَغْفِرُ الله قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الإِسْلامِ بِالشَّهَادَتَيْنِ لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ شَيْئًا بَلْ يَزْدَادُ إِثْمًا وَكُفْرًا لِأَنَّهُ يَطْلُبُ الْمَغْفِرَةَ وَهُوَ عَلَى الْكُفْرِ وَالله تَعَالَى لا يَغْفِرُ كُفْرَ الْكَافِرِ وَذُنُوبَهُ وَهُوَ عَلَى كُفْرِهِ، وَمَنْ صَدَرَ مِنْهُ كُفْرٌ ثُمَّ تَشَهَّدَ عَلَى سَبِيلِ الْعَادَةِ مِنْ غَيْرِ الإِقْلاعِ عَنِ الْكُفْرِ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ كَفَرَ لا يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ وَلا يَرْجِعُ إِلَى الإِسْلامِ حَتَّى يُقْلِعَ عَنِ الْكُفْرِ فَيَتَشَهَّدَ بِنِيَّةِ الدُّخُولِ فِي الإِسْلامِ وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الإِسْلامِ بِالِاتِّفَاقِ فَإِنَّ مَنْ هُوَ مُقِيمٌ عَلَى الْكُفْرِ لا يَنْفَعُهُ التَّشَهُّدُ وَلَوْ تَكَرَّرَ مِنْهُ مِائَةَ مَرَّةٍ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: رَوَى ابْنُ حِبَّانَ عَنْ عِمْرَانَ بنِ الْحُصَيْنِ: أَتَى رَسُولَ الله رَجُلٌ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ، عَبْدُ الْمُطَّلِبِ خَيْرٌ لِقَوْمِهِ مِنْكَ كَانَ يُطْعِمُهُمُ الْكَبِدَ وَالسَّنَامَ وَأَنْتَ تَنْحَرُهُمْ فَقَالَ رَسُولُ الله مَا شَاءَ الله - مَعْنَاهُ رَدَّ عَلَيْهِ -، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ قَالَ: مَا أَقُولُ، قَالَ: «قُلِ اللهمَّ قِنِي شَرَّ نَفْسِي وَاعْزِمْ لِي عَلَى أَرْشَدِ أَمْرِي» فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ وَلَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ، ثُمَّ قَالَ لِرَسُولِ الله إِنِّي أَتَيْتُكَ فَقُلْتُ عَلِّمْنِي فَقُلْتَ: «قُلِ اللهمَّ قِنِي شَرَّ نَفْسِي وَاعْزِمْ لِي عَلَى أَرْشَدِ أَمْرِي»، فَمَا أَقُولُ الآنَ حِينَ أَسْلَمْتُ قَالَ: «قُلِ اللهمَّ قِنِي شَرَّ نَفْسِي وَاعْزِمْ لِي عَلَى أَرْشَدِ أَمْرِي اللهمَّ اغْفِرْ لِي مَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا عَمَدْتُ وَمَا أَخْطَأْتُ وَمَا جَهِلْتُ»

الشَّرْحُ قَوْلُهُ أَتَى رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ الله أَيْ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَمَّا السَّنَامُ فَهُوَ سَنَامُ الإِبِلِ وَهُوَ طَعَامٌ فَاخِرٌ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَقَوْلُهُ «وَأَنْتَ تَنْحَرُهُمْ» أَيْ تَقْتُلُهُمْ فِي الْجِهَادِ، وَقَوْلُهُ فَقَالَ رَسُولُ الله مَا شَاءَ الله مَعْنَاهُ أَنَّ الرَّسُولَ رَدَّ عَلَيْهِ بِمَا شَاءَ الله لَهُ مِنَ الْكَلامِ. ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الإِنْسَانَ مَا دَامَ كَافِرًا لا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقُولَ اللهمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَكَانَ الرَّسُولُ عَلَّمَهُ من الأَوَّلِ الِاسْتِغْفَارَ اللَّفْظِيَّ وَلَكِنَّهُ لَمْ يُعَلِّمْهُ الِاسْتِغْفَارَ اللَّفْظِيَّ إِلَّا بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ أَلَيْسَ كَانَ نُوحٌ يَقُولُ لِقَوْمِهِ الَّذِينَ هُمْ عَلَى عِبَادَةِ الأَوْثَانِ: ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾ [سُورَةَ نُوح/10] فَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ﴾ أَيِ اطْلُبُوا مَغْفَرِةَ الله بِالدُّخُولِ فِي الإِسْلامِ بِتَرْكِ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ وَالإِيـمَانِ بِالله وَحْدَهُ وَالإِيـمَانِ بِي أَنِّي نَبِيُّ الله، وَكَذَلِكَ الِاسْتِغْفَارُ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى فِي الْقُرْءَانِ مَعْنَاهُ طَلَبُ الْغُفْرَانِ بِالدُّخُولِ فِي الإِسْلامِ لِأَنَّ الإِسْلامَ يَمْحُو الله بِهِ الْكُفْرَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ﴾ [سُورَةَ الأَنْفَال/38] وَلَيْسَ الْمُرَادُ فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ قَوْلَ أَسْتَغْفِرُ الله أَوْ رَبِّ اغْفِرْ لِي أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذِهِ الآيَةُ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْكَافِرَ الأَصْلِيَّ وَالْمُسْلِمَ الَّذِي كَفَرَ بِقَوْلِ كُفْرٍ أَوْ فِعْلِ كُفْرٍ أَوِ اعْتِقَادٍ كُفْرِيٍّ إِنْ رَجَعَ عَنْهُ فَدَخَلَ فِي الإِسْلامِ يُغْفَرُ لَهُ لا وَسِيلَةَ غَيْرُ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ كَافِرًا أَصْلِيًّا يُغْفَرُ لَهُ كُلُّ ذُنُوبِهِ الْكُفْرُ وَمَا سِوَاهُ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا ارْتَدَّ يُغْفَرُ لَهُ كُفْرُهُ فَقَطْ.

تَنْبِيهٌ مُهِمٌّ: فِي تَحْرِيْمِ الدُّعَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِمَغْفِرَةِ جَمِيعِ الذُّنُوبِ: قَالَ الشَّوْبَرِيُّ فِي تَجْرِيدِهِ حَاشِيَةَ الرَّمْلِيِّ الْكَبِيرِ مَا نَصُّهُ: «وَجَزَمَ ابْنُ عَبْدِ السَّلامِ فِي الأَمَالِي وَالْغَزَالِيُّ بِتَحْرِيْمِ الدُّعَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِمَغْفِرَةِ جَمِيعِ الذُّنُوبِ وَبِعَدَمِ دُخُولِهِمُ النَّارَ، لِأَنَّا نَقْطَعُ بِخَبَرِ الله تَعَالَى وَخَبَرِ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ. وَأَمَّا الدُّعَاءُ بِالْمَغْفِرَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [سُورَةَ نُوح/28] وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ وَرَدَ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ فِي سِيَاقِ الإِثْبَاتِ، وَذَلِكَ لا يَقْتَضِي الْعُمُومَ لِأَنَّ الأَفْعَالَ نَكِرَاتٌ، وَلِجَوَازِ قَصْدِ مَعْهُودٍ خَاصٍّ وَهُوَ أَهْلُ زَمَانِهِ مَثَلًا» اهـ. وَكَذَا ذَكَرَ الرَّمْلِيُّ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ، فَلَيْسَ مَعْنَى الآيَةِ اغْفِرْ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ جَمِيعَ ذُنُوبِهِمْ.

وَهَذَا الدُّعَاءُ أَيْ بِعَدَمِ دُخُولِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الإِسْلامِ النَّارَ فِيهِ رَدٌّ لِلنُّصُوصِ، وَرَدُّ النُّصُوصِ كُفْرٌ كَمَا قَالَ النَّسَفِيُّ فِي عَقِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ، وَقَدْ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ: «وَالأَمْنُ وَالإِيَاسُ يَنْقُلانِ عَنْ مِلَّةِ الإِسْلامِ»، وَهَذِهِ عَقِيدَةُ الْمُرْجِئَةِ، وَهُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ مِنْ أَهْلِ الأَهْوَاءِ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِمْ لا يَضُرُّ مَعَ الإِسْلامِ ذَنْبٌ كَمَا لا تَنْفَعُ مَعَ الْكُفْرِ حَسَنَةٌ.

تَنْبِيهٌ: إِذَا شَخْصٌ وَقَعَ فِي كُفْرِيَّةٍ ثُمَّ لَمَّا تَعَلَّمَ عَرَفَ أَنَّهَا كُفْرٌ وَلَمْ يَتَذَكَّرْ أَنَّهُ قَالَهَا فَصَارَ يَتَلَفَّظُ بِالشَّهَادَتَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْعَادَةِ مِنْ دُونِ اسْتِحْضَارٍ لِمَا حَصَلَ مِنْهُ قَبْلُ وَلَوْ تَذَكَّرَ هَذِهِ الْمُدَّةَ لَتَشَهَّدَ لِلْخَلاصِ ثُمَّ بَعْدَ أَيَّامٍ تَذَكَّرَ أَنَّهُ قَالَهَا وَقَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَتَشَهَّدْ قَطُّ لِلْخَلاصِ مِنْ كُفْرٍ وَقَعَ فِيهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ حَصَلَ مِنْهُ فَشَهَادَتُهُ الَّتِي تَشَهَّدَهَا عَلَى سَبِيلِ الْعَادَةِ تَكْفِيهِ، لِأَنَّهُ كَانَ أَرَادَ الْبُعْدَ مِنَ الْكُفْرِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَمِنْ أَحْكَامِ الرِّدَّةِ أَنْ يَنْفَسِخَ نِكَاحُ زَوْجَتِهِ أَيْ عَقْدُ الزِّوَاجِ الشَّرْعِيِّ فَتَكُونُ الْعَلاقَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ كُفْرِهِ عَلاقَةً غَيْرَ شَرْعِيَّةٍ فَجِمَاعُهُ لَهَا زِنًى، وَلا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكْفُرَ الزَّوْجُ وَبَيْنَ أَنْ تَكْفُرَ الزَّوْجَةُ.

الشَّرْحُ أَنَّ الرِّدَّةَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَحْكَامٌ عَدِيدَةٌ مِنْهَا أَنَّ الْمُرْتَدَّ يَفْسُدُ صِيَامُهُ وَتَيَمُّمُهُ ونِكَاحُهُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَكَذَا بَعْدَهُ إِنْ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى الإِسْلامِ فِي الْعِدَّةِ، وَلا يَصِحُّ عَقْدُ نِكَاحِهِ لا عَلَى مُسْلِمَةٍ وَلا كَافِرَةٍ وَلَوْ مُرْتَدَّةٍ مِثْلِهِ. وَلا فَرْقَ فِي حُكْمِ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ بَيْنَ أَنْ يَرْتَدَّ الزَّوْجُ أَوْ تَرْتَدَّ الزَّوْجَةُ، وَلَوِ ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا وَعَرَفَ الآخَرُ بِذَلِكَ ثُمَّ حَصَلَ جِمَاعٌ بَيْنَهُمَا فَهُوَ زِنًى مِنْهُمَا وَكِلاهُمَا ءَاثِمٌ وَالْوَلَدُ مِنْ هَذَا الزِّنَى لا يُنْسَبُ إِلَى الرَّجُلِ، وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَعْرِفِ الثَّانِي فَالإِثْمُ عَلَى الْمُرْتَدِّ مِنْهُمَا فَقَطْ.

تَنْبِيهٌ: الْكُفَّارُ الأَصْلِيُّونَ نِكَاحُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ نِكَاحٌ وَزِنَاهُمْ زِنًى فَلِذَلِكَ نَقُولُ خَالِدُ بنُ الْوَلِيدِ وَعُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ فَنَنْسُبُ كُلًّا مِنْهُمَا إِلَى أَبِيهِ مَعَ أَنَّهُمَا وُلِدَا وَأَبَوَاهُمَا مُشْرِكَانِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.



عَوْدٌ إِلَى تَقْسِيمِ الْكُفْرِ لِزِيَادَةِ فَائِدَةٍ . وَاعْلَمْ أَنَّ الْكُفْرَ ثَلاثَةُ أَبْوَابٍ: إِمَّا تَشْبِيهٌ، أَوْ تَكْذِيبٌ، أَوْ تَعْطِيلٌ.

الشَّرْحُ أَنَّ أَبْوَابَ الْكُفْرِ ثَلاثَةٌ تَشْبِيهٌ أَيْ تَشْبِيهُ الله بِخَلْقِهِ، وَتَكْذِيبٌ أَيْ لِلشَّرْعِ، وَتَعْطِيلٌ أَيْ نَفْيُ وُجُودِ الله تَعَالَى.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: أَحَدُهَا التَّشْبِيهُ: أَيْ تَشْبِيهُ الله بِخَلْقِهِ كَمَنْ يَصِفُهُ بِالْحُدُوثِ أَوِ الْفَنَاءِ أَوِ الْجِسْمِ أَوِ اللَّوْنِ أَوِ الشَّكْلِ أَوِ الْكَمِيَّةِ أَيْ مِقْدَارِ الْحَجْمِ، أَمَّا مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «إِنَّ الله جَمِيلٌ» فَلَيْسَ مَعْنَاهُ جَمِيلَ الشَّكْلِ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ جَمِيلُ الصِّفَاتِ أَوْ مُحْسِنٌ.

الشَّرْحُ أَنَّ مَنْ وَقَعَ فِي التَّشْبِيهِ فَعَبَدَ صُورَةً مَا أَوْ خَيَالًا تَخَيَّلَهُ يَكُونُ بِذَلِكَ مِنَ الْكَافِرِينَ الْخَارِجِينَ عَنْ مِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ مِنْهُمْ. لِأَنَّ الَّذِي يُشَبِّهُ الله بِخَلْقِهِ يَكُونُ مُكَذِّبًا لِـ «لا إِلَهَ إِلَّا الله» مَعْنًى وَلَوْ قَالَهَا لَفْظًا. وَمَعْنَى إِنَّ الله جَمِيلُ الصِّفَاتِ أَيْ صِفَاتُهُ كَامِلَةٌ، وَقَوْلُهُ «أَوْ مُحْسِنٌ» أَيْ يُحْسِنُ لِعِبَادِهِ وَيَتَكَرَّمُ عَلَيْهِمْ بِنِعَمِهِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَهُوَ: «إِنَّ الله نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ» فَمَعْنَاهُ مُنَزَّهٌ عَنِ السُّوءِ وَالنَّقْصِ، وَقَوْلُهُ: «يُحِبُّ النَّظَافَةَ» أَيْ يُحِبُّ لِعِبَادِهِ نَظَافَةَ الْخُلُقِ وَالْعَمَلِ وَالثَّوْبِ وَالْبَدَنِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: ثَانِيهَا التَّكْذِيبُ: أَيْ تَكْذِيبُ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْءَانِ الْكَرِيْمِ أَوْ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهٍ ثَابِتٍ وَكَانَ مِمَّا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ كَاعْتِقَادِ فَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، أَوْ أَنَّ الْجَنَّةَ لَذَّاتٌ غَيْرُ حِسِيَّةٍ، وَأَنَّ النَّارَ ءَالامٌ مَعْنَوِيَّةٌ، أَوْ إِنْكَارِ بَعْثِ الأَجْسَادِ وَالأَرْوَاحِ مَعًا أَوِ إِنْكَارِ وُجُوبِ الصَّلاةِ أَوِ الصِّيَامِ أَوِ الزَّكَاةِ، أَوِ اعْتِقَادِ تَحْرِيْمِ الطَّلاقِ أَوِ تَحْلِيلِ الْخَمْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ثَبَتَ بِالْقَطْعِ وَظَهَرَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.

الشَّرْحُ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَالْعِيَاذُ بِالله كُفْرَ التَّكْذِيبِ وَيَكُونُ بِتَكْذِيبِ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْءَانُ مِمَّا هُوَ ظَاهِرٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ كَتَحْلِيلِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ أَوْ بِرَدِّ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِأَنَّ هَذَا الأَمْرَ مِمَّا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، فَمَنْ جَحَدَ خَبَرَ الْقُرْءَانِ وَمَا قَدْ ثَبَتَ عِنْدَهُ أَنَّ رَسُولَ الله جَاءَ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ لا شَكَّ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا إِنْ سَمِعَ حَدِيثًا يُوهِمُ ظَاهِرُهُ أَنَّ لِلَّهِ جَوَارِحَ فَأَنْكَرَهُ جَهْلًا مِنْهُ فَإِنَّهُ لا يَكْفُرُ وَذَلِكَ كَأَنْ سَمِعَ حَدِيثَ: «وَلا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا» فَأَنْكَرَهُ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ مُفْتَرًى عَلَى الرَّسُولِ وَأَنَّ فِيهِ إِثْبَاتَ الْجَوَارِحِ لِلَّهِ فَإِنَّهُ لا يَكْفُرُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ مَعْنَاهُ أَحْفَظُ لَهُ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَيَدَهُ وَرِجْلَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَيْ أُعْطِيهِ قُوَّةً غَرِيبَةً فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَيَدِهِ وَرِجْلِهِ.

وَمِنْ كُفْرِ التَّكْذِيبِ أَيْضًا اعْتِقَادُ فَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ أَوْ إِحْدَاهُمَا وَهُوَ كُفْرٌ بِالإِجْمَاعِ، وَمِثْلُهُ فِي الْحُكْمِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْجَنَّةَ لَذَّاتُهَا مَعْنَوِيَّةٌ فَقَطْ أَوْ أَنَّ النَّارَ لَيْسَ فِيهَا ءَالامٌ حِسِيَّةٌ لِأَنَّ هَذَا إِنْكَارٌ لِنُصُوصِ الشَّرْعِ الصَّرِيْحَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ الْمَعْرُوفَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ الْعُلَمَاءِ وَالْعَوَامِّ. وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ فِيهَا لَذَّاتٌ حِسِيَّةٌ ءَايَاتٌ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾ [سُورَةَ الْحَاقَّة/24]، وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ النَّارَ فِيهَا ءَالامٌ حِسِيَّةٌ ءَايَاتٌ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ [سُورَةَ النِّسَاء/56].

وَمن التَّكْذِيبِ لِلشَّرْعِ إِنْكَارُ بَعْثِ الأَرْوَاحِ وَالأَجْسَادِ مَعًا فَإِنِ اعْتَقَدَ مُعْتَقِدٌ أَنَّ الأَرْوَاحَ تُبْعَثُ فَقَطْ دُونَ الأَجْسَادِ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ وَالْعِيَاذُ بِالله تَعَالَى، وَالنُّصُوصُ الصَّرِيْحَةُ بِبَعْثِ الأَجْسَادِ كَثِيرَةٌ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ﴾ [سُورَةَ الأَنْبِيَاء/104] وَهَذَا الأَمْرُ مَعْلُومٌ عِنْدَ الْجَاهِلِ وَالْعَالِمِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَمِنَ الْكُفْرِ إِنْكَارُ أَيِّ أَمْرٍ مَعْلُومٍ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ كَإِنْكَارِ وُجُوبِ الصَّلاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ، ونَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الشِّفَا الإِجْمَاعَ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ أَنْكَرَ وُجُوبَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَعَدَدَ رَكَعَاتِهَا وَسَجَدَاتِهَا. وَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَنْ يَعْتَقِدُ تَحْرِيْمَ الطَّلاقِ عَلَى الإِطْلاقِ فَإِنَّ فَسَادَ هَذَا ظَاهِرٌ بَيْنَ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَائِهِمْ، وَمِثْلُهُ حُكْمُ مَنْ أَحَلَّ شُرْبَ الْخَمْرِ فَقَدْ أَجْمَعَ عَلَى تَحْرِيْمِهَا الأَئِمَّةُ مِنْ عَهْدِ صَحَابَةِ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَيَّامِنَا هَذِهِ وَانْتَشَرَ هَذَا الْحُكْمُ وَشُهِرَ حَتَّى بَيْنَ مَنْ يَشْرَبُهَا مِنَ الأُمَّةِ وَلِذَلِكَ جَزَمَ الْعُلَمَاءُ بِتَكْفِيرِ مَنْ أَحَلَّ شُرْبَهَا مُطْلَقًا، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ وَشَذَّ رَعَاعٌ مُرَادُهُمْ هَدْمُ الدِّينِ وَإِفْسَادُ الشَّرْعِ وَإِشَاعَةُ الْفَوَاحِشِ وَالرَّذَائِلِ فَزَعَمُوا أَنْ لَيْسَ فِي الْقُرْءَانِ نُصُوصٌ عَلَى تَحْرِيْمِ الْخَمْرِ بَلْ غَايَةُ مَا جَاءَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالأَنْصَابِ وَالأَزْلامِ ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾ وَغَرَضُهُمْ بِهَذَا الْكَلامِ الْمُمَوَّهِ التَّوَصُّلُ إِلَى إِبَاحَةِ الْخَمْرِ، قَالَ الله تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنْتَهُونَ﴾ [سُورَةَ الْمَائِدَة]، فَقَوْلُهُ ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾ مَعَ قَوْلِهِ ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنْتَهُونَ﴾ يُفْهِمَانِ التَّحْرِيْمَ الشَّدِيدَ وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ لَمَّا سَمِعَهَا: «انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَأَرَاقَ الْمُسْلِمُونَ لَمَّا نَزَلَتْ ءَايَةُ التَّحْرِيْمِ الْخَمْرَ حَتَّى جَرَتْ فِي شَوَارِعِ الْمَدِينَةِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَهَذَا بِخِلافِ مَنْ يَعْتَقِدُ بِوُجُوبِ الصَّلاةِ عَلَيْهِ مَثَلًا لَكِنَّهُ لا يُصَلِّي فَإِنَّهُ يَكُونُ عَاصِيًا لا كَافِرًا كَمَنْ يَعْتَقِدُ عَدَمَ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ.

الشَّرْحُ هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ لا يَكْفُرُ إِذَا لَمْ يَسْتَحِلَّهَا.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: ثَالِثُهَا التَّعْطِيلُ: أَيْ نَفْيُ وُجُودِ الله وَهُوَ أَشَدُّ الْكُفْرِ.

الشَّرْحُ كَالشُّيُوعِيَّةِ النَّافِينَ لِوُجُودِهِ تَعَالَى وَهَذَا أَشَدُّ الْكُفْرِ عَلَى الإِطْلاقِ. وَكَذَلِكَ كُفْرُ الْوَحْدَةِ الْمُطْلَقَةِ وَكُفْرُ الْحُلُولِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَحُكْمُ مَنْ يُشَبِّهُ الله بِخَلْقِهِ التَّكْفِيرُ قَطْعًا.

الشَّرْحُ أَنَّ مَنْ يُشَبِّهُ الله تَعَالَى بِخَلْقِهِ فَهُوَ كَافِرٌ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشَبِّهَ لا يَعْبُدُ الله تَعَالَى وَإِنَّمَا يَعْبُدُ صُورَةً تَخَيَّلَهَا وَتَوَهَّمَهَا وَمَنْ عَبَدَ غَيْرَ الله فَلا يَكُونُ مُسْلِمًا.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَالسَّبِيلُ إِلَى صَرْفِ التَّشْبِيهِ اتِّبَاعُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْقَاطِعَةِ: «مَهْمَا تَصَوَّرْتَ بِبَالِكَ فَالله بِخِلافِ ذَلِكَ» وَهِيَ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/11].

الشَّرْحُ أَنَّ السَّبِيلَ لِصَرْفِ التَّشْبِيهِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى التَّنْزِيهِ هُوَ اتِّبَاعُ قَوْلِ ذِي النُّونِ الْمِصْرِيِّ: «مَهْمَا تَصَوَّرْتَ بِبَالِكَ فَالله بِخِلافِ ذَلِكَ» رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي تَارِيخَ بَغْدَادَ، لِأَنَّ مَا يَتَصَوَّرُهُ الإِنْسَانُ بِبَالِهِ خَيَالٌ وَمِثَالٌ وَالله مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، فَهَذِهِ قَاعِدَةٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِ الله تَعَالَى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/11].

وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ يَنْقُلُهَا الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي تَارِيخِ بَغْدَادَ بِإِسْنَادٍ مُتَّصِلٍ إِلَى ذِي النُّونِ الْمِصْرِيِّ وَاسْمُهُ ثَوْبَانُ بنُ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ مِنَ الصُّوفِيَّةِ الصَّادِقِينَ الأَكَابِرِ مِمَّنْ جَمَعَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، تَلَقَّى الْحَدِيثَ مِنَ الإِمَامِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ، وَأَفَاضَ الله عَلَى قَلْبِهِ جَوَاهِرَ الْحِكَمِ، وَهَذَا الْقَوْلُ نَقَلَهُ أَيْضًا أَبُو الْفَضْلِ التَّمِيمِيُّ الْحَنْبَلِيُّ [فِي كِتَابِهِ اعْتِقَادُ الإِمَامِ الْمُبَجَّلِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ] عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ رَضِيَ الله عَنْهُ.

وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ الأَنْصَارِيُّ مِنْ أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لا فِكْرَةَ فِي الرَّبِّ» أَيْ أَنَّ الله لا يُدْرِكُهُ الْوَهْمُ لِأَنَّ الْوَهْمَ يُدْرِكُ الأَشْيَاءَ الَّتِي لَهَا وُجُودٌ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا كَالإِنْسَانِ وَالْغَمَامِ وَالْمَطَرِ وَالشَّجَرِ وَالضَّوْءِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ الله لا يَجُوزُ تَصَوُّرُهُ بِكَيْفِيَّةٍ وَشَكْلٍ وَمِقْدَارٍ وَمِسَاحَةٍ وَلَوْنٍ وَكُلِّ مَا هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْخَلْقِ.

وَكَذَلِكَ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾ [سُورَةَ النَّجْم/42] أَنَّهُ لا تُدْرِكُهُ تَصَوُّرَاتُ الْعِبَادِ وَأَوْهَامُهُمْ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَمُلاحَظَةُ مَا رُوِيَ عَنِ الصِّدِّيقِ (شِعْرٌ مِنَ الْبَسِيطِ)

الْعَجْزُ عَنْ دَرَكِ الإِدْرَاكِ إِدْرَاكٌ # وَالْبَحْثُ عَنْ ذَاتِهِ كُفْرٌ وَإِشْرَاكُ [رَوَاهُ الْفَقِيهُ الْمُحَدِّثُ بَدْرُ الدِّينِ الزَّرْكَشِيُّ الشَّافِعِيُّ].

الشَّرْحُ مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّ الإِنْسَانَ إِذَا عَرَفَ الله تَعَالَى بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ لا كَالْمَوْجُودَاتِ وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ لا يُمْكِنُ تَصْوِيرُهُ فِي النَّفْسِ وَاقْتَصَرَ عَلَى هَذَا وَاعْتَرَفَ بِالْعَجْزِ عَنْ إِدْرَاكِهِ أَيْ عَنْ مَعْرِفَةِ حَقِيقَتِهِ وَلَمْ يَبْحَثْ عَنْ ذَاتِ الله لِلْوُصُولِ إِلَى حَقِيقَةِ الله فَهَذَا إِيـمَانٌ، وَهَذَا يُقَالُ عَنْهُ عَرَفَ الله وَإِنَّهُ سَلِمَ مِنَ التَّشْبِيهِ، أَمَّا الَّذِي لا يَكْتَفِي بِذَلِكَ وَيُرِيدُ بِزَعْمِهِ أَنْ يَعْرِفَ حَقِيقَتَهُ وَيَبْحَثَ عَنْ ذَاتِهِ وَلا يَكْتَفِي بِهَذَا الْعَجْزِ فَيَتَصَوَّرُهُ كَالإِنْسَانِ أَوْ كَكُتْلَةٍ نُورَانِيَّةٍ أَوْ يَتَصَوَّرُهُ حَجْمًا مُسْتَقِّرًا فَوْقَ الْعَرْشِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَهَذَا كَفَرَ بِالله تَعَالَى.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: لا يَعْرِفُ الله عَلَى الْحَقِيقَةِ إِلَّا الله تَعَالَى. وَمَعْرِفَتُنَا نَحْنُ بِالله تَعَالَى لَيْسَتْ عَلَى سَبِيلِ الإِحَاطَةِ بَلْ بِمَعْرِفَةِ مَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى كَوُجُوبِ الْقِدَمِ لَهُ، وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ تَعَالَى كَاسْتِحَالَةِ الشَّرِيكِ لَهُ وَ مَا يَجُوزُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى كَخَلْقِ شَىْءٍ وَتَرْكِهِ.

الشَّرْحُ أَنَّ مَعْرِفَتَنَا بِالله تَعَالَى لَيْسَتْ عَلَى سَبِيلِ الإِحَاطَةِ إِذْ لا يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ الله تَعَالَى عَلَى الْحَقِيقَةِ حَتَّى الأَنْبِيَاءُ وَالأَوْلِيَاءُ لا يَعْرِفُونَ الله تَعَالَى بِالإِحَاطَةِ وَإِنَّمَا الله تَعَالَى عَالِمٌ بِذَاتِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَبِمَا يُحْدِثُهُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، وَمَعْرِفَتُنَا نَحْنُ بِالله إِنَّمَا هِيَ بِمَعْرِفَةِ مَا يَجِبُ لِلَّهِ مِنَ الصِّفَاتِ كالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالإِرَادَةِ وَالْقِدَمِ، وَمَعْرِفَةِ مَا يَسْتَحِيلُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى كَالْعَجْزِ وَالْحَجْمِ وَالشَّرِيكِ، وَمَعْرِفَةِ مَا يَجُوزُ فِي حَقِّهِ سُبْحَانَهُ كَإِيْجَادِ شَىْءٍ وَإِعْدَامِهِ، فَالله تَعَالَى يَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَ مَا يَشَاءُ وَيَتْرُكَ مَا يَشَاءُ أَيْ لا يَخْلُقَهُ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: قَالَ الإِمَامُ الرِّفَاعِيُّ: «غَايَةُ الْمَعْرِفَةِ بِالله الإِيقَانُ بِوُجُودِهِ تَعَالَى بِلا كَيْفٍ وَلا مَكَانٍ». [وَالرِّفَاعِيُّ هُوَ أَحْمَدُ بنُ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيٌّ وَكَانَ مِمَّنْ جَمَعَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَالزُّهْدِ. كَانَ فَقِيهًا مُحَدِّثًا مُفَسِّرًا أَلَّفَ تَآلِيفَ مِنْهَا كِتَابُ شَرْحِ التَّنْبِيهِ فِي الْفِقْهِ الشَّافِعِيِّ وَأَلَّفَ فِي الْحَدِيثِ أَرْبَعِينَ حَدِيثًا بِالإِسْنَادِ، تُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسِمِائَةٍ وَثَمَانِيَةٍ وَسَبْعِينَ. أَلَّفَ فِي تَرْجَمَتِهِ الإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الرَّافِعِيُّ تَأْلِيفًا سَمَّاهُ «سَوَادَ الْعَيْنَيْنِ فِي مَنَاقِبِ أَبِي الْعَلَمَيْنِ»]

الشَّرْحُ أَنَّ أَقْصَى مَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْعَبْدُ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِالله الإِيقَانُ أَيِ الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ الَّذِي لا شَكَّ فِيهِ بِوُجُودِ الله تَعَالَى بِلا كَيْفٍ وَلا مَكَانٍ، فَقَوْلُهُ بِلا كَيْفٍ صَرِيحٌ فِي نَفْيِ الْجِسْمِ وَالْحَيِّزِ وَالشَّكْلِ وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَالِاتِّصَالِ وَالِانْفِصَالِ وَالْقُعُودِ إِذْ كُلُّ ذَلِكَ شَىْءٌ غَيْرُهُ وَالله مُنَزَّهٌ عَنْهُ. فَالْكَيْفُ يَشْمَلُ كُلَّ مَا كَانَ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، فَمَنْ أَيْقَنَ بِأَنَّ الله مَوْجُودٌ بِلا كَيْفٍ وَلا مَكَانٍ فَقَدْ وَصَلَ إِلَى غَايَةِ مَا يَبْلُغُ الإِنْسَانُ مِنْ مَعْرِفَةِ الله.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: فَائِدَةٌ . قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ: إِنَّهُ (أَيِ الله) أَزَلِيٌّ لَيْسَ لِوُجُودِهِ أَوَّلٌ وَلَيْسَ لِوُجُودِهِ ءَاخِرٌ. وَإِنَّهُ لَيْسَ بِجَوْهَرٍ يَتَحَيَّزُ بَلْ يَتَعَالَى وَيَتَقَدَّسُ عَنْ مُنَاسَبَةِ الْحَوَادِثِ وَإِنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ مُؤَلَّفٍ مِنْ جَوَاهِرَ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ صَانِعَ الْعَالَمِ جِسْمٌ لَجَازَ أَنْ تُعْتَقَدَ الأُلُوهِيَّةُ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَوْ لِشَىْءٍ ءَاخَرَ مِنْ أَقْسَامِ الأَجْسَامِ فَإِذًا لا يُشْبِهُ شَيْئًا وَلا يُشْبِهُهُ شَىْءٌ بَلْ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَأَنَّى يُشْبِهُ الْمَخْلُوقُ خَالِقَهُ وَالْمُقَدَّرُ مُقَدِّرَهُ وَالْمُصَوَّرُ مُصَوِّرَهُ [وَالْخَلْقُ الْمُقَدَّرُ أَيْ لَهُ كَمِيَّةٌ هَذَا شَكْلُهُ مُرَبَّعٌ وَهَذَا شَكْلُهُ غَيْرُ ذَلِكَ وَهَذَا حَارٌّ وَهَذَا بَارِدٌ].

الشَّرْحُ الْعَالَمُ جَوَاهِرُ وَأَعْرَاضٌ، وَالْجَوْهَرُ عِنْدَ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ أَصْلُ الشَّىْءِ وَهُوَ مَا لَهُ تَحَيُّزٌ وَقِيَامٌ بِذَاتِهِ كَالأَجْسَامِ فَمَا لَهُ حَجْمٌ كَثِيفٌ كَالْعَرْشِ وَالشَّجَرِ وَالْحَجَرِ وَالسَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالإِنْسَانِ وَالنَّبَاتِ أَوْ لَطِيفٌ كَالرِّيحِ وَالنُّورِ وَالرُّوحِ وَالْجِنِّ وَالْمَلائِكَةِ يُقَالُ لَهُ جَوْهَرٌ. وَالْجَوْهَرُ إِمَّا مُرَكَّبٌ وَإِمَّا مُفْرَدٌ فَالْمُفْرَدُ هُوَ الْجَوْهَرُ الْفَرْدُ، وَالْمُرَكَّبُ مَا تَرَكَّبَ مِنْ جَوْهَرَيْنِ فَأَكْثَرَ.

وَأَمَّا الْعَرَضُ فهُوَ صِفَاتُ الْجَوْهَرِ كَحَرَكَةِ الْجِسْمِ وَسُكُونِهِ وَالْبُرُودَةِ وَالْحَرَارَةِ وَالتَّحَيُّزِ فِي مَكَانٍ وَجِهَةٍ، فَالنَّارُ جَوْهَرٌ وَحَرَارَتُهَا عَرَضٌ وَالرِّيحُ جَوْهَرٌ وَحَرَارَتُهَا أَوْ بُرُودَتُهَا عَرَضٌ. وَأَصْغَرُ الأَشْيَاءِ يُقَالُ لَهُ الْجَوْهَرُ الْفَرْدُ وَهُوَ الْجُزْءُ الَّذِي لا يَتَجَزَّأُ مِنْ تَنَاهِيهِ فِي الْقِلَّةِ، وَالْجِسْمُ مَا تَرَكَّبَ مِنْ جَوْهَرَيْنِ فَأَكْثَرَ بِأَنْ يَنْضَمَّ إِليه جَوْهَرٌ ءَاخَرُ فَيَصِيرُ قَابِلًا لِلْقِسْمَةِ، فَالله تَعَالَى لا يُشْبِهُ ذَلِكَ كُلَّهُ بَلْ يَتَنَزَّهُ عَنْ مُشَابَهَةِ الْحَوَادِثِ، وَلَيْسَ لَهُ حَدٌّ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْحَدَّ هُوَ مِقْدَارُ الْجِرْمِ، فَمِقْدَارُ الْجَسَدِ يُقَالُ لَهُ الْحَدُّ وَالشَّمْسُ لَهَا حَدٌّ وَهِيَ مَعَ عُظْمِ نَفْعِهَا مُسَخَّرَةٌ لِغَيْرِهَا وَالله هُوَ خَالِقُهَا لِأَنَّ الشَّمْسَ لا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مُدَبِّرَةً لِلْعَالَمِ لِأَنَّ لَهَا حَجْمًا وَمِقْدَارًا وَجِهَةً وَمَكَانًا فَلَوْ كَانَتِ الأُلُوهِيَّةُ تَصِحُّ لِلأَجْسَامِ لَصَحَّتْ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَتِ الأُلُوهِيَّةُ تَصِحُّ لِشَىْءٍ مِنَ الأَجْسَامِ لَكَانَتِ الشَّمْسُ أَوْلَى بِالأُلُوهِيَّةِ لِكَثْرَةِ مَنَافِعِهَا وَحُسْنِ لَوْنِهَا مِمَّا هُوَ مَحْسُوسٌ لِكُلِّ الْخَلْقِ. فَكُلُّ مَا لَهُ حَيِّزٌ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا، وَالتَّحَيُّزُ هُوَ أَخْذُ مِقْدَارٍ مِنَ الْفَرَاغِ، فَالنُّورُ يَأْخُذُ مَسَافَةً وَالظَّلامُ يَأْخُذُ مَسَافَةً، وَالرِّيحُ كَذَلِكَ، فَالله تَعَالَى بِمَا أَنَّهُ لَيْسَ حَجْمًا كَثِيفًا وَلا لَطِيفًا لا يَجُوزُ فِي حَقِّهِ أَنْ يَأْخُذَ قَدْرًا مِنَ الْفَرَاغِ. فَلَوْ قَالَ أَحَدُ عَبَدَةِ الشَّمْسِ الْمُلْحِدِينَ لِمُسْلِمٍ: أَنْتَ تَقُولُ إِنَّ دِينِي هُوَ الصَّحِيحُ وَتَقُولُ عَنِّي إِنَّ دِينِيَ بَاطِلٌ فَأَيْنَ الدَّلِيلُ، فَإِنْ قَالَ لَهُ هذا الْمُسْلِمُ قَالَ الله تَعَالَى: ﴿أَفِي الله شَّكٌّ﴾ [سُورَةَ إِبْرَاهِيم/10] يَقُولُ الْمُلْحِدُ: أَنَا لا أُؤْمِنُ بِكِتَابِكَ أَعْطِنِي دَلِيلًا عَقْلِيًّا، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْمُسْلِمُ يَفْهَمُ الدَّلِيلَ الْعَقْلِيَّ وَالدَّلِيلَ النَّقْلِيَّ عَلَى وَجْهِهِ يَقُولُ: هَذِهِ الشَّمْسُ لَهَا هَيْئَةٌ وَشَكْلٌ وَحُدُودٌ وَالشَّىْءُ الْمَحْدُودُ يَحْتَاجُ إِلَى حَادٍّ حَدَّهُ بِهَذَا الْحَدِّ، ثُمَّ هِيَ مُتَطَوِّرَةٌ وَالْمُتَطَوِّرُ يَحْتَاجُ إِلَى مُطَوِّرٍ لَهُ فَهَذِهِ لا تَصْلُحُ عَقْلًا أَنْ تَكُونَ إِلَهًا كَمَا أَنْتَ تَزْعُمُ، وَأَمَّا دِينِي فَحَقٌّ لِأَنَّ دِينِي يَقُولُ إِنَّ صَانِعَ الْعَالَمِ لا يُشْبِهُهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ مُنَزَّهٌ عَنِ الْحَدِّ وَالْمَكَانِ وَالشَّكْلِ وَالْكَيْفِيَّةِ مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ مَا فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنْ صِفَةٍ، فَلِذَلِكَ دِينِي هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ فَيَكُونُ هَذَا الْمُسْلِمُ قَطَعَ بِهَذَا الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ عَابِدَ الشَّمْسِ وَأَدْحَضَ دَعْوَاهُ. أَمَّا الَّذِي يَقُولُ الله سَاكِنٌ فِي السَّمَاءِ فَبِأَيِّ دَلِيلٍ يَدْفَعُ كَلامَ هَذَا الَّذِي يَعْبُدُ الشَّمْسَ، يَقُولُ لَهُ ذَاكَ: أَنْتَ تَقُولُ إِنَّ مَعْبُودِيَ سَاكِنٌ فِي السَّمَاءِ وَأَنَا أَقُولُ إِنَّ مَعْبُودِيَ الشَّمْسُ فِي الْفَضَاءِ وَقَدْ يَدَّعِي أَنَّهَا فِي سَمَاءٍ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالشَّمْسُ مَنْفَعَتُهَا ظَاهِرَةٌ تَنْفَعُ الْهَوَاءَ وَالنَّبَاتَ وَالإِنْسَانَ، وَأَنْتَ تَعْبُدُ شَيْئًا مُتَحَيِّزًا مُتَوَهَّمًا وَأَنَا أَعْبُدُ شَيْئًا مُتَحَيِّزًا مُتَحَقَّقَ الْوُجُودِ مُشَاهَدًا يَرَاهُ كُلُّ الْخَلْقِ وَيَرَوْنَ مَنْفَعَتَهُ وَأَمَّا هَذَا الَّذِي أَنْتَ تَعْبُدُهُ لا نَرَاهُ وَلا أَنْتَ رَأَيْتَهُ وَلا أَحْسَسْنَا لَهُ بِمَنْفَعَةٍ، فَلِمَاذَا تَجْعَلُ الْحَقَّ فِي دِينِكَ وَتَجْعَلُ دِينِي مُخَالِفًا لِلْحَقِّ فَذَاكَ الْمُشَبِّهُ كَالْوَهَّابِيِّ الَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّ الله جَسَدٌ قَاعِدٌ فَوْقَ الْعَرْشِ لا يَكُونُ عِنْدَهُ جَوَابٌ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: فَلَيْسَ هَذَا الْكَلامَ الَّذِي عَابَهُ الْعُلَمَاءُ وَإِنَّمَا عَابَ السَّلَفُ كَلامَ الْمُبْتَدِعَةِ فِي الِاعْتِقَادِ كَالْمُشَبِّهَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ وَسَائِرِ الْفِرَقِ الَّتِي شَذَّتْ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ وَالصَّحَابَةُ الَّذِينَ افْتَرَقُوا إِلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ بِذَلِكَ فِي حَدِيثِهِ الصَّحِيحِ الثَّابِتِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ بِاسْنَادِهِ إِلَى مُعَاوِيَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى على اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي إِلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً وَهِيَ الْجَمَاعَةُ - أَيِ السَّوَادُ الأَعْظَمُ -. وَأَمَّا عِلْمُ الْكَلامِ الَّذِي يَشْتَغِلُونَ بِهِ أَهْلُ السُّنَّةِ مِنَ الأَشَاعِرَةِ وَالْمَاتُرِيدِيَّةِ فَقَدْ عُمِلَ بِهِ مِنْ قِبَلِ الأَشْعَرِيِّ وَالْمَاتُرِيدِيِّ كَأَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّ لَهُ خَمْسَ رَسَائِلَ فِي ذَلِكَ وَالإِمَامُ الشَّافِعِيُّ كَانَ يُتْقِنُهُ حَتَّى إِنَّهُ قَالَ: أَتْقَنَّا ذَاكَ قَبْلَ هَذَا، أَيْ أَتْقَنَّا عِلْمَ الْكَلامِ قَبْلَ الْفِقْهِ.

الشَّرْحُ عِلْمُ التَّوْحِيدِ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ مَا يَجُوزُ عَلَى الله وَمَا يَلِيقُ بِهِ وَمَا لا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَمَا يَجِبُ لَهُ مِنْ أَنْ يُعْرَفَ فِي حَقِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ أَبُو حَنِيفَةَ الْفِقْهَ الأَكْبَرَ إِيذَانًا وَإِعْلامًا بِأَنَّهُ هُوَ الْفِقْهُ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ وَأَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ.

فَلَيْسَ هَذَا هُوَ عِلْمُ الْكَلامِ الَّذِي ذَمَّهُ الْعُلَمَاءُ وَإِنَّمَا ذَمُّوا كَلامَ أَهْلِ الأَهْوَاءِ أَهْلِ الضَّلالِ الْمُنْشَقِّينَ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ كَعَقِيدَةِ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْفِرَقِ الْمُخَالِفِينَ لِأَهْلِ السُّنَّةِ فَإِنَّ لَهُمْ مَقَالاتٍ يُجَادِلُونَ عَلَيْهَا لِيُوهِمُوا النَّاسَ أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ بَاطِلٌ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي عَنَاهُ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ الإِمَامُ الْمُجْتَهِدُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بنُ الْمُنْذِرِ: «لَأَنَّ يَلْقَى الله الْعَبْدُ بِكُلِّ ذَنْبٍ مَا عَدَا الشِّرْكَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَلْقَاهُ بِشَىْءٍ مِنَ الأَهْوَاءِ»، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «الأَهْوَاءِ» أَيِ الْعَقَائِدُ الَّتِي مَالَ إِلَيْهَا الْمُخَالِفُونَ لِأَهْلِ السُّنَّةِ فَإِنَّ لَهُمْ مُؤَلَّفَاتٍ وَلا سِيَّمَا الْمُعْتَزِلَةُ، وَكَذَلِكَ الْمُشَبِّهَةُ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الله جِسْمٌ وَأَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَالنُّزُولِ وَالصُّعُودِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الأَجْسَامِ، وَكَلِمَةُ الأَهْوَاءِ جَمْعُ هَوًى وَالْهَوَى مَا تَمِيلُ إِلَيْهِ النَّفْسُ مِنَ الْبَاطِلِ. أَمَّا عِلْمُ الْكَلامِ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ أَدِلَّةُ الرَّدِّ عَلَى الْمُخَالِفِينَ هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ فَيَجِبُ أَنْ يَقُومَ بِذَلِكَ مَنْ تَحْصُلُ بِهِ الْكِفَايَةُ لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ إِزَالَةِ الْمُنْكَرِ، وَهَذَا مِنْ أَفْرَضِ الْفُرُوضِ لِأَنَّهُ حِفْظٌ لِأُصُولِ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: الْوِقَايَةُ مِنَ النَّارِ . قَالَ الله تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [سُورَةَ التَّحْرِيْم/6]. وَجَاءَ فِي تَفْسِيرِ الآيَةِ أَنَّ الله يَأْمُرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلَهُمُ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ بِتَعَلُّمِ الأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، وَتَعْلِيمِ أَهْلِيهِمْ ذَلِكَ [جَاءَ ذَلِكَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ] أَيْ مَعْرِفَةِ مَا فَرَضَ الله فِعْلَهُ أَوْ اجْتِنَابَهُ أَيِ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ وَذَلِكَ كَيْ لا يَقَعَ فِي التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ وَالْكُفْرِ وَالضَّلالِ.

الشَّرْحُ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ مَعْنَاهُ جَنِّبُوا أَنْفُسَكُمُ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ فَإِنَّ الأَرْضَ بَعْدَ أَنْ يُحَاسَبَ النَّاسُ عَلَيْهَا تُرْمَى فِي جَهَنَّمَ لِتَزِيدَهَا وَقُودًا وَكَذَلِكَ الشَّمْسُ تُرْمَى فِي جَهَنَّمَ بَعْدَ أَنْ يُطْمَسَ نُورُهَا وَكَذَلِكَ الْقَمَرُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ﴾ فَمَعْنَى غِلاظٌ أَنَّهُمْ لا يَرْحَمُونَ الْكَافِرَ، وَمَعْنَى شِدَادٌ أَيْ أَقْوِيَاءُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿لَّا يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ فَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَلائِكَةَ مَجْبُولُونَ عَلَى طَاعَةِ الله أَيْ لا يَخْتَارُونَ إِلَّا الطَّاعَةَ بِمَشِيئَةِ الله، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَقُومُ بِمَا أُمِرَ بِهِ بِلا تَقْصِيرٍ، فَالْمَلائِكَةُ لَهُمْ وَظَائِفُ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ مُوَكَّلٌ بِالْمَطَرِ وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ مُوَكَّلٌ بِالنَّبَاتِ وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ مُوَكَّلٌ بِالرِّيحِ وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ مُوَكَّلٌ بِالْجِبَالِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوَظَائِفِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: ذَلِكَ لِأَنَّهُ مَنْ يُشَبِّهُ الله تَعَالَى بِشَىْءٍ مَا لَمْ تَصِحَّ عِبَادَتُهُ، لِأَنَّهُ يَعْبُدُ شَيْئًا تَخَيَّلَهُ وَتَوَهَّمَهُ فِي مُخَيِّلَتِهِ وَأَوْهَامِهِ، قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ: «لا تَصِحُّ الْعِبَادَةُ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْمَعْبُودِ».

الشَّرْحُ أَنَّ الَّذِي يَعْبُدُ شَيْئًا تَخَيَّلَهُ وَتَوَهَّمَهُ فِي مُخَيِّلَتِهِ فِعِبَادَتُهُ بَاطِلَةٌ لِأَنَّ وَهْمَ الإِنْسَانِ يَدُورُ حَوْلَ مَا أَلِفَهُ، فَإِنَّ وَهْمَنَا أَلِفَ الشَّىْءَ الْمَحْسُوسَ الَّذِي لَه حَدٌّ وَشَكْلٌ وَلَوْنٌ وَحَيِّزٌ إِمَّا فَوْق أَوْ تَحْت وَالله كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ الْفَوْقِ وَالتَّحْتِ بِلا جِهَةٍ وَلا مَكَانٍ لِأَنَّ الْجِهَاتِ وَالأَمَاكِنَ خُلِقَتْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً حَتَّى هَذَا الْفَرَاغُ الَّذِي فِيهِ الْعَرْشُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ الله، فَالْعِبْرَةُ وَالِاعْتِبَارُ بِالْعَقْلِ لا بِالْوَهْمِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: مَا جَاءَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ . قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا سُئِلَ عَنْ بَدْءِ الأَمْرِ: «كَانَ الله وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْرُهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَىْءٍ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. أَجَابَ الرَّسُولُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ بِأَنَّ الله لا بِدَايَةَ لِوُجُودِهِ (أَيْ أَزَلِيٌّ) وَلا أَزَلِيَّ سِوَاهُ، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى فَفِي الأَزَلِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا الله تَعَالَى، وَالله تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ، أَيْ مُخْرِجُهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ.

الشَّرْحُ السَّائِلُ هُمْ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ قَالُوا يَا رَسُولَ الله جِئْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ وَلِنَسْأَلَكَ عَنْ بَدْءِ هَذَا الأَمْرِ مَا كَانَ فَأَجَابَهُمْ وَأَفَادَهُمْ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَهَمَّ مِمَّا سَأَلُوا عَنْهُ. فَقَوْلُهُ: «كَانَ الله» أَيْ فِي الأَزَلِ، وَقَوْلُهُ: «وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْرُهُ» أَيْ أَنَّهُ لا أَزَلِيَّ سِوَاهُ لِأَنَّهُ فِي الأَزَلِ لَمْ يَكُنْ مَاءٌ وَلا هَوَاءٌ وَلا نُورٌ وَلا مَكَانٌ وَلا ظَلامٌ وَلا لَيْلٌ وَلا نَهَارٌ، وَقَوْلُهُ: «وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» أَيْ وُجِدَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ أي أَنَّ الْمَاءَ خُلِقَ قَبْلَ الْعَرْشِ ثُمَّ خُلِقَ الْعَرْشُ وَبِوُجُودِ الْمَاءِ وُجِدَ الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ أَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ زَمَانٌ وَلا مَكَانٌ. فَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمَاءَ وَالْعَرْشَ هُمَا أَوَّلُ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الأَشْيَاءِ الْمَحْسُوسَةِ، أَمَّا مِنْ غَيْرِ الْمَحْسُوسَةِ فالزَّمَانُ والْمَكَانُ وُجِدَا بِوُجُودِ الْمَاءِ، وَالْعَرْشُ سَرِيرٌ كَبِيرٌ لَهُ أَرْبَعَةُ قَوَائِمَ لَيْسَ كَسَرِيرِنَا يَحْمِلُهُ أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمَلائِكَةِ.

فَالْمَاءُ أَصْلٌ لِغَيْرِهِ وَهُوَ خُلِقَ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ، فَبِدَايَةُ الْعَالَمِ مِنْ غَيْرِ مَادَّةٍ، وَلا يُحِيلُ الْعَقْلُ وُجُودَ أَصْلِ الْعَالَمِ مِنَ الْعَدَمِ مِنْ غَيْرِ مَادَّةٍ. فَكَانَ الأُولَى فِي الْحَدِيثِ لِلأَزَلِيَّةِ أَمَّا كَانَ الثَّانِيَةُ فِي قَوْلِهِ: «وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» فَهِيَ لِلْحُدُوثِ.

فَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إِنَّ نُورَ مُحَمَّدٍ خُلِقَ قَبْلَ كُلِّ شَىْءٍ، فَالَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّ الله خَلَقَ نُورَ مُحَمَّدٍ قَبْلَ كُلِّ الأَشْيَاءِ لا يُكَفَّرُ لَكِنَّهُ يُغَلَّطُ لِمُخَالَفَتِهِ ثَلاثَةَ أَحَادِيثَ ثَابِتَةٍ، وَكَذَلِكَ الَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّ رُوحَ مُحَمَّدٍ خُلِقَ مِنْ نُورٍ لا يُكَفَّرُ، لَكِنْ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ جَسَدَ مُحَمَّدٍ خُلِقَ مِنْ نُورٍ فَهُوَ كَافِرٌ لِتَكْذِيبِهِ الْقُرْءَانَ قَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾ [سُورَةَ الْكَهْف/110].

وَالْقَوْلُ بِأَنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ الْمُفْتَعَلَ وَالَّذِي فِيهِ: «أَوَّلُ مَا خَلَقَ الله نُورُ نَبِيِّكَ يَا جَابِرُ خَلَقَهُ الله مِنْ نُورِهِ قَبْلَ الأَشْيَاءِ» صَحَّ كَشْفًا لا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّ الْكَشْفَ الَّذِي يُخَالِفُ حَدِيثَ رَسُولِ الله لا عِبْرَةَ بِهِ فَقَدْ قَالَ عُلَمَاءُ الأُصُولِ: «إِلْهَامُ الْوَلِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ»، لِأَنَّ كَشْفَ الْوَلِيِّ قَدْ يُخْطِئُ.

وَهَذَا الْحَدِيثُ رَكِيكٌ، وَالرَّكَاكَةُ قَالَ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ إِنَّهَا دَلِيلُ الْوَضْعِ لِأَنَّ الرَّسُولَ لا يَتَكَلَّمُ بِكَلامٍ رَكِيكِ الْمَعْنَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي الْجُمْلَةِ الأُولَى: «أَوَّلُ مَا خَلَقَ الله تَعَالَى نُورُ نَبِيِّكَ» جَعَلَ نُورَ النَّبِيِّ أَوَّلَ الْعَالَمِ وَالْمَخْلُوقَاتِ عَلَى الإِطْلاقِ ثُمَّ هَذِهِ الْجُمْلَةُ: «خَلَقَهُ الله مِنْ نُورِهِ قَبْلَ الأَشْيَاءِ» إِنِ اعْتُبِرَ أَنَّ مَعْنَى مِنْ نُورِهِ أَيْ نُورٍ مَخْلُوقٍ لِلَّهِ عَلَى أَنَّ الإِضَافَةَ إِضَافَةُ الْمُلْكِ إِلَى الْمَالِكِ لَيْسَتْ إِضَافَةَ صِفَةٍ إِلَى مَوْصُوفٍ يَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ أَوَّلَ الْمَخْلُوقَاتِ نُورٌ خَلَقَهُ الله ثُمَّ خَلَقَ مِنْهُ نُورَ مُحَمَّدٍ فَهَذَا يُنَاقِضُ الْجُمْلَةَ الأُولَى، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الأُولَى تَدُلُّ عَلَى أَنَّ نُورَ مُحَمَّدٍ أَوَّلُ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى الإِطْلاقِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ «خَلَقَهُ الله مِنْ نُورِهِ قَبْلَ الأَشْيَاءِ» تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ الْمَخْلُوقَاتِ نُورٌ خُلِقَ مِنْهُ نُورُ مُحَمَّدٍ، فَيَكُونُ نُورُ مُحَمَّدٍ مُتَأَخِّرًا عَنْ ذَلِكَ النُّورِ فِي الْوُجُودِ فَلا يَصِحُّ عَلَى هَذَا قَوْلُ: «نُورُ مُحَمَّدٍ أَوَّلُ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى الإِطْلاقِ».

وَأَمَّا إِنِ اعْتُبِرَتِ الإِضَافَةُ الَّتِي فِي نُورِهِ إِضَافَةُ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ فَالْبَلِيَّةُ أَشَدُّ وَأَكْبَرُ لِأَنَّهُ يَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا جُزْءٌ مِنْ صِفَةِ الله وَهَذَا إِثْبَاتُ الْبَعْضِيَّةِ لِلَّهِ وَذَلِكَ كُفْرٌ، وَالله تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْبَعْضِيَّةِ وَالتَّرْكِيبِ وَالتَّجَزُّؤِ. فَيَكُونُ عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي إِثْبَاتَ التَّبَعُّضِ لِلَّهِ وَذَلِكَ يُنَافِي التَّوْحِيدَ، لِأَنَّ الله وَاحِدٌ ذَاتًا وَصِفَاتٍ لَمْ يَنْحَلَّ مِنْهُ شَىْءٌ وَلا يَنْحَلُّ هُوَ مِنْ شَىْءٍ غَيْرِهِ، فَلا تَكُونُ صِفَاتُهُ صِفَةً لِغَيْرِهِ، بَلْ صِفَاتُهُ لا هِيَ عَيْنُ الذَّاتِ وَلا هِيَ غَيْرُ الذَّاتِ وَلا تَكُونُ أَصْلًا لِغَيْرِهَا، كَمَا قَرَّرَ عُلَمَاءُ التَّوْحِيدِ فِي مُؤَلَّفَاتِهِمْ.

وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْغَنِيِّ النَّابُلُسِيُّ أَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الله انْحَلَّ مِنْهُ شَىْءٌ أَوِ انْحَلَّ هُوَ مِنْ شَىْءٍ فَهُوَ كَافِرٌ وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ. فَاعْتِقَادُ أَنَّ الرَّسُولَ جُزْءٌ مِنْ نُورٍ هُوَ مِنْ ذَاتِ الله كَاعْتِقَادِ النَّصَارَى أَنَّ الْمَسِيحَ هُوَ جُزْءٌ مِنْ ذَاتِ الله، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ كَلامَ الرَّسُولِ لا يَنْقُضُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَهَذَا الْحَدِيثُ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ مِنْهُ تَنْقُضُ الأُولَى، فَالرَّسُولُ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَنْطِقَ بِمِثْلِهِ، فَبِهَذَا سَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى دَعْوَى أَنَّ أَوَّلَ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى الإِطْلاقِ نُورُ مُحَمَّدٍ.

ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَمْ يُصَحِّحْهُ أَحَدٌ مِنَ الْحُفَّاظِ، بَلْ قَالَ الْحَافِظُ السُّيُوطِيُّ إِنَّهُ لا يَثْبُتُ، وَأَمَّا إِيرَادُ الزَّرْقَانِيِّ وَابْنِ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيِّ وَغَيْرِهِمَا كَمُحَمَّدِ بنِ أَبِي بَكْرٍ الأَشْخَرِ فِي شَرْحِ بَهْجَةِ الْمَحَافِلِ وَصَاحِبِ الْمَوَاهِبِ اللَّدُنِيَّةِ لَهُ وَنِسْبَتُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَى عَبْدِ الرَّزَّاقِ لا يُفِيدُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ صَحِيحٌ أَوْ حَسَنٌ، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلاءِ إِنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ أَوْ حَسَنٌ إِنَّمَا أَوْرَدُوهُ نَاسِبِينَ لَهُ إِلَى مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ حُجَّةٌ، ثُمَّ عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ فِي تَفْسِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِ الله تَعَالَى: ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾ [سُورَةَ هُود/7]: هُمَا بَدْءُ الْخَلْقِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَهَذَا يُبْعِدُ أَنْ يَكُونَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ ذَكَرَ فِي الْمُصَنَّفِ هَذَا الْحَدِيثَ الرَّكِيكَ، وَهَؤُلاءِ صَاحِبُ الْمَوَاهِبِ اللَّدُنِيَّةِ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنَ الْحُفَّاظِ.

ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يُعَارِضُ حَدِيثَيْنِ صَحِيحَيْنِ أَحَدُهُمَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله إِنِّي إِذَا رَأَيْتُكَ طَابَتْ نَفْسِي وَقَرَّتْ عَيْنِي فَأَنْبِئْنِي عَنْ كُلِّ شَىْءٍ قَالَ: «إِنَّ الله تَعَالَى خَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ مِنَ الْمَاءِ» فَكَانَ سُؤَالُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أَوَّلِ الْعَالَمِ وَأَصْلِهِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ شَىْءٌ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الَّذِي خُلِقَتْ مِنْهُ الْمَخْلُوقَاتُ كُلُّهَا فَأَجَابَ الرَّسُولُ بِأَنَّهُ الْمَاءُ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ.

وَالْحَدِيثُ الآخَرُ حَدِيثُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَبْنَاءِ الصَّحَابَةِ عَنْ ءَابَائِهِمْ عَنْ رَسُولِ الله: «إِنَّ الله لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا مِمَّا خَلَقَ قَبْلَ الْمَاءِ». أَوْرَدَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ عَلَى أَنَّهُ صَحِيحٌ أَوْ حَسَنٌ عِنْدَهُ وَذَلِكَ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ بَدْءِ الْخَلْقِ عِنْدَ ذِكْرِ حَدِيثِ: «كَانَ الله وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْرُهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ».

ثُمَّ إِنَّهُ لَيْسَ الْفَضْلُ فِي تَقَدُّمِ الْوُجُودِ أَيْ وُجُودِ الْخَلْقِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ، بَلِ الْفَضْلُ بِتَفْضِيلِ الله، فَالْمَاءُ مَعَ ثُبُوتِ أَوَّلِيَّتِهِ لا يُقَالُ إِنَّهُ أَفْضَلُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَأَمَّا الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَهُوَ أَفْضَلُ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ الْمَخْلُوقَاتِ لا جِسْمُهُ وَلا نُورُهُ، فَالأَمْرُ كَمَا قَالَ الْبُوصِيرِيُّ:

فَمَبْلَغُ الْعِلْمِ فِيهِ أَنَّهُ بَشَرٌ # وَأَنَّهُ خَيْرُ خَلْقِ الله كُلِّهِمِ

فَأَيُّ فَضْلٍ فِي قَوْلِ هَؤُلاءِ نُورُ الرَّسُولِ هُوَ أَوَّلُ الْخَلْقِ مِنْهُ خُلِقَ كُلُّ شَىْءٍ. أَيُّ فَضْلٍ فِي هَذَا.

وَيَلْتَحِقُ بِهَذَا الْحَدِيثِ الْمَوْضُوعِ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْمُؤَذِّنِينَ فِي بِلادِ الشَّامِ عَقِبَ الأَذَانِ بِصَوْتٍ عَالٍ: «الصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَيْكَ يَا أَوَّلَ خَلْقِ الله وَخَاتَمَ رُسُلِ الله»، فَلَوْ قَالُوا: «الصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَيْكَ يَا خَاتَمَ رُسُلِ الله» كَانَ صَوَابًا.

وَمِنَ الْبَاطِلِ الْمُخَالِفِ لِلنَّصِّ الْقُرْءَانِيِّ وَالْحَدِيثِيِّ قَوْلُ بَعْضِ الْمُنْشِدِينَ الْمَصْرِيِّينَ: «رَبِّي خَلَقَ طَهَ مِنْ نُورٍ» لِأَنَّ هَذَا ظَاهِرُ الْمُخَالَفَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾ [سُورَةَ الْكَهْف/110] مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا﴾ [سُورَةَ الْفُرْقَان/54] الآيَةَ.

فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي التَّصْحِيحِ وَالتَّضْعِيفِ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَافِظٍ أَيْ أَنْ يَنُصَّ حَافِظٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ صَحِيحٌ أَوْ أَنْ يَذْكُرَ حَافِظٌ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ يَقْتَصِرُ فِيهِ عَلَى الصَّحِيحِ كَالْحَافِظِ سَعِيدِ بنِ السَّكَنِ الَّذِي أَلَّفَ كِتَابًا اشْتَرَطَ فِيهِ الِاقْتِصَارَ عَلَى الصَّحِيحِ سَمَّاهُ السُّنَنَ الصِّحَاحَ.

وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ ذَكَرَهَا الْحَافِظُ السُّيُوطِيُّ فِي أَلْفِيَّتِهِ فِي مُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ فَقَالَ مَا نَصُّهُ:

وَخُذْهُ حَيْثُ حَافِظٌ عَلَيْهِ نَصّْ # أَوْ مِنْ مُصَنَّفٍ بِجَمْعِهِ يُخَصّْ

يَعْنِي أَنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ يُعْرَفُ أَنَّهُ صَحِيحٌ بِنَصِّ حَافِظٍ عَلَى صِحَّتِهِ أَوْ بِأَنْ تَجِدَهُ فِي كِتَابٍ أَلَّفَهُ حَافِظٌ وَاشْتَرَطَ أَنَّهُ لا يَذْكُرُ فِي كِتَابِهِ هَذَا إِلَّا الصَّحِيحَ.

وَأَمَّا غَيْرُ الْحُفَّاظِ فَلا عِبْرَةَ بِتَصْحِيحِهِمْ وَلا بِتَضْعِيفِهِمْ، فَحَدِيثُ أَوَّلِيَّةِ النُّورِ الْمُحَمَّدِيِّ لَمْ يُصَحِّحْهُ حَافِظٌ مِنَ الْحُفَّاظِ لا مِنَ الْمُتَقِدِّمِينَ وَلا مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ وَلَمْ يُذْكَرْ فِي كِتَابٍ اشْتَرَطَ فِيهِ مُؤَلِّفُهُ الْحَافِظُ أَنْ لا يَذْكُرَ فِي مُؤَلَّفِهِ إِلَّا الصَّحِيحَ.

وَأَمَّا مُجَرَّدُ ذِكْرِ حَدِيثٍ فِي كِتَابٍ مُؤَلِّفُهُ حَافِظٌ فَلَيْسَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّتِهِ، فَهَذَا الإِمَامُ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ الله عَنْهُ شَيْخُ الْحُفَّاظِ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ ءَالافًا مِنَ الأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ الصَّحِيحَةِ وَءَالافًا مِنَ الضِّعَافِ بَلْ تَكَلَّمَ الْحَافِظُ زَيْنُ الدِّينِ الْعِرَاقِيُّ عَلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا مِمَّا فِي الْمُسْنَدِ وَوَصَفَهَا بِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ، فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالَ مُسْنَدِ الإِمَامِ شَيْخِ الْحُفَّاظِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ فَمَاذَا يَكُونُ مُؤَلَّفَاتُ مَنْ هُوَ دُونَهُ. فَالَّذِينَ ذَكَرُوا حَدِيثَ: «أَوَّلُ مَا خَلَقَ الله نُورُ نَبِيِّكَ يَا جَابِرُ» مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ كَثِيرٌ لَكِنَّ كَثْرَتَهُمْ لا تُفِيدُهُمْ شَيْئًا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغُوا دَرَجَةَ الْحَافِظِ إِنَّمَا بَعْضُهُمْ مُحَدِّثُونَ لَهُمْ إِلْمَامٌ بِالْحَدِيثِ وَبَعْضُهُمْ لَيْسُوا مِنَ الْمُحَدِّثِينَ بِالْمَرَّةِ مِثْلَ الشَّيْخِ يُوسُفَ النَّبَهَانِيِّ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي بَعْضِ مُؤَلَّفَاتِهِ أَنَّهُ لَيْسَ عَالِمًا فَضْلًا عَنِ الْمُحَدِّثِيَّةِ وَأَدْخَلَ فِي كِتَابِهِ أَرْبَعِينَ الأَرْبَعِينَ لِأَجْلِ هَذَا وَلِضَعْفِهِ فِي هَذَا الْعِلْمِ الأَرْبَعِينَ الْوَدْعَانِيَّةَ الْمَحْكُومَ عَلَيْهَا عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ بِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ، وَهَذَا لِقِلَّةِ اطِّلاعِهِ فِي هَذَا الْعِلْمِ خَفِيَ عَلَيْهِ ذَلِكَ.

وَأَمَّا دَعْوَى بَعْضِ الَّذِينَ كَتَبُوا فِي تَأْيِيدِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ السُّيُوطِيَّ مَا ضَعَّفَهُ إِنَّمَا ضَعَّفَ إِسْنَادَهُ فَلا يُنَافِي ذَلِكَ ثُبُوتَهُ فِي نَفْسِهِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَعِبَارَتُهُ فِي قُوتِ الْمُغْتَذِي تَأْبَى ذَلِكَ لِأَنَّ نَصَّ عِبَارَتِهِ فِيهِ: «وَأَمَّا حَدِيثُ أَوَّلِيَّةِ النُّورِ الْمُحَمَّدِيِّ فَلا يَثْبُتُ» فَقَدْ أَضَافَ نَفْيَ الثُّبُوتِ إِلَى الْحَدِيثِ نَفْسِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا الإِسْنَادَ.

وَأَمَّا دَعْوَى بَعْضِ مَنْ كَتَبَ فِي تَأْيِيدِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَدْخُلُ فِي قَوْلِ الْمُحَدِّثِينَ: «الْحَدِيثُ الضَّعِيفُ مِنْ جِهَةِ الإِسْنَادِ إِذَا تَلَقَّتْهُ الأُمَّةُ بِالْقَبُولِ فَهُوَ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ» فَلا يَنْطَبِقُ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ مُرَادَهُمْ بِالأُمَّةِ الْمُجْتَهِدُونَ وَذَلِكَ كَحَدِيثِ الْبَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» وَحَدِيثِ: «نَهَى رَسُولُ الله عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ»، فَإِنَّ الأَئِمَّةَ الْمُجْتَهِدِينَ الأَرْبَعَةَ وَغَيْرَهُمْ قَائِلُونَ بِمَعْنَاهُ، وَأَيْنَ حَدِيثُ أَوَّلِيَّةِ النُّورِ الْمُحَمَّدِيِّ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذِكْرٌ عِنْدَ الأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ لا بِالنَّفْيِ وَلا بِالإِثْبَاتِ وَلا رَوَاهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي كُتُبِهِ، فَجُمْلَةُ الَّذِينَ ذَكَرُوا هَذَا الْحَدِيثَ فِي مُؤَلَّفَاتِهِمْ عَلَى وَجْهِ الإِقْرَارِ لَيْسَ فِيهِمْ حَافِظٌ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنَ الْحُفَّاظِ وَهُوَ السُّيُوطِيُّ فَعِبَارَتُهُ لا تُفِيدُ أَنَّهُ مُتَلَقًّى بِالْقَبُولِ، فَكَيْفَ يُجْعَلُ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ قَبِيلِ الْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ اللَّذَيْنِ تَلَقَّتْهُمَا الأَئِمَّةُ الْمُجْتَهِدُونَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ بِالْقَبُولِ وَتَلَقَّتْهُمَا أَتْبَاعُهُمْ بِالْقَبُولِ. وَلَنْ يَسْتَطِيعَ هَؤُلاءِ أَنْ يُثْبِتُوا عَنْ إِمَامٍ مِنَ الأَئِمَّةِ أَبِي حَنِيفَةَ أَوِ الشَّافِعِيِّ أَوْ مَالِكٍ أَوْ أَحْمَدَ أَوْ غَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا هَذَا الْحَدِيثَ وَلا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَتْبَاعِهِمُ الَّذِينَ هُمْ مُجْتَهِدُونَ فِي الْمَذْهَبِ كَالْجَصَّاصِ، وَشَمْسِ الأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْبَيْهَقِيِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَاللَّخْمِيِّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَأَبِي الْوَفَاءِ بنِ عَقِيلٍ فِي الْحَنَابِلَةِ، فَكَيْفَ يُلْحَقُ هَذَا الْحَدِيثُ الْمَوْضُوعُ بِحَدِيثِ الْبَحْرِ «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ وَالْحِلُّ مَيْتَتُهُ» الَّذِي عَرَفَهُ الأَئِمَّةُ الْمُجْتَهِدُونَ وَعَمِلُوا بِهِ مَعَ ضَعْفِ إِسْنَادِهِ. فَالَّذِينَ ذَكَرُوا حَدِيثَ «أَوَّلُ مَا خَلَقَ الله تَعَالَى» لَيْسَ فِيهِمْ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ التَّرْجِيحِ فِي الْمَذْهَبِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ أَصْحَابُ الْوُجُوهِ الَّذِينَ هُمْ مُجْتَهِدُونَ فِي الْمَذْهَبِ، فَأَيْنَ الثَّرَى وَأَيْنَ الثُّرَيَّا.

ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ تَنْفِرُ الْكُفَّارُ عِنْدَ سَمَاعِهِ مِنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ نُفُورًا زَائِدًا عَلَى نُفُورِهِمُ الأَصْلِيِّ، فَلَقَدْ ذَكَرَ لِي رَجُلٌ يُدْعَى أَبَا عَلِيٍّ يَاسِينَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ أَنَّ نَصْرَانِيًّا قَالَ لَهُ: كَيْفَ تَقُولُونَ أَنْتُمْ مُحَمَّدٌ ءَاخِرُ الأَنْبِيَاءِ وَتَقُولُونَ إِنَّهُ أَوَّلُ خَلْقِ الله؟ قَالَ: فَلَمْ أَرُدَّ جَوَابًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الْكَافِرَ يَسْمَعُ فِي بَعْضِ بِلادِ الشَّامِ الْمُؤَذِّنِينَ عَلَى الْمَآذِنِ يُرَدِّدُونَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ بَعْدَ الأَذَانِ: الصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَيْكَ يَا أَوَّلَ خَلْقِ الله وَخَاتَمَ رُسُلِ الله. ثُمَّ إِنَّ مِعْيَارَ الأَفْضَلِيَّةِ لَيْسَ الأَسْبَقِيَّةَ فِي الْوُجُودِ بَلِ الأَفْضَلِيَّةُ بِتَفْضِيلِ الله، فَالله تَعَالَى يُفَضِّلُ مَا شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ عَلَى مَا شَاءَ، الله تَعَالَى جَعَلَ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا أَفْضَلَ خَلْقِهِ عَلَى الإِطْلاقِ وَأَكْثَرَهُمْ بَرَكَةً مَعَ أَنَّهُ ءَاخِرُ الأَنْبِيَاءِ وُجُودًا صَلَّى الله عَلَيْهِ صَلاةً يَقْضِي بِهَا حَاجَاتِنَا وَيُفَرِّجُ بِهَا كُرُبَاتِنَا وَيَكْفِينَا بِهَا شَرَّ أَعْدَائِنَا وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى ءَالِهِ سَلامًا كَثِيرًا.

ثُمَّ إِنَّهُ يَنْبَغِي الِاسْتِدْلالُ بِحَدِيثٍ ءَاخَرَ يَصِحُّ أَنْ يُعَدَّ حَدِيثًا ثَالِثًا لِلدِّلالَةِ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ هُوَ أَوَّلُ الْعَالَمِ وَهُوَ حَدِيثُ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ أُنَاسًا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ أَتَوْا إِلَى رَسُولِ الله فَقَالُوا: جِئْنَا نَسْأَلُكَ عَنْ بَدْءِ هَذَا الأَمْرِ، قَالَ: «كَانَ الله وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْرُهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ»، فَقَوْلُهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ الله وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْرُهُ» إِثْبَاتٌ لِأَزَلِيَّةِ الله، وَقَوْلُهُ: «وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَيْنِ أَوَّلُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَأَمَّا الْمَاءُ فَعَلَى وَجْهِ الإِطْلاقِ وَأَمَّا الْعَرْشُ فَبِالنِّسْبَةِ لِمَا بَعْدَهُ كَمَا أَفَادَ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: «عَلَى الْمَاءِ» وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَأَخُّرِ الْعَرْشِ عَنْ هَذَا الأَصْلِ.

فَالْحَدِيثَانِ الأَوَّلانِ لا حَاجَةَ إِلَى تَأْوِيلِهِمَا لِأَجْلِ حَدِيثٍ غَيْرِ ثَابِتٍ بَلْ هُوَ حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ لِرَكَاكَتِهِ، وَلا حَاجَةَ لِمَا ذَكَرَهُ بَعْضٌ مِنْ حَمْلِ حَدِيثِ: «أَوَّلُ مَا خَلَقَ الله نُورُ نَبِيِّكَ يَا جَابِرُ» عَلَى الأَوَّلِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِغَرَضِ إِثْبَاتِ أَوَّلِيَّةِ النُّورِ الْمُحَمَّدِيِّ. ثُمَّ إِنَّ التَّشَبُّثَ بِقَوْلِ إِنَّ نُورَ مُحَمَّدٍ أَوَّلُ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى الإِطْلاقِ نَوْعٌ مِنَ الْغُلُوِّ وَقَدْ نَهَى الله وَرَسُولُهُ عَنِ الْغُلُوِّ. وَمِنَ الْعَجَبِ الْعُجَابِ أَنَّ بَعْضَ الْمُعْتَقَدِينَ قَالَ إِنَّ مُدَّةَ مَرَضِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ كَانَتْ شَهْرَيْنِ، وَهَذَا خِلافُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ الله أَنَّ بَلاءَ أَيُّوبَ كَانَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ عَامًا، رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ. فَمَاذَا يَقُولُ هَؤُلاءِ فِيمَا قَالَهُ مُرِيدُ الشَّيْخِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الدَّبَّاغِ فِي كِتَابِهِ الَّذِي أَلَّفَهُ فِي تَرْجَمَةِ الشَّيْخِ الدَّبَّاغِ الْمُسَمَّى الإِبْرِيز: إِنَّ الدَّبَّاغَ قَالَ كَانَ بَلاءُ أَيُّوبَ شَهْرَيْنِ، فَمَاذَا يَقُولُ هَؤُلاءِ الْغُلاةِ فِي وَصْفِ الْمَشَايِخِ أَكَلامُ رَسُولِ الله هُوَ صَوَابٌ أَمْ كَلامُ الشَّيْخِ الدَّبَّاغِ الَّذِي حَكَاهُ عَنْهُ مُرِيدُهُ، وَمَا أَكْثَرَ الْهَالِكِينَ بِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ كَلامَ مَشَايِخِهِمْ حَقٌّ لا خَطَأَ فِيهِ بِالْمَرَّةِ، وَلْيَعْلَمْ هَؤُلاءِ مَا صَحَّ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ أَوْلِيَاءِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ لا يَلْحَقُهُ فِي الدَّرَجَةِ مَنْ أَتَى بَعْدَهُ مِنَ الأَوْلِيَاءِ أَنَّهُ قَالَ: أَصَابَتِ امْرَأَةٌ وَأَخْطَأَ عُمَرُ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَرَّرَ أَنَّهُ إِنْ زَادَ أَحَدٌ فِي الْمَهْرِ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ وَيَضَعُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ فَقَالَتِ امْرَأَةٌ فَقِيهَةٌ: لَيْسَ لَكَ ذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ الله يَقُولُ ﴿وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾ [سُورَةَ النِّسَاء/20] فَصَعِدَ عُمَرُ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: أَصَابَتِ امْرَأَةٌ وَأَخْطَأَ عُمَرُ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا فِي الْكَشْفِ.

وَمِنَ الْغُلُوِّ الْمُشَابِهِ لِهَذَا اعْتِقَادُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ أَنَّ الْوَلِيَّ لا يُخْطِئُ فِي شَىْءٍ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ بَلْ وَلا فِي شَىْءٍ مِنْ إِلْهَامِهِ وَهَذَا خِلافُ حَدِيثِ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوْسَطِ: «مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْكُمْ إِلَّا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ غَيْرَ رَسُولِ الله»، فَالْوَلِيُّ مَهْمَا عَلَتْ مَرْتَبَتُهُ يُخْطِئُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ الْفَرْعِيَّةِ إِلَّا فِي أُصُولِ الْعَقِيدَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا كِبَارُ الْقَوْمِ قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ الْجِيلانِيُّ رَضِيَ الله عَنْهُ: «إِذَا عَلِمَ الْمُرِيدُ مِنَ الشَّيْخِ الْخَطَأَ فَلْيُنَبِّهْهُ فَإِنْ رَجَعَ وَإِلَّا فَلْيَكُنْ مَعَ الشَّرْعِ»، وَقَالَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الرِّفَاعِيُّ رَضِيَ الله عَنْهُ: «سَلِّمْ لِلْقَوْمِ أَحْوَالَهُمْ مَا لَمْ يُخَالِفُوا الشَّرِيعَةَ فَإِذَا خَالَفُوا الشَّرْعَ فَكُنْ مَعَ الشَّرْعِ».

فَيَجِبُ تَحْذِيرُ هَؤُلاءِ الْمُتَشَبِّثِينَ بِكُلِّ مَا يُنَسَبُ إِلَى الأَوْلِيَاءِ مِمَّا صَحَّ عَنْهُمْ مِمَّا هُوَ خَطَأٌ وَمِمَّا لَمْ يَصِحَّ عَنْهُمْ وَذَلِكَ أَكْثَرُ، وَيَحْتَجُّونَ لِهَذَا الْفَهْمِ الْفَاسِدِ بِقَوْلِ الْقَائِلِ:

«وَكُنْ عِنْدَهُ كَالْمَيْتِ عِنْدَ مُغَسِّلِ يُقَلِّبُهُ كَيْمَا يَشَاءُ وَيَفْعَلُ»

وَيَظُنُّونَ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَجِبُ اتِّبَاعُ الشَّيْخِ الْكَامِلِ فِي كُلِّ شَىْءٍ وَلَوْ فِي الْخَطَإِ فَهَؤُلاءِ الْجَهَلَةُ سَاوَوُا الْوَلِيَّ بِالنَّبِيِّ.

وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ حَسَّنَهُ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الأُمَّةِ خَوَاصِّهَا وَعَوَامِّهَا لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ قَوْلِهِمْ صَحِيحًا وَبَعْضٌ غَيْرَ صَحِيحٍ فَلا يُسْتَثْنَى مِنْهُمْ أَحَدٌ.

وَهُنَاكَ قَاعِدَةٌ أُصُولِيَّةٌ تُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا وَهِيَ: «أَنَّ النَّصَّ لا يُؤَؤَّلُ إِلَّا لِدَلِيلٍ سَمْعِيٍّ ثَابِتٍ أَوْ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ قَاطِعٍ»، قَالَ عُلَمَاءُ الأُصُولِ: لا يَجُوزُ تَأْوِيلُ النَّصِّ لِغَيْرِ ذَلِكَ وَإِنَّ ذَلِكَ عَبَثٌ وَالنُّصُوصُ تُصَانُ عَنِ الْعَبَثِ، ذَكَرَ ذَلِكَ كَثِيرٌ كَصَاحِبِ الْمَحْصُولِ، فَبَعْدَ هَذَا يَبْطُلُ تَأْوِيلُ الْمُؤَوِّلِينَ لِحَدِيثِ أَوَّلِيَّةِ الْمَاءِ بِأَنَّ أَوَّلِيَّتَهُ نِسْبِيَّةٌ لِتَأْيِيدِ قَوْلِهِمْ إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ الله نُورُ مُحَمَّدٍ.

أَمَّا تَأْوِيلُ حَدِيثِ أَوَّلِيَّةِ الْقَلَمِ لِلتَّوْفِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ أَوَّلِيَّةِ الْمَاءِ فَذَلِكَ حَقٌّ وَصَوَابٌ لِأَنَّ كِلا الْحَدِيثَيْنِ ثَابِتٌ وَفِي هَذَا مَقْنَعٌ لِلْمُتَدَبِّرِالْمُنْصِفِ.

فَائِدَةٌ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ صَحَّحَهُ بَعْضُهُمْ وَضَعَّفَهُ ءَاخَرُونَ أَنَّ الله تَعَالَى قَالَ لِآدَمَ: «لَوْلا مُحَمَّدٌ مَا خَلَقْتُكَ» رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ، وَمَعْنَاهُ خَلَقْتُ الدُّنْيَا لِأُظْهِرَ مُحَمَّدًا صَفْوَتَهَا أَيْ أَشْرَفَ الْخَلْقِ، فَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إِنَّ مُحَمَّدًا هُوَ سَبَبُ وُجُودِ الدُّنْيَا وَهَذَا تَشْرِيفٌ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: «وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَىْءٍ» أَيْ أَمَرَ الله الْقَلَمَ الأَعْلَى بِأَنْ يَكُتْبَ عَلَى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْقَلَمُ وَاللَّوْحُ جِرْمَانِ عَظِيمَانِ عُلْوِيَّانِ لَيْسَا كَأَقْلامِنَا وَأَلْوَاحِنَا. وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الْقَلَمَ الأَعْلَى مِنْ نُورٍ لَكِنْ لَيْسَ ثَابِتًا وَمَعْنَاهُ يُشْبِهُ النُّورَ، لِأَنَّ النُّورَ لَمْ يُخْلَقْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلا الظَّلامَ. وَاللَّوْحُ وَرَدَ فِي وَصْفِهِ أَنَّهُ مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ حَافَتَاهُ يَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ وَمِسَاحَتُهُ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ.

وَقَوْلُهُ «ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ» مَعْنَاهُ أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ خُلِقَتْ بَعْدَ هَذِهِ الأَشْيَاءِ الأَرْبَعَةِ وَذَلِكَ بَعْدَ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ: «إِنَّ الله كَتَبَ مَقَادِيرَ الْخَلائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَة»، وَالسَّمَوَاتُ وَهِيَ سَبْعٌ وَالأَرَضُونَ وهي سَبْعٌ وَكُلُّ سَمَاءٍ مُنْفَصِلَةٌ عَنِ الأُخْرَى بِفَرَاغٍ وَاسِعٍ وَكُلُّ أَرْضٍ مُنْفَصِلَةٌ عَنِ الأُخْرَى بِفَرَاغٍ وَاسِعٍ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ فَوْقَ الأُخْرَى. خُلِقَتْ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكُلُّ يَوْمٍ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ قَدْرُ أَلْفِ سَنَةٍ بِتَقْدِيرِ أَيَّامِنَا هَذِهِ. فَلا يَقُلْ قَائِلٌ خَلَقَ الله الْعَالَمَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ إِنَّمَا يُقَالُ خَلَقَ الله السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْءَانِ.

فَإِنْ قِيلَ: لِمَ خَلَقَ الله السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَلَمْ يَخْلُقْهَا فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: لِيُعَلِّمَنَا التَّأَنِيَ فِي الأُمُورِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَمَعْنَى خَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ أَنَّهُ أَخْرَجَ جَمِيعَ الْمَوْجُودَاتِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ.

الشَّرْحُ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الله هُوَ مُحْدِثُ كُلِّ شَىْءٍ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَلا يُضَافُ الْخَلْقُ بِهَذَا الْمَعْنَى إِلَّا لِلَّهِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَالله تَعَالَى حَيٌّ لا يَمُوتُ، لِأَنَّهُ لا نِهَايَةَ لِوُجُودِهِ (أَيْ أَبَدِيٌّ)، فَلا يَطْرَأُ عَلَيْهِ الْعَدَمُ إِذْ لَوْ وُجِدَ بَعْدَ عَدَمٍ لَاسْتَحَالَ عَلَيْهِ الْقِدَمُ (أَيِ الأَزَلِيَّةُ). وَحُكْمُ مَنْ يَقُولُ «الله خَلَقَ الْخَلْقَ فَمَنْ خَلَقَ الله» التَّكْفِيرُ قَطْعًا لِأَنَّهُ نَسَبَ إِلَى الله تَعَالَى الْعَدَمَ قَبْلَ الْوُجُودِ، وَلا يُقَالُ ذَلِكَ إِلَّا فِي الْحَوَادِثِ أَيِ الْمَخْلُوقَاتِ، فَالله تَعَالَى وَاجِبُ الْوُجُودِ (أَيْ لا يُتَصَوَّرُ فِي الْعَقْلِ عَدَمُهُ)، فَلَيْسَ وُجُودُهُ كَوُجُودِنَا الْحَادِثِ لِأَنَّ وُجُودَنَا بِإِيْجَادِهِ تَعَالَى وَكُلُّ مَا سِوَى الله جَائِزُ الْوُجُودِ (أَيْ يُمْكِنُ عَقْلًا وُجُودُهُ بَعْدَ عَدَمٍ وَإِعْدَامُهُ بَعْدَ وُجُودِهِ) بِالنَّظَرِ لِذَاتِهِ فِي حُكْمِ الْعَقْلِ.

الشَّرْحُ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حَتَّى يُقَالَ: هَذَا، خَلَقَ الله الْخَلْقَ فَمَنْ خَلَقَ الله، فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَقُلْ: ءَامَنْتُ بِالله وَرُسُلِهِ». فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَوَاءٌ لِمَا يُخَالِجُ كَثِيرًا مِنَ النُّفُوسِ وَيَتَحَدَّثُ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِيمَا بَيْنَهُمْ. وَقَدْ حَصَلَ مَا تَحَدَّثَ بِهِ رَسُولُ الله فِي الْحَدِيثِ، وقَوْلُهُمْ: مَنْ خَلَقَ الله هُوَ سُؤَالُ الْمُحَالِ وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْبَرَاهِينُ الْعَقْلِيَّةُ وَالنُّصُوصُ الْقُرْءَانِيَّةُ أَنَّ صَانِعَ الْعَالَمِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَزَلِيًّا فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَالِقٌ، ثُمَّ الأَزَلِيُّ لا يَكُونُ إِلَّا أَبَدِيًّا أَيْ أَنَّ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْهُ عَدَمٌ لا يَلْحَقُهُ عَدَمٌ، فَبَيْنَ الْخَالِقِيَّةِ وَالْمَخْلُوقِيَّةِ اخْتِلافٌ ظَاهِرٌ. فَإِنْ كَانَ هَذَا خُطُورًا يَخْطُرُ في الْبَالِ فِعِلاجُهُ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ أَنْ يَنْحُوَ عَنْ هَذَا بِغَيْرِهِ أَيْ يَشْغَلَ فِكْرَهُ بِغَيْرِهِ وَيَدْفَعَهُ بِمَا هُوَ الْمُعْتَقَدُ الصَّحِيحُ وَلْيَقُلْ: ءَامَنْتُ بِالله وَرُسُلِهِ أَوْ ءَامَنْتُ بِالله وَبِرُسُلِهِ فَإِنَّ هَذَا يَنْفَعُهُ فِي قَطْعِ هَذَا الْخَاطِرِ. وَالْخَاطِرُ هُوَ مَا لا تَمْلِكُ مَنْعَهُ مِنْ أَنْ يَرِدَ عَلَى قَلْبِكَ وَيَتَمَيَّزُ بِكَوْنِهِ بِلا إِرَادَةٍ، وَأَمَّا الشَّكُّ فبِإِرَادَةٍ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَاعْلَمْ أَنَّ أَقْسَامَ الْمَوْجُودِ ثَلاثَةٌ: الأَوَّلُ: أَزَلِيٌّ أَبَدِيٌّ وَهُوَ الله تَعَالَى فَقَطْ أَيْ لا بِدَايَةَ وَلا نِهَايَةَ لِوُجُودِهِ.

الشَّرْحُ سُئِلَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ عَنِ الله فَقَالَ: «كَانَ كَمَا هُوَ وَيَكُونُ عَلَى مَا كَانَ» ذَكَرَهُ فِي إِحْدَى رَسَائِلِهِ الْخَمْسِ، فَقَوْلُهُ «كَانَ كَمَا هُوَ» فِيهِ إِثْبَاتُ الأَزَلِيَّةِ وَقَوْلُهُ «وَيَكُونُ عَلَى مَا كَانَ» فِيهِ إِثْبَاتُ الأَبَدِيَّةِ. فَالله تَعَالَى لا بِدَايَةَ لِوُجُودِهِ لِأَنَّهُ أَزَلِيٌّ وَبِثُبُوتِ الْقِدَمِ لَهُ عَقْلًا وَجَبَ لَهُ الْبَقَاءُ لِأَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ أَنْ يَلْحَقَهُ الْعدَمُ لَانْتَفَى عَنْهُ الْقِدَمُ وَانْتِفَاءُ الْقِدَمِ عَنْهُ مُسْتَحِيلٌ فَانْتَفَى عَنْهُ إِمْكَانُ الْفَنَاءِ فَهُوَ الْبَاقِي لِذَاتِهِ.

وَيَجِبُ الْقِدَمُ أَيْضًا لِصِفَاتِهِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ تَكُنْ صِفَاتُهُ أَزَلِيَّةً بَلْ كَانَتْ تَحْدُثُ فِي الذَّاتِ لَكَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِحُدُوثِ الذَّاتِ، فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لا يَطْرَأُ عَلَى الله صِفَةٌ لَمْ تَكُنْ فِي الأَزَلِ، وَلا يَتَجَدَّدُ لَهُ عِلْمٌ وَلا إِرَادَةٌ وَلا قُدْرَةٌ وَلا حَيَاةٌ وَلا سَمْعٌ وَلا بَصَرٌ أَيْضًا، لا زِيَادَةَ وَلا نُقْصَانَ فِي صِفَاتِهِ لِأَنَّ الَّذِي يَزِيدُ وَيَنْقُصُ فَهُوَ حَادِثٌ مَخْلُوقٌ، فَعِلْمُهُ تَعَالَى لا يَزِيدُ وَلا يَنْقُصُ وَكَذَلِكَ سَائِرُ صِفَاتِهِ.

وَلَقَدْ زَاغَ أَحْمَدُ بنُ تَيْمِيَةَ فَقَالَ بِوُجُودِ الْمَخْلُوقِ مَعَ الله فِي الأَزَلِ وَقَالَ إِنَّهُ تَحْدُثُ فِي ذَاتِ الله صِفَاتٌ فَتَحْدُثُ لَهُ إِرَادَةٌ بَعْدَ إِرَادَةٍ وَكَلامٌ بَعْدَ كَلامٍ وَلَمْ يَدْرِ أَنَّ حُدُوثَ الصِّفَاتِ فِي الذَّاتِ يُوجِبُ كَوْنَ الذَّاتِ حَادِثًا، فَهُوَ فِي قَوْلِهِ إِنَّهُ لَمْ يَزَلْ مَعَ الله مَخْلُوقٌ قَلَّدَ فِيهِ الْفَلاسِفَةَ، وَلَقَدْ كَذَبَ مَنْ قَالَ فِي وَصْفِهِ إِنَّهُ لِسَانُ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مُبْتَدِعٌ فِي الِاعْتِقَادِ وَفِي الأَحْكَامِ، وَقَدْ خَرَقَ الإِجْمَاعَ فِي مَسَائِلَ عَدِيدَةٍ فِي الطَّلاقِ وَغَيْرِهِ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ أَبُو زُرْعَةَ الْعِرَاقِيُّ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَحُكْمُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ هُنَاكَ شَيْئًا أَزَلِيًّا سِوَى الله التَّكْفِيرُ قَطْعًا وَلِذَلِكَ كَفَرَتِ الْفَلاسِفَةُ بِاعْتِقَادِهِمُ السَّفِيهِ أَنَّ الْعَالَمَ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ لِأَنَّ الأَزَلِيَّةَ لا تَصِحُّ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى فَقَطْ.

الشَّرْحُ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الْعَالَمَ أَزَلِيٌّ لا بِدَايَةَ لَهُ وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا مَعَ الله بِمَادَّتِهِ وَصُورَتِهِ أَوْ بِمَادَّتِهِ فَقَطْ كَابْنِ تَيْمِيَةَ فَهُوَ كَافِرٌ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي كِتَابِهِ تَشْنِيفِ الْمَسَامِعِ: «وَهَذَا الْعَالَمُ بِجُمْلَتِهِ عُلْوِيُّهُ وَسُفْلِيُّهُ وَجَوَاهِرُهُ وَأَعْرَاضُهُ مُحْدَثٌ بِمَادَّتِهِ وَصُورَتِهِ، كَانَ عَدَمًا فَصَارَ مَوْجُودًا وَعَلَيْهِ إِجْمَاعُ أَهْلِ الْمِلَلِ، وَلَمْ يُخَالِفْ إِلَّا الْفَلاسِفَةُ وَمِنْهُمُ الْفَارَابِيُّ وَابْنُ سِينَا قَالُوا: إِنَّهُ قَدِيمٌ بِمَادَّتِهِ وَصُورَتِهِ وَقِيلَ قَدِيمُ الْمَادَّةِ مُحْدَثُ الصُّورَةِ»، ثُمَّ قَالَ: «وَضَلَّلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَكَفَّرُوهُمْ». انْتَهَى، وَيَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ هَذَا كُفْرٌ بِإِجْمَاعِ عُلَمَاءِ الإِسْلامِ. ابْنُ تَيْمِيَةَ تَبِعَ الْمُحْدَثِينَ مِنَ الْفَلاسِفَةِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَالثَّانِي: أَبَدِيٌّ لا أَزَلِيٌّ أَيْ أَنَّ لَهُ بِدَايَةً وَلا نِهَايَةَ لَهُ وَهُوَ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَهُمَا مَخْلُوقَتَانِ أَيْ لَهُمَا بِدَايَةٌ إِلَّا أَنَّهُ لا نِهَايَةَ لَهُمَا أَيْ أَبَدِيَّتَانِ فَلا يَطْرَأُ عَلَيْهِمَا خَرَابٌ أَوْ فَنَاءٌ لِمَشِيئَةِ الله بَقَاءَهُمَا، أَمَّا مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُمَا فَيَجُوزُ عَلَيْهِمَا الْفَنَاءُ عَقْلًا.

الشَّرْحُ أَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ بَقَاؤُهُمَا لَيْسَ بِالذَّاتِ بَلْ لِأَنَّ الله شَاءَ بَقَاءَهُمَا، فَالْجَنَّةُ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهَا يَجُوزُ عَلَيْهَا الْفَنَاءُ وَكَذَلِكَ النَّارُ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهَا يَجُوزُ عَلَيْهَا الْفَنَاءُ بِخِلافِ النَّاسِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْجِنِّ فَإِنَّهُمْ يَفْنَوْنَ لِأَنَّ الله لَمْ يَشَأْ بَقَاءَهُمْ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لا بَاقِيَ بِذَاتِهِ إِلَّا الله. وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ اسْتِشْكَالُ بَعْضِ النَّاسِ لِبَقَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ حَيْثُ تَوَهَّمَ أَنَّ فِي ذَلِكَ تَشْرِيكًا لَهُمَا مَعَ الله. يُقَالُ لَهُمْ لا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْمُشَارَكَةُ لِأَنَّ بَقَاءَ الله وَاجِبٌ أَيْ لا يَقْبَلُ الْعَقْلُ خِلافَهُ وَأَمَّا بَقَاءُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ لَيْسَ بَقَاءً وَاجِبًا عَقْلِيًّا إِنَّمَا هُوَ مِنَ الْجَائِزَاتِ الْعَقْلِيَّةِ لَكِنْ وَجَبَ لَهُمَا الْبَقَاءُ مِنْ حَيْثُ حُكْمُ الله تَعَالَى بِبَقَائِهِمَا، وَذَلِكَ كَإِثْبِاَتِ الْوُجُودِ لِلَّهِ وَلِلْعَالَمِ فَإِنَّنَا نَقُولُ الله مَوْجُودٌ وَالْعَالَمُ مَوْجُودٌ لَكِنْ لا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا مُشَارَكَةُ الْعَالَمِ لِلَّهِ فِي الْوُجُودِ لِأَنَّ وُجُودَ الله ذَاتِيٌّ لا مَوْجُودَ بِذَاتِهِ إِلَّا الله أَمَّا وُجُودُ الْعَالَمِ فَلَيْسَ ذَاتِيًّا بَلْ بِإِيْجَادِ الله فَلا مُشَارَكَةَ. وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الشَّيْخِ مُحْيِ الدِّينِ بنِ عَرَبِي لا مَوْجُودَ بِذَاتِهِ إِلَّا الله وَمَا أَبْشَعَ قَوْلَ بَعْضِ جَهَلَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ لا مَوْجُودَ إِلَّا الله.

كَذَلِكَ قَوْلُنَا الله حَيٌّ قَادِرٌ مُرِيدٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ عَالِمٌ مُتَكَلِّمٌ بَاقٍ فَلَيْسَ هُنَاكَ مُشَارَكَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ فَإِنَّ حَيَاةَ الله أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ أَمَّا حَيَاةُ غَيْرِهِ فَلَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي بَقِيَّةِ الصِّفَاتِ فَلا يَكُونُ هَذَا مُشَارَكَةً وَمُمَاثَلَةً إِنَّمَا هَذَا اتِّفَاقٌ فِي التَّعْبِيرِ نُعَبِّرُ عَنِ الله بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ وَنُعَبِّرُ عَنِ الْعَالَمِ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ وَلا مُوَافَقَةَ فِي الْمَعْنَى. أَمَّا إِطْلاقُ لَفْظِ التَّخَلُّقِ بِأَخْلاقِ الله فَيَنْبَغِي تَجَنُّبُهُ وَقَدْ وَرَدَ فِي هَذَا خَبَرَانِ لا أَصْلَ لَهُمَا أَحَدُهُمَا تَخَلَّقُوا بِأَخْلاقِ الله وَالآخَرُ السَّخَاءُ خُلُقُ الله الأَعْظَمُ، فَلا يَجُوزُ وَصْفُ الله بِالْخُلُقِ وَلا يَجُوزُ نِسْبَةُ الْخَبَرَيْنِ إِلَى الرَّسُولِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: الثَّالِثُ: لا أَزَلِيٌّ وَلا أَبَدِيٌّ أَيْ أَنَّ لَهُ بِدَايَةً وَلَهُ نِهَايَةً وَهُوَ كُلُّ مَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مِنَ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَالأَرْضِ فَلا بُدَّ مِنْ فَنَائِهِمَا وَفَنَاءِ مَا فِيهِمَا مِنْ إِنْسٍ وَجِنٍّ وَمَلائِكَةٍ.

الشَّرْحُ يَعْنِي أَنَّ كُلَّ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهَا مِنْ إِنْسٍ وَجِنٍّ وَمَلائِكَةٍ وَبَهَائِمَ وَغَيْرِهَا يَفْنَى قَالَ تَعَالَى ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ [سُورَةَ الرَّحْمٰنِ/26] أَيْ أَنَّ كُلَّ مَا عَلَى الأَرْضِ يَفْنَى، وَفَنَاءُ الْبَشَرِ مَعْنَاهُ مُفَارَقَةُ أَرْوَاحِهِمْ لِأَجْسَادِهِمْ. فَالآيَةُ نَصٌّ فِي فَنَاءِ مَنْ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ وَأَمَّا فَنَاءُ أَهْلِ السَّمَوَاتِ فَهُوَ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ الله تَعَالَى: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ [سُورَةَ الرَّحْمٰنِ/27] وَمَعْنَى الْوَجْهِ هُنَا الذَّاتُ أَيْ يَبْقَى الله.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَاعْلَمْ أَنَّهُ جَرَتْ عَادَةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى ذِكْرِ أَنَّ الْحُكْمَ الْعَقْلِيَّ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلاثَةٍ: الْوُجُوبُ وَالِاسْتِحَالَةُ وَالْجَوَازُ، وَقَالُوا: الْوَاجِبُ: مَا لا يُتَصَوَّرُ عَدَمُهُ وَهُوَ الله وَصِفَاتُهُ.

الشَّرْحُ الله تَعَالَى ذَاتُهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ وَيُقَالُ لَهُ وَاجِبٌ عَقْلِيٌّ، وَكَذَلِكَ صِفَاتُهُ أَيْ أَنَّ الْعَقْلَ يُحَتِّمُ وُجُودَهُ وَلا يَقْبَلُ انْتِفَاءَهُ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَالْمُسْتَحِيلُ: مَا لا يُتَصَوَّرُ فِي الْعَقْلِ وُجُودُهُ، وَقَدْ يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِالْمُمْتَنِعِ.

الشَّرْحُ أَمَّا الْمُسْتَحِيلُ الْعَقْلِيُّ فَهُوَ كَالشَّرِيكِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالْعَجْزِ وَالْجَهْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الله، فَكُلُّ مَا لا يَجُوزُ عَلَى الله فَهُوَ مُسْتَحِيلٌ عَقْلِيٌّ. وَمِنَ الْمُسْتَحِيلِ الْعَقْلِيِّ كَوْنُ الْحَادِثِ أَزَلِيًّا.

أَمَّا الْمُسْتَحِيلُ الْعَادِيُّ فَيَصِحُّ وُجُودُهُ عَقْلًا لَكِنْ عَادَةً لا يَصِحُّ كَوُجُودِ جَبَلٍ مِنْ زِئْبَقٍ، فَهَذَا لا يَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا عَلَى حَسَبِ الْعَادَةِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: وَالْجَائِزُ: مَا يُتَصَوَّرُ فِي الْعَقْلِ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ وَلِذَلِكَ يَصِفُونَ الله بِالْوَاجِبِ الْوُجُودِ.

الشَّرْحُ مَا يُتَصَوَّرُ فِي الْعَقْلِ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ يُقَالُ لَهُ: الْجَائِزُ الْعَقْلِيُّ وَيُقَالُ لَهُ الْمُمْكِنُ الْعَقْلِيُّ أَيْ يُمْكِنُ وُجُودُهُ بَعْدَ عَدَمٍ وَإِعْدَامُهُ بَعْدَ وُجُودِهِ بِالنَّظَرِ لِذَاتِهِ فِي حُكْمِ الْعَقْلِ، وَهُوَ هَذَا الْعَالَمُ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ الله: قِدَمُ الله لَيْسَ زَمَانِيًّا

الشَّرْحُ مَعْنَى هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَنَّ الله لا يَجْرِي عَلَيْهِ زَمَانٌ أَيْ لا بِدَايَةَ لِوُجُودِهِ لِأَنَّ الزَّمَانَ حَادِثٌ.



اللَّهُ تَعَالَى كَانَ قَبْلَ الزَّمَانِ وَقَبْلَ الْمَكَانِ، وَقَبْلَ الظُّلُمَاتِ وَقَبْلَ النُّورِ، فَهُوَ تَعَالَى لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْعَالَمِ الْكَثِيفِ كَالأَرْضِ، وَالْحَجَرِ، وَالْكَوَاكِبِ، وَالنَّبَاتِ وَالإِنْسَانِ، وَلَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْعَالَمِ اللَّطِيفِ كَالنُّورِ، وَالرُّوحِ، وَالْهَوَاءِ، وَالْجِنِّ، وَالْمَلائِكَةِ لِمُخَالَفَتِهِ لِلْحَوَادِثِ، أَيْ لِمُخَالَفَتِهِ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ.

فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ مِنْ أَسْمَائِهِ اللَّطِيفُ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ مَعْنَى اللَّطِيفِ الَّذِي هُوَ اسْمٌ لِلَّهِ: الرَّحِيمُ بِعِبَادِهِ أَوِ الَّذِي احْتَجَبَ عَنِ الأَوْهَامِ فَلا تُدْرِكُهُ.

الشَّرْحُ اللَّهُ تَعَالَى لا تَبْلُغُهُ الأَوْهَامُ أَيْ لا تَبْلُغُهُ تَصَوُّرَاتُ الْعِبَادِ لِأَنَّ الإِنْسَانَ وَهْمُهُ يَدُورُ حَوْلَ مَا أَلِفَهُ مِنَ الشَّىْءِ الْمَحْسُوسِ الَّذِي لَهُ حَدٌّ وَشَكْلٌ وَهَيْأَةٌ وَاللَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِذَلِكَ نُهِينَا عَنِ التَّفَكُّرِ فِي ذَاتِ اللَّهِ وَأُمِرْنَا بِالتَّفَكُّرِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ لِأَنَّ التَّفَكُّرَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ يُقَوِّي الْيَقِينَ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَلا نَظِيرَ لَهُ تَعَالَى أَيْ لا مَثِيلَ لَهُ وَلا شَبِيهَ فِي ذَاتِهِ وَلا فِي صِفَاتِهِ وَلا فِي فِعْلِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُمَاثِلًا لِمَخْلُوقَاتِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ كَالْحَجْمِ وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ خَالِقًا لَهَا.

الشَّرْحُ ذَاتُ اللَّهِ مَعْنَاهُ حَقِيقَةُ اللَّهِ الَّذِي لا يُشْبِهُ الْحَقَائِقَ، فَذَاتُ اللَّهِ لا يُشْبِهُ ذَوَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَصِفَاتُهُ لا تُشْبِهُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ لِأَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ أَزَلِيَّةٌ وَصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ حَادِثَةٌ يَجُوزُ عَلَيْهَا التَّطَوُّرُ وَالتَّغَيُّرُ. فَلا يَتَّصِفُ اللَّهُ بِصِفَةٍ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِهَا فِي الأَزَلِ.

وَاللَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ بِمَعْنَى الإِخْرَاجِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ وَلا فَاعِلَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إِلَّا اللَّهُ، فَاللَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ فِعْلًا بِقُدْرَتِهِ الأَزَلِيَّةِ وَبِتَكْوِينِهِ الأَزَلِيِّ بِلا مُبَاشَرَةٍ وَلا مُمَاسَّةٍ لِشَىْءٍ وَعَلَى هَذَا الْبُخَارِيُّ حَيْثُ قَالَ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ: «وَالْفِعْلُ صِفَتُهُ فِي الأَزَلِ وَالْمَفْعُولُ مُكَوَّنٌ مُحْدَثٌ» اهـ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا عَلَيْهِ الْمَاتُرِيدِيَّةُ وَبَعْضُ قُدَمَاءِ الأَشَاعِرَةِ مِنْ أَزَلِيَّةِ صِفَاتِ الْفِعْلِ كِصَفَاتِ الذَّاتِ وَرَجَّحَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ. وَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي فِعْلُهُ لا يَتَخَلَّفُ أَثَرُهُ إِذَا شَاءَ حُصُولَ شَىْءٍ إِثْرَ مُزَاوَلَةِ الْمَخْلُوقِ شَيْئًا حَصَلَ لا مَحَالَةَ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الِاتِّصَافِ بِالْحَوَادِثِ، وَكَذَلِكَ صِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى هِيَ قَدِيمَةٌ أَيْ أَزَلِيَّةٌ. وَلِأَهَمِّيَّةِ هَذَا الْبَحْثِ قَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ [فِي إِحْدَى رَسَائِلِهِ الْخَمْسِ الَّتِي هِيَ ثَابِتَةٌ عَنْهُ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْحَافِظُ اللُّغَوِيُّ مُرْتَضَى الزَّبِيدِيُّ]: «مَنْ قَالَ بِحُدُوثِ صِفَاتِ اللَّهِ، أَوْ شَكَّ، أَوْ تَوَقَّفَ، فَهُوَ كَافِرٌ»، ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْوَصِيَّةِ. [أو الفقه الأكبر؟]

الشَّرْحُ أَنَّ الَّذِي يَقُولُ عَنْ صِفَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهَا أَزَلِيَّةٌ وَلَعَلَّهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ أَوْ يَقُولُ لا أَقُولُ إِنَّهَا أَزَلِيَّةٌ وَلا أَقُولُ إِنَّهَا غَيْرُ أَزَلِيَّةٍ فَهُوَ كَافِرٌ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ.

الشَّرْحُ أَنَّ الَّذِي يَصِفُ اللَّهَ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَأَوَّلُ صِفَاتِ الْبَشَرِ هِيَ الْحُدُوثُ أَيِ الْوُجُودُ بَعْدَ عَدَمٍ، وَصِفَاتُ الْبَشَرِ كَثِيرَةٌ مِنْهَا الْجُلُوسُ وَالِاتِّصَالُ وَالِانْفِصَالُ وَالْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ وَالِانْفِعَالُ وَالتَّنَقُّلُ مِنْ عُلْوٍ إِلَى سُفْلٍ وَالتَّحَيُّزُ فِي الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَلَيْسَ مِنْ وَصْفِ اللَّهِ بِمَعَانِي الْبَشَرِ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ بِكَلامٍ أَزَلِيٍّ لَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا، وَإِنَّهُ يَرَى بِرُؤْيَةٍ أَزَلِيَّةٍ بِغَيْرِ حَدَقَةٍ، وَإِنَّهُ يَسْمَعُ بِسَمْعٍ أَزَلِيٍّ لَيْسَ بِأُذُنٍ وَءَالَةٍ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ إِلَّا تَوَافُقًا فِي اللَّفْظِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنِ الْمَكَانِ وَتَصْحِيحُ وُجُودِهِ بِلا مَكَانٍ عَقْلًا

وَاللَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ أَيْ مُسْتَغْنٍ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ أَزَلًا وَأَبَدًا فَلا يَحْتَاجُ إِلَى مَكَانٍ يَتَحَيَّزُ فِيهِ أَوْ شَىْءٍ يَحُلُّ بِهِ أَوْ إِلَى جِهَةٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ كَشَىْءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ لَيْسَ حَجْمًا كَثِيفًا وَلا حَجْمًا لَطِيفًا وَالتَّحَيُّزُ مِنْ صِفَاتِ الْجِسْمِ الْكَثِيفِ وَاللَّطِيفِ فَالْجِسْمُ الْكَثِيفُ وَالْجِسْمُ اللَّطِيفُ مُتَحَيِّزٌ فِي جِهَةٍ وَمَكَانٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [سُورَةَ الأَنْبِيَاء/33] فَأَثْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى لِكُلٍّ مِنَ الأَرْبَعَةِ التَّحَيُّزَ فِي فَلَكِهِ وَهُوَ الْمَدَارُ.

الشَّرْحُ مِنْ صِفَاتِ الإِلَهِ أَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى مَكَانٍ يَسْتَقِرُّ أَوْ يَتَحَيَّزُ فِيهِ فَإِنَّهُ ليس إِلَهًا. وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «مَنْ زَعَمَ أَنَّ إِلَهَنَا مَحْدُودٌ فَقَدْ جَهِلَ الْخَالِقَ الْمَعْبُودَ» رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِ حِلْيَةِ الأَوْلِيَاءِ. وَمَعْنَى كَلامِهِ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ حَجْمٌ صَغِيرٌ وَلا كَبِيرٌ، لَيْسَ كَأَصْغَرِ حَجْمٍ وَهُوَ الْجُزْءُ الَّذِي لا يَتَجَزَّأُ، وَلا كَأَكْبَرِ حَجْمٍ كَالْعَرْشِ وَلَيْسَ حَجْمًا أَكْبَرَ مِنَ الْعَرْشِ وَلا كَمَا بَيْنَ أَصْغَرِ حَجْمٍ وَأَكْبَرِ حَجْمٍ قَالَ تَعَالَى ﴿وَكُلُّ شَىْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ [سُورَةَ الرَّعْد/8] فَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْمِقْدَارِ أَيْ الْحَدِّ وَالْكَمِيَّةِ، فَمَنْ قَالَ إِنَّهُ حَجْمٌ كَبِيرٌ بِقَدْرِ الْعَرْشِ أَوْ كَحَجْمِ الإِنْسَانِ فَقَدْ خَالَفَ الآيَةَ، كَمَا أَنَّهُ خَالَفَ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/11] لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ حَجْمٌ لَكَانَ لَهُ أَمْثَالٌ لا تُحْصَى وَلَوْ كَانَ مُتَحَيِّزًا فِي جِهَةِ فَوْقٍ لَكَانَ لَهُ أَمْثَالٌ لا تُحْصَى، فَالْجِهَاتُ كُلُّهَا بِالنِّسْبَةِ لِذَاتِ اللَّهِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ وَلِذَلِكَ يُوصَفُ اللَّهُ بِالْقَرِيبِ فَلَوْ كَانَ مُتَحَيِّزًا فَوْقَ الْعَرْشِ لَكَانَ بَعِيدًا وَلَمْ يَكُنْ قَرِيبًا. قَالَ الإِمَامُ زَيْنُ الْعَابِدِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلِيُّ بنُ الْحُسَيْنِ فِي الصَّحِيفَةِ السَّجَّادِيَّةِ: «سُبْحَانَكَ أَنْتَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ لا يَحْوِيكَ مَكَانٌ لا تُحَسُّ وَلا تُمَسُّ وَلا تُجَسُّ»، رَوَاهُ الْحَافِظُ مُحَمَّدُ مُرْتَضَى الزَّبِيدِيُّ فِي كِتَابِ إِتْحَافِ السَّادَةِ الْمُتَّقِينَ بِالإِسْنَادِ الْمُتَّصِلِ مِنْهُ إِلَى زَيْنِ الْعَابِدِينَ.

 

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَكْفِي فِي تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنِ الْمَكَانِ وَالْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/11] لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَكَانٌ لَكَانَ لَهُ أَمْثَالٌ وَأَبْعَادٌ طُولٌ وَعَرْضٌ وَعُمْقٌ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مُحْدَثًا مُحْتَاجًا لِمَنْ حَدَّهُ بِهَذَا الطُّولِ وَبِهَذَا الْعَرْضِ وَبِهَذَا الْعُمْقِ، هَذَا الدَّلِيلُ مِنَ الْقُرْءَانِ. أَمَّا مِنَ الْحَدِيثِ فَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ الْجَارُودِ وَالْبَيْهَقِيُّ بِالإِسْنَادِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْرُهُ» وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا فِي الأَزَلِ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ لا مَاءٌ وَلا هَوَاءٌ وَلا أَرْضٌ وَلا سَمَاءٌ وَلا كُرْسِيٌّ وَلا عَرْشٌ وَلا إِنْسٌ وَلا جِنٌّ وَلا مَلائِكَةٌ وَلا زَمَانٌ وَلا مَكَانٌ وَلا جِهَاتٌ، فَهُوَ تَعَالَى مَوْجُودٌ قَبْلَ الْمَكَانِ بِلا مَكَانٍ، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الْمَكَانَ فَلَيْسَ بِحَاجَةٍ إِلَيْهِ، وَهَذَا مَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِهِ «الأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ»: «اسْتَدَلَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي نَفْيِ الْمَكَانِ عَنْهُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَىْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَىْءٌ»، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فَوْقَهُ شَىْءٌ وَلا دُونَهُ شَىْءٌ لَمْ يَكُنْ فِي مَكَانٍ» اهـ. وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ الرَّدُّ أَيْضًا عَلَى الْقَائِلِينَ بِالْجِهَةِ فِي حَقِّهِ تَعَالَى.

الشَّرْحُ اللَّهُ تَعَالَى ظَاهِرٌ مِنْ حَيْثُ الدَّلائِلُ الْعَقْلِيَّةُ الَّتِي قَامَتْ عَلَى وُجُودِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ وَإِرَادَتِهِ لِأَنَّهُ مَا مِنْ شَىْءٍ إِلَّا وَهُوَ يَدُلُّ دِلالَةً عَقْلِيَّةً عَلَى وُجُودِ اللَّهِ كَمَا قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ:

فَيَا عَجَبًا كَيْفَ يُعْصَى الإِلَهُ # أَمْ كَيْفَ يَجْحَدُهُ الْجَاحِدُ

وَفِي كُلِّ شَىْءٍ لَهُ ءَايَــةٌ # تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِــدُ

وَفِي كُلِّ تَحْرِيكَةٍ ءَايَــةٌ # وَفِي كُلِّ تَسْكِينَةٍ شَاهِدُ

وَمَعْنَاهَا أَنَّ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ وَحَرَكَاتِهَا وَسَكَنَاتِهَا تَدُلُّ دِلالَةً عَقْلِيَّةً عَلَى وُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَأَنَّهَا تَنْطِقُ نُطْقًا بِذَلِكَ، فَمَا كَانَ مِنْهَا نُطْقًا كَالْمَلائِكَةِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ فَتِلْكَ شَهَادَةٌ حِسِيَّةٌ، وَأَمَّا مَا لا يَنْطِقُ مِنْهَا حِسًّا فَهِيَ شَهَادَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ كَأَنَّ لِسَانَ حَالِهَا يَنْطِقُ وَيَقُولُ أَنَا مِنْ صُنْعِ حَكِيمٍ عَلِيمٍ قَادِرٍ مُرِيدٍ مُنَزَّهٍ عَنِ النَّقْصِ هُوَ اللَّهُ. وَالْجَمَادَاتُ قَدْ تَنْطِقُ بِالنُّطْقِ الَّذِي يَفْهَمُهُ الْبَشَرُ بِالشَّهَادَةِ لِوُجُودِ اللَّهِ وَتَقْدِيسِهِ كَالطَّعَامِ الَّذِي سَبَّحَ فِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ وَكَتَسْبِيحِ السُّبْحَةِ فِي يَدِ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلانِيِّ كَانَ يُسَبِّحُ بِهَا ثُمَّ نَامَ فَصَارَتِ السُّبْحَةُ تَدُورُ عَلَى ذِرَاعِهِ تَقُولُ سُبْحَانَكَ يَا مُنْبِتَ النَّبَاتِ وَيَا دَائِمَ الثَّبَاتِ. رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بنُ عَسَاكِرَ فِي كِتَابِهِ تَارِيخِ دِمَشْقَ. وَحَصَلَ لِامْرَأَةٍ فِي عَرْسَال أَنَّهَا كَانَتْ ذَاتَ مَسَاءٍ فِي الْكَرْمِ فَسَمِعَتِ الْكَرْمَ يَقُولُ اللَّهُ اللَّهُ. وَمَعْنَى دَائِمِ الثَّبَاتِ دَائِمُ الْوُجُودِ لَيْسَ مَعْنَاهُ السُّكُون.

وَأَمَّا الْبَاطِنُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ فَمَعْنَاهُ عَلَى مَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الَّذِي يَعْلَمُ حَقَائِقَ الأُمُورِ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: الَّذِي لا تُدْرِكُهُ الأَوْهَامُ أَيْ لا تَبْلُغُهُ تَصَوُّرَاتُ الْعِبَادِ.

أَمَّا حَقِيقَةُ اللَّهِ فَلا يَصِلُ إِلَيْهِ أَحَدٌ مَهْمَا شَغَلَ فِكْرَهُ، فَلِذَلِكَ نُهِينَا عَنِ التَّفَكُّرِ فِي ذَاتِ اللَّهِ وَأُمِرْنَا بِالتَّفَكُّرِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ، فَلْيَتَفَكَّرِ الإِنْسَانُ مِنَّا فِي نَفْسِهِ كَيْفَ يَدْخُلُ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ مِنْ مَدْخَلٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَخْرُجَانِ مِنْ مَخْرَجَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ [الضَّمِيرُ يَعُودُ إِلَى الإِنْسَانِ]، فَبِهَذَا التَّفَكُّرِ يَصِلُ إِلَى مَعْرِفَةِ أَنَّهُ أَوْجَدَهُ مُوجِدٌ لا يُشْبِهُهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ أَيْ أَنَّهُ لَيْسَ حَجْمًا وَلا مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ الْحَجْمِ. فَمِثْلُ هَذَا التَّفَكُّرِ فِي مَصْنُوعَاتِ اللَّهِ وَاجِبٌ أَمَرَنَا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهِ، أَمَّا التَّفَكُّرُ فِي ذَاتِ اللَّهِ أَيْ إِعْمَالُ الْفِكْرِ لِتَوَهُّمِهِ وَتَخَيُّلِهِ فَهُوَ مُحَرَّمٌ لِأَنَّكَ لا تَصِلُ إِلَى نَتِيجَةٍ لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ لا كَالْمَوْجُوداتِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «كَانَ اللَّهُ وَلا مَكَانَ وَهُوَ الآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ» رَوَاهُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ.

الشَّرْحُ «كَانَ اللَّهُ» أَيْ فِي الأَزَلِ «وَلا مَكَانَ» أَيْ وَلَمْ يَكُنْ مَكَانٌ «وَهُوَ الآنَ» أَيْ بَعْدَ أَنْ خَلَقَ الْمَكَانَ «عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ» أَيْ لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا بِلا مَكَانٍ لِأَنَّهُ لا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّغَيُّرُ وَالتَّطَوُّرُ وَالِانْتِقَالُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَيْسَ مِحْوَرُ الِاعْتِقَادِ عَلَى الْوَهْمِ بَلْ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ الصَّحِيحُ السَّلِيمُ الَّذِي هُوَ شَاهِدٌ لِلشَّرْعِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَحْدُودَ مُحْتَاجٌ إِلَى مَنْ حَدَّهُ بِذَلِكَ الْحَدِّ فَلا يَكُونُ إِلَهًا.

الشَّرْحُ الْوَهْمُ وَالتَّخَيُّلُ قَدْ يَجْتَمِعَانِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَمِحْوَرُ اعْتِقَادِ الْمُسْلِمِ لَيْسَ عَلَى الْوَهْمِ لِأَنَّ الْوَهْمَ يَحْكُمُ عَلَى مَا لَمْ يُشَاهِدْهُ بِحُكْمِ مَا شَاهَدَهُ فَيَحْكُمُ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ بِمَكَانٍ، أَمَّا الْعَقْلُ السَّلِيمُ فَيَقْضِي بِأَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ بِلا مَكَانٍ. وَمِحْوَرُ اعْتِقَادِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْعَقْلِ السَّلِيمِ لَيْسَ عَلَى الْوَهْمِ لِأَنَّ الْعَقْلَ لا يَرُدُّ ذَلِكَ بَلْ يَقْبَلُهُ وَيُسَلِّمُ بِهِ وَالْوَهْمُ يَتَصَوَّرُ أَشْيَاءَ لا حَقِيقَةَ لَهَا وَمِثَالُ ذَلِكَ لَوْ نَظَرَ إِنْسَانٌ إِلَى الْبَحْرِ عِنْدَ الْغُرُوبِ وَهْمُهُ يَقُولُ لَهُ إِنَّ السَّمَاءَ مُلْتَصِقَةٌ بِالْبَحْرِ وَإِنَّ الشَّمْسَ تَنْزِلُ فِي الْبَحْرِ لَكِنَّ الْوَاقِعَ غَيْرُ ذَلِكَ، فَنَحْنُ نَنْظُرُ إِلَى الْعَقْلِ وَلا نَنْظُرُ إِلَى الْوَهْمِ. وَإِذَا قَالَ الْمُشَبِّهَةُ كَيْفَ يُقَالُ اللَّهُ لَيْسَ مُتَّصِلًا بِالْعَالَمِ وَلا مُنْفَصِلًا عَنْهُ هَذَا لا يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ، يُقَالُ لَهُمْ: الْعَقْلُ يَقْبَلُهُ لَكِنَّ الْوَهْمَ لا يَتَصَوَّرُهُ، كَمَا لا يَتَصَوَّرُ الْوَهْمُ عَدَمَ النُّورِ وَالظَّلامِ مَعًا فِي ءَانٍ وَاحِدٍ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَا لِأَنَّهُمَا خُلِقَا بَعْدَ خَلْقِ الْمَاءِ وَالْعَرْشِ وَالْقَلَمِ وَاللَّوْحِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ عِمْرَانَ بنِ الْحُصَيْنِ «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْرُهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَىْءٍ». فَإِنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَىْءٍ» يُرِيدُ بِهِ الْقَلَمَ الأَعْلَى وَاللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ. دَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ هَؤُلاءِ الأَرْبَعَةَ أَوَّلُ الْمَخْلُوقَاتِ، فَيُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُخْلَقِ النُّورُ وَالظَّلامُ إِلَّا بَعْدَ هَؤُلاءِ الأَرْبَعَةِ. فَأَيُّ عَقْلٍ يَفْهَمُ حَقِيقَةَ ذَلِكَ؟ وَمَعَ كَوْنِ ذَلِكَ غَيْرَ مَفْهُومٍ لِلإِنْسَانِ نُؤْمِنُ بِهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام/1].



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَكَمَا صَحَّ وُجُودُ اللَّهِ تَعَالَى بِلا مَكَانٍ وَجِهَةٍ قَبْلَ خَلْقِ الأَمَاكِنِ وَالْجِهَاتِ فَكَذَلِكَ يَصِحُّ وُجُودُهُ بَعْدَ خَلْقِ الأَمَاكِنِ بِلا مَكَانٍ وَجِهَةٍ، وَهَذَا لا يَكُونُ نَفْيًا لِوُجُودِهِ تَعَالَى كَمَا زَعَمَتِ الْمُشَبِّهَةُ وَالْوَهَّابِيَّةُ وَهُمُ الدُّعَاةُ إِلَى التَّجْسِيمِ فِي هَذَا الْعَصْرِ.

الشَّرْحُ أَمَّا الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنِ الْمَكَانِ فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَوِ اسْتَقَرَّ عَلَى مَكَانٍ أَوْ حَاذَى مَكَانًا لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ الْمَكَانِ أَوْ أَصْغَرَ مِنْهُ أَوْ أَكْبَرَ مِنْهُ، فَلَوْ كَانَ مِثْلَ الْمَكَانِ لَكَانَ لَهُ شَكْلُ الْمَكَانِ إِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَكَانُ مُرَبَّعًا أَوْ مُثَلَّثًا أَوْ غَيْرَهُمَا مِنَ الأَشْكَالِ فَيَكُونُ مُحْتَاجًا إِلَى مُخَصِّصٍ خَصَّصَهُ بِأَحَدِ هَذِهِ الأَشْكَالِ وَهَذَا عَجْزٌ، وَلَوْ كَانَ أَكْبَرَ مِنَ الْمَكَانِ لَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى التَّوَهُّمِ أَنَّ اللَّهَ مُتَجَزِّئٌ بِأَنْ يَكُونَ جُزْءٌ مِنْهُ فِي مَكَانٍ وَالزَّائِدُ خَارِجَ الْمَكَانِ وَاعْتِقَادُ هَذَا كُفْرٌ أَيْضًا، وَلَوْ كَانَ أَصْغَرَ مِنَ الْمَكَانِ لَكَانَ ذَلِكَ حَصْرًا لَهُ وَهَذَا لا يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعَالَى. فَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مِثْلَ الْمَكَانِ أَوْ أَكْبَرَ مِنَ الْمَكَانِ أَوْ أَصْغَرَ مِنَ الْمَكَانِ وَمَا أَدَّى إِلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَحُكْمُ مَنْ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي كُلِّ مَكَانٍ أَوْ فِي جَمِيعِ الأَمَاكِنِ» التَّكْفِيرُ إِذَا كَانَ يَفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَنَّ اللَّهَ بِذَاتِهِ مُنْبَثٌ أَوْ حَالٌّ فِي الأَمَاكِنِ، أَمَّا إِذَا كَانَ يَفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَنَّهُ تَعَالَى مُسَيْطِرٌ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَعَالِمٌ بِكُلِّ شَىْءٍ فَلا يَكْفُرُ، وَهَذَا قَصْدُ كَثِيرٍ مِمَّنْ يَلْهَجُ بِهَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ، وَيَجِبُ النَّهْيُ عَنْهُمَا عَلَى كُلِّ حَالٍ، لِأَنَّهُمَا لَيْسَتَا صَادِرَتَيْنِ عَنِ السَّلَفِ بَلْ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ ثُمَّ اسْتَعْمَلَهُمَا جَهَلَةُ الْعَوَامِّ.

الشَّرْحُ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ الْجَهْمِيَّةِ كَانَ جَهْمُ بنُ صَفْوَانَ يَقُولُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ هَذَا الْهَوَاءُ وَعَلَى كُلِّ شَىْءٍ فَكَفَّرَهُ الْمُسْلِمُونَ وَقُتِلَ بِحُكْمِ الرِّدَّةِ، أَمَّا مَنْ قَالَ اللَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ عَلَى مَعْنَى الإِحَاطَةِ بِالْعِلْمِ وَالتَّدْبِيرِ فَلا نُكَفِّرُهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطًا﴾ [سُورَةَ النِّسَاء/126] فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ مُحِيطٌ بِالْعَالَمِ كَإِحَاطَةِ الْحُقَّةِ بِمَا فِيهَا [وَالْحُقَّةُ شَىْءٌ مُسْتَدِيرٌ يُوضَعُ فِيهِ الأَشْيَاءُ الثَّمِينَةُ] إِنَّمَا مَعْنَاهُ إِحَاطَةُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ أَيْ أَنَّهُ لا يَخْرُجُ شَىْءٌ عَنْ قُدْرَةِ اللَّهِ وَعِلْمِهِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَنَرْفَعُ الأَيْدِيَ فِي الدُّعَاءِ لِلسَّمَاءِ لِأَنَّهَا مَهْبِطُ الرَّحَمَاتِ وَالْبَرَكَاتِ وَلَيْسَ لِأَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ بِذَاتِهِ فِي السَّمَاءِ، كَمَا أَنَّنَا نَسْتَقْبِلُ الْكَعْبَةَ الشَّرِيفَةَ فِي الصَّلاةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِذَلِكَ وَلَيْسَ لِأَنَّ لَهَا مِيزَةً وَخُصُوصِيَّةً بِسُكْنَى اللَّهِ فِيهَا.

الشَّرْحُ نَرْفَعُ أَيْدِيَنَا فِي الدُّعَاءِ إِلَى السَّمَاءِ لِأَنَّ السَّمَاءَ قِبْلَةُ الدُّعَاءِ كَمَا أَنَّ الْكَعْبَةَ قِبْلَةُ الصَّلاةِ أَيْ تَنْزِلُ عَلَيْنَا الْبَرَكَةُ وَالرَّحْمَةُ مِنْهَا لِأَنَّ السَّمَاءَ مَهْبِطُ الرَّحَمَاتِ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ [سُورَةَ الذَّارِيَات/22]. وَأَمَّا مَدُّ الْيَدَيْنِ فَمَعْنَاهُ اسْتِنْزَالُ الرَّحْمَةِ وَاللَّهُ لا يُخِيبُ الْقَاصِدِينَ بِحَقٍّ، فَهَذَا الدَّاعِي الَّذِي دَعَا اللَّهَ تَعَالَى وَكَانَ مَادًّا يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ لِيَسْتَنْزِلَ الرَّحَمَاتِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا مَسَحَ بَعْدَ إِنْهَاءِ الدُّعَاءِ بِالْيَدَيْنِ وَجْهَهُ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْيَدَ نَزَلَتْ عَلَيْهَا رَحَمَاتٌ وَبِمَسْحِهِ وَجْهَهُ بِهِمَا أَصَابَتْ هَذِهِ الرَّحَمَاتُ وَجْهَهُ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَكْفُرُ مَنْ يَعْتَقِدُ التَّحَيُّزَ لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ شَىْءٌ كَالْهَوَاءِ أَوْ كَالنُّورِ يَمْلأُ مَكَانًا أَوْ غُرْفَةً أَوْ مَسْجِدًا وَيُرَدُّ عَلَى الْمُعْتَقِدِينَ أَنَّ اللَّهَ مُتَحَيِّزٌ فِي جِهَةِ الْعُلْوِ وَيَقُولُونَ لِذَلِكَ تُرْفَعُ الأَيْدِي عِنْدَ الدُّعَاءِ بِمَا ثَبَتَ عَنِ الرَّسُولِ أَنَّهُ اسْتَسْقَى أَيْ طَلَبَ الْمَطَرَ وَجَعَلَ بَطْنَ كَفَّيْهِ إِلَى الأَرْضِ وَظَاهِرَهُمَا إِلَى السَّمَاءِ وَبِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى الْمُصَلِّي أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَلَوْ كَانَ اللَّهُ مُتَحَيِّزًا فِي جِهَةِ الْعُلْوِ كَمَا تَظُنُّ الْمُشَبِّهَةُ مَا نَهَانَا عَنْ رَفْعِ أَبْصَارِنَا فِي الصَّلاةِ إِلَى السَّمَاءِ، وَبِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ إِصْبَعَهُ الْمُسَبِّحَةَ عِنْدَ قَوْلِ «إِلَّا اللَّهُ» فِي التَّحِيَّاتِ وَيَحْنِيهَا قَلِيلًا فَلَوْ كَانَ الأَمْرُ كَمَا تَقُولُ الْمُشَبِّهَةُ مَا كَانَ يَحْنِيهَا بَلْ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَكُلُّ هَذَا ثَابِتٌ حَدِيثًا عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ. فَمَاذَا تَفْعَلُ الْمُشَبِّهَةُ وَالْوَهَّابِيَّةُ؟! وَنُسَمِّي الْمَسَاجِدَ بُيُوتَ اللَّهِ لا لِأَنَّ اللَّهَ يَسْكُنُهَا بَلْ لِأَنَّهَا أَمَاكِنُ مُعَدَّةٌ لِذِكْرِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ، وَيُقَالُ فِي الْعَرْشِ إِنَّهُ جِرْمٌ أَعَدَّهُ اللَّهُ لِيَطُوفَ بِهِ الْمَلائِكَةُ كَمَا يَطُوفُ الْمُؤْمِنُونَ فِي الأَرْضِ بِالْكَعْبَةِ. وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ: (اللَّهُ يَسْكُنُ قُلُوبَ أَوْلِيَائِهِ) إِنْ كَانَ يَفْهَمُ مِنْهُ الْحُلُولَ.

الشَّرْحُ الْقِسْمُ الأَوَّلُ وَاضِحُ الْمَعْنَى وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ، أَمَّا الْعِبَارَةُ الأَخِيرَةُ فَهِيَ مِنْ كَلامِ جَهَلَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ وَهَذَا كُفْرٌ، لَكِنْ إِنْ كَانَ يَفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَنَّ حُبَّ اللَّهِ سَاكِنُ قُلُوبِهِمْ فَلا يَكْفُرُ. وَأَمَّا الْحَيِّزُ فَهُوَ مَا يَشْغَلُهُ الْجِسْمُ مِنَ الْفَرَاغِ، فَالْحَيِّزُ هُوَ الْمَكَانُ، إِنْ كَانَ جِسْمًا صَلْبًا كَالأَرْضِ وَإِنْ كَانَ فَرَاغًا فَإِنَّ الْعَرْشَ وَالنُّجُومَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ مُتَحَيِّزَاتٌ فِي الْفَرَاغِ وَكَذَلِكَ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ غَيْرَ أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يَسْبَحَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي مَدَارٍ بِخِلافِ الْعَرْشِ وَالسَّمَوَاتِ فَإِنَّهَا سَاكِنَاتٌ، فَإِنَّ الْقُرْءَانَ خَصَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَاللَّيْلَ وَالنَّهَارَ بِالسَّبْحِ وَذَلِكَ فِي هَذِهِ الآيَةِ ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [سُورَةَ الأَنْبِيَاء/33].



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِالْمِعْرَاجِ وُصُولَ الرَّسُولِ إِلَى مَكَانٍ يَنْتَهِي وُجُودُ اللَّهِ تَعَالَى إِلَيْهِ وَيَكْفُرُ مَنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ، إِنَّمَا الْقَصْدُ مِنَ الْمِعْرَاجِ هُوَ تَشْرِيفُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِطْلاعِهِ عَلَى عَجَائِبَ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، وَتَعْظِيمُ مَكَانَتِهِ وَرُؤْيَتُهُ لِلذَّاتِ الْمُقَدَّسِ بِفُؤَادِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الذَّاتُ فِي مَكَانٍ وَإِنَّمَا الْمَكَانُ لِلرَّسُولِ.

الشَّرْحُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِالْمِعْرَاجِ أَنَّ الرَّسُولَ وَصَلَ إِلَى مَكَانٍ حَيْثُ اللَّهُ تَعَالَى مُتَحَيِّزٌ فِيهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لا يَجُوزُ عَلَيْهِ عَقْلًا التَّحَيُّزُ فِي مَكَانٍ وَالِاسْتِقْرَارُ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَكَانُ عُلْوِيًّا أَوْ سُفْلِيًّا إِنَّمَا الْمَقْصُودُ بِالْمِعْرَاجِ هُوَ تَشْرِيفُ الرَّسُولِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ [سُورَةَ النَّجْم] فَالْمَقْصُودُ بِهَذِهِ الآيَةِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ حَيْثُ رَءَاهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ أَجْيَادٌ وَلَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ سَادًّا عُظْمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ الأُفُقِ، كَمَا رَءَاهُ مَرَّةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى﴾ [سُورَةَ النَّجْم].

الشَّرْحُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ [سُورَةَ النَّجْم] أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ اقْتَرَبَ مِنْ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ فَتَدَلَّى إِلَيْهِ فَكَانَ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمَسَافَةِ بِمِقْدَارِ ذِرَاعَيْنِ بَلْ أَقْرَبَ، وَقَدْ تَدَلَّى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ إِلَى مُحَمَّدٍ وَدَنَا مِنْهُ فَرَحًا بِهِ.

وَلَيْسَ الأَمْرُ كَمَا يَفْتَرِي بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى دَنَا بِذَاتِهِ مِنْ مُحَمَّدٍ فَكَانَ بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَبَيْنَ اللَّهِ كَمَا بَيْنَ الْحَاجِبِ وَالْحَاجِبِ أَوْ قَدْرَ ذِرَاعَيْنِ لِأَنَّ إِثْبَاتَ الْمَسَافَةِ لِلَّهِ تَعَالَى إِثْبَاتٌ لِلْمَكَانِ وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْخَلْقِ، أَمَّا الْخَالِقُ فَهُوَ مَوْجُودٌ بِلا كَيْفٍ وَلا مَكَانٍ، لا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ مَسَافَةٌ فَالْعَرْشُ الَّذِي هُوَ أَعْلَى الْمَخْلُوقَاتِ وَالْفَرْشُ الَّذِي هُوَ مُنْتَهَى الْمَخْلُوقَاتِ فِي الْجِهَةِ السُّفْلَى عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَاتِ اللَّهِ. فَلا يَجُوزُ اعْتِقَادُ الْقُرْبِ الْمَكَانِيِّ الَّذِي هُوَ قُرْبٌ بِالْمَسَافَةِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا يَمْتَازُ الْعَرْشُ وَمَا يَلِيهِ مِنَ السَّمَوَاتِ بِكَوْنِهِ مَسْكَنَ الْمَلائِكَةِ الَّذِينَ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَبِفَضَائِلَ أُخْرَى، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَاتِ اللَّهِ فَلَيْسَ الْعَرْشُ قَرِيبًا مِنَ اللَّهِ بِالْمَسَافَةِ قُرْبًا يَجْعَلُهُ بَعِيدًا مِنَ الْفَرْشِ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى﴾ أَيِ اجْتَمَعَ مَرَّةً ثَانِيَةً بِجِبْرِيلَ هُنَاكَ، لِأَنَّ جِبْرِيلَ لا يَتَجَاوَزُ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، فَإِنَّ جِبْرِيلَ سَفِيرٌ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ أَنْبِيَائِهِ وَبَيْنَ مَلائِكَةِ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ، فَهُوَ الَّذِي يُبَلِّغُ الْوَحْيَ لِلْمَلائِكَةِ وَلِلأَنْبِيَاءِ لِأَنَّهُ يَسْمَعُ كَلامَ اللَّهِ الَّذِي لَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا بَلْ كَلامٌ أَزَلِيٌّ أَبَدِيٌّ لَيْسَ فِيهِ تَقَطُّعٌ لَيْسَ شَيْئًا يَسْبِقُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَيَتَأَخَّرُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ كَالْكَلامِ الصَّوْتِيِّ. وَالأَحَادِيثُ الَّتِي فِيهَا نِسْبَةُ الصَّوْتِ إِلَى اللَّهِ رَدَّهَا الْحَافِظُ أَبُو الْمَكَارِمِ، سَرَدَهَا وَضَعَّفَهَا بِعِلَلٍ فِي جُزْءٍ خَاصٍّ أَلَّفَهُ لِهَذَا الْغَرَضِ.

وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: «وَدَنَا الْجَبَّارُ رَبُّ الْعِزَّةِ فَتَدَلَّى حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى» فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ طَعَنَ فِيهَا بَعْضُ الْحُفَّاظِ كَعَبْدِ الْحَقِّ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ دُنُوًّا حِسِّيًّا وَإِنَّمَا هُوَ مَزِيدُ إِكْرَامٍ وَتَقْرِيبٍ فِي الدَّرَجَاتِ، وَأَمَّا حَمْلُهُ عَلَى الظَّاهِرِ فَكُلُّ أَهْلِ السُّنَّةِ يَرُدُّونَهُ بَلْ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ تَشْبِيهًا لِلَّهِ بِخَلْقِهِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلانِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَمَّا مَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ جَارِيَةٍ لَهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلا أُعْتِقُهَا، قَالَ: ائْتِنِي بِهَا، فَأَتَاهُ بِهَا فَقَالَ لَهَا: أَيْنَ اللَّهُ، قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، قَالَ: مَنْ أَنَا، قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ. فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَمْرَيْنِ: لِلِاضْطِرَابِ لِأَنَّهُ رُوِيَ بِهَذَا اللَّفْظِ وَبِلَفْظِ: مَنْ رَبُّكِ، فَقَالَتْ: اللَّهُ، وَبِلَفْظِ: أَيْنَ اللَّهُ، فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ، وَبِلَفْظِ: أَتَشْهَدِينَ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: أَتَشْهَدِينَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، قَالَتْ: نَعَمْ.

وَالأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ رِوَايَةَ أَيْنَ اللَّهُ مُخَالِفَةٌ لِلأُصُولِ لِأَنَّ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الشَّخْصَ لا يُحْكَمُ لَهُ بِقَوْلِ «اللَّهُ فِي السَّمَاءِ» بِالإِسْلامِ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ وَإِنَّمَا الأَصْلُ الْمَعْرُوفُ فِي شَرِيعَةِ اللَّهِ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَوَاتِرِ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ» [رَوَاهُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَحَابِيًّا]. وَلَفْظُ رِوَايَةِ مَالِكٍ: أَتَشْهَدِينَ، مُوَافِقٌ لِلأُصُولِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَكُونُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ: أَيْنَ اللَّهُ، فَقَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، إِلَى ءَاخِرِهِ مَرْدُودَةً مَعَ إِخْرَاجِ مُسْلِمٍ لَهُ فِي كِتَابِهِ وَكُلُّ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مَوْسُومٌ بِالصِّحَّةِ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ عَدَدًا مِنْ أَحَادِيثِ مُسْلِمٍ رَدَّهَا عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ وَذَكَرَهَا الْمُحَدِّثُونَ فِي كُتُبِهِمْ كَحَدِيثِ أَنَّ الرَّسُولَ قَالَ لِرَجُلٍ: إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ، وَحَدِيثِ إِنَّهُ يُعْطَى كُلُّ مُسْلِمٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِدَاءً لَهُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أَنَسٍ: صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَكَانُوا لا يَذْكُرُونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ. فَأَمَّا الأَوَّلُ ضَعَّفَهُ الْحَافِظُ السُّيُوطِيُّ، وَالثَّانِي رَدَّهُ الْبُخَارِيُّ، وَالثَّالِثُ ضَعَّفَهُ الشَّافِعِيُّ وَعَدَدٌ مِنَ الْحُفَّاظِ.

فَهَذَا الْحَدِيثُ عَلَى ظَاهِرِهِ بَاطِلٌ لِمُعَارَضَتِهِ الْحَدِيثَ الْمُتَوَاتِرَ الْمَذْكُورَ وَمَا خَالَفَ الْمُتَوَاتِرَ فَهُوَ بَاطِلٌ إِنْ لَمْ يَقْبَلِ التَّأْوِيلَ. اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ الْمُحَدِّثُونَ وَالأُصُولِيُّونَ لَكِنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ أَوَّلُوهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَالُوا مَعْنَى أَيْنَ اللَّهُ سُؤَالٌ عَنْ تَعْظِيمِهَا لِلَّهِ وَقَوْلُهَا فِي السَّمَاءِ عَالِي الْقَدْرِ جِدًّا أَمَّا أَخْذُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ سَاكِنُ السَّمَاءِ فَهُوَ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ مُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ أَنَّ مَا خَالَفَ الْمُتَوَاتِرَ بَاطِلٌ إِنْ لَمْ يَقْبَلِ التَّأْوِيلَ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ ظَاهِرُ الْفَسَادِ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا قَالَ اللَّهُ فِي السَّمَاءِ يُحْكَمُ لَهُ بِالإِيـمَانِ.

وَحَمَلَ الْمُشَبِّهَةُ رِوَايَةَ مُسْلِمٍ عَلَى ظَاهِرِهَا فَضَلُّوا وَلا يُنْجِيهِمْ مِنَ الضَّلالِ قَوْلُهُمْ إِنَّنَا نَحْمِلُ كَلِمَةَ فِي السَّمَاءِ بِمَعْنَى إِنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ لِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ بِذَلِكَ أَثْبَتُوا لَهُ مِثْلًا وَهُوَ الْكِتَابُ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ فِيهِ إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي فَوْقَ الْعَرْشِ فَيَكُونُونَ أَثْبَتُوا الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ ذَلِكَ الْكِتَابِ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا اللَّهَ وَذَلِكَ الْكِتَابَ مُسْتَقِرَّيْنِ فَوْقَ الْعَرْشِ فَيَكُونُونَ كَذَّبُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ بِلَفْظِ «مَرْفُوعٌ فَوْقَ الْعَرْشِ»، وَأَمَّا رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ فَهِيَ «مَوْضُوعٌ فَوْقَ الْعَرْشِ»، وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُ النَّاسِ فَوْقَ بِمَعْنَى تَحْت وَهُوَ مَرْدُودٌ بِرِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ «مَرْفُوعٌ فَوْقَ الْعَرْشِ» فَإِنَّهُ لا يَصِحُّ تَأْوِيلُ فَوْقَ فِيهِ بِتَحْت. ثُمَّ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ هَذَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُحَاذِيًا لِلْعَرْشِ بِقَدْرِ الْعَرْشِ أَوْ أَوْسَعَ مِنْهُ أَوْ أَصْغَرَ، وَكُلُّ مَا جَرَى عَلَيْهِ التَّقْدِيرُ حَادِثٌ مُحْتَاجٌ إِلَى مَنْ جَعَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْمِقْدَارِ، وَالْعَرْشُ لا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ كَمَا أَنَّهُ لا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَىْءٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَلا يَتَشَرَّفُ اللَّهُ بِشَىْءٍ مِنْ خَلْقِهِ وَلا يَنْتَفِعُ بِشَىْءٍ مِنْ خَلْقِهِ. وَقَوْلُ الْمُشَبِّهَةِ اللَّهُ قَاعِدٌ عَلَى الْعَرْشِ شَتْمٌ لِلَّهِ لِأَنَّ الْقُعُودَ مِنْ صِفَةِ الْبَشَرِ وَالْبَهَائِمِ وَالْجِنِّ وَالْحَشَرَاتِ وَكُلُّ وَصْفٍ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ وُصِفَ اللَّهُ بِهِ شَتْمٌ لَهُ، قَالَ الْحَافِظُ الْفَقِيهُ اللُّغَوِيُّ مُرْتَضَى الزَّبِيدِيُّ: «مَنْ جَعَلَ اللَّهَ تَعَالَى مُقَدَّرًا بِمِقْدَارٍ كَفَرَ» أَيْ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ ذَا كَمِيَّةٍ وَحَجْمٍ وَالْحَجْمُ وَالْكَمِيَّةُ مِنْ مُوجِبَاتِ الْحُدُوثِ، وَهَلْ عَرَفْنَا أَنَّ الشَّمْسَ حَادِثَةٌ مَخْلُوقَةٌ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ إِلَّا لِأَنَّ لَهَا حَجْمًا، وَلَوْ كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى حَجْمٌ لَكَانَ مِثْلًا لِلشَّمْسِ فِي الْحَجْمِيَّةِ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ مَا كَانَ يَسْتَحِقُّ الأُلُوهِيَّةَ كَمَا أَنَّ الشَّمْسَ لا تَسْتَحِقُّ الأُلُوهِيَّةَ. فَلَوْ طَالَبَ هَؤُلاءِ الْمُشَبِّهَةَ عَابِدُ الشَّمْسِ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ عَلَى اسْتِحْقَاقِ اللَّهِ الأُلُوهِيَّةَ وَعَدَمِ اسْتِحْقَاقِ الشَّمْسِ الأُلُوهِيَّةَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ دَلِيلٌ، وَغَايَةُ مَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَقُولُوا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ﴾، فَإِنْ قَالُوا ذَلِكَ لِعَابِدِ الشَّمْسِ يَقُولُ لَهُمْ عَابِدُ الشَّمْسِ: أَنَا لا أُؤْمِنُ بِكِتَابِكُمْ أَعْطُونِي دَلِيلًا عَقْلِيًّا عَلَى أَنَّ الشَّمْسَ لا تَسْتَحِقُّ الأُلُوهِيَّةَ فَهُنَا يَنْقَطِعُونَ.

فَلا يُوجَدُ فَوْقَ الْعَرْشِ شَىْءٌ حَيٌّ يَسْكُنُهُ إِنَّمَا يُوجَدُ كِتَابٌ فَوْقَ الْعَرْشِ مَكْتُوبٌ فِيهِ: «إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي» أَيْ أَنَّ مَظَاهِرَ الرَّحْمَةِ أَكْثَرُ مِنْ مَظَاهِرِ الْغَضَبِ، الْمَلائِكَةُ مِنْ مَظَاهِرِ الرَّحْمَةِ وَهُمْ أَكْثَرُ عَدَدًا مِنْ قَطَرَاتِ الأَمْطَارِ وَأَوْرَاقِ الأَشْجَارِ، وَالْجَنَّةُ مِنْ مَظَاهِرِ الرَّحْمَةِ وَهِيَ أَكْبَرُ مِنْ جَهَنَّمَ بِآلافِ الْمَرَّاتِ.

وَكَوْنُ ذَلِكَ الْكِتَابِ فَوْقَ الْعَرْشِ ثَابِتٌ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى وَغَيْرُهُمَا، وَلَفْظُ رِوَايَةِ ابْنِ حِبِّانَ: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابٍ يَكْتُبُهُ عَلَى نَفْسِهِ [مَعْنَاهُ وَعَدَ] وَهُوَ مَرْفُوعٌ فَوْقَ الْعَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي». فَإِنْ حَاوَلَ مُحَاوِلٌ أَنْ يُؤَوِّلَ «فَوْقَ» بِمَعْنَى دُونَ قِيلَ لَهُ: تَأْوِيلُ النُّصُوصِ لا يَجُوزُ إِلَّا بِدَلِيلٍ نَقْلِيٍّ ثَابِتٍ أَوْ عَقْلِيٍّ قَاطِعٍ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ شَىْءٌ مِنْ هَذَيْنِ، وَلا دَلِيلَ عَلَى لُزُومِ التَّأْوِيلِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِنَّ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ فَوْقَ الْعَرْشِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ نَصٌّ صَرِيحٌ بِأَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَلا بِأَنَّهُ تَحْتَ الْعَرْشِ فَبَقِيَ الأَمْرُ عَلَى الِاحْتِمَالِ أَيِ احْتِمَالِ أَنَّ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَاحْتِمَالِ أَنَّهُ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَعَلَى قَوْلِهِ إِنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ يَكُونُ جَعَلَ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ مُعَادِلًا لِلَّهِ أَيْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ بِمُحَاذَاةِ قِسْمٍ مِنَ الْعَرْشِ وَاللَّوْحُ بِمُحَاذَاةِ قِسْمٍ مِنَ الْعَرْشِ وَهَذَا تَشْبِيهٌ لَهُ بِخَلْقِهِ لِأَنَّ مُحَاذَاةَ شَىْءٍ لِشَىْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ فَوْقَ الْعَرْشِ فَوْقِيَّةً حَقِيقِيَّةً لا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِأَلْفَيْ سَنَةٍ فَهُوَ عِنْدَهُ عَلَى الْعَرْشِ وَإِنَّهُ أَنْزَلَ مِنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ ءَايَتَيْنِ خُتِمَ بِهِمَا سُورَةُ الْبَقَرَةِ»، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: «فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ» فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ فَوْقَ الْعَرْشِ فَوْقِيَّةً حَقِيقِيَّةً لا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ.

وَكَلِمَةُ «عِنْدَ» لِلتَّشْرِيفِ لَيْسَ لإِثْبَاتِ تَحَيُّزِ اللَّهِ فَوْقَ الْعَرْشِ لِأَنَّ «عِنْدَ» تُسْتَعْمَلُ لِغَيْرِ الْمَكَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّنْ سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ﴾ [سُورَةَ هُود] إِنَّمَا تَدُلُّ «عِنْدَ» هُنَا أَنَّ ذَلِكَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ تِلْكَ الْحِجَارَةَ مُجَاوِرَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْمَكَانِ. فَمَنْ يَحْتَجُّ بِمُجَرَّدِ كَلِمَةِ عِنْدَ لإِثْبَاتِ الْمَكَانِ وَالتَّقَارُبِ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ فَهُوَ مِنْ أَجْهَلِ الْجَاهِلِينَ، وَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ إِنَّ تِلْكَ الْحِجَارَةَ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى أُولَئِكَ الْكَفَرَةِ نَزَلَتْ مِنَ الْعَرْشِ إِلَيْهِمْ وَكَانَتْ مُكَوَّمَةً بِمَكَانٍ فِي جَنْبِ اللَّهِ فَوْقَ الْعَرْشِ عَلَى زَعْمِهِمْ.

الشَّرْحُ حَدِيثُ الْجَارِيَةِ مُضْطَرِبٌ سَنَدًا وَمَتْنًا لا يَصِحُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَلا يَلِيقُ بِرَسُولِ اللَّهِ أَنْ يُقَالَ عَنْهُ إِنَّهُ حَكَمَ عَلَى الْجَارِيَةِ السَّوْدَاءِ بِالإِسْلامِ لِمُجَرَّدِ قَوْلِهَا اللَّهُ فِي السَّمَاءِ، فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ الدُّخُولَ فِي الإِسْلامِ يَدْخُلُ فِيهِ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَلَيْسَ بِقَوْلِ اللَّهُ فِي السَّمَاءِ. أَمَّا الْمُشَبِّهَةُ فَقَدْ حَمَلُوا حَدِيثَ الْجَارِيَةِ عَلَى غَيْرِ مُرَادِ الرَّسُولِ. وَالْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ لِهَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ مَنِ اعْتَبَرَهُ صَحِيحًا لا يُخَالِفُ تَنْزِيهَ اللَّهِ عَنِ الْمَكَانِ وَالْحَدِّ وَالأَعْضَاءِ. وَقَدْ وَرَدَ هَذَا الْحَدِيثُ بِعِدَّةِ أَلْفَاظٍ مِنْهَا أَنَّ رَجُلًا جَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي جَارِيَةً تَرْعَى لِي غَنَمًا فَجَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ ذِئْبٌ فَأَكَلَ شَاةً فَغَضِبْتُ فَصَكَكْتُهَا - أَيْ ضَرَبْتُهَا عَلَى وَجْهِهَا - قَالَ: أُرِيدُ أَنْ أُعْتِقَهَا إِنْ كَانَتْ مُؤْمِنَةً فَقَالَ: «ائْتِنِي بِهَا» فَأَتَى بِهَا فَقَالَ لَهَا الرَّسُولُ: «أَيْنَ اللَّهُ»، وَمَعْنَاهُ مَا اعْتِقَادُكِ فِي اللَّهِ مِنَ التَّعْظِيمِ وَمِنَ الْعُلُوِّ وَرِفْعَةِ الْقَدْرِ، لِأَنَّ أَيْنَ تَأْتِي لِلسُّؤَالِ عَنِ الْمَكَانِ وَهُوَ الأَكْثَرُ وَتَأْتِي لِلسُّؤَالِ عَنِ الْقَدْرِ.

وَأَمَّا قَوْلُ الْجَارِيَةِ: «فِي السَّمَاءِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ»، أَرَادَتْ بِهِ أَنَّهُ رَفِيعُ الْقَدْرِ جِدًّا، وَقَدْ فَهِمَ الرَّسُولُ ذَلِكَ مِنْ كَلامِهَا أَيْ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ تِلْكَ الرِّوَايَةِ. أَيْ هَذَا عِنْدَ مَنْ صَحَّحَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ.

وَنَقُولُ لِلْمُشَبِّهَةِ: لَوْ كَانَ الأَمْرُ كَمَا تَدَّعُونَ مِنْ حَمْلِ ءَايَةِ ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [سُورَةَ طَه/5] عَلَى ظَاهِرِهَا وَحَمْلِ حَدِيثِ الْجَارِيَةِ عَلَى ظَاهِرِهِ لَتَنَاقَضَ الْقُرْءَانُ بَعْضُهُ مَعَ بَعْضٍ وَالْحَدِيثُ بَعْضُهُ مَعَ بَعْضٍ، فَمَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/115] فَإِمَّا أَنْ تَجْعَلُوا الْقُرْءَانَ مُنَاقِضًا بَعْضُهُ لِبَعْضٍ وَالْحَدِيثَ مُنَاقِضًا بَعْضُهُ لِبَعْضٍ فَهَذَا اعْتِرَافٌ بِكُفْرِكُمْ لِأَنَّ الْقُرْءَانَ يُنَزَّهُ عَنِ الْمُنَاقَضَةِ وَحَدِيثُ الرَّسُولِ كَذَلِكَ، وَإِنْ أَوَّلْتُمْ ءَايَةَ ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ وَلَمْ تُأَوِّلُوا ءَايَةَ الِاسْتِوَاءِ فَهَذَا تَحَكُّمٌ أَيْ قَوْلٌ بِلا دَلِيلٍ. وَمِنْ حَدِيثِ الْجَارِيَةِ الَّذِي مَرَّ ذِكْرُهُ يُعْلَمُ أَنَّ الشَّخْصَ إِذَا قَالَ: «اللَّهُ فِي السَّمَاءِ» وَقَصَدَ أَنَّهُ عَالِي الْقَدْرِ جِدًّا لا يُكَفَّرُ لِأَنَّ هَذَا حَالُهُ مِثْلُ حَالِ الْجَارِيَةِ السَّوْدَاءِ أَيْ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ تِلْكَ الرِّوَايَةِ، أَمَّا إِذَا قَالَ اللَّهُ مَوْجُودٌ بِذَاتِهِ فِي السَّمَاءِ هَذَا فِيهِ إِثْبَاتُ التَّحَيُّزِ وَهُوَ كُفْرٌ.

وَحَدِيثُ الْجَارِيَةِ فِيهِ مُعَارَضَةٌ لِلْحَدِيثِ الْمُتَوَاتِرِ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ». وَهُوَ مِنْ أَصَحِّ الصَّحِيحِ، وَوَجْهُ الْمُعَارَضَةِ أَنَّ حَدِيثَ الْجَارِيَةِ فِيهِ الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِ «اللَّهُ فِي السَّمَاءِ» لِلْحُكْمِ عَلَى قَائِلِهِ بِالإِسْلامِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ» فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ لا بُدَّ لِلدُّخُولِ فِي الإِسْلامِ مِنَ النُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، فَحَدِيثُ الْجَارِيَةِ لا يَقْوَى لِمُقَاوَمَةِ هَذَا الْحَدِيثِ لِأَنَّ فِيهِ اضْطِرَابًا فِي رِوَايَتِهِ وَلِأَنَّهُ مِمَّا انْفَرَدَ مُسْلِمٌ بِهِ. وَكَذَلِكَ هُنَاكَ عِدَّةُ أَحَادِيثَ صِحَاحٍ لا اخْتِلافَ فِيهَا وَلا عِلَّةَ تُنَاقِضُ حَدِيثَ الْجَارِيَةِ فَكَيْفَ يُؤْخَذُ بِظَاهِرِهِ وَيُعْرَضُ عَنْ تِلْكَ الأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ، فَلَوْلا أَنَّ الْمُشَبِّهَةَ لَهَا هَوًى فِي تَجْسِيمِ اللَّهِ وَتَحْيِيزِهِ فِي السَّمَاءِ كَمَا هُوَ مُعْتَقَدُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَمَا تَشَبَّثُوا بِهِ وَلِذَلِكَ يَرَوْنَهُ أَقْوَى شُبْهَةٍ يَجْتَذِبُونَ بِهِ ضُعَفَاءَ الْفَهْمِ إِلَى عَقِيدَتِهِمْ عَقِيدَةِ التَّجْسِيمِ، فَكَيْفَ يَخْفَى عَلَى ذِي لُبٍّ أَنَّ عَقِيدَةَ تَحَيُّزِ اللَّهِ فِي السَّمَاءِ مُنَافِيةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾، فَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ أَمْثَالٌ كَثِيرٌ فَالسَّمَوَاتُ السَّبْعُ مَشْحُونَةٌ بِالْمَلائِكَةِ وَمَا فَوْقَهَا فِيهَا مَلائِكَةٌ حَافُّونَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ لا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ وَفَوْقَ الْعَرْشِ ذَلِكَ الْكِتَابُ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ: «إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي»، فَبِاعْتِقَادِهِمْ هَذَا أَثْبَتُوا لِلَّهِ أَمْثَالًا لا تُحْصَى فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ مُخَالِفُونَ لِهَذِهِ الآيَةِ. وَلا يَسْلَمُ مِنْ إِثْبَاتِ الأَمْثَالِ لِلَّهِ إِلَّا مَنْ نَزَّهَ اللَّهَ عَنِ التَّحَيُّزِ فِي الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ مُطْلَقًا.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي صَلاتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ فَلا يَبْصُقَنَّ فِي قِبْلَتِهِ وَلا عَنْ يَمِينِهِ فَإنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وبَيْنَ قِبْلَتِهِ» وَهَذَا الْحَدِيثُ أَقْوَى إِسْنَادًا مِنْ حَدِيثِ الْجَارِيَةِ.

الشَّرْحُ مُنَاجَاةُ اللَّهِ مَعْنَاهُ الإِقْبَالُ عَلَى اللَّهِ بِدُعَائِهِ وَتَمْجِيدِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُصَلِّي تَجَرَّدَ لِمُخَاطَبَةِ رَبِّهِ انْقَطَعَ عَنْ مُخَاطَبَةِ النَّاسِ لِمُخَاطَبَةِ اللَّهِ، فَلَيْسَ مِنَ الأَدَبِ مَعَ اللَّهِ أَنْ يَبْصُقَ أَمَامَ وَجْهِهِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ بِذَاتِهِ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: «فَإِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِبْلَتِهِ»، أَيْ رَحْمَةَ رَبِّهِ أَمَامَهُ، أَيِ الرَّحْمَةَ الْخَاصَّةَ الَّتِي تَنْزِلُ عَلَى الْمُصَلِّينَ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا، وَالَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَةِ أَحَدِكُمْ».

الشَّرْحُ هَذَا الْحَدِيثُ يُسْتَفَادُ مِنْهُ فَوَائِدُ مِنْهَا أَنَّ الِاجْتِمَاعَ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ كَانَ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ، فَقَدْ كَانُوا فِي سَفَرٍ فَوَصَلُوا إِلَى وَادِي خَيْبَرَ فَصَارُوا يُهَلِّلُونَ وَيُكَبِّرُونَ بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَفَقَةً عَلَيْهِمْ: «ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ» أَيْ هَوِّنُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَلا تُجْهِدُوهَا بِرَفْعِ الصَّوْتِ كَثِيرًا، «فَإِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِبًا» أَيِ اللَّهُ تَعَالَى يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ الأَزَلِيِّ كُلَّ الْمَسْمُوعَاتِ قَوِيَّةً كَانَتْ أَمْ ضَعِيفَةً فِي أَيِّ مَكَانٍ كَانَتْ، وَأَمَّا قَوْلُهُ «وَلا غَائِبًا» فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْءٌ، وَقَوْلُهُ: «إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا وَالَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَةِ أَحَدِكُمْ» لَيْسَ مَعْنَاهُ الْقُرْبَ بِالْمَسَافَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ فَالْعَرْشُ وَالْفَرْشُ الَّذِي هُوَ أَسْفَلُ الْعَالَمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَاتِ اللَّهِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ لَيْسَ أَحَدُهُمَا أَقْرَبَ مِنَ الآخَرِ إِلَى اللَّهِ بِالْمَسَافَةِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِالْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى أَحْوَالِ عِبَادِهِ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْءٌ.

ثُمَّ إِنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَهَبْتُمْ إِلَيْهِ مِنْ حَمْلِ النُّصُوصِ الَّتِي ظَاهِرُهَا أَنَّ اللَّهَ مُتَحَيِّزٌ فِي جِهَةِ فَوْقٍ عَلَى ظَاهِرِهَا كَوْنُ اللَّهِ تَعَالَى غَائِبًا لا قَرِيبًا لِأَنَّ بَيْنَ الْعَرْشِ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ مَسَافَةً تَقْرُبُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَفِي خِلالِ هَذِهِ الْمَسَافَةِ أَجْرَامٌ صَلْبَةٌ وَهِيَ أَجْرَامُ السَّمَوَاتِ وَجِرْمُ الْكُرْسِيِّ، فَلا يَصِحُّ عَلَى مُوجَبِ مُعْتَقَدِكُمْ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ إِنَّهُ قَرِيبٌ بَلْ يَكُونُ غَائِبًا، أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ فَكَوْنُهُ قَرِيبًا لا إِشْكَالَ فِيهِ، فَمَا أَشَدَّ فَسَادَ عَقِيدَةٍ تُؤَدِّي إِلَى هَذَا.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَيُقَالُ لِلْمُعْتَرِضِ: إِذَا أَخَذْتَ حَدِيثَ الْجَارِيَةِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى ظَاهِرِهِمَا لَبَطَلَ زَعْمُكَ أَنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ وَإِنْ أَوَّلْتَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ وَلَمْ تُؤَوِّلْ حَدِيثَ الْجَارِيَةِ فَهَذَا تَحَكُّمٌ - أَيْ قَوْلٌ بِلا دَلِيلٍ -، وَيَصْدُقُ عَلَيْكَ قَوْلُ اللَّهِ فِي الْيَهُودِ ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَةِ/85]. وَكَذَلِكَ مَاذَا تَقُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَةِ/115] فَإِنْ أَوَّلْتَهُ فَلِمَ لا تُؤَوِّلُ حَدِيثَ الْجَارِيَةِ. وَقَدْ جَاءَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ عَنْ مُجَاهِدٍ تِلْمِيذِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «قِبْلَةُ اللَّهِ»، فَفَسَّرَ الْوَجْهَ بِالْقِبْلَةِ، أَيْ لِصَلاةِ النَّفْلِ فِي السَّفَرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ.

الشَّرْحُ مَعْنَى فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أَيْ فَهُنَاكَ قِبْلَةُ اللَّهِ أَيْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَخَصَّ لَكُمْ فِي صَلاةِ النَّفْلِ فِي السَّفَرِ أَنْ تَتَوَجَّهُوا إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي تَذْهَبُونَ إِلَيْهَا هَذَا لِمَنْ هُوَ رَاكِبٌ الدَّابَّةَ، وَفِي بَعْضِ الْمَذَاهِبِ حَتَّى الْمَاشِي الَّذِي يُصَلِّي صَلاةَ النَّفْلِ وَهُوَ فِي طَرِيقِهِ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَهُوَ: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمٰنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ»، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ» فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُفَسِّرُ الرِّوَايَةَ الأُولَى لِأَنَّ خَيْرَ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْحَدِيثُ الْوَارِدُ بِالْوَارِدِ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ فِي أَلْفِيَّتِهِ: وَخَيْرُ مَا فَسَّرْتَهُ بِالْوَارِدِ. ثُمَّ الْمُرَادُ بِأَهْلِ السَّمَاءِ الْمَلائِكَةُ، ذَكَرَ ذَلِكَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ فِي أَمَالِيِّهِ عَقِيبَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَنَصُّ عِبَارَتِهِ: وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: «أَهْلُ السَّمَاءِ» عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الآيَةِ: ﴿ءَأَمِنْتُمْ مَّنْ فِي السَّمَاءِ﴾ الْمَلائِكَةُ» اهـ، لِأَنَّهُ لا يُقَالُ لِلَّهِ «أَهْلُ السَّمَاءِ». وَ«مَنْ» تَصْلُحُ لِلْمُفَرَدِ وَلِلْجَمْعِ فَلا حُجَّةَ لَهُمْ فِي الآيَةِ، وَيُقَالُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الآيَةِ الَّتِي تَلِيهَا وَهِيَ: ﴿أَمْ أَمِنْتُمْ مَّنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا﴾ فَـ «مَنْ» فِي هَذِهِ الآيَةِ أَيْضًا أَهْلُ السَّمَاءِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ عَلَى الْكُفَّارِ الْمَلائِكَةَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحِلَّ عَلَيْهِمْ عُقُوبَتَهُ فِي الدُّنْيَا كَمَا أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْمُوَكَّلُونَ بِتَسْلِيطِ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْكُفَّارِ لِأَنَّهُمْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ وَهُمْ يَجُرُّونَ عُنُقًا مِنْ جَهَنَّمَ إِلَى الْمَوْقِفِ لِيَرْتَاعَ الْكُفَّارُ بِرُؤْيَتِهِ. وَتِلْكَ الرِّوَايَةُ الَّتِي أَوْرَدَهَا الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ فِي أَمَالِيِّهِ هَكَذَا لَفْظُهَا: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحِيمُ ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ».

الشَّرْحُ رِوَايَةُ «أَهْلُ السَّمَاءِ» إِسْنَادُهَا حَسَنٌ، وَلا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ عَنِ اللَّهِ أَهْلُ السَّمَاءِ فَتُحْمَلُ رِوَايَةُ «مَنْ فِي السَّمَاءِ» عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَهْلُ السَّمَاءِ أَيِ الْمَلائِكَةُ، وَكَذَلِكَ يُحْمَلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ءَأَمِنْتُمْ مَّنْ فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ﴾ [سُورَةَ الْمُلْك/16] عَلَى الْمَلائِكَةِ، وَمَعْرُوفٌ فِي النَّحْوِ إِفْرَادُ ضَمِيرِ الْجَمْعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام/25] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾ [سُورَةَ يُونُس/42] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ﴾ [سُورَةَ يُونُس/43] فَالَّذِي يُفَسِّرُ ﴿ءَأَمِنْتُمْ مَّنْ فِي السَّمَاءِ﴾ أَيْ عَلَى السَّمَاءِ، نَقُولُ لَهُ: إِنْ قُلْتَ اللَّهُ فِي السَّمَاءِ أَيْ عَلَى السَّمَاءِ فَالْجَوَابُ: الْعُلُوُّ يَأْتِي لِلْعُلُوِّ الْحِسِّيِّ وَالْعُلُوِّ الْمَعْنَوِيِّ فَإِنْ أَرَدْتَ الْعُلُوَّ الْمَعْنَوِيَّ أَيْ رَفِيعَ الْقَدْرِ جِدًّا فَلا بَأْسَ، وَإِنْ أَرَدْتَ الْعُلُوَّ الْحِسِّيَّ فَقَدْ كَفَرْتَ لِأَنَّ الَّذِي يَكُونُ فِي جِهَةٍ يَكُونُ مَحْدُودًا وَالْمَحْدُودُ بِحَاجَةٍ لِمَنْ حَدَّهُ بِهَذَا الْحَدِّ وَالْمُحْتَاجُ إِلَى شَىْءٍ لا يَكُونُ إِلَهًا.

وَيُرَدُّ عَلَيْهِمْ بِإِيرَادِ الآيَةِ: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ [سُورَةَ الزُّمَر/68] فَيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ تَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ يُصْعَقُ، وَكَذَا يُرَدُّ عَلَيْهِمْ بِإِيرَادِ الآيَةِ ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ﴾. [سُورَةَ الأَنْبِيَاء/104].

وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: «ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ» مَعْنَاهُ بِإِرْشَادِهِمْ إِلَى الْخَيْرِ بِتَعْلِيمِهِمْ أُمُورَ الدِّينِ الضَّرُورِيَّةَ الَّتِي هِيَ سَبَبٌ لإِنْقَاذِهِمْ مِنَ النَّارِ وَبِإِطْعَامِ جَائِعِهِمْ وَكِسْوَةِ عَارِيهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ «يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ» فأَهْلُ السَّمَاءِ هُمُ الْمَلائِكَةُ وهم يَرْحَمُونَ مَنْ فِي الأَرْضِ أَيْ أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُهُمْ بِأَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيُنْزِلُونَ لَهُمُ الْمَطَرَ وَيَنْفَحُونَهُمْ بِنَفَحَاتِ خَيْرٍ وَيُمِدُّونَهُمْ بِمَدَدِ خَيْرٍ وَبَرَكَةٍ، وَيَحْفَظُونَهُمْ عَلَى حَسَبِ مَا يَأْمُرُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: ثُمَّ لَوْ كَانَ اللَّهُ سَاكِنَ السَّمَاءِ كَمَا يَزْعُمُ الْبَعْضُ لَكَانَ اللَّهُ يُزَاحِمُ الْمَلائِكَةَ وَهَذَا مُحَالٌ، فَقَدْ ثَبَتَ حَدِيثُ أَنَّهُ: «مَا فِي السَّمَوَاتِ مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَفِيهِ مَلَكٌ قَائِمٌ أَوْ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ».

الشَّرْحُ هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَكُونَ سَاكِنَ السَّمَاءِ وَإِلَّا لَكَانَ مُسَاوِيًا لِلْمَلائِكَةِ مُزَاحِمًا لَهُمْ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ يَأْتِينِي خَبَرُ مَنْ فِي السَّمَاءِ صَبَاحَ مَسَاءَ» فَالْمَقْصُودُ بِهِ الْمَلائِكَةُ أَيْضًا، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ اللَّهُ فَمَعْنَاهُ الَّذِي هُوَ رَفِيعُ الْقَدْرِ جِدًّا.

الشَّرْحُ قَوْلُهُ: «وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ» أَيْ مُؤْتَمَنٌ مُصَدَّقٌ عِنْدَ الْمَلائِكَةِ، وَمَعْنَاهُ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ أَمِينٌ صَادِقٌ فِي إِبْلاغِ الْوَحْيِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَمَّا حَدِيثُ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ لِنِسَاءِ الرَّسُولِ: «زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ وَزَوَّجَنِي اللَّهُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ» فَمَعْنَاهُ أَنَّ تَزَوُّجَ النَّبِيِّ بِهَا مُسَجَّلٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَهَذِهِ كِتَابَةٌ خَاصَّةٌ بِزَيْنَبَ لَيْسَتِ الْكِتَابَةَ الْعَامَّةَ، الْكِتَابَةُ الْعَامَّةُ لِكُلِّ شَخْصٍ فَكُلُّ زِوَاجٍ يَحْصُلُ إِلَى نِهَايَةِ الدُّنْيَا مُسَجَّلٌ، وَاللَّوْحُ فَوْقَ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ.

الشَّرْحُ هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ زَيْنَبَ تَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ بِالْوَحْيِ مِنْ غَيْرِ وَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَتَأْبَى عَلَيْهِ إِلَّا كَانَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ سَاخِطًا عَلَيْهَا... »الْحَدِيثَ، فَيُحْمَلُ أَيْضًا عَلَى الْمَلائِكَةِ بِدَلِيلِ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ الصَّحِيحَةِ وَالَّتِي هِيَ أَشْهَرُ مِنْ هَذِهِ وَهِيَ: «لَعَنَتْهَا الْمَلائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ»، رَوَاهَا ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ.

الشَّرْحُ الرِّوَايَةُ الأُولَى رَوَاهَا الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَيُفْهَمُ مِنْهَا أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا عُذْرٌ شَرْعِيٌّ كَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ أَوْ كَانَتْ مَرِيضَةً يَضُرُّهَا الْجِمَاعُ لا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ زَوْجَهَا مِنْ مُجَامَعَتِهَا مَتَى مَا أَرَادَ وَإِلَّا كَانَتْ فَاسِقَةً مَلْعُونَةً مَسْخُوطًا عَلَيْهَا مِنَ الْمَلائِكَةِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رَبَّنَا الَّذِي فِي السَّمَاءِ تَقَدَّسَ اسْمُكَ» فَلَمْ يَصِحَّ بَلْ هُوَ ضَعِيفٌ كَمَا حَكَمَ عَلَيْهِ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَلَوْ صَحَّ فَأَمْرُهُ كَمَا مَرَّ فِي حَدِيثِ الْجَارِيَةِ.

الشَّرْحُ هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَعْنَاهُ الَّذِي هُوَ رَفِيعُ الْقَدْرِ جِدًّا.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَمَّا حَدِيثُ جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ، وَسَمَوَاتُهُ فَوْقَ أَرَاضِيهِ مِثْلَ الْقُبَّةِ» فَلَمْ يُدْخِلْهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ فَلا حُجَّةَ فِيهِ، وَفِي إِسْناَدِهِ مَنْ هُوَ ضَعِيفٌ لا يُحْتَجُّ بِهِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ. وَكَذَلِكَ مَا رَوَاهُ فِي كِتَابِهِ «خَلْقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «لَمَّا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى كَانَ نِدَاؤُهُ فِي السَّمَاءِ وَكَانَ اللَّهُ فِي السَّمَاءِ"، فَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ فَلا يُحْتَجُّ بِهِ» [الْبُخَارِيُّ لَمْ يَلْتَزِمْ أَنْ لا يَذْكُرَ إِلَّا الصَّحِيحَ فِي هَذَا الْكِتَابِ، لِذَلِكَ لا يُكْتَفَى لِتَصْحِيحِ الْحَدِيثِ بِمُجَرَّدِ ذِكْرِهِ فِيهِ]. وَأَمَّا الْقَوْلُ الْمَنْسُوبُ لِمَالِكٍ وَهُوَ قَوْلُ: «اللَّهُ فِي السَّمَاءِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ لا يَخْلُو مِنْهُ شَىْءٌ» فَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ غَيْرُ مُسْنَدٍ عَنْهُ، وَأَبُو دَاوُدَ لَمْ يُسْنِدْهُ إِلَيْهِ بِالإِسْنَادِ الصَّحِيحِ بَلْ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِهِ الْمَرَاسِيلُ، وَمُجَرَّدُ الرِّوَايَةِ لا يَكُونُ إِثْبَاتًا.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: صِفَاتُ اللَّهِ الثَّلاثَ عَشْرَةَ

الشَّرْحُ الصِّفَاتُ الثَّلاثَ عَشْرَةَ هِيَ الصِفَاتُ الْقَائِمَةُ بِذَاتِ اللَّهِ بِالِاتِّفَاقِ، وَمَعْنَى الْقَائِمَةِ بِذَاتِ اللَّهِ أَيْ الثَابِتَةِ لَهُ وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهَا حَالَّةٌ بِذَاتِ اللَّهِ. فَمَنْ نَفَى صِفَةً مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِهِ أَنَّ لِلَّهِ ثَلاثَ عَشْرَةَ صِفَةً لِجَهْلِهِ وَلَمْ يَنْفِ وَلَمْ يَشُكَّ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا ومَا مَرَّتْ عَلَى بَالِهِ بِالْمَرَّةِ لَكِنَّهُ اعْتَقَدَ مَعْنَى الشَّهَادَتَيْنِ فَهُوَ مُسْلِمٌ.

وَهَذِهِ الصِّفَاتُ الثَّلاثَ عَشْرَةَ الْوَاجِبَةُ لِلَّهِ تَجِبُ مَعْرِفَتُهَا عَلَى الْمُكَلَّفِ وَلا يَجِبُ حِفْظُ أَلْفَاظِهَا عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ، وَهِيَ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَقِّ أَيْ لَيْسَتْ حَادِثَةً فِي ذَاتِ اللَّهِ بَلْ هِيَ قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّهِ أَزَلًا وَأَبَدًا فَلا تَتَغَيَّرُ وَلا تَزِيدُ وَلا تَنْقُصُ كَصِفَاتِ الْخَلْقِ. وَأَلْحَقَ بَعْضُ أَهْلِ السُّنَّةِ بِصِفَاتِ الْمَعَانِي السَّبْعَةِ الَّتِي هِيَ الْحَيَاةُ وَالْقُدْرَةُ وَالإِرَادَةُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْعِلْمُ وَالْكَلامُ الْبَقَاءَ، فَالْبَقَاءُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِي عِنْدَهُمْ قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّهِ. وَهَذَا مَا عَلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ الأَشْعَرِيُّ وَأَكْثَرُ أَتْبَاعِهِ، وَالآخَرُونَ عَدُّوا الْبَقَاءَ مِنَ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ. وَمَا عَدَا هَذِهِ الثَّلاثَ عَشْرَةَ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ السُّنَّةِ إِنَّهَا حَادِثَةٌ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ قَائِمَةً بِذَاتِ اللَّهِ، وَقَالَ بَعْضٌ إِنَّهَا أَزَلِيَّةٌ قَدِيمَةٌ أَبَدِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّهِ، وَذَلِكَ كَالإِحْيَاءِ وَالإِمَاتَةِ وَالرَّزْقِ وَالإِسْعَادِ وَالإِشْقَاءِ، فَالْمُحْيَا وَالْمُمَاتُ وَالْمَرْزُوقُ وَالسَّعِيدُ وَالشَّقِيُّ مُحْدَثُونَ، وَإِحْيَاءُ اللَّهِ الَّذِي هُوَ فِعْلُهُ وَإِمَاتَتُهُ وَرَزْقُهُ لِلْعَبْدِ وَإِسْعَادُهُ لِبَعْضِ خَلْقِهِ وَإِشْقَاؤُهُ لِبَعْضِهِمْ صِفَاتٌ أَزَلِيَّةٌ، وَعَلَى هَذَا أَبُو حَنِيفَةَ وَالْمَاتُرِيدِيَّةُ وَالْبُخَارِيُّ وَبَعْضُ قُدَمَاءِ الأَشَاعِرَةِ، أَمَّا جُمْهُورُ الأَشَاعِرَةِ فَالصِّفَاتُ الأَزَلِيَّةُ الأَبَدِيَّةُ الْقَائِمَةُ بِذَاتِ اللَّهِ هِيَ عِنْدَهُمْ بِضْعَ عَشْرَةَ صِفَةً الْمَذْكُورَةُ ءَانِفًا.

الْحَاصِلُ أَنَّ فِعْلَ اللَّهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْبُخَارِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُمَا: صِفَتُهُ فِي الأَزَلِ وَالْمَفْعُولُ حَادِثٌ، وَيُوَافِقُ هَؤُلاءِ قَوْلُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [سُورَةَ النِّسَاء/96] أَيْ لَمْ يَزَلْ غَفُورًا رَحِيمًا أَيْ أَنَّ مَغْفِرَتَهُ وَرَحْمَتَهُ أَزَلِيَّتَانِ.



جَرَتْ عَادَةُ الْعُلَمَاءِ الْمُؤَلِّفِينَ فِي الْعَقِيدَةِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْوَاجِبَ الْعَيْنِيَّ الْمَفْرُوضَ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ «أَيِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ» أَنْ يَعْرِفَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ ثَلاثَ عَشْرَةَ صِفَةً: الْوُجُودَ، وَالْقِدَمَ، وَالْمُخَالَفَةَ لِلْحَوَادِثِ، وَالْوَحْدَانِيَّةَ، وَالْقِيَامَ بِنَفْسِهِ، وَالْبَقَاءَ، وَالْقُدْرَةَ، وَالإِرَادَةَ، وَالْحَيَاةَ، وَالْعِلْمَ، وَالْكَلامَ، وَالسَّمْعَ، وَالْبَصَرَ، وَأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ عَلَى اللَّهِ مَا يُنَافِي هَذِهِ الصِّفَاتِ. وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ ذُكِرَتْ كَثِيرًا فِي النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ قَالَ الْعُلَمَاءُ: يَجِبُ مَعْرِفَتُهَا وُجُوبًا عَيْنِيًّا - أَيْ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ بِعَيْنِهِ -، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِوُجُوبِ مَعْرِفَةِ عِشْرِينَ صِفَةً، فَزَادُوا سَبْعَ صِفَاتٍ مَعْنَوِيَّةٍ، قَالُوا: وَكَوْنُهُ تَعَالَى قَادِرًا وَمُرِيدًا وَحَيًّا وَعَالِمًا وَمُتَكَلِّمًا وَسَمِيعًا وَبَصِيرًا، وَالطَّرِيقَةُ الأُولَى هِيَ الرَّاجِحَةُ لِأَنَّهُ يُعْلَمُ مِنْ ثُبُوتِ الْقُدْرَةِ لَهُ كَوْنُهُ قَادِرًا وَهَكَذَا الْبَقِيَّةُ.

الشَّرْحُ عِنْدَ الأَشَاعِرَةِ صِفَاتُ اللَّهِ الَّتِي يَجِبُ مَعْرِفَتُهَا عَيْنًا ثَلاثَ عَشْرَةَ صِفَةً، وَأَمَّا عِنْدَ الْمَاتُرِيدِيَّةِ فَصِفَاتُ اللَّهِ لا تُحْصَرُ بِعَدَدٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ صِفَاتِ الأَفْعَالِ عِنْدَهُمْ صِفَاتٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّهِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْوُجُودُ . اعْلَمْ رَحِمَكَ اللَّهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَوْجُودٌ أَزَلًا وَأَبَدًا فَلَيْسَ وُجُودُهُ تَعَالَى بِإِيْجَادِ مُوجِدٍ.

وَقَدِ اسْتَنْكَرَ بَعْضُ النَّاسِ قَوْلَ: «اللَّهُ مَوْجُودٌ» لِكَوْنِهِ عَلَى وَزْنِ مَفْعُولٍ وَالْجَوَابُ أَنَّ مَفْعُولًا قَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَنْ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ فِعْلُ الْغَيْرِ كَمَا نَقُولُ: اللَّهُ مَعْبُودٌ وَهَؤُلاءِ ظَنُّوا بِأَنْفُسِهِمْ أَنَّ لَهُمْ نَصِيبًا فِي عِلْمِ اللُّغَةِ وَلَيْسُوا كَمَا ظَنُّوا.

قَالَ اللُّغَوِيُّ الْكَبِيرُ شَارِحُ الْقَامُوسِ الزَّبِيدِيُّ فِي شَرْحِ الإِحْيَاءِ مَا نَصُّهُ: «وَالْبَارِئُ تَعَالَى مَوْجُودٌ فَصَحَّ أَنْ يُرَى» وَقَالَ الْفَيُّومِيُّ اللُّغَوِيُّ صَاحِبُ الْمِصْبَاحِ: الْمَوْجُودُ خِلافُ الْمَعْدُومِ.

الشَّرْحُ الأَصْلُ الَّذِي تُبْنَى عَلَيْهِ الْعَقِيدَةُ الإِسْلامِيَّةُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَمَعْرِفَةُ رَسُولِهِ، فمَعْرِفَةُ اللَّهِ هُوَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ تَعَالَى مَوْجُودٌ فَيَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّهُ مَوْجُودٌ لا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ. وَأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِذَلِكَ، فَلا مَوْجُودَ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ إِلَّا اللَّهُ قَالَ تَعَالَى: ﴿هُوَ الأَوَّلُ﴾ [سُورَةَ الْحَدِيد/3].



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْقِدَمُ . يَجِبُ لِلَّهِ الْقِدَمُ بِمَعْنَى الأَزَلِيَّةِ لا بِمَعْنَى تَقَادُمِ الْعَهْدِ وَالزَّمَنِ، لِأَنَّ لَفْظَ الْقَدِيمِ وَالأَزَلِيِّ إِذَا أُطْلِقَا عَلَى اللَّهِ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ لا بِدَايَةَ لِوُجُودِهِ، فَيُقَالُ اللَّهُ أَزَلِيٌّ، اللَّهُ قَدِيمٌ، وَإِذَا أُطْلِقَا عَلَى الْمَخْلُوقِ كَانَا بِمَعْنَى تَقَادُمِ الْعَهْدِ وَالزَّمَنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقَمَرِ: ﴿حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ﴾ [سُورَةَ يَس/39]، وَقَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ (الْفَيْرُوزْءَابَادِي): الْهَرَمَانِ بِنَاءَانِ أَزَلِيَّانِ بِمِصْرَ.

الشَّرْحُ الدَّلِيلُ النَّقْلِيُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَدِيمٌ أَيْ أَزَلِيٌّ ءَايَاتٌ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿هُوَ الأَوَّلُ﴾ [سُورَةَ الْحَدِيد/3]، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْقَمَرِ: ﴿حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ﴾ [سُورَةَ يَس/39] فالْعُرْجُونُ هُوَ عِذْقُ النَّخْلِ وَهُوَ شَىْءٌ فِي أَعْلَى النَّخْلِ فَإِنَّهُ إِذَا مَضَى عَلَيْهِ زَمَانٌ يَيْبَسُ فَيَتَقَوَّسُ، فَالْقَمَرُ فِي ءَاخِرِهِ يَصِيرُ بِهَيْئَةِ ذَلِكَ، فَهُنَا الْقَدِيمُ جَاءَ بِمَعْنَى الشَّىْءِ الَّذِي مَضَى عَلَيْهِ زَمَانٌ طَوِيلٌ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَمَّا بُرْهَانُ قِدَمِهِ تَعَالَى فَهُوَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ قَدِيمًا لَلَزِمَ حُدُوثُهُ فَيَفْتَقِرُ إِلَى مُحْدِثٍ فَيَلْزَمُ الدَّوْرُ أَوِ التَّسَلْسُلُ وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ حُدُوثَهُ تَعَالَى مُحَالٌ وَقِدَمَهُ ثَابِتٌ.

الشَّرْحُ الإِلَهُ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَزَلِيًّا وَإِلَّا لَكَانَ مُحْتَاجًا إِلَى غَيْرِهِ وَالْمُحْتَاجُ إِلَى غَيْرِهِ لا يَكُونُ إِلَهًا.

وَأَمَّا الدَّوْرُ فَمَعْنَاهُ تَوَقُّفُ وُجُودِ الشَّىْءِ عَلَى مَا يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ قِيلَ زَيْدٌ أَوْجَدَهُ عَمْرٌو وَعَمْرٌو أَوْجَدَهُ بَكْرٌ وَبَكْرٌ أَوْجَدَهُ زَيْدٌ هَذَا مَعْنَاهُ فِيهِ وَقْفُ وُجُودِ زَيْدٍ عَلَى وُجُودِ عَمْرٍو وَعَلَى وُجُودِ بَكْرٍ وَهَذَا شَىْءٌ لا يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذَا مَخْلُوقٌ لِشَىْءٍ هُوَ مَخْلُوقٌ لَهُ أَيْ مَخْلُوقٌ لِمَخْلُوقِهِ.

وَأَمَّا التَّسَلْسُلُ فَهُوَ تَوَقُّفُ وُجُودِ شَّىْءٍ عَلَى شَىْءٍ يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ وُجُودُهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلَى غَيْرِهِ أَيْ كُلُّ هَؤُلاءِ خَالِقٌ لِمَا يَلِيهِ إِلَى غَيْرِ انْتِهَاءٍ وَهَذَا لا يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ.

وَمِثَالُ التَّسَلْسُلِ أَيْضًا أَنْ يَقُولَ شَخْصٌ لِآخَرَ: لا أُعْطِيكَ دِرْهَمًا حَتَّى أُعْطِيَكَ قَبْلَهُ دِرْهَمًا وَلا أُعْطِيكَ دِرْهَمًا حَتَّى أُعْطِيَكَ قَبْلَهُ دِرْهَمًا وَهَكَذَا لا إِلَى أَوَّلٍ، فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَنْ يُعْطِيَهُ دِرْهَمًا. وَمَثَّلَ بَعْضُهُمْ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ مَا أَعْطَيْتُكَ دِينَارًا إِلَّا وَأَعْطَيْتُكَ قَبْلَهُ دِينَارًا وَمَا أَعْطَيْتُكَ دِينَارًا إِلَّا وَأَعْطَيْتُكَ قَبْلَهُ دِينَارًا وَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى الْمُحَالِ، وَلَمْ يَقُلْ بِهَذَا مُسْلِمٌ فِي السَّلَفِ وَلا فِي الْخَلَفِ إِلَّا أَنَّ بَعْضَ أَدْعِيَاءِ الْحَدِيثِ وَهُوَ ابْنُ تَيْمِيَةَ قَالَ بِأَنَّ نَوْعَ الْعَالَمِ أَزَلِيٌّ قَدِيمٌ أَيْ لَمْ يَزَلْ مَخْلُوقٌ مَعَ اللَّهِ كَمَا أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مَعَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ فِيمَا مَضَى إِلَى غَيْرِ انْتِهَاءٍ وَهَذَا كُفْرٌ صَرِيحٌ كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ. وَيَكْفِي فِي رَدِّ عَقِيدَةِ ابْنِ تَيْمِيَةَ هَذِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿هُوَ الأَوَّلُ﴾، وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْرُهُ» لِأَنَّ نَوْعَ الْعَالَمِ غَيْرُ اللَّهِ كَمَا أَنَّ أَفْرَادَهُ غَيْرُ اللَّهِ. وَسَبَقَ ابْنَ تَيْمِيَةَ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الإِسْلامِ إِلَى الْقَوْلِ بِمَا يُشْبِهُهُ ابْنُ سِينَا وَالْفَارَابِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُمَا بِأَنَّ الْعَالَمَ أَزَلِيٌّ مَادَّتُهُ وَأَفْرَادُهُ وَكِلْتَا الْمَقَالَتَيْنِ لِلْفَلاسِفَةِ، الأُولَى لِمُحْدَثِيهِمْ وَالثَّانِيَةُ لِمُتَقَدِّمِيهِمْ لَكِنَّ ابْنَ تَيْمِيَةَ يَرْبَأُ بِنَفْسِهِ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ أَخَذَ بِعَقِيدَةِ الْفَلاسِفَةِ وَأَرَادَ أَنْ يَتَسَتَّرَ بِنِسْبَةِ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ إِلَى أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ مِنَ السَّلَفِ وَهُوَ كَذِبٌ ظَاهِرٌ، وَمَا سَبَقَهُ بِهَا أَحَدٌ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْحَدِيثِ مِنْ مُشَبِّهَةِ الْمُحَدِّثِينَ كَالدَّارِمِيِّ الْمُجَسِّمِ.

أَمَّا الْقُوْلُ بِأَنَّ الإِنْسَانَ وَغَيْرَهُ خَلَقَهُ اللَّهُ، أَمَّا اللَّهُ فَلا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ فَهَذَا الَّذِي يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ، فَإِذَا قُلْنَا كُلُّ الأَشْيَاءِ تَرْجِعُ فِي وُجُودِهَا إلى مَوْجُودٍ لا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ فَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْبَقَاءُ . يَجِبُ الْبَقَاءُ لِلَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى أَنَّهُ لا يَلْحَقُهُ فَنَاءٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ وُجُوبُ قِدَمِهِ تَعَالَى عَقْلًا وَجَبَ لَهُ الْبَقَاءُ، لِأَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ أَنْ يَلْحَقَهُ الْعَدَمُ لَانْتَفَى عَنْهُ الْقِدَمُ، فَهُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْبَاقِي لِذَاتِهِ لا بَاقِيَ لِذَاتِهِ غَيْرُهُ، وَأَمَّا الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَبَقَاؤُهُمَا لَيْسَ بِالذَّاتِ بَلْ لِأَنَّ اللَّهَ شَاءَ لَهُمَا الْبَقَاءَ، فَالْجَنَّةُ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهَا يَجُوزُ عَلَيْهَا الْفَنَاءُ وَكَذَلِكَ النَّارُ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهَا يَجُوزُ عَلَيْهَا الْفَنَاءُ.

الشَّرْحُ الْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ عَلَى وُجُوبِ الْبَقَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ جَازَ عَلَيْهِ الْعَدَمُ لَكَانَ يَجُوزُ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَى الْحَوَادِثِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ حَادِثٌ، فَلَمَّا ثَبَتَ فِي الْعَقْلِ وُجُوبُ الْقِدَمِ لِلَّهِ وَجَبَ الْبَقَاءُ لَهُ وَاسْتَحَالَ عَلَيْهِ الْفَنَاءُ، وَالدَّلِيلُ مِنَ الْمَنْقُولِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾ [سُورَةَ الرَّحْمٰنِ/27] أَيْ ذَاتُ رَبِّكَ. وَالْبَقَاءُ الَّذِي هُوَ وَاجِبٌ لِلَّهِ هُوَ الْبَقَاءُ الذَّاتِيُّ أي لَيْسَ بِإِيْجَابِ شَىْءٍ غَيْرِهِ لَهُ بَلْ هُوَ يَسْتَحِقُّهُ لِذَاتِهِ لا لِشَىْءٍ ءَاخَرَ، وَلا يَكُونُ لِشَىْءٍ سِوَاهُ هَذَا الْبَقَاءُ الذَّاتِيُّ، إِنَّمَا الْبَقَاءُ الَّذِي يَكُونُ لِبَعْضِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى كَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ الثَابِتُ بِالإِجْمَاعِ فَهُوَ لَيْسَ بَقَاءً ذَاتِيًّا لِأَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ حَادِثَتَانِ وَالْحَادِثُ لا يَكُونُ بَاقِيًا لِذَاتِهِ، فَبَقَاءُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ لَيْسَ بِذَاتَيْهِمَا بَلْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَاءَ لَهُمَا الْبَقَاءَ، فَالْجَنَّةُ بِإِعْتِبَارِ ذَاتِهَا وَالنَّارُ بِإِعْتِبَارِ ذَاتِهَا يَجُوزُ عَلَيْهِمَا الْفَنَاءُ عَقْلًا لِكَوْنِهِمَا حَادِثَتَيْنِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: السَّمْعُ . وَهُوَ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ ثَابِتَةٌ لِذَاتِ اللَّهِ، فَهُوَ يَسْمَعُ الأَصْوَاتَ بِسَمْعٍ أَزَلِيٍّ أَبَدِيٍّ لا كَسَمْعِنَا، لَيْسَ بِأُذُنٍ وَصِمَاخٍ، فَهُوَ تَعَالَى لا يَعْزُبُ أَيْ لا يَغِيبُ عَنْ سَمْعِهِ مَسْمُوعٌ وَإِنْ خَفِيَ - أَيْ عَلَيْنَا - وَبَعُدَ - أَيْ عَنَّا -، كَمَا يَعْلَمُ بِغَيْرِ قَلْبٍ. وَدَلِيلُ وُجُوبِ السَّمْعِ لَهُ عَقْلًا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِالسَّمْعِ لَكَانَ مُتَّصِفًا بِالصَّمَمِ وَهُوَ نَقْصٌ عَلَى اللَّهِ، وَالنَّقْصُ عَلَيْهِ مُحَالٌ، فَمَنْ قَالَ إِنَّهُ يَسْمَعُ بِأُذُنٍ فَقَدْ أَلْحَدَ وَكَفَرَ.

الشَّرْحُ السَّمْعُ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّهِ أَيْ ثَابِتَةٌ لَهُ تَتَعَلَّقُ بِالْمَسْمُوعَاتِ وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ تَتَعَلَّقُ بِكُلِّ مَوْجُودٍ مِنَ الأَصْوَاتِ وَغَيْرِهَا وَهُوَ الْقَوْلُ الْمُعْتَمَدُ. وَلا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَمْعُهُ تَعَالَى حَادِثًا كَسَمْعِ خَلْقِهِ، وَلا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِآلَةٍ كَسَمْعِنَا فَهُوَ يَسْمَعُ بِلا أُذُنٍ وَلا صِمَاخٍ. وَقَدْ وَقَعَ بَعْضُ مَنْ لَمْ يَتَعَلَّمْ عِلْمَ التَّنْزِيهِ مِمَّنِ اقْتَصَرَ عَلَى حِفْظِ الْقُرْءَانِ مِنْ دُونِ تَلَقٍّ لِعِلْمِ الدِّينِ تَفَهُّمًا مِنْ أَفْوَاهِ أَهْلِ الْعِلْمِ الَّذِينَ تَلَقَّوْا مِمَّنْ قَبْلَهُمْ فِي التَّشْبِيهِ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ لَهُ ءَاذَانٌ، فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَلَيْسَ قَالَ الرَّسُولُ «لَلَّهُ أَشَدُّ ءَاذَانًا» فَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ حَرَّفْتَ الْحَدِيثَ فَالْحَدِيثُ «أَذَنًا» بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالذَّالِ وَلَيْسَ ءَاذَانًا، فَقَدْ ظَنَّ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ عَالِمٌ فَتَجَرَّأَ عَلَى تَحْرِيفِ هَذَا الْحَدِيثِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ الصَّوَابُ، وَالأَذَنُ فِي اللُّغَةِ الِاسْتِمَاعُ، وَهَذَا مِنْ أَفْحَشِ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الْمُشَبِّهَةِ. فَسَمْعُ اللَّهِ تَعَالَى أَزَلِيٌّ وَمَسْمُوعَاتُهُ الَّتِي هِيَ مِنْ قَبِيلِ الصَّوْتِ حَادِثَةٌ، فَهُوَ تَعَالَى يَسْمَعُ هَذِهِ الأَصْوَاتَ الْحَادِثَةَ بِسَمْعِهِ الأَزَلِيِّ الأَبَدِيِّ الَّذِي لَيْسَ لِوُجُودِهِ ابْتِدَاءٌ وَلا انْتِهَاءٌ بَلْ هُوَ بَاقٍ دَائِمٌ كَسَائِرِ الصِّفَاتِ. يَسْمَعُ اللَّهُ كَلامَهُ الأَزَلِيَّ بِسَمْعٍ أَزَلِيٍّ وَيَسْمَعُ كَلامَ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَصْوَاتَهُمْ بِسَمْعٍ أَزَلِيٍّ لَيْسَ بِسَمْعٍ يَحْدُثُ فِي ذَاتِهِ عِنْدَ وُجُودِ الْحَادِثَاتِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْبَصَرُ . يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى عَقْلًا الْبَصَرُ أَيِ الرُّؤْيَةُ، فَهُوَ يَرَى بِرُؤْيَةٍ أَزَلِيَّةٍ أَبَدِيَّةٍ الْمَرْئِيَّاتِ جَمِيعَهَا وَيَرَى ذَاتَهُ بِغَيْرِ حَدَقَةٍ وَجَارِحَةٍ لِأَنَّ الْحَوَاسَّ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِ الْبَصَرِ لَهُ عَقْلًا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ بَصِيرًا رَائِيًا لَكَانَ أَعْمَى، وَالْعَمَى أَيْ عَدَمُ الرُّؤْيَةِ نَقْصٌ عَلَى اللَّهِ، وَالنَّقْصُ عَلَيْهِ مُسْتَحِيلٌ.

وَدَلِيلُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ السَّمْعِيُّ الآيَاتُ وَالأَحَادِيثُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/11]، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَعْدَادِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى: «السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» وَهُوَ فِي حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ.

الشَّرْحُ الْبَصَرُ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْمُبْصَرَاتِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَصَرُهُ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالْجَوَاهِرِ وَمَا يَقُومُ بِالْجَوَاهِرِ مِنَ الْمَرْئِيَّاتِ بَلِ اللَّهُ يَرَى كُلَّ مَوْجُودٍ بِلا اسْتِثْنَاءٍ، وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمُعْتَمَدُ، وَكِلا الرَّأْيَيْنِ لَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ، فَهُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَرَى نَفْسَهُ الأَزَلِيَّ وَيَرَى الْحَادِثَاتِ بِرُؤْيَتِهِ الأَزَلِيَّةِ.

تَنْبِيهٌ: لا يُقَالُ إِنَّهُ تَعَالَى رَأَى الْعَالَمَ فِي الأَزَلِ، لِأَنَّا لَوْ قُلْنَا إِنَّهُ رَأَى الْعَالَمَ فِي الأَزَلِ لَاقْتَضَى وُجُودَ الْعَالَمِ فِي الأَزَلِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَبَعْدَ وُجُودِ الْعَالَمِ نَقُولُ بِأَنَّهُ رَأَى الْعَالَمَ بِرُؤْيَتِهِ الأَزَلِيَّةِ مَعَ حُدُوثِ الْعَالَمِ، وَهَذَا التَّغَيُّرُ وَقَعَ فِي الْمُضَافِ إِلَيْهِ لا فِي الْمُضَافِ. فَإِنْ قِيلَ إِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْعَالَمُ مَعْلُومًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي الأَزَلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فَلِمَ لا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَرْئِيًّا لَهُ فِي الأَزَلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا، فَالْجَوَابُ: أَنَّ قِيَاسَ الرُّؤْيَةِ عَلَى الْعِلْمِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ لِأَنَّ الْعِلْمَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْدُومِ وَالْمَوْجُودِ أَمَّا الرُّؤْيَةُ فَلا تَتَعَلَّقُ إِلَّا بِالْمَوْجُودِ وَكَمَا أَنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ بِمَرْئِيٍّ فَكَذَلِكَ لَيْسَ بِشَىْءٍ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْكَلامُ . الْكَلامُ هُوَ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ هُوَ مُتَكَلِّمٌ بِهَا ءَامِرٌ، نَاهٍ، وَاعِدٌ، مُتَوَعِّدٌ، لَيْسَ كَكَلامِ غَيْرِهِ، بَلْ أَزَلِيٌّ بِأَزَلِيَّةِ الذَّاتِ لا يُشْبِهُ كَلامَ الْخَلْقِ وَلَيْسَ بِصَوْتٍ يَحْدُثُ مِنَ انْسِلالِ الْهَوَاءِ أَوِ اصْطِكَاكِ الأَجْرَامِ، وَلا بِحَرْفٍ يَنْقَطِعُ بِإِطْبَاقِ شَفَةٍ أَوْ تَحْرِيكِ لِسَانٍ.

وَنَعْتَقِدُ أَنَّ مُوسَى سَمِعَ كَلامَ اللَّهِ الأَزَلِيَّ بِغَيْرِ حَرْفٍ وَلا صَوْتٍ كَمَا يَرَى الْمُؤْمِنُونَ ذَاتَ اللَّهِ فِي الآخِرَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ جَوْهَرًا وَلا عَرَضًا لِأَنَّ الْعَقْلَ لا يُحِيلُ سَمَاعَ مَا لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلا صَوْتٍ.

وَكَلامُهُ تَعَالَى الذَّاتِيُّ لَيْسَ حُرُوفًا مُتَعَاقِبَةً كَكَلامِنَا، وَإِذَا قَرَأَ الْقَارِئُ مِنَّا كَلامَ اللَّهِ فَقِرَاءَتُهُ حَرْفٌ وصَوْتٌ لَيْسَتْ أَزَلِيَّةً.

الشَّرْحُ يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى الْكَلامُ وَهُوَ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ لا يُشْبِهُ كَلامَ الْمَخْلُوقِينَ لِأَنَّ كَلامَ الْمَخْلُوقِينَ حَادِثٌ وَكَلامَ الإِنْسَانِ صَوْتٌ يَعْتَمِدُ عَلَى مَخَارِجَ وَمَقَاطِعَ وَيُبْتَدَأُ وَيُخْتَتَمُ وَيَكُونُ بِلُغَاتٍ وَحُرُوفٍ، وَمِنْهُ مَا يَحْصُلُ بِتَصَادُمِ جِسْمَيْنِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ - أَيْ كَلامِ اللَّهِ - بِالْقُرْءَانِ وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ عَيْنَ الْكَلامِ الذَّاتِيِّ بَلْ هِيَ عِبَارَاتٌ عَنْهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْعَقْلُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا لَكَانَ أَبْكَمَ وَالْبَكَمُ نَقْصٌ وَالنَّقْصُ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ وَأَمَّا دَلِيلُهُ النَّقْلِيُّ النُّصُوصُ الْقُرْءَانِيَّةُ وَالْحَدِيثِيَّةُ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [سُورَةَ النِّسَاء/164] أَيْ أَسْمَعَهُ كَلامَهُ الأَزَلِيَّ الأَبَدِيَّ فَفَهِمَ مِنْهُ مُوسَى مَا فَهِمَ، فَتَكْلِيمُ اللَّهِ أَزَلِيٌّ وَمُوسَى وَسَمَاعُهُ لِكَلامِ اللَّهِ حَادِثٌ.

فَائِدَةٌ مُهِمَّةٌ إِنَّ مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ أَهْلُ الْحَقِّ عَلَى أَنَّ كَلامَ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا ءَايَاتٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام/62] وَقَالُوا لَوْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى يَتَكَلَّمُ بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ كَخَلْقِهِ لَجَازَ عَلَيْهِ كُلُّ صِفَاتِ الْخَلْقِ مِنَ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهَذَا مُحَالٌ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَلامُ اللَّهِ غَيْرَ حَرْفٍ وَصَوْتٍ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ يُكَلِّمُ كُلَّ إِنْسَانٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُسْمِعُهُ كَلامَهُ وَيُحَاسِبُ مَنْ يُحَاسِبُهُ مِنْهُمْ بِهِ فَيَفْهَمُ الْعَبْدُ مِنْ كَلامِ اللَّهِ السُّؤَالَ عَنْ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَاعْتِقَادَاتِهِ، وَيَنْتَهِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حِسَابِهِمْ فِي سَاعَةٍ أَيْ وَقْتٍ قَصِيرٍ مِنْ مَوْقِفٍ مِنْ مَوَاقِفِ الْقِيَامَةِ، وَيَوْمُ الْقِيَامَةِ كُلُّهُ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ.

فَلَوْ كَانَ حِسَابُ اللَّهِ لِخَلْقِهِ مِنْ إِنْسٍ وَجِنٍّ بِالْحَرْفِ وَالصَّوْتِ مَا كَانَ يَنْتَهِي مِنْ حِسَابِهِمْ فِي مِائَةِ أَلْفِ سَنَةٍ لِأَنَّ الْخَلْقَ كَثِيرٌ وَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَحْدَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْبَشَرُ كُلُّهُمْ بِالنِّسْبَةِ لَهُمْ كَوَاحِدٍ مِنْ مِائَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ كَوَاحِدٍ مِنْ أَلْفٍ، وَبَعْضُ الْجِنِّ يَعِيشُونَ ءَالافًا مِنَ السِّنِينَ، فَلَوْ كَانَ حِسَابُ الْخَلْقِ بِالْحَرْفِ وَالصَّوْتِ لَكَانَ إِبْلِيسُ وَحْدَهُ يَأْخُذُ حِسَابُهُ وَقْتًا كَثِيرًا لِأَنَّ إِبْلِيسَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَاشَ مِائَةَ أَلْفِ سَنَةٍ وَلا يَمُوتُ إِلَّا يَوْمَ النَّفْخَةِ، وَحِسَابُ الْعِبَادِ لَيْسَ عَلَى الْقَوْلِ فَقَطْ بَلْ عَلَى الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالِاعْتِقَادِ. وَكَذَلِكَ الإِنْسُ مِنْهُمْ مَنْ عَاشَ أَلْفَيْ سَنَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاشَ أَلْفًا وَزِيَادَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ عَاشَ مِئَاتٍ مِنَ السِّنِينَ فَلَوْ كَانَ حِسَابُهُمْ بِالْحَرْفِ وَالصَّوْتِ لَاسْتَغْرَقَ حِسَابُهُمْ زَمَانًا طَوِيلًا جِدًّا وَلَمْ يَكُنِ اللَّهُ أَسْرَعَ الْحَاسِبِينَ بَلْ لَكَانَ أَبْطَأَ الْحَاسِبِينَ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: ﴿وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾، ثُمَّ الْحُرُوفُ تَتَعَاقَبُ مَهْمَا كَانَتْ سَرِيعَةً تَأْخُذُ شَيْئًا مِنَ الْوَقْتِ. أَمَّا اللَّهُ تَعَالَى فَكَلامُهُ أَزَلِيٌّ أَبَدِيٌّ لَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا وَلا يُبْتَدَأُ وَلا يُخْتَتَمُ وَلا يَزِيدُ وَلا يَنْقُصُ، فَمَعْنَى قَوْلِنَا الْقُرْءَانُ كَلامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ نَطَقَ بِهِ كَمَا نَحْنُ نَقْرَؤُهُ، إِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَلامِ اللَّهِ الَّذِي لَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا، عَلَى هَذَا الْمَعْنَى نَقُولُ الْقُرْءَانُ كَلامُ اللَّهِ.

وَاللَّهُ تَعَالَى أَسْمَعَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ بِالْقُرْءَانِ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ كَلامًا غَيْرَ كَلامِهِ الأَزَلِيِّ الَّذِي لَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا، أَسْمَعَهُ كَلامًا مَخْلُوقًا بِصَوْتٍ وَحُرُوفٍ مُتَقَطِّعَةٌ عَلَى تَرْتِيبِ اللَّفْظِ الْمُنَزَّلِ وَفَهِمَ مِنْهُ جِبْرِيلُ هَذَا اللَّفْظَ الْمُنَزَّلَ. اللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ صَوْتًا بِحُرُوفِ الْقُرْءَانِ فَأَسْمَعَ جِبْرِيلَ ذَلِكَ الصَّوْتَ وَجِبْرِيلُ تَلَقَّاهُ وَنَزَلَ بِهِ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ وَجَدَ جِبْرِيلُ هَذَا الصَّوْتَ الَّذِي سَمِعَهُ مَكْتُوبًا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، جِبْرِيلُ أَخَذَهُ مِنْ هُنَاكَ كَمَا سَمِعَ هَذَا الصَّوْتَ.

فَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ جِبْرِيلَ لَمْ يَسْمَعِ الْقُرْءَانَ مِنْ كَلامِ اللَّهِ الأَزَلِيِّ الَّذِي لَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا.

وَلَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ جِبْرِيلَ لا يَسْمَعُ كَلامَ اللَّهِ، بَلْ جِبْرِيلُ مِنَ الْمَلائِكَةِ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ وَيَفْهَمُونَ مِنْهُ الأَوَامِرَ، فَسَمِعَ جِبْرِيلُ كَلامَ اللَّهِ وَفَهِمَ مِنْهُ أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُهُ بِأَنْ يَقْرَأَ ذَلِكَ الصَّوْتَ الَّذِي سَمِعَهُ مُرَتَّبًا بِحُرُوفِ الْقُرْءَانِ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، فَأَنْزَلَهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ مُفَرَّقًا عَلَى حَسَبِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ.

أَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَأْخُوذٌ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ وَلا حَاجِبٌ يَحْجُبُهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

فَإِنَّ قَالُوا أَيِ الْمُشَبِّهَةُ: دَلِيلُنَا عَلَى أَنَّ كَلامَ اللَّهِ بِالْحَرْفِ وَالصَّوْتِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ فَالْجَوَابُ: لَوْ كَانَ الأَمْرُ كَمَا تَدَّعُونَ لَتَنَاقَضَتْ هَذِهِ الآيَةُ مَعَ غَيْرِهَا مِنَ الآيَاتِ وَالْقُرْءَانُ يَتَعَاضَدُ وَلا يَتَنَاقَضُ.

وَإِنَّمَا مَعْنَى هَذِهِ الآيَةِ أَنَّ اللَّهَ يُوجِدُ الأَشْيَاءَ بِدُونِ تَعَبٍ وَمَشَقَّةٍ وَبِدُونِ مُمَانَعَةِ أَحَدٍ لَهُ، أَيْ أَنَّهُ يَخْلُقُ الأَشْيَاءَ الَّتِي شَاءَ أَنْ يَخْلُقَهَا بِسُرْعَةٍ بِلا تَأَخُّرٍ عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي شَاءَ وُجُودَهَا فِيهِ، فَمَعْنَى ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ يَدُلُّ عَلَى سُرْعَةِ الإِيْجَادِ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ كُلَّمَا أَرَادَ اللَّهُ خَلْقَ شَىْءٍ يَقُولُ كُنْ كُنْ كُنْ وَإِلَّا لَكَانَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ كُلَّ الْوَقْتِ يَقُولُ كُنْ كُنْ كُنْ وَهَذَا مُحَالٌ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَخْلُقُ فِي اللَّحْظَةِ الْوَاحِدَةِ مَا لا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحَصْرِ.

ثُمَّ «كُنْ» لُغَةٌ عَرَبِيَّةٌ وَاللَّهُ تَعَالَى كَانَ قَبْلَ اللُّغَاتِ كُلِّهَا وَقَبْلَ أَصْنَافِ الْمَخْلُوقَاتِ فَعَلَى قَوْلِ الْمُشَبِّهَةِ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ سَاكِتًا قَبْلُ ثُمَّ صَارَ مُتَكَلِّمًا وَهَذَا مُحَالٌ لِأَنَّ هَذَا شَأْنُ الْبَشَرِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: لَوْ كَانَ يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ أَنَّ يَتَكَلَّمَ بِالْحَرْفِ وَالصَّوْتِ لَجَازَ عَلَيْهِ كُلُّ الأَعْرَاضِ مِنَ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَالْبُرُودَةِ وَالْيُبُوسَةِ وَالأَلْوَانِ وَالرَّوَائِحِ وَالطُّعُومِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهَذَا مُحَالٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ بَعْضَ الْعَالَمِ مُتَحَرِّكًا دَائِمًا كَالنُّجُومِ وَخَلَقَ بَعْضَ الْعَالَمِ سَاكِنًا دَائِمًا كَالسَّمَوَاتِ، وَخَلَقَ بَعْضَ الْعَالَمِ مُتَحَرِّكًا فِي وَقْتِ وَسَاكِنًا فِي وَقْتٍ وَهُمُ الإِنْسُ وَالْجِنُّ وَالْمَلائِكَةُ وَالرِّيَاحُ وَالنُّورُ وَالظَّلامُ وَالظِّلالُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْعَوَالِمِ كُلِّهَا.

وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ السُّنَّةِ إِنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ الْخَلْقَ بِكُنْ أَيْ بِالْحُكْمِ الأَزَلِيِّ بِوُجُودِهِ فَالآيَةُ عِنْدَهُمْ عِبَارَةٌ عَنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُ الْعَالَمَ بِحُكْمِهِ الأَزَلِيِّ، وَالْحُكْمُ كَلامٌ أَزَلِيٌّ فِي حَقِّ اللَّهِ لَيْسَ كَلامًا مُرَكَّبًا مِنْ حُرُوفٍ وَلا صَوْتٍ.

وَأَمَّا مَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ الْمُجَسِّمَةُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ يَنْطِقُ بِالْكَافِ وَالنُّونِ عِنْدَ خَلْقِ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمَخْلُوقَاتِ فَهُوَ سَفَهٌ لا يَقُولُ بِهِ عَاقِلٌ لِأَنَّهُمْ قَالُوا قَبْلَ إِيْجَادِ الْمَخْلُوقِ يَنْطِقُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ الْمُرَكَّبَةِ مِنْ كَافٍ وَنُونٍ فَيَكُونُ خِطَابًا لِلْمَعْدُومِ، وَإِنْ قَالُوا إِنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ بَعْدَ إِيْجَادِ الشَّىْءِ فَلا مَعْنَى لإِيْجَادِ الْمَوْجُودِ.

وَأَمَّا التَّفْسِيرَانِ اللَّذَانِ ذَهَبَ إِلَيْهِمَا أَهْلُ السُّنَّةِ فَإِنَّهُمَا مُوَافِقَانِ لِلْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى قَوْلِ الْمُجَسِّمَةِ بَشَاعَةٌ كَبِيرَةٌ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لا يَتَفَرَّغُ مِنَ النُّطْقِ بِكَلِمَةِ كُنْ وَلَيْسَ لَهُ فِعْلٌ إِلَّا ذَلِكَ، لِأَنَّهُ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ يَخْلُقُ مَا لا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحَصْرِ. فَكَيْفَ يَصِحُّ فِي الْعَقْلِ أَنْ يُخَاطِبَ اللَّهُ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمَخْلُوقَاتِ بِهَذَا الْحَرْفِ. كَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَنْطِقَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْكَافِ وَالنُّونِ بِعَدَدِ كُلِّ مَخْلُوقٍ يَخْلُقُهُ فَإِنَّ هَذَا ظَاهِرُ الْفَسَادِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ لَيْسَ لَهُ كَلامٌ إِلَّا الْكَافُ وَالنُّونُ. فَمَا أَبْشَعَ هَذَا الِاعْتِقَادَ الْمُؤَدِّي إِلَى هَذِهِ الْبَشَاعَةِ.

فَالتَّفْسِيرَانِ الأَوَّلانِ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الأَوَّلُ قَالَ بِهِ الإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ وَالثَّانِي قَالَ بِهِ الأَشَاعِرَةُ كَالْبَيْهَقِيِّ.

ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ مَا وَصَفَ نَفْسَهُ بِالنُّطْقِ إِنَّمَا وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْكَلامِ أَيْ بِأَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ فَلَوْ كَانَ كَلامُ اللَّهِ نُطْقًا لَجَاءَتْ بِذَلِكَ ءَايَةٌ مِنَ الْقُرْءَانِ. وَالْمَوْجُودُ فِي الْقُرْءَانِ الْكَلامُ وَالْقَوْلُ وَهُمَا عِبَارَةٌ عَنْ مَعْنًى قَائِمٍ بِذَاتِ اللَّهِ أَيْ ثَابِتٍ لَهُ مَعْنَاهُ الذِّكْرُ وَالإِخْبَارُ وَلَيْسَ نُطْقًا بِالْحُرُوفِ وَالصَّوْتِ. وَقَدْ أَلَّفَ الْحَافِظُ أَبُو الْمَكَارِمِ الْمَقْدِسِيُّ جُزْءًا فِي تَضْعِيفِ أَحَادِيثِ الصَّوْتِ عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ، وَالْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ لا يَصِحُّ حَدِيثٌ فِي نِسْبَةِ الصَّوْتِ إِلَى اللَّهِ.

وَأَمَّا مَا فِي كِتَابِ فَتْحِ الْبَارِي فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ مِنَ الْقَوْلِ بِصِحَّةِ أَحَادِيثِ الصَّوْتِ فَهُوَ مَرْدُودٌ وَهُوَ نَفْسُهُ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ ذَكَرَ خِلافَ مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ، عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ مِنْ إِثْبَاتِ الصَّوْتِ قَالَ إِنَّهُ صَوْتٌ قَدِيمٌ وَلَمْ يَحْمِلْهُ عَلَى الظَّاهِرِ الَّذِي تَقُولُهُ الْمُشَبِّهَةُ إِنَّهٌ صَوْتٌ حَادِثٌ يَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا يَتَخَلَّلُهُ سُكُوتٌ كَمَا قَالَ زَعِيمُ الْمُشَبِّهَةِ ابْنُ تَيْمِيَةَ إِنَّ كَلامَهُ تَعَالَى قَدِيمُ النَّوْعِ حَادِثُ الأَفْرَادِ، وَمِثْلَ ذَلِكَ قَالَ فِي إِرَادَةِ اللَّهِ وَكِلا الأَمْرَيْنِ بَاطِلٌ. وَالْحَافِظُ لا يَعْتَقِدُ قِيَامَ الْحَادِثِ بِذَاتِ اللَّهِ، فَشَرْحُهُ هَذَا مَشْحُونٌ بِذِكْرِ نَفْيِ الْحَرَكَةِ وَالِانْتِقَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ يُؤَوِّلُ الأَحَادِيثَ الَّتِي ظَاهِرُهَا قِيَامُ صِفَةٍ حَادِثَةٍ بِذَاتِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ الظَّاهِرِ.

ثُمَّ إِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِ إِنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ بِلَفْظِ كُنْ الَّذِي هُوَ لَفْظٌ مَرَكَّبٌ مِنْ حَرْفَيْنِ خَلْقُ الْمَخْلُوقِ بِالْمَخْلُوقِ وَهَذَا مُحَالٌ، إِنَّمَا يَخْلُقُ اللَّهُ الْمَخْلُوقَاتِ بِقُدْرَتِهِ الْقَدِيمَةِ وَمَشِيئَتِهِ وَعِلْمِهِ الْقَدِيمِ.

ثُمَّ إِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتٍ مُخَالِفٌ لِمُعْتَقَدِ أَهْلِ السُّنَّةِ الأَشَاعِرَةِ وَالْمَاتُرِيدِيَّةِ فَلْيُحْذَرْ. وَمَنْ شَاءَ الِاطِّلاعَ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ أَيِّ حَدِيثٍ فِي نِسْبَةِ الصَّوْتِ إِلَى اللَّهِ فَلْيُطَالِعْ جُزْءَ أَبِي الْمَكَارِمِ. وَلا حُجَّةَ لِلْمُشَبِّهَةِ الصَّوْتِيَّةِ فِيمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ بَعْدَ أَنْ يَقْبِضَ عَزْرَائِيلُ أَرْوَاحَ الْخَلْقِ وَالْمَلائِكَةِ فَيَقْبِضُ اللَّهُ رُوحَ عَزْرَائِيلَ: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ فَيُجِيبُ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ: لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، لِأَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ. يُقَالُ لَهُمْ أَلَيْسَ اللَّهُ تَعَالَى كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ هَذِهِ الْحُرُوفِ فَهِيَ مُحْدَثَةٌ أَحْدَثَهَا هُوَ فَكَيْفَ يَتَّصِفُ اللَّهُ بِشَىْءٍ مُحْدَثٍ. بَلْ قَوْلُهُمْ فِيهِ نِسْبَةُ الْحُدُوثِ إِلَى ذَاتِ اللَّهِ لِأَنَّ مَا يَتَّصِفُ بِالْحَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ وَإِنَّمَا تَأْوِيلُ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْءَانِ مِنْ هَذِهِ الأَلْفَاظِ أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ كَلامِهِ الأَزَلِيِّ الأَبَدِيِّ. فَالْكَلامُ الأَزَلِيُّ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِاللَّفْظِ الْمَاضِي وَبِلَفْظِ الْمُضَارِعِ وَبِلْفَظِ الأَمْرِ فَكَلامُ اللَّهِ الْقَائِمُ بِذَاتِهِ غَيْرُ مُتَجَزِّئٍ وَلا مُتَبَعِّضٍ كَمَا أَنَّ حَيَاتَهُ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ لا تَتَجَزَّأُ وَلا يَتَخَلَّلُهَا انْقِطَاعٌ.

وَأَحْسَنُ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ الإِسْنَادُ مَا رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بنُ أَبِي دَاوُدَ فِي كِتَابِهِ «الْبَعْث» ص26 قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بنُ أَبِي دَاوُدَ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بنُ يَحْيَى بنِ كَثِيرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمُ بنُ أَخْضَر عَنِ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يُنَادِي مُنَادٍ بَيْنَ يَدَيِ الصَّيْحَةِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ - وَمَدَّ بِهَا التَّيْمِيُّ صَوْتَهُ - قَالَ فَيَسْمَعُهُ الأَحْيَاءُ وَالأَمْوَاتُ وَيَنْزِلُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ. أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ الدَّيْلَمِيُّ فِي فِرْدَوْسِ الأَخْبَارِ وَعَزَاهُ السُّيُوطِيُّ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا فِي الْبَعْثِ وَعَزَاهُ لِعَبْدِ بنِ حُمَيْدٍ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ لِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ [فِي الْمُسْتَدْرَكِ] وَصَحَّحَهُ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ. وَهَذَا سَالِمٌ مِنْ نِسْبَةِ النُّطْقِ بِالصَّوْتِ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ عَقِيدَةُ أَهْلِ التَّنْزِيهِ وَهُمْ أَهْلُ الإِثْبَاتِ وَالتَّنْزِيهِ، يُثْبِتُونَ لِلَّهِ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ وَمَا أَثْبَتَهُ لَهُ نَبِيُّهُ مَعَ تَجَنُّبِ حَمْلِ النُّصُوصِ عَلَى ظَوَاهِرِ الْمُتَشَابِهِ بَلْ يَعْتَقِدُونَ لِلْمُتَشَابِهِ مَعَانِي تَلِيقُ بِاللَّهِ لَيْسَ فِيهَا إِثْبَاتُ صِفَةٍ حَادِثَةٍ لِلَّهِ كَمَا أَنَّهُمْ يُنَزِّهُونَ ذَاتَهُ عَنِ الْحَجْمِيَّةِ وَالْجِسْمِيَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ لا يُلْتَفَتَ إِلَى مَا يُذْكَرُ فِي كَثِيرٍ مِنَ التَّفَاسِيرِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَقُولُ بَعْدَ فَنَاءِ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ سِوَى الْجِنِّ وَالْمَلائِكَةِ مُجِيبًا لِنَفْسِهِ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ فَإِنَّهُ يَتَبَادَرُ إِلَى ذِهْنِ الْمُطَالِعِ أَنَّ اللَّهَ يَنْطِقُ بِالصَّوْتِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَهَذَا مِمَّا لا يَجُوزُ اعْتِقَادُهُ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْقُرْءَانُ لَهُ إِطْلاقَانِ: يُطْلَقُ عَلَى اللَّفْظِ الْمُنَزَّلِ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى الْكَلامِ الذَّاتِيِّ الأَزَلِيِّ الَّذِي لَيْسَ هُوَ بِحَرْفٍ وَلا صَوْتٍ وَلا لُغَةٍ عَرَبِيَّةٍ وَلا غَيْرِهَا. فَإِنْ قُصِدَ بِهِ الْكَلامُ الذَّاتِيُّ فَهُوَ أَزَلِيٌّ لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلا صَوْتٍ، وَإِنْ قُصِدَ بِهِ وَبِسَائِرِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ اللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ فَمِنْهُ مَا هُوَ بِاللُّغَةِ الْعِبْرِيَّةِ وَمِنْهُ مَا هُوَ بِاللُّغَةِ السُّرْيَانِيَّةِ وَهَذِهِ اللُّغَاتُ وَغَيْرُهَا مِنَ اللُّغَاتِ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً فِي الأَزَلِ فَخَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَصَارَتْ مَوْجُودَةً وَاللَّهُ تَعَالَى كَانَ قَبْلَ كُلِّ شَىْءٍ، وَكَانَ مُتَكَلِّمًا قَبْلَهَا وَلَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا وَكَلامُهُ الَّذِي هُوَ صِفَتُهُ أَزَلِيٌّ أَبَدِيٌّ وَهُوَ كَلامٌ وَاحِدٌ وَهَذِهِ الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ كُلُّهَا عِبَارَاتٌ عَنْ ذَلِكَ الْكَلامِ الذَّاتِيِّ الأَزَلِيِّ الأَبَدِيِّ، وَلا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْعِبَارَةِ حَادِثَةً كَوْنُ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ حَادِثًا أَلا تَرَى أَنَّنَا إِذَا كَتَبْنَا عَلَى لَوْحٍ أَوْ جِدَارٍ «اللَّه» فَقِيلَ هَذَا اللَّهُ فَهَلْ مَعْنَى هَذَا أَنَّ أَشْكَالَ الْحُرُوفِ الْمَرْسُومَةَ هِيَ ذَاتُ اللَّهِ لا يَتَوَهَّمُ هَذَا عَاقِلٌ إِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ عِبَارَةٌ عَنِ الإِلَهِ الَّذِي هُوَ مَوْجُودٌ مَعْبُودٌ خَالِقٌ لِكُلِّ شَىْءٍ وَمَعَ هَذَا لا يُقَالُ الْقُرْءَانُ مَخْلُوقٌ لَكِنْ يُبَيَّنُ فِي مَقَامِ التَّعْلِيمِ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُنَزَّلَ لَيْسَ قَائِمًا بِذَاتِ اللَّهِ بَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ لِأَنَّهُ حُرُوفٌ يَسْبِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَمَا كَانَ كَذَلِكَ حَادِثٌ مَخْلُوقٌ قَطْعًا. لَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ تَصْنِيفِ مَلَكٍ وَلا بَشَرٍ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْكَلامِ الذَاتِيِّ الَّذِي لا يُوصَفُ بِأَنَّهُ عَرَبِيٌّ، وَلا بِأَنَّهُ عِبْرانِيٌّ، وَلا بِأَنَّهُ سُرْيَانِيٌّ، وَكُلٌّ يُطْلَقُ عَلَيْهِ كَلامُ اللَّهِ، أَيْ أَنَّ صِفَةَ الْكَلامِ الْقَائِمَةَ بِذَاتِ اللَّهِ يُقَالُ لَهَا كَلامُ اللَّهِ، وَاللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْهُ يُقَالُ لَهُ كَلامُ اللَّهِ.

الشَّرْحُ التَّلَفُظُّ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ الْقُرْءَانُ مَخْلُوقٌ حَرَامٌ، لَكِنْ يُبَيَّنُ فِي مَقَامِ التَّعْلِيمِ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُنَزَّلَ لَيْسَ قَائِمًا بِذَاتِ اللَّهِ بَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ لِأَنَّهُ حُرُوفٌ يَسْبِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ حَادِثٌ مَخْلُوقٌ قَطْعًا وَإِلَّا فَالتَّلَفُّظُ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ الْقُرْءَانُ مَخْلُوقٌ حَرَامٌ، فَمَنْ كَفَّرَ مِنَ السَّلَفِ الْمُعْتَزِلَةَ لِقَوْلِهِمُ الْقُرْءَانُ مَخْلُوقٌ فَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لا تَعْتَقِدُ أَنَّ لِلَّهِ كَلامًا هُوَ صِفَةٌ لَهُ بَلْ تَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ بِكَلامٍ يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ كَالشَّجَرَةِ الَّتِي سَمِعَ مُوسَى عِنْدَهَا فَكَفَّرُوهُمْ لِذَلِكَ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ نُقِلَ هَذَا التَّفْصِيلُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ مِنَ السَّلَفِ أَدْرَكَ شَيْئًا مِنَ الْمِائَةِ الأُولَى ثُمَّ تُوُفِّيَ سَنَةَ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ هِجْرِيَّةً قَالَ: «وَاللَّهُ يَتَكَلَّمُ لا بِآلَةٍ وَحَرْفٍ وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ بِآلَةٍ وَحَرْفٍ» فَلْيُفْهَمْ ذَلِكَ، وَلَيْسَ الأَمْرُ كَمَا تَقُولُ الْمُشَبِّهَةُ بِأَنَّ السَّلَفَ مَا كَانُوا يَقُولُونَ بِأَنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ بِكَلامٍ لَيْسَ بِحَرْفٍ وَإِنَّمَا هَذَا بِدْعَةُ الأَشَاعِرَةِ، وَهَذَا الْكَلامُ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ ثَابِتٌ ذَكَرَهُ فِي إِحْدَى رَسَائِلِهِ الْخَمْسِ. وَقَدْ صَحَّحَ نِسْبَتَهَا إِلَيْهِ الْحَافِظُ مُحَمَّدُ مُرْتَضَى الزَّبِيدِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَى إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ.

الشَّرْحُ الْقُرْءَانُ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْكَلامُ الذَّاتِيُّ الَّذِي هُوَ مَعْنًى أَيْ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّهِ وَيُطْلَقُ عَلَى اللَّفْظِ الْمُنَزَّلِ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، وَمِنَ الأَدِلَّةِ الْوَاضِحَةِ فِي بَيَانِ أَنَّ الْقُرْءَانَ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ اللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ﴾ [سُورَةَ الْفَتْح/15] فَالْكُفَّارُ يُرِيدُونَ تَبْدِيلَ اللَّفْظِ الْمُنَزَّلِ لا الصِّفَةَ الذَّاتِيَّةَ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي اسْتِطَاعَتِهِمْ أَنْ يُغَيِّرُوا صِفَةَ اللَّهِ الذَّاتِيَّةَ كَالْكَلامِ وَالْقُدْرَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ﴾ [سُورَةَ الْقِيَامَة/18] أَيْ إِذَا جَمَعْنَاهُ فِي صَدْرِكَ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ أَيِ اعْمَلْ بِهِ، وَيُقَالُ قَرَأْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ أَيْ جَمَعْتُهُ.

فَائِدَةٌ مِنَ الدَّلِيلِ الصَّرِيحِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقْرَإِ الْقُرْءَانَ عَلَى جِبْرِيلَ كَمَا قَرَأَهُ جِبْرِيلُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَقَرَأَهُ مُحَمَّدٌ عَلَى صَحَابَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيْمٍ﴾ [سُورَةَ الْحَاقَّة/40] فَلَوْ كَانَ الْقُرْءَانُ بِمَعْنَى اللَّفْظِ الْمُنَزَّلِ عَيْنَ كَلامِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ صِفَتُهُ لَمْ يَقُلْ ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيْمٍ﴾ أَيْ جِبْرِيلَ بِإِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ، فَالآيَةُ صَرِيْحَةٌ فِي أَنَّ الْقُرْءَانَ بِمَعْنَى اللَّفْظِ الْمُنَزَّلِ الْمَقْرُوءِ هُوَ مَقْرُوءُ جِبْرِيلَ وَلَيْسَ مَقْرُوءَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا دَلِيلٌ مُفْحِمٌ لِلْمُشَبِّهَةِ، فَلَوْ كَانَ الأَمْرُ كَمَا تَقُولُ الْمُشَبِّهَةُ لَكَانَتِ الآيَةُ: إِنَّهُ لَقَوْلُ ذِي الْعَرْشِ.

وَمِنْ أَشَدِّ الْمُشَبِّهَةِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِمُ الْفَاسِدِ ابْنُ تَيْمِيَةَ فَإِنَّهُ قَالَ إِنَّ كَلامَ اللَّهِ حُرُوفٌ مُتَعَاقِبَةٌ يَسْبِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيَتَخَلَّلُهُ سُكُوتٌ، وَكَذَلِكَ قَالَ إِرَادَةُ اللَّهِ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَجَعَلَ اللَّهَ تَعَالَى مُتَّصِفًا بِصِفَتَيْنِ حَادِثَتَيْنِ، فَيَكُونُ هُوَ نَسَبَ الْحُدُوثَ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّ مَنْ يَقُومُ بِهِ صِفَةٌ حَادِثَةٌ فَهُوَ حَادِثٌ، وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ صِفَةَ اللَّهِ حَادِثَةٌ فَهُوَ كَافِرٌ، وَكَذَلِكَ مَنْ شَكَّ فِي ذَلِكَ أَوْ تَوَقَّفَ اهـ وَذَلِكَ فِي إِحْدَى رَسَائِلِهِ الْخَمْسِ الَّتِي هِيَ صَحِيحَةُ النِّسْبَةِ إِلَيْهِ كَمَا قَالَ الْمُحَدِّثُ الْحَافِظُ مُحَمَّدُ مُرْتَضَى الزَّبِيدِيُّ وَذَلِكَ فِي شَرْحِهِ عَلَى إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ فِي أَوَائِلِ الْجُزْءِ الثَّانِي، قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ ذِكْرِ اخْتِلافِ النَّاسِ فِي نِسْبَتِهَا إِلَيْهِ. وَهَذَا دَلِيلُ فَسَادِ فَهْمِ ابْنِ تَيْمِيَةَ وَفَسَادِ عَقْلِهِ. وَلَقَدْ صَدَقَ الْحَافِظُ أَبُو زُرْعَةَ الْعِرَاقِيُّ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ عِلْمَهُ أَكْبَرُ مِنْ عَقْلِهِ، أَيْ أَنَّ مَحْفُوظَاتِهِ كَثِيرَةٌ وَعَقْلَهُ ضَعِيفٌ. وَلا مَعْنَى لِقَوْلِ إِنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتٍ لا كَأَصْوَاتِنَا كَمَا أَنَّهُ لا مَعْنَى لِقَوْلِ الْمُجَسِّمَةِ اللَّهُ جِسْمٌ لا كَالأَجْسَامِ.

قَالَ صَاحِبُ الْخِصَالِ الْحَنْبَلِيُّ قَالَ أَحْمَدُ: «مَنْ قَالَ اللَّهُ جِسْمٌ لا كَالأَجْسَامِ كَفَرَ». فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُجَسِّمَةَ وَالْمُعْتَزِلَةَ كِلْتَاهُمَا فِرْقَتَانِ ضَالَّتَانِ.

قَالَ الْحَافِظُ مُحَمَّدُ مُرْتَضَى الزَّبِيدِيُّ: «لَمْ يَتَوَقَّفْ أَصْحَابُنَا مِنْ أَهْلِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ فِي تَكْفِيرِ الْمُعْتَزِلَةِ» اهـ أَيْ لِقَوْلِهِمْ بِأَنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ. فَتَبَيَّنَ بِهَذَا بُطْلانُ قَوْلِ مَنِ احْتَجَّ بِقَوْلِ الإِمَامِ أَحْمَدَ لِلْمُعْتَصِمِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ هَذَا الْقَائِلُ لِأَنَّ الْمُعْتَصِمَ وَافَقَ الْمُعْتَزِلَةَ فِي عَقِيدَتِهِمْ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُكَفِّرْهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ بَلْ خَاطَبَهُ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُعْتَصِمَ وَمَأْمُونًا وَغَيْرَهُمَا مِنَ الْخُلَفَاءِ الَّذِينَ وَافَقُوا الْمُعْتَزِلَةَ فِي الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقُرْءَانَ مَخْلُوقٌ وَدَعَوُا النَّاسَ إِلَى ذَلِكَ بِالْقُوَّةِ وَالتَّعْذِيبِ لَمْ يُوَافَقُوا الْمُعْتَزِلَةَ فِي الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ وَلا فِي الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ بِكَلامٍ يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ وَلَيْسَ لَهُ صِفَةُ الْكَلامِ الْقَائِمَةُ بِذَاتِهِ، وَقَدْ شَهِدَ بِذَلِكَ شَيْخُ الْمُعْتَزِلَةِ ثُمَامَةُ بنُ أَشْرَس فَقَالَ: إِنَّ الْمَأْمُونَ لَمْ يُوَافِقْهُمْ إِلَّا فِي الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْءَانِ اهـ. فَلْيُحْذَرْ كَلامُ مُحَمَّد سَعِيد الْبُوطِي فِي بَعْضِ مُؤَلَّفَاتِهِ حَيْثُ إِنَّهُ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِ الإِمَامِ أَحْمَدَ لِلْمُعْتَصِمِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَجَعَلَهُ حُكْمًا لِلْمُعْتَزِلَةِ بِأَنَّهُمْ لا يُكَفَّرُونَ. ثُمَّ إِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ ثَبَتَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِأَنَّ اللَّهَ كَانَ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ حَرَكَاتِ الْعِبَادِ وَسَكَنَاتِهِمْ قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهُمُ الْقُدْرَةَ عَلَيْهَا فَلَمَّا أَعْطَاهُمُ الْقُدْرَةَ عَلَيْهَا صَارَ عَاجِزًا عَنْ خَلْقِهَا، ذَكَرَ ذَلِكَ الإِمَامَانِ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ وَأَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالإِمَامُ أَبُو سَعِيدٍ الْمُتَوَلِّي وَالإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ شِيثُ بنُ إِبْرَاهِيمَ، كُلُّ هَؤُلاءِ فِي مُؤَلَّفٍ لَهُ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ نَصَّ عَلَيْهِ أَبُو الْمَعِينِ النَّسَفِيُّ الْحَنَفِيُّ قَالَ فَالْمُعْتَزِلَةُ قَالُوا اللَّهُ أَعْطَى الْعَبْدَ الْقُدْرَةَ عَلَى أَعْمَالِهِ فَلَمْ يَبْقَ لِلَّهِ سُلْطَانٌ بَلْ هُوَ عَاجِزٌ عَنْ خَلْقِ مَقْدُورِ الْعَبْدِ اهـ. فَكَيْفَ يَسْتَجِيزُ مُسْلِمٌ أَنْ يَقُولَ عَمَّنْ هَذَا اعْتِقَادُهُ إِنَّهُ مُسْلِمٌ.

ثُمَّ إِنَّهُ عَلَى قَوْلِهِمْ نَسَبُوا إِلَى اللَّهِ الْبَكَمَ لِأَنَّهُ لا يُوصَفُ الذَّاتُ بِأَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ بِكَلامٍ قَائِمٍ بِغَيْرِهِ. فَاللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ مُتَكَلِّمٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ خَالِقُ الْكَلامِ فِي غَيْرِهِ لا أَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِكَلامٍ قَائِمٍ بِذَاتِهِ وَهَذَا إِثْبَاتُ الْبَكَمِ لِلَّهِ وَالْبَكَمُ نَقْصٌ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالإِطْلاقَانِ مِنْ بَابِ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ إِمَّا لُغَوِيَّةٌ وَإِمَّا شَرْعِيَّةٌ وَإِمَّا عُرْفِيَّةٌ وَإِطْلاقُ الْقُرْءَانِ عَلَى اللَّفْظِ الْمُنَزَّلِ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ فَلْيُعْلَمْ ذَلِكَ.

الشَّرْحُ اللَّفْظُ إِذَا كَانَ يُسْتَعْمَلُ لِمَعْنًى وَاحِدٍ أَوْ لِأَكْثَرَ مِنْ مَعْنًى فَإِذَا اسْتُعْمِلَ فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ يُقَالُ لَهُ حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ، وَإِنْ نُقِلَ إِلَى مَعْنًى ءَاخَرَ فَذَلِكَ الْمَعْنَى الآخَرُ مَجَازٌ بِالنِّسْبَةِ لِهَذَا اللَّفْظِ.

وَأَمَّا الْحَقِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ فَالْمُرَادُ بِهَا أَنَّ حَمَلَةَ الشَّرْعِ أَحْيَانًا يَسْتَعْمِلُونَ تِلْكَ الْكَلِمَةَ فِي مَعْنًى مَعْرُوفٍ عِنْدَهُمُ اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ، فَهَذَا الإِطْلاقُ الَّذِي اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ يُقَالُ لَهُ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ بِحَيْثُ إِذَا أُطْلِقَ هَذَا اللَّفْظُ يَتَبَادَرُ مِنْهُ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي تَعَارَفَهُ حَمَلَةُ الشَّرْعِ.

وَأَمَّا الْحَقِيقَةُ الْعُرْفِيَّةُ فَالْمُرَادُ بِهَا فِي عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ، مِثَالُ ذَلِكَ كَلِمَةُ الدَّابَّةِ فِي الأَصْلِ مَعْنَاهَا كُلُّ مَا يَدِبُّ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مِنْ إِنْسَانٍ وَبَهَائِمَ وَحَشَرَاتٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، ثُمَّ النَّاسُ جَعَلُوهُ لِلْحِمَارِ وَشِبْهِ ذَلِكَ، فَعَلَى الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ هَذِهِ الْكَلِمَةُ مَعْنَاهَا الْحِمَارُ وَشِبْهُ ذَلِكَ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَتَقْرِيبُ ذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ الْجَلالَةِ «اللَّه» عِبَارَةٌ عَنْ ذَاتٍ أَزَلِيٍّ أَبَدِيٍّ، فَإِذَا قُلْنَا نَعْبُدُ اللَّهَ فَذَلِكَ الذَّاتُ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَإِذَا كُتِبَ هَذَا اللَّفْظُ فَقِيلَ: مَا هَذَا؟ يُقَالُ: اللَّه، بِمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الذَّاتِ الأَزَلِيِّ الأَبَدِيِّ لا بِمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ هِيَ الذَّاتُ الَّذِي نَعْبُدُهُ.

الشَّرْحُ تَقْرِيبُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ تَلَفَّظْتُ «اللَّهَ» أَيْ نَطَقْتُ بِهَذَا اللَّفْظِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَاتِ اللَّهِ الْمُقَدَّسِ، وَيُقَالُ كَتَبْتُ «اللَّهَ» أَيْ أَشْكَالَ الْحُرُوفِ الدَّالَّةِ عَلَى الذَّاتِ الْقَدِيمِ، فَإِنْ قِيلَ إِذَا لَمْ يَكُنِ اللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ عَيْنَ كَلامِ اللَّهِ الذَّاتِيِّ فَكَيْفَ كَانَ نُزُولُهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ؟ فَالْجَوَابُ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ جِبْرِيلَ وَجَدَهُ مَكْتُوبًا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَأَنْزَلَهُ بِأَمْرِ اللَّهِ لَهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ قِرَاءَةً عَلَيْهِ لا مَكْتُوبًا فِي صُحُفٍ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيْمٍ﴾ [سُورَةَ التَّكْوِير/19] أَيْ مَقْرُوءُ جِبْرِيلَ فَلَوْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ عَيْنَ كَلامِ اللَّهِ الذَّاتِيِّ لَمْ يَقُلِ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيْمٍ﴾ أَيْ جِبْرِيلَ لِأَنَّ جِبْرِيلَ هُوَ الْمُرَادُ بِالرَّسُولِ الْكَرِيْمِ بِاتِّفَاقِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ صَوْتًا بِهَيْئَةِ أَلْفَاظِ الْقُرْءَانِ فَسَمِعَهُ جِبْرِيلُ فَقَرَأَهُ عَلَى النَّبِيِّ. قَالَهُ الْقَوْنَوِيُّ شَارِحُ الطَّحَاوِيَّةِ.



الإِرَادَةُ

اعْلَمْ أَنَّ الإِرَادَةَ وَهِيَ الْمَشِيئَةُ وَاجِبَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ يُخَصِّصُ اللَّهُ بِهَا الْجَائِزَ الْعَقْلِيَّ بِالْوُجُودِ بَدَلَ الْعَدَمِ، وَبِصِفَةٍ دُونَ أُخْرَى وَبِوَقْتٍ دُونَ ءَاخَرَ.

الشَّرْحُ أَنَّ الإِرَادَةَ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّهِ أَيْ ثَابِتَةٌ لِذَاتِهِ يُخَصِّصُ بِهَا الْمُمْكِنَ الْعَقْلِيَّ بِصِفَةٍ دُونَ صِفَةٍ لِأَنَّ الْمُمْكِنَاتِ الْعَقْلِيَّةَ كَانَتْ مَعْدُومَةً ثُمَّ دَخَلَتْ فِي الْوُجُودِ لِتَخْصِيصِ اللَّهِ تَعَالَى لَهَا بِوُجُودِهَا، إِذْ كَانَ فِي الْعَقْلِ جَائِزًا أَنْ لا تُوجَدَ فَوُجُودُهَا بِتَخْصِيصِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَوْلا تَخْصِيصُ اللَّهِ تَعَالَى لَمَا وُجِدَ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ الْعَقْلِيَّةِ شَىْءٌ، فَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّصَ كُلَّ شَىْءٍ دَخَلَ فِي الْوُجُودِ بِوُجُودِهِ بَدَلَ أَنْ يَبْقَى فِي الْعَدَمِ وَبِالصِّفَةِ الَّتِي عَلَيْهَا دُونَ غَيْرِهَا، فَتَخْصِيصُ الإِنْسَانِ بِصُورَتِهِ وَشَكْلِهِ الَّذِي هُوَ قَائِمٌ بِتَخْصِيصِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْعَقْلِ جَائِزًا أَنْ يَكُونَ الإِنْسَانُ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ وَهَذَا الشَّكْلِ، ثُمَّ تَخْصِيصُ الإِنْسَانِ بِوُجُودِهِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ دُونَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ هُوَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَجَعَلَ الإِنْسَانَ أَوَّلَ الْعَالَمِ لَكِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَا جَعَلَهُ أَوَّلَ مَخْلُوقٍ بَلْ جَعَلَهُ ءَاخِرَ الْخَلْقِ بِاعْتِبَارِ نَوْعِ وَجِنْسِ الْمَوْجُودَاتِ، خَلَقَ اللَّهُ ءَادَمَ ءَاخِرَ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْبَهَائِمِ وَالأَشْجَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَشِيئَةَ مَعْنَاهَا تَخْصِيصُ الْمُمْكِنِ بِبَعْضِ الصِّفَاتِ دُونَ بَعْضٍ، فَالْوَاحِدُ مِنَّا يَعْلَمُ أَنَّهُ مَا أَوْجَدَ نَفْسَهُ عَلَى هَذَا الشَّكْلِ وَلا هُوَ أَوْجَدَ نَفْسَهُ فِي هَذَا الزَّمَنِ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ وَهُوَ الْمَوْجُودُ الأَزَلِيُّ الْمُسَمَّى اللَّه، وَالْبُرْهَانُ النَّقْلِيُّ عَلَى وُجُوبِ الإِرَادَةِ لِلَّهِ كَثِيرٌ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ [سُورَةَ هُود/107] أَيْ أَنَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُوجِدُ وَيَفْعَلُ الْمُكَوَّنَاتِ بِإِرَادَتِهِ الأَزَلِيَّةِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَبُرْهَانُ وُجُوبِ الإِرَادَةِ لِلَّهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا لَمْ يُوجَدْ شَىْءٌ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ، لِأَنَّ الْعَالَمَ مُمْكِنُ الْوُجُودِ فَوُجُودُهُ لَيْسَ وَاجِبًا لِذَاتِهِ عَقْلًا وَالْعَالَمُ مَوْجُودٌ فَعَلِمْنَا أَنَّهُ مَا وُجِدَ إِلَّا بِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ لِوُجُودِهِ وَتَرْجِيحِهِ لَهُ عَلَى عَدَمِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ مُرِيدٌ شَاءٍ، ثُمَّ الإِرَادَةُ بِمَعْنَى الْمَشِيئَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ شَامِلَةٌ لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ جَمِيعِهَا الْخَيْرِ مِنْهَا وَالشَّرِّ، فَكُلُّ مَا دَخَلَ فِي الْوُجُودِ مِنْ أَعْمَالِ الشَّرِّ وَالْخَيْرِ وَمِنْ كُفْرٍ أَوْ مَعَاصٍ أَوْ طَاعَةٍ فَبِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقَعَ وَحَصَلَ، وَهَذَا كَمَالٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ شُمُولَ الْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ لائِقٌ بِجَلالِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يَقَعُ فِي مُلْكِهِ مَا لا يَشَاءُ لَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلَ الْعَجْزِ وَالْعَجْزُ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ. وَالْمَشِيئَةُ تَابِعَةٌ لِلْعِلْمِ أَيْ أَنَّهُ مَا عَلِمَ حُدُوثَهُ فَقَدْ شَاءَ حُدُوثَهُ وَمَا عَلِمَ أَنَّهُ لا يَكُونُ لَمْ يَشَأْ أَنْ يَكُونَ.

الشَّرْحُ أَنَّ اللَّهَ شَاءَ كُلَّ مَا يَحْصُلُ مِنَ الْعِبَادِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، فَاللَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادِ الْحَسَنَاتِ وَيَكْرَهُ الْمَعَاصِي وَكُلٌّ دَخَلَ فِي الْوُجُودِ بِتَخْصِيصِ اللَّهِ تَعَالَى، لَوْلا تَخْصِيصُ اللَّهِ تَعَالَى لِلْحَسَنَاتِ بِالْوُجُودِ مَا وُجِدَتْ وَكَذَلِكَ الْكُفْرِيَّاتُ وَالْمَعَاصِي لَوْلا تَخْصِيصُ اللَّهِ تَعَالَى لَهَا بِالْوُجُودِ مَا وُجِدَتْ. وَلَيْسَ خَلْقُ الْقَبِيحِ قَبِيحًا مِنَ اللَّهِ، وَإِرَادَةُ وُجُودِ الْقَبِيحِ لَيْسَ قَبِيحًا مِنَ اللَّهِ، إِنَّمَا الْقَبِيحُ فِعْلُهُ وَإِرَادَتُهُ مِنَ الْخَلْقِ، كَمَا أَنَّ خَلْقَ اللَّهِ لِلْخِنْزِيرِ لَيْسَ قَبِيحًا مِنْهُ إِنَّمَا الْخِنْزِيرُ قَبِيحٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الصِّفَاتِ الْقَبِيحَةِ وَكَذَلِكَ خَلْقُ اللَّهِ الْفَأْرَةَ وَإِرَادَتُهُ وُجُودَهَا لَيْسَ قَبِيحًا مِنَ اللَّهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ خَالِقٌ لِلْخَيْرِ دُونَ الشَّرِّ إِنَّمَا اقْتُصِرَ عَلَى ذِكْرِ الْخَيْرِ هُنَا لِلِاكْتِفَاءِ بِذِكْرِهِ عَنْ ذِكْرِ الشَّرِّ لِأَنَّهُ اسْتَقَرَّ فِي عَقِيدَةِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ، وَالشَّىْءُ يَشْمَلُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان/26] وَقَدْ أَعْطَى الْمُلْكَ لِمُؤْمِنِينَ أَتْقِيَاءَ وَأَعْطَى لِكُفَّارٍ وَأَعْطَى لِمُسْلِمِينَ فَسَقَةٍ، وَلَمْ يُعْطِهِمْ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، فَاللَّهُ تَعَالَى حَكِيمٌ فِي فِعْلِهِ مُنَزَّهٌ عَنِ السَّفَهِ فَهُوَ خَلَقَ الأَعْمَالَ السَّفِيهَةَ وَالأَشْخَاصَ السُّفَهَاءَ، وَلا يَكُونُ خَلْقُهُ لِذَلِكَ مِنْهُ سَفَهًا كَمَا أَنَّ خَلْقَهُ لِلْهَوَّامِ السَّامَّةِ وَالْحَشَرَاتِ الْمُؤْذِيَةِ كَالْفَأْرِ لا يَكُونُ ذَلِكَ سَفَهًا مِنْهُ تَعَالَى.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَيْسَتِ الْمَشِيئَةُ تَابِعَةً لِلأَمْرِ بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ وَلَدِهِ إِسْمَاعِيلَ وَلَمْ يَشَأْ لَهُ ذَلِكَ.

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَأْمُرُ بِمَا لَمْ يَشَأْ وُقُوعَهُ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ قَدْ يَأْمُرُ بِمَا لَمْ يَشَأْ، كَمَا أَنَّهُ عَلِمَ بِوُقُوعِ شَىْءٍ مِنَ الْعَبْدِ وَنَهَاهُ عَنْ فِعْلِهِ.

الشَّرْحُ هَذِهِ الْمَسْئَلَةُ مُهِمٌّ بَيَانُهَا وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ فَسَادُ قَوْلِ بَعْضِهِمْ: «كُلُّ شَىْءٍ بِأَمْرِهِ» لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ بِارْتِكَابِ الْمَعَاصِي وَالْكُفْرِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَصِحُّ قَوْلُهُ: إِنَّ كُلَّ شَىْءٍ يَحْصُلُ فَهُوَ يَحْصُلُ بِمَشِيئَتِهِ وَتَقْدِيرِهِ وَعِلْمِهِ لَكِنَّ الْخَيْرَ يَحْصُلُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ وَعِلْمِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ أَمَّا الشَّرُّ فَيَحْصُلُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ وَعِلْمِهِ لا بِمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ. وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الأَمْرَ غَيْرُ الْمَشِيئَةِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِالْوَحْيِ الْمَنَامِيِّ أَنْ يَذْبَحَ ابْنَهُ إِسْمَاعِيلَ وَقِيلَ إِسْحَاقَ فَلَمَّا أَرَادَ تَنْفِيذَ مَا أُمِرَ بِهِ فَدَى اللَّهُ تَعَالَى إِسْمَاعِيلَ بِكَبْشٍ مِنَ الْجَنَّةِ جَاءَ بِهِ جِبْرِيلُ فَلَمْ يَذْبَحْ إِبْرَاهِيمُ ابْنَهُ إِسْمَاعِيلَ، فَلَوْ كَانَ الأَمْرُ بِمَعْنَى الْمَشِيئَةِ لَكَانَ إِبْرَاهِيمُ ذَبَحَ ابْنَهُ إِسْمَاعِيلَ.



الْقُدْرَةُ

يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى الْقُدْرَةُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَالْمُرَادُ بِالشَّىْءِ هُنَا الْجَائِزُ الْعَقْلِيُّ فَخَرَجَ بِذَلِكَ الْمُسْتَحِيلُ الْعَقْلِيُّ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَابِلٍ لِلْوُجُودِ فَلَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِتَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ.

الشَّرْحُ الْقُدْرَةُ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ ثَابِتَةٌ لِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْمَعْنَى وَاحِدٌ لَكِنْ لا يُقَالُ ثَابِتَةٌ فِي ذَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَتْ حَالَّةً فِيهِ وَلا هِيَ بَعْضُهُ وَلا يُقَالُ إِنَّهَا مِثْلُهُ وَلا يُقَالُ إِنَّهَا شَبِيهَةٌ بِهِ. وَقُدْرَةُ اللَّهِ يَتَأَتَّى بِهَا الإِيْجَادُ وَالإِعْدَامُ أَيْ يُوجِدُ بِهَا الْمَعْدُومَ مِنَ الْعَدَمِ وَيُعْدِمُ بِهَا الْمَوْجُودَ. وَالْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ عَلَى وُجُوبِهَا لِلَّهِ تَعَالَى هُوَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا لَكَانَ عَاجِزًا وَلَوْ كَانَ عَاجِزًا لَمْ يُوجَدْ شَىْءٌ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَالْمَخْلُوقَاتُ مَوْجُودَةٌ بِالْمُشَاهَدَةِ، وَالْعَجْزُ نَقْصٌ وَالنَّقْصُ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ، إِذْ مِنْ شَرْطِ الإِلَهِ الْكَمَالُ. وَأَمَّا الْبُرْهَانُ النَّقْلِيُّ فَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ صِفَةِ الْقُدْرَةِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْقُرْءَانِ الْكَرِيْمِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ [سُورَةَ الذَّارِيَات/58] وَالْقُوَّةُ هِيَ الْقُدْرَةُ وَلا يَجُوزُ التَّعْبِيرُ عَنِ اللَّهِ بِالْقُوَّةِ كَقَوْلِ سَيِّد قُطُب فِي تَفْسِيرِهِ الْقُوَّةُ الْخَالِقَةُ، وَهَذَا إِلْحَادٌ لِأَنَّهُ جَعَلَ اللَّهَ صِفَةً وَقَدْ تَبِعَ فِي هَذَا بَعْضَ الْمُلْحِدِينَ الأَورُوبِيِّينَ، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ فِي تَفْسِيرِهِ إِرَادَةُ الْقُوَّةِ الْخَالِقَةِ، فَلْيُحْذَرْ مِنْ تَقْلِيدِهِ فِي ذَلِكَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾ [سُورَةَ التَّغَابُن/1] وَالْمُرَادُ بِالشَّىْءِ هُنَا الْمُمْكِنَاتُ الْعَقْلِيَّةُ، وَالْمُمْكِنُ الْعَقْلِيُّ مَا يَصِحُّ وُجُودُهُ تَارَةً وَعَدَمُهُ تَارَةً أُخْرَى.

فَلا تَتَعَلَّقُ الْقُدْرَةُ بِالْوَاجِبِ الْعَقْلِيِّ كَذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ، وَلا بِالْمُسْتَحِيلِ الْعَقْلِيِّ أَيْ مَا لا يَقْبَلُ الْوُجُودَ، لِذَلِكَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ هَلِ اللَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُ أَوْ عَلَى أَنْ يُعْدِمَ نَفْسَهُ فَلا يُقَالُ إِنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ ذَلِكَ وَلا يُقَالُ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنْ يُقَالُ: قُدْرَةُ اللَّهِ لا تَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَحِيلاتِ الْعَقْلِيَّةِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَادِرٌ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا، إِذْ لَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ لَكَانَ عَاجِزًا»، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ غَيْرُ لازِمٍ لِأَنَّ اتِّخَاذَ الْوَلَدِ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ وَالْمُحَالُ الْعَقْلِيُّ لا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقُدْرَةِ، وَعَدَمُ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِالشَّىْءِ تَارَةً يَكُونُ لِقُصُورِهَا عَنْهُ وَذَلِكَ فِي الْمَخْلُوقِ، وَتَارَةً يَكُونُ لِعَدَمِ قَبُولِ ذَلِكَ الشَّىْءِ الدُّخُولَ فِي الْوُجُودِ أَيْ حُدُوثَ الْوُجُودِ لِكَوْنِهِ مُسْتَحِيلًا عَقْلِيًّا وَتَارَةً يَكُونُ لِعَدَمِ قَبُولِ ذَلِكَ الشَّىْءِ الْعَدَمَ لِكَوْنِهِ وَاجِبًا عَقْلِيًّا. أَمَّا الْمُسْتَحِيلُ الْعَقْلِيُّ فَعَدَمُ قَبُولِهِ الدُّخُولَ فِي الْوُجُودِ ظَاهِرٌ وَأَمَّا الْوَاجِبُ الْعَقْلِيُّ فَلا يَقْبَلُ حُدُوثَ الْوُجُودِ لِأَنَّ وُجُودَهُ أَزَلِيٌّ، فَرْقٌ بَيْنَ الْوُجُودِ وَبَيْنَ الدُّخُولِ فِي الْوُجُودِ، فَالْوُجُودُ يَشْمَلُ الْوُجُودَ الأَزَلِيَّ وَالْوُجُودَ الْحَادِثَ. وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُسَمَّى وُجُودًا. أَمَّا الدُّخُولُ فِي الْوُجُودِ فَهُوَ الْوُجُودُ الْحَادِثُ. فَالْوَاجِبُ الْعَقْلِيُّ اللَّهُ وَصِفَاتُهُ، فَاللَّهُ وَاجِبٌ عَقْلِيٌّ وُجُودُهُ أَزَلِيٌّ وَصِفَاتُهُ أَزَلِيَّةٌ وَلا يُقَالُ لِلَّهِ وَلا لِصِفَاتِهِ دَاخِلٌ فِي الْوُجُودِ لِأَنَّ وُجُودَهُمَا أَزَلِيٌّ، فَقَوْلُنَا إِنَّ الْوَاجِبَ الْعَقْلِيَّ لا يَقْبَلُ الدُّخُولَ فِي الْوُجُودِ صَحِيحٌ لَكِنْ يَقْصُرُ عَنْهُ أَفْهَامُ الْمُبْتَدِئِينَ فِي الْعَقِيدَةِ، أَمَّا عِنْدَ مَنْ مَارَسَ فَهِيَ وَاضِحَةُ الْمُرَادِ.

الشَّرْحُ كَلامُ ابْنِ حَزْمٍ هَذَا كُفْرٌ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ لِأَنَّ مَعْنَى كَلامِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الأَزَلِيُّ حَادِثًا لِأَنَّ الَّذِي يَنْحَلُّ مِنْهُ شَىْءٌ يَكُونُ حَادِثًا مَخْلُوقًا وَاللَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَلا يُقَالُ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا وَلا يُقَالُ إِنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ ذَلِكَ بَلْ يَكْفُرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، كَمَا لا يُقَالُ عَنِ الْحَجَرِ عَالِمٌ وَلا جَاهِلٌ لِأَنَّ مُصَحِّحَ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ الْحَيَاةُ. وَلا يَكُونُ هَذَا مِنْ بَابِ الْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَلا نَفْيِهِمَا فَلا يَكُونُ مُخَالِفًا لِقَاعِدَةِ النَّقِيضَانِ لا يَجْتَمِعَانِ وَلا يَرْتَفِعَانِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ.

وَقَوْلُهُ: «وَعَدَمُ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِالشَّىْءِ تَارَةً يَكُونُ لِقُصُورِهَا عَنْهُ وَذَلِكَ فِي الْمَخْلُوقِ» فَمُرَادُهُ بِهِ مَثَلًا كَمَا إِذَا قُلْنَا الإِنْسَانُ عَاجِزٌ عَنْ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا بِمَعْنَى إِبْرَازِهِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ وَذَلِكَ لِأَنَّ قُدْرَتَهُ قَاصِرَةٌ عَنْ ذَلِكَ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْعَجْزُ هُوَ الأَوَّلُ الْمَنْفِيُّ عَنْ قُدْرَتِهِ تَعَالَى لا الثَّانِي، فَلا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ وَلا عَاجِزٌ.

الشَّرْحُ الْمُرَادُ بِذَلِكَ نَفْيُ الْعَجْزِ عَنْ قُدْرَةِ اللَّهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُمْكِنِ الْعَقْلِيِّ، وَقَوْلُهُ «لا الثَّانِي» فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ يُقَالُ إِنَّ اللَّهَ عَاجِزٌ عَنْ كَذَا أَوْ كَذَا وَإِنَّمَا مُرَادُهُ بِهِ أَنَّهُ إِنْ قِيلَ مَثَلًا هَلْ يَقْدِرُ اللَّهُ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُ أَنْ يُقَالَ فِي الْجَوَابِ: قُدْرَةُ اللَّهِ لا تَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَحِيلاتِ الْعَقْلِيَّةِ، فَلا يُقَالُ إِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ وَلا عَاجِزٌ عَنْهُ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: كَمَا لا يُقَالُ عَنِ الْحَجَرِ عَالِمٌ وَلا جَاهِلٌ، وَكَذَلِكَ يُجَابُ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمُلْحِدِينَ: «هَلِ اللَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُ» وَهَذَا فِيهِ تَجْوِيزُ الْمُحَالِ الْعَقْلِيِّ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَزَلِيٌّ وَلَوْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ لَكَانَ أَزَلِيًّا، وَالأَزَلِيُّ لا يُخْلَقُ لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ فَكَيْفَ يُخْلَقُ الْمَوْجُودُ.

الشَّرْحُ الإِلَهُ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ أَزَلِيًّا أَيْ وُجُودُهُ أَزَلِيًّا لَيْسَ لَهُ ابْتِدَاءٌ فَلا يُقَالُ هَلِ اللَّهُ يَخْلُقُ مِثْلَهُ لِأَنَّهُ تَنَاقُضٌ. فَكَلامُ هَذَا السَّائِلِ يَنْحَلُّ هَكَذَا هَلْ يَخْلُقُ الأَزَلِيُّ أَزَلِيًّا مِثْلَهُ، وَالأَزَلِيُّ لا يُقَالُ فِيهِ يُخْلَقُ لِأَنَّهُ مَا سَبَقَهُ الْعَدَمُ. وَهَذَا السُّؤَالُ دَلِيلٌ عَلَى سَخَافَةِ عَقْلِ سَائِلِهِ.



الْعِلْمُ

اعْلَمْ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ كَمَا أَنَّ ذَاتَهُ أَزَلِيٌّ، فَلَمْ يَزَلْ عَالِمًا بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَا يُحْدِثُهُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، فَلا يَتَّصِفُ بِعِلْمٍ حَادِثٍ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ اتِّصَافُهُ بِالْحَوَادِثِ لَانْتَفَى عَنْهُ الْقِدَمُ لِأَنَّ مَا كَانَ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا.

الشَّرْحُ الْعِلْمُ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ ثَابِتَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَاللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ جَوْهَرًا يَحُلُّ بِهِ الْعَرَضُ، فَعِلْمُنَا عَرَضٌ يَحُلُّ بِأَجْسَامِنَا وَيَسْتَحِيلُ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَاللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ بِعِلْمِهِ الأَزَلِيِّ كُلَّ شَىْءٍ، يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لا يَكُونُ، وَلا يَقْبَلُ عِلْمُهُ الزِّيَادَةَ وَلا النُّقْصَانَ فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُحِيطٌ عِلْمًا بِالْكَائِنَاتِ الَّتِي تَحْدُثُ إِلَى مَا لا نِهَايَةَ لَهُ، حَتَّى مَا يَحْدُثُ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ الَّتِي لا انْقِطَاعَ لَهَا يَعْلَمُ ذَلِكَ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطًا﴾ [سُورَةَ النِّسَاء/126]. وَعِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى أَعَمُّ مِنَ الإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ، فَالإِرَادَةُ وَالْقُدْرَةُ تَتَعَلَّقَانِ بِالْمُمْكِنَاتِ الْعَقْلِيَّةِ أَمَّا عِلْمُهُ يَتَعَلَّقُ بِالْمُمْكِنَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْمُسْتَحِيلاتِ وَبِالْوَاجِبِ الْعَقْلِيِّ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِشَىْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/255] فَمَعْنَاهُ أَنَّ أَهْلَ السَّمَوَاتِ وَهُمُ الْمَلائِكَةُ وَأَهْلَ الأَرْضِ مِنْ أَنْبِيَاءَ وَأَوْلِيَاءَ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ لا يُحِيطُونَ بِشَىْءٍ مِنْ عِلْمِهِ أَيْ مَعْلُومِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ أَيْ إِلَّا بِالْقَدْرِ الَّذِي شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَعْلَمُوهُ، هَذَا الَّذِي يُحِيطُونَ بِهِ.

أَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ لَّا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [سُورَةَ النَّمْل/65] فَالْمَنْفِيُّ عَنِ الْخَلْقِ عِلْمُ جَمِيعِ الْغَيْبِ أَمَّا بَعْضُ الْغَيْبِ فَإِنَّ اللَّهَ يُطْلِعُ عَلَيْهِ بَعْضَ الْبَشَرِ وَهُمُ الأَنْبِيَاءُ وَالأَوْلِيَاءُ وَالْمَلائِكَة، وَأَمَّا مَنِ ادَّعَى أَنَّ الرَّسُولَ يَعْلَمُ كُلَّ مَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ فَقَدْ سَوَّى الرَّسُولَ بِاللَّهِ وَذَلِكَ كُفْرٌ. وَلا فَرْقَ بَيْنَ مِنْ يَقُولُ الرَّسُولُ يَعْلَمُ كُلَّ مَا يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْ بَابِ الْعَطَاءِ أَيْ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُ ذَلِكَ وَمَنْ يَقُولُ إِنَّهُ يَعْلَمُ كُلَّ مَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْطِيَهُ اللَّهُ ذَلِكَ وَكِلا الِاعْتِقَادَيْنِ كُفْرٌ مِنْ أَبْشَعِ الْكُفْرِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لا يَصِحُّ عَقْلًا وَلا شَرْعًا أَنْ يُعْطِيَ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ جَمِيعَ مَا يَعْلَمُهُ، لِأَنَّ مَعْنَى إِنَّ النَّبِيَّ يَعْلَمُ كُلَّ مَا يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْ بَابِ الْعَطَاءِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُسَاوِي خَلْقَهُ بِنَفْسِهِ وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ. فَهَذَا الْقَائِلُ كَأَنَّهُ يَقُولُ اللَّهُ يَجْعَلُ بَعْضَ خَلْقِهِ مِثْلَهُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ. وَكَيْفَ خَفِيَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ فَسَادُهُ فَتَجَرَّءُوا بَلْ صَارُوا يَرَوْنَ هَذَا مِنْ جَوَاهِرِ الْعِلْمِ، فَلَوْ قِيلَ لِهَؤُلاءِ فَعَلَى قَوْلِكُمْ هَذَا يَصِحُّ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ الرَّسُولَ قَادِرًا عَلَى كُلِّ شَىْءٍ اللَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَمَاذَا يَقُولُونَ. حَسْبُنَا اللَّهُ. وَهَذَا مِنَ الْغُلُوِّ الَّذِي نَهَانَا اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ. وَهَؤُلاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّ هَذَا مِنْ قُوَّةِ تَعْظِيمِ الرَّسُولِ وَمَحَبَّتِهِ. وَهَؤُلاءِ لَهُمْ وُجُودٌ فِي فِرْقَةٍ تَنْتَسِبُ إِلَى التَّصَوُّفِ فِي الْهِنْدِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا﴾ [سُورَةَ الْجِنّ] فَلا حُجَّةَ فِيهِ لِمَنْ يَقُولُ إِنَّ الرُّسُلَ يُطْلِعُهُمُ اللَّهُ عَلَى جَمِيعِ غَيْبِهِ كَهَذِهِ الْفِرْقَةِ الْمَذْكُورَةِ إِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِي ارْتَضَاهُ اللَّهُ مِنْ رَسُولٍ يَجْعَلُ لَهُ رَصَدًا أَيْ حَفَظَةً يَحْفَظُونَهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَـ﴿إِلَّا﴾ هُنَا لَيْسَتِ اسْتِثْنَائِيَّةً بَلْ هِيَ بِمَعْنَى «لَكِنْ»، فَيُفْهَمُ مِنَ الآيَةِ أَنَّ عِلْمَ الْغَيْبِ جَمِيعِهِ خَاصٌّ بِاللَّهِ تَعَالَى فَلا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ الِاسْتِثْنَاءُ فَتَكُونُ الإِضَافَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿عَلَى غَيْبِهِ﴾ لِلْعُمُومِ وَالشُّمُولِ مِنْ بَابِ قَوْلِ الأُصُولِيِّينَ الْمُفْرَدُ الْمُضَافُ لِلْعُمُومِ، فَيَكُونُ مَعْنَى غَيْبِهِ أَيْ جَمِيعَ غَيْبِهِ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ يُطْلِعُ عَلَى غَيْبِهِ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّ مِنَ الْمُقَرَّرِ بَيْنَ الْمُوَحِّدِينَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لا يُسَاوِيهِ خَلْقُهُ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ، وَمِنْ صِفَاتِهِ الْعِلْمُ بِكُلِّ شَىْءٍ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام/101] وَالْعَجَبُ كَيْفَ يَسْتَدِلُّ بَعْضُ النَّاسِ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلَى عِلْمِ الرُّسُلِ بِبَعْضِ الْغَيْبِ إِنَّمَا الَّذِي فِيهَا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَالِمُ بِكُلِّ الْغَيْبِ، وَلَكِنَّ الرُّسُلَ يَجْعَلُ اللَّهُ لَهُمْ حَرَسًا مِنَ الْمَلائِكَةِ يَحْفَظُونَهُمْ. وَأَمَّا اطِّلاعُ بَعْضِ خَوَاصِّ عِبَادِ اللَّهِ مِنْ أَنْبِيَاءَ وَمَلائِكَةٍ وَأَوْلِيَاءِ الْبَشَرِ عَلَى بَعْضِ الْغَيْبِ فَمَأْخُوذٌ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الآيَةِ كَحَدِيثِ «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ». فَلَوْ كَانَ يَصِحُّ لِغَيْرِهِ تَعَالَى الْعِلْمُ بِكُلِّ شَىْءٍ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ تَعَالَى تَمَدُّحٌ بِوَصْفِهِ نَفْسَهُ بِالْعِلْمِ بِكُلِّ شَىْءٍ، فَمَنْ يَقُولُ إِنَّ الرَّسُولَ يَعْلَمُ بِكُلِّ شَىْءٍ يَعْلَمُهُ اللَّهُ جَعَلَ الرَّسُولَ مُسَاوِيًا لِلَّهِ فِي صِفَةِ الْعِلْمِ فَيَكُونُ كَمَنْ قَالَ الرَّسُولُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَكَمَنْ قَالَ الرَّسُولُ مُرِيدٌ لِكُلِّ شَىْءٍ سَوَاءٌ قَالَ هَذَا الْقَائِلُ إِنَّ الرَّسُولَ عَالِمٌ بِكُلِّ شَىْءٍ بِإِعْلامِ اللَّهِ لَهُ أَوْ لا فَلا مَخْلَصَ لَهُ مِنَ الْكُفْرِ.

وَمِمَّا يُرَدُّ بِهِ عَلَى هَؤُلاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام/59]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام/73] فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى تَمَدَّحَ بِإِحَاطَتِهِ بِالْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ عِلْمًا.

وَمِمَّا يُرَدُّ بِهِ عَلَى هَؤُلاءِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ [سُورَةَ الأَحْقَاف/9] فَإِذَا كَانَ الرَّسُولُ بِنَصِّ هَذِهِ الآيَةِ لا يَعْلَمُ جَمِيعَ تَفَاصِيلِ مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ بِهِ وَبِأُمَّتِهِ، فَكَيْفَ يَتَجَرَّأُ مُتَجَرِّئٌ عَلَى قَوْلِ إِنَّ الرَّسُولَ يَعْلَمُ بِكُلِّ شَىْءٍ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي الْجَامِعِ حَدِيثًا بِمَعْنَى هَذِهِ الآيَةِ وَهُوَ مَا وَرَدَ فِي شَأْنِ عُثْمَانَ بنِ مَظْعُونٍ، فَقَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ قَدْ غَلا الْغُلُوَّ الَّذِي نَهَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾ [سُورَةَ الْمَائِدَة/77]، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فَإِنَّ الْغُلُوَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ» رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لا تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي».

وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي الْجَامِعِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا ثُمَّ قَرَأَ ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ وَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ وَإِنَّهُ سَيُجَاءُ بِأُنَاسٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ هَؤُلاءِ أَصْحَابِي فَيُقَالُ إِنَّكَ لا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ، فَأَقُولُ سُحْقًا سُحْقًا أَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.»

وَمِنْ أَعْجَبِ مَا ظَهَرَ مِنْ هَؤُلاءِ الْغُلاةِ لَمَّا قِيلَ لِأَحَدِهِمْ: كَيْفَ تَقُولُ الرَّسُولُ يَعْلَمُ كُلَّ شَىْءٍ يَعْلَمُهُ اللَّهُ وَقَدْ أَرْسَلَ سَبْعِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى قَبِيلَةٍ لِيُعَلِّمُوهُمُ الدِّينَ فَاعْتَرَضَتْهُمْ بَعْضُ الْقَبَائِلِ فَحَصَدُوهُمْ، فَلَوْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُمْ هَذَا هَلْ كَانَ يُرْسِلُهُمْ؟ فَقَالَ: نَعَمْ يُرْسِلُهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ.

وَمِثْلُ هَذَا الْغَالِي فِي شِدَّةِ الْغُلُوِّ رَجُلٌ كَانَ يَدَّعِي أَنَّهُ شَيْخُ أَرْبَعِ طُرُقٍ فَقَالَ: الرَّسُولُ هُوَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الآيَةِ: ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ﴾ وَهَذَا مِنْ أَكْفَرِ الْكُفْرِ لِأَنَّهُ جَعَلَ الرَّسُولَ الَّذِي هُوَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَزَلِيًّا أَبَدِيًّا لِأَنَّ الأَوَّلَ هُوَ الَّذِي لَيْسَ لِوُجُودِهِ بِدَايَةٌ وَهُوَ اللَّهُ بِصِفَاتِهِ فَقَطْ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمَا أَوْهَمَ تَجَدُّدَ الْعِلْمِ لِلَّهِ تَعَالَى مِنَ الآيَاتِ الْقُرْءَانِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا﴾ [سُورَةَ الأَنْفَال/66] فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: ﴿وَعَلِمَ﴾ لَيْسَ رَاجِعًا لِقَوْلِهِ: ﴿الآنَ﴾ بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى خَفَّفَ عَنْكُمُ الآنَ لِأَنَّهُ عَلِمَ بِعِلْمِهِ السَّابِقِ فِي الأَزَلِ أَنَّهُ يَكُونُ فِيكُمْ ضَعْفٌ.

الشَّرْحُ هَذِهِ الآيَةُ مَعْنَاهَا أَنَّهُ نُسِخَ مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ مِنْ مُقَاوَمَةِ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِأَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ بِإِيْجَابِ مُقَاوَمَةِ وَاحِدٍ لِاثْنَيْنِ مِنَ الْكُفَّارِ رَحْمَةً بِهِمْ لِلضَّعْفِ الَّذِي فِيهِمْ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ﴾ [سُورَةَ مُحَمَّد/31] مَعْنَاهُ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نُمَيِّزَ أَيْ نُظْهِرَ لِلْخَلْقِ مَنْ يُجَاهِدُ وَيَصْبِرُ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكَانَ اللَّهُ عَالِمًا قَبْلُ كَمَا نَقَلَ الْبُخَارِيُّ ذَلِكَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بنِ الْمُثَنَّى، وَهَذَا شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ [سُورَةَ الأَنْفَال/37].

الشَّرْحُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَبْتَلِي عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ مِنَ الْبَلايَا حَتَّى يُظْهِرَ وَيُمَيِّزَ لِعِبَادِهِ مَنْ هُوَ الصَّادِقُ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِي يَصْبِرُ عَلَى الْمَشَقَّاتِ مَعَ إِخْلاصِ النِّيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَمَنْ هُوَ غَيْرُ الصَّادِقِ الَّذِي لا يَصْبِرُ.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا مَنْ هُوَ الْخَبِيثُ وَمَنْ هُوَ الطَّيِّبُ ثُمَّ عَلِمَ بَلِ الْمَعْنَى لِيُظْهِرَ لِعِبَادِهِ مَنْ هُوَ الْخَبِيثُ وَمَنْ هُوَ الطَّيِّبُ.

وَأَمَّا الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ عَلَى صِفَةِ الْعِلْمِ فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا لَكَانَ جَاهِلًا وَالْجَهْلُ نَقْصٌ وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ النَّقْصِ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ النَّقْلُ فَالنُّصُوصُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ﴾ [سُورَةَ الْحَدِيد/3.[



الْحَيَاةُ

يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى الْحَيَاةُ، فَهُوَ حَيٌّ لا كَالأَحْيَاءِ، إِذْ حَيَاتُهُ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ لَيْسَتْ بِرُوحٍ وَدَمٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ حَيَاتِهِ وُجُودُ هَذَا الْعَالَمِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ حَيًّا لَمْ يُوجَدْ شَىءٌ مِنَ الْعَالَمِ، لَكِنَّ وُجُودَ الْعَالَمِ ثَابِتٌ بِالْحِسِّ وَالضَّرُورَةِ بِلا شَكٍّ.

الشَّرْحُ الْبُرْهَانُ النَّقْلِيُّ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ ءَايَاتٌ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/255] وَالْحَيَاةُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ لَيْسَتْ كَحَيَاةِ غَيْرِهِ بِرُوحٍ وَلَحْمٍ وَدَمٍ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ حَيًّا لَمْ يُوجَدْ شَىْءٌ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ لِأَنَّ مَنْ لَيْسَ حَيًّا لا يَتَّصِفُ بِالْقُدْرَةِ وَالإِرَادَةِ وَالْعِلْمِ وَلَوْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى غَيْرَ مُتَّصِفٍ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ لَكَانَ مُتَّصِفًا بِالضِّدِّ وَذَلِكَ نَقْصٌ وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ النَّقْصِ.



الْوَحْدَانِيَّةُ

مَعْنَى الْوَحْدَانِيَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ ذَاتًا مُؤَلَّفًا مِنْ أَجْزَاءٍ، فَلا يُوجَدُ ذَاتٌ مِثْلُ ذَاتِهِ وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ صِفَةٌ كَصِفَتِهِ أَوْ فِعْلٌ كَفِعْلِهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَحْدَانِيَّةَ الْعَدَدِ إِذِ الْوَاحِدُ فِي الْعَدَدِ لَهُ نِصْفٌ وَأَجْزَاءٌ أَيْضًا، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ لا شَبِيهَ لَهُ.

الشَّرْحُ مَعْنَى الْوَحْدَانِيَّةِ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ ثَانٍ، وَلَيْسَ مُرَكَّبًا مُؤَلَّفًا مِنْ أَجْزَاءٍ كَالأَجْسَامِ، فَالْعَرْشُ وَمَا دُونَهُ مِنَ الأَجْرَامِ مُؤَلَّفٌ مِنْ أَجْزَاءٍ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ مُنَاسَبَةٌ وَمُشَابَهَةٌ كَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَىْءٍ مِنْ سَائِرِ خَلْقِهِ مُنَاسَبَةٌ وَمُشَابَهَةٌ، فَلا نَظِيرَ لَهُ تَعَالَى فِي ذَاتِهِ وَلا فِي صِفَاتِهِ وَلا فِي أَفْعَالِهِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَبُرْهَانُ وَحْدَانِيَّتِهِ هُوَ أَنَّهُ لا بُدَّ لِلصَّانِعِ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَيًّا قَادِرًا عَالِمًا مُرِيدًا مُخْتَارًا، فَإِذَا ثَبَتَ وَصْفُ الصَّانِعِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ قُلْنَا لَوْ كَانَ لِلْعَالَمِ صَانِعَانِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيًّا قَادِرًا عَالِمًا مُرِيدًا مُخْتَارًا وَالْمُخْتَارَانِ يَجُوزُ اخْتِلافُهُمَا فِي الِاخْتِيَارِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مُجْبَرٍ عَلَى مُوَافَقَةِ الآخَرِ فِي اخْتِيَارِهِ، وَإِلَّا لَكَانَا مَجْبُورَيْنِ وَالْمَجْبُورُ لا يَكُونُ إِلَهًا، فَإِذَا صَحَّ هَذَا فَلَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا خِلافَ مُرَادِ الآخَرِ فِي شَىْءٍ كَأَنْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا حَيَاةَ شَخْصٍ وَأَرَادَ الآخَرُ مَوْتَهُ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَتِمَّ مُرَادُهُمَا أَوْ لا يَتِمَّ مُرَادُهُمَا أَوْ يَتِمَّ مُرَادُ أَحَدِهِمَا وَلا يَتِمَّ مُرَادُ الآخَرِ، وَمُحَالٌ تَمَامُ مُرَادَيْهِمَا لِتَضَادِّهِمَا أَيْ إِنْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا حَيَاةَ شَخْصٍ وَأَرَادَ الآخَرُ مَوْتَهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الشَّخْصُ حَيًّا وَمَيِّتًا فِي ءَانٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ لَمْ يَتِمَّ مُرَادُهُمَا فَهُمَا عَاجِزَانِ وَالْعَاجِزُ لا يَكُونُ إِلَهًا، وَإِنْ تَمَّ مُرَادُ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يَتِمَّ مُرَادُ الآخَرِ فَإِنَّ الَّذِي لَمْ يَتِمَّ مُرَادُهُ عَاجِزٌ وَلا يَكُونُ الْعَاجِزُ إِلَهًا وَلا قَدِيمًا، وَهَذِهِ الدِّلالَةُ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْمُوَحِّدِينَ تُسَمَّى بِدِلالَةِ التَّمَانُعِ.

قَالَ تَعَالَى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [سُورَةَ الأَنْبِيَاء/22].

الشَّرْحُ مَعْنَى الْوَحْدَانِيَّةِ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَيْسَ لَهُ ثَانٍ وَلَيْسَ مُرَكَّبًا مُؤَلَّفًا كَالأَجْسَامِ، وَالدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ هُوَ أَنَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَوْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدًا وَكَانَ مُتَعَدِّدًا لَمْ يَكُنِ الْعَالَمُ مُنْتَظِمًا لَكِنَّ الْعَالَمَ مُنْتَظِمٌ فَوَجَبَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَاحِدٌ، وَصَانِعُ الْعَالَمِ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَيًّا قَادِرًا عَالِمًا مُرِيدًا مُخْتَارًا لَكَانَ مُتَّصِفًا بِنَقِيضِ هَذِهِ الصِّفَاتِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ حَيًّا لَكَانَ مَيِّتًا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا لَكَانَ عَاجِزًا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا لَكَانَ جَاهِلًا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا مُخْتَارًا لَكَانَ مُضْطَرًّا مَجْبُورًا وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لا يَكُونُ إِلَهًا.

وَأَمَّا الدَّلِيلُ النَّقْلِيُّ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَآيَاتٌ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾، وَمِنَ الأَحَادِيثِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ إِذَا تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ - أَيِ اسْتَيْقَظَ - قَالَ: لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ».

وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا﴾ أَيْ لَوْ كَانَ لَهُمَا، هُنَا «فِي» بِمَعْنَى اللَّامِ أَيْ لِلأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، ﴿ءَالِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ﴾ أَيْ غَيْرُ اللَّهِ ﴿لَفَسَدَتَا﴾ أَيِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أَيْ مَا كَانَتَا تَسْتَمِرَّانِ عَلَى انْتِظَامٍ.

وَقَدْ أَدْخَلَتْ فِي دِينِ اللَّهِ الْحَشَوِيَّةُ الْمُحْدَثُونَ وَهُمُ الْوَهَّابِيَّةُ بِدْعَةً جَدِيدَةً لَمْ يَقُلْهَا الْمُسْلِمُونَ وَهِيَ قَوْلُهُمْ تَوْحِيدُ الأُلُوهِيَّةِ وَحْدَهُ لا يَكْفِي لِلإِيـمَانِ بَلْ لا بُدَّ مِنْ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَهَذَا ضِدُّ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا». جَعَلَ الرَّسُولُ اعْتِرَافَ الْعَبْدِ بِتَفْرِيدِ اللَّهِ بِالأُلُوهِيَّةِ وَبِوَصْفِ رَسُولِ اللَّهِ بِالرِّسَالَةِ كَافِيًا. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَطَقَ الْكَافِرُ بِهَذَا يَحْكُمُ بِإِسْلامِهِ وَإِيـمَانِهِ، ثُمَّ يَأْمُرُهُ بِالصَّلاةِ قَبْلَ غَيْرِهَا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِهِ الِاعْتِقَادِ وَهَؤُلاءِ عَمِلُوا دِينًا جَدِيدًا وَهُوَ عَدَمُ الِاكْتِفَاءِ بِالأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَهَذَا مِنْ غَبَاوَتِهِمْ فَإِنَّ تَوْحِيدَ الأُلُوهِيَّةِ هُوَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ جَاءَ فِي سُؤَالِ الْقَبْرِ حَدِيثَانِ حَدِيثٌ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ وَحَدِيثٌ بِلَفْظِ اللَّهُ رَبِّي وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ شَهَادَةٌ بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ. وَمَا أَعْظَمَ مُصِيبَةَ الْمُسْلِمِينَ بِهَذِهِ الْفِرْقَةِ.



الْقِيَامُ بِالنَّفْسِ

اعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى قِيَامِهِ بِنَفْسِهِ هُوَ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ فَلا يَحْتَاجُ إِلَى مُخَصِّصٍ لَهُ بِالْوُجُودِ لِأَنَّ الِاحْتِيَاجَ إِلَى الْغَيْرِ يُنَافِي قِدَمَهُ وَقَدْ ثَبَتَ وُجُوبُ قِدَمِهِ وَبَقَائِهِ.

الشَّرْحُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُسْتَغْنٍ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ فَلا يَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ إِذِ الِاحْتِيَاجُ لِلْغَيْرِ عَلامَةُ الْحُدُوثِ وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، وَاللَّهُ لا يَنْتَفِعُ بِطَاعَةِ الطَّائِعِينَ وَلا يَنْضَرُّ بِعِصْيَانِ الْعُصَاةِ، وَكُلُّ شَىْءٍ سِوَى اللَّهِ مُحْتَاجٌ إِلَى اللَّهِ لا يَسْتَغْنِي عَنِ اللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ.



الْمُخَالَفَةُ لِلْحَوَادِثِ

يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْحَوَادِثِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ خَلْقِهِ فَلَيْسَ هُوَ بِجَوْهَرٍ يَشْغَلُ حَيِّزًا وَلا عَرَضٍ، وَالْجَوْهَرُ مَا لَهُ تَحَيُّزٌ وَقِيَامٌ بِذَاتِهِ كَالأَجْسَامِ، وَالْعَرَضُ مَا لا يَقُومُ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَقُومُ بِغَيْرِهِ كَالْحَرَكَةِ وَالسَّكُونِ وَالِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ وَالأَلْوَانِ وَالطُّعُومِ وَالرَّوَائِحِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي بَعْضِ رَسَائِلِهِ فِي عِلْمِ الْكَلامِ: «أَنَّى يُشْبِهُ الْخَالِقُ مَخْلُوقَهُ» مَعْنَاهُ لا يَصِحُّ عَقْلًا وَلا نَقْلًا أَنْ يُشْبِهَ الْخَالِقُ مَخْلُوقَهُ، وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ: «إِنَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْنَا وَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْلَمَهُ أَنَّ رَبَّنَا لَيْسَ بِذِي صُورَةٍ وَلا هَيْئَةٍ فَإِنَّ الصُّورَةَ تَقْتَضِي الْكَيْفِيَّةَ وَهِيَ عَنِ اللَّهِ وَعَنْ صِفَاتِهِ مَنْفِيَّةٌ» رَوَاهُ عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.

الشَّرْحُ أَنَّ مَعْنَى مُخَالَفَةِ اللَّهِ لِلْحَوَادِثِ أَنَّهُ لا يُشْبِهُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ مِنَ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ الْخَمْسَةِ أَيِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا لا يَلِيقُ بِاللَّهِ. وَالدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ خَلْقِهِ لَجَازَ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَى الْخَلْقِ مِنَ التَّغَيُّرِ وَالتَّطَوُّرِ وَالْعَجْزِ وَالضَّعْفِ وَالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ وَلَوْ جَازَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لَاحْتَاجَ إِلَى مَنْ يُغَيِّرُهُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَالْمُحْتَاجُ إِلَى غَيْرِهِ لا يَكُونُ إِلَهًا فَوَجَبَ أَنَّهُ لا يُشْبِهُ شَيْئًا، وَالْبُرْهَانُ النَّقْلِيُّ لِوُجُوبِ مُخَالَفَتِهِ تَعَالَى لِلْحَوَادِثِ ءَايَاتٌ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ وَهُوَ أَوْضَحُ دَلِيلٍ نَقْلِيٍّ فِي ذَلِكَ جَاءَ فِي الْقُرْءَانِ، لِأَنَّ هَذِهِ الآيَةَ تُفْهِمُ التَّنْزِيهَ الْكُلِّيَّ لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَكَرَ فِيهَا لَفْظَ شَىْءٍ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَالنَّكِرَةُ إِذَا أُورِدَتْ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَهِيَ لِلشُّمُولِ، فَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى نَفَى بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ عَنْ نَفْسِهِ مُشَابَهَةَ الأَجْرَامِ وَالأَجْسَامِ وَالأَعْرَاضِ فَهُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَمَا لا يُشْبِهُ ذَوِي الأَرْوَاحِ مِنْ إِنْسٍ وَجِنٍّ وَمَلائِكَةٍ وَغَيْرِهِمْ لا يُشْبِهُ الْجَمَادَاتِ مِنَ الأَجْرَامِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ، فَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يُقَيِّدْ نَفْيَ الشَّبَهِ عَنْهُ فِي هَذِهِ الآيَةِ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَوَادِثِ بَلْ شَمَلَ نَفْيَ مُشَابَهَتِهِ لِكُلِّ أَفْرَادِ الْحَادِثَاتِ، وَيَشْمَلُ نَفْيُ مُشَابَهَةِ اللَّهِ لِخَلْقِهِ تَنْزِيهَهُ تَعَالَى عَنِ الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ، فَالْكَمِّيَّةُ هِيَ مِقْدَارُ الْجِرْمِ فَهُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَيْسَ كَالْجِرْمِ الَّذِي يَدْخُلُهُ الْمِقْدَارُ وَالْمِسَاحَةُ وَالْحَدُّ فَهُوَ لَيْسَ بِمَحْدُودٍ ذِي مِقْدَارٍ وَمَسَافَةٍ وَمَنْ قَالَ فِي اللَّهِ تَعَالَى إِنَّ لَهُ حَدًّا فَقَدْ شَبَّهَهُ بِخَلْقِهِ لِأَنَّ كُلَّ الأَجْرَامِ لَهَا حَدٌّ إِمَّا حَدٌّ صَغِيرٌ وَإِمَّا حَدٌّ كَبِيرٌ وَذَلِكَ يُنَافِي الأُلُوهِيَّةَ، وَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَوْ كَانَ ذَا حَدٍّ وَمِقْدَارٍ لَاحْتَاجَ إِلَى مَنْ جَعَلَهُ بِذَلِكَ الْحَدِّ وَالْمِقْدَارِ كَمَا تَحْتَاجُ الأَجْرَامُ إِلَى مَنْ جَعَلَهَا بِحُدُودِهَا وَمَقَادِيرِهَا لِأَنَّ الشَّىْءَ لا يَخْلُقُ نَفْسَهُ عَلَى مِقْدَارِهِ، وَلا يَصِحُّ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ هُوَ جَعَلَ نَفْسَهُ بِذَلِكَ الْحَدِّ، وَالْمُحْتَاجُ إِلَى غَيْرِهِ لا يَكُونُ إِلَهًا لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الإِلَهِ الِاسْتِغْنَاءَ عَنْ كُلِّ شَىْءٍ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ تُطْلَقُ الْكَيْفِيَّةُ بِمَعْنَى الْحَقِيقَةِ كَمَا فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ:

كَيْفِيَّةُ الْمَرْءِ لَيْسَ الْمَرْءُ يُدْرِكُهَا # فَكَيْفَ كَيْفِيَّةُ الْجَبَّارِ فِي الْقِدَمِ

وَمُرَادُ هَذَا الْقَائِلِ الْحَقِيقَةُ. وَهَذَا الْبَيْتُ ذَكَرَهُ الزَّرْكَشِيُّ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُمَا.

الشَّرْحُ مَعْنَى هَذَا الْبَيْتِ أَنَّ الإِنْسَانَ إِذَا كَانَ لا يُحِيطُ عِلْمًا بِكُلِّ مَا فِيهِ وَكَذَا حَقِيقَتُهُ لا يُحِيطُ بِهَا عِلْمًا، فَكَيْفَ يُحِيطُ عِلْمًا بِحَقِيقَةِ الْجَبَّارِ الأَزَلِيِّ الَّذِي لا يُشْبِهُ الْعَالَمَ؟ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لا يُحِيطُ عِلْمًا بِاللَّهِ لِأَنَّهُ لا يَعْرِفُ اللَّهَ عَلَى الْحَقِيقَةِ إِلَّا اللَّهُ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ: «وَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ». وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْقَرْنِ الثَّالِثِ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي حَدِيثِ: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْقَرْنُ الْمُرَادُ بِهِ مِائَةُ سَنَةٍ كَمَا قَالَ ذَلِكَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بنُ عَسَاكِرَ فِي كِتَابِهِ تَبْيِينُ كَذِبِ الْمُفْتَرِي الَّذِي أَلَّفَهُ فِي التَّنْوِيهِ بِأَبِي الْحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

الشَّرْحُ هَذَا الْحَدِيثُ مَعْنَاهُ مِنْ حَيْثُ الإِجْمَالُ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ كُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقُرُونِ الثَّلاثَةِ الأُولَى هُوَ خَيْرٌ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُ بَلْ كَانَ فِيمَنْ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْ بَعْضِ مَنْ كَانَ فِيهَا أَيْ مِنْ بَعْضِ الأَفْرَادِ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ أَوْلِيَاءَ، وَالْفَضْلُ عِنْدَ اللَّهِ بِالتَّقْوَى لَيْسَ بِالنَّسَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [سُورَةَ الْحُجُرَات/13]. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِيَ الْمُتَّقُونَ مَنْ كَانُوا وَحَيْثُ كَانُوا »رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ. وَلا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ حَدِيثِ: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» فَإِنَّ حَدِيثَ ابْنِ حِبَّانَ فِيهِ الْحُكْمُ عَلَى الأَفْرَادِ، وَحَدِيثَ التِّرْمِذِيِّ: «خَيْرُ الْقُرُونِ» إِلَى ءَاخِرِهِ الْحُكْمُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ فَيُقَالُ بِاعْتِبَارِ الإِجْمَالِ الصَّحَابَةُ خَيْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ لا يَلْحَقُهُ بِعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ أَحَدٌ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ عَلَى الأَفْرَادِ فَبَعْضُ أَفْرَادِ الصَّحَابَةِ أَقَلُّ دَرَجَةً مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ، فَكَيْفَ يُسَاوَى بَيْنَ صَحَابِيٍّ قَالَ الرَّسُولُ فِيهِ لَمَّا مَاتَ فِي الْغَزْوِ مَعَهُ وَكَانَ مُوَكَّلًا بِثَقَلِ النَّبِيِّ خَادِمًا لَهُ: «هُوَ فِي النَّارِ» فَنَظَرُوا فَوَجَدُوا مَعَهُ شَمْلَةً سَرَقَهَا مِنَ الْغَنِيمَةِ وَبَيْنَ عُمَرَ بنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَذَا أَفْضَلُ مِنْ عُمَرَ بنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ الرَّسُولَ. فَمَا أَشَدَّ فَسَادَ قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الصَّحَابَةِ خَيْرٌ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ.



صِفَاتُ اللَّهِ كُلُّهَا كَامِلَةٌ

صِفَاتُ اللَّهِ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ، لِأَنَّ الذَّاتَ أَزَلِيٌّ فَلا تَحْصُلُ لَهُ صِفَةٌ لَمْ تَكُنْ فِي الأَزَلِ، أَمَّا صِفَاتُ الْخَلْقِ فَهِيَ حَادِثَةٌ تَقْبَلُ التَّطَوُّرَ مِنْ كَمَالٍ إِلَى أَكْمَلَ فَلا يَتَجَدَّدُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى شَىْءٌ. وَاللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ بِعِلْمِهِ الأَزَلِيِّ وَقُدْرَتِهِ الأَزَلِيَّةِ وَمَشِيئَتِهِ الأَزَلِيَّةِ، فَالْمَاضِي وَالْحَاضِرُ وَالْمُسْتَقْبَلُ بِالنِّسْبَةِ لِلَّهِ أَحَاطَ بِهِ بِعِلْمِهِ الأَزَلِيِّ.

الشَّرْحُ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَتِ الأَزَلِيَّةُ لِذَاتِ اللَّهِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ صِفَاتُهُ كُلُّهَا أَزَلِيَّةً أَبَدِيَّةً لا تَقْبَلُ التَّغَيُّرَ وَالتَّطَوُّرَ لِأَنَّ التَّغَيُّرَ وَالتَّطَوُّرَ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ عَلامَةُ الْحُدُوثِ، فَالإِنْسَانُ يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ وَالتَّغَيُّرَ مِنَ الْكَمَالِ إِلَى النَّقْصِ وَالْعَكْسَ أَمَّا اللَّهُ تَعَالَى لا يَزْدَادُ وَلا يَنْقُصُ، فَصِفَاتُ اللَّهِ لا تَقْبَلُ التَّطَوُّرَ مِنَ كَمَالٍ إِلَى أَكْمَلَ وَعِلْمُ اللَّهِ لا يَزْدَادُ وَلا يَنْقُصُ بَلْ عِلْمُهُ كَامِلٌ كَمَا سَائِرُ صِفَاتِهِ يَعْلَمُ بِهِ كُلَّ شَىْءٍ، فَلا يَتَجَدَّدُ لَهُ عِلْمٌ جَدِيدٌ بَلْ هُوَ عَالِمٌ فِي الأَزَلِ بِكُلِّ شَىْءٍ فَالتَّغَيُّرُ يَحْصُلُ فِي الْمَعْلُومِ الْحَادِثِ لا فِي عِلْمِ اللَّهِ الأَزَلِيِّ، فَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا كَانَ فِي الْمَاضِي وَمَا يَكُونُ فِي الْوَقْتِ الْحَاضِرِ وَمَا سَيَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ حَتَّى الأَشْيَاءَ الَّتِي تَتَجَدَّدُ فِي الآخِرَةِ اللَّهُ عَلِمَ بِهَا فِي الأَزَلِ، حَتَّى أَنْفَاسَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ الَّتِي تَتَجَدَّدُ بِلا انْقِطَاعٍ اللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ بِتَفْصِيلِهَا، هُنَا يَحْتَارُ الْعَقْلُ، فَإِذَا أَجْرَى الشَّخْصُ قَلْبَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْئَلَةِ الْوَهْمُ يَنْهَارُ، هُنَا يَقُولُ كَيْفَ يَكُونُ عِلْمُهُ مُحِيطًا بِمَا لا نِهَايَةَ لَهُ، وَأَنْفَاسُهُمْ جَارِيَةٌ لا انْقِطَاعَ لَهَا؟!!



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ﴾ [سُورَةَ مُحَمَّد/31] فَلَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ سَوْفَ يَعْلَمُ الْمُجَاهِدِينَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِمْ بِالِامْتِحَانِ وَالِاخْتِبَارِ، وَهَذَا يَسْتَحِيلُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ مَعْنَى الآيَةِ حَتَّى نُمَيِّزَ أَيْ حَتَّى نُظْهِرَ لِلْعِبَادِ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَيَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَكْتَسِبُ عِلْمًا جَدِيدًا.

الشَّرْحُ هَذِهِ الآيَةُ لا تَعْنِي أَنَّ اللَّهَ يَتَجَدَّدُ لَهُ عِلْمٌ إِنَّمَا تَعْنِي الآيَةُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَبْتَلِي عِبَادَهُ حَتَّى يُظْهِرَ وَيُمَيِّزَ لِعِبَادِهِ مَنْ هُوَ الصَّادِقُ وَمَنْ هُوَ غَيْرُ الصَّادِقِ، فَالْمَلائِكَةُ يَعْرِفُونَ أَنَّ هَذَا صَادِقٌ صَابِرٌ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِصَابِرٍ، يَكْشِفُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ وَلِمَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ مَنِ الَّذِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صَابِرِينَ عَلَى الْمَشَقَّاتِ، يُظْهِرُهُمْ لِعِبَادِهِ مِنْ غَيْرِهِمُ الَّذِينَ لا يَصْبِرُونَ، وَهُوَ عَالِمٌ بِعِلْمِهِ الأَزَلِيِّ مَنْ هُوَ الصَّابِرُ وَمَنْ هُوَ غَيْرُ الصَّابِرِ كَمَا نَقَلَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بنِ الْمُثَنَّى وَهَذَا شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ [سُورَةَ الأَنْفَال/37].

وَلا يَجُوزُ اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَجَدَّدُ لَهُ عِلْمٌ لَمْ يَكُنْ عَلِمَهُ فِي الأَزَلِ بَلْ يَكْفُرُ مَنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَصِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى كُلُّهَا كَامِلَةٌ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف/180].

الشَّرْحُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف/180] مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَهُ الأَسْمَاءُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْكَمَالِ، فَاللَّهُ لا يُوصَفُ إِلَّا بِصِفَةِ كَمَالٍ فَمَا كَانَ مِنَ الأَسْمَاءِ لا يَدُلُّ عَلَى الْكَمَالِ لا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمَهُ كَمَا يُسَمِّيهِ بَعْضُ النَّاسِ «ءَاه»، وَبَعْضُهُمْ سَمَّاهُ «رُوحًا»، وَقَدْ وَرَدَ فِي كِتَابِ قُوتِ الْقُلُوبِ فِي أَثْنَاءِ ذِكْرٍ سَاقَهُ طَوِيلٍ لَفْظُ «يَا رُوح» وَهَذَا إِلْحَادٌ وَكُفْرٌ فَلْيُجْتَنَبْ هَذَا وَنَحْوُهُ فَهَذَا لا يَجُوزُ لِأَنَّ كَلِمَةَ ءَاه وَضَعَهَا الْعَرَبُ لِتَدُلَّ عَلَى الشِّكَايَةِ وَالتَّوَجُّعِ وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «إِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى فِيهِ، وَإِذَا قَالَ ءَاه ءَاه فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَضْحَكُ مِنْ جَوْفِهِ» أَيْ يَدْخُلُ إِلَى فَمِهِ وَيَسْخَرُ مِنْهُ.

وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ ءَاه لَيْسَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ أَنَّ الْفُقَهَاءَ قَالُوا إِنَّ مَنْ قَالَ ءَاه فِي الصَّلاةِ عَامِدًا بَطَلَتْ صَلاتُهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ لا يُبْطِلُ الصَّلاةَ، فَلَوْ كَانَ ءَاه مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ لَمَا أَبْطَلَ الصَّلاةَ.

وَأَسْمَاءُ اللَّهِ الْحُسْنَى يُطْلَقُ عَلَيْهَا صِفَاتُ اللَّهِ وَيُطْلَقُ عَلَيْهَا أَسْمَاءُ اللَّهِ إِلَّا لَفْظَ الْجَلالَةِ لا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الصِّفَةُ، ثُمَّ إِنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى قِسْمَانِ قِسْمٌ لا يُسَمَّى بِهِ غَيْرُهُ وَقِسْمٌ يُسَمَّى بِهِ غَيْرُهُ، اللَّهُ وَالرَّحْمٰنُ وَالْقُدُّوسُ وَالْخَالِقُ وَالرَّزَّاقُ وَمَالِكُ الْمُلْكِ وَذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ وَالْمُحْيِي الْمُمِيتُ لا يُسَمَّى بِهِ إِلَّا اللَّهُ، أَمَّا أَكْثَرُ الأَسْمَاءِ فَيُسَمَّى بِهِ غَيْرُ اللَّهِ أَيْضًا، فَيَجُوزُ أَنْ يُسَمِّيَ الشَّخْصُ ابْنَهُ رَحِيمًا وَالْمَلِكَ كَذَلِكَ وَالسَّلامَ كَذَلِكَ.

فَائِدَةٌ: أَسْمَاءُ اللَّهِ الْحُسْنَى التِّسْعَةُ وَالتِّسْعُونَ مَنْ حَفِظَهَا وَفَهِمَ مَعْنَاهَا مَضْمُونٌ لَهُ الْجَنَّةُ، وَيُوجَدُ غَيْرُهَا أَسْمَاءٌ لِلَّهِ وَلَكِنْ لَيْسَ لَهَا هَذِهِ الْفَضِيلَةُ الَّتِي هِيَ لِلأَسْمَاءِ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ، وَأَسْمَاءُ اللَّهِ الْحُسْنَى بِأَيِّ لُغَةٍ كُتِبَتْ يَجِبُ احْتِرَامُهَا.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى﴾ [سُورَةَ النَّحْل/60] فَيَسْتَحِيلُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى أَيُّ نَقْصٍ.

الشَّرْحُ مَعْنَى هَذِهِ الآيَةِ لِلَّهِ الْوَصْفُ الَّذِي لا يُشْبِهُ وَصْفَ غَيْرِهِ. أَمَّا اتِّفَاقُ اللَّفْظِ فَلا يَعْنِي اتِّفَاقَ الْمَعْنَى، فَاللَّهُ تَعَالَى يُوصَفُ بِالصِّفَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْكَمَالِ وَالَّتِي لا تَكُونُ لِغَيْرِهِ، وَاللَّهُ يَسْتَحِيلُ فِي حَقِّهِ أَيُّ نَقْصٍ كَالْجَهْلِ وَالْعَجْزِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان/54] فَالْمَكْرُ مِنَ الْخَلْقِ خُبْثٌ وَخِدَاعٌ لإِيصَالِ الضَّرَرِ إِلَى الْغَيْرِ بِاسْتِعْمَالِ حِيلَةٍ، وَأَمَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مُجَازَاةُ الْمَاكِرِينَ بِالْعُقُوبَةِ مِنْ حَيْثُ لا يَدْرُونَ. وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى إِنَّ اللَّهَ أَقْوَى فِي إِيصَالِ الضَّرَرِ إِلَى الْمَاكِرِينَ مِنْ كُلِّ مَاكِرٍ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى مَكْرِهِمْ، فَالْمَكْرُ بِمَعْنَى الِاحْتِيَالِ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ.

الشَّرْحُ فِي هَذِهِ الآيَةِ أَسْنَدَ اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ الْمَكْرَ، وَمَكْرُ اللَّهِ لَيْسَ كَمَكْرِ الْعِبَادِ، مَكْرُ الإِنْسَانِ أَنْ يُحَاوِلَ إِيصَالَ الضَّرَرِ إِلَى إِنْسَانٍ بِطَرِيقَةٍ خَفِيَّةٍ يَحْتَاجُ فِيهَا إِلَى اسْتِعْمَالِ بَعْضِ الْحِيَلِ، أَمَّا مَكْرُ اللَّهِ فَلَيْسَ هَكَذَا، مَكْرُ اللَّهِ هُوَ إِيصَالُ الضَّرَرِ إِلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُ ذَلِكَ الْعَبْدُ وَلا يَظُنُّ وَلا يَحْسِبُ أَنَّ الضَّرَرَ يَأْتِيهِ مِنْ هُنَا.

فَمَكْرُ الْعَبْدِ مَذْمُومٌ أَمَّا مَكْرُ اللَّهِ لا يُذَمُّ لِأَنَّ اللَّهَ لا يَجُوزُ عَلَيْهِ الظُّلْمُ، لا يَكُونُ ظَالِمًا إِنِ انْتَقَمَ مِنْ عِبَادِهِ الظَّالِمِينَ بِمَا شَاءَ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/15] أَيْ يُجَازِيهِمْ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ.

الشَّرْحُ هَذِهِ الآيَةُ ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَمَّا يَجْتَمِعُونَ بِأَمْثَالِهِمْ يَتَكَلَّمُونَ بِبُغْضِ الإِسْلامِ وَكَرَاهِيَتِهِ، اللَّهُ أَخْبَرَنَا أَنَّهُ يُجَازِيهِمْ بِمَا يَلِيقُ بِهِمْ وَهَذِهِ الْمُجَازَاةُ سَمَّاهَا اسْتِهْزَاءً. وَالْمُنَافِقُونَ هُمُ الَّذِينَ يَكْرَهُونَ الإِسْلامَ فِي قُلُوبِهِمْ وَيَتَظَاهَرُونَ بِالإِسْلامِ أَمَامَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَعْمَلُونَ أَعْمَالَ الْمُسْلِمِينَ وَلَكِنْ قُلُوبُهُمْ فِيهَا شَكٌّ أَوْ إِنْكَارٌ.

تَنْبِيهٌ مُهِمٌّ: مَنْ قَالَ يَجُوزُ تَسْمِيَةُ اللَّهِ نَاسِيًا وَمَاكِرًا وَمُسْتَهْزِئًا كَفَرَ لِأَنَّهُ اسْتَخَفَّ بِاللَّهِ، أَمَّا إِذَا قَالَ عَلَى وَجْهِ الْمُقَابَلَةِ فَلَيْسَ فِيهِ تَنْقِيصٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان/54]، وَقَوْلِهِ: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ [سُورَةَ التَّوْبَة/67]، أَمَّا مَنِ اسْتَحَلَّ قَوْلَ يَا مَاكِرُ ارْزُقْنِي وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذَا يَكْفُرُ، وَكَذَا يَكْفُرُ مَنْ يُسَمِّي اللَّهَ الْمُضِلَّ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ اسْمًا لِلَّهِ كَالرَّحْمٰنِ فَيَكُونُ مَعْنَى كَلامِهِ يَجُوزُ أَنْ نَقُولَ يَا مُضِلُّ أَعِنِّي.

أَمَّا قَوْلُ يَا جَبَّارُ ارْزُقْنِي لا يَدُلُّ عَلَى نَقْصٍ فِي حَقِّ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ يَا مُتَكَبِّرُ لا يَدُلُّ عَلَى نَقْصٍ، أَمَّا الَّذِي يَدُلُّ عَلَى النَّقْصِ فَهُوَ مِثْلُ أَنْ يُقَالَ فِي حَقِّ اللَّهِ يَا مُخَادِعُ أَوْ يَا نَاسِي أَوْ يَا مُسْتَهْزِئُ أَوْ يَا مَاكِرُ.

أَمَّا إِذَا قُلْنَا يَا طَاهِرُ عَنِ اللَّهِ فَيَجُوزُ عَلَى قَوْلٍ لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْمُنَزَّهُ عَنِ النَّقَائِصِ قَالَ بِجَوَازِ تَسْمِيَةِ اللَّهِ الطَّاهِرَ بَعْضُ الأَشَاعِرَةِ لِكَوْنِهِ وَصْفًا لا يُوهِمُ نَقْصًا لِلَّهِ، لَكِنَّ الإِمَامَ الأَشْعَرِيَّ يَمْنَعُ مَنْ ذَلِكَ قَالَ: «لا يَجُوزُ تَسْمِيَةُ اللَّهِ إِلَّا بِمَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ أَوِ الإِجْمَاعِ»، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، قَالَ الأَشْعَرِيُّ: «فَلا يَجُوزُ وَصْفُ اللَّهِ بِالرُّوحِ»، وَذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ وَقَالَ: «لا مَجَالَ لِلْقِيَاسِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَإِنَّمَا يُرَاعَى فِيهَا الشَّرْعُ وَالتَّوْقِيفُ» وَقَالَ: «وَلَيْسَ فِي أَفْعَالِهِ - يَعْنِي اللَّهَ- مَا هُوَ عَلَى وَزْنِ فَاعَلَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَلا يُطْلَقُ ذَلِكَ فِي أَفْعَالِهِ لِأَنَّ الْمُفَاعَلَةَ تَقْتَضِي الشَّرِكَةَ فِي الْفِعْلِ إِلَّا فِي أَمْثِلَةٍ نَادِرَةٍ - يَعْنِي فِي اللُّغَةِ - لا يُقَاسُ عَلَيْهَا، فَإِنْ أُضِيفَ الْفِعْلُ إِلَى غَيْرِهِ جَازَ إِطْلاقُهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/9] وَلَكِنْ لا يُتَجَاوَزُ بِهِ مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ، فَلا يُقَالُ خَادَعَ اللَّهَ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِالْمُضَارِعِ مِنْ هَذَا الْفِعْلِ دُونَ الْمَاضِي»، وَقَالَ: «وَلَمْ يَرِدْ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ مَا هُوَ عَلَى وَزْنِ فِعَال، وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فُلانٌ فِي جِوَارِ رَبِّهِ وَجُوَارِ رَبِّهِ لُغَتَانِ إِذَا كَانَ مُلازِمًا لِطَاعَتِهِ»، ذَكَرَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ تَفْسِيرِ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.

فَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ الأَشْعَرِيِّ «فَلا يَجُوزُ وَصْفُ اللَّهِ بِالرُّوحِ» بُطْلانُ قَوْلِ «يَا رُوح» مُرَادًا بِهِ اللَّه، فَلْيُحْذَرْ كَمَا تَقَدَّمَ مَا فِي كِتَابِ قُوتِ الْقُلُوبِ مِنْ إِيرَادِ ذَلِكَ فِي ذِكْرٍ سِيقَ هُنَاكَ، فَإِنَّ الرُّوحَ لَيْسَ وَصْفًا بَلْ هُوَ اسْمٌ جَامِدٌ وَفِيهِ إِيهَامُ النَّقْصِ لِأَنَّ الرُّوحَ جِسْمٌ لَطِيفٌ وَالْجِسْمُ اللَّطِيفُ أَحَدُ نَوْعَيِ الْجِسْمِ، وَكَذَلِكَ لا يَجُوزُ تَسْمِيَةُ اللَّهِ بِالْقُوَّةِ كَمَا فَعَلَ سَيِّدُ قُطُب وَكَأَنَّهُ اقْتَدَى بِكَلامِ بَعْضِ الْمَلاحِدَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ «إِنَّ لِلْعَالَمِ قُوَّةً مُدَبِّرَةً» وَيَعْنُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ هَذِهِ الْقُوَّةُ، وَلَعَلَّ هَذَا مِمَّا اكْتَسَبَهُ مِنْهُمْ حِينَ كَانَ مَعَ الشُّيُوعِيَّةِ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً كَمَا اعْتَرَفَ هُوَ فِي بَعْضِ مُؤَلَّفَاتِهِ وَهُوَ كِتَابُ «لِمَاذَا أَعْدَمُونِي»، وَكَذَلِكَ تَسْمِيَةُ سَيِّدِ قُطُب لِلَّهِ بِالْعَقْلِ الْمُدَبِّرِ لِأَنَّ الْعَقْلَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ وَالْجِنِّ وَالْمَلائِكَةِ، وَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ تَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِ الإِمَامِ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيِّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي أَلَّفَهُ لِبَيَانِ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ «وَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ»، وَكَذَلِكَ مَا فِي كِتَابِ مُحَمَّد سَعِيد الْبُوطِي مِنْ تَسْمِيَةِ اللَّهِ بِالْعِلَّةِ الْكُبْرَى وَالسَّبَبِ الأَوَّلِ وَالْوَاسِطَةِ وَالْمَصْدَرِ وَالْمَنْبَعِ وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِهِ كُبْرَى الْيَقِينِيَّاتِ الْكَوْنِيَّةِ وَذَلِكَ نَوْعٌ مِنَ الإِلْحَادِ، قَالَ الإِمَامُ رُكْنُ الإِسْلامِ عَلِيٌّ السُّغْدِيُّ: «مَنْ سَمَّى اللَّهَ عِلَّةً أَوْ سَبَبًا كَفَرَ».

وَيَكْفِي فِي الزَّجْرِ عَنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ﴾، فَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ السَّبَبَ وَالْمُسَبَّبَ خَلْقٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَتَسْمِيَةُ اللَّهِ بِالْعِلَّةِ أَشَدُّ قُبْحًا مِنْ تَسْمِيَتِهِ بِالسَّبَبِ لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي اللُّغَةِ الْمَرَضُ وَنَحْوُهُ وَاللَّهُ أَزَلِيٌّ أَبَدِيٌّ ذَاتًا وَصِفَاتٍ، فَمَا أَبْعَدَ هَذَا الْكَلامَ مِنْ كَلامِ مَنْ مَارَسَ كُتُبَ عَقَائِدِ أَهْلِ السُّنَّةِ فَحَالُهُ كَحَالِ مَنْ لَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهَا بِالْمَرَّةِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾ [سُورَةَ الْجَاثِيَة/34] فَقَدْ ذُكِرَ عَلَى وَجْهِ الْمُقَابَلَةِ وَمَعْنَاهُ تَرَكْنَاكُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا كَمَا أَنْتُمْ تَرَكْتُمْ طَاعَةَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا بِالإِيـمَانِ بِهِ.

وَكَذَلِكَ لا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً﴾ الآيَةَ [سُورَةَ الْبَقَرَة/26] جَوَازُ تَسْمِيَةِ اللَّهِ بِالْمُسْتَحيِى، وَمَعْنَى الآيَةِ أَنَّنَا لا نَتْرُكُ اسْتِحْيَاءً كَمَا يَتْرُكُ الْبَشَرُ الشَّىْءَ اسْتِحْيَاءً، مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ تَرْكَ إِظْهَارِ الْحَقِّ فَلا يَتْرُكُهُ لِلِاسْتِحْيَاءِ كَمَا يَفْعَلُ الْخَلْقُ، وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ.

وَكَذَلِكَ لا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَخْرَجَ اسْمُ الْمُسْتَحِي لِلَّهِ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ: «إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيْمٌ يَسْتَحِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ» مَعْنَاهُ لا يُخَيِّبُ، إِمَّا أَنْ يُعْطِيَهُ الثَّوَابَ أَوْ يُعْطِيَهُ مَا طَلَبَ، وَمَعْنَى: «رَفَعَهُمَا إِلَيْهِ» أَيْ إِلَى جِهَةِ مَهْبِطِ الرَّحْمَةِ وَهِيَ السَّمَاءُ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ يَقُولُونَ: نُؤْمِنُ بِإِثْبَاتِ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْءَانِ وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ كَالْوَجْهِ وَالْيَدِ وَالْعَيْنِ وَالرِّضَا وَالْغَضَبِ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّهَا صِفَاتٌ يَعْلَمُهَا اللَّهُ لا عَلَى أَنَّهَا جَوَارِحُ وَانْفِعَالاتٌ كَأَيْدِينَا وَوُجُوهِنَا وَعُيُونِنَا وَغَضَبِنَا، فَإِنَّ الْجَوَارِحَ مُسْتَحِيلَةٌ عَلَى اللَّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/11]، وَقَوْلِهِ: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [سُورَةَ الإِخْلاص/4].

قَالُوا لَوْ كَانَ لِلَّهِ عَيْنٌ بِمَعْنَى الْجَارِحَةِ وَالْجِسْمِ لَكَانَ لَهُ أَمْثَالٌ فَضْلاً عَنْ مِثْلٍ وَاحِدٍ وَلَجَازَ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَى الْمُحْدَثَاتِ مِنَ الْمَوْتِ وَالْفَنَاءِ وَالتَّغَيُّرِ وَالتَّطَوُّرِ، وَلَكَانَ ذَلِكَ خُرُوجًا مِنْ مُقْتَضَى الْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ عَلَى اسْتِحَالَةِ التَّغَيُّرِ وَالتَّحَوُّلِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ عَلَى اللَّهِ. وَلا يَصِحُّ إِهْمَالُ الْعَقْلِ لِأَنَّ الشَّرْعَ لا يَأْتِي إِلاَّ بِمُجَوَّزَاتِ الْعَقْلِ أَيْ إِلاَّ بِمَا يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ لِأَنَّهُ شَاهِدُ الشَّرْعِ، فَالْعَقْلُ يَقْضِي بِأَنَّ الْجِسْمَ وَالْجِسْمَانِيَّاتِ أَيِ الأَحْوَالَ الْعَارِضَةَ لِلْجِسْمِ مُحْدَثَةٌ لا مَحَالَةَ وَأَنَّهَا مُحْتَاجَةٌ لِمُحْدِثٍ، فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَّصِفُ بِهَا لَهُ مُحْدِثٌ وَلا تَصِحُّ الأُلُوهِيَّةُ لِمَنْ يَحْتَاجُ إِلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّ الدَّلائِلَ الْعَقْلِيَّةَ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ طُرُوءُ صِفَاتٍ لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ وَالتَّحَوُّلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ.

الشَّرْحُ قَالَ الْعُلَمَاءُ: يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِلَّهِ يَدٌ لا كَأَيْدِينَا وَوَجْهٌ لا كَوُجُوهِنَا وَعَيْنٌ لا كَأَعْيُنِنَا عَلَى مَعْنَى الصِّفَةِ لا عَلَى مَعْنَى الْجَارِحَةِ وَالْجِسْمِ، وَلا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ اللَّهُ جَالِسٌ لا كَجُلُوسِنَا لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَرِدْ لا فِي الْقُرْءَانِ وَلا فِي الْحَدِيثِ وَلا عَنِ الأَئِمَّةِ، وَالْجُلُوسُ لا يُوصَفُ بِهِ إِلاَّ الْمَخْلُوقُ، قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: «مَا أَطْلَقَ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ أَطْلَقْنَاهُ عَلَيْهِ وَمَا لا فَلا»، وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: لا تَثْبُتُ الصِّفَةُ لِلَّهِ إِلاَّ بِالْقُرْءَانِ أَوِ الْحَدِيثِ الثَّابِتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، أَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي فِي بَعْضِ رُوَاتِهِ طَعْنٌ وَجَرْحٌ فَلا يُحْتَجُّ بِهِ لإِثْبَاتِ الصِّفَةِ لِلَّهِ، وَكَذَلِكَ لا تَثْبُتُ الصِّفَةُ لِلَّهِ بِكَلامِ صَحَابِيٍّ أَوْ تَابِعِيٍّ.

أَمَّا الصِّفَاتُ الثَّلاثَ عَشْرَةَ لَوْ لَمْ تَرِدْ فِي الْقُرْءَانِ وَالْحَدِيثِ بِالْعَقْلِ تَثْبُتُ، أَمَّا مَا سِوَى هَذِهِ الصِّفَاتِ فَمَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ نُثْبِتُهُ لِلَّهِ مَعَ التَّنْزِيهِ، كَالْيَدِ وَالْوَجْهِ وَالْعَيْنِ فَنُثْبِتُهَا صِفَاتٍ لِلَّهِ لا جَوَارِحَ فَإِنَّهَا وَرَدَتْ فِي الْقُرْءَانِ، وَلَوْ لَمْ تَرِدْ فِي الشَّرْعِ مَا كَانَ يَجُوزُ لَنَا إِثْبَاتُهَا لِلَّهِ.

فَبِنَاءً عَلَى هَذَا لَوْ أَنْكَرَ إِنْسَانٌ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ الثَّلاثَ عَشْرَةَ نُكَفِّرُهُ لَوْ كَانَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِإِسْلامٍ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ تَثْبُتُ بِالْعَقْلِ وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِوُرُودِهَا فِي الشَّرْعِ.

أَمَّا الْوَجْهُ وَالْيَدُ وَالْعَيْنُ إِذَا إِنْسَانٌ أَنْكَرَ وَاحِدَةً مِنْهَا لا نُكَفِّرُهُ إِلاَّ إِذَا كَانَ اطَّلَعَ فِي الْقُرْءَانِ عَلَيْهَا وَمَعَ ذَلِكَ أَنْكَرَهَا فَعِنْدَهَا نُكَفِّرُهُ، أَيْ إِنْ أَنْكَرَ أَصْلَ الإِضَافَةِ مَعَ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنِ الْجَوَارِحِ بَعْدَ أَنِ اطَّلَعَ فِي الْقُرْءَانِ عَلَى ذَلِكَ فَهَذَا يُكَفَّرُ. فَالْعَيْنُ تَأْتِي بِمَعْنَى الْحِفْظِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا﴾ [سُورَةَ الْقَمَر/14]، وَقَوْلِهِ: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ [سُورَةَ طَه/39] أَيْ عَلَى حِفْظِي، وَالْيَدُ تَأْتِي بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ وَالْقُدْرَةُ هِيَ الْقُوَّةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ﴾ [سُورَةَ الذَّارِيَات/47]، وَتَأْتِي بِمَعْنَى الْعَهْدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [سُورَةَ الْفَتْح/10] أَيْ عَهْدُ اللَّهِ فَوْقَ عُهُودِهِمْ أَيْ ثَبَتَ عَلَيْهِمْ عَهْدُ اللَّهِ لِأَنَّ مُعَاهَدَتَهُمْ لِلرَّسُولِ تَحْتَ شَجَرَةِ الرِّضْوَانِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ لا يَفِرُّوا مُعَاهَدَةٌ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَمَرَ نَبِيَّهُ بِهَذِهِ الْمُبَايَعَةِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ [سُورَةَ الْمَائِدَة/64] فَمَعْنَاهُ غَنِيٌّ وَاسِعُ الْكَرَمِ.

وَاللَّهُ تَعَالَى يَغْضَبُ وَيَرْضَى لا كَأَحَدٍ مِنَ الْوَرَى كَمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْءَانُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ﴾ [سُورَةَ الْمَائِدَة/119] وَفِي حَقِّ الْكُفَّارِ ﴿وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ﴾ [سُورَةَ الْفَتْح/6]، وَالأَصْلُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُوصَفُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ وَبِمَا صَحَّ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفَهُ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدٍ شِرْكَةٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى لا فِي ذَاتِهِ وَلا فِي صِفَاتِهِ.

ثُمَّ الْغَضَبُ بِالنِّسْبَةِ لِلْخَلْقِ تَغَيُّرٌ يَحْصُلُ عِنْدَ غَلَيَانِ الدَّمِ فِي الْقَلْبِ بِإِرَادَةِ إِيصَالِ الضَّرَرِ إِلَى الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ. وَالْغَضَبُ إِذَا وُصِفَ اللَّهُ بِهِ يَكُونُ بِمَعْنَى الْغَايَةِ أَيْ إِرَادَةِ الِانْتِقَامِ، وَإِرَادَةُ الِانْتِقَامِ أَزَلِيَّةٌ هَذَا الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الأَشَاعِرَةِ فِي عِبَارَاتِهِمْ، وَإِذَا وُصِفَ الْمَخْلُوقُ بِالْغَضَبِ يُوصَفُ بِاعْتِبَارِ الْمَبْدَإِ وَهُوَ التَّغَيُّرُ أَيِ الِانْفِعَالُ النَّفْسَانِيُّ.

وَالرِّضَا عِبَارَةٌ عَنْ إِرَادَةِ إِنْعَامِهِ عَلَى عِبَادِهِ أَوْ عَنْ نَفْسِ إِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الرَّحْمَةِ أَيْضًا، وَلَيْسَتْ رَحْمَتُهُ رِقَّةَ الْقَلْبِ. وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ أَنَّ ءَادَمَ وَغَيْرَهُ يَقُولُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ مِثْلَهُ قَبْلَهُ وَلا يَغْضَبْ بَعْدَهُ مِثْلَهُ» فَهَذَا يُقْصَدُ بِهِ أَثَرُ الْغَضَبِ لَيْسَ الْغَضَبَ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لِلَّهِ.

وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ إِذَا أَرَادُوا اخْتِصَارَ الْعِبَارَةِ يَقُولُونَ اللَّهُ يَغْضَبُ وَيَرْضَى بِلا كَيْفٍ، مَالِكُ بنُ أَنَسٍ وَاللَّيْثُ بنُ سَعْدٍ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالأَوْزَاعِيُّ هَؤُلاءِ لَمَّا يَذْكُرُونَ الصِّفَاتِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا يَتَوَهَّمُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهَا كَصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ لِقِصَرِ أَفْهَامِهِمْ، كَانُوا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَقُولُونَ: «بِلا كَيْفٍ». أَمَّا الْخَلَفُ وَبَعْضُ السَّلَفِ أَوَّلُوا فَيَقُولُونَ رِضَا اللَّهِ إِرَادَتُهُ الرَّحْمَةَ وَغَضَبُهُ إِرَادَتُهُ الِانْتِقَامَ، أَرْجَعُوا الصِّفَتَيْنِ إِلَى الإِرَادَةِ، وَكِلا الْقَوْلَيْنِ صَحِيحٌ.



سَبَبُ نُزُولِ الإِخْلاصِ

قَالَتِ الْيَهُودُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صِفْ لَنَا رَبَّكَ [أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ الْيَهُودَ أَتَوْا إِلَى النَّبِيِّ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ صِفْ لَنَا رَبَّكَ الَّذِي تَعْبُدُهُ. فَنَزَلَتْ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ... »إِلَى ءَاخَرِ السُّورَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «هَذِهِ صِفَةُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ] قَدْ كَانَ سُؤَالُهُمْ تَعَنُّتًا (أَيْ عِنَادًا) لا حُبًّا لِلْعِلْمِ وَاسْتِرْشَادًا بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُورَةَ الإِخْلاصِ: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ أَيِ الَّذِي لا يَقْبَلُ التَّعَدُّدَ وَالْكَثْرَةَ وَلَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ فِي الذَّاتِ أَوِ الصِّفَاتِ أَوِ الأَفْعَالِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ صِفَةٌ كَصِفَاتِهِ، بَلْ قُدْرَتُهُ تَعَالَى قُدْرَةٌ وَاحِدَةٌ يَقْدِرُ بِهَا عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَعِلْمُهُ وَاحِدٌ يَعْلَمُ بِهِ كُلَّ شَىْءٍ.

الشَّرْحُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ﴾ [سُورَةَ النَّحْل/74] أَيْ لا تُشَبِّهُوهُ بِخَلْقِهِ، فَقُدْرَةُ اللَّهِ قُدْرَةٌ وَاحِدَةٌ يَقْدِرُ بِهَا عَلَى كُلِّ شَىْءٍ هِيَ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ لَيْسَتْ مُتَعَدِّدَةً بِتَعَدُّدِ الأَشْيَاءِ بَلْ قُدْرَةٌ وَاحِدَةٌ خَلَقَ بِهَا كُلَّ الْمُحْدَثَاتِ، وَكَذَلِكَ عِلْمُ اللَّهِ وَاحِدٌ أَزَلِيٌ أَبَدِيٌّ يَعْلَمُ بِهِ كُلَّ شَىْءٍ، يَعْلَمُ بِهِ الأَزَلِيَّ كَذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَيَعْلَمُ بِهِ الْحَادِثَاتِ أَيْضًا لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ شَامِلٌ لِلأَزَلِيِّ وَالْحَادِثِ، أَمَّا قُدْرَتُهُ شَامِلَةٌ لِلْحَادِثِ، أَمَّا الأَزَلِيُّ فَلا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْقُدْرَةُ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ أَيِ الَّذِي تَفْتَقِرُ إِلَيْهِ جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ، مَعَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْ كُلِّ مَوْجُودٍ.

الشَّرْحُ اللَّهُ تَعَالَى مُسْتَغْنٍ عَنْ كُلِّ شَىْءٍ وَكُلُّ شَىْءٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَيَقْصِدُهُ الْعِبَادُ عِنْدَ الشِّدَّةِ هَذَا مَعْنَى الصَّمَدِ، وَهَكَذَا نُفَسِّرُهُ، وَفِي اللُّغَةِ الصَّمَدُ السَّيِّدُ الْمَقْصُودُ، الشَّخْصُ الَّذِي هُوَ سَيِّدٌ أَيْ عَالِي الْقَدْرِ فِي النَّاسِ مُعْتَبَرٌ فِيهِمْ هَذَا فِي اللُّغَةِ يُسَمَّى صَمَدًا، لِذَلِكَ الصَّمَدُ لَيْسَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْخَاصَّةِ بِهِ بَلْ يَجُوزُ تَسْمِيَةُ غَيْرِهِ بِهِ، فَإِذَا إِنْسَانٌ سَمَّى ابْنَهُ الصَّمَدَ لَيْسَ حَرَامًا.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالَّذِي يُقْصَدُ عِنْدَ الشِّدَّةِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا وَلا يَجْتَلِبُ بِخَلْقِهِ نَفْعًا لِنَفْسِهِ وَلا يَدْفَعُ بِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ضُرًّا.

الشَّرْحُ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لا يَنْتَفِعُ بِخَلْقِهِ، وَلا يَجْتَلِبُ نَفْعًا مِنْهُمْ لِنَفْسِهِ وَلا يَدْفَعُ ضَرَرًا بِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ فَهُمْ لا يَنْفَعُونَهُ وَلا يَضُرُّونَهُ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّنْ رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ [سُورَةَ الذَّارِيَّات]، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ مَعْنَاهُ إِلَّا لِآمُرَهُمْ بِعِبَادَتِي.

وَلْيُعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَخْلُقُ شَيْئًا عَبَثًا، وَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ شَيْئًا عَبَثًا بِلا حِكْمَةٍ فَقَدْ كَفَرَ كَالَّذِي يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ فُلانًا أَرَادَ أَنْ يَمْلأَ بِهِ الْفَرَاغَ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ نَفْيٌ لِلْمَادِّيَّةِ وَالِانْحِلالِ وَهُوَ أَنْ يَنْحَلَّ مِنْهُ شَىْءٌ أَوْ أَنْ يَحُلَّ هُوَ فِي شَىْءٍ.

الشَّرْحُ أَيْ أَنَّهُ لَيْسَ أَبًا وَلا ابْنًا، فَقَوْلُهُ: ﴿لَمْ يَلِدْ﴾ يُعْطِي هَذَا الْمَعْنَى أَيْ أَنَّهُ لا يَنْحَلُّ مِنْهُ شَىْءٌ أَيْ لا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَصِلَ مِنْهُ شَىْءٌ كَمَا يَنْفَصِلُ عَنِ الرَّجُلِ وَلَدُهُ، وَقَوْلُهُ ﴿وَلَمْ يُولَدْ﴾ يُعْطِي أَنَّهُ لا يَحُلُّ هُوَ فِي شَىْءٍ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمَا وَرَدَ فِي كِتَابِ «مَوْلِدِ الْعَرُوسِ» مِنْ أَنَّ اللَّهَ قَبَضَ قَبْضَةً مِنْ نُورِ وَجْهِهِ فَقَالَ لَهَا كُونِي مُحَمَّدًا فَكَانَتْ مُحَمَّدًا فَهَذِهِ مِنَ الأَبَاطِيلِ الْمَدْسُوسَةِ، وَحُكْمُ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُزْءٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى التَّكْفِيرُ قَطْعًا، وَكَذَلِكَ الَّذِي يَعْتَقِدُ فِي الْمَسِيحِ أَنَّهُ جُزْءٌ مِنَ اللَّهِ.

الشَّرْحُ هَذَا مِنَ الأَبَاطِيلِ الَّتِي أَدْخَلَهَا بَعْضُ النَّاسِ عَلَى الإِسْلامِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ تُوهِمُ أَنَّ اللَّهَ لَهُ أَجْزَاءٌ وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ بَعْضٌ وَجُزْءٌ وَعَنْ أَنْ يَنْحَلَّ فِيهِ شَىْءٌ. وَمِنَ الِاعْتِقَادَاتِ الْفَاسِدَةِ الْكُفْرِيَّةِ اعْتِقَادُ أَنَّ الرَّسُولَ جُزْءٌ مِنَ اللَّهِ، وَكَمْ كَفَرَ مِنَ النَّاسِ بِسَبَبِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُسَمَّى «مَوْلِدُ الْعَرُوسِ»، وَقَائِلُ هَذَا كَالَّذِي يَقُولُ إِنَّ الْمَسِيحَ جُزْءٌ مِنَ اللَّهِ رُوحٌ مُنْفَصِلٌ مِنَ اللَّهِ فَهَذَا كَافِرٌ وَهَذَا كَافِرٌ. قَالَ تَعَالَى: ﴿وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا﴾ [سُورَةَ الزُّخْرُف/15].



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَيْسَ هَذَا الْكِتَابُ لِابْنِ الْجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلَمْ يَنْسِبْهُ إِلَيْهِ إِلَّا الْمُسْتَشْرِقُ بُروكلْمَان.

الشَّرْحُ كِتَابُ مَوْلِدِ الْعُرُوسِ لَيْسَ مِنْ تَأْلِيفِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ الَّذِي كَانَ مُحَدِّثًا فَقِيهًا مُفَسِّرًا أُعْطِيَ بَاعًا قَوِيًّا فِي الْوَعْظِ كَانَ مِنْ قُوَّةِ وَعْظِهِ إِذَا تَكَلَّمَ يُحَرِّكُ الْقُلُوبَ، وَقَدْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِهِ بِسَبَبِ دُرُوسِهِ وَمَوَاعِظِهِ مِائَةُ أَلْفٍ، فَهَذَا الْكِتَابُ مُلْصَقٌ بِهِ. وَمُؤَلَّفَاتُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ كَثِيرَةٌ ذَكَرَهَا مَنْ تَرْجَمُوهُ، وَقَدْ نُسِبَتْ إِلَى عَدَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ سِوَاهُ كُتُبٌ لَيْسَتْ لَهُمْ بَلْ أَصْحَابُهَا مَجْهُولُونَ.

وَإِنَّمَا نَسَبَ هَذَا الْكِتَابَ الْفَاسِدَ لِابْنِ الْجَوْزِيِّ رَجُلٌ أَفْرَنْجِيٌّ كَافِرٌ تَعَلَّمَ لُغَةَ الْعَرَبِ وَصَارَ يَنْظُرُ فِي مُؤَلَّفَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَيَقُولُ مِنْ غَيْرِ تَحْقِيقٍ وَدَلِيلٍ هَذَا لِفُلانٍ، وَقَدْ عَمِلَ مِنَ الْمُجَلَّدَاتِ فِي ذَلِكَ عَدَدًا.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَه اللَّهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ أَيْ لا نَظِيرَ لَهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.

الشَّرْحُ أَيْ أَنَّ اللَّهَ لا يُشْبِهُ شَيْئًا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿كُفُوًا﴾ يُقْرَأُ كُفُوًا وَيُقْرَأُ كُفْوًا بِتَسْكِينِ الْفَاءِ عَلَى إِحْدَى الْقُرَاءَاتِ.



الآيَاتُ الْمُحْكَمَاتُ وَالْمُتَشَابِهَاتُ

لِفَهْمِ هَذَا الْمَوْضُوعِ كَمَا يَنْبَغِي يَجِبُ مَعْرِفَةُ أَنَّ الْقُرْءَانَ تُوجَدُ فِيهِ ءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ وَءَايَاتٌ مُتَشَابِهَاتٌ، قَالَ تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ ءَايَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان/7].

الشَّرْحُ الْقُرْءَانُ فِيهِ ءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ وَفِيهِ ءَايَاتٌ مُتَشَابِهَاتٌ، وَالْمُحْكَمَاتُ هِيَ الَّتِي دِلالَتُهَا عَلَى الْمُرَادِ وَاضِحَةٌ، وَالْمُتَشَابِهَةُ هِيَ الَّتِي دِلالَتُهَا عَلَى الْمُرَادِ غَيْرُ وَاضِحَةٍ، وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ أَيِ الزَّيْعِ أَيِ ابْتِغَاءَ الإِيقَاعِ فِي الأَمْرِ الْمَحْظُورِ لِأَنَّ الْمُشَبِّهَةَ غَرَضُهُمْ فِي جِدَالِهِمْ أَنْ يُوقِعُوا السُّنِّيَّ فِي اعْتِقَادِهِمُ الْبَاطِلِ، وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ هُمْ أَهْلُ الأَهْوَاءِ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ حَصَلَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ صَبِيغ كَانَ يَسْأَلُ عَنِ الْمُتَشَابِهِ عَلَى وَجْهٍ يُخْشَى مِنْهُ الْفِتْنَةُ فَضَرَبَهُ سَيِّدُنَا عُمَرُ ثُمَّ نَفَاهُ وَأَمَرَ أَنْ لا يَخْتَلِطَ النَّاسُ بِهِ.

وَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْمُحْكَمَاتِ أُمَّ الْكِتَابِ أَيْ أُمَّ الْقُرْءَانِ لِأَنَّهَا الأَصْلُ الَّذِي تُرَدُّ إِلَيْهَا الْمُتَشَابِهَاتُ، ثُمَّ الْمُتَشَابِهُ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا مَا لا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ كَوَجْبَةِ الْقِيَامَةِ، وَالثَّانِي يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ كَمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [سُورَةَ طَه/5] فَإِنَّ الرَّاسِخِينَ فَسَّرُوهُ بِالْقَهْرِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الآيَاتُ الْمُحْكَمَةُ: هِيَ مَا لا يَحْتَمِلُ مِنَ التَّأْوِيلِ بِحَسَبِ وَضْعِ اللُّغَةِ إِلَّا وَجْهًا وَاحِدًا أَوْ مَا عُرِفَ الْمُرَادُ بِهِ بِوُضُوحٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ وَقَوْلِهِ: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ وَقَوْلِهِ: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [سُورَةَ مَرْيَم/65].

الشَّرْحُ لِيُعْلَمْ أَنَّ الآيَاتِ الْقُرْءَانِيَّةَ أَغْلَبُهَا مُحْكَمَةٌ، وَالآيَاتُ الْمُحْكَمَةُ هِيَ الَّتِي دِلالَتُهَا عَلَى الْمُرَادِ وَاضِحَةٌ، وَيُقَالُ: هِيَ مَا لا يَحْتَمِلُ مِنَ التَّأْوِيلِ بِحَسَبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ إِلَّا وَجْهًا وَاحِدًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ أَيْ مِثْلًا أَيْ لَيْسَ لَهُ مَثِيلٌ وَلا شَبِيهٌ، وَلا يُخَالِفُ تَقْسِيمَ الآيَاتِ إِلَى مُحْكَمٍ وَمُتَشَابِهٍ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءَايَاتُهُ﴾ [سُورَةَ هُود/1] وَقَوْلُهُ: ﴿كِتَابًا مُّتَشَابِهًا﴾ [سُورَةَ الزُّمَر] لِأَنَّ الْمُرَادَ بِإِحْكَامِهِ إِتْقَانُهُ وَعَدَمُ تَطَرُّقِ النَّقْصِ وَالِاخْتِلافِ إِلَيْهِ، وَبِتَشَابُهِهِ كَوْنُهُ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي الْحَقِّ وَالصِّدْقِ وَالإِعْجَازِ.

وَالآيَاتُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُؤَلِّفُ هِيَ أَمْثِلَةٌ لِلآيَاتِ الْمُحْكَمَةِ الَّتِي لا يَجُوزُ تَأْوِيلُهَا أَيْ إِخْرَاجُهَا عَنْ ظَاهِرِهَا لِأَنَّ إِخْرَاجَ النَّصِّ عَنْ ظَاهِرِهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ نَقْلِيٍّ أَوْ عَقْلِيٍّ عَبَثٌ لا يَجُوزُ فِي كَلامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلا فِي كَلامِ نَبِيِّهِ كَمَا قَالَ الرَّازِيُّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ وَقَوْلُهُ: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ [سُورَةَ فَاطِر/10] فَلا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِهِمَا وَرَدِّهِمَا إِلَى الآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ، وَلا يَجُوزُ تَرْكُ التَّأْوِيلِ وَالْحَمْلُ عَلَى الظَّاهِرِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ ضَرْبُ الْقُرْءَانِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ وَقَوْلِهِ: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ تَحَيُّزُ اللَّهِ تَعَالَى فِي جِهَةِ فَوْقٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ ظَاهِرُهُ أَنَّ اللَّهَ فِي أُفُقِ الأَرْضِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ: ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي﴾ ظَاهِرُهُ أَنَّ اللَّهَ سَاكِنٌ فِلَسْطِينَ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أَرَادَ الذَّهَابَ إِلَيْهَا وَهَذِهِ الآيَةُ أَيْضًا ظَاهِرُهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي جِهَةِ تَحْتٍ، فَإِنْ تَرَكْنَا هَذِهِ الآيَاتِ عَلَى ظَوَاهِرِهَا كَانَ ذَلِكَ تَنَاقُضًا وَلا يَجُوزُ وُقُوعُ التَّنَاقُضِ فِي الْقُرْءَانِ فَوَجَبَ تَرْكُ الأَخْذِ بِظَوَاهِرِ هَذِهِ الآيَاتِ وَالرُّجُوعُ إِلَى ءَايَةِ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾.

وَأَمَّا مَنْ قَالَ جِهَةُ فَوْقٍ تَلِيقُ بِاللَّهِ وَجِهَةُ تَحْتٍ نَقْصٌ عَلَى اللَّهِ فَلِذَلِكَ لا نُؤَوِّلُ الآيَاتِ الَّتِي تَدُلُّ ظَوَاهِرُهَا عَلَى أَنَّهُ فِي جِهَةِ فَوْقٍ بَلْ نُؤَوِّلُ الآيَاتِ الَّتِي تَدُلُّ ظَوَاهِرُهَا عَلَى أَنَّهُ فِي جِهَةِ تَحْتٍ فَالْجَوَابُ: أَنَّ جِهَةَ فَوْقٍ مَسْكَنُ الْمَلائِكَةِ وَكَذَلِكَ مَدَارُ النُّجُومِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ جِهَةُ فَوْقٍ، وَلَيْسَ هَؤُلاءِ أَفْضَلَ مِنَ الأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ مَنْشَؤُهُمْ فِي جِهَةِ تَحْتٍ وَحَيَاتُهُمْ فِي جِهَةِ تَحْتٍ إِلَى أَنْ يَمُوتُوا فَيُدْفَنُوا فِيهَا. وَالأَنْبِيَاءُ أَفْضَلُ مِنَ الْمَلائِكَةِ لِأَنَّ اللَّهَ أَسْجَدَ لِآدَمَ الْمَلائِكَةَ فَسَجَدُوا لَهُ، وَالْمَسْجُودُ لَهُ أَفْضَلُ مِنَ السَّاجِدِ فَبَطَلَ قَوْلُكُمْ جِهَةُ فَوْقٍ كَمَالٌ لِلَّهِ وَجِهَةُ التَّحْتِ نَقْصٌ عَلَى اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ لا يَتَشَرَّفُ بِشَىْءٍ مِنْ خَلْقِهِ، فَلا يَتَشَرَّفُ بِالْعَرْشِ وَمَنْ زَعَمَ ذَلِكَ جَعَلَ اللَّهَ مُحْتَاجًا لِغَيْرِهِ وَالِاحْتِيَاجُ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ بَلِ التَّحَيُّزُ فِي جِهَةِ فَوْقٍ أَوْ غَيْرِهَا نَقْصٌ عَلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ التَّحَيُّزِ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَدٌّ وَمِقْدَارٌ وَالْمِقْدَارُ لِلْمَخْلُوقِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَكُلُّ شَىْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ [سُورَةَ الرَّعْد/8]. الْعَرْشُ لَهُ مِقْدَارٌ وَالذَّرَّةُ لَهَا مِقْدَارٌ وَكَذَلِكَ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الأَحْجَامِ وَالأَجْسَامِ الْمُخْتَلِفَةِ. ثُمَّ إِنَّ الْمَلِكَ وَالسُّلْطَانَ قَدْ يَكُونَانِ يَسْكُنَانِ فِي بَطْنِ الْوَادِي وَحُرَّاسُهُمَا يَكُونُونَ عَلَى الأَعَالِي، فَهَذَا الْقِيَاسُ الَّذِي تَعْتَبِرُهُ الْوَهَّابِيَّةُ قِيَاسٌ فَاسِدٌ لا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ إِلَّا مَنْ هُوَ ضَعِيفُ الْعَقْلِ فَاسِدُ الْفَهْمِ، فَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ الأَشَاعِرَةِ وَالْمَاتُرِيدِيَّةِ هُوَ الصَّوَابُ السَّدِيدُ الْمُوَافِقُ لِلْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ.



الآيَاتُ الْمُتَشَابِهَةُ

وَالْمُتَشَابِهُ هُوَ مَا لَمْ تَتَّضِحْ دِلالَتُهُ أَوْ يَحْتَمِلُ أَوْجُهًا عَدِيدَةً وَاحْتَاجَ إِلَى النَّظَرِ لِحَمْلِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُطَابِقِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾.

الشَّرْحُ الْمُتَشَابِهُ هُوَ الَّذِي دِلالَتُهُ عَلَى الْمُرَادِ غَيْرُ وَاضِحَةٍ، أَوْ كَانَ يَحْتَمِلُ بِحَسَبِ وَضْعِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَوْجُهًا عَدِيدَةً، وَاحْتِيجَ لِمَعْرِفَةِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنْهُ لِنَظَرِ أَهْلِ النَّظَرِ وَالْفَهْمِ الَّذِينَ لَهُمْ دِرَايَةٌ بِالنُّصُوصِ وَمَعَانِيهَا وَلَهُمْ دِرَايَةٌ بِلُغَةِ الْعَرَبِ فَلا تَخْفَى عَلَيْهِمُ الْمَعَانِي إِذْ لَيْسَ لِكُلِّ إِنْسَانٍ يَقْرَأُ الْقُرْءَانَ أَنْ يُفَسِّرَهُ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [سُورَةَ طَه/5] أَنَّهُ جَالِسٌ عَلَى الْعَرْشِ وَلا أَنَّهُ مُسْتَقِرٌّ عَلَيْهِ وَلا أَنَّ اللَّهَ بِإِزَاءِ الْعَرْشِ بَلْ كُلُّ هَذَا لا يَلِيقُ بِاللَّهِ، نَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ اسْتَوَى اسْتِوَاءً عَلَى الْعَرْشِ يَلِيقُ بِهِ وَلا نَعْتَقِدُ بِشَىْءٍ مِنْ هَذِهِ الأَشْيَاءِ الْجُلُوسَ وَالِاسْتِقْرَارَ وَالْمُحَاذَاةَ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [سُورَةَ فَاطِر/10] أَيْ أَنَّ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ كَلا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَصْعَدُ إِلَى مَحَلِّ كَرَامَتِهِ وَهُوَ السَّمَاءُ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ أَيِ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ يَرْفَعُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ وَهَذَا مُنْطَبِقٌ وَمُنْسَجِمٌ مَعَ الآيَةِ الْمُحْكَمَةِ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾.

الشَّرْحُ هَذَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي يَعْلَمُ مَعْنَاهُ الرَّاسِخُونَ، فَالْكَلِمُ الطَّيِّبُ هُوَ كَلا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَشْمَلُ كُلَّ عَمَلٍ صَالِحٍ يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ كَنَحْوِ الصَّلاةِ وَالصَّدَقَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ، فَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ أَيْ يَتَقَبَّلُهُ، هَذَا لَيْسَ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ لَهُ حَيِّزٌ يَتَحَيَّزُ فِيهِ وَيَسْكُنُهُ.

فَالسَّمَاءُ مَحَلُّ كَرَامَةِ اللَّهِ أَيِ الْمَكَانُ الَّذِي هُوَ مُشَرَّفٌ عِنْدَ اللَّهِ لِأَنَّهَا مَسْكَنُ الْمَلائِكَةِ، هَذَا التَّفْسِيرُ مُوَافِقٌ لِلآيَةِ الْمُحْكَمَةِ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَتَفْسِيرُ الآيَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ يَجِبُ أَنَّ يُرَدَّ إِلَى الآيَاتِ الْمُحْكَمَةِ، هَذَا فِي الْمُتَشَابِهِ الَّذِي يَجُوزُ لِلْعُلَمَاءِ أَنْ يَعْلَمُوهُ.

الشَّرْحُ مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَسِّرَ الْمُتَشَابِهَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِلآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ كَتَفْسِيرِ الِاسْتِوَاءِ بِالْقَهْرِ فَإِنَّهُ مُوَافِقٌ لِلْمُحْكَمَاتِ، كَذَلِكَ تَفْسِيرُ ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ بِمَحَلِّ كَرَامَتِهِ وَهِيَ السَّمَاءُ مُوَافِقٌ لِلْمُحْكَمَاتِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَمَّا الْمُتَشَابِهُ الَّذِي أُرِيدَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان/7] عَلَى قِرَاءَةِ الْوَقْفِ عَلَى لَفْظِ الْجَلالَةِ فَهُوَ مَا كَانَ مِثْلَ وَجْبَةِ الْقِيَامَةِ، وَخُرُوحِ الدَّجَّالِ عَلَى التَّحْدِيدِ، فَلَيْسَ مِنْ قَبِيلِ ءَايَةِ الِاسْتِوَاءِ.

الشَّرْحُ وَجْبَةُ الْقِيَامَةِ أَيِ الْوَقْتُ الْمُحَدَّدُ الَّذِي تَقَعُ فِيهِ الْقِيَامَةُ. فَوَجْبَةُ الْقِيَامَةِ وَخُرُوجُ الدَّجَّالِ لا يَعْلَمُهُمَا عَلَى التَّحْدِيدِ إِلَّا اللَّهُ، لا يَعْلَمُهُمَا أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ لا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَلا غَيْرُهُمْ بِدَلِيلِ قَوْلِ الرَّسُولِ لِجِبْرِيلَ حِينَ سَأَلَهُ عَنِ السَّاعَةِ أَيِ الْقِيَامَةِ «مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ»، وَهُوَ جُزْءٌ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ حِبَّانَ، فَإِذَا كَانَ جِبْرِيلُ وَسَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ لا يَعْلَمَانِ ذَلِكَ فَغَيْرُهُمَا أَوْلَى بِأَنْ لا يَعْلَمَ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُتَشَابِهَ قِسْمَانِ قِسْمٌ لا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ وَقِسْمٌ يَعْلَمُهُ بَعْضُ مَنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ. الَّذِي لا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ مِثْلُ وَجْبَةِ الْقِيَامَةِ ذَاكَ لا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ عَلَى التَّحْدِيدِ إِلَّا اللَّهُ وَكَذَلِكَ خُرُوجُ الدَّجَّالِ وَأَمَّا الْمُتَشَابِهُ الَّذِي يَعْلَمُهُ بَعْضُ عِبَادِ اللَّهِ فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾، وَقَوْلِهِ: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ وَنَحْوِ ذَلِكَ، هَذَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُهُ بَعْضُ عِبَادِ اللَّهِ لَكِنْ لا يُقْطَعُ بِأَنَّ مُرَادَ اللَّهِ بِالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ الْقَهْرُ إِنَّمَا يُظَنُّ ظَنًّا رَاجِحًا. فَالْمَذْمُومُونَ الَّذِينَ ذَمَّهُمُ اللَّهُ فِي الْقُرْءَانِ بِقَوْلِهِ: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان/7] هُمُ الَّذِينَ يُحَاوِلُونَ تَحْدِيدَ وَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ وَخُرُوجِ الدَّجَّالِ وَالَّذِينَ يُحَاوِلُونَ تَفْسِيرَ الْقِسْمِ الآخَرِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ عَلَى وَجْهٍ فَاسِدٍ كَالتَّشْبِيهِ، كِلا الْفَرِيقَيْنِ مَذْمُومٌ، فَالتَّأْوِيلُ إِذَا كَانَ عَلَى الْوَجْهِ السَّائِغِ شَرْعًا لا يُذَمُّ فَاعِلُهُ بَلْ يُمْدَحُ. وَإِطْلاقُ الْوَهَّابِيَّةِ قَوْلَهُمْ «التَّأْوِيلُ تَعْطِيلٌ وَزَيْغٌ» كَلامٌ بَاطِلٌ، كَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ التَّأْوِيلُ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ كَأَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ الَّذِي تَعْتَزُّ بِهِ الْوَهَّابِيَّةُ مَعَ أَنَّهُمْ مُخَالِفُونَ لَهُ فِي الِاعْتِقَادِ وَفِي الأَحْكَامِ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ أَوَّلَ ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ بِمَجِيءِ الْقُدْرَةِ أَيْ ءَاثَارِ قُدْرَةِ اللَّهِ الْعَظِيمَةِ مِمَّا يَظْهَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَخُرُوجِ عُنُقٍ مِنْ جَهَنَّمَ لِيَرَاهُ الْكُفَّارُ فَيَفْزَعُوا بِرُؤْيَتِهِ وَهُمْ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ، وَشَهَادَةِ الأَيْدِي وَالأَرْجُلِ بِمَا كَسَبَهُ الْكُفَّارُ مَعَ الْخَتْمِ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ. يَعْتَقِدُونَ التَّشْبِيهَ الصَّرِيحَ لِخَالِقِهِمْ وَيَدَّعُونَ أَنَّهُمْ عَلَى مَذْهَبِ أَحْمَدَ، فَالْمُشَبِّهَةُ مِنَ الْوَهَّابِيَّةِ وَسَلَفِهِمْ كَابْنِ حَامِدٍ [وَالزَّاغونِيِّ شَاذُّونَ عَنْ عَقِيدَةِ أَحْمَدَ فَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمٰنِ بنُ الْجَوْزِيِّ الْحَنْبَلِيُّ عَنْ سَلَفِ الْوَهَّابِيَّةِ فِي التَّشْبِيهِ كَابْنِ حَامِدٍ هَذَا فِي إِحْدَى ثَلاثِ مُؤَلَّفَاتٍ أَلَّفَهَا فِي إِبْطَالِ التَّشْبِيهِ وَهُوَ كِتَابُ أَخْبَارِ الصِّفَاتِ وَلَمَّا عَلِمَ بِكِتَابِي هَذَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْجَهَلَةِ لَمْ يُعْجِبْهُمْ لِأَنَّهُمْ أَلِفُوا كَلامَ رُؤَسَائِهِمُ الْمُجَسِّمَةِ وَقَالُوا لَيْسَ هَذَا الْمَذْهَبَ قُلْتُ لَيْسَ بِمَذْهَبِكُمْ وَلا بِمَذْهَبِ مَنْ قَلَّدْتُمْ مِنْ أَشْيَاخِكُمْ فَقَدْ نَزَّهْتُ مَذْهَبَ الإِمَامِ أَحْمَدَ وَنَفَيْتُ عَنْهُ كَذِبَ الْمَنْقُولاتِ وَهَذَيَانَ الْمَعْقُولاتِ غَيْرَ مُقَلِّدِ فِيمَا أَعْتَقِدُهُ. فَكَيْفَ أَتْرُكُ بَهْرَجًا وَأَنَا أَنْقُضُهُ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ ءَاخَرَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ عَنْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يُجَسِّمُونَ اللَّهَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِنَّهُمْ شَانُوا الْمَذْهَبَ اهـ. وَمَا أَبْعَدَ هَؤُلاءِ الْحَنَابِلَةَ الْمُجَسِّمَةَ عَنْ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ كَفَّرَ مَنْ يَقُولُ اللَّهُ جِسْمٌ لا كَالأَجْسَامِ نَقَلَ ذَلِكَ عَنْهُ صَاحِبُ الْخِصَالِ وَهُوَ حَنْبَلِيٌّ.

وَقَالَ وَقَدْ رَأَيْتُ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ تَكَلَّمَ فِي الأُصُولِ بِمَا لا يَصْلُحُ وَانْتُدِبَ لِلتَّصْنِيفِ ثَلاثَةٌ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بنُ حَامِدٍ وَصَاحِبُهُ الْقَاضِي وَابْنُ الزاغونِيِّ فَصَنَّفُوا كُتُبًا شَانُوا بِهَا الْمَذْهَبَ فَحَمَلُوا الصِّفَاتِ عَلَى مُقْتَضَى الْحِسِّ فَسَمِعُوا أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ ءَادَمَ عَلَى صُورَتِهِ فَأَثْبَتُوا صُورَةً وَوَجْهًا زَائِدًا عَلَى الذَّاتِ وَعَيْنَيْنِ وَفَمًا وَلَهَواتٍ وَأَضْرَاسًا وَجِهَةً هِيَ السَّحَابُ وَيَدَيْنِ وَأَصَابِعَ وَخِنْصِرًا وَإِبْهَامًا وَصَدْرًا وَفَخِذًا وَسَاقَيْنِ وَرِجْلَيْنِ، وَقَالُوا مَا سَمِعْنَا ذِكْرَ الرَّأْسِ، وَقَالُوا أَنْ يَمَسَّ وَيُمَسَّ وَأَنْ يُدنِيَ الْعَبْدَ مِنْ ذَاتِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَيَتَنَفَّسُ، ثُمَّ هُمْ يُرْضُونَ الْعَوَامَّ بِقَوْلِهِمْ لا كَمَا يُعْقَلُ، وَقَدْ أَخَذُوا بِالظَّوَاهِرِ فِي الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ فَسَمَّوْهَا بِالصِّفَاتِ تَسْمِيَةً مُبْتَدَعَةً لا دَلِيلَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنَ النَّقْلِ وَلا مِنَ الْعَقْلِ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى النُّصُوصِ الصَّارِفَةِ عَنِ الظَّوَاهِرِ إِلَى الْمَعَانِي الْوَاجِبَةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَلا إِلَى الْعِلْمِ بِمَا تُوجِبُهُ الظَّوَاهِرُ مِنْ سِمَاتِ الْحُدُوثِ وَلَمْ يَقْنَعُوا أَنْ يَقُولُوا صِفَةُ فِعْلٍ حَتَّى قَالُوا صِفَةُ ذاتٍ ثُمَّ لَمَّا أَثْبَتُوا بِهَا صِفَاتٍ قَالُوا لا نَحْمِلُهَا عَلَى مَا تُوجِبُهُ اللُّغَةُ مِثْلِ يَدٍ عَلَى قُدْرَةٍ أَوْ نِعْمَةٍ وَلا مَجِيءٍ وَإِتْيَانٍ عَلَى مَعْنَى بِرٍّ وَلُطْفٍ وَالسَّاقِ عَلَى الشِّدَّةِ بَلْ قَالُوا نَحْمِلُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا وَالظَّاهِرُ هُوَ الْمَعْهُودُ مِنْ نُعُوتِ الآدَمِيِّينَ وَالشَّىْءُ إِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى حَقِيقَتِهِ إِذَا أَمْكَنَ فَإِنْ صُرِفَ صَارِفٌ حُمِل عَلَى الْمَجَازِ وَهُمْ يَتَحَرَّجُونَ مِنَ التَّشْبِيهِ وَقَدْ تَبِعَهُمْ خَلْقٌ مِنَ الْعَوَامِّ فَقَدْ فَضَحْتُ التَّابِعَ وَالْمَتْبُوعَ فَقُلْتُ لَهُمْ: يَا أَصْحَابَنَا أَنْتُمْ أَصْحَابُ نَقْلٍ وَاتِّبَاعٍ وَإِمَامُكُمُ الإِمَامُ الأَكْبَرُ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ كَانَ يَقُولُ وَهُوَ تَحْتَ السِّيَاطِ كَيْفَ أَقُولُ مَا لَمْ يُقَلْ فَإِيَّاكُمْ أَنْ تَبْتَدِعُوا فِي مَذْهَبِي مَا لَيْسَ مِنْهُ اهـ، إِلَى ءَاخِرِ مَا قَالَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ. وَهَذَا فِي الصَّحِيفَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ كِتَابِهِ أَخْبَارِ الصِّفَاتِ. [وَهُوَ مَخْطُوطٌ لَمْ يُطْبَعْ بَعْدُ].

وَنَقَلَ الْبَيَاضِيُّ الْحَنَفِيُّ فِي إِشَارَاتِ الْمَرَامِ عَنْ فَتْحِ الْقَدِيرِ تَكْفِيرَ مَنْ يَقُولُ اللَّهُ جِسْمٌ لا كَالأَجْسَامِ بِمُجَرَّدِ الإِطْلاقِ اهـ وَفِيهَا أَنَّ الآمِدِيَّ قَالَ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ وَهُوَ الْمَنَائِحُ: وَمَنْ وَصَفَهُ تَعَالَى بِكَوْنِهِ جِسْمًا مِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُ جِسْمٌ أَيْ مَوْجُودٌ لا كَالأَجْسَامِ كَبَعْضِ الْكَرَّامِيَّةِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ أَنَّهُ عَلَى صُورَةِ شَابٍّ أَمْرَدَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ عَلَى صُورَةِ شَيْخٍ أَشْمَطَ وَكُلُّ ذَلِكَ كُفْرٌ وَجَهْلٌ بِالرَّبِّ وَنِسْبَةُ النَّقْصِ الصَّرِيحِ إِلَيْهِ. تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا اهـ. وَقَالَ الْبَيَاضِيُّ فِي الإِشَارَاتِ (ص/200): فَمَنْ قَالَ لا أَعْرِفُ رَبِّي أَفِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الأَرْضِ فَهُوَ كَافِرٌ اهـ، وَقَالَ كَذَا مَنْ قَالَ أَنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ وَلا أَدْرِي الْعَرْشُ أَفِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الأَرْضِ اهـ. وَقَالَ الْبَيَاضِيُّ: إِنَّ الْقَائِلَ بِالْجِسْمِيَّةِ وَالْجِهَةِ مُنْكِرُ وُجُودِ مَوْجُودٍ سِوَى الأَشْيَاءِ الَّتِي يُمْكِنُ الإِشَارَةُ إِلَيْهَا حِسًّا فَهُمْ مُنْكِرُونَ لِذَاتِ الإِلَهِ الْمُنَزَّهِ عَنْ ذَلِكَ فَلَزِمَهُمُ الْكُفْرُ لا مَحَالَةَ اهـ.]

ثُمَّ إِنَّهُمْ أَيِ الْوَهَّابِيَّةَ يُنَاقِضُونَ أَنْفُسَهُمْ فَهَذَا الذَّمُّ يَرْجِعُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ يُؤَوِّلُونَ الآيَاتِ الَّتِي تُوهِمُ أَنَّ اللَّهَ فِي جِهَةِ تَحْتٍ، أَمَّا الآيَاتُ الَّتِي تُوهِمُ أَنَّ اللَّهَ فِي جِهَةِ فَوْقٍ يَتْرُكُونَ تَأْوِيلَهَا وَيَحْمِلُونَهَا عَلَى الظَّاهِرِ.

فيَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ قِرَاءَةُ الْوَقْفِ عَلَى لَفْظِ الْجَلالَةِ تُحْمَلُ عَلَى الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَقِرَاءَةُ الْوَصْلِ تُحْمَلُ عَلَى الْقِسْمِ الَّذِي يُطْلِعُ اللَّهُ بَعْضَ عِبَادِهِ عَلَى تَأْوِيلِهِ، ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾، فَلا تَنَاقُضَ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اعْمَلُوا بِمُحْكَمِهِ وَءَامِنُوا بِمُتَشَابِهِهِ» ضَعِيفٌ ضَعْفًا خَفِيفًا.

الشَّرْحُ مَعْنَى قَوْلِهِ: «اعْمَلُوا بِمُحْكَمِهِ» أَيِ الْقُرْءَانِ، وَقَوْلِهِ: «وَءَامِنُوا بِمُتَشَابِهِهِ» أَيْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَتَوَهَّمُوا أَنَّ مَعَانِيهَا مِنْ مَعَانِي الأَجْسَامِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْعُلَمَاءِ عَنِ الآيَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ: «أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلا كَيْفٍ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.

وَالْحِكْمَةُ مِنَ الآيَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ أَنْ يَبْتَلِيَ عِبَادَهُ حَتَّى يَكُونَ لِلَّذِي يَحْمِلُهَا عَلَى مَحْمِلِهَا أَجْرٌ عَظِيمٌ، وَيَرْجِعُ الْمَعْنَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [سُورَةَ الْمُدَّثِر/31]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنِ الْقُرْءَانِ: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/26]. فَالْقُرْءَانُ لَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يَهْتَدِي بِهِ إِنَّمَا يَهْتَدِي بِهِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ لَهُ الْهُدَى.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَالَ الْمُحَدِّثُ اللُّغَوِيُّ الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ مُرْتَضَى الزَّبِيدِيُّ فِي شَرْحِهِ الْمُسَمَّى «إِتْحَافُ السَّادَةِ الْمُتَّقِينَ» نَقْلًا عَنْ كِتَابِ التَّذْكِرَةِ الشَّرْقِيَّةِ لِأَبِي نَصْرٍ الْقُشَيْرِيِّ مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان/7] إِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ وَقْتَ قِيَامِ السَّاعَةِ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا وَمَتَى وُقُوعُهَا.

الشَّرْحُ أَيْ أَنَّ الْمُتَشَابِهَ الَّذِي لا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ هُوَ كَوَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ مَعْنَاهُ ذَلِكَ لا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَالْمُتَشَابِهُ إِشَارَةٌ إِلَى عِلْمِ الْغَيْبِ، فَلَيْسَ يَعْلَمُ عَوَاقِبَ الأُمُورِ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف/53] أَيْ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا قِيَامَ السَّاعَةِ، وَكَيْفَ يَسُوغُ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مَا لا سَبِيلَ لِمَخْلُوقٍ إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَلا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ أَلَيْسَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْقَدْحِ فِي النُّبُوَّاتِ؟ وَأَنَّ النَّبِيَّ مَا عَرَفَ تَأْوِيلَ مَا وَرَدَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَدَعَا الْخَلْقَ إِلَى عِلْمِ مَا لا يُعْلَمُ؟

الشَّرْحُ مَعْنَاهُ لا يَلِيقُ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ فِي الْقُرْءَانِ يُوجَدُ مَا لا سَبِيلَ لِمَخْلُوقٍ إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَلا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْقَدْحِ فِي النُّبُوَّاتِ يَعْنِي جَرْحٌ فِي أُمُورِ النُّبُوَّاتِ، وَفِيهِ مَا يَتَضَمَّنُ أَنَّ النَّبِيَّ مَا عَرَفَ تَأْوِيلَ مَا وَرَدَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَدَعَا الْخَلْقَ إِلَى عِلْمِ مَا لا يُعْلَمُ أَيْ أَنَّهُ هُوَ نَفْسُهُ لا يَعْرِفُ وَدَعَا النَّاسَ إِلَى عِلْمِ مَا لا يُعْلَمُ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ﴾ [سُورَةَ الشُّعَرَاء/195] فَإِذًا عَلَى زَعْمِهِمْ يَجِبُ أَنْ يَقُولُوا كَذَبَ حَيْثُ قَالَ: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ﴾ إِذْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ.

الشَّرْحُ مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَرَبَ الَّذِينَ جَاءَهُمْ لِيَدْعُوَهُمْ إِلَى الإِيـمَانِ بِالْقُرْءَانِ سَيَقُولُونَ كَيْفَ يَقُولُ أُنْزِلَ عَلَيَّ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ أَيْ ظَاهِرٍ ثُمَّ نَحْنُ لا نَعْرِفُ، كَيْفَ صَارَ إِذًا مُبِينًا إِنْ كَانَ لا يُعْلَمُ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِلَّا فَأَيْنَ هَذَا الْبَيَانُ وَإِذَا كَانَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ فَكَيْفَ يَدَّعِي أَنَّهُ مِمَّا لا تَعْلَمُهُ الْعَرَبُ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ الشَّىْءُ عَرَبِيًّا، فَمَا قَوْلٌ فِي مَقَالٍ مَآلُهُ إِلَى تَكْذِيبِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ.

الشَّرْحُ مَعْنَاهُ هَذَا يُؤَدِّي إِلَى تَكْذِيبِ اللَّهِ فِي كَلامِهِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: ثُمَّ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَوْ كَانَ فِي كَلامِهِ وَفِيمَا يُلْقِيهِ إِلَى أُمَّتِهِ شَىْءٌ لا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى لَكَانَ لِلْقَوْمِ أَنْ يَقُولُوا بَيِّنْ لَنَا أَوَّلًا مَنْ تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَمَا الَّذِي تَقُولُ فَإِنَّ الإِيـمَانَ بِمَا لا يُعْلَمُ أَصْلُهُ غَيْرُ مُتَأَتٍّ - أَيْ لا يُمْكِنُ - هَذَا مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَرَبَ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ كَانُوا قَالُوا لَهُ هَذَا لا يُمْكِنُ. وَنِسْبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنَّهُ دَعَا إِلَى رَبٍّ مَوْصُوفٍ بِصِفَاتٍ لا تُعْقَلُ أَمْرٌ عَظِيمٌ لا يَتَخَيَّلُهُ مُسْلِمٌ.

الشَّرْحُ أَيْ لا يُعْقَلُ أَنْ يَدْعُوَ الرَّسُولُ إِلَى الإِيـمَانِ بِرَبٍّ لا تُعْقَلُ صِفَاتُهُ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنَّ الْجَهْلَ بِالصِّفَاتِ يُؤَدِّي إِلَى الْجَهْلِ بِالْمَوْصُوفِ.

الشَّرْحُ لَوْ كَانَ اللَّهُ لا تُعْلَمُ صِفَاتُهُ مَعْنَاهُ أَنَّ الذَّاتَ أَيْضًا غَيْرُ مَعْلُومٍ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْغَرَضُ أَنْ يَسْتَبِينَ مَنْ مَعَهُ مُسْكَةٌ مِنَ الْعَقْلِ أَنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: «اسْتِوَاؤُهُ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لا يُعْقَلُ مَعْنَاهَا، وَالْيَدُ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لا يُعْقَلُ مَعْنَاهَا، وَالْقَدَمُ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لا يُعْقَلُ مَعْنَاهَا» تَمْوِيهٌ ضِمْنَهُ تَكْيِيفٌ وَتَشْبِيهٌ وَدُعَاءٌ إِلَى الْجَهْلِ وَقَدْ وَضَحَ الْحَقُّ لِذِي عَيْنَيْنِ.

الشَّرْحُ مَعْنَاهُ اسْتِوَاءُ اللَّهِ عَلَى الْعَرْشِ لَيْسَ شَيْئًا مَعْلُومًا عَلَى هَذَا الرَّأْيِ الْفَاسِدِ، وَالْقُرْءَانُ مَذْكُورٌ فِيهِ أَنَّهُ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، وَهَذَا لا يَتَّفِقُ مَعَ هَذَا. وَإِذَا قَالَ قَائِلٌ الْيَدُ صِفَةٌ لِلَّهِ لا يُعْقَلُ مَعْنَاهَا وَالْقَدَمُ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لا يُعْقَلُ مَعْنَاهَا يَكُونُ هَذَا تَمْوِيهًا، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «مُسْكَةٌ مِنَ الْعَقْلِ» أَيْ شَىْءٌ مِنَ الْعَقْلِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَيْتَ شِعْرِي هَذَا الَّذِي يُنْكِرُ التَّأْوِيلَ يَطَّرِدُ هَذَا الإِنْكَارَ فِي كُلِّ شَىْءٍ وَفِي كُلِّ ءَايَةٍ أَمْ يَقْنَعُ بِتَرْكِ التَّأْوِيلِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى.

الشَّرْحُ مَعْنَاهُ هَذَا الَّذِي يُنْكِرُ التَّأْوِيلَ هَلْ هُوَ يُدْخِلُ هَذَا فِي كُلِّ شَىْءٍ وَفِي كُلِّ ءَايَةٍ أَمْ فِي صِفَاتِ اللَّهِ فَقَطْ يَمْنَعُ وَيَنْفِي؟ وَقَوْلُهُ: «يَطَّرِدُ هَذَا الإِنْكَارَ» مَعْنَاهُ هَلْ يُعَمِّمُ هَذَا الإِنْكَارَ أَمْ فِي مَوَاضِعَ يَرَاهَا هُوَ فَقَطْ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ التَّأْوِيلِ أَصْلًا فَقَدْ أَبْطَلَ الشَّرِيعَةَ وَالْعُلُومَ إِذْ مَا مِنْ ءَايَةٍ (مِنَ الآيَاتِ الَّتِي اخْتُلِفَ فِيهَا مِنْ حَيْثُ التَّأْوِيلُ وَتَرْكُهُ) وَخَبَرٍ إِلَّا وَيَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ وَتَصَرُّفٍ فِي الْكَلامِ (إِلَّا الْمُحْكَمُ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ﴾ [سُورَةَ الْحَدِيد/3] مِمَّا وَرَدَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ، وَقَوْلِهِ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ﴾ [سُورَةَ الْمَائِدَة/3] الآيَةَ مِمَّا وَرَدَ فِي الأَحْكَامِ)، لِأَنَّ ثَمَّ أَشْيَاءَ لا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِهَا لا خِلافَ بَيْنَ الْعُقَلاءِ فِيهِ إِلَّا الْمُلْحِدَةَ الَّذِينَ قَصْدُهُمُ التَّعْطِيلُ لِلشَّرَائِعِ، وَالِاعْتِقَادُ لِهَذَا يُؤَدِّي إِلَى إِبْطَالِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ التَّمَسُّكِ بِالشَّرْعِ بِزَعْمِهِ.

الشَّرْحُ الَّذِي يَمْنَعُ التَّأْوِيلَ مُطْلَقًا أَيْ فِي الصِّفَاتِ وَفِي غَيْرِ الصِّفَاتِ أَبْطَلَ الشَّرِيعَةَ لِأَنَّهُ لا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنِ الرِّيحِ: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا﴾ [سُورَةَ الأَحْقَاف/25] فَهَلْ تِلْكَ الرِّيحُ دَمَّرَتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ؟ هَلْ دَمَّرَتِ الْجَنَّةَ وَجَهَنَّمَ؟ إِنَّمَا دَمَّرَتِ الأَشْيَاءَ الَّتِي هِيَ عَادَةً يَعِيشُونَ فِيهَا. فَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ ثَمَّةَ نُصُوصًا لا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِهَا وَلا يَجُوزُ حَمْلُهَا عَلَى الظَّاهِرِ. فَالَّذِي يَدَّعِي التَّمَسُّكَ بِالشَّرْعِ وَيَنْفِي التَّأْوِيلَ يُنَاقِضُ نَفْسَهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ بِنَفْيِ التَّأْوِيلِ يَنْقُضُ قَوْلَهُ بِالتَّمَسُّكِ بِالشَّرِيعَةِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِنْ قَالَ يَجُوزُ التَّأْوِيلُ عَلَى الْجُمْلَةِ (أَيْ فِي بَعْضِ الأَحْوَالِ) إِلَّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِاللَّهِ وَبِصِفَاتِهِ فَلا تَأْوِيلَ فِيهِ، فَهَذَا مَصِيرٌ مِنْهُ إِلَى أَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّانِعِ [أَيِ الْخَالِقِ] وَصِفَاتِهِ يَجِبُ التَّقَاصِي عَنْهُ - أَيِ الْبُعْدُ عَنْهُ -. وَهَذَا لا يَرْضَى بِهِ مُسْلِمٌ. وَسِرُّ الأَمْرِ أَنَّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَمْتَنِعُونَ عَنِ التَّأْوِيلِ مُعْتَقِدُونَ حَقِيقَةَ التَّشْبِيهِ غَيْرَ أَنَّهُمْ يُدَلِّسُونَ وَيَقُولُونَ لَهُ يَدٌ لا كَالأَيْدِي وَقَدَمٌ لا كَالأَقْدَامِ وَاسْتِوَاءٌ بِالذَّاتِ لا كَمَا نَعْقِلُ فِيمَا بَيْنَنَا، فَلْيَقُلِ الْمُحَقِّقُ هَذَا كَلامٌ لا بُدَّ مِنَ اسْتِبْيَانٍ، قَوْلُكُمْ نُجْرِي الأَمْرَ عَلَى الظَّاهِرِ وَلا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ تَنَاقُضٌ.

الشَّرْحُ فَلْيَقُلِ الْمُحَقِّقُ يَعْنِي أَهْلَ الْحَقِّ أَهْلَ الْفَهْمِ، مَعْنَاهُ قَوْلُكُمْ هَذَا فِيهِ إِشْكَالٌ إِنْ قُلْتُمْ نُجْرِي الأَمْرَ عَلَى الظَّاهِرِ فَلْيَقُلِ الَّذِي عَلَى الْحَقِّ لِهَؤُلاءِ الضَّالِّينَ: هَذَا كَلامٌ لا بُدَّ مِنَ اسْتِبْيَانٍ فَهَلْ تُجْرُونَ الأَمْرَ عَلَى الظَّاهِرِ؟، وَهَؤُلاءِ الَّذِينَ يَمْتَنِعُونَ عَنِ التَّأْوِيلِ وَهُمْ مُعْتَقِدُونَ التَّشْبِيهَ يُدَلِّسُونَ أَيْ يُمَوِّهُونَ عَلَى النَّاسِ فَيَقُولُونَ بِاللِّسَانِ: لَهُ يَدٌ لا كَالأَيْدِي وَقَدَمٌ لا كَالأَقْدَامِ وَفِي الِاعْتِقَادِ يَعْتَقِدُونَ الْجَارِحَةَ، وَيَقُولُونَ بِاللَّفْظِ اسْتِوَاءُ اللَّهِ اسْتِوَاءٌ بِالذَّاتِ لا كَمَا نَعْقِلُ وَفِي الِاعْتِقَادِ يَعْتَقِدُونَ الْجِسْمَ الَّذِي تَعْرِفُهُ النُّفُوسُ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنْ أَجْرَيْتَ عَلَى الظَّاهِرِ فَظَاهِرُ السِّيَاقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾ [سُورَةَ الْقَلَم/42] هُوَ الْعُضْوُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ وَالْعَظْمِ وَالْعَصَبِ وَالْمُخِّ.

الشَّرْحُ مَعْنَاهُ إِنْ حَمَلَتُمُ الآيَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا فَقَدْ أَثْبَتُّمْ لِلَّهِ هَذَا الْعُضْوَ الَّذِي نَعْرِفُهُ مِنْ أَنْفُسِنَا، وَالْمُخُّ هُوَ السَّائِلُ الَّذِي فِي دَاخِلِ الْعَظْمِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ أَخَذْتَ بِهَذَا الظَّاهِرِ وَالْتَزَمْتَ بِالإِقْرَارِ بِهَذِهِ الأَعْضَاءِ فَهُوَ الْكُفْرُ.

الشَّرْحُ الَّذِي يَعْتَقِدُ فِي اللَّهِ الْجِسْمَ كَافِرٌ، وَيُقَالُ لِمَنْ يَقُولُ: «نَحْنُ لا نُكَفِّرُ وَلَوْ أَثْبَتُوا لِلَّهِ الأَعْضَاءَ»: هَذَا الإِمَامُ الْقُشَيْرِيُّ مُتَقَدِّمٌ وَقَدْ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ.

وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ﴾ [سُورَةَ الْقَلَم/42] أَيْ يُكْشَفُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ شِدَّةٍ شَدِيدَةٍ وَهَوْلٍ شَدِيدٍ، أَيْ عَنْ أَمْرٍ شَدِيدٍ بَالِغٍ فِي الصُّعُوبَةِ، أَمَّا الْمُشَبِّهَةُ يَقُولُونَ ﴿عَنْ سَاقٍ﴾ أَيِ اللَّهُ تَعَالَى يَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ﴾ هَذَا السُّجُودُ سُجُودُ امْتِحَانٍ حَتَّى يَتَمَيَّزَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ كَانُوا يَسْجُدُونَ لِلَّهِ تَعَالَى عَنْ نِيَّةٍ وَإِخْلاصٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَتَظَاهَرُونَ بِالإِسْلامِ وَلَمْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ إِنَّمَا كَانُوا يَسْجُدُونَ فِي الدُّنْيَا مَعَ الْمُسْلِمِينَ أَحْيَانًا، أَيْ حَتَّى يَنْكَشِفَ أَمْرُ هَؤُلاءِ وَيَنْفَضِحُوا يَأْمُرُ اللَّهُ النَّاسَ بِالسُّجُودِ، فَالْمُؤْمِنُونَ يَسْجُدُونَ وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَلا يَسْتَطِيعُونَ لِأَنَّ ظُهُورَهُمْ لا تُطَاوِعُهُمْ عَلَى السُّجُودِ فَيَفْتَضِحُونَ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ﴾ [سُورَةَ الْقِيَامَة/29] أَيْ سَاقُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ شِدَّةِ الزَّحْمَةِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْكَ الأَخْذُ بِهَا (أَيْ إِنْ كُنْتَ لا تَقُولُ ذَلِكَ) فَأَيْنَ الأَخْذُ بِالظَّاهِرِ. أَلَسْتَ قَدْ تَرَكْتَ الظَّاهِرَ وَعَلِمْتَ تَقَدُّسَ الرَّبِّ تَعَالَى عَمَّا يُوهِمُ الظَّاهِرُ فَكَيْفَ يَكُونُ أَخْذًا بِالظَّاهِرِ، وَإِنْ قَالَ الْخَصْمُ هَذِهِ الظَّوَاهِرُ لا مَعْنَى لَهَا أَصْلًا فَهُوَ حُكْمٌ بِأَنَّهَا مُلْغَاةٌ، وَمَا كَانَ فِي إِبْلاغِهَا إِلَيْنَا فَائِدَةٌ وَهِيَ هَدَرٌ وَهَذَا مُحَالٌ.

الشَّرْحُ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهَا لَغْوٌ، وَالْقُرْءَانُ كَيْفَ يَكُونُ لَغْوًا. وَهَذَا مُحَالٌ، وَذَلِكَ مَعْنَاهُ حُكْمٌ بِأَنَّهُ مَا كَانَ فِي إِبْلاغِهَا إِلَيْنَا فَائِدَةٌ وَهِيَ هَدَرٌ أَيْ لا قِيمَةَ وَلا اعْتِبَارَ لَهَا.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِي لُغَةِ الْعَرَبِ مَا شِئْتَ مِنَ التَّجَوُّزِ وَالتَّوَسُّعِ فِي الْخِطَابِ، وَكَانُوا يَعْرِفُونَ مَوَارِدَ الْكَلامِ وَيَفْهَمُونَ الْمَقَاصِدَ، فَمَنْ تَجَافَى عَنِ التَّأْوِيلِ فَذَلِكَ لِقِلَّةِ فَهْمِهِ بِالْعَرَبِيَّةِ.

الشَّرْحُ أَيْ مَنْ تَرَكَ التَّأْوِيلَ التَّفْصِيلِيَّ وَالإِجْمَالِيَّ وَتَمَسَّكَ بِالظَّاهِرِ هَلَكَ وَخَرَجَ عَنْ عَقِيدَةِ الْمُسْلِمِينَ، أَمَّا الَّذِي لا يَحْمِلُ هَذِهِ الآيَاتِ عَلَى الظَّوَاهِرِ بَلْ يَقُولُ لَهَا مَعَانٍ لا أَعْلَمُهَا تَلِيقُ بِاللَّهِ غَيْرُ هَذِهِ الظَّوَاهِرِ مَثَلًا اسْتِوَاءُ اللَّهِ عَلَى الْعَرْشِ لَهُ مَعْنًى غَيْرُ الْجُلُوسِ وَغَيْرُ الِاسْتِقْرَارِ، غَيْرُ اسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِينَ لَكِنْ لا أَعْلَمُهُ فَهَذَا سَلِمَ، وَكَذَلِكَ الَّذِي يَقُولُ اسْتِوَاءُ اللَّهِ عَلَى الْعَرْشِ قَهْرُهُ لِلْعَرْشِ. فَذَاكَ تَأْوِيلٌ إِجْمَالِيٌّ وَهَذَا تَأْوِيلٌ تَفْصِيلِيٌّ. وَقَوْلُهُ: «التَّجَوُّز» أَيِ ارْتِكَابُ الْمَجَازِ فِي الْخِطَابِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمَنْ أَحَاطَ بِطُرُقٍ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ هَانَ عَلَيْهِ مَدْرَكُ الْحَقَائِقِ.

الشَّرْحُ أَيْ مَنْ أَحَاطَ أَيْ وَسِعَتْ مَعْرِفَتُهُ بِالْعَرَبِيَّةِ الأَصْلِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْءَانُ فَإِنَّهُ يَفْهَمُ الْمَعْنَى الْمَجَازِيَّ وَالْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ. فَمَنْ عَرَفَ تَمَامَ لُغَةِ الْعَرَبِ يَفْهَمُ أَنَّهُ لا تُحْمَلُ الآيَاتُ الْمُتَشَابِهَةُ عَلَى الظَّاهِرِ، وَهَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ مِنْ أَيْنَ تُعْرَفُ الْحَقَائِقُ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ قِيلَ: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ فَكَأَنَّهُ قَالَ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أَيْضًا يَعْلَمُونَهُ وَيَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ.

الشَّرْحُ عَلَى قِرَاءَةِ تَرْكِ الْوَقْفِ عَلَى لَفْظِ الْجَلالَةِ يَعْلَمُونَ وَمَعَ هَذَا يَقُولُونَ ﴿ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان/7] أَيِ الْمُحْكَمَاتُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَالْمُتَشَابِهَاتُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَالرَّاسِخُونَ يَعْلَمُونَ أَيْضًا مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَيْسَ عِلْمُهُ خَاصًّا بِاللَّهِ. أَمَّا الْمُتَشَابِهُ الَّذِي عِلْمُهُ خَاصٌّ بِاللَّهِ هُوَ كَوَقْتِ خُرُوجِ الدَّجَّالِ عَلَى التَّحْدِيدِ مِنْ سَنَةِ كَذَا مِنْ شَهْرِ كَذَا فِي يَوْمِ كَذَا فِي سَاعَةِ كَذَا، هَذَا لا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ هُمُ الْمُتَمَكِّنُونَ فِي الْعِلْمِ، وَالْوَقْفُ عَلَى كَلِمَةِ ﴿الْعِلْمِ﴾ عَلَى قِرَاءَةٍ، وَالْقِرَاءَةُ الأُخْرَى الْوَقْفُ عِنْدَ ﴿إِلَّا اللَّهُ﴾ فَعِنْدَ هَؤُلاءِ ﴿وَالرَّاسِخُونَ﴾ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ ﴿يَقُولُونَ﴾.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنَّ الإِيـمَانَ بِالشَّىْءِ إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ الْعِلْمِ، أَمَّا مَا لا يُعْلَمُ فَالإِيـمَانُ بِهِ غَيْرُ مُتَأَتٍّ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَا مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ. انْتَهَى كَلامُ الْحَافِظِ الزَّبِيدِيِّ مِمَّا نَقَلَهُ عَنْ أَبِي النَّصْرِ الْقُشَيْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.

الشَّرْحُ يَعْنِي أَنَّ الشَّىْءَ الَّذِي لَمْ يُعْلَمْ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ كَيْفَ يُؤْمَنُ بِهِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «غَيْرُ مُتَأَتٍّ» أَيْ غَيْرُ مُمْكِنٍ، أَمَّا مَا عُلِمَ بِهِ يُؤْمَنُ بِهِ وَلَوْ عُلِمَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، مَثَلًا الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّ اسْتِوَاءَ اللَّهِ عَلَى الْعَرْشِ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ بَلْ لَهُ مَعْنًى لَيْسَ فِيهِ شَبَهُ الْمَخْلُوقِينَ فَهَذَا نَوْعٌ مِنَ الْعِلْمِ يُقَالُ عَلِمَ وَءَامَنَ بِهِ، كَذَلِكَ الَّذِي يُؤَوِّلُهُ تَأْوِيلًا تَفْصِيلِيًّا فَيَقُولُ الِاسْتِوَاءُ الْقَهْرُ هَذَا عَلِمَ بِالتَّأْوِيلِ التَّفْصِيلِيِّ وَءَامَنَ بِهَذَا الْمُتَشَابِهِ أَنَّهُ حَقٌّ وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أَمَّا لَوْ قِيلَ: الْخَلْقُ لا يَعْلَمُونَ مَا مَعْنَى ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، لا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ هَذَا مَعْنَاهُ أَنَّ الْقُرْءَانَ نَزَلَ بِمَا لا يَعْلَمُهُ الَّذِينَ أَرْسَلَ اللَّهُ النَّبِيَّ إِلَيْهِمْ فَيَكُونُ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ النَّبِيَّ بِمَا لا يَعْلَمُونَ وَهَذَا لا يَلِيقُ بَلْ يَكْفُرُ قَائِلُ مِثْلِ هَذَا الْكَلامِ لِأَنَّ الْحُجَّةَ تَقُومُ عَلَيْهِمْ إِذَا بَلَّغَهُمُ الرَّسُولُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْلَمُوهُ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَهُنَا مَسْلَكَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا صَحِيحٌ: الأَوَّلُ: مَسْلَكُ السَّلَفِ: وَهُمْ أَهْلُ الْقُرُونِ الثَّلاثَةِ الأُولَى أَيْ أَكْثَرُهُمْ فَإِنَّهُمْ يُؤَوِّلُونَهَا تَأْوِيلًا إِجْمَالِيًّا بِالإِيـمَانِ بِهَا وَاعْتِقَادِ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ صِفَاتِ الْجِسْمِ بَلْ أَنَّ لَهَا مَعْنًى يَلِيقُ بِجَلالِ اللَّهِ وَعَظَمَتِهِ بِلا تَعْيِينٍ، بَلْ رَدُّوا تِلْكَ الآيَاتِ إِلَى الآيَاتِ الْمُحْكَمَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/11]

الشَّرْحُ السَّلَفُ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقُرُونِ الثَّلاثَةِ الأُولَى قَرْنِ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ وَقَرْنِ التَّابِعِينَ وَقَرْنِ الصَّحَابَةِ وَهُوَ قَرْنُ الرَّسُولِ، هَؤُلاءِ يُسَمَّوْنَ السَّلَفَ وَمَنْ جَاءُوا بَعْدَ ذَلِكَ يُسَمَّوْنَ الْخَلَفَ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ حَدَّ هَذَا بِالْمِائَتَيْنِ وَالْعِشْرِينَ سَنَةً مِنْ مَبْعَثِ الرَّسُولِ وَمِنْهُمْ مَنْ حَدَّ هَذَا بِالْمِئَاتِ الثَّلاثَةِ الأُولَى. فَالسَّلَفُ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤَوِّلُوا الآيَاتِ الْمُتَشَابِهَةَ تَأْوِيلًا إِجْمَالِيًّا بِالإِيـمَانِ بِهَا وَاعْتِقَادِ أَنَّ لَهَا مَعَانِيَ تَلِيقُ بِجَلالِ اللَّهِ وَعَظَمَتِهِ لَيْسَتْ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ بِلا تَعْيِينٍ كَآيَةِ: ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ وَ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ وَحَدِيثِ النُّزُولِ بِأَنْ يَقُولُوا بِلا كَيْفٍ أَوْ عَلَى مَا يَلِيقُ بِاللَّهِ أَيْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بِهَيْئَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ كَالْجُلُوسِ وَالِاسْتِقْرَارِ وَالْجَوَارِحِ وَالطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالْعُمْقِ وَالْمِسَاحَةِ وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَالِانْفِعَالِ مِمَّا هُوَ صِفَةٌ حَادِثَةٌ. هَذَا مَسْلَكُ السَّلَفِ رَدُّوهَا مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ إِلَى الآيَاتِ الْمُحْكَمَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ وَتَرَكُوا تَعْيِينَ مَعْنًى مُعَيَّنٍ لَهَا مَعَ نَفْيِ تَشْبِيهِ اللَّهِ بِخَلْقِهِ. قَالَ فِي فَتْحِ الْبَارِي [انْظُرْ فَتْحَ الْبَارِي لِابْنِ حَجَرٍ الْعَسْقَلانِيِّ (7/98)] فَيَعْتَقِدُ سَلَفُ الأَئِمَّةِ وَعُلَمَاءُ السُّنَّةِ مِنَ الْخَلَفِ أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَالتَّحَوُّلِ وَالْحُلُولِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ اهـ.

فَائِدَةٌ: تَارِيخُ الْمُسْلِمِينَ يَبْتَدِئُ مِنْ هِجْرَةِ الرَّسُولِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ - بَعْدَمَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ مَكَثَ ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً بِمَكَّةَ ثُمَّ جَاءَ إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْ هُنَاكَ بَدَءُوا التَّأْرِيخَ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهُوَ كَمَا قَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «ءَامَنْتُ بِمَا جَاءَ عَنِ اللَّهِ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ وَبِمَا جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُرَادِ رَسُولِ اللَّهِ» يَعْنِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لا عَلَى مَا قَدْ تَذْهَبُ إِلَيْهِ الأَوْهَامُ وَالظُّنُونُ مِنَ الْمَعَانِي الْحِسِّيَّةِ الْجِسْمِيَّةِ الَّتِي لا تَجُوزُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.

الشَّرْحُ كَلامُ الشَّافِعِيِّ يُؤَيِّدُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَغْلَبُ السَّلَفِ، يَعْنِي لا تُحْمَلُ هَذِهِ الآيَاتُ وَالأَحَادِيثُ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى تَجْسِيمِ اللَّهِ بَلْ نَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ أَرَادَ بِذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي مَا أَرَادَ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: ثُمَّ نَفْيُ التَّأْوِيلِ التَّفْصِيلِيِّ عَنِ السَّلَفِ كَمَا زَعَمَ بَعْضٌ مَرْدُودٌ بِمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ تَفْسِيرِ الْقُرْءَانِ وَعِبَارَتُهُ هُنَاكَ: «سُورَةُ الْقَصَصِ» ﴿كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ [سُورَةَ الْقَصَص/88] «إِلَّا مُلْكَهُ وَيُقَالُ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ» اهـ. فَمُلْكُ اللَّهِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ الأَزَلِيَّةِ لَيْسَ كَالْمُلْكِ الَّذِي يُعْطِيهِ لِلْمَخْلُوقِينَ.

الشَّرْحُ الْبُخَارِيُّ مِنَ السَّلَفِ وَقَدْ فَسَّرَ قَوْلَ اللَّهِ: ﴿كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ [سُورَةَ الْقَصَص/88] فَقَالَ: «إِلَّا مُلْكَهُ» أَيْ إِلَّا سُلْطَانَهُ، مُلْكُ اللَّهِ أَزَلِيٌّ أَبَدِيٌّ لا يَفْنَى، أَمَّا مُلْكُ غَيْرِهِ يَفْنَى، مُلْكُ الْمُلُوكِ الْكُفَّارِ كَنُمْرُودَ وَفِرْعَوْنَ الَّذِينَ أَعْطَاهُمُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هَذَا الْمُلْكَ الَّذِي هُوَ غَيْرُ أَبَدِيٍّ يَفْنَى وَمُلْكُ أَحْبَابِ اللَّهِ كَسُلَيْمَانَ وَذِي الْقَرْنَيْنِ يَفْنَى أَمَّا مُلْكُ اللَّهِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ.

وَمَعْنَى مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ أَيِ الأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ فَإِنَّهَا تَبْقَى. قَالَ تَعَالَى ﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ﴾ الآيَةَ [سُورَةَ مَرْيَم/76]. وَلْيُعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ قَالَ بِهِ قَبْلَ الْبُخَارِيِّ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ.

تَنْبِيهٌ: الْجَارِي فِي اصْطِلاحِ الْفُقَهَاءِ أَنْ يُقَالَ الْمِلْكُ بِالْكَسْرِ إِذَا أُرِيدَ بِهِ مَا يَحِقُ لِلشَّخْصِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ، أَمَّا الْمُلْكُ فَيُضَافُ إِلَى اللَّهِ بِمَعْنَى أَنَّ لَهُ التَّصَرُّفَ الْمُطْلَقَ وَيُضَافُ إِلَى الْبَشَرِ فِي حَقِّ مَنْ عِنْدَهُ التَّصَرُّفُ فِي شُئُونِ النَّاسِ عَلَى الْعُمُومِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ مُلْكَ اللَّهِ صِفَةٌ لَهُ مَأْخُوذَةٌ مِنِ اسْمِهِ الْمَلِكِ، فَمُلْكُهُ أَزَلِيٌّ أَبَدِيٌّ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِيهِ غَيْرُ هَذَا الْمَوْضِعِ كَتَأْوِيلِ الضَّحِكِ الْوَارِدِ فِي الْحَدِيثِ بِالرَّحْمَةِ.

الشَّرْحُ يَعْنِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَوَّلَ بَعْضَ الآيَاتِ غَيْرَ الآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ فَفِيهِ تَأْوِيلُ ءَايَةِ ﴿مَّا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ ءَاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾ [سُورَةَ هُود/56] أَيْ «فِي مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ» أَوَّلَ الأَخْذَ بِنَاصِيَةِ الدَّوَابِّ بِالتَّصَرُّفِ بِالْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ لِأَنَّ الْمَعْنَى الظَّاهِرَ لا يَلِيقُ بِاللَّهِ وَهُوَ إِمْسَاكُ نَوَاصِي الدَّوَابِّ بِالْجَسِّ وَاللَّمْسِ، فَاللَّهُ لا يَجُسُّ وَلا يَمَسُّ، وَأَمَّا مِنَ الْحَدِيثِ فَقَدْ أَوَّلَ الضَّحِكَ الْوَارِدَ فِي حَقِّ اللَّهِ بِالرَّحْمَةِ، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ مَا نَصُّهُ: «قَالَ - الْخَطَّابِيُّ - وَقَدْ تَأَوَّلَ الْبُخَارِيُّ الضَّحِكَ فِي مَوْضِعٍ ءَاخَرَ عَلَى مَعْنَى الرَّحْمَةِ وَهُوَ قَرِيبٌ، وَتَأْوِيلُهُ عَلَى مَعْنَى الرِّضَا أَقْرَبُ »اهـ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَصَحَّ أَيْضًا التَّأْوِيلُ التَّفْصِيلِيُّ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ وَهُوَ مِنَ السَّلَفِ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ [سُورَةَ الْفَجْر/22] إِنَّمَا جَاءَتْ قُدْرَتُهُ، صَحَّحَ سَنَدَهُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ الَّذِي قَالَ فِيهِ الْحَافِظُ صَلاحُ الدِّينِ الْعَلائِيُّ: «لَمْ يَأْتِ بَعْدَ الْبَيْهَقِيِّ وَالدَّارَقُطْنِيِّ مِثْلُهُمَا وَلا مَنْ يُقَارِبُهُمَا». أَمَّا قَوْلُ الْبَيْهَقِيِّ ذَلِكَ فَفِي كِتَابِ مَنَاقِبِ أَحْمَدَ، وَأَمَّا قَوْلُ الْحَافِظِ أَبِي سَعِيدٍ الْعَلائِيِّ فِي الْبَيْهَقِيِّ وَالدَّارَقُطْنِيِّ فَذَلِكَ فِي كِتَابِهِ «الْوَشْيُ الْمُعْلَمُ»، وَأَمَّا الْحَافِظُ أَبُو سَعِيدٍ فَهُوَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: «شَيْخُ مَشَايِخِنَا» (وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْقَرْنِ السَّابِعِ الْهِجْرِيِّ).

الشَّرْحُ وَمَعْنَى قَوْلِهِ إِنَّمَا جَاءَتْ قُدْرَتُهُ فِي تَأْوِيلِ الآيَةِ أَيِ الأُمُورُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ هَذِهِ الأُمُورُ هِيَ أَثَرُ الْقُدْرَةِ، بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَأْتِي حِينَ يَحْضُرُ الْمَلَكُ أَيِ الْمَلائِكَةُ صُفُوفًا لِعُظْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى يُحِيطُوا بِالإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَلا أَحَدَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ هَذَا الْمَكَانِ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ أَيْ بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ وَحُجَّةٍ، فَمَنَ أَذِنَ اللَّهُ لَهُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُفَارِقَ هَذَا الْمَكَانَ. ذَلِكَ الْيَوْمَ تَظْهَرُ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ، جَهَنَّمُ الَّتِي مَسَافَتُهَا بَعِيدَةٌ تَحْتَ الأَرْضِ السَّابِعَةِ ذَلِكَ الْيَوْمَ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلائِكَةِ يَجُرُّونَ عُنُقًا مِنْهَا حَتَّى يَرَاهُ الْكُفَّارُ فَيَفْزَعُوا وَكُلُّ مَلَكٍ بِيَدِهِ سِلْسِلَةٌ مَرْبُوطَةٌ بِجَهَنَّمَ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي الْقُوَّةِ يَزِيدُ عَلَى قُوَّةِ الْبَشَرِ، فَإِنَّهُمْ يَجُرُّونَ هَذَا الْعُنُقَ لِيَرَاهُ النَّاسُ فِي الْمَوْقِفِ، وَهُمْ فِي الْمَوْقِفِ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى مَكَانِهِ، هَذَا شَىْءٌ وَاحِدٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ.

وَمَعْنَى كَلامِ الْحَافِظِ الْعَلائِيِّ عَنِ الْبَيْهَقِيِّ وَالدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ مَنْ يُسَاوِيهِمَا وَلا مَنْ يُقَارِبُهُمَا فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ. وَالْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تُوُفِّيَ فِي مُنْتَصَفِ الْقَرْنِ الْخَامِسِ الْهِجْرِيِّ تَقْرِيبًا وَكَانَ مَعْرُوفًا بِجَلالَتِهِ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ وَرُسُوخِ قَدَمِهِ فِي مَعْرِفَةِ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَالزُّهْدِ وَالْوَرَعِ، كَانَ مُحَدِّثَ عَصْرِهِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهُنَاكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ ذَكَرُوا فِي تَآلِيفِهِمْ أَنَّ أَحْمَدَ أَوَّلَ، مِنْهُمُ الْحَافِظُ عَبْدُ الرَّحْمٰنِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ الَّذِي هُوَ أَحَدُ أَسَاطِينِ الْمَذْهَبِ الْحَنْبَلِيِّ لِكَثْرَةِ اطِّلاعِهِ عَلَى نُصُوصِ الْمَذْهَبِ وَأَحْوَالِ أَحْمَدَ.

الشَّرْحُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ تُوُفِّيَ فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ السَّادِسِ وَكَانَ عَلَى مَذْهَبِ الإِمَامِ أَحْمَدَ وَهُوَ بَيْنَ أَهْلِ الْمَذْهَبِ الْحَنْبَلِيِّ مَشْهُورٌ كَبِيرٌ فِيهِمْ وَهُوَ مِنْ أَسَاطِينِ الْمَذْهَبِ أَيْ مِنْ أَعْمِدَةِ الْمَذْهَبِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ بَيَّنَ أَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الشَّنَاعَةَ الَّتِي تَلْزَمُ نُفَاةَ التَّأْوِيلِ، وَأَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِيُّ هُوَ الَّذِي وَصَفَهُ الْحَافِظُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الطَّبْسِيُّ بِإِمَامِ الأَئِمَّةِ كَمَا نَقَلَ ذَلِكَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي كِتَابِهِ تَبْيِينُ كَذِبِ الْمُفْتَرِي.
الثَّانِي مَسْلَكُ الْخَلَفِ: وَهُمْ يُؤَوِّلُونَهَا تَفْصِيلًا بِتَعْيِينِ مَعَانٍ لَهَا مِمَّا تَقْتَضِيهِ لُغَةُ الْعَرَبِ وَلا يَحْمِلُونَهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا أَيْضًا كَالسَّلَفِ.

الشَّرْحُ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ مُتَّفِقَانِ عَلَى عَدَمِ الْحَمْلِ عَلَى الظَّاهِرِ، هَؤُلاءِ بَيَّنُوا بِقَوْلِهِمْ بِلا كَيْفٍ وَأُولَئِكَ قَالُوا اسْتَوَى أَيْ قَهَرَ، وَمَنْ قَالَ اسْتَوْلَى فَالْمَعْنَى وَاحِدٌ أَيْ قَهَرَ، وَكِلا الْفَرِيقَيْنِ لا يَحْمِلُ الِاسْتِوَاءَ عَلَى الظَّاهِرِ، لَكِنْ هَؤُلاءِ عَيَّنُوا مَعْنًى وَأُولَئِكَ لَمْ يُعَيِّنُوا إِنَّمَا قَالُوا بِلا كَيْفٍ أَيِ الِاسْتِوَاءَ الَّذِي لا يُشْبِهُ اسْتِوَاءَ الْمَخْلُوقِينَ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلا بَأْسَ بِسُلُوكِهِ وَلا سِيَّمَا عِنْدَ الْخَوْفِ مِنْ تَزَلْزُلِ الْعَقِيدَةِ حِفْظًا مِنَ التَّشْبِيهِ.

الشَّرْحُ السَّلَفُ لَيْسُوا كُلُّهُمْ كَانُوا سَاكِتِينَ عَنِ التَّأْوِيلِ التَّفْصِيلِيِّ بِتَعْيِينِ مَعْنًى خَاصٍّ بَلْ بَعْضُهُمْ أَوَّلَ تَأْوِيلًا تَفْصِيلِيًّا.

وَأَمَّا النُّزُولُ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ «يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا »فَأَحْسَنُ مَا يُقَالُ فِي ذَلِكَ هُوَ نُزُولُ الْمَلَكِ بِأَمْرِ اللَّهِ فَيُنَادِي مُبَلِّغًا عَنِ اللَّهِ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ: «مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ» فَيَمْكُثُ الْمَلَكُ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا مِنَ الثُّلُثِ الأَخِيرِ إِلَى الْفَجْرِ. أَمَّا مَنْ يَقُولُ يَنْزِلُ بِلا كَيْفٍ فَهُوَ حَقٌّ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ بِلا كَيْفٍ نَفَى الْحَرَكَةَ وَالِانْتِقَالَ مِنْ عُلْوٍ إِلَى سُفْلٍ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي تَوْبِيخِ إِبْلِيسَ: ﴿مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [سُورَةَ ص/75] فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ بِالْيَدَيْنِ الْعِنَايَةُ وَالْحِفْظُ.

الشَّرْحُ هَذَا تَأْوِيلٌ تَفْصِيلِيٌّ ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْخَلَفِ فَدَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿بِيَدَيَّ﴾ عَلَى أَنَّ ءَادَمَ خُلِقَ مُشَرَّفًا مُكَرَّمًا بِخِلافِ إِبْلِيسَ، وَلا يَجُوزُ أَنْ نَحْمِلَ كَلِمَةَ بِيَدَيَّ عَلَى مَعْنَى الْجَارِحَةِ، لَوْ كَانَتْ لَهُ جَارِحَةٌ لَكَانَ مِثْلَنَا وَلَوْ كَانَ مِثْلَنَا لَمَا اسْتَطَاعَ أَنْ يَخْلُقَنَا لِذَلِكَ نَقُولُ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْخَلَفِ أَيْ خَلَقْتُهُ بِعِنَايَتِي بِحِفْظِي مَعْنَاهُ عَلَى وَجْهِ الإِكْرَامِ وَالتَّعْظِيمِ لَهُ، أَيْ عَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِيَّةِ خَلَقَ ءَادَمَ أَيْ أَرَادَ لَهُ الْمَقَامَ الْعَالِيَ وَالْخَيْرَ الْعَظِيمَ. أَمَّا إِبْلِيسُ مَا خَلَقَهُ بِعِنَايَتِهِ لِأَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ فِي الأَزَلِ أَنَّهُ خَبِيثٌ هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ إِبْلِيسَ وَءَادَمَ.



تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مِنْ رُّوحِنَا﴾ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مِنْ رُّوحِى﴾

لِيُعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَالِقُ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ فَلَيْسَ رُوحًا وَلا جَسَدًا، وَمَعَ ذَلِكَ أَضَافَ اللَّهُ تَعَالَى رُوحَ عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى نَفْسِهِ عَلَى مَعْنَى الْمِلْكِ وَالتَّشْرِيفِ لا لِلْجُزْئِيَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مِنْ رُّوحِنَا﴾ [سُورَةَ الأَنْبِيَاء/91]، وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ ءَادَمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مِنْ رُّوحِى﴾ [سُورَةَ ص/72] فَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُّوحِنَا﴾ [سُورَةَ التَّحْرِيْم/12] أَمَرْنَا جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ أَنْ يَنْفُخَ فِي مَرْيَمَ الرُّوحَ الَّتِي هِيَ مِلْكٌ لَنَا وَمُشَرَّفَةٌ عِنْدَنَا.

الشَّرْحُ كِلْتَا الإِضَافَتَيْنِ لِلتَّشْرِيفِ مَعَ إِثْبَاتِ الْمُلْكِ أَيْ أَنَّهُمَا مِلْكٌ لِلَّهِ وَخَلْقٌ لَهُ، فَإِنْ قِيلَ كُلُّ الأَرْوَاحِ مِلْكٌ لِلَّهِ وَخَلْقٌ لَهُ فَمَا فَائِدَةُ الإِضَافَةِ؟ قِيلَ: فَائِدَةُ الإِضَافَةِ الدِّلالَةُ عَلَى شَرَفِهِمَا عِنْدَ اللَّهِ. وَلا يَجُوزُ عَقْلًا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ رُوحًا لِأَنَّ الرُّوحَ حَادِثٌ. وَعَلَى مِثْلِ ذَلِكَ يُحْمَلُ حَدِيثُ: «خَلَقَ اللَّهُ ءَادَمَ عَلَى صُورَتِهِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمَعْنَاهُ إِضَافَةُ الْمِلْكِ وَالتَّشْرِيفِ لا إِضَافَةُ الْجُزْئِيَّةِ أَيْ عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي خَلَقَهَا وَجَعَلَهَا مُشَرَّفَةً مُكَرَّمَةً.

الشَّىْءُ يُضَافُ إِلَى اللَّهِ إِمَّا بِمَعْنَى أَنَّهُ خَلْقٌ لَهُ هُوَ خَلَقَهُ وَكَوَّنَهُ وَيُضَافُ إِلَى اللَّهِ عَلَى أَنَّهُ صِفَتُهُ، فَإِذَا قُلْنَا قُدْرَةُ اللَّهِ عِلْمُ اللَّهِ هَذِهِ الإِضَافَةُ إِضَافَةُ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، أَمَّا إِذَا قُلْنَا نَاقَةُ اللَّهِ بَيْتُ اللَّهِ هَذِهِ إِضَافَةُ الْمِلْكِ وَالتَّشْرِيفِ، فَالْكَعْبَةُ نُسَمِّيهَا بَيْتَ اللَّهِ وَكُلُّ مَسْجِدٍ كَذَلِكَ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لِأَنَّ الأَرْوَاحَ قِسْمَانِ: أَرْوَاحٌ مُشَرَّفَةٌ، وَأَرْوَاحٌ خَبِيثَةٌ، وَأَرْوَاحُ الأَنْبِيَاءِ مِنَ الْقِسْمِ الأَوَّلِ، فَإِضَافَةُ رُوحِ عِيسَى وَرُوحِ ءَادَمَ إِلَى نَفْسِهِ إِضَافَةُ مِلْكٍ وَتَشْرِيفٍ، وَيَكْفُرُ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رُوحٌ، فَالرُّوحُ مَخْلُوقَةٌ تَنَزَّهَ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ.

الشَّرْحُ حَتَّى نَعْرِفَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَى عِيسَى وَءَادَمَ مَنْزِلَةً عِنْدَهُ أَضَافَ رُوحَ عِيسَى وَءَادَمَ إِلَى نَفْسِهِ لَيْسَ عَلَى مَعْنَى الْجُزْئِيَّةِ، وَكَمَا أَضَافَ نَاقَةَ صَالِحٍ إِلَى نَفْسِهِ فَقَالَ ﴿نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا﴾ [سُورَةَ الشَّمْس/13] لِمَا كَانَ لَهَا مِنْ خُصُوصِيَّةِ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ النُّوقِ بِالشَّأْنِ الْعَظِيمِ الَّذِي كَانَ لَهَا، لِأَنَّهُ هُوَ خَالِقُهَا هُوَ الَّذِي أَخْرَجَهَا مِنَ الصَّخْرَةِ وَأَخْرَجَ مَعَهَا فَصَيلَهَا وَكَانَتْ تُعْطِي أَهْلَ الْبَلَدِ كِفَايَتَهُمْ مِنَ الْحَلِيبِ فَيَأْخُذُونَ مِنْهَا الْحَلِيبَ فِي يَوْمِ وُرُودِهَا الَّذِي هِيَ خُصِّصَتْ بِهِ الَّذِي لا تَرِدُ مَوَاشِيهِمْ بِهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَكَانَتِهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ ﴿نَاقَةَ اللَّهِ﴾ وَقَدْ أُنْذِرُوا أَنْ يَعْتَدُوا عَلَى نَاقَةِ اللَّهِ وَعَلَى سُقْيَاهَا أَيِ الْيَوْمِ الَّذِي تَرِدُ فِيهِ إِلَى الْمَاءِ، ذَلِكَ الْيَوْمَ لا تُورَدُ مَوَاشِيهِمُ الْمَاءَ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْكَعْبَةِ: ﴿بَيْتِيَ﴾ [سُورَةَ الْحَجّ/26] فَهِيَ إِضَافَةُ مِلْكٍ لِلتَّشْرِيفِ لا إِضَافَةُ صِفَةٍ أَوْ مُلابَسَةٍ لِاسْتِحَالَةِ الْمُلامَسَةِ أَوِ الْمُمَاسَّةِ بَيْنَ اللَّهِ وَالْكَعْبَةِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿رَبُّ الْعَرْشِ﴾ [سُورَةَ الْمُؤْمِنُون/116] لَيْسَ إِلَّا لِلدِّلالَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْعَرْشِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ لَيْسَ لِأَنَّ الْعَرْشَ لَهُ مُلابَسَةٌ لِلَّهِ بِالْجُلُوسِ عَلَيْهِ أَوْ بِمُحَاذَاتِهِ مِنْ غَيْرِ جُلُوسٍ، لَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ جَالِسٌ عَلَى عَرْشِهِ بِاتِّصَالٍ وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ مُحَاذٍ لِلْعَرْشِ بِوُجُودِ فَرَاغٍ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْعَرْشِ إِنْ قُدِّرَ ذَلِكَ الْفَرَاغُ وَاسِعًا أَوْ قَصِيرًا كُلُّ ذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ، وَإِنَّمَا مَزِيَّةُ الْعَرْشِ أَنَّهُ كَعْبَةُ الْمَلائِكَةِ الْحَافِّينَ مِنْ حَوْلِهِ كَمَا أَنَّ الْكَعْبَةَ شُرِّفَتْ بِطَوَافِ الْمُؤْمِنِينَ بِهَا. وَمِنْ خَوَاصِّ الْعَرْشِ أَنَّهُ لَمْ يُعْصَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ، لِأَنَّ مَنْ حَوْلَهُ كُلُّهُمْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَعْصُونَ اللَّهَ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْعَرْشَ لِيَجْلِسَ عَلَيْهِ فَقَدْ شَبَّهَ اللَّهَ بِالْمُلُوكِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الأَسِرَّةَ الْكِبَارَ لِيَجْلِسُوا عَلَيْهَا وَمَنِ اعْتَقَدَ هَذَا لَمْ يَعْرِفِ اللَّهَ.

الشَّرْحُ إِضَافَةُ الصِّفَةِ هِيَ كَقَوْلِنَا: قُدْرَةُ اللَّهِ وَعِلْمُ اللَّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْمُلابَسَةُ فَهِيَ عَلاقَةٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ بِمَعْنَى الِاتِّصَالِ وَنَحْوِهِ، إِذَا كَانَ شَىْءٌ مُتَّصِلًا بِشَىْءٍ قَدْ يُضَافُ إِلَيْهِ مِنْ أَجْلِ هَذِهِ الْعَلاقَةِ، إِذَا أُرِيدَ الإِخْبَارُ عَنْ سَكَنِ زَيْدٍ وَإِقَامَتِهِ بِأَرْضٍ فَقِيلَ فُلانٌ بَلْدُهُ الْبَصْرَةُ، فَالْمُلابَسَةُ بَيْنَ زَيْدٍ وَالْبَصْرَةِ هِيَ السَّكَنُ وَالإِقَامَةُ فَإِضَافَةُ الْبَيْتِ إِلَى اللَّهِ لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. كَذَلِكَ إِضَافَةُ صُورَةِ ءَادَمَ إِلَى اللَّهِ لَيْسَتْ مِنْ بَابِ الْجُزْئِيَّةِ فَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ رُوحٌ فَاقْتَطَعَ مِنْ ذَاتِهِ الَّذِي هُوَ رُوحٌ قِطْعَةً فَجَعَلَهَا ءَادَمَ فَكَأَنَّهُ قَالَ إِنَّ اللَّهَ وَلَدَ ءَادَمَ، وَمَنْ قَالَ إِنَّ مَعْنَى خَلَقَ اللَّهُ ءَادَمَ عَلَى صُورَتِهِ أَيْ صُورَةٍ تُشْبِهُ اللَّهَ فَقَدْ كَفَرَ أَيْضًا، فَلَمْ يَبْقَ تَفْسِيرٌ صَحِيحٌ لِلْحَدِيثِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِضَافَةُ الْمِلْكِ إِلَى مَالِكِهِ بِمَعْنَى التَّشْرِيفِ أَوْ أَنْ يُقَالَ عَلَى مَا هُوَ الْغَالِبُ عِنْدَ السَّلَفِ خَلَقَ اللَّهُ ءَادَمَ عَلَى صُورَتِهِ بِلا كَيْفٍ.

وَلَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْءَانِ الْكَرِيْمِ عَنِ الْكَعْبَةِ لإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ: ﴿أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/125] فَذَلِكَ لِيُفْهِمَنَا أَنَّ لِلْكَعْبَةِ عِنْدَهُ مَقَامًا عَالِيًا وَأَنَّهَا مُشَرَّفَةٌ عِنْدَهُ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الصِّفَةِ وَلا مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمُلابَسَةِ كَمَا فِي قَوْلِكَ صَاحِبُ زَيْدٍ عَمْرٌو، عَمْرٌو صَاحِبُ أُضِيفَ إِلَى زَيْدٍ لِلْمُلابَسَةِ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا عَلاقَةَ الصُّحْبَةِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَكْفُرُ مَنْ يَعْتَقِدُ الْمُمَاسَّةَ لِاسْتِحَالَتِهَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.

الشَّرْحُ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى جَعْلِ ذَاتِ اللَّهِ مُقَدَّرًا مَحْدُودًا مُتَنَاهِيًا. إِذَا دَخَلْتَ بَيْتًا فَاسْتَنَدْتَ إِلَى جِدَارِهِ هَذَا يُقَالُ لَهُ مُمَاسَّةٌ لَمَسَ جِسْمُكَ جِسْمَهُ.



تَفْسِيرُ الآيَةِ: ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [سُورَةَ طَه/5]

يَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الآيَةِ بِغَيْرِ الِاسْتِقْرَارِ وَالْجُلُوسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيَكْفُرُ مَنْ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ.

الشَّرْحُ الَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ جَلَسَ أَوِ اسْتَقَرَّ أَوْ حَاذَى الْعَرْشَ يَكْفُرُ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَيَجِبُ تَرْكُ الْحَمْلِ عَلَى الظَّاهِرِ بَلْ يُحْمَلُ عَلَى مَحْمِلٍ مُسْتَقِيمٍ فِي الْعُقُولِ فَتُحْمَلُ لَفْظَةُ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْقَهْرِ فَفِي لُغَةِ الْعَرَبِ يُقَالُ اسْتَوَى فُلانٌ عَلَى الْمَمَالِكِ إِذَا احْتَوَى عَلَى مَقَالِيدِ الْمُلْكِ وَاسْتَعْلَى عَلَى الرِّقَابِ.

الشَّرْحُ ءَايَةُ الِاسْتِوَاءِ تُحْمَلُ عَلَى الْقَهْرِ، أَوْ يُقَالُ اسْتَوَى اسْتِوَاءً يَلِيقُ بِهِ، أَوْ يُقَالُ ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ بِلا كَيْفٍ، أَمَّا مَنْ أَرَادَ التَّأْوِيلَ التَّفْصِيلِيَّ فَيَقُولُ قَهَرَ وَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ اسْتَوْلَى.

وَمَعْنَى قَوْلِ الْمُؤَلِّفِ: «وَاسْتَعْلَى عَلَى الرِّقَابِ» أَيِ اسْتَوْلَى عَلَى الأَشْخَاصِ أَيْ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ.

وَمَعْنَى قَهْرِ اللَّهِ لِلْعَرْشِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ أَنَّ الْعَرْشَ تَحْتَ تَصَرُّفِ اللَّهِ هُوَ خَلَقَهُ وَهُوَ يَحْفَظُهُ، يَحْفَظُ عَلَيْهِ وُجُودَهُ وَلَوْلا حِفْظُ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ لَهَوَى إِلَى الأَسْفَلِ فَتَحَطَّمَ، فَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ أَوْجَدَهُ ثُمَّ هُوَ حَفِظَهُ وَأَبْقَاهُ، هَذَا مَعْنَى قَهَرَ الْعَرْشَ، هُوَ سُبْحَانَهُ قَاهِرُ الْعَالَمِ كُلِّهِ، هَذِهِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ لَوْلا أَنَّ اللَّهَ يَحْفَظُهَا عَلَى هَذَا النِّظَامِ الَّذِي هِيَ قَائِمَةٌ عَلَيْهِ لَكَانَتْ تَهَاوَتْ وَحَطَّمَ بَعْضُهَا بَعْضًا وَاخْتَلَّ نِظَامُ الْعَالَمِ.

وَالإِنْسَانُ قَهَرَهُ اللَّهُ بِالْمَوْتِ، أَيُّ مَلِكٍ وَأَيُّ إِنْسَانٍ رُزِقَ عُمْرًا طَوِيلًا لا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ أَنْ يَحْمِيَ نَفْسَهُ مِنَ الْمَوْتِ فَلا بُدَّ أَنْ يَمُوتَ.

وَلْيُعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِوَاءَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ مَعْنًى كَمَا قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بنُ الْعَرَبِيِّ وَمِنْ مَعَانِيهِ: الِاسْتِقْرَارُ وَالتَّمَامُ وَالِاعْتِدَالُ وَالِاسْتِعْلاءُ وَالْعُلُوُّ وَالِاسْتِيلاءُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، ثُمَّ هَذِهِ الْمَعَانِي بَعْضُهَا تَلِيقُ بِاللَّهِ وَبَعْضُهَا لا تَلِيقُ بِاللَّهِ. فَمَا كَانَ مِنْ صِفَاتِ الأَجْسَامِ فَلا يَلِيقُ بِاللَّهِ.

يَقُولُ حَسَنُ الْبَنَّا فِي كِتَابِ الْعَقَائِدِ الإِسْلامِيَّةِ: «السَّلَفُ وَالْخَلَفُ لَيْسَ بَيْنَهُمْ خِلافٌ عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ حَمْلُ ءَايَةِ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْمَعْنَى الْمُتَبَادِرِ» وَهَذَا الْكَلامُ مِنْ جَوَاهِرِ الْعِلْمِ.

فَإِنْ قَالَ الْوَهَابِيُّ: ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ «عَلَى» أَيْ فَوْقَ، يُقَالُ لَهُمْ: فَمَاذَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [سُورَةَ الْمُجَادِلَة/10] هَلْ يَفْهَمُونَ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ أَنَّ الْعِبَادَ فَوْقَ اللَّهِ؟ فَإِنَّ «عَلَى» تَأْتِي لِعُلُوِّ الْقَدْرِ وَلِلْعُلُوِّ الْحِسِّيِّ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ قَالَ: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾ [سُورَةَ النَّازِعَات/24] أَرَادَ عُلُوَّ الْقَهْرِ بِقَوْلِهِ ﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾.

وَقَدْ ذَكَرَ الإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ فِي تَأْوِيلاتِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف/54] يَقُولُ: «أَيْ وَقَدِ اسْتَوَى »وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ كَانَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ قَبْلَ وُجُودِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَبَعْضُ النَّاسِ يَتَوَهَّمُ مِنْ كَلِمَةِ «ثُمَّ »أَنَّ اللَّهَ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ يَظُنُّونَ أَنَّ ثُمَّ دَائِمًا لِلتَّأَخُرِ، وَيَصِحُّ فِي اللُّغَةِ أَنْ يُقَالَ أَنَا أَعْطَيْتُكَ يَوْمَ كَذَا كَذَا وَكَذَا ثُمَّ إِنِّي أَعْطَيْتُكَ قَبْلَ ذَلِكَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ «ثُمَّ» لَيْسَتْ دَائِمًا لِلتَّأَخُّرِ فِي الزَّمَنِ، أَحْيَانًا تَأْتِي لِذَلِكَ وَأَحْيَانًا تَأْتِي لِغَيْرِ ذَلِكَ، قَالَ الشَّاعِرُ:

إِنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ ثُمَّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهُ

وَيُرْوَى عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ إِحْدَى زَوْجَاتِ الرَّسُولِ وَيُرْوَى عَنْ سُفْيَانَ بنِ عُيَيْنَةَ وَيُرْوَى عَنْ مَالِكِ بنِ أَنَسٍ أَنَّهُمْ فَسَرُّوا اسْتِوَاءَ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ بِقَوْلِهِمْ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَلا يُقَالُ كَيْفٌ وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ. وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: «الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ» مَعْنَاهُ مَعْلُومٌ وُرُودُهُ فِي الْقُرْءَانِ أَيْ بِأَنَّهُ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ اسْتِوَاءً يَلِيقُ بِهِ، وَمَعْنَى: «وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ »أَيِ الشَّكْلُ وَالْهَيْئَةُ وَالْجُلُوسُ وَالِاسْتِقْرَارُ هَذَا غَيْرُ مَعْقُولٍ أَيْ لا يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ وَلا تَجُوزُ عَلَى اللَّهِ لِأَنَّهَا مِنْ صِفَاتِ الأَجْسَامِ، وَسُئِلَ الإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ الِاسْتِوَاءِ فَقَالَ: «اسْتَوَى كَمَا أَخْبَرَ لا كَمَا يَخْطُرُ لِلْبَشَرِ».

وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ الإِمَامِ مَالِكٍ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ جَيِّدٍ أَنَّهُ قَالَ فِي اسْتِوَاءِ اللَّهِ: «اسْتَوَى كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ وَلا يُقَالُ كَيْف وَكَيْفُ عَنْهُ مَرْفُوعٌ»، وَلا يَصِحُّ عَنْ مَالِكٍ وَلا عَنْ غَيْرِهِ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفِيَّةُ مَجْهُولَةٌ فَهَذِهِ الْعِبَارَةُ لَمْ تَثْبُتْ مِنْ حَيْثُ الإِسْنَادُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَهِيَ مُوهِمَةٌ مَعْنًى فَاسِدًا وَهُوَ أَنَّ اسْتِوَاءَ اللَّهِ عَلَى الْعَرْشِ هُوَ اسْتِوَاءٌ لَهُ هَيْئَةٌ وَشَكْلٌ لَكِنْ نَحْنُ لا نَعْلَمُهُ وَهَذَا خِلافُ مُرَادِ السَّلَفِ بِقَوْلِهِمْ: «وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ». وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ قَالَهَا بَعْضُ الأَشَاعِرَةِ مَعَ تَنْزِيهِهِمْ لِلَّهِ عَنِ الْجِسْمِيَّةِ وَالتَّحَيُّزِ فِي الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ وَهِيَ كَثِيرَةُ الدَّوَرَانِ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُشَبِّهَةِ وَالْوَهَّابِيَّةِ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِوَاءِ الْجُلُوسُ وَالِاسْتِقْرَارُ أَيْ عِنْدَ أَغْلَبِهِمْ وَعِنْدَ بَعْضِهِمُ الْمُحَاذَاةُ فَوْقَ الْعَرْشِ مِنْ غَيْرِ مُمَاسَّةٍ، وَلا يَدْرُونَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْكَيْفُ الْمَنْفِيُّ عَنِ اللَّهِ عِنْدَ السَّلَفِ، وَلا يُغْتَرُّ بِوُجُودِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ فِي كِتَابِ إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ وَنَحْوِهِ وَلا يُرِيدُ مُؤَلِّفُهُ الْغَزَالِيُّ مَا تَفْهَمُهُ الْمُشَبِّهَةُ لِأَنَّهُ مُصَرِّحٌ فِي كُتُبِهِ بِأَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنِ الْجِسْمِيَّةِ وَالتَّحَيُّزِ فِي الْمَكَانِ وَعَنِ الْحَدِّ وَالْمِقْدَارِ لِأَنَّ الْحَدَّ وَالْمِقْدَارَ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَكُلُّ شَىْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ [سُورَةَ الرَّعْد/8]. فَالتَّحَيُّزُ فِي الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ مِنْ صِفَاتِ الْحَجْمِ وَاللَّهُ لَيْسَ حَجْمًا. وَمَا يُوجَدُ فِي بَعْضِ كُتُبِ الأَشَاعِرَةِ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفِيَّةُ مَجْهُولَةٌ غَلْطَةٌ لا أَسَاسَ لَهَا عَنِ السَّلَفِ لا عَنْ مَالِكٍ وَلا عَنْ غَيْرِهِ وَهِيَ شَنِيعَةٌ لِأَنَّهَا يَفْهَمُ مِنْهَا الْمُشَبِّهُ الْوَهَّابِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الِاسْتِوَاءَ كَيْفٌ لَكِنْ لا نَعْلَمُهُ مَجْهُولٌ عِنْدَنَا. وَأَمَّا مَنْ أَوْرَدَهَا مِنَ الأَشَاعِرَةِ فَلا يَفْهَمُونَ هَذَا الْمَعْنَى بَلْ يَفْهَمُونَ أَنَّ حَقِيقَةَ الِاسْتِوَاءِ غَيْرُ مَعْلُومٍ لِلْخَلْقِ فَالْوَهَّابِيَّةُ تَقْصِدُ بِهَا مَا يُنَاسِبُ مُعْتَقَدَهَا مِنْ أَنَّ اللَّهَ حَجْمٌ لَهُ حَيِّزٌ. وَالْعَجَبُ مِنْهُمْ كَيْفَ يَقُولُونَ إِنَّ الِاسْتِوَاءَ عَلَى الْعَرْشِ حِسِّيٌّ ثُمَّ يَصِفُونَهُ بِالْكَوْنِ مَجْهُولًا. وَلَعَلَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهَذَا هَلْ هُوَ قُعُودٌ عَلَى شَكْلِ تَرْبِيعٍ أَمْ عَلَى شَكْلٍ ءَاخَرَ.

فَإِنْ قِيلَ: لِمَاذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ عَلَى حَسَبِ تَفْسِيرِكُمْ بِمَعْنَى قَهَرَ وَهُوَ قَاهِرُ كُلِّ شَىْءٍ؟ نَقُولُ لَهُمْ: أَلَيْسَ قَالَ ﴿وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [سُورَةَ التَّوْبَة/129] مَعَ أَنَّهُ رَبُّ كُلِّ شَىْءٍ؟!

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ # مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقِ

الشَّرْحُ «مُهْرَاقِ» تُلْفَظُ الْقَافُ الْمَكْسُورَةُ وَكَأَنَّ فِي ءَاخِرِهَا يَاءً وَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْيَاءُ مَكْتُوبَةً، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ سَيْطَرَ عَلَى الْعِرَاقِ وَمَلَكَهَا مِنْ غَيْرِ حَرْبٍ وَإِرَاقَةِ دِمَاءٍ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفَائِدَةُ تَخْصِيصِ الْعَرْشِ بِالذِّكْرِ أَنَّهُ أَعْظَمُ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى حَجْمًا فَيُعْلَمُ شُمُولُ مَا دُونَهُ مِنْ بَابِ الأَوْلَى. قَالَ الإِمَامُ عَلِيٌّ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْعَرْشَ إِظْهَارًا لِقُدْرَتِهِ، وَلَمْ يَتَّخِذْهُ مَكَانًا لِذَاتِهِ». رَوَاهُ الإِمَامُ الْمُحَدِّثُ الْفَقِيهُ اللُّغُوِيُّ أَبُو مَنْصُورٍ التَّمِيمِيُّ فِي كِتَابِهِ التَّبْصِرَةِ.

الشَّرْحُ إِذَا قُلْنَا: اللَّهُ تَعَالَى قَهَرَ الْعَرْشَ مَعْنَاهُ قَهَرَ كُلَّ شَىْءٍ وَإِنَّمَا خُصَّ الْعَرْشُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ حَجْمًا وَهُوَ مَحْدُودٌ لا يَعْلَمُ حَدَّهُ إِلَّا اللَّهُ. وَبِئْسَ مُعْتَقَدُ ابْنِ تَيْمِيَةَ فَإِنَّهُ قَالَ: اللَّهُ مَحْدُودٌ لَكِنْ لا يَعْلَمُ حَدَّهُ إِلَّا هُوَ اهـ فَيُقَالُ لِمَنْ يَقُولُ قَوْلَهُ هَذَا قَدْ قُلْتَ اللَّهُ مَحْدُودٌ لَكِنْ لا يَعْلَمُ حَدَّهُ إِلَّا هُوَ فَقَدْ شَبَّهْتَهُ بِالْعَرْشِ فَمَاذَا يُفِيدُ قَوْلُكُمْ فِي اللَّهِ إِنَّ لَهُ حَدًّا لَكِنْ لا يَعْلَمُ حَدَّهُ إِلَّا هُوَ.

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَقُولُونَ خَلَقَهُ إِظْهَارًا لِقُدْرَتِهِ وَنَحْنُ لا نَرَاهُ؟ نَقُولُ: الْمَلائِكَةُ الْحَافُّونَ حَوْلَهُ يَرَوْنَهُ وَالْمَلائِكَةُ لَمَّا يَنْظُرُونَ إِلَى عِظَمِ الْعَرْشِ يَزْدَادُونَ خَوْفًا وَيَزْدَادُونَ عِلْمًا بِكَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ، لِهَذَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَرْشَ. وَقَوْلُ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ الَّذِي مَرَّ ذِكْرُهُ رَوَاهُ الإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابِهِ التَّبْصِرَةِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَوْ يُقَالُ: اسْتَوَى اسْتِوَاءً يَعْلَمُهُ هُوَ مَعَ تَنْزِيهِهِ عَنِ اسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِينَ كَالْجُلُوسِ وَالِاسْتِقْرَارِ.

الشَّرْحُ مَنْ شَاءَ يَقُولُ: اسْتَوَى اسْتِوَاءً يَلِيقُ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُفَسِّرَهُ بِالْقَهْرِ أَوْ نَحْوِهِ فَيَكُونُ أَوَّلَ تَأْوِيلًا إِجْمَالِيًّا، وَمَنْ شَاءَ أَوَّلَ تَأْوِيلًا تَفْصِيلِيًّا فَقَالَ: اسْتَوَى أَيْ قَهَرَ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ الْحَذَرُ مِنْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يُجِيزُونَ عَلَى اللَّهِ الْقُعُودَ عَلَى الْعَرْشِ وَالِاسْتِقْرَارَ عَلَيْهِ مُفَسِّرِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ بِالْجُلُوسِ أَوِ الْمُحَاذَاةِ مِنْ فَوْقٍ.

الشَّرْحُ هَؤُلاءِ هُمُ الْوَهَّابِيَّةُ وَقَبْلَهُمْ أُنَاسٌ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ فَفَسَّرُوا الآيَةَ بِالْجُلُوسِ فَقَالُوا: اللّهُ تَعَالَى قَاعِدٌ عَلَى الْعَرْشِ، هَؤُلاءِ يَجِبُ الْحَذَرُ مِنْهُمْ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمُدَّعِينَ أَنَّهُ لا يُعْقَلُ مَوْجُودٌ إِلَّا فِي مَكَانٍ، وَحُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ.

الشَّرْحُ يَقُولُونَ: كَيْفَ يَكُونُ مَوْجُودٌ بِلا مَكَانٍ، وَالْمَوْجُودُ لا بُدَّ لَهُ مِنَ مَكَانٍ، اللَّهُ مَوْجُودٌ إِذًا لَهُ مَكَانٌ، وَحُجَّتُهُمْ هَذِهِ دَاحِضَةٌ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْوُجُودِ التَّحَيُّزُ فِي الْمَكَانِ أَلَيْسَ اللَّهُ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَكُلِّ مَا سِوَاهُ بِشَهَادَةِ حَدِيثِ: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْرُهُ »فَالْمَكَانُ غَيْرُ اللَّهِ وَالْجِهَاتُ وَالْحَجْمُ غَيْرُ اللَّهِ فَإِذًا صَحَّ وُجُودُهُ تَعَالَى شَرْعًا وَعَقْلًا قَبْلَ الْمَكَانِ وَالْجِهَاتِ بِلا مَكَانٍ وَلا جِهَةٍ، فَكَيْفَ يَسْتَحِيلُ عَلَى زَعْمِ هَؤُلاءِ وُجُودُهُ تَعَالَى بِلا مَكَانٍ بَعْدَ خَلْقِ الْمَكَانِ وَالْجِهَاتِ. وَمُصِيبَةُ هَؤُلاءِ أَنَّهُمْ قَاسُوا الْخَالِقَ عَلَى الْمَخْلُوقِ قَالُوا: كَمَا لا يُعْقَلُ وُجُودُ إِنْسَانٍ أَوْ مَلَكٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَجْسَامِ بِلا مَكَانٍ يَسْتَحِيلُ وُجُودُ اللَّهِ بِلا مَكَانٍ فَهَلَكُوا.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمُدَّعِينَ أَيْضًا أَنَّ قَوْلَ السَّلَفِ اسْتَوَى بِلا كَيْفٍ مُوَافِقٌ لِذَلِكَ وَلَمْ يَدْرُوا أَنَّ الْكَيْفَ الَّذِي نَفَاهُ السَّلَفُ هُوَ الْجُلُوسُ وَالِاسْتِقْرَارُ وَالتَّحَيُّزُ إِلَى الْمَكَانِ وَالْمُحَاذَاةُ وَكُلُّ الْهَيْئَاتِ مِنْ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ وَانْفِعَالٍ.

الشَّرْحُ الْمُحَاذَاةُ وَالْجُلُوسُ وَالِاسْتِقْرَارُ هَذَا الْكَيْفُ الَّذِي نَفَاهُ السَّلَفُ الَّذِينَ قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ اسْتَوَى بِلا كَيْفٍ، وَمُرَادُهُمْ بِقَوْلِهِمْ بِلا كَيْفٍ لَيْسَ اسْتِوَاءَ الْجُلُوسِ وَالِاسْتِقْرَارِ وَالْمُحَاذَاةِ. الْمُحَاذَاةُ مَعْنَاهُ كَوْنُ الشَّىْءٍ فِي مُقَابِلِ شَىْءٍ، فَنَحْنُ حِينَ نَكُونُ تَحْتَ سَطْحٍ فَنَحْنُ فِي مُحَاذَاتِهِ، وَحِينَ نَكُونُ فِي الْفَضَاءِ نَكُونُ فِي مُحَاذَاةِ السَّمَاءِ، وَالسَّمَاءُ الأُولَى تُحَاذِي السَّمَاءَ الَّتِي فَوْقَهَا، وَالْكُرْسِيُّ يُحَاذِي الْعَرْشَ، وَالْعَرْشُ يُحَاذِي الْكُرْسِيَّ مِنْ تَحْتٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى لا يَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ هَكَذَا عَلَى الْعَرْشِ مُحَاذِيًا لَهُ فَلا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَالِسًا عَلَيْهِ وَلا أَنْ يَكُونَ مُضْطَجِعًا عَلَيْهِ وَلا أَنْ يَكُونَ فِي مُحَاذَاتِهِ، إِذِ الْمُحَاذِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِلْمُحَاذَى وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَكْبَرَ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَصْغَرَ مِنْهُ، وَكُلُّ هَذَا لا يَصِحُّ إِلَّا لِلشَّىْءِ الَّذِي لَهُ جِرْمٌ وَمِسَاحَةٌ وَالَّذِي لَهُ جِرْمٌ وَمِسَاحَةٌ مُحْتَاجٌ إِلَى مَنْ رَكَّبَهُ، وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: «وَالَّذِي يَدْحَضُ شُبَهَهُمْ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْعَالَمَ أَوِ الْمَكَانَ هَلْ كَانَ مَوْجُودًا أَمْ لا؟

الشَّرْحُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكْسِرَ هَؤُلاءِ الْمُشَبِّهَةَ يَقُولُ لَهُمْ: هَلِ اللَّهُ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ الْمَكَانِ أَمْ لا؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ كَانَ مَوْجُودًا يُقَالُ لَهُمْ: إِذًا وُجُودُهُ بِلا مَكَانٍ صَحِيحٌ، لِأَنَّكُمُ اعْتَرَفْتُمْ أَنَّهُ قَبْلَ الْمَكَانِ كَانَ مَوْجُودًا بِلا مَكَانٍ، نَحْنُ نَقُولُ: وَالآنَ هُوَ مَوْجُودٌ بِلا مَكَانٍ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَمِنْ ضَرُورَةِ الْعَقْلِ أَنْ يَقُولُوا بَلَى فَيَلْزَمُهُ لَوْ صَحَّ قَوْلُهُ لا يُعْلَمُ مَوْجُودٌ إِلَّا فِي مَكَانٍ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَقُولَ: الْمَكَانُ وَالْعَرْشُ وَالْعَالَمُ قَدِيمٌ، وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ: الرَّبُّ مُحْدَثٌ، وَهَذَا مَآلُ الْجَهَلَةِ الْحَشْوِيَّةِ، لَيْسَ الْقَدِيمُ بِالْمُحْدَثِ وَالْمُحْدَثُ بِالْقَدِيمِ» اهـ.

الشَّرْحُ هَذَا نِهَايَةُ كَلامِ الْحَشْوِيَّةِ، وَهُمُ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ لِلَّهِ الْمَكَانَ، يُقَالُ لَهُمْ: لَيْسَ الْقَدِيمُ بِالْمُحْدَثِ وَلا الْمُحْدَثُ بِالْقَدِيمِ، أَيِ الْقَدِيمُ لا يَكُونُ مُحْدَثًا وَالْمُحْدَثُ لا يَكُونُ قَدِيمًا، وَالْمُحْدَثُ هُوَ الْمَخْلُوقُ أَيِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا ثُمَّ صَارَ مَوْجُودًا وَهُوَ الْعَالَمُ، وَالْحَشْوِيَّةُ بِتَسْكِينِ الشِّينِ وَيُقَالُ بِفَتْحِهَا.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ أَيْضًا فِي التَّذْكِرَةِ الشَّرْقِيَّةِ: «فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [سُورَةَ طَه/5] فَيَجِبُ الأَخْذُ بِظَاهِرِهِ، قُلْنَا: اللَّهُ يَقُولُ أَيْضًا: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [سُورَةَ الْحَدِيد/4]، وَيَقُولُ: ﴿أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطٌ﴾ [سُورَةَ طَه/5] فَيَنْبَغِي أَيْضًا أَنْ نَأْخُذَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الآيَاتِ حَتَّى يَكُونَ عَلَى الْعَرْشِ وَعِنْدَنَا وَمَعَنَا وَمُحِيطًا بِالْعَالَمِ مُحْدِقًا بِهِ بِالذَّاتِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ.

الشَّرْحُ إِنْ قَالَتِ الْمُشْبِّهَةُ الْمُجَسِّمَةُ لَنَا: ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ نَأْخُذُ بِظَاهِرِهِ فَنَقُولُ إِنَّهُ هُنَاكَ وَنُثْبِتُ أَنَّهُ سَاكِنٌ عَلَى الْعَرْشِ قَاعِدٌ عَلَيْهِ أَوْ مُسْتَقِرٌّ، قُلْنَا لَهُمْ: اللَّهُ تَعَالَى قَالَ أَيْضًا: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ وَقَالَ: ﴿أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطٌ﴾ فَنَحْنُ إِذَا عَلَى زَعْمِكُمْ أَخَذْنَا بِظَاهِرِ هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ كَمَا أَنْتُمْ أَخَذْتُمْ بِظَاهِرِ اسْتَوَى فَقُلْتُمْ سَاكِنٌ فَوْقُ، فَيَكُونُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى كَلامِكُمْ مَعَنَا وَعَلَى الْعَرْشِ وَمُحِيطًا بِنَا وَبِالْعَالَمِ هَكَذَا كَالدَّائِرَةِ فَهَلْ هَذَا يَصِحُّ عِنْدَكُمْ؟ فَإِنْ حَمَلْتُمْ أَنْتُمْ تِلْكَ عَلَى ظَاهِرِهَا وَنَحْنُ حَمَلْنَا هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ عَلَى ظَاهِرِهِمَا، اللَّهُ عَلَى زَعْمِكُمْ يَكُونُ بِذَاتِهِ فَوْقَ الْعَرْشِ وَيَكُونُ بِذَاتِهِ مَعَ كُلِّ شَخْصٍ فِي الأَرْضِ وَيَكُونُ كَالدَّائِرَةِ الْمُحِيطَةِ بِمَا فِيهَا فَمَاذَا تَقُولُونَ؟ فَلَيْسَ لَهُمْ جَوَابٌ، فَهَلْ يَصِحُّ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ بِذَاتِهِ فَوْق، وَهُوَ بِذَاتِهِ مَعَ كُلِّ شَخْصٍ لِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ أَنَّهُ مَعَ هَذَا بِذَاتِهِ وَمَعَ هَذَا وَمَعَ هَذَا، وَظَاهِرَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطٌ﴾ أَنْ يَكُونَ هُوَ كَالدَّائِرَةِ تُحِيطُ بِمَا فِيهَا بِمَا فِي ضِمْنِهَا، فَهَذَا لا يُعْقَلُ أَيْ أَنْ يَكُونَ الشَّىْءُ الْوَاحِدُ فِي أَمَاكِنَ مُتَعَدِّدَةٍ بِذَاتٍ وَاحِدٍ، هَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَبِي نَصْرٍ الْقُشَيْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ حُجَّةٌ مُفْحِمَةٌ قَاطِعَةٌ.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْوَاحِدُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ بِذَاتِهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ بِكُلِّ مَكَانٍ.

الشَّرْحُ الشَّىْءُ الْوَاحِدُ بِعَيْنِهِ لا يَصِحُّ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، أَمَّا مَا يَقُولُهُ الصُّوفِيَّةُ: إِنَّ الْوَلِيَّ يَكُونُ لَهُ شَبَحٌ مِثَالِيٌّ أَيْ غَيْرُ الْجِسْمِ الأَصْلِيِّ فَلا يُحِيلُهُ الْعَقْلُ لِأَنَّهُمْ لا يَقُولُونَ الذَّاتُ الَّذِي هُنَا بِعَيْنِهِ هُنَاكَ يَكُونُ، إِنَّمَا يَكُونُ مِثَالُهُ.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَالُوا: قَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ﴾ يَعْنِي بِالْعِلْمِ، وَ: ﴿بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطٌ﴾ إِحَاطَةَ الْعِلْمِ، قُلْنَا: وَقَوْلُهُ: ﴿عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ قَهَرَ وَحَفِظَ وَأَبْقَى»، انْتَهَى.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَعْنِي أَنَّهُمْ قَدْ أَوَّلُوا هَذِهِ الآيَاتِ وَلَمْ يَحْمِلُوهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا فَكَيْفَ يَعِيبُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ تَأْوِيلَ ءَايَةِ الِاسْتِوَاءِ بِالْقَهْرِ، فَمَا هَذَا التَّحَكُّمُ؟!

الشَّرْحُ إِنْ قَالُوا: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ﴾ أَيْ بِعِلْمِهِ أَيْ عَالِمٌ بِنَا أَيْنَمَا كُنَّا وَلَيْسَ مَعْنَاهُ عَلَى الظَّاهِرِ أَنَّهُ مَعَ هَذَا وَمَعَ هَذَا، وَإِنْ قَالُوا الإِحَاطَةُ إِحَاطَةُ الْعِلْمِ، نَقُولُ لَهُمْ: نَحْنُ كَذَلِكَ نُؤَوِّلُ اسْتَوَى بِقَهَرَ كَمَا أَنْتُمْ أَوَّلْتُمْ هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ فَمَا هَذَا التَّحَكُّمُ أَيْ مَا هَذِهِ الدَّعْوَى الَّتِي بِلا دَلِيلٍ.

ثُمَّ قَالَ الْقُشَيْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: «وَلَوْ أَشْعَرَ مَا قُلْنَا تَوَهُّمَ غَلَبَتِهِ لَأَشْعَرَ قَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام/18] بِذَلِكَ أَيْضًا حَتَّى يُقَالَ كَانَ مَقْهُورًا قَبْلَ خَلْقِ الْعِبَادِ هَيْهَاتَ إِذْ لَمْ يَكُنْ لِلْعِبَادِ وُجُودٌ قَبْلَ خَلْقِهِ إِيَّاهُمْ بَلْ لَوْ كَانَ الأَمْرُ عَلَى مَا تَوَهَّمَهُ الْجَهَلَةُ مِنْ أَنَّهُ اسْتِوَاءٌ بِالذَّاتِ لَأَشْعَرَ ذَلِكَ بِالتَّغَيُّرِ وَاعْوِجَاجٍ سَابِقٍ عَلَى وَقْتِ الِاسْتِوَاءِ فَإِنَّ الْبَارِئَ تَعَالَى كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ الْعَرْشِ، وَمَنْ أَنْصَفَ عَلِمَ أَنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: الْعَرْشُ بِالرَّبِّ اسْتَوَى أَمْثَلُ مِنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ الرَّبُّ بِالْعَرْشِ اسْتَوَى، فَالرَّبُّ إِذًا مَوْصُوفٌ بِالْعُلُوِّ وَفَوْقِيَّةِ الرُّتْبَةِ وَالْعَظَمَةِ وَمُنَزَّهٌ عَنِ الْكَوْنِ فِي الْمَكَانِ وَعَنِ الْمُحَاذَاةِ» اهـ.

الشَّرْحُ الْمُحَاذَاةُ الْمُقَابَلَةُ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ فِي مُقَابَلَةِ الْعَرْشِ، فَإِنْ قَالُوا: قَهَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُغَالَبًا [يَصِحُّ بِفَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِهَا]، أَيْ أَنَّهُ كَانَ يَتَشَاجَرُ وَيَتَغَالَبُ مَعَ غَيْرِهِ فَلا يَصِحُّ هَذَا التَّأْوِيلُ، نَقُولُ لَهُمْ: هُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ: ﴿وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ [سُورَةَ الرَّعْد/16] إِذًا يَلْزَمُ عَلَى قَوْلِكُمْ هُنَا أَنْ يَكُونَ مُغَالَبًا ثُمَّ غَلَبَ فَهَلْ تَقُولُونَ بِذَلِكَ؟

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: «وَقَدْ نَبَغَتْ نَابِغَةٌ مِنَ الرَّعَاعِ لَوْلا اسْتِنْزَالُهُمْ لِلْعَوَامِّ بِمَا يَقْرُبُ مِنْ أَفْهَامِهِمْ وَيُتَصَوَّرُ فِي أَوْهَامِهِمْ لَأَجْلَلْتُ هَذَا الْكِتَابَ عَنْ تَلْطِيخِهِ بِذِكْرِهِمْ، يَقُولُونَ: نَحْنُ نَأْخُذُ بِالظَّاهِرِ وَنَحْمِلُ الآيَاتِ الْمُوهِمَةَ تَشْبِيهًا وَالأَخْبَارَ الْمُوهِمَةَ حَدًّا وَعُضْوًا عَلَى الظَّاهِرِ وَلا يَجُوزُ أَنْ نُطَرِّقَ التَّأْوِيلَ إِلَى شَىْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَيَتَمَسَّكُونَ عَلَى زَعْمِهِمْ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان/7]. وَهَؤُلاءِ وَالَّذِي أَرْوَاحُنَا بِيَدِهِ أَضَرُّ عَلَى الإِسْلامِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَعَبَدَةِ الأَوْثَانِ لِأَنَّ ضَلالاتِ الْكُفَّارِ ظَاهِرَةٌ يَتَجَنَّبُهَا الْمُسْلِمُونَ، وَهَؤُلاءِ أَتَوُا الدِّينَ وَالْعَوَامَّ مِنْ طَرِيقٍ يَغْتَرُّ بِهِ الْمُسْتَضْعَفُونَ فَأَوْحَوْا إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ بِهَذِهِ الْبِدَعِ وَأَحَلُّوا فِي قُلُوبِهِمْ وَصْفَ الْمَعْبُودِ سُبْحَانَهُ بِالأَعْضَاءِ وَالْجَوَارِحِ وَالرُّكُوبِ وَالنُّزُولِ وَالِاتِّكَاءِ وَالِاسْتِلْقَاءِ وَالِاسْتِوَاءِ بِالذَّاتِ وَالتَّرَدُّدِ فِي الْجِهَاتِ.

الشَّرْحُ التَّرَدُّدُ أَيِ التَّنَقُّلُ فِي الْجِهَاتِ، وَالرَّعَاعُ أَيِ السُّفَهَاءُ، وَهَؤُلاءِ أَوْهَمُوا النَّاسَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَهُ حَرَكَةٌ وَتَرَدُّدٌ فِي الْجِهَاتِ وَأَنَّ لَهُ أَعْضَاءَ لِأَنَّهُمْ يُورِدُونَ هَذِهِ الآيَاتِ وَيَقُولُونَ نَحْنُ نَأْخُذُ بِالظَّاهِرِ وَهَؤُلاءِ ضَرَرُهُمْ كَبِيرٌ.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: «فَمَنْ أَصْغَى إِلَى ظَاهِرِهِمْ يُبَادِرُ بِوَهْمِهِ إِلَى تَخَيُّلِ الْمَحْسُوسَاتِ فَاعْتَقَدَ الْفَضَائِحَ فَسَالَ بِهِ السَّيْلُ وَهُوَ لا يَدْرِي» اهـ.

الشَّرْحُ الْمَحْسُوسَاتُ مَعْنَاهُ الأَشْيَاءُ الَّتِي نَرَاهَا بِأَعْيُنِنَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، فَهَؤُلاءِ الْمُشَبِّهَةُ يُوهِمُونَ النَّاسَ أَنَّ اللَّهَ مِثْلُ ذَلِكَ، مِثْلُ هَذِهِ الأَشْيَاءِ الْبَشَرِ وَالضَّوْءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: «إِنَّ التَّأْوِيلَ غَيْرُ جَائِزٍ» خَبْطٌ وَجَهْلٌ وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ وَتَأْوِيلَ الْكِتَابِ »رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمَا بِأَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ.

الشَّرْحُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ لِعَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ: «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ وَالتَّأْوِيلَ» أَيْ أَنَّ الرَّسُولَ دَعَا لَهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ اللَّهُ تَأْوِيلَ الْقُرْءَانِ وَالْحَدِيثِ، هَذَا الْحَدِيثُ يَكْسِرُهُمْ فَيُقَالُ لَهُمْ: كَيْفَ تُنْكِرُونَ التَّأْوِيلَ وَالرَّسُولُ دَعَا لِابْنِ عَبَّاسٍ بِالتَّأْوِيلِ فَلَوْ كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ فَيَكُونُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى زَعْمِكُمْ دَعَا بِدُعَاءٍ غَيْرِ جَائِزٍ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ «الْمَجَالِسُ»: «وَلا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ دُعَاءَ الرَّسُولِ هَذَا» اهـ، وَشَدَّدَ النَّكِيرَ وَالتَّشْنِيعَ عَلَى مَنْ يَمْنَعُ التَّأْوِيلَ وَوَسَّعَ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ، فَلْيُطَالِعْهُ مَنْ أَرَادَ زِيَادَةَ التَّأَكُّدِ.

الشَّرْحُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ الْحَنْبَلِيُّ تَكَلَّمَ بِهَذَا الأَمْرِ بِقُوَّةٍ فَمَنْ شَاءَ أَنْ يَعْرِفَ هَذَا الْمَوْضُوعَ أَكْثَرَ فَلْيُطَالِعْ كُتُبَ ابْنِ الْجَوْزِيِّ كَكِتَابِهِ الْبَازِ الأَشْهَبِ، وَكِتَابِهِ دَفْعِ شُبَهِ التَّشْبِيهِ بِأَكُفِّ التَّنْزِيهِ، وَكِتَابِهِ أَخْبَارِ الصِّفَاتِ فَإِنَّ فِيهَا تَشْنِيعًا كَبِيرًا عَلَى الْحَنَابِلَةِ الَّذِينَ يُجَسِّمُونَ اللَّهَ وَيَنْسُبُونَ التَّجْسِيمَ لِأَحْمَدَ وَهُوَ بَرِئٌ مِنْ ذَلِكَ. وَيَكْفِي فِي تَفْنِيدِ ذَلِكَ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْخِصَالِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ قَالَ أَحْمَدُ: مَنْ قَالَ اللَّهُ جِسْمٌ لا كَالأَجْسَامِ كَفَرَ اهـ. فَهُمْ كَاذِبُونَ فِي انْتِسَابِهِمْ لِأَحْمَدَ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّنْ فَوْقِهِمْ﴾ [سُورَةَ النَّحْل/50] فَوْقِيَّةُ الْقَهْرِ دُونَ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ أَيْ لَيْسَ فَوْقِيَّةَ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ [سُورَةَ الْفَجْر/22] لَيْسَ مَجِيءَ الْحَرَكَةِ وَالِانْتِقَالِ وَالزَّوَالِ وَإِفْرَاغِ مَكَانٍ وَمَلْءِ ءَاخَرَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ وَمَنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ يَكْفُرُ.

الشَّرْحُ مَعْنَاهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَلائِكَةِ الْمَجِيءُ الْمَحْسُوسُ الَّذِي هُوَ حَرَكَةٌ وَانْتِقَالٌ، فَهَذِهِ الآيَةُ فِيهَا اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ لِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَاللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْحَرَكَةَ وَالسُّكُونَ وَكُلَّ مَا كَانَ مِنْ صِفَاتِ الْحَوَادِثِ فَلا يُوصَفُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْحَرَكَةِ وَلا بِالسُّكُونِ، وَالْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ أَيْ أَثَرٌ مِنْ ءَاثَارِ قُدْرَتِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ إِنَّمَا جَاءَتْ قُدْرَتُهُ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي مَنَاقِبِ أَحْمَدَ وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُهُ.

الشَّرْحُ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِيمَا قَدَّمْنَا مِنْ هَذَا الشَّرْحِ.





تَفْسِيرُ مَعِيَّةِ اللَّهِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْءَانِ

وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [سُورَةَ الْحَدِيد/4] الإِحَاطَةُ بِالْعِلْمِ.

الشَّرْحُ أَيْ مُحِيطٌ بِكُمْ عِلْمًا لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْءٌ أَيْنَمَا كُنْتُمْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [سُورَةَ ق/16] مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ، هُوَ أَعْلَمُ بِنَا مِنْ أَنْفُسِنَا، اللَّهُ تَعَالَى تَعْظِيمًا لِنَفْسِهِ يَقُولُ: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ﴾ أَيْ إِلَى الْعَبْدِ ﴿مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ الْوَرِيدُ عِرْقَانِ فِي الإِنْسَانِ مِنْ جَانِبَيِ الرَّقَبَةِ يَنْزِلانِ مِنَ الرَّأْسِ وَيَتَّصِلانِ بِعِرْقِ الْقَلْبِ.

وَقَدْ قَالَ النَّازِلِيُّ صَاحِبُ التَّفْسِيرِ الْمَعْرُوفِ: «لا يَجُوزُ أَنْ نَقُولَ إِنَّهُ تَعَالَى بِكُلِّ مَكَانٍ، وَهَذَا قَوْلُ جَهَلَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ»، وَقَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْوَهَّابِ الشَّعْرَانِيُّ: قَالَ عَلِيٌّ الْخَوَّاصُ - يَعْنِي شَيْخَهُ فِي التَّصَوُّفِ-: «لا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى بِكُلِّ مَكَانٍ»، وَأَوَّلُ مَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ رَجُلٌ اسْمُهُ جَهْمُ بنُ صَفْوَانَ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَتَأْتِي الْمَعِيَّةُ أَيْضًا بِمَعْنَى النُّصْرَةِ وَالْكِلاءَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ﴾ [سُورَةَ النَّحْل/128].

الشَّرْحُ مَعْنَى الآيَةِ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ يَخَافُونَهُ، أَيْ يَنْصُرُهُمْ وَيَحْفَظُهُمْ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ يَمْشِي وَيَنْتَقِلُ مَعَهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَرَ الأَوْلِيَاءَ وَحَفِظَهُمْ مِنْ أَنْ يُغْرِقَهُمُ الشَّيْطَانُ فِي الْمَعَاصِي، وَمَا أَقْبَحَ قَوْلَ ابْنِ تَيْمِيَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى الْعَرْشِ حَقِيقَةً وَمَعَنَا حَقِيقَةً. هَذَا مَعَ أَنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ بِقَدْرِ الْعَرْشِ لا أَصْغَرَ وَلا أَكْبَرَ اهـ. وَقَدْ صَدَقَ قَوْلُ الْحَافِظِ أَبِي زُرْعَةَ الْعِرَاقِيِّ فِيهِ: عِلْمُهُ أَكْبَرُ مِنْ عَقْلِهِ اهـ أَيْ مَحْفُوظَاتُهُ أَكْبَرُ مِنْ فَهْمِهِ أَيْ أَنَّهُ فَاسِدُ الْفَهْمِ كَثِيرُ الْحِفْظِ.
وَأَمَّا النَّصْرُ إِنْ كَانَ بِالنِّسْبَةِ لِلأَعْدَاءِ كَالْكُفَّارِ فَالْمُؤْمِنُ مَنْصُورٌ مَعْنًى وَلَوْ كَانَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ أَصَابَهُ مِنَ الْعَدُوِّ تَلَفُ مَالٍ وَنَفْسٍ، فَهُوَ مَنْصُورٌ لِأَنَّ الْحَقَّ مَعَهُ، فَكَمْ مِنْ نَبِيٍّ قَتَلَهُ الْكُفَّارُ، وَالأَنْبِيَاءُ لَيْسُوا هَيِّنِينَ عِنْدَ اللَّهِ، أَمَّا أَعْدَاؤُهُمْ فَهُمُ الْمَغْلُوبُونَ لِأَنَّهُمْ عَلَى بَاطِلٍ وَفِي الآخِرَةِ لَيْسَ لَهُمْ إِلَّا الْعَذَابُ الأَلِيمُ، أَمَّا أَوْلِيَاءُ اللَّهِ فَهُمْ فِي الدُّنْيَا مَنْصُورُونَ بِالْحُجَّةِ وَأَحْيَانًا بِالْحُجَّةِ وَالْغَلَبَةِ الظَّاهِرَةِ وَفِي الآخِرَةِ مَنْصُورُونَ حُجَّةً وَظَاهِرًا وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا﴾ الآيَةَ [سُورَةَ غَافِر/51]. فَمَعْنَى مَعِيَّةِ الْكِلاءَةِ وَالنُّصْرَةِ يَحْفُظُهُمْ مِنْ أَنْ يَغْرَقُوا فِي الْمَعَاصِي فَيَصِيرُوا أُسَرَاءَ لِلشَّيْطَانِ.

الْمَعِيَّةُ الأُولَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ تَشْمَلُ جَمِيعَ الْخَلْقِ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ، لِأَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِأَحْوَالِ الْجَمِيعِ، بِأَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَبِأَحْوَالِ الْكَافِرِينَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْءٌ، أَمَّا مَعِيَّةُ الْكِلاءَةِ وَالنُّصْرَةِ فَهِيَ خَاصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ الأَتْقِيَاءِ.

تَنْبِيهٌ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [سُورَةَ الرُّوم/47] أَيْ أَنَّنَا نَتَفَضَّلُ وَنَتَكَرَّمُ عَلَيْهِمْ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ لا يَجِبُ شَىْءٌ عَلَى اللَّهِ، فَاللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ لِأَحَدٍ حَقٌّ لازِمٌ عَلَيْهِ أَيْ أَمْرٌ يَلْزَمُهُ وَهُوَ مَجْبُورٌ عَلَيْهِ وَإِنْ تَرَكَهُ يَكُونُ ظَالِمًا، اللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، إِنَّمَا اللَّهُ مُتَفَضِّلٌ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يُكْرِمَهُمْ إِنْ هُمْ أَدَّوْا مَا عَلَيْهِمْ، وَمِنْ هُنَا كَرِهَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: أَسْأَلُكَ بِحَقِّ فُلانٍ، لِأَنَّهُ يَرَى أَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ تُوهِمُ أَنَّ عَلَى اللَّهِ حَقًّا لِخَلْقِهِ لازِمًا لَهُ فَمِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ كَرِهَ ذَلِكَ، ثُمَّ غَيْرُ أَبِي حَنِيفَةَ يَرَى أَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ لا تُوهِمُ ذَلِكَ إِنَّمَا مَعْنَاهُ أَسْأَلُكَ بِمَا لِفُلانٍ عِنْدَكَ مِنَ الْفَضْلِ وَالْكَرَامَةِ أَنْ تُعْطِيَنَا كَذَا وَكَذَا، وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ الرَّاجِحُ لِثُبُوتِهِ فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ حَدِيثُ «أَسْأَلُكَ بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْكَ» إِلَى ءَاخِرِهِ. فَإِنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ وَغَيْرُهُ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَيْسَ الْمَعْنِيُّ بِهَا الْحُلُولَ وَالِاتِّصَالَ وَيَكْفُرُ مَنْ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الِاتِّصَالِ وَالِانْفِصَالِ بِالْمَسَافَةِ. فَلا يُقَالُ إِنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْعَالَمِ وَلا مُنْفَصِلٌ عَنْهُ بِالْمَسَافَةِ لِأَنَّ هَذِهِ الأُمُورَ مِنْ صِفَاتِ الْحَجْمِ وَالْحَجْمُ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ الأَمْرَيْنِ وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلا لَيْسَ بِحَادِثٍ، نَفَى ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾.

الشَّرْحُ لا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِالْعَالَمِ وَلا مُنْفَصِلًا عَنِ الْعَالَمِ بِالْمَسَافَةِ، وَحِينَمَا يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ فِي الآخِرَةِ بَعْدَمَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يَرَوْنَهُ بِلا مَسَافَةٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، لا يَرَوْنَهُ حَجْمًا لَطِيفًا وَلا حَجْمًا كَثِيفًا وَلا بِمَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ أَوْ بَعِيدَةٍ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلا يُوصَفُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْكِبَرِ حَجْمًا [فَقَوْلُنَا: «اللَّهُ أَكْبَرُ» مَعْنَاهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ كَبِيرٍ قَدْرًا وَدَرَجَةً وَقُوَّةً وَعِلْمًا لا امْتِدَادً، وَهَذَا مُرَادُ السَّلَفِ بِقَوْلِهِمْ فِي الآيَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ: «أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلا كَيْفِيَّةٍ» لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ لَهُ كَيْفِيَّةً لَيْسَتْ مَعْلُومَةً لَنَا. وَلَيْسَ مُوَافِقًا لِلسَّلَفِ مَنْ يَقُولُ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ اسْتِوَاءُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعَرْشِ جُلُوسٌ وَلَكِنْ لا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ الْجُلُوسِ] وَلا بِالصِّغَرِ، وَلا بِالطُّولِ وَلا بِالْقِصَرِ، لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْحَوَادِثِ، وَيَجِبُ طَرْدُ كُلِّ فِكْرَةٍ عَنِ الأَذْهَانِ تُفْضِي إِلَى تَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَحْدِيدِهِ.

الشَّرْحُ كُلُّ شَىْءٍ يُوهِمُ أَنَّ اللَّهَ لَهُ حَجْمٌ وَمِسَاحَةٌ وَكَمِيَّةٌ يَجِبُ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْقَلْبِ لِأَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. فَالْحَجْمُ حَادِثٌ مَهْمَا كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، وَأَصْغَرُ الأَشْيَاءِ يُقَالُ لَهُ الْجَوْهَرُ الْفَرْدُ وَهُوَ لا يَنْقَسِمُ وَأَعْظَمُ الأَجْرَامِ هُوَ الْعَرْشُ، وَاللَّهُ تَعَالَى لا يُشْبِهُ هَذَا وَلا هَذَا. كُلُّ شَىْءٍ فِيهِ تَأْلِيفٌ وَتَرْكِيبٌ مُحْتَاجٌ إِلَى مَنْ ألَّفَهُ وَرَكَّبَهُ وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، فَالْمُؤْمِنُ يُرِيحُ ضَمِيرَهُ بِاعْتِقَادِ أَنَّهُ مَهْمَا تَصَوَّرَ بِبَالِهِ فَاللَّهُ بِخِلافِ ذَلِكَ، فَإِذَا لَزِمَ هَذَا ارْتَاحَ ضَمِيرُهُ.

فَكُلُّ الْخَوَاطِرِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى جَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذَا مِقْدَارٍ وَشَكْلٍ وَهَيْئَةٍ تُنْبَذُ وَتُطْرَدُ، فَالْمُؤْمِنُ يَتْرُكُ هَذِهِ الْخَوَاطِرَ وَيَنْشَغِلُ بِغَيْرِهَا، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو الْقَاسِمِ الأَنْصَارِيُّ: «لا فِكْرَةَ فِي الرَّبِّ» مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لا يُدْرِكُهُ الْوَهْمُ، لِأَنَّ الْوَهْمَ يُدْرِكُ الأَشْيَاءَ الَّتِي أَلِفَهَا أَوْ هِيَ مِنْ جِنْسِ مَا أَلِفَهُ كَالإِنْسَانِ وَالْغَمَامِ وَالْمَطَرِ وَالشَّجَرِ وَالضَّوْءِ وَالظَّلامِ وَالرِّيحِ وَالظِّلِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالأَشْيَاءُ الْحَادِثَةُ لَوْ لَمْ يَرَهَا الإِنْسَانُ كَالْعَرْشِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَصَوَّرَهَا وَلَوْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا ذُكِرَتْ لَنَا الْجَنَّةُ يُمْكِنُنَا أَنْ نَتَصَوَّرَهَا فِي أَوْهَامِنَا فَنُصَادِفُ الْحَقِيقَةَ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ وَنُخْطِئُ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ، أَمَّا اللَّهُ تَعَالَى فَلا تُدْرِكُهُ تَصَوُّرَاتُ الْعِبَادِ وَأَوْهَامُهُمْ وَقَدْ قَالَ أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ الَّذِي هُوَ مِنْ مَشَاهِيرِ الصَّحَابَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾: «إِلَيْهِ يَنْتَهِي فِكْرُ مَنْ تَفَكَّرَ» رَوَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ الأَنْصَارِيُّ فِي شَرْحِ الإِرْشَادِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: كَانَ الْيَهُودُ قَدْ نَسَبُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى التَّعَبَ، فَقَالُوا إِنَّهُ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ اسْتَرَاحَ فَاسْتَلْقَى عَلَى قَفَاهُ، وَقَوْلُهُمْ هَذَا كُفْرٌ. وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، وَعَنِ الِانْفِعَالِ كَالإِحْسَاسِ بِالتَّعَبِ وَالآلامِ وَاللَّذَّاتِ، فَالَّذِي تَلْحَقُهُ هَذِهِ الأَحْوَالُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا مَخْلُوقًا يَلْحَقُهُ التَّغَيُّرُ، وَهَذَا يَسْتَحِيلُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.

قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُّغُوبٍ﴾ [سُورَةَ ق/38].

الشَّرْحُ الْيَهُودُ قَالَتْ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَرَاحَ يَوْمَ السَّبْتِ فَاسْتَلْقَى عَلَى قَفَاهُ، جَعَلُوهُ جِسْمًا لَهُ أَعْضَاءٌ، وَكَذَلِكَ الْمُشَبِّهَةُ جَعَلَتْهُ جِسْمًا لَهُ أَعْضَاءٌ فَقَالَتْ إِنَّهُ جَالِسٌ عَلَى الْعَرْشِ. فَالْمُشَبِّهَةُ إِخْوَةُ الْيَهُودِ وَإِنْ ظَنُّوا بِأَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ مُوَحِّدُونَ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا أَصَابَهُ مِنْ لُغُوبٍ وَاللُّغُوبُ مَعْنَاهُ التَّعَبُ، لِأَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنِ التَّعَبِ وَعَنْ كُلِّ الِانْفِعَالاتِ، وَمُنَزَّهٌ عَنِ الْغَضَبِ بِالِانْفِعَالِ وَالرِّضَا بِالِانْفِعَالِ.

فَائِدَةٌ خُلِقَتِ الأَرْضُ يَوْمَ الأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ ثُمَّ خُلِقَتِ السَّمَوَاتُ فِي الْيَوْمَيْنِ التَّالِيَيْنِ الثُّلاثَاءِ وَالأَرْبِعَاءِ، ثُمَّ خُلِقَتِ الْبَهَائِمُ وَالأَشْجَارُ الْخَمِيسَ وَالْجُمُعَةَ، ثُمَّ دُحِيَتِ الأَرْضُ، وَالدَّحْوُ هُوَ الْبَسْطُ بِأَنْ خَلَقَ فِيهَا الأَشْجَارَ وَالأَنْهَارَ وَسَائِرَ الْمَرَافِقِ وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ ﴿وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ [سُورَةَ النَّازِعَات/30] وَلَيْسَ مَعْنَى الدَّحْوِ جَعْلَهَا كُرَوِيَّةً وَهَذَا خِلافُ اللُّغَةِ، ثُمَّ خُلِقَ ءَادَمُ ءَاخِرَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَكُلُّ يَوْمٍ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ السِّتَّةِ الَّتِي خُلِقَتْ فِيهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ قَدْرُ أَلْفِ سَنَةٍ بِتَقْدِيرِ أَيَّامِنَا هَذِهِ. وَكُلُّ شَىْءٍ يَنْتَفِعُ بِهِ ابْنُ ءَادَمُ خُلِقَ قَبْلَ ابْنِ ءَادَمَ، الْبَهَائِمُ خُلِقَتْ لِنَنْتَفِعَ بِهَا وَكَذَلِكَ الطُّيُورُ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ﴾ [سُورَةَ الْجَاثِيَة/13].

وَالأَرْضُ مَسْطُوحَةٌ شَبِيهَةٌ بِالْكُرَةِ لا تَنَافِيَ بَيْنَ الأَمْرَيْنِ بَيْنَ سَطْحِهَا وَبَيْنَ شَبَهِهَا بِالْكُرَةِ، لِأَنَّ مَعْنَى مَسْطُوحَةٍ مُوَسَّعَة، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ [سُورَةَ النَّازِعَات/30] مَعْنَاهُ وَسَّعَهَا، وَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ [سُورَةَ الْغَاشِيَة/20] أَنَّهَا لَيْسَتْ شَبِيهَةً بِالْكُرَةِ، فَالأَرْضُ لَهَا شَبَهٌ بِالْكُرَةِ وَهِيَ وَاسِعَةٌ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّمَا يَلْغَبُ مَنْ يَعْمَلُ بِالْجَوَارِحِ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْجَارِحَةِ.

الشَّرْحُ الَّذِي يَلْغَبُ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ بِالْجَوَارِحِ أَمَّا مَنْ فِعْلُهُ بِلا جَارِحَةٍ وَلا حَرَكَةٍ وَلا ءَالَةٍ وَلا مُبَاشَرَةٍ بَلْ بِالْقُدْرَةِ وَالإِرَادَةِ وَالْعِلْمِ فَلا يَلْغَبُ أَيْ لا يَلْحَقُهُ تَعَبٌ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [سُورَةَ غَافِر/20].

الشَّرْحُ الْبَارِئُ مَوْصُوفٌ بِالْبَصَرِ أَيْ بِالرُّؤْيَةِ، وَبِالسَّمْعِ أَيْ أَنَّهُ يَسْمَعُ الأَصْوَاتَ لا بِسَمْعٍ حَادِثٍ عِنْدَ حُدُوثِ الأَصْوَاتِ، وَيَرَى ذَاتَهُ وَالْمَخْلُوقَاتِ بِرُؤْيَةٍ أَزَلِيَّةٍ لَيْسَتْ بِرُؤْيَةٍ تَحْدُثُ لَهُ عِنْدَ حُدُوثِ الْمَرْئِيَّاتِ وَذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ شَأْنُ الْعِبَادِ يَسْمَعُونَ الأَصْوَاتَ بِسَمْعٍ يَحْدُثُ لَهُمْ عِنْدَ حُدُوثِهَا وَيَرَوْنَ الْمُبْصَرَات بِرُؤْيَةٍ تَحْدُثُ لَهُمْ عِنْدَ رُؤْيَتِهَا.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَاللَّهُ تَعَالَى سَمِيعٌ وَبَصِيرٌ بِلا كَيْفِيَّةٍ، فَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ هُمَا صِفَتَانِ أَزَلِيَّتَانِ بِلا جَارِحَةٍ، أَيْ بِلا أُذُنٍ أَوْ حَدَقَةٍ وَبِلا شَرْطِ قُرْبٍ أَوْ بُعْدٍ أَوْ جِهَةٍ، وَبِدُونِ انْبِعَاثِ شُعَاعٍ مِنَ الْبَصَرِ، أَوْ تَمَوُّجِ هَوَاءٍ.

وَمَنْ قَالَ لِلَّهِ أُذُنٌ فَقَدْ كَفَرَ، وَلَوْ قَالَ لَهُ أُذُنٌ لَيْسَتْ كَآذَانِنَا، بِخِلافِ مَنْ قَالَ لَهُ عَيْنٌ لَيْسَتْ كَعُيُونِنَا وَيَدٌ لَيْسَتْ كَأَيْدِينَا بَلْ بِمَعْنَى الصِّفَةِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ لِوُرُودِ إِطْلاقِ الْعَيْنِ وَالْيَدِ فِي الْقُرْءَانِ وَلَمْ يَرِدْ إِطْلاقُ الأُذُنِ عَلَيْهِ.

الشَّرْحُ لا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِلَّهِ أُذُنٌ لَيْسَتْ كَآذَانِنَا لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ إِطْلاقُ الأُذُنِ مُضَافًا إِلَى اللَّهِ لا فِي الْكِتَابِ وَلا فِي السُّنَّةِ، أَمَّا أَنْ يُقَالَ لِلَّهِ عَيْنٌ لَيْسَتْ كَأَعْيُنِنَا، أَوْ لِلَّهِ يَدٌ لَيْسَتْ كَأَيْدِينَا، أَوْ لِلَّهِ وَجْهٌ لَيْسَ كَوُجُوهِنَا فَيَجُوزُ لِأَنَّ ذَلِكَ وَرَدَ فِي الشَّرْعِ لَكِنْ مَعَ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنِ الْجَارِحَةِ، وَلا نَقِيسُ عَلَى الْيَدِ وَالْوَجْهِ وَالْعَيْنِ لِأَنَّ هَذَا وَرَدَ وَذَاكَ لَمْ يَرِدْ، قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الأَشْعَرِيُّ: «مَا أَطْلَقَ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ أَطْلَقْنَاهُ عَلَيْهِ وَمَا لا فَلا».

وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ: «لَلَّهُ أَشَدُّ أَذَنًا» فَالأَذَنُ هُوَ الِاسْتِمَاعُ وَلَيْسَ الأُذُنَ.



تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾

قَالَ تَعَالَى: ﴿وَللَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/115]، الْمَعْنَى: فَأَيْنَمَا تُوَجِّهُوا وُجُوهَكُمْ فِي صَلاةِ النَّفْلِ فِي السَّفَرِ فَثَمَّ قِبْلَةُ اللَّهِ، أَيْ: فَتِلْكَ الْوِجْهَةُ الَّتِي تَوَجَّهْتُمْ إِلَيْهَا هِيَ قِبْلَةٌ لَكُمْ، وَلا يُرَادُ بِالْوَجْهِ الْجَارِحَةُ. وَحُكْمُ مَنْ يَعْتَقِدُ الْجَارِحَةَ لِلَّهِ التَّكْفِيرُ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ لَهُ جَارِحَةٌ لَكَانَ مِثْلًا لَنَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَيْنَا مِنَ الْفَنَاءِ.

الشَّرْحُ الْمَشْرِقُ مِلْكٌ لِلَّهِ وَالْمَغْرِبُ مِلْكٌ لِلَّهِ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أَيْ أَيْنَمَا تَسْتَقْبِلُوا فِي صَلاةِ النَّفْلِ وَأَنْتُمْ رَاكِبُونَ الدَّابَّةَ فِي سَفَرِكُمْ فَهُنَاكَ قِبْلَةُ اللَّهِ، فَالْمُسَافِرُ إِذَا كَانَ رَاكِبًا الدَّابَّةَ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ النَّفْلَ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي يُرِيدُهَا، وَلا يَلْتَحِقُ بِذَلِكَ رَاكِبُ السَّيَّارَاتِ وَالطَّائِرَاتِ كَمَا يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ. فَفِي هَذِهِ الآيَةِ أَطْلَقَ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ لَفْظَ الْوَجْهِ، فَنَحْنُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَرُدَّ ذَلِكَ لَكِنْ عَلَيْنَا أَنْ نَعْتَقِدَ أَنَّ الْوَجْهَ إِذَا أُطْلِقَ عَلَى اللَّهِ لَيْسَ هَذَا الْجُزْءَ، لَيْسَ الْجَارِحَةَ الَّتِي نَعْرِفُهَا، فَالَّذِي يَعْتَقِدُ فِي اللَّهِ الْجَارِحَةَ يَكْفُرُ، وَتَكْفِيرُ الْمُجَسِّمِ هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ ابْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا، فَقَوْلُ بَعْضِ الْمُنْتَسِبِينَ الْمُتَأَخِّرِينَ لِلْمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بِعَدَمِ تَكْفِيرِهِمْ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ السَّلَفُ، فَلا الْتِفَاتَ إِلَى مَا فِي كِتَابِ عِزِّ الدِّينِ بنِ عَبْدِ السَّلامِ الَّذِي هُوَ مِنْ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ.

فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: هَلْ فِي الْقُرْءَانِ مَذْكُورٌ أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْجَارِحَةِ عَنِ اللَّمْسِ وَاللِّسَانِ وَالأُذُنِ؟ نَقُولُ: يَكْفِي قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾. لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ جَارِحَةُ سَمْعٍ أَوْ جَارِحَةُ بَصَرٍ لَكَانَ مِثْلًا لَنَا وَلَوْ كَانَ مِثْلًا لَنَا لَمْ يَكُنْ إِلَهًا. وَأَمَّا اعْتِقَادُ أَنَّ لِلَّهِ سَمْعًا وَبَصَرًا بِجَارِحَتَيْنِ وَيُضِيفُ إِلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ لا كَجَوَارِحِنَا فَهُوَ مُنَاقَضَةٌ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ يُرَادُ بِالْوَجْهِ الْجِهَةُ الَّتِي يُرَادُ بِهَا التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، كَأَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ: «فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا لِوَجْهِ اللَّهِ»، وَمَعْنَى ذَلِكَ «فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى».

الشَّرْحُ يُقَالُ وَجْهُ اللَّهِ بِمَعْنَى قَصْدِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ، وَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: عَمِلْتُ هَذَا لِوَجْهِ اللَّهِ أَوِ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ فَمَعْنَاهُ عَمِلْتُ هَذَا لِلتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمُوَافَقَةً وَامْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ، أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ﴾ [سُورَةَ الْحَجّ/77]. وَهَذَا الْمَعْنَى لا يَصِحُّ سِوَاهُ فِي نَحْوِ حَدِيثِ «أَقْرَبُ مَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ إِذَا كَانَتْ فِي قَعْرِ بَيْتِهَا »فَلَيْسَ لِلْوَجْهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَعْنًى إِلَّا طَاعَةُ اللَّهِ. فَمَاذَا يَفْعَلُ الْمُجَسِّمُ إِذَا جَاءَ إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ أَيُفَسِّرُهُ عَلَى حَسَبِ اعْتِقَادِهِ أَنَّ لِلَّهِ وَجْهًا بِمَعْنَى الْجُزْءِ وَالْحَجْمِ الْمُرَكَّبِ عَلَى الْبَدَنِ وَلا يَجْرُؤُ عَلَى ذَلِكَ هُنَا فَلِمَاذَا يَعْتَقِدُ فِي نَحْوِ ءَايَةِ ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ وَءَايَةِ ﴿كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ الْحَجْمَ الْمَعْرُوفَ الْمُرَكَّبَ عَلَى الْبَدَنِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتْرُكَ اعْتِقَادَهُ وَلْيَقُلْ مَا يُنَاسِبُ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ بِهَذَا اللَّفْظِ وَلْيَلْتَزِمْ تَفْسِيرَ الرِّوَايَةِ الأُخْرَى لِهَذَا الْحَدِيثِ: «أَقْرَبُ مَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ إِلَى اللَّهِ إِذَا كَانَتْ فِي قَعْرِ بَيْتِهَا »عَلَى مَعْنَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ، فَكِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ صَحِيحَةٌ إِسْنَادًا وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ.

فَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ وَجْهَ اللَّهِ هُوَ الْحَجْمُ فَقَدْ أَلْحَدَ وَكَفَرَ لِأَنَّ الْحَجْمَ مَخْلُوقٌ إِنْ كَانَ كَثِيفًا وَإِنْ كَانَ لَطِيفًا لا بُدَّ لَهُ مِنْ مِقْدَارٍ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَكُلُّ شَىْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ [سُورَةَ الرَّعْد/8] فَالْحَجْمُ مَهْمَا كَانَ صَغِيرًا وَمَهْمَا كَانَ كَبِيرًا لَهُ مِقْدَارٌ فَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ حَجْمًا لَطِيفًا أَوْ كَثِيفًا لِأَنَّ الْحَجْمَ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِقْدَارٌ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَحْرُمُ أَنْ يُقَالَ كَمَا شَاعَ بَيْنَ الْجُهَّالِ: «افْتَحِ النَّافِذَةَ لَنَرَى وَجْهَ اللَّهِ»، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِمُوسَى: ﴿لَنْ تَرَانِي﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف/143]، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَصْدُ النَّاطِقِينَ بِهِ رُؤْيَةَ اللَّهِ فَهُوَ حَرَامٌ.

الشَّرْحُ هَذَا الْكَلامُ حَرَامٌ مَهْمَا كَانَتْ نِيَّةُ اللَّافِظِ بِهِ، لِأَنَّ هَذَا الْكَلامَ يُوهِمُ أَنَّ لِلَّهِ جِهَةً، وَأَنَّهُ يُرَى بِالْعَيْنِ فِي الدُّنْيَا وَأَنَّهُ هَذِهِ السَّمَاءُ الدُّنْيَا أَوْ هَذَا الْفَرَاغُ.



تَفْسِيرُ: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾

فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هَادِي أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لِنُورِ الإِيـمَانِ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَاللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ نُورًا بِمَعْنَى الضَّوْءِ، بَلْ هُوَ الَّذِي خَلَقَ النُّورَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام/1] أَيْ خَلَقَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ، فَكَيْف يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نُورًا كَخَلْقِهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَحُكْمُ مَنْ يَعْتِقَدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نُورٌ أَيْ ضَوْءٌ التَّكْفِيرُ قَطْعًا. وَهَذِهِ الآيَةُ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ أَصْرَحُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ حَجْمًا كَثِيفًا كَالسَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَيْسَ حَجْمًا لَطِيفًا كَالظُّلَمَاتِ وَالنُّورِ، فَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ حَجْمٌ كَثِيفٌ أَوْ لَطِيفٌ فَقَدْ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ وَالآيَةُ شَاهِدَةٌ عَلَى ذَلِكَ. أَكْثَرُ الْمُشَبِّهَةِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَجْمٌ كَثِيفٌ وَبَعْضُهُمْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ حَجْمٌ لَطِيفٌ حَيْثُ قَالُوا إِنَّهُ نُورٌ يَتَلأْلَأُ، فَهَذِهِ الآيَةُ وَحْدَهَا تَكْفِي لِلرَّدِّ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ.

وَهُنَاكَ الْعَدِيدُ مِنَ الْعَقَائِدِ الْكُفْرِيَّةِ كَاعْتِقَادِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذُو لَوْنٍ أَوْ ذُو شَكْلٍ فَلْيَحْذَرِ الإِنْسَانُ مِنْ ذَلِكَ جَهْدَهُ عَلَى أَيِّ حَالٍ.

الشَّرْحُ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ [سُورَةَ النُّور/35] فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي ءَاخِرِ الآيَةِ ﴿يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ يُفَسِّرُ أَوَّلَ الآيَةِ، وَيُبَيِّنُ لَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَنَى بِقَوْلِهِ: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [سُورَةَ النُّور/35] أَنَّهُ أَعْطَى الإِيـمَانَ لِأَهْلِ السَّمَوَاتِ وَهُمُ الْمَلائِكَةُ وَلِمَنْ شَاءَ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ مِنَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ. الإِيـمَانُ هُوَ نُورُ اللَّهِ هَذَا مَعْنَى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ أَيْ مُنِيرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ.

وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَفِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ». فَقَدْ نَقَلَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ أَنَّ أَحْمَدَ اسْتَنْكَرَهُ، وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَعْنَاهُ مَنَعَنِي نُورٌ مَخْلُوقٌ مِنْ رُؤْيَةِ اللَّهِ بِعَيْنَيْ رَأْسِي، وَالتَّقْدِيرُ فَاعِلٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ. وَمَنْ فَسَّرَ هَذَا الْحَدِيثَ بِالنُّورِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الظُّلْمَةِ فَقَدْ كَذَّبَ هَذِهِ الآيَةَ: ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾.



مَعْنَى الْقَدَرِ وَالإِيـمَانِ بِهِ

قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْقَدَرُ هُوَ تَدْبِيرُ الأَشْيَاءِ عَلَى وَجْهٍ مُطَابِقٍ لِعِلْمِ اللَّهِ الأَزَلِيِّ وَمَشِيئَتِهِ الأَزَلِيَّةِ فَيُوجِدُهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي عَلِمَ أَنَّهَا تَكُونُ فِيهِ.

الشَّرْحُ إِيْجَادُ اللَّهِ الأَشْيَاءَ عَلَى حَسَبِ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ الأَزَلِيِّ وَإِبْرَازُهَا فِي الْوُجُودِ عَلَى حَسَبِ مَشِيئَتِهِ الأَزَلِيَّةِ يُسَمَّى قَدَرًا، وَيُقَالُ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى: الْقَدَرُ هُوَ جَعْلُ كُلِّ شَىْءٍ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ.

وَلْيُعْلَمْ أَنَّ الْقَدَرَ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ صِفَةُ اللَّهِ أَيِ التَّدْبِيرُ وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْمَقْدُورُ أَيِ الْمَخْلُوقُ وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِحَدِيثِ جِبْرِيلَ: «وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»، لِأَنَّ الْمَقْدُورَ هُوَ الَّذِي يُوصَفُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ عَمَلُ الْعَبْدِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ بِاخْتِيَارِهِ.

الشَّرْحُ الإِنْسَانُ إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً يُسَمَّى عَمَلُهُ خَيْرًا، وَإِنْ عَمِلَ الإِنْسَانُ مَعْصِيَةً يُسَمَّى عَمَلُهُ شَرًّا وَكِلاهُمَا بِخَلْقِهِ تَعَالَى، أَمَّا اللَّهُ تَعَالَى تَقْدِيرُهُ لا يُسَمَّى شَرًّا، تَقْدِيرُهُ حَسَنٌ لَيْسَ فِيهِ شَرٌّ.

أَمَّا فِعْلُ الْعَبْدِ لِلْقَبِيحِ قَبِيحٌ مِنَ الْعَبْدِ وَأَمَّا تَقْدِيرُ اللَّهِ لِلْقَبِيحِ لَيْسَ قَبِيحًا مِنَ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ خَلْقُهُ لِلْقَبِيحِ لَيْسَ مِنَ اللَّهِ قَبِيحًا كَمَا أَنَّ إِرَادَتَهُ لِوُجُودِ الشَّرِّ لَيْسَتْ قَبِيحَةً مِنْهُ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى جِبْرِيلَ حِينَ سَأَلَهُ عَنِ الإِيـمَانِ: «الإِيـمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ »رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي قَدَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَفِيهَا الْخَيْرُ وَالشَّرُّ وُجِدَتْ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ الأَزَلِيِّ، وَأَمَّا تَقْدِيرُ اللَّهِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ ذَاتِهِ فَهُوَ لا يُوصَفُ بِالشَّرِّ بَلْ تَقْدِيرُ اللَّهِ لِلشَّرِّ الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ وَتَقْدِيرُهُ لِلإِيـمَانِ وَالطَّاعَةِ حَسَنٌ مِنْهُ لَيْسَ قَبِيحًا.

الشَّرْحُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ: «الإِيـمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ »أَيِ اعْتِقَادُ أَنَّ الْمَقْدُورَاتِ كُلَّهَا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَكُونُ أَيْ بِإِيْجَادِهِ إِيَّاهَا، فَالطَّاعَةُ الَّتِي تَحْصُلُ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ وَالْمَعْصِيَةُ الَّتِي تَحْصُلُ مِنْهُمْ كُلٌّ بِخَلْقِ اللَّهِ وَإِيْجَادِهِ إِيَّاهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ تَقْدِيرَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ صِفَتُهُ حَسَنٌ لا يُوصَفُ بِأَنَّهُ شَرٌّ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِرَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى نَافِذَةٌ فِي جَمِيعِ مُرَادَاتِهِ عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ بِهَا.

الشَّرْحُ إِرَادَةُ اللَّهِ أَيْ مَشِيئَتُهُ نَافِذَةٌ لا تَتَخَلَّفُ لَيْسَتْ كَمَشِيئَةِ الْعِبَادِ، مَشِيئَةُ الْعِبَادِ تَتَنَفَّذُ فِي بَعْضِ الْحَالاتِ وَلا تَتَنَفَّذُ فِي بَعْضِ الْحَالاتِ، أَمَّا اللَّهُ تَعَالَى فَمَشِيئَتُهُ نَافِذَةٌ فِي كُلِّ مُرَادَاتِهِ، وَهَذَا مَعْنَى مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ: «مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ».

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَمَا عَلِمَ كَوْنَهُ أَرَادَ كَوْنَهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ، وَمَا عَلِمَ أَنَّهُ لا يَكُونُ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَكُونَ.

الشَّرْحُ مَا عَلِمَ اللَّهُ فِي الأَزَلِ أَنَّهُ يَكُونُ فَقَدْ شَاءَ كَوْنَهُ فَلا بُدَّ أَنْ يَكُونَ، فَأَعْمَالُنَا الَّتِي سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهَا تَكُونُ شَاءَ أَنْ تَكُونَ فَلا بُدَّ أَنْ تَكُونَ، وَأَمَّا مَا لَمْ يَشَأِ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ فَلا يَكُونُ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَلا يَحْدُثُ فِي الْعَالَمِ شَىْءٌ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَلا يُصِيبُ الْعَبْدَ شَىْءٌ مِنَ الْخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ أَوِ الصِّحَّةِ أَوِ الْمَرَضِ أَوِ الْفَقْرِ أَوِ الْغِنَى أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلا يُخْطِئُ الْعَبْدَ شَىْءٌ قَدَّرَ اللَّهُ وَشَاءَ أَنْ يُصِيبَهُ، فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَ بَعْضَ بَنَاتِهِ: «مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي السُّنَنِ ثُمَّ تَوَاتَرَ وَاسْتَفَاضَ بَيْنَ أَفْرَادِ الأُمَّةِ.

الشَّرْحُ مَشِيئَةُ اللَّهِ شَامِلَةٌ لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ الْخَيْرِ مِنْهَا وَالشَّرِّ، فَكُلُّ مَا دَخَلَ فِي الْوُجُودِ مِنْ أَعْمَالِ الشَّرِّ مِنْ كُفْرٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ فَبِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقَعَ وَحَصَلَ، وَهَذَا كَمَالٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ شُمُولَ الْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ لائِقٌ بِجَلالِ اللَّهِ، فَلَوْ كَانَ يَقَعُ فِي مِلْكِهِ مَا لا يَشَاءُ لَكَانَ ذَلِكَ مُنَافِيًا لِلأُلُوهِيَّةِ. أَمَّا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ لَنْ يَخْلُصَ الإِيـمَانُ إِلَى قَلْبِهِ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ يَقِينًا غَيْرَ شَكٍّ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، وَيُقِرَّ بِالْقَدَرِ كُلِّهِ». أَيْ لا يَجُوزُ أَنْ يُؤْمِنَ بِبَعْضِ الْقَدَرِ وَيَكْفُرَ بِبَعْضٍ.

الشَّرْحُ مَعْنَى هَذَا الأَثَرِ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لا يَتِمُّ الإِيـمَانُ فِي قَلْبِ أَحَدِكُمْ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ يَقِينًا غَيْرَ شَكٍّ أَيْ حَتَّى يَعْتَقِدَ اعْتِقَادًا جَازِمًا لا يُخَالِجُهُ شَكٌّ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ إِنْ كَانَ مِنَ الرِّزْقِ أَوِ الْمَصَائِبِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَأَنَّ مَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ وَيُقِرَّ بِالْقَدَرِ كُلِّهِ، مَعْنَاهُ لا يَجُوزُ أَنْ يُؤْمِنَ بِبَعْضِ الْقَدَرِ وَيَكْفُرَ بِبَعْضٍ بَلْ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُؤْمِنَ بِأَنَّ كُلَّ مَا يَجْرِي فِي الْكَوْنِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ ضَلالَةٍ أَوْ هُدًى عُسْرٍ أَوْ يُسْرٍ حُلْوٍ أَوْ مُرٍّ كُلُّ ذَلِكَ بِخَلْقِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ حَدَثَ وَكَانَ وَلَوْلا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَاءَهُ وَكَوَّنَهُ وَخَلَقَهُ مَا حَصَلَ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَرَوَى أَيْضًا بِالإِسْنَادِ الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ بنَ الْخَطَّابِ كَانَ بِالْجَابِيَةِ - وَهِيَ أَرْضٌ مِنَ الشَّامِ - فَقَامَ خَطِيبًا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ»، وَكَانَ عِنْدَهُ كَافِرٌ مِنْ كُفَّارِ الْعَجَمِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَقَالَ بِلُغَتِهِ: «إِنَّ اللَّهَ لا يُضِلُّ أَحَدًا»، فَقَالَ عُمَرُ لِلتَّرْجُمَانِ: «مَاذَا يَقُولُ»؟ قَالَ: إِنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ لا يُضِلُّ أَحَدًا، فَقَالَ عُمَرُ: «كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ وَلَوْلا أَنَّكَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ هُوَ أَضَلَّكَ وَهُوَ يُدْخِلُكَ النَّارَ إِنْ شَاءَ».

الشَّرْحُ مَعْنَى كَلامِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ هَذَا الِاعْتِقَادَ كُفْرٌ وَضَلالٌ وَهُوَ اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ لا يُضِلُّ أَحَدًا أَيْ أَنَّ الإِنْسَانَ يَضِلُّ بِمَشِيئَتِهِ لا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَأَنَّ الْعَبْدَ هُوَ يَخْلُقُ هَذِهِ الضَّلالَةَ لَيْسَ اللَّهُ خَالِقَهَا.

وَمَعْنَى قَوْلِ سَيِّدِنَا عُمَرَ: «إِنْ شَاءَ» أَيْ إِنْ شَاءَ أَنْ تَمُوتَ عَلَى كُفْرِكَ هَذَا لا بُدَّ مِنْ دُخُولِكَ النَّارَ. وَقَدِ احْتَجَّ سَيِّدُنَا عُمَرُ بِهَذِهِ الآيَةِ ﴿وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُّضِلٍّ﴾ [سُورَةَ الزُّمَر/37] وَمَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِي شَاءَ اللَّهُ لَهُ فِي الأَزَلِ أَنْ يَكُونَ مُهْتَدِيًا لا أَحَدَ يَجْعَلُهُ ضَالًّا، ﴿مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف/186] أَيْ وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ ضَالًّا فَلا هَادِيَ لَهُ، أَيْ لا أَحَدَ يَهْدِيهِ وَلا أَحَدَ يَجْعَلُهُ مُهْتَدِيًا. وَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْذَرَ قَوْمَهُ أَوَّلَ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ عَمَلًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾ [سُورَةَ الشُّعَرَاء/214] أَيْ حَذِّرْهُمْ مِنَ الْكُفْرِ ثُمَّ اهْتَدَى بِهِ أُنَاسٌ وَلَمْ يَهْتَدِ بِهِ أُنَاسٌ حَتَّى مِنْ أَقَارِبِهِ كَأَبِي لَهَبٍ وَغَيْرِهِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَهْتَدُوا، وَالرَّسُولُ بَلَّغَهُمْ دَعْوَتَهُ لَكِنْ لَمْ يَهْتَدُوا، وَأُولَئِكَ الَّذِي اهْتَدَوْا اهْتَدَوْا، فَمَا هُوَ الْمُوجِبُ لِذَلِكَ أَيْ لِأَنْ يَهْتَدِيَ هَؤُلاءِ وَلا يَهْتَدِي هَؤُلاءِ؟ الْمُوجِبُ لِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى شَاءَ فِي الأَزَلِ أَنْ يَهْتَدِيَ هَؤُلاءِ بِمُحَمَّدٍ وَلَمْ يَشَأْ أَنْ يَهْتَدِيَ الآخَرُونَ تَنَفَذَّتْ مَشِيئَةُ اللَّهِ فِي الْفَرِيقَيْنِ.

وَاللَّهُ تَعَالَى يَكْرَهُ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِي لَكِنْ خَصَّصَ هَؤُلاءِ بِأَنْ يَنْسَاقُوا إِلَى الضَّلالِ، كَمَا خَصَّصَ أُولَئِكَ بِأَنْ يَنْسَاقُوا بِاخْتِيَارِهِمْ إِلَى الْهُدَى، هَذَا مَعْنَى الْمَشِيئَةِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ عَنِ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنْ عَمِّهِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ عُمَرَ بنَ الْخَطَّابِ كَانَ يُحِبُّ قَصِيدَةَ لَبِيدِ بنِ رَبِيعَةَ الَّتِي مِنْهَا هَذِهِ الأَبْيَاتُ، وَهِيَ:

إِنَّ تَقْوَى رَبِّنَا خَيْرُ نَفَلْ # وَبِإِذْنِ اللَّهِ رَيْثِي وَعَجَلْ

أَحْمَدُ اللَّهَ فَلا نِدَّ لَهُ # بِيَدَيْهِ الْخَيْرُ مَا شَاءَ فَعَلْ

مَنْ هَدَاهُ سُبُلَ الْخَيْرِ اهْتَدَى # نَاعِمَ الْبَالِ وَمَنْ شَاءَ أَضَلْ

وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «إِنَّ تَقْوَى رَبِّنَا خَيْرُ نَفَلْ»، أَيْ خَيْرُ مَا يُعْطَاهُ الإِنْسَانُ.


الشَّرْحُ هَذِهِ الأَبْيَاتُ مِنْ بَحْرِ الرَّمَلِ وَقَدْ كَانَ عُمَرُ يُعْجَبُ بِهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الْفَوَائِدِ الْجَلِيلَةِ.

فَقَوْلُهُ: «إِنَّ تَقْوَى رَبِّنَا خَيْرُ نَفَلْ» أَيْ أَنَّ تَقْوَى اللَّهِ خَيْرُ مَا يُؤْتَاهُ الإِنْسَانُ وَخَيْرُ مَا يُعْطَاهُ، وَالتَّقْوَى كَلِمَةٌ خَفِيفَةٌ عَلَى اللِّسَانِ لَكِنَّهَا ثَقِيلَةٌ فِي الْعَمَلِ لِأَنَّهَا أَدَاءُ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ وَاجْتِنَابُ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا أَمْرٌ ثَقِيلٌ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «وَبِإِذْنِ اللَّهِ رَيْثِي وَعَجَلْ»، أَيْ أَنَّهُ لا يُبْطِئُ مُبْطِئٌ وَلا يُسْرِعُ مُسْرِعٌ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَبِإِذْنِهِ.

الشَّرْحُ أَيْ أَنَّهُ لا يُبْطِئُ مُبْطِئٌ وَلا يُسْرِعُ نَشِيطٌ فِي الْعَمَلِ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَإِذْنِهِ، أَيْ أَنَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هُوَ الَّذِي يَخْلُقُ فِي الْعَبْدِ الْقُوَّةَ وَالنَّشَاطَ لِلْخَيْرِ، وَهُوَ الَّذِي يَخْلُقُ فِيهِ الْكَسَلَ وَالتَّوَانِي عَنِ الْخَيْرِ، أَيْ أَنَّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ اللَّذَيْنِ يَحْصُلانِ مِنَ الْخَلْقِ كُلٌّ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَوْلِهِ: «أَحْمَدُ اللَّهَ فَلا نِدَّ لَهُ»، أَيْ لا مِثْلَ لَهُ. وَقَوْلِهِ: «بِيَدَيْهِ الْخَيْرُ»، أَيْ وَالشَّرُّ.

الشَّرْحُ أَيْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَالِكُ الْخَيْرِ وَمَالِكُ الشَّرِّ لا خَالِقَ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادِ إِلَّا اللَّهُ، لَيْسَ الْعِبَادُ يَخْلُقُونَهُ وَلا النُّورُ وَلا الظُّلْمَةُ يَخْلُقَانِ ذَلِكَ كَمَا قَالَتِ الْمَانَوِيَّةُ وَهُمْ قَوْمٌ يَقُولُونَ: النُّورُ وَالظُّلْمَةُ قَدِيمَانِ أَزَلِيَّانِ ثُمَّ تَمَازَجَا فَحَدَثَ عَنِ النُّورِ الْخَيْرُ وَعَنِ الظُّلْمَةِ الشَّرُّ وَقَدْ كَذَّبَهُمُ الْمُتَنَبِّي الشَّاعِرُ فِي قَوْلِهِ:

وَكَمْ لِظَلامِ اللَّيْلِ عِنْدِيَ مِنْ يَدٍ تُخَبِّرُ أَنَّ الْمَانَوِيَّةَ تَكْذِبُ

وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ لَبِيدُ بنُ رَبِيعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى ذِكْرِ الْخَيْرِ دُونَ الشَّرِّ اكْتِفَاءً بِذِكْرِ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ الشَّرِّ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَعَلَى هَذَا اتَّفَقَ أَهْلُ الْحَقِّ، فَإِيـمَانُ الْمُؤْمِنِينَ وَطَاعَاتُهُمْ وَكُفْرُ الْكَافِرِينَ كُلٌّ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ، إِلَّا أَنَّ الْخَيْرَ الإِيـمَانَ وَالطَّاعَةَ بِخَلْقِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ وَرِضَاهُ، وَالشَّرَّ أَيِ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ بِخَلْقِ اللَّهِ يَحْصُلُ مِنَ الْعِبَادِ لا بِرِضَاهُ بَلْ نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ. وَلا يَجُوزُ قِيَاسُ الْخَالِقِ عَلَى الْخَلْقِ كَالَّذِي يَقُولُ كَيْفَ يَكُونُ خَالِقُ الشَّرِّ فِينَا ثُمَّ يُحَاسِبُنَا فِي الآخِرَةِ عَلَى الشَّرِّ، فَقَدْ قَاسَ الْخَالِقَ عَلَى الْخَلْقِ وَذَلِكَ ضَلالٌ بَعِيدٌ، لا يَتِمُّ أَمْرُ الدِّينِ إِلَّا بِالتَّسْلِيمِ لِلَّهِ فَمَنْ سَلَّمَ لِلَّهِ سَلِمَ، وَمَنْ تَرَكَ التَّسْلِيمَ لَهُ فَاعْتَرَضَ لَمْ يَسْلَمْ.

فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْخَيْرِ وَلَمْ يَقُلْ وَالشَّرُّ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ خَالِقُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَالْجَوَابُ: فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى مِنَ الْقُرْءَانِ مَا يُفِيدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ، وَالشَّىْءُ يَشْمَلُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان/26] فَعَلِمْنَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ أَنَّهُ هُوَ خَالِقُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي ءَاتَى أَيْ أَعْطَى الْمُلْكَ لِلْمُلُوكِ الْكَفَرَةِ كِفِرْعَوْنَ وَالْمُلُوكِ الْمُؤْمِنِينَ كَذِي الْقَرْنَيْنِ، فَلَيْسَ فِي تَرْكِ ذِكْرِ الشَّرِّ مَعَ الْخَيْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ خَالِقًا لِلشَّرِّ، وَهَذَا عِنْدَ عُلَمَاءِ الْبَيَانِ يُسَمَّى الِاكْتِفَاءَ أَيْ تَرْكَ ذِكْرِ الشَّىْءِ لِلْعِلْمِ بِهِ بِذِكْرِ مَا يُقَابِلُهُ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَّفْسِكَ﴾ [سُورَةَ النِّسَاء/79] فَالْحَسَنَةُ مَعْنَاهَا هُنَا النِّعْمَةُ، وَالسَّيِّئَةُ هُنَا مَعْنَاهَا الْمُصِيبَةُ وَالْبَلِيَّةُ، فَمَعْنَى الآيَةِ: ﴿مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ أَيْ مَا أَصَابَكَ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْكَ ﴿مَّا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَّفْسِكَ﴾ أَيْ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ مُصِيبَةٍ وَبَلِيَّةٍ فَمِنْ جَزَاءِ عَمَلِكَ، أَعْمَالُ الشَّرِّ الَّتِي عَمِلْتَهَا نُجَازِيكَ بِهَا بِهَذِهِ الْمَصَائِبِ وَالْبَلايَا، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ تَخْلُقُ الشَّرَّ، فَالْعَبْدُ لا يَخْلُقُ شَيْئًا لَكِنْ يَكْتَسِبُ الْخَيْرَ وَيَكْتَسِبُ الشَّرَّ وَاللَّهُ خَالِقُهُمَا فِي الْعَبْدِ. وَهَذَا التَّقْرِيرُ مَعْرُوفٌ عِنْدَ كَثِيرِينَ، وَهُنَاكَ تَقْرِيرٌ ءَاخَرُ لِلآيَةِ يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ وَيُتْرَكَ التَّقْرِيرُ السَّابِقُ وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ﴾ مَحْكِيٌّ عَنِ الْمُشْرِكِينَ بِتَقْدِيرٍ مَحْذُوفٍ وَهُوَ: «يَقُولُونَ أَوْ قَالُوا» فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: يَقُولُونَ أَوْ قَالُوا لِمُحَمَّدٍ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ أَيْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ أَيْ مُصِيبَةٍ فَمِنْكَ يَا مُحَمَّدُ أَيْ مِنْ شُؤْمِكَ، وَهَذَا التَّقْرِيرُ خَالٍ عَنِ الإِشْكَالِ بِخِلافِ الأَوَّلِ فَإِنَّ فِيهِ إِشْكَالًا، وَقَدْ قَالَ هَذَا التَّقْرِيرَ عُلَمَاءُ مِنْهُمُ السُّيُوطِيُّ الشَّافِعِيُّ وَالْقَوْنَوِيُّ الْحَنَفِيُّ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْخَيْرِ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ [سُورَةَ النَّحْل/81]، أَيْ وَالْبَرْدَ لِأَنَّ السَّرَابِيلَ تَقِي مِنَ الأَمْرَيْنِ لَيْسَ مِنَ الْحَرِّ فَقَطْ.

الشَّرْحُ هَذَا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ يُقَالُ لَهُ أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ الْبَلاغَةِ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ عِنْدَ الْفُصَحَاءِ الْبُلَغَاءِ وَهُوَ أَنْ يُذْكَرَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ الدَّاخِلَيْنِ تَحْتَ حُكْمٍ وَاحِدٍ اكْتِفَاءً بِأَحَدِهِمَا عَنْ ذِكْرِ الآخَرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان/26]، فَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْخَيْرِ فَقَطْ وَلَيْسَ قَادِرًا عَلَى الشَّرِّ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ﴾ [سُورَةَ النَّحْل/81] السَّرَابِيلُ هِيَ الْقُمْصَانُ، فَقُمْصَانُ الْحَدِيدِ الدُّرُوعُ الَّتِي تُلْبَسُ فِي الْحَرْبِ هَذِهِ تَقِي مِنَ السِّلاحِ، اللَّهُ تَعَالَى يَمْتَنُّ عَلَيْنَا بِأَنَّهُ خَلَقَ لَنَا هَذَا وَهَذَا، خَلَقَ لَنَا سَرَابِيلَ تَقِينَا الْحَرَّ أَيْ وَالْبَرْدَ وَسَرَابِيلَ أَيْ قُمْصَانًا أَيْ أَدْرَاعًا مِنْ حَدِيدٍ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ أَيِ السِّلاحَ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَوْلِهِ: «مَا شَاءَ فَعَلْ»، أَيْ مَا أَرَادَ اللَّهُ حُصُولَهُ لا بُدَّ أَنْ يَحْصُلَ وَمَا أَرَادَ أَنْ لا يَحْصُلَ فَلا يَحْصُلُ.

وَقَوْلِهِ: «مَنْ هَدَاهُ سُبُلَ الْخَيْرِ اهْتَدَى»، أَيْ مَنْ شَاءَ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الصِّرَاطِ الصَّحِيحِ الْمُسْتَقِيمِ اهْتَدَى.

وَقَوْلِهِ: «نَاعِمَ الْبَالِ»، أَيْ مُطْمَئِنَّ الْبَالِ.

وَقَوْلِهِ: «وَمَنْ شَاءَ أَضَلّ»، أَيْ مَنْ شَاءَ لَهُ أَنْ يَكُونَ ضَالًّا أَضَلَّهُ.


الشَّرْحُ مَعْنَى هَذَا الْبَيْتِ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَنْ هَدَاهُ سُبُلَ الْخَيْرِ أَيْ مَنْ شَاءَ لَهُ فِي الأَزَلِ أَنْ يَكُونَ مُهْتَدِيًا عَلَى الصِّرَاطِ الصَّحِيحِ الْمُسْتَقِيمِ فَلا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُهْتَدِيًا أَيْ عَلَى دِينِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَعَلَى تَقْوَاهُ.

وَقَوْلُهُ: «نَاعِمَ الْبَالِ» أَيْ مُطْمَئِنَّ الْبَالِ لِلإِيـمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِمَا جَاءَ عَنْ رَسُولِهِ.

وَقَوْلُهُ: «وَمَنْ شَاءَ أَضَلّ» أَيْ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَنْ شَاءَ فِي الأَزَلِ أَنْ يَكُونَ ضَالًّا أَضَلَّهُ، أَيْ خَلَقَ فِيهِ الضَّلالَ، وَهَذَا الْكَلامُ مِنْ أُصُولِ الْعَقَائِدِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الصَّحَابَةُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ. فَمَنْ شَاءَ اللَّهُ لَهُ الْهِدَايَةَ لا بُدَّ أَنْ يَهْتَدِيَ، اللَّهُ يُلْهِمُهُ الإِيـمَانَ وَالتُّقَى فَيَهْتَدِي بِاخْتِيَارِهِ لا مَجْبُورًا، وَأَمَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الأَزَلِ أَنْ يَكُونَ عَلَى خِلافِ ذَلِكَ أَيْ أَنْ يَكُونَ ضَالًّا كَافِرًا أَضَلَّهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَيْ جَعَلَهُ كَافِرًا، فَيَخْتَارُ هَذَا الْعَبْدُ الْكُفْرَ. فَلِمَا فِي هَذِهِ الأَبْيَاتِ مِنَ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ كَانَ يُعْجَبُ بِهِنَّ عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلْتُحْفَظْ فَإِنَّهُنَّ مِنْ جَوَاهِرِ الْعِلْمِ فِي أُصُولِ الْعَقِيدَةِ.

وَلا الْتِفَاتَ إِلَى مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ: «اللَّهُ مَا خَلَقَ الشَّرَ» فَلْتُحْذَرْ وَلْيُحْذَّرْ مِنْهَا، فَيَجِبُ تَعْلِيمُ الأَطْفَالِ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَلَكِنْ يُحِبُّ الْخَيْرَ وَلا يُحِبُّ الشَّرَّ، وَاللَّهُ لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ حِينَ سُئِلَ عَنِ الْقَدَرِ:

مَا شِئْتَ كَانَ وَإِنْ لَمْ أَشَأْ # وَمَا شِئْتُ إِنْ لَمْ تَشَأْ لَمْ يَكُنْ

خَلَقْتَ الْعِبَادَ عَلَى مَا عَلِمْتَ # فَفِي الْعِلْمِ يَجْرِي الْفَتَى وَالْمُسِنْ

عَلَى ذَا مَنَنْتَ وَهَذَا خَذَلْتَ # وَهَذَا أَعَنْتَ وَذَا لَمْ تُعِنْ

فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَمِنْهُمْ سَعِيدٌ # وَهَذَا قَبِيحٌ وَهَذَا حَسَنٌ

الشَّرْحُ هَذِهِ الأَبْيَاتُ رَوَاهَا عَنِ الشَّافِعِيِّ الرَّبِيعُ بنُ سُلَيْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ مِنْ رُوَاةِ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ فَسَرَّ الشَّافِعِيُّ الْقَدَرَ فِي هَذِهِ الأَبْيَاتِ بِالْمَشِيئَةِ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ مِنَ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ لِلْقَدَرِ عَلَى وَجْهِ الْبَسْطِ وَالتَّوَسُّعِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مُتَّصِفٌ بِمَشِيئَةٍ أَزَلِيَّةٍ أَبَدِيَّةٍ لا تَتَغَيَّرُ كَسَائِرِ صِفَاتِهِ، لا يَطْرَأُ عَلَيْهَا الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ، وَجَعَلَ لِلْعِبَادِ مَشِيئَةً حَادِثَةً تَقْبَلُ التَّغَيُّرَ.

يَقُولُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُخَاطِبًا لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «مَا شِئْتَ»، أَيْ يَا رَبَّنَا «كَانَ» أَيْ مَا سَبَقَتْ بِهِ مَشِيئَتُكَ فِي الأَزَلِ لا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ «وَإِنْ لَمْ أَشَأْ» أَيْ وَإِنْ لَمْ أَشَأْ أَنَا أَيْ أَنَا الْعَبْدُ حُصُولَهُ، لِأَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ نَافِذَةٌ لا تَتَغَيَّرُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَشِيئَةَ الْعَبْدِ تَابِعَةٌ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ فَهِيَ مَخْلُوقَةٌ حَادِثَةٌ، فَكُلُّ مَشِيئَةٍ فِي الْعِبَادِ حَصَلَتْ فَإِنَّمَا حَصَلَتْ فِيمَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَاءَ فِي الأَزَلِ أَنْ نَشَاءَ فَتَنَفَّذَتْ مَشِيئَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِينَا أَنْ نَشَاءَ، ثُمَّ مُرَادُنَا الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ مَشِيئَتُنَا لا يَحْصُلُ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ حُصُولَ هَذَا الْمُرَادِ وَتَحَقُّقَهُ.

فَمَشِيئَةُ اللَّهِ نَافِذَةٌ لا مَحَالَةَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لا يَتَحَقَّقُ شَىْءٌ مِنْ مُرَادَاتِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ مِمَّا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَتَحَقَّقَ وَيَحْصُلَ لَكَانَ ذَلِكَ عَجْزًا وَالْعَجْزُ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ، لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الإِلَهِ أَنْ تَكُونَ مَشِيئَتُهُ نَافِذَةً فِي كُلِّ الْمُرَادَاتِ، مِنْ خَصَائِصِ الإِلَهِ أَنْ تَكُونَ مَشِيئَتُهُ نَافِذَةً لا تَتَخَلَّفُ، أَيْ لا بُدَّ أَنْ يَحْصُلَ مَا شَاءَ اللَّهُ دُخُولَهُ فِي الْوُجُودِ، فَيَجِبُ عَقْلًا وَشَرْعًا نَفَاذُ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَيْ تَحَقُّقُ مُقْتَضَاهَا.

قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «وَمَا شِئْتُ إِنْ لَمْ تَشَأْ لَمْ يَكُنْ» مَعْنَاهُ إِنْ أَنَا شِئْتُ حُصُولَ شَىْءٍ بِمَشِيئَتِي الْحَادِثَةِ إِنْ أَنْتَ يَا رَبِّي لَمْ تَشَأْ حُصُولَهُ بِمَشِيئَتِكَ الأَزَلِيَّةِ لا يَحْصُلُ، لِأَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ أَزَلِيَّةٌ نَافِذَةٌ لا تَتَخَلَّفُ أَمَّا مَشِيئَةُ الْعَبْدِ فَحَادِثَةٌ، مِنْهَا مَا هُوَ نَافِذٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ غَيْرُ نَافِذٍ أَيْ مِنْهَا مَا يَتَحَقَّقُ وَمِنْهَا مَا لا يَتَحَقَّقُ.

وَمَعْنَى قَوْلِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «خَلَقْتَ الْعِبَادَ عَلَى مَا عَلِمْتَ»، مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُبْرِزُ عِبَادَهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ عَلَى حَسَبِ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ الأَزَلِيِّ، لا عَلَى خِلافِ عِلْمِهِ الأَزَلِيِّ، لِأَنَّ تَخَلُّفَ الْعِلْمِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَحِيلٌ يَجِبُ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنْهُ.

وَقَوْلُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «فَفِي الْعِلْمِ يَجْرِي الْفَتَى وَالْمُسِنّ»، فِي هَذَا الْكَلامِ حِكْمَةٌ كَبِيرَةٌ، أَيْ أَنَّ سَعْيَ الْفَتَى أَيِ الشَّابِّ وَالْمُسِنِّ أَيِ الْعَجُوزِ كُلٌّ سَعْيُهُ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَيْ لا يَخْرُجُ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ، هَذَا الْفَتَى الَّذِي هُوَ ذُو قُوَّةٍ وَنَشَاطٍ، وَهَذَا الْمُسِنُّ الَّذِي هُوَ ذُو عَجْزٍ وَضَعْفٍ كُلٌّ مِنْهُمَا لا يَحْصُلُ شَىْءٌ مِنْهُ مِنَ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ وَالنَّوَايَا وَالْقُصُودِ وَالإِدْرَاكَاتِ إِلَّا عَلَى حَسَبِ عِلْمِ اللَّهِ الأَزَلِيِّ، كُلٌّ مِنْهُمَا فِي الْعِلْمِ يَجْرِيَانِ أَيْ يَتَقَلَّبَانِ عَلَى حَسَبِ مَشِيئَةِ اللَّهِ الأَزَلِيَّةِ، وَيَعْمَلانِ عَلَى حَسَبِ عِلْمِ اللَّهِ الأَزَلِيِّ وَيَتَصَرَّفَانِ وَيَسْعَيَانِ عَلَى حَسَبِ عِلْمِ اللَّهِ الأَزَلِيِّ.

قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «عَلَى ذَا مَنَنْتَ وَهَذَا خَذَلْتَ» أَيْ هَذَا مَنَنْتَ عَلَيْهِ أَيْ وَفَّقْتَهُ لِلإِيـمَانِ وَالْهُدَى وَالصَّلاحِ وَعُلُوِّ الْقَدْرِ فِي الإِيـمَانِ، وَمَعْنَى تَوْفِيقِ اللَّهِ لِعَبْدِهِ أَيْ يَجْعَلُهُ يَصْرِفُ قُدْرَتَهُ وَاخْتِيَارَهُ إِلَى الْخَيْرِ، وَمَعْنَى: «وَهَذَا خَذَلْتَ»، أَيْ وَهَذَا مَا وَفَّقْتَهُ فَلَمْ يَهْتَدِ لِلْحَقِّ وَلَمْ يَقْبَلِ الْحَقَّ، وَمَعْنَى خِذْلانِ اللَّهِ لِعَبْدِهِ أَيْ يَجْعَلُهُ يَصْرِفُ قُدْرَتَهُ وَاخْتِيَارَهُ لِلشَّرِّ.

قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «وَهَذَا أَعَنْتَ وَذَا لَمْ تُعِنْ»، أَيْ هَذَا أَعَنْتَهُ عَلَى الأَعْمَالِ الَّتِي تُرْضِيكَ، وَالآخَرُ مَا أَعَنْتَهُ عَلَى مَا يُرْضِيكَ.

وَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: «وَهَذَا أَعَنْتَ وَذَا لَمْ تُعِنْ» أَنَّ اللَّهَ لا يُعِينُ عَلَى الشَّرِّ وَإِنَّمَا يُعِينُ عَلَى الْخَيْرِ فَقَطْ، فَأَهْلُ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُعِينُ عَلَى الْخَيْرِ وَهُوَ الْمُعِينُ عَلَى الشَّرِّ، وَالإِعَانَةُ التَّمْكِينُ أَيْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يُمَكِّنُ الْعَبْدَ لِفِعْلِ الْخَيْرِ وَهُوَ الَّذِي يُمَكِّنُهُ لِفِعْلِ الشَّرِّ، صَرَّحَ بِذَلِكَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَأَبُو سَعِيدٍ الْمُتَوَلِّي قَبْلَهُ وَالشَّيْخُ مُحَمَّدُ الْبَاقِرُ النَّقْشَبَنْدِيُّ وَالأَمِيرُ الْكَبِيرُ الْمَالِكِيُّ صَاحِبُ الْمَجْمُوعِ وَقَدْ جَهِلَ هَذَا الِاعْتِقَادَ الْحَقَّ الضَّرُورِيُّ بَعْضُ جَهَلَةِ النَّقْشَبَنْدِيَّةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ.

قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَمِنْهُمْ سَعِيدٌ، وَهَذَا قَبِيحٌ وَهَذَا حَسَنٌ »الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَكُونَ شَقِيًّا أَيْ مِنْ أَهْلِ الْعَذَابِ الأَلِيمِ كَانَ كَذَلِكَ، وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَكُونَ سَعِيدًا مِنْ أَهْلِ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ كَانَ كَذَلِكَ.
وَلْيُعْلَمْ أَنَّ كِتَابَ الشَّقَاءِ وَالسَّعَادَةِ ثَابِتٌ لا يُغَيَّرُ وَلا يَدْخُلُهُ التَّعْلِيقُ وَإِنَّمَا الَّذِي يُغَيَّرُ مَا كَانَ مِنْ نَحْوِ الرِّزْقِ وَالْمُصِيبَةِ.

فَالدُّعَاءُ يَنْفَعُ فِي الأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مِمَّا سِوَى السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، لِأَنَّ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ هَذَا شَىْءٌ لا يَدْخُلُهُ التَّعْلِيقُ لِأَنَّ السَّعَادَةَ هِيَ الْمَوْتُ عَلَى الإِيـمَانِ وَالشَّقَاوَةَ هِيَ الْمَوْتُ عَلَى الْكُفْرِ، فَمَنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى الإِيـمَانِ لا يَتَبَدَّلُ ذَلِكَ، وَمَنْ عَلِمَهُ يَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ لا يَتَبَدَّلُ ذَلِكَ. فَكِلا الْفَرِيقَيْنِ يُخْتَمُ لَهُ عَلَى مَا كُتِبَ لَهُ وَلَوْ سَبَقَ لَهُ التَّنَقُلَّ مِنْ إِيـمَانٍ إِلَى كُفْرٍ أَوْ مِنْ كُفْرٍ إِلَى إِيـمَانٍ مَرَّاتٍ عَدِيدَةٍ.

أَمَّا السَّعَادَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ تَتَبَدَّلُ وَقَدْ يَدْخُلُهَا التَّعْلِيقُ بِأَنْ يَكُونَ كُتِبَ فِي صُحُفِ الْمَلائِكَةِ إِنْ دَعَا بِكَذَا أَوْ تَصَدَّقَ بِكَذَا أَوْ وَصَلَ رَحِمَهُ أَوْ بَرَّ وَالِدَيْهِ يَنَالُ كَذَا وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ لا يَنَالُ الشَّىْءَ. السَّعَادَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ هِيَ كَالْبَيْتِ الْوَاسِعِ وَالْمَرْكِبِ الْهَنِيءِ وَالزَّوْجَةِ الصَّالِحَةِ وَالْجَارِ الصَّالِحِ، هَذِهِ الأُمُورُ الأَرْبَعَةُ هِيَ مِنَ السَّعَادَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ كَمَا جَاءَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْحَافِظُ ضِيَاءُ الدِّينِ الْمَقْدِسِيُّ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [سُورَةَ النَّحْل/93] يَعُودُ إِلَى اللَّهِ لا إِلَى الْعَبْدِ كَمَا زَعَمَتِ الْقَدَرِيَّةُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ سَيِّدِنَا مُوسَى: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف/155].

الشَّرْحُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ لِمَا ذَهَبَ لِمِيقَاتِ رَبِّهِ أَيْ لِمُنَاجَاةِ اللَّهِ أَيْ لِسَمَاعِ كَلامِ اللَّهِ الأَزَلِيِّ خَلَّفَ عَلَى قَوْمِهِ أَخَاهُ هَارُونَ وَكَانَ نَبِيًّا، ثُمَّ قَضَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِمْ فَوَجَدَهُمْ قَدْ عَبَدُوا الْعِجْلَ إِلَّا بَعْضًا مِنْهُمْ وَذَلِكَ بَعْدَ أَنِ اجْتَازَ بِهِمُ الْبَحْرَ وَرَأَوْا هَذِهِ الْمُعْجِزَةَ الْكَبِيرَةَ وَهِيَ انْفِلاقُ الْبَحْرِ اثْنَيْ عَشَرَ فِرْقًا كُلُّ فِرْقٍ كَالْجَبَلِ الْعَظِيمِ وَأَنْقَذَهُمْ مِنْ فِرْعَوْنَ، فَتَنَهُمْ شَخْصٌ يُقَالُ لَهُ مُوسَى السَّامِرِيُّ فَقَدْ صَاغَ لَهُمْ عِجْلًا مِنْ ذَهَبٍ وَوَضَعَ فِيهِ شَيْئًا مَنْ أَثَرِ حَافِرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ، لِأَنَّهُ عِنْدَمَا أَرَادَ فِرْعَوْنُ أَنْ يَخُوضَ الْبَحْرَ كَانَ جِبْرِيلُ عَلَى فَرَسٍ، هَذَا الْخَبِيثُ رَأَى مَوْقِفَ فَرَسِ جِبْرِيلَ فَأَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا وَوَضَعَهُ فِي هَذَا الْعِجْلِ الْمُصَوَّرِ مِنْ ذَهَبٍ فَأَحْيَا اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْعِجْلَ فَصَارَ يَخُورُ كَالْعِجْلِ الْحَقِيقِيِّ خَلَقَ اللَّهُ فِيهِ الْحَيَاةَ، فَقَالَ لَهُمُ السَّامِرِيُّ: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى، حَمَلَهُمْ عَلَى عِبَادَةِ هَذَا الْعِجْلِ فَفُتِنُوا فَعَبَدُوا هَذَا الْعِجْلَ، فَلَمَّا أُخْبِرَ سَيِّدُنَا مُوسَى بِذَلِكَ اغْتَاظَ عَلَى هَؤُلاءِ اغْتِيَاظًا شَدِيدًا، ثُمَّ أَخَذَ هَذَا السَّامِرِيَّ فَقَالَ لَهُ سَيِّدُنَا مُوسَى: ﴿وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا﴾ [سُورَةَ طه/97].

ثُمَّ اخْتَارَ مُوسَى وَجَرَّدَ مِنْ قَوْمِهِ سَبْعِينَ شَخْصًا لِيَأْخُذَهُمْ لِلتَّضَرُّعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أَيِ اهْتَزَّتْ بِهِمُ الأَرْضُ، فَقَالَ مُوسَى مُتَضَرِّعًا إِلَى اللَّهِ: ﴿رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف].

يَعْنِي هَذَا الأَمْرُ الَّذِي حَدَثَ بِقَوْمِي مِنْ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ فِتْنَتُكَ أَيِ امْتِحَانٌ وَابْتِلاءٌ مِنْكَ، تُضِلُّ مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَيْ يَا رَبِّي أَضْلَلْتَ بِهَا قِسْمًا وَهَدَيْتَ قِسْمًا. وَقَدْ ضَلَّ عَنْ مَعْنَى هَذِهِ الآيَةِ أُنَاسٌ يَدَّعُونَ الْعِلْمَ فَقَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ﴾ [سُورَةَ الْمُدَثِّر/31] أَيْ إِنْ شَاءَ الْعَبْدُ الضَّلالَةَ يُضِلُّهُ اللَّهُ، لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ مَا شَاءَ ضَلالَةَ مَنْ ضَلَّ إِنَّمَا هُمْ شَاءُوا وَاللَّهُ شَاءَ لَهُمُ الْهِدَايَةَ، فَجَعَلُوا مَشِيئَةَ اللَّهِ مَغْلُوبَةً حَيْثُ إِنَّهَا لَمْ تَتَنَفَّذْ عَلَى قَوْلِهِمْ وَمَشِيئَةَ الْعَبْدِ جَعَلُوهَا نَافِذَةً فَجَعَلُوا اللَّهَ مَغْلُوبًا، وَاللَّهُ غَالِبٌ غَيْرُ مَغْلُوبٍ. وَعَقِيدَتُهُمْ هَذِهِ تَنْقِيصٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَلْيَعْلَمُوا ذَلِكَ. وَمِنْ هَؤُلاءِ فِي هَذَا الْعَصْرِ فِرْقَةٌ نَبَغَتْ فِي دِمَشْقَ وَهُمْ جَمَاعَةُ أَمِين شَيْخُو، كَانَ لا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ وَلا عِلْمَ الدِّينِ انْتَسَبَ لِلطَّرِيقَةِ النَّقْشَبَنْدِيَّةِ عَلَى يَدِ شَيْخٍ صَالِحٍ وَلَمْ يَسْبِقْ لَهُ تَعَلُّمُ عِلْمِ الْعَقِيدَةِ وَلا الأَحْكَامِ إِنَّمَا كَانَ شُرْطِيًّا أَيَّامَ الِاحْتِلالِ الْفَرَنْسِيِّ فَتَبِعَهُ أُنَاسٌ جُهَّالٌ لَمْ يَتَلَقُّوا عِلْمَ الدِّينِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ تَلَقَّى الْعُلُومَ الْعَصْرِيَّةَ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا، مِنْهُمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ الْهَادِي الْبَانِي وَمِنْهُمْ رَجُلٌ مِنْ ءَالِ الْخَطِيبِ عَمِلَ تَفْسِيرًا فَصَارَ يُفَسِّرُ بَعْضَ ءَايَاتِ الْمَشِيئَةِ بِهَذَا الِاعْتِقَادِ الْفَاسِدِ.

فَائِدَةٌ: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْيَهُودُ مُشْتَقٌّ وَمَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ قَوْمِ مُوسَى ﴿إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ﴾ أَيْ رَجَعْنَا إِلَيْكَ يَا اللَّهُ. وَهَذَا لا يَنْطَبِقُ إِلَّا عَلَى الَّذِينَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِهِ وَبِشَرِيعَتِهِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ أَمَّا هَؤُلاءِ أَخَذُوا الِاسْمَ وَهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَرِيعَةِ مُوسَى وَذَلِكَ مُنْذُ كَفَرُوا بِعِيسَى وَأَمَّا ابْتِدَاءُ تَحْرِيفِهِمْ لِلتَّوْرَاةِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ مَجِيءِ عِيسَى لَكِنْ زَادُوا فِي التَّحْرِيفِ بَعْدَ مَجِيءِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكَذَلِكَ قَالَتْ طَائِفَةٌ يَنْتَسِبُونَ إِلَى أَمِين شَيْخُو الَّذِينَ زَعِيمُهُمُ الْيَوْمَ عَبْدُ الْهَادِي الْبَانِي الَّذِي هُوَ بِدِمَشْقَ فَقَدْ جَعَلُوا مَشِيئَةَ اللَّهِ تَابِعَةً لِمَشِيئَةِ الْعَبْدِ حَيْثُ إِنَّ مَعْنَى الآيَةِ عِنْدَهُمْ إِنْ شَاءَ الْعَبْدُ الِاهْتِدَاءَ شَاءَ اللَّهُ لَهُ الْهُدَى وَإِنْ شَاءَ الْعَبْدُ أَنْ يَضِلَّ أَضَلَّهُ اللَّهُ، فَكَذَّبُوا بِالآيَةِ: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [سُورَةَ التَّكْوِير/29].

فَإِنْ حَاوَلَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِآيَةٍ مِنَ الْقُرْءَانِ لِضِدِّ هَذَا الْمَعْنَى قِيلَ لَهُ: الْقُرْءَانُ يَتَصَادَقُ وَلا يَتَنَاقَضُ فَلَيْسَ فِي الْقُرْءَانِ ءَايَةٌ نَقِيضَ ءَايَةٍ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، لِأَنَّ النَّسْخَ لا يَدْخُلُ الْعَقَائِدَ وَلَيْسَ مُوجِبًا لِلتَّنَاقُضِ فَالنَّسْخُ لا يَدْخُلُ فِي الأَخْبَارِ إِنَّمَا هُوَ فِي الأَمْرِ وَالنَّهْيِ. إِنَّمَا النَّسْخُ بَيَانُ انْتِهَاءِ حُكْمِ ءَايَةٍ سَابِقَةٍ بِحُكْمِ ءَايَةٍ لاحِقَةٍ، عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْفِئَةَ لا تُؤْمِنُ بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ.

وَمِنْ غَبَاوَتِهِمُ الْعَجِيبَةِ أَنَّهُمْ يُفَسِّرُونَ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/31] بِأَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى، فَإِنْ قِيلَ لَهُمْ: لَوْ كَانَتِ الأَسْمَاءُ هِيَ أَسْمَاءَ اللَّهِ الْحُسْنَى لَمْ يَقُلِ اللَّهُ: ﴿فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/33] بَلْ لَقَالَ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِي انْقَطَعُوا، لَكِنَّهُمْ يُصِرُّونَ عَلَى جَهْلِهِمْ وَتَحْرِيفِهِمْ لِلْقُرْءَانِ.

الشَّرْحُ هَؤُلاءِ تَبِعُوا الْمُعْتَزِلَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَاسُوا الْخَالِقَ عَلَى الْمَخْلُوقِ فَضَلُّوا وَحَرَّفُوا مَعْنَى الآيَةِ الَّتِي يَحْتَجُّونَ بِهَا وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّنَا إِذَا قُلْنَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يُضِلُّ مَنْ شَاءَ لَهُ الضَّلالَةَ مِنْ عِبَادِهِ فَقَدْ نَسَبْنَا الظُّلْمَ إِلَى اللَّهِ، قَالُوا: كَيْفَ يَشَاءُ اللَّهُ الضَّلالَةَ لَهُ ثُمَّ يُعَاقِبُهُ عَلَى ذَلِكَ، مِنْ هُنَا ضَلُّوا فَقَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ﴾: يَشَاءُ أَيِ الْعَبْدُ يُعِيدُونَ الضَّمِيرَ إِلَى ﴿مَنْ﴾، وَ﴿مَنْ﴾ عِنْدَهُمْ وَاقِعٌ عَلَى الْعَبْدِ، فَعِنْدَهُمْ مَعْنَى الآيَةِ الْعَبْدُ الَّذِي يَشَاءُ الضَّلالَ يُضِلُّهُ اللَّهُ، هَكَذَا هُمْ يُحَرِّفُونَ، لَكِنَّ الصَّوَابَ إِعَادَةُ الضَّمِيرِ إِلَى اللَّهِ: ﴿يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ﴾ أَيِ الْعَبْدُ الَّذِي شَاءَ اللَّهُ بِمَشِيئَتِهِ الأَزَلِيَّةِ الأَبَدِيَّةِ أَنْ يَضِلَّ يُضِلُّهُ اللَّهُ، هَذَا مَعْنَى الآيَةِ: ﴿يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ﴾ إِلَى لَفْظِ الْجَلالَةِ يَعُودُ الضَّمِيرُ.

وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ أَيْ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هُوَ إِنْ شَاءَ بِمَشِيئَتِهِ الأَزَلِيَّةِ الأَبَدِيَّةِ أَنْ يَهْتَدِيَ شَخْصٌ يَهْتَدِي ذَلِكَ الشَّخْصُ، يَنْسَاقُ بِاخْتِيَارِهِ إِلَى الْهُدَى، فَيَخْتَارُ الْهُدَى وَالإِيـمَانَ لِأَنَّ اللَّهَ شَاءَ لَهُ ذَلِكَ. وَهَذَا هُوَ الْمُوَافِقُ لِآيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ﴾ [سُورَةَ الرُّوم/29]، وَقَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [سُورَةَ غَافِر/33] وَأَصْرَحُ ءَايَةٍ فِي إِبْطَالِ عَقِيدَةِ هَذِهِ الْهَادَوِيَّةِ الشَّيْخَوِيَّةِ وَهُمُ الْمُنْتَسِبُونَ إِلَى عَبْدِ الْهَادِي الَّذِي هُوَ تِلْمِيذُ أَمِين شَيْخُو الآيَةُ وَهِيَ ﴿تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف/155] لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى ﴿تَشَاءُ﴾ صَرِيحٌ فِي نِسْبَةِ الْمَشِيئَةِ إِلَى اللَّهِ، فَلَوْ كَانَ مَعْنَى الآيَةِ كَمَا زَعَمُوا لَكَانَ لَفْظُ الآيَةِ يَضِلُّ بِهَا مَنْ شَاءُوا أَيِ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ لَكِنْ مُوسَى يُخَاطِبُ اللَّهَ بِقَوْلِهِ ﴿مَنْ تَشَاءُ﴾ فَلا مَعْنَى لِلآيَةِ إِلَّا تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ يَا اللَّهُ، فَلْتَعْلَمْ هَذِهِ الْفِرْقَةُ أَنَّهَا ضِدُّ الْقُرْءَانِ وَأَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنِ الإِسْلامِ.

وَمِنْ كُفْرِهِمْ قَوْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُعَذِّبُ وَالتَّعْذِيبُ صِفَةُ نَقْصٍ فَكَذَّبُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ﴾ [سُورَةَ الْعَنْكَبُوت/21]، وَيُحَرِّفُونَ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/196] يَقُولُونَ: الْعِقَابُ هُوَ التَّعَقُّبُ لَيْسَ التَّعْذِيبَ، وَيَقُولُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأَسْمَاءَ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/31] أَيِ الأَسْمَاءَ الْحُسْنَى فَيُخَالِفُونَ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ الْمُتَّفَقَ عَلَى صِحَّتِهِ الَّذِي فِيهِ أَنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ لِآدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: «يَا ءَادَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ أَسْجَدَ لَكَ الْمَلائِكَةَ وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَىْءٍ».

تَنْبِيهٌ: الْجَادَّةُ عِنْدَ عُلَمَاءِ النَّحْوِ أَنَّ الضَّمِيرَ يُعَادُ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ دَلِيلٌ عَلَى عَوْدِهِ إِلَى مَا قَبْلَهُ أَيْ إِلَى مَا قَبْلَ الأَقْرَبِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ يُوجَدُ دَلِيلٌ عَلَى إِعَادَةِ الضَّمِيرِ إِلَى مَا قَبْلَ هَذَا الأَقْرَبِ أُعِيدَ الضَّمِيرُ إِلَى مَا قَبْلَ الأَقْرَبِ، هَذِهِ الْقَاعِدَةُ عِنْدَهُمْ. وَهُنَا الدَّلِيلُ يَمْنَعُ مِنْ إِعَادَةِ ضَمِيرِ ﴿يَشَاءُ﴾ إِلَى ﴿مَنْ﴾ الَّذِي هُوَ الْعَبْدُ، وَهَذِهِ الْفِرْقَةُ مُخَالِفَةٌ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ بَلْ لا يَجْعَلُونَ لِلْعَرَبِيَّةِ اعْتِبَارًا إِلَّا خَوَاطِرَهُمُ الَّتِي هِيَ عِنْدَهُمْ فَيْضٌ مِنْ قَلْبِ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى قَلْبِ أَبِي بَكْرٍ إِلَى قُلُوبِ شُيُوخِ النَّقْشَبَنْدِيَّةِ إِلَى أَنْ تَصِلَ إِلَى قَلْبِ شَيْخِهِمْ.

فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الآيَةُ نُسِخَتْ بِآيَةٍ أُخْرَى، قُلْنَا: النَّسْخُ لا يَدْخُلُ الْعَقَائِدَ وَلا يُؤَدِّي إِلَى التَّنَاقُضِ، وَاعْتِقَادُ أَنَّ مَشِيئَةَ الْعَبْدِ تَابِعَةٌ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَلَيْسَ الْعَكْسُ مِنْ أُصُولِ الِاعْتِقَادِ، وَمَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ فَقَدْ كَفَرَ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَرَوَى الْحَاكِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عَلِيَّ الرِّضَى بنَ مُوسَى الْكَاظِمِ كَانَ يَقْعُدُ فِي الرَّوْضَةِ وَهُوَ شَابٌّ مُلْتَحِفٌ بِمَطْرَفِ خَزٍّ فَيَسْأَلُهُ النَّاسُ وَمَشَايِخُ الْعُلَمَاءِ فِي الْمَسْجِدِ، فَسُئِلَ عَنِ الْقَدَرِ فَقَالَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [سُورَةَ الْقَمَر] ثُمَّ قَالَ الرِّضَى: كَانَ أَبِي يَذْكُرُ عَنْ ءَابَائِهِ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بنَ أَبِي طَالِبٍ كَانَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ بِقَدَرٍ حَتَّى الْعَجْزَ وَالْكَيْسَ وَإِلَيْهِ الْمَشِيئَةُ وَبِهِ الْحَوْلُ وَالْقُوَّةُ» اهـ.

الشَّرْحُ الْحَاكِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ شَيْخُ الْبَيْهَقِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ رَوَى هَذَا الْكَلامَ الْعَظِيمَ الَّذِي يَحْوِي مَعَانِيَ رَاقِيَةً كَثِيرَةً، فَقَوْلُهُ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ بِقَدَرٍ »أَيْ بِتَقْدِيرِهِ الأَزَلِيِّ أَيْ أَنَّ كُلَّ مَا دَخَلَ فِي الْوُجُودِ فَقَدْ وُجِدَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ وُجُودَهُ وَمَشِيئَتِهِ لِوُجُودِهِ، وَقَوْلُهُ: «حَتَّى الْعَجْزَ وَالْكَيْسَ »فَالْعَجْزُ هُوَ الضَّعْفُ فِي الْفَهْمِ وَالإِدْرَاكِ وَيُقَالُ الْعَجْزُ هُوَ ضَعْفُ الْهِمَّةِ وَفُتُورُهَا، أَمَّا الْكَيْسُ فَهُوَ الذَّكَاءُ وَالْفَطَانَةُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: «وَإِلَيْهِ الْمَشِيئَةُ»، فَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُ الْمَشِيئَةُ الشَّامِلَةُ الْعَامَّةُ الأَزَلِيَّةُ الأَبَدِيَّةُ الَّتِي لا تَتَحَوَّلُ وَلا تَتَغَيَّرُ، فَبِمَشِيئَتِهِ الأَزَلِيَّةِ شَاءَ حُصُولَ كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ الْحَادِثَاتِ مِنْ أَجْرَامٍ وَأَعْمَالِ الْعِبَادِ حَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ وَتَطَوُّرَاتِ نُفُوسِهِمْ وَاعْتِقَادَاتِهِمْ مَا كَانَ خَيْرًا وَمَا كَانَ شَرًّا، وَمَشِيئَةُ اللَّهِ سَابِقَةٌ عَلَى مَشِيئَةِ الْعِبَادِ، سَبَقَتْ مَشِيئَتُهُ الْمَشِيئَاتِ كُلَّهَا لا مَشِيئَةَ لِلْعِبَادِ إِلَّا مَا شَاءَ لَهُمْ.

فَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ: إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا إِذَا أَرَادُوا أَرَادَ، فَهَذَا اللَّفْظُ غَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ وَتَرْكُهُ خَيْرٌ لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُحْدِثُ مَشِيئَةً، وَمَشِيئَةُ اللَّهِ أَزَلِيَّةٌ لَيْسَتْ مِمَّا يَحْدُثُ كَهَذِهِ الْحَادِثَاتِ، نَقُولُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لَوْ أَقْسَمُوا عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُمْ »أَخْرَجَ مَا فِي مَعْنَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ، أَيْ يُعْطِيهِمْ وَيُحَقِّقُ مُرَادَهُمْ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ مَدْفُوعٍ بِالأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ »أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، وَمَعْنَاهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَشْعَثُ أَيْ لا يَتَمَكَّنُ مِنْ خِدْمَةِ جَسَدِهِ، مِنْ شِدَّةِ الْبُؤْسِ وَالْفَقْرِ يَتْرُكُ شَعْرَهُ مُنْتَفِشًا أَشْعَثَ لا يُسَرِّحُهُ لا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَسْرِيْحِهِ عَلَى حَسَبِ الْعَادَةِ مَعَ قِلَّةِ الْمَاءِ فِي أَرَاضِيهِمْ وَلَيْسَ مِنْ عَدَمِ عِنَايَتِهِمْ بِالنَّظَافَةِ إِنَّمَا يَعْجِزُونَ مَعَ شِدَّةِ الْبُؤْسِ وَالْفَقْرِ فَيَصِيرُ أَحَدُهُمْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، وَقَوْلُهُ: «أَغْبَرَ» أَيْ ثِيَابُهُ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَعَهَّدَهَا بِالْغَسْلِ وَالتَّنْظِيفِ مِنْ شِدَّةِ الْبُؤْسِ وَالْفَقْرِ بَلْ تَعْلُوهَا الْغَبَرَةُ، وَقَوْلُهُ: «ذِي طِمْرَيْنِ »- أَيْ يَلْبَسُ طِمْرَيْنِ أَيْ ثَوْبَيْنِ ثَوْبًا لِلنِّصْفِ الأَعْلَى وَثَوْبًا لِلنِّصْفِ الأَسْفَلِ، وَقَوْلُهُ: «مَدْفُوعٍ بِالأَبْوَابِ»، مَعْنَاهُ النَّاسُ لا يُقَدِّرُونَهُ يُدْفَعُ بِالأَبْوَابِ، إِذَا جَاءَ لِحَاجَةٍ إِلَى بَابِ إِنْسَانٍ يُدْفَعُ مِنْ رَثَاثَةِ ثِيَابِهِ وَهَيْئَتِهِ وَلا يُمَكَّنُ مِنَ الدُّخُولِ لِأَنَّ شَعْرَهُ أَشْعَثُ وَثِيَابَهُ مُغْبَرَّةٌ، هَذَا الْعَبْدُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ عَالِيَةٌ بِحَيْثُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ أَيْ لَوْ قَالَ يَا رَبِّ أُقْسِمُ عَلَيْكَ أَنْ تَفْعَلَ بِي كَذَا أَوْ أَنْ تَفْعَلَ بِفُلانٍ كَذَا يُنَفِّذُ لَهُ إِقْسَامَهُ أَيْ يُعْطِيهِ مُرَادَهُ، لَكِنَّ هَؤُلاءِ قُلُوبُهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِالآخِرَةِ، قَلَّ أَنْ يَطْلُبُوا أَمْرًا دُنْيَوِيًا يَتَعَلَّقُ بِالْمَعِيشَةِ، فَهَؤُلاءِ لَوْ أَقْسَمُوا عَلَى اللَّهِ فَهُوَ لِمَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ لا لِشَهَوَاتِ أَنْفُسِهِمْ.

وَأَمَّا قَوْلُ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ: «وَبِهِ الْحَوْلُ وَالْقُوَّةُ»، فَالْحَوْلُ هُوَ التَّحَفُّظُ عَنِ الشَّرِّ، وَالْقُوَّةُ هِيَ الْقُوَّةُ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ الَّتِي تَحْصُلُ فِي الْعِبَادِ، مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَبْدَ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ شَرًّا، وَلا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْتَرِزَ عَنْ سُوءٍ وَشَرٍّ وَفَسَادٍ وَمَعْصِيَةٍ إِلَّا بِاللَّهِ أَيْ إِلَّا بِعَوْنِ اللَّهِ، أَيْ إِلَّا أَنْ يَحْفَظَهُ اللَّهُ، فَالْمَلائِكَةُ وَالأَنْبِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسُوا هُمْ يَحْفَظُونَ أَنْفُسَهُمْ مِنَ الضَّلالِ مُسْتَقِلِّينَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بَلِ اللَّهُ هُوَ يَحْفَظُهُمْ، فَلِلَّهِ الْمِنَّةُ عَلَيْهِمْ، الْفَضْلُ لِلَّهِ الَّذِي حَفِظَهُمْ وَلَوْلا حِفْظُ اللَّهِ لَهُمْ مَا سَلِمُوا مِنْ هَذِهِ الْمَعَاصِي وَالرَّذَائِلِ. وَقَوْلُهُ: «وَالْقُوَّةُ» مَعْنَاهُ أَنَّهُ لا أَحَدَ يَقْوَى عَلَى طَاعَةٍ وَحَسَنَةٍ وَعَمَلٍ شَرِيفٍ إِلَّا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ وَعِلْمِهِ وَتَوْفِيقِهِ، فَالَّذِينَ وَفَّقَهُمُ اللَّهُ لِفِعْلِ الطَّاعَاتِ فَعَمِلُوهَا وَحَقَّقُوهَا فَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا بِعَوْنِ اللَّهِ، فَلَوْلا مَعُونَةُ اللَّهِ مَا عَمِلُوا حَسَنَةً فَلِلَّهِ الْفَضْلُ وَالنِّعْمَةُ، هَذَا مِنْ خَالِصِ التَّوْحِيدِ وَجَوَاهِرِ الْعِلْمِ، هَذِهِ عِبَارَةٌ مُوجَزَةٌ لَكِنْ مُفَادُهَا وَاسِعٌ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَالْعِبَادُ مُنْسَاقُونَ إِلَى فِعْلِ مَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ بِاخْتِيَارِهِمْ لا بِالإِكْرَاهِ وَالْجَبْرِ كَالرِّيشَةِ الْمُعَلَّقَةِ تُمِيلُهَا الرِّيَاحُ يَمْنَةً وَيَسْرَةً كَمَا تَقُولُ الْجَبْرِيَّةُ.

الشَّرْحُ الْخَلْقُ مُنْسَاقُونَ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الأَزَلِ وَعَلِمَ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ، لا بُدَّ أَنْ يَنْسَاقُوا إِلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِمْ، الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا يَنْسَاقُونَ إِلَى الإِيـمَانِ بِاخْتِيَارِهِمْ وَالْكُفَّارُ الَّذِينَ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَمُوتُوا كَافِرِينَ انْسَاقُوا إِلَى الْكُفْرِ بِاخْتِيَارِهِمْ، تَنَفَّذَتْ مَشِيئَةُ اللَّهِ فِي هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَوْ لَمْ يَشَأِ اللَّهُ عِصْيَانَ الْعُصَاةِ وَكُفْرَ الْكَافِرِينَ وَإِيـمَانَ الْمُؤْمِنِينَ وَطَاعَةَ الطَّائِعِينَ لَمَا خَلَقَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ.

وَمَنْ يَنْسُبُ لِلَّهِ تَعَالَى خَلْقَ الْخَيْرِ دُونَ الشَّرِّ فَقَدْ نَسَبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْعَجْزَ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ لِلْعَالَمِ مُدَبِّرَانِ، مُدَبِّرُ خَيْرٍ وَمُدَبِّرُ شَرٍّ وَهَذَا كُفْرٌ وَإِشْرَاكٌ.

الشَّرْحُ لا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَبْدِ إِرَادَةٌ تَتَنَفَّذُ بِخِلافِ إِرَادَةِ اللَّهِ كَمَا تَقُولُ الْمُعْتَزِلَةُ، هَؤُلاءِ يَقُولُونَ اللَّهُ شَاءَ لِكُلِّ الْعِبَادِ حَتَّى لِفِرْعَوْنَ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا تَقِيًّا وَكَذَلِكَ لإِبْلِيسَ وَلَكِنْ نَقَضَا مَشِيئَةَ اللَّهِ، يَقُولُونَ هُمَا اخْتَارَا الْكُفْرَ فَكَفَرَا فَلَمْ تَتَنَفَّذْ فِيهِمَا مَشِيئَةُ اللَّهِ، جَعَلُوا اللَّهَ مَغْلُوبًا وَاللَّهُ تَعَالَى غَالِبٌ غَيْرُ مَغْلُوبٍ، فَإِذَنْ هُمْ وَصَفُوا اللَّهَ بِالْعَجْزِ وَالْمَغْلُوبِيَّةِ، وَالأُلُوهِيَّةُ تُنَافِي الْمَغْلُوبِيَّةَ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهَذَا الرَّأْيُ السَّفِيهُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى يَجْعَلُ اللَّهَ تَعَالَى فِي مُلْكِهِ مَغْلُوبًا، لِأَنَّهُ عَلَى حَسَبِ اعْتِقَادِهِ اللَّهُ تَعَالَى أَرَادَ الْخَيْرَ فَقَطْ فَيَكُونُ قَدْ وَقَعَ الشَّرُّ مِنْ عَدُّوِهِ إِبْلِيسَ وَأَعْوَانِهِ الْكُفَّارِ رَغْمَ إِرَادَتِهِ.

وَيَكْفُرُ مَنْ يَعْتَقِدُ هَذَا الرَّأْيَ لِمُخَالَفَتِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾ [سُورَةَ يُوسُف/21] أَيْ لا أَحَدَ يَمْنَعُ نَفَاذَ مَشِيئَتِهِ.

الشَّرْحُ اللَّهُ تَعَالَى شَاءَ كُلَّ مَا يَدْخُلُ فِي الْوُجُودِ، كُلُّ مَا يَعْمَلُهُ الْعِبَادُ بِاخْتِيَارِهِمْ وَبِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ فَهُوَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى يَكُونُ، فَلَوْ كَانَ اللَّهُ شَاءَ لِهَؤُلاءِ الْكُفَّارِ أَنْ يَهْتَدُوا مَا بَقِيَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا اهْتَدَى لَكِنَّهُ لَمْ يَشَأْ لِهَؤُلاءِ الْكُفَّارِ أَنْ يَهْتَدُوا، هُوَ أَمَرَهُمْ بِالإِيـمَانِ وَلَكِنْ لَمْ يَشَأْ لَهُمُ الإِيـمَانَ، مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.

اللَّهُ تَعَالَى شَاءَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ بِاخْتِيَارِهِمْ فَآمَنُوا، وَشَاءَ لِلْكَافِرِينَ أَنْ يَكْفُرُوا بِاخْتِيَارِهِمْ فَكَفَرُوا، وَلَوْ كَانَ شَاءَ لَهُمُ الإِيـمَانَ لَآمَنُوا، هَذَا اعْتِقَادُ أَهْلِ الْحَقِّ. فَمَا شَاءَ اللَّهُ وُجُودَهُ لا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ، لا أَحَدَ يَمْنَعُ نَفَاذَ مَشِيئَةِ اللَّهِ ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾ مَعْنَاهُ يُنَفِّذُ مُرَادَهُ، مَا شَاءَهُ لا بُدَّ أَنْ يُنَفَّذَ، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ أَيْ مُنَفِّذٌ لِمُرَادِهِ لا مَحَالَةَ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَحُكْمُ مَنْ يَنْسُبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْخَيْرَ وَيَنْسُبُ إِلَى الْعَبْدِ الشَّرَّ أَدَبًا أَنَّهُ لا حَرَجَ عَلَيْهِ، أَمَّا إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَيْرَ دُونَ الشَّرِّ فَحُكْمُهُ التَّكْفِيرُ.

الشَّرْحُ إِذَا قَالَ قَائِلٌ نَنْسُبُ الْخَيْرَ إِلَى اللَّهِ وَنَنْسُبُ الشَّرَّ إِلَى أَنْفُسِنَا أَوْ إِلَى الشَّيْطَانِ أَوْ إِلَى الْكُفَّارِ تَأَدُّبًا مَعَ اللَّهِ كَأَنْ قَالَ: «الْخَيْرُ مِنَ اللَّهِ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْهِ »فَلا حَرَجَ عَلَيْهِ وَلا بَأْسَ بِذَلِكَ، لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ مَا شَاءَ وُقُوعَ الشَّرِّ، إِنَّمَا مَعْنَاهُ الشَّرُّ لا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ وَالْخَيْرُ يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ.

أَمَّا الَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَيْرَ وَلَمْ يَخْلُقِ الشَّرَّ وَأَنَّ الشَّرَّ مِنْ خَلْقِ إِبْلِيسَ فَهَذَا كَافِرٌ.

نَقُولُ الْخَيْرُ مِنْكَ، أَمَّا الشَّرُّ مِنْكَ فَهُوَ إِسَاءَةُ أَدَبٍ. أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: الْخَيْرُ وَالشَّرُّ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ فَلا يُنَافِي الأَدَبَ مَعَ اللَّهِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: اللَّهُ خَالِقُ الإِنْسَانِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْبَهَائِمِ وَالْخَنَازِيرِ وَالْقِرَدَةِ وَكُلِّ الْمَخْلُوقَاتِ فَإِنَّ هَذَا لا يُنَافِي الأَدَبَ، وَأَمَّا لَوْ أَفْرَدَ الْخَنَازِيرَ وَالْقِرَدَةَ فَقَالَ: اللَّهُ خَالِقُ الْخَنَازِيرِ وَالْقِرَدَةِ يَكُونُ إِسَاءَةَ أَدَبٍ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا عَذَّبَ الْعَاصِيَ فَبِعَدْلِهِ مِنْ غَيْرِ ظُلْمٍ، وَإِذَا أَثَابَ الْمُطِيعَ فَبِفَضْلِهِ مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الظُّلْمَ إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ مِمَّنْ لَهُ ءَامِرٌ وَنَاهٍ وَلا ءَامِرَ لِلَّهِ وَلا نَاهِيَ لَهُ، فَهُوَ يَتَصَرَّفُ فِي مُلْكِهِ كَمَا يَشَاءُ لِأَنَّهُ خَالِقُ الأَشْيَاءِ وَمَالِكُهَا، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالإِمَامُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ وَابْنُ حِبَّانَ عَنِ ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ قَالَ: «أَتَيْتُ أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ فَقُلْتُ: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، إِنَّهُ حَدَثَ فِي نَفْسِي شَىْءٌ مِنْ هَذَا الْقَدَرِ فَحَدِّثْنِي لَعَلَّ اللَّهَ يَنْفَعُنِي»، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَوْ عَذَّبَ أَهْلَ أَرْضِهِ وَسَمَوَاتِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ وَلَوْ مِتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا دَخَلْتَ النَّارَ». قَالَ: ثُمَّ أَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بنَ مَسْعُودٍ فَحَدَّثَنِي مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَيْتُ حُذَيْفَةَ بنَ الْيَمَانِ فَحَدَّثَنِي مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَيْتُ زَيْدَ بنَ ثَابِتٍ فَحَدَّثَنِي مِثْلَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

الشَّرْحُ ذَكَرَ ابْنُ الدَّيْلَمِيِّ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ وَيُكْنَى أَبَا الْمُنْذِرِ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ إِنَّهُ حَدَثَ فِي نَفْسِي شَىْءٌ مِنْ هَذَا الْقَدَرِ فَحَدِّثْنِي لَعَلَّ اللَّهَ يَنْفَعُنِي أَيْ بِكَلامِكَ فَقَالَ لَهُ أُبَيّ: إِنَّ اللَّهَ لَوْ عَذَّبَ أَهْلَ أَرْضِهِ وَسَمَوَاتِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، أَيْ لَوْ عَذَّبَ الْمَلائِكَةَ وَالإِنْسَ وَالْجِنَّ لَعَذَّبَهُمْ وَلا يَكُونُ ظَالِمًا، وَإِنْ رَحِمَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ كَانَتْ رَحْمَتُهُ إِحْسَانًا مِنْهُ وَتَفَضُّلًا وَتَكَرُّمًا عَلَيْهِمْ وَلَمْ تَكُنْ رَحْمَتُهُ فَرْضًا وَاجِبًا عَلَيْهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَخْلُقُ الطَّاعَةَ فِي عِبَادِهِ، الْمَلائِكَةُ وَالأَنْبِيَاءُ وَغَيْرُهُمْ هُوَ خَلَقَ فِيهِمْ هَذِهِ الطَّاعَةَ.

ثُمَّ قَالَ لَهُ: وَلَوْ كَانَ عِنْدَكَ مِثْلَ أُحُدٍ مِنَ الذَّهَبِ فَتَصَدَّقْتَ بِهِ فَأَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ فِيمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ عَبَّأْتَ الْجُيُوشَ لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَمْدَدْتَّهُمْ بِالْمَالِ لَمْ يَقْبَلْهُ اللَّهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، وَأُحُدٌ جَبَلٌ عَظِيمٌ بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ وَلَوْ مِتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا دَخَلْتَ النَّارَ، أَيْ لَوْ مِتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا الِاعْتِقَادِ لَكُنْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ مِنَ الْكُفَّارِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ قَالَ: قَالَ لِي عِمْرَانُ بنُ الْحُصَيْنِ: أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ الْيَوْمَ وَيَكْدَحُونَ فِيهِ أَشَىْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبَقَ أَوْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُونَ بِهِ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ وَثَبَتَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ؟ فَقُلْتُ: بَلْ شَىْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ، قَالَ فَقَالَ: أَفَلا يَكُونُ ظُلْمًا، قَالَ: فَفَزِعْتُ مِنْ ذَلِكَ فَزَعًا شَدِيدًا وَقُلْتُ: كُلُّ شَىْءٍ خَلْقُهُ وَمِلْكُ يَدِهِ لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، قَالَ: فَقَالَ لِي: يَرْحَمُكَ اللَّهُ إِنِّي لَمْ أُرِدْ بِمَا سَأَلْتُكَ إِلَّا لِأَحْزِرَ عَقْلَكَ، إِنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ مُزَيْنَةَ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ الْيَوْمَ وَيَكْدَحُونَ فِيهِ أَشَىْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبَقَ أَوْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُونَ بِهِ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ وَثَبَتَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ؟ فَقَالَ: بَلْ شَىْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ، وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ [سُورَةَ الشَّمْس].

الشَّرْحُ هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بنِ يَعْمَرَ الَّذِي هُوَ أَوَّلُ مَنْ نَقَطَ الْمَصَاحِفَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ الَّذِي هُوَ مَعْرُوفٌ بِأَنَّهُ مِنْ ثِقَاتِ التَّابِعِينَ أَخَذَ الْحَدِيثَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ هُوَ أَوَّلَ وَاضِعٍ لِلنَّحْوِ بِإِشَارَةِ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ، عَنْ عِمْرَانَ بنِ الْحُصَيْنِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ الْمُجْتَهِدِينَ الْمَشْهُورِينَ بِالْعِلْمِ حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ لَمْ يَدْخُلِ الْبَصْرَةَ أَفْقَهُ مِنْهُ، أَيْ أَنَّ كُلَّ مَنْ دَخَلَ الْبَصْرَةَ مِنْ أَصْحَابِ الرَّسُولِ فَعِمْرَانُ أَفْقَهُهُمْ. وَعِمْرَانُ بنُ الْحُصَيْنِ هُوَ أَيْضًا مِنْ أَوْلِيَاءِ الصَّحَابَةِ، الْمَلائِكَةُ كَانُوا يَزُورُونَهُ ثُمَّ ذَاتَ مَرَّةٍ اسْتَعْمَلَ الْكَيَّ مِنْ أَجْلِ الْبَوَاسِيرِ، وَالتَّدَاوِي بِالْكَيِّ مَكْرُوهٌ لَمْ يَكُنْ يُحِبُّهُ رَسُولُ اللَّهِ، فَانْقَطَعَتْ عَنْهُ الْمَلائِكَةُ ثُمَّ بَعْدَ بُرْهَةٍ عَادُوا لِزِيَارَتِهِ.

وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ الْيَوْمَ وَيَكْدَحُونَ فِيهِ» أَيْ يَسْعَوْنَ إِلَيْهِ أَيْ أَعْمَالَهُمْ حَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ، وَقَوْلُهُ: «أَشَىْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبَقَ»، مَعْنَاهُ هَلْ هُوَ شَىْءٌ قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ سَيَحْصُلُ مِنْهُمْ أَيْ بِاخْتِيَارِهِمْ وَمَشِيئَتِهِمُ الْحَادِثَةِ بَعْدَ مَشِيئَةِ اللَّهِ الأَزَلِيَّةِ وَعِلْمِهِ الأَزَلِيِّ الأَبَدِيِّ، وَقَوْلُهُ: «أَوْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُونَ بِهِ»، مَعْنَاهُ أَمْ هُوَ شَىْءٌ جَدِيدٌ لَمْ يَسْبِقْ بِهِ قَدَرٌ وَلَمْ يَسْبِقْ فِي عِلْمِ اللَّهِ فِي الأَزَلِ أَنَّهُ يَحْصُلُ مِنْهُمْ إِنَّمَا هُمْ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ تَصَرُّفٌ فِيهِ يَعْمَلُونَ، أَوْ هَلْ هُمْ لَيْسَ لَهُمُ اخْتِيَارٌ بَلْ هُمْ مَسْلُوبُو الِاخْتِيَارِ بِالْمَرَّةِ.

وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ وَثَبَتَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ»، أَيْ أُرِيدُ مِنْكَ نَصًّا شَرْعِيًّا.

وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «بَلْ شَىْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ»، أَيْ أَنَّ حَرَكَاتِ الْعِبَادِ وَسَكَنَاتِهِمْ كُلَّهَا شَىْءٌ حَصَلَ مِنَ الْعِبَادِ بِقَضَاءِ اللَّهِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «أَفَلا يَكُونُ ظُلْمًا»، أَيْ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَزِيدَ فِي امْتِحَانِهِ فَقَالَ: أَفَلا يَكُونُ ظُلْمًا، وَالْمَعْنَى إِنْ كَانَ الإِنْسَانُ يَعْمَلُ فِيمَا قَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى، يَعْمَلُ عَلَى حَسَبِ مَشِيئَةِ اللَّهِ وَعِلْمِهِ ثُمَّ حَاسَبَهُ فِي الآخِرَةِ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ فَعَاقَبَهُ أَلا يَكُونُ ظُلْمًا، قَالَ: «فَفَزِعْتُ مِنْ ذَلِكَ فَزَعًا شَدِيدًا وَقُلْتُ: كُلُّ شَىْءٍ خَلْقُهُ وَمِلْكُ يَدِهِ لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ. أَلْهَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَبَا الأَسْوَدِ الصَّوَابَ فَأَجَابَ بِمَا مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ لا يَحْكُمُهُ أَحَدٌ هُوَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، جَعَلَ الأَعْمَالَ أَمَارَاتٍ أَيْ عَلامَاتٍ، وَوَفَّقَ بَعْضَ النَّاسِ بِأَنْ يَخْتَارُوا الْهُدَى وَالصَّالِحَاتِ مِنَ الأَعْمَالِ وَيَنْسَاقُوا إِلَيْهَا بِاخْتِيَارِهِمْ عَلَى حَسَبِ مَشِيئَتِهِ وَعِلْمِهِ فَيَكُونُوا مِنْ أَهْلِ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَأَنْ يَنْسَاقَ قِسْمٌ مِنْهُمْ بِاخْتِيَارِهِمْ إِلَى مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْرُجُوا عَنْ تَقْدِيرِ اللَّهِ وَعِلْمِهِ، فَإِذَا حَاسَبَ الْعُصَاةَ وَعَاقَبَهُمْ لا يَكُونُ ظَالِمًا لِأَنَّهُ هُوَ الْحَاكِمُ لَيْسَ لَهُ حَاكِمٌ، هُوَ الآمِرُ لَيْسَ لَهُ ءَامِرٌ، تَصَرَّفَ فِيمَا لَهُ فِيمَا يَمْلِكُهُ مِلْكًا حَقِيقِيًّا وَلَمْ يَتَصَرَّفْ فِيمَا لَيْسَ لَهُ، لِأَنَّ الظُّلْمَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ هُوَ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِمَا لَيْسَ لَهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى كُلُّ شَىْءٍ خَلْقُهُ وَمِلْكُهُ، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ أَيِ الْعِبَادُ يُسْأَلُونَ.

وَقَوْلُ عِمْرَانَ: «يَرْحَمُكَ اللَّهُ إِنِّي لَمْ أُرِدْ بِمَا سَأَلْتُكَ إِلَّا لِأَحْزِرَ عَقْلَكَ»، مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمَّا وُفِّقَ لِلْجَوَابِ الصَّحِيحِ دَعَا لَهُ وَصَوَّبَ جَوَابَهُ وَقَالَ لَهُ: لَمْ أُرِدْ بِمَا سَأَلْتُكَ إِلَّا لِأَحْزِرَ عَقْلَكَ أَيْ أَرَدْتُ أَنْ أَمْتَحِنَ فَهْمَكَ لِلدِّينِ.

ثُمَّ قَالَ عِمْرَانُ: «إِنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ مُزَيْنَةَ» وَهِيَ قَبِيلَةٌ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ «أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ الْيَوْمَ وَيَكْدَحُونَ فِيهِ أَشَىْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبَقَ أَوْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُونَ بِهِ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ وَثَبَتَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ»، مَعْنَاهُ نُرِيدُ مِنْكَ دَلِيلًا وَحُجَّةً مِنَ الشَّرْعِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: «بَلْ شَىْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ» وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾» [سُورَةَ الشَّمْس]، الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ مَا يَعْمَلُ الْعِبَادُ مِنْ حَرَكَاتٍ وَسَكَنَاتٍ حَتَّى النَّوَايَا وَالْقُصُودِ تَكُونُ عَلَى حَسَبِ مَشِيئَةِ اللَّهِ الأَزَلِيَّةِ وَعِلْمِهِ وَتَقْدِيرِهِ، ثُمَّ جَزَاهُمْ عَلَى الْحَسَنَاتِ الثَّوَابَ وَعَلَى السَّيِّئَاتِ الْعِقَابَ، وَالرَّسُولُ اسْتَدَلَّ بِالآيَةِ الْمَذْكُورَةِ وَأَيَّدَ جَوَابَهُ لَهُمَا لِأَنَّ اللَّهَ أَقْسَمَ بِالنَّفْسِ وَمَا سَوَّاها عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هُوَ الَّذِي يُلْهِمُ النُّفُوسَ فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، أَيْ أَنَّهُ لا يَكُونُ شَىْءٌ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا إِلَّا بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ ذَلِكَ.

فَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ كُلَّهَا خَلْقٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَكَسْبٌ لِلْعِبَادِ، أَيْ نَحْنُ نُوَجِّهُ إِلَيْهَا الْقَصْدَ وَالإِرَادَةَ وَالْقُدْرَةَ الَّتِي هِيَ حَادِثَةٌ، وَأَمَّا حُصُولُ ذَلِكَ الشَّىْءِ وَوُجُودُهُ فَهُوَ بِخَلْقِ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/286] الْمَعْنَى أَنَّ الْعِبَادَ يُثَابُونَ عَلَى كَسْبِهِمْ لِلْحَسَنَاتِ وَيُعَاقَبُونَ عَلَى كَسْبِهِمْ لِلسَّيِّئَاتِ. فَإِثَابَةُ الطَّائِعِينَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ وَعِقَابُ الْعَاصِينَ عَدْلٌ مِنْهُ.

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إِذَا كَانَ اللَّهُ شَاءَ لَنَا أَنْ نَفْعَلَ كَذَا مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي فَمَاذَا نَفْعَلُ؟ فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: الْمُسْتَقْبَلُ غَيْبٌ عَنَّا، مَا بَعْدَ هَذِهِ اللَّحْظَةِ غَيْبٌ عَنَّا، فَالَّذِي عَلَيْنَا أَنْ نَسْعَى لِأَنْ نَكُونَ قَائِمِينَ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ عِبَادِهِ الَّتِي أَمَرَنَا بِهَا، وَنَعْتَقِدَ فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ اللَّهُ عَلِمَ وَشَاءَ أَنَّنَا نَسْعَى لِلْخَيْرَاتِ كَانَ ذَلِكَ عَلامَةً عَلَى أَنَّنَا مِنَ الَّذِينَ شَاءَ اللَّهُ لَهُمْ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ فِي الآخِرَةِ، وَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَنَا ذَلِكَ فَلا نَكُونُ مِنْ أُولَئِكَ فَلا نَسْتَحِقُّ ذَلِكَ بَلْ نَخْشَى أَنْ نَكُونَ مِنَ الَّذِينَ أَرَادَ اللَّهُ بِهِمْ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْعَذَابِ الْمُقِيمِ، كَمَا أَنَّ الإِنْسَانَ يَبْذُرُ الْبَذْرَ وَهُوَ لا يَعْلَمُ عِلْمَ يَقِينٍ أَنَّهُ يُدْرِكُ مَحْصُولَ هَذَا الزَّرْعِ فَإِمَّا أَنْ يَمُوتَ قَبْلَهُ وَإِمَّا أَنْ تَحْدُثَ ءَافَةٌ وَعَاهَةٌ لِهَذَا الْبَذْرِ فَتُتْلِفَهُ وَتُفْسِدَهُ فَلا يُدْرِكُ الِانْتِفَاعَ بِهَذَا الزَّرْعِ، إِنَّمَا نَشْرَعُ فِيهِ عَلَى الأَمَلِ أَيْ عَلَى احْتِمَالِ أَنَّنَا نَعِيشُ حَتَّى يَنْبُتَ هَذَا الْبَذْرُ وَنُدْرِكَهُ فَيَصِيرَ حَبًّا قُوتًا أَوْ ثِمَارًا يُنْتَفَعُ بِهَا، كَذَلِكَ أَحَدُنَا إِذَا أُصِيبَ بِمَرَضٍ يَتَدَاوَى عَلَى الأَمَلِ لا يَقْطَعُ بِأَنَّهُ يَتَعَافَى بِهَذَا الدَّوَاءِ بَلْ يَقُولُ يَحْتَمِلُ أَنْ أَتَعَافَى بِهَذَا الدَّوَاءِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لا أَتَعَافَى بِهِ، وَهَذِهِ أُمُورُ الآخِرَةِ كَذَلِكَ. الْعَوَاقِبُ عَنَّا مَسْتُورَةٌ مَحْجُوبَةٌ إِنَّمَا نَعْلَمُ مَا حَصَلَ قَبْلَ هَذَا فَنَقُولُ هَذَا حَصَلَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ أَمَّا مَا لَمْ يَقَعْ بَعْدُ فَإِنَّهُ غَيْبٌ عَنَّا، وَكَمَا لا يَجُوزُ لِلإِنْسَانِ أَنْ يَقْعُدَ وَيَقُولَ مَا قَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى لا بُدَّ أَنْ يَصِلَ إِلَى جَوْفِي وَلا يَسْعَى بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ فِي طَلَبِ الْقُوتِ بَلْ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِلتَّلَفِ بِالْجُوعِ، كَذَلِكَ لا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ الإِنْسَانُ أَنَا إِنْ كَانَ اللَّهُ كَتَبَ أَنِّي سَعِيدٌ لا بُدَّ أَنْ أَكُونَ سَعِيدًا وَإِنْ كَانَ كَتَبَ لِي غَيْرَ ذَلِكَ لا أَكُونُ سَعِيدًا ثُمَّ يَقْعُدُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْعَى لِأَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ النَّجَاةِ.

ثُمَّ يُقَالُ: فِعْلُ اللَّهِ لا يُقَاسُ عَلَى فِعْلِ الْمَخْلُوقِ، أَمَامَنَا أَمْرٌ يُوَافِقُ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُ وَالْمُلْحِدُ وَذَلِكَ الِانْتِفَاعُ بِهَذِهِ الْبَهَائِمِ، هَذِهِ الْبَهَائِمُ خَلْقٌ كَمَا أَنَّنَا خَلْقٌ، هِيَ تُحِسُّ بِاللَّذَّةِ وَالأَلَمِ كَمَا أَنَّنَا نُحِسُّ بِاللَّذَّةِ وَالأَلَمِ، فَهَلْ يَعْتَرِضُ أَحَدٌ مِنَّا عَلَى ذَبْحِ هَذِهِ الذَّبَائِحِ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا، هَلْ هُوَ مَحَلُّ اعْتِرَاضٍ؟ هَلْ يَقُولُ أَحَدٌ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ: هَذِهِ الْبَهَائِمُ لَهَا أَرْوَاحٌ كَمَا أَنَّ لَنَا أَرْوَاحًا وَتُحِسُّ بِأَلَمٍ كَمَا أَنَّنَا نُحِسُّ بِأَلَمٍ فَإِذًا لا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقْضِيَ عَلَيْهَا لِلْوُصُولِ إِلَى لَذَّاتِنَا، فَيُقَالُ لَهُمْ: كَمَا أَنَّهُ لا اعْتِرَاضَ لَكُمْ فِي هَذِهِ لَيْسَ لَكُمُ اعْتِرَاضٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُوفِّقُ مَنْ يَشَاءُ وَيَخْذُلُ مَنْ يَشَاءُ فَيَكُونُ الَّذِينَ وَفَّقَهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ فِي الآخِرَةِ وَيَكُونُ الَّذِينَ لَمْ يُوَفِّقْهُمْ بَلْ خَذَلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعَذَابِ الْمُقِيمِ.

وَلْيَعْلَمِ الْعَاقِلُ أَنَّ أَمْرَ الدِّينِ لا يَتِمُّ إِلَّا بِالتَّسْلِيمِ لِلَّهِ أَمَّا أَنْ يُقَاسَ الْخَالِقُ عَلَى الْمَخْلُوقِ فَهَذَا ضَلالٌ وَخُسْرَانٌ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَصَحَّ حَدِيثُ: «فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

الشَّرْحُ هَذَا الْحَدِيثُ أَيْضًا صَحِيحٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَمَعْنَاهُ مَنْ عَمِلَ الْحَسَنَاتِ وَالطَّاعَاتِ وَتَجَنَّبَ الْمَعَاصِيَ فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ الَّذِي وَفَّقَهُ لِذَلِكَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ أَيْ مَنْ كَانَ عَمَلُهُ خِلافَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ ظَالِمًا لَهُ وَلَكِنْ هُوَ ظَلَمَ نَفْسَهُ، لا يُقَالُ لِمَ لَمْ يَجْعَلْ كُلَّ الْعِبَادِ طَائِعِينَ كَالْمَلائِكَةِ لِأَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، فَمَنْ قَالَ ذَلِكَ اعْتِرَاضًا عَلَى اللَّهِ يَكْفُرُ، أَمَّا إِذَا قَالَ ذَلِكَ وَاحِدٌ لِيَعْرِفَ الْحِكْمَةَ فَلا يَكْفُرُ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَمَّا الأَوَّلُ: وَهُوَ مَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُتَفَضِّلٌ عَلَيْهِ بِالإِيْجَادِ وَالتَّوْفِيقِ مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ عَلَيْهِ، فَلْيَحْمَدِ الْعَبْدُ رَبَّهُ عَلَى تَفَضُّلِهِ عَلَيْهِ.

أَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ مَنْ وَجَدَ شَرًّا فَلِأَنَّهُ تَعَالَى أَبْرَزَ بِقُدْرَتِهِ مَا كَانَ مِنْ مَيْلِ الْعَبْدِ السَّيِّءِ فَمَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ فَبِعَدْلِهِ وَمَنْ هَدَاهُ فَبِفَضْلِهِ.

الشَّرْحُ مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ لِفِعْلِ الْخَيْرَاتِ فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَخْذُولُ الَّذِي ابْتُلِيَ بِالْمَعَاصِي فَلا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ.

وَاللَّهُ أَظْهَرَ مِنَ الْعَبْدِ الْكَافِرِ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ الأَزَلِيِّ أَنَّ هَذَا الإِنْسَانَ مَائِلٌ إِلَيْهِ، فَقَبْلَ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا الْعَبْدُ كَانَ مُسْتَعِدًّا وَاللَّهُ أَظْهَرَهُ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَوْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ وَأَدْخَلَ فَرِيقًا الْجَنَّةَ وَفَرِيقًا النَّارَ لِسَابِقِ عِلْمِهِ أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ لَكَانَ شَأْنُ الْمُعَذَّبِ مِنْهُمْ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ ءَايَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَّذِلَّ وَنَخْزَى﴾ [سُورَةَ طَه/134].

الشَّرْحُ لَوْ كَانَ اللَّهُ لَمْ يَبْعَثِ الرُّسُلَ إِلَى عِبَادِهِ لِيُبَيِّنُوا لَهُمْ مَا هُوَ الْخَيْرُ وَمَا هُوَ الشَّرُّ ثُمَّ عَاقَبَهُمْ عَلَى عَمَلِهِمُ السُّوءِ لَقَالُوا: لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا أَيْ لِمَ لَمْ تُرْسِلْ إِلَيْنَا رَسُولًا نَتَّبِعُهُ، فَقَطَعَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْعُذْرَ بِأَنْ أَرْسَلَ الأَنْبِيَاءَ، فَالأَنْبِيَاءُ وَظِيفَتُهُمْ أَنْ يُبَيِّنُوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَيُبَيِّنُوا مَا هُوَ فَرْضٌ عَلَى الْعِبَادِ مَطْلُوبٌ مِنْهُمْ طَلَبًا جَازِمًا أَنْ يَفْعَلُوهُ، هَذَا وَظِيفَةُ الأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ اللَّهُ لَوْ لَمْ يُرْسِلْ رُسُلًا فَعَذَّبَ مَنْ شَاءَ لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا لَكِنَّهُ أَرْسَلَ الرُّسُلَ فَقَطَعَ الْعُذْرَ عَلَى الْكَافِرِينَ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَأَرْسَلَ اللَّهُ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِيُظْهِرَ مَا فِي اسْتِعْدَادِ الْعَبْدِ مِنَ الطَّوْعِ وَالإِبَاءِ فَيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ.

الشَّرْحُ لَمَّا أَرْسَلَ اللَّهُ الرُّسُلَ فَبَيَّنُوا لِلنَّاسِ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ يَفْعَلُوهُ وَلا يَتْرُكُوهُ وَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ اهْتَدَى مَنِ اهْتَدَى وَضَلَّ مَنْ ضَلَّ، كَانَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا اهْتَدَوْا عَنْ بَيِّنَةٍ وَالَّذِينَ ضَلُّوا ضَلُّوا عَنْ بَيِّنَةٍ أَيْ عَنْ دَلِيلٍ وَعَنْ حُجَّةٍ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَأَخْبَرَنَا أَنَّ قِسْمًا مِنْ خَلْقِهِ مَصِيرُهُمُ النَّارُ بِأَعْمَالِهِمُ الَّتِي يَعْمَلُونَ بِاخْتِيَارِهِمْ، وَكَانَ تَعَالَى عَالِمًا بِعِلْمِهِ الأَزَلِيِّ أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ.

الشَّرْحُ اللَّهُ تَعَالَى عَلِمَ بِعِلْمِهِ الأَزَلِيِّ مَنْ يُؤْمِنُ وَمَنْ لا يُؤْمِنُ، مَنْ يَقْبَلُ مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَمَنْ لا يَقْبَلُ، فَثَبَتَتِ الْحُجَّةُ عَلَى عِبَادِهِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [سُورَةَ السَّجْدَة/13] أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ أَنَّهُ قَالَ فِي الأَزَلِ: ﴿لأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ وَقَوْلُهُ صِدْقٌ لا يَتَخَلَّفُ لِأَنَّ التَّخَلُّفَ أَيِ التَّغَيُّرَ كَذِبٌ وَالْكَذِبُ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ.

الشَّرْحُ الْمَعْنَى لَوْ شَاءَ اللَّهُ فِي الأَزَلِ أَنْ يَهْتَدِيَ جَمِيعُ الأَنْفُسِ لَاهْتَدَى جَمِيعُ الأَنْفُسِ، لَأَعْطَى لِكُلِّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَجَعَلَهَا مُؤْمِنَةً مُهْتَدِيَةً، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي﴾ أَيْ وَلَكِنْ قُلْتُ فِي الأَزَلِ وَقَوْلِي لا يَتَخَلَّفُ: ﴿لأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ أَيْ أَنَّنِي سَأَمْلأُ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ، مَعْنَاهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الأَزَلِ إِنَّهُ يَمْلأُ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ فَلا بُدَّ أَنْ تُمْلأَ جَهَنَّمُ مِنْ كُفَّارِ الْبَشَرِ وَالْجِنِّ. قَدَّمَ ذِكْرَ الْجِنِّ لِأَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ مِنَ الْجِنِّ. وَقَوْلُ اللَّهِ صِدْقٌ لا يَتَخَلَّفُ أَيْ لا يَتَغَيَّرُ، أَلَيْسَ قَالَ فِي الأَزَلِ إِنَّ قِسْمًا مِنَ الْعِبَادِ مِنَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُدْخِلُهُمْ جَهَنَّمَ وَإِنَّ قِسْمًا يَكُونُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلا يَتَغَيَّرُ الأَمْرُ، فَلا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَوْ قَالَ ذَلِكَ فِي الأَزَلِ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُغَيِّرَ الأَمْرَ، وَلا يُقَالُ: يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ فَيُبَدِّلُ قَوْلَهُ، لِأَنَّ الْخُلْفَ فِي قَوْلِ اللَّهِ مُسْتَحِيلٌ، وَذَلِكَ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ.

فَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ فَلا بُدَّ أَنْ يَفْعَلَهُ وَمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ لا يَفْعَلُهُ فَلا يَكُونُ، وَمَا قَالَهُ بَعْضٌ مِنْ خِلافِ هَذَا فَهُوَ مَرْدُودٌ، وَذَلِكَ الْبَعْضُ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ وَعِيدَ اللَّهِ كَوَعِيدِ الْخَلْقِ وَاسْتَدَلَّ هَذَا الْبَعْضُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:

وَإِنِّي وَإِنْ أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ لَمُخْلِفُ إِيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي

فَالشَّاعِرُ قَالَ ذَلِكَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَهُوَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ فَلَوْ أَوْعَدَ وَأَخْلَفَ فَلا يُعَدُّ عَيْبًا، وَأَمَّا اللَّهُ تَعَالَى فَيَجِبُ تَحَقُّقُ كَلامِهِ فِي الإِيعَادِ وَالْوَعْدِ.

وَأَمَّا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ الْجَهَلَةِ: اللَّهُ قَادِرٌ أَنْ يُغَيِّرَ مَا قَالَ فِي مِثْلِ هَذَا فَهُوَ كُفْرٌ، يُقَالُ لَهُمْ: اللَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ لَكِنْ لا يُخْلِفُ فِي قَوْلِهِ لِأَنَّ الإِخْلافَ فِي قَوْلِهِ كَذِبٌ وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْكَذِبِ، فَلَيْسَ هَذَا مِنْ وَظِيفَةِ الْقُدْرَةِ، فَمَا أَشْنَعَ قَوْلَ بَعْضٍ: «اللَّهُ قَادِرٌ أَنْ يَشِيلَ أَهْلَ النَّارِ وَيَحُطَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ» قَاصِدًا بِذَلِكَ جَمِيعَ أَهْلِ النَّارِ مِنَ الْكُفَّارِ وَجَمِيعَ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ مَاتُوا بِلا تَوْبَةٍ وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْكُفَّارِ لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ الْكُفَّارَ لا يَخْرُجُ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ، يُقَالُ لِهَؤُلاءِ: أَنْتُمْ نَسَبْتُمْ إِلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ، وَيُقَالُ لَهُمْ: هُوَ قَادِرٌ لَكِنَّهُ لا يَفْعَلُ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ نِسْبَةُ الْكَذِبِ إِلَى اللَّهِ، لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ بِأَنَّ الْكُفَّارَ لا يَخْرُجُونَ مِنْهَا كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا رُدُّوا إِلَيْهَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكُفَّارِ وَبَيْنَ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ مَاتُوا بِلا تَوْبَةٍ أَنَّ عُصَاةَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ مَاتُوا بِلا تَوْبَةٍ بَعْضُهُمْ يَدْخُلُونَ النَّارَ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى ذُنُوبِهِمْ وَبَعْضُهُمْ لا يُدْخِلُهُمُ اللَّهُ النَّارَ فَضْلًا مِنْهُ. اللَّهُ تَعَالَى يُنْقِذُ بَعْضَ هَؤُلاءِ مِنَ النَّارِ فَلا يُدْخِلُهُمْ مَهْمَا بَلَغَتْ ذُنُوبُهُمْ وَلا يَلْزَمُ فِي ذَلِكَ الْخُلْفُ فِي كَلامِ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ فِيمَا أَوْحَى بِهِ إِلَى الأَنْبِيَاءِ إِنَّهُ لا بُدَّ أَنْ يُدْخِلَ كُلَّ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ مَاتُوا بِلا تَوْبَةٍ بَلْ أَخْبَرَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِأَنَّهُ يَغْفِرُ لِمَنْ لَمْ يَكْفُرْ بِالإِشْرَاكِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ يَغْفِرُ لَهُمْ فَلا يُدْخِلُهُمُ النَّارَ وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [سُورَةَ النِّسَاء/116] وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الَّذِي ثَبَتَ عَنِ الرَّسُولِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيَغْفِرُ لِعَبْدِهِ مَا لَمْ يَقَعِ الْحِجَابُ» قِيلَ وَمَا يَقَعُ الْحِجَابُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «أَنْ تَمُوتَ النَّفْسُ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ» رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ. وَمِثْلُ الشِّرْكِ سَائِرُ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ، فَلا يَغْفِرُ اللَّهُ لِلْكَافِرِ الْمُشْرِكِ وَالْكَافِرِ غَيْرِ الْمُشْرِكِ، فَالْكَافِرُ الْمُشْرِكُ هُوَ الَّذِي يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ وَالْكَافِرُ غَيْرُ الْمُشْرِكِ كَمَنْ يَسُبُّ اللَّهَ أَوْ رَسُولًا مِنْ رُسُلِ اللَّهِ أَوْ يَسُبُّ مَلَكًا مِنَ الْمَلائِكَةِ أَوْ يَسُبُّ شَيْئًا مِنْ شَعَائِرِ الإِسْلامِ كَالصَّلاةِ وَالصِّيَامِ، أَوْ يُنْكِرُ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ فِي شَرْعِهِ، أَوْ يَنْفِي مَا أَثْبَتَ اللَّهُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ مِمَّا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي مُؤَلَّفَاتِهِمْ. وَذَكَرُوا لِذَلِكَ قَوَاعِدَ وَقَدْ أَكْثَرَ بَيَانَ ذَلِكَ صَاحِبُ كِتَابِ أَنْوَارِ أَعْمَالِ الأَبْرَارِ فِي الْفِقْهِ الشَّافِعِيِّ، وَالأَكْثَرُ تَوَسُّعًا فِي ذَلِكَ فُقَهَاءُ الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ كَالإِمَامِ بَدْرِ الرَّشِيدِ فَإِنَّهُ أَفْرَدَ لِذَلِكَ تَأْلِيفًا.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام/149] أَيْ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَشَأْ هِدَايَةَ جَمِيعِكُمْ إِذْ لَمْ يَسْبِقِ الْعِلْمُ بِذَلِكَ.

الشَّرْحُ اللَّهُ لَهُ الْحُجَّةُ التَّامَّةُ فَلَوْ شَاءَ فِي الأَزَلِ أَنْ يَهْتَدِيَ الْجَمِيعُ لَاهْتَدَوْا وَلَكِنَّهُ لَمْ يَشَأْ هِدَايَةَ الْجَمِيعِ إِذْ لَمْ يَسْبِقِ الْعِلْمُ بِذَلِكَ. ثُمَّ هَؤُلاءِ الْكُفَّارُ لَوْ رُدُّوا إِلَى الدُّنْيَا لَعَادُوا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ وَلَوْ عَادُوا لَعَادَ إِلَيْهِمْ ذَلِكَ الْمَيْلُ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَالْعِبَادُ مُنْسَاقُونَ إِلَى فِعْلِ مَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ بِاخْتِيَارِهِمْ لا بِالإِكْرَاهِ وَالْجَبْرِ.

الشَّرْحُ الْخَلْقُ مُنْسَاقُونَ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الأَزَلِ وَعَلِمَ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ، لا بُدَّ أَنْ يَنْسَاقُوا إِلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِمْ، الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا يَنْسَاقُونَ إِلَى الإِيـمَانِ بِاخْتِيَارِهِمْ، وَالْكُفَّارُ الَّذِينَ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَمُوتُوا كَافِرِينَ انْسَاقُوا إِلَى الْكُفْرِ بِاخْتِيَارِهِمْ، فَتَنَفَّذَتْ مَشِيئَةُ اللَّهُ فِي هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ.

فَالْعِبَادُ لَهُمُ اخْتِيَارٌ فِي أَفْعَالِهِمُ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَلَكِنَّهُمْ لَيْسُوا خَالِقِينَ لِأَفْعَالِهِمْ، وَكَذَلِكَ لَيْسُوا كَالرِّيشَةِ الْمُعَلَّقَةِ فِي الْهَوَاءِ تَأْخُذُهَا الرِّيَاحُ يَمْنَةً وَيَسْرَةً بِلا اخْتِيَارٍ مِنْهَا، فَتَسْوِيَةُ هَؤُلاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ وَبَيْنَ تِلْكَ الرِّيشَةِ إِلْحَادٌ وَكُفْرٌ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَمْرِ الْقَدَرِ لَيْسَ مِنَ الْخَوْضِ الَّذِي نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: «إِذَا ذُكِرَ الْقَدَرُ فَأَمْسِكُوا» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، لِأَنَّ هَذَا تَفْسِيرٌ لِلْقَدَرِ الَّذِي وَرَدَ بِهِ النَّصُّ، وَأَمَّا الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فَهُوَ الْخَوْضُ فِيهِ لِلْوُصُولِ إِلَى سِرِّهِ، فَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ وَالْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِلسَّائِلِ عَنِ الْقَدَرِ: «سِرُّ اللَّهِ فَلا تَتَكَلَّفْ»، فَلَمَّا أَلَحَّ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ: «أَمَّا إِذْ أَبَيْتَ فَإِنَّهُ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ لا جَبْرٌ وَلا تَفْوِيضٌ».

الشَّرْحُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: «إِذَا ذُكِرَ الْقَدَرُ فَأَمْسِكُوا» مَعْنَاهُ لا تَتَوَغَّلُوا فِي الْبَحْثِ وَالْخَوْضِ فِيهِ لِلْوُصُولِ إِلَى سِرِّهِ، هَذَا مُنِعْنَا مِنْهُ لِأَنَّهُ بَحْرٌ لَيْسَ لَهُ سَفِينَةٌ، أَمَّا تَفْسِيرُ الْقَدَرِ الَّذِي مَرَّ يَجِبُ مَعْرِفَتُهُ، فَأَصْلُ الْقَدَرِ سِرُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَمَهْمَا تَكَلَّفَ بَعْضُهُمُ الْخَوْضَ فِي ذَلِكَ لِلْوُصُولِ إِلَى سِرِّ الْقَدَرِ فَلَنْ يَسْتَطِيعُوا لِأَنَّ اللَّهَ أَخْفَى عَنَّا ذَلِكَ وَنَهَانَا عَنْ طَلَبِهِ.

وَقَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «لا جَبْرٌ وَلا تَفْوِيضٌ» يُرِيدُ بِهِ أَنَّ عَقِيدَةَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ هِيَ أَنَّ الْعَبْدَ لَهُ اخْتِيَارٌ مَمْزُوجٌ بِجَبْرٍ وَأَنَّ الْعَبْدَ مُخْتَارٌ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ [قَالَ ذَلِكَ الْفَقِيهُ الأُصُولِيُّ بَدْرُ الدِّينِ الزَّرْكَشِيُّ فِي شَرْحِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ] وَأَنَّنَا لا نَقُولُ بِمَقَالَةِ الْجَبْرِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْعَبْدَ لا فِعْلَ لَهُ بِالْمَرَّةِ وَإِنَّمَا هُوَ كَالرِّيشَةِ الْمُعَلَّقَةِ فِي الْهَوَاءِ تَأْخُذُهَا الرِّيَاحُ يَمْنَةً وَيَسْرَةً، وَلا نَقُولُ بِمَقَالَةِ الْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ، إِنَّمَا نَحْنُ وَسَطٌ بَيْنَ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ أَيِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَلا تُقَالُ هَذِهِ الْعِبَارَةُ: الإِنْسَانُ مُسَيَّرٌ أَمْ مُخَيَّرٌ فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ غَلَطٌ لُغَةً وَشَرْعًا فَالنَّاسُ مُسَيَّرُونَ بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ يُمَكِّنُهُمْ مِنَ السَّيْرِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَالَ تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ [سُورَةَ يُونُس/22] مَعْنَاهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُمَكِّنُكُمْ مِنَ السَّيْرِ هُوَ الَّذِي يَخْلُقُ فِينَا الْحَرَكَةَ الِاخْتِيَارِيَّةَ وَالْحَرَكَةَ غَيْرَ الِاخْتِيَارِيَّةِ، بَلْ يُقَالُ الْعَبْدُ مُخْتَارٌ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ. الْمُخْتَارُ مِنَ الِاخْتِيَارِ، أَمَّا مُخَيَّرٌ فَمِنَ التَّخْيِيرِ أَيِ الَّذِي يُخَيَّرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَالتَّخْيِيرُ هُنَا لا مَعْنَى لَهُ وَمَا أَكْثَرَ مَنْ يَلْهَجُ بِذَلِكَ مِنْ أَدْعِيَاءِ الْعِلْمِ.&

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَاعْلَمْ أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ذَمَّ الْقَدَرِيَّةَ وَهُمْ فِرَقٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْعَبْدُ خَالِقٌ لِجَمِيعِ فِعْلِهِ الِاخْتِيَارِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ خَالِقُ الشَّرِّ دُونَ الْخَيْرِ وَكِلا الْفَرِيقَيْنِ كُفَّارٌ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ» [رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ] وَفِي رِوَايَةٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ: «لِكُلِّ أُمَّةٍ مَجُوسٌ، وَمَجُوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا قَدَرَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ حُذَيْفَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

الشَّرْحُ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ فِيهِمَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ الِاخْتِيَارِيَّةَ أَوْ أَنَّهُ خَالِقُ الشَّرِّ دُونَ الْخَيْرِ كُفَّارٌ. وَقَدْ جَاءَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الْمَجُوسَ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ وَعِلْمٌ يَدْرُسُونَهُ» أَيْ كَانُوا عَلَى الإِسْلامِ لَهُمْ كِتَابٌ سَمَاوِيٌّ وَعِلْمٌ يَدْرُسُونَهُ، «ثُمَّ مَلِكُهُمْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَسَكِرَ فَوَقَعَ عَلَى أُخْتِهِ، ثُمَّ لَمَّا صَحَا تَسَامَعَ بِأَمْرِهِ النَّاسُ، فَعَلِمَ بِذَلِكَ فَجَمَعَ رُؤَسَاءَ مِنْ رَعِيَّتِهِ، فَقَالَ لَهُمْ: نَحْنُ أَوْلَى أَمْ ءَادَمُ أَوْلَى، ءَادَمُ كَانَ يُزَوِّجُ بَنِيهِ مِنْ بَنَاتِهِ فَلا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُسَفِّهَ مَا كَانَ عَلَيْهِ ءَادَمُ، فَبَعْضُهُمْ خَالَفُوهُ وَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ وَبَعْضُهُمْ وَافَقُوهُ فَرَضِيَ عَنْهُمْ وَعَذَّبَ الآخَرِينَ فَقَتَلَ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ حَتَّى مَشَى رَأْيُهُ هَذَا. قَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ: «فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ أُسْرِيَ بِكِتَابِهِمْ» يَعْنِي رُفِعَ مِنْ بَيْنِهِمْ وَفَقَدُوهُ، وَأُخِذَ مِنْ قُلُوبِهِمْ ذَلِكَ الْعِلْمُ الَّذِي كَانَ فِيهِمْ وَهُوَ عِلْمُ الإِسْلامِ فَبَقُوا عَلَى عِبَادَةِ النَّارِ، إِلَى الآنَ أَحَدُهُمْ إِذَا سَافَرَ لَمَّا تُشْعَلُ الْكَهْرَبَاءُ فِي الْمَسَاءِ يَعْبُدُهَا وَيَتَوَجَّهُ لَهَا.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِي كِتَابِ «الْقَدَرِ» لِلْبَيْهَقِيِّ وَكِتَابِ «تَهْذِيبِ الآثَارِ» لِلإِمَامِ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي لَيْسَ لَهُمَا نَصِيبٌ فِي الإِسْلامِ الْقَدَرِيَّةُ وَالْمُرْجِئَةُ» [الْمُرْجِئَةُ هُمْ طَائِفَةٌ انْتَسَبُوا لِلإِسْلامِ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ مَهْمَا عَمِلَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَمَاتَ بِلا تَوْبَةٍ لَيْسَ عَلَيْهِ عَذَابٌ] فَالْمُعْتَزِلَةُ هُمُ الْقَدَرِيَّةُ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا اللَّهَ وَالْعَبْدَ سَوَاسِيَةً بِنَفْيِ الْقُدْرَةِ عَنْهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَا يُقْدِرُ عَلَيْهِ عَبْدَهُ، فَكَأَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ خَالِقَيْنِ فِي الْحَقِيقَةِ كَمَا أَثْبَتَ الْمَجُوسُ خَالِقَيْنِ خَالِقًا لِلْخَيْرِ هُوَ عِنْدَهُمُ النُّورُ وَخَالِقًا لِلشَّرِّ هُوَ عِنْدَهُمُ الظَّلامُ.

الشَّرْحُ هَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ كُفَّارٌ، أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدْ مَرَّ بَيَانُ حَالِهِمْ وَهُمْ نَحْوُ عِشْرِينَ فِرْقَةً مِنْهُمْ مَنْ وَصَلَ إِلَى حَدِّ الْكُفْرِ كَالَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى ذَلِكَ الْحَدِّ بَلِ اقْتَصَرُوا عَلَى قَوْلِ إِنَّ اللَّهَ لا يُرَى فِي الآخِرَةِ كَمَا لا يُرَى فِي الدُّنْيَا وَقَوْلِهِمْ إِنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ إِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَتُوبَ لا هُوَ مُؤْمِنٌ وَلا هُوَ كَافِرٌ لَكِنْ يُخَلَّدُ فِي النَّارِ بِلا خُرُوجٍ وَقَوْلِهِمْ إِنَّهُ لا شَفَاعَةَ لِبَعْضِ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالشُّهَدَاءِ، فَمَنْ وَافَقَ الْمُعْتَزِلَةَ فِي هَذَا وَلَمْ يُوَافِقْهُمْ فِي قَوْلِهِمْ إِنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ اسْتِقْلالًا بِقُدْرَةٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا [وَلا فِي قَوْلِهِمْ إِنَّ اللَّهَ شَاءَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ الْعِبَادِ طَائِعِينَ وَلَكِنَّ قِسْمًا مِنْهُمْ كَفَرُوا وَعَصَوْا بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ فَلا يَكْفُرُ].

وَأَمَّا الْمُرْجِئَةُ فَهُمْ طَائِفَةٌ انْتَسَبُوا لِلإِسْلامِ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ مَهْمَا عَمِلَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَمَاتَ بِلا تَوْبَةٍ لَيْسَ عَلَيْهِ عَذَابٌ. قَالُوا لا يَضُرُّ مَعَ الإِيـمَانِ ذَنْبٌ كَمَا لا يَنْفَعُ مَعَ الْكُفْرِ طَاعَةٌ، قَاسُوا هَذِهِ عَلَى هَذِهِ فَضَلُّوا وَهَلَكُوا، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: «لا يَنْفَعُ مَعَ الْكُفْرِ طَاعَةٌ» صَحِيحٌ لِأَنَّ الْكَافِرَ مَهْمَا قَامَ بِصُوَرِ أَعْمَالِ الطَّاعَةِ وَهُوَ عَلَى كُفْرِهِ لا يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: «لا يَضُرُّ مَعَ الإِيـمَانِ ذَنْبٌ لِمَنْ عَمِلَهُ» فَهُوَ كُفْرٌ وَضَلالٌ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ يَنْضَرُّ بِالْمَعَاصِي الَّتِي يَرْتَكِبُهَا، وَالإِرْجَاءُ مَعْنَاهُ التَّأْخِيرُ، وَإِنَّمَا سُمُّوا بِالْمُرْجِئَةِ لِأَنَّهُمْ أَخَّرُوا عَنْهُمُ الْعَذَابَ، أَيْ قَالُوا لا يُصِيبُهُمُ الْعَذَابُ أَيْ لِمَنْ عَصَوْا وَهُمْ عَلَى الإِيـمَانِ، مَعْنَاهُ الإِيـمَانُ يُؤَخِّرُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ أَيْ لا يَلْحَقُهُمُ الْعَذَابُ.

وَالسَّبَبُ فِي هَلاكِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسْئَلَةِ أَنَّهُمْ فَهِمُوا بَعْضَ الآيَاتِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ﴾ [سُورَةَ سَبَإ/17] فَظَنُّوا أَنَّ غَيْرَ الْكَافِرِ لا يُعَذَّبُ، إِنَّمَا مَعْنَى الآيَةِ أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ الَّذِي ذُكِرَ لا يَلْقَاهُ إِلَّا الْكَفُورُ. هَؤُلاءِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ كَأَنَّهُمُ انْقَرَضُوا مُنْذُ زَمَانٍ مَا بَقِيَ مِنْهُمْ أَحَدٌ فِيمَا نَعْلَمُ إِنَّمَا لَهُمْ ذِكْرٌ فِي كُتُبِ الِاعْتِقَادِ.

[تِتِمَّةٌ: الْمُعْتَزِلَةُ يَعْتَقِدُونَ جُمْلَةً مِنَ الْعَقَائِدِ شَذُّوا فِيهَا عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْهَا قَوْلُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ مَا شَاءَ حُصُولَ الْمَعَاصِي وَالشُّرُورِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي بِغَيْرِ مَشِيئَةِ اللَّهِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُمْ إِنَّ الإِنْسَانَ هُوَ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ الِاخْتِيَارِيَّةَ بِقُدْرَةٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا وَلَيْسَ اللَّهُ يَخْلُقُهَا يَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَخْلُقَ حَرَكَاتِ الْعِبَادِ وَسَكَنَاتِهِمْ قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهُمُ الْقُدْرَةَ عَلَيْهَا فَبَعْدَ أَنْ أَعْطَاهُمُ الْقُدْرَةَ عَلَيْهَا صَارَ عَاجِزًا، وَمِنْهَا قَوْلُهُمْ بِنَفْيِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ عِلْمٍ وَقُدْرَةٍ وَحَيَاةٍ وَبَقَاءٍ وَسَمْعٍ وَبَصَرٍ وَكَلامٍ فَهُمْ يَقُولُونَ اللَّهُ عَالِمٌ بِذَاتِهِ لا بِعِلْمٍ، قَادِرٌ بِذَاتِهِ لا بِقُدْرَةٍ، حَيٌّ بِذَاتِهِ لا بِحَيَاةٍ وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ. وَهَذِهِ الأَقْوَالُ الثَّلاثَةُ يَجِبُ تَكْفِيرُهُمْ بِهَا وَلا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ لا يُكَفَّرُونَ بِهَا وَإِنْ كَانُوا يُفَسَّقُونَ بِهَا وَيُبَدَّعُونَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِلُوا إِلَى حَدِّ الْكُفْرِ كَمَا قَالَ عَدَدٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّ هَؤُلاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ خَالَفُوا مَا نَصَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ لا يُعْرَفُ بَيْنَهُمْ مُخَالِفٌ وَهَذَا هُوَ قَوْلُ سَلَفِ الأُمَّةِ فَهُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ الْمُعْتَمَدُ وَمَا خَالَفَهُ مَرْدُودٌ عَلَى قَائِلِهِ لِأَنَّهُ لا يَجُوزُ أَنْ يُتْرَكَ مَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ بِلا خِلافٍ لِقَوْلٍ مُسْتَحْدَثٍ مُخَالِفٍ بَلْ مَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ حَدِيثُ مُسْلِمٍ مَرْفُوعًا: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ »اهـ.

وَلِذَلِكَ اعْتَمَدَ الْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْخَلَفِ الْقَوْلَ بِتَكْفِيرِهِمْ وَلَمْ يَرْتَضُوا قَوْلًا سِوَاهُ، وَإِلَيْكَ زِيَادَةُ بَيَانِ مَا قَدَّمْنَاهُ.

فَأَمَّا الأَحَادِيثُ الْمَرْفُوعَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَأَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ عَنْ زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَوْ عَذَّبَ أَهْلَ أَرْضِهِ وَسَمَوَاتِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَلَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ وَلَوْ مِتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا دَخَلْتَ النَّارَ» اهـ.

وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ» اهـ وَعِنْدَهُ مِنْ طَرِيقِ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا كَذَلِكَ «لِكُلِّ أُمَّةٍ مَجُوسٌ وَمَجُوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا قَدَرَ» اهـ. وَهَذَا الْحَدِيثُ مَشْهُورٌ يُحْتَجُّ بِهِ فِي الْعَقِيدَةِ وَلِذَلِكَ احْتَجَّ بِهِ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي بَعْضِ رَسَائِلِهِ الْخَمْسِ.

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي لَيْسَ لَهُمَا نَصِيبٌ فِي الإِسْلامِ الْقَدَرِيَّةُ وَالْمُرْجِئَةُ» اهـ وَالْقَدَرِيَّةُ هُمُ الْمُعْتَزِلَةُ. وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ أَكْثَرِ مِنْ طَرِيقٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا.

وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ زرارة عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَلا هَذِهِ الآيَةَ ﴿ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [سُورَةَ الْقَمَر] قَالَ: «نَزَلَتْ فِي أُنَاسٍ مِنْ أُمَّتِي يَكُونُونَ فِي ءَاخِرِ الزَّمَانِ يُكَذِّبُونَ بِقَدَرِ اللَّهِ» اهـ.

وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي تَارِيخِ أَصْبَهَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ جَاءَتْ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَاصِمُونَهُ فِي الْقَدَرِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ﴾ إِلَى قَوْلِهِ ﴿خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ اهـ.

وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ رَافِعِ بنِ خَدِيجٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكْفِيرَهُمْ وَأَنَّهُمْ يَكُونُونَ أَتْبَاعَ الدَّجَّالِ عِنْدَ ظُهُورِهِ.

فَهَذِهِ الأَحَادِيثُ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى كُفْرِ نُفَاةِ الْقَدَرِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْعَبْدَ يَفْعَلُ بِغَيْرِ مَشِيئَةِ اللَّهِ، وَلِهَذَا لَمْ يَخْتَلِفْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ فِي كُفْرِهِمْ.

رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ بِالإِسْنَادِ الصَّحِيحِ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ قَالَ أَمَامَهُ فِي الْجَابِيَةِ «إِنَّ اللَّهَ لا يُضِلُّ أَحَدًا» فَغَضِبَ عُمَرُ وَقَالَ: «كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ وَلَوْلا أَنَّكَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ هُوَ أَضَلَّكَ وَهُوَ يُدْخِلُكَ النَّارَ» اهـ.

وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ أَيْضًا عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ لَنْ يَخْلُصَ الإِيـمَانُ إِلَى قَلْبِهِ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ يَقِينًا غَيْرَ شَكٍّ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، وَيُقِرُّ بِالْقَدَرِ كُلِّهِ »اهـ.
وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ حِبَّانَ عَنِ ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ عَنْ أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ بنِ الْيَمَانِ وَزَيْدِ بنِ ثَابِتٍ قَوْلَهُمْ: «لَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ وَلَوْ مِتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا دَخَلْتَ النَّارَ »اهـ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.

وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ عَطَاءِ بنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ أَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَهُوَ يَنْزِعُ مِنْ زَمْزَمَ وَقَدِ ابْتَلَّتْ أَسَافِلُ ثِيَابِهِ فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ تُكُلِّمَ فِي الْقَدَرِ، فَقَالَ: أَوَفَعَلُوهَا، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ إِلَّا فِيهِمْ ﴿ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ أُولَئِكَ شِرَارُ هَذِهِ الأُمَّةِ فَلا تَعُودُوا مَرْضَاهُمْ وَلا تُصَلُّوا عَلَى مَوْتَاهُمْ إِنْ رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ فَقَأْتُ عَيْنَيْهِ بِأَصْبَعَيَّ هَاتَيْنِ اهـ.

وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا قَوْلُهُ: كَلامُ الْقَدَرِيَّةِ كُفْرٌ اهـ وَقَدْ تَقَدَّمَ.

وَقَدْ أُخْبِرَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَيْضًا بِحُدُوثِ الْقَوْلِ فِي الْقَدَرِ فِي الْعِرَاقِ عَلَى مُقْتَضَى كَلامِ الْمُعْتَزِلَةِ فَقَالَ لِلْمُخْبِرِ وَكَانَ يَحْيَى بنُ يَعْمُرَ مِنْ أَجِلَّاءِ التَّابِعِينَ: أَخْبِرْهُمْ بِأَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ بُرَءَاءُ مِنِّي وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ اهـ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ عَنْ لَبِيدٍ قَالَ: سَأَلْتُ وَاثِلَةَ بنَ الأَسْقَعِ عَنِ الصَّلاةِ خَلْفَ الْقَدَرِيِّ فَقَالَ: لا تُصَلِّ خَلْفَ الْقَدَرِيِّ أَمَّا أَنَا لَوْ صَلَيْتُ خَلْفَهُ لَأَعَدْتُ صَلاتِي اهـ.

وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ سَيِّدِنَا الْحُسَيْنِ بنِ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: وَاللَّهِ مَا قَالَتِ الْقَدَرِيَّةُ بِقَوْلِ اللَّهِ وَلا بِقَوْلِ الْمَلائِكَةِ وَلا بِقَوْلِ النَّبِيِّينَ وَلا بِقَوْلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَلا بِقَوْلِ أَهْلِ النَّارِ وَلا بِقَوْلِ صَاحِبِهِمْ إِبْلِيسَ اهـ وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا التَّابِعُونَ فَمِنْهُمُ ابْنُ الدَّيْلَمِيِّ كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالْبَيْهَقِيُّ وَقَدْ ذَكَرَ حَدِيثَهُ ءَانِفًا.

وَمِنْهُمْ يَحْيَى بنُ يَعْمُرَ وَحُمَيْدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمٰنِ الْحِمْيَرِيُّ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَهُمَا سَمِعَا حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الْمَذْكُورَ ءَانِفًا.

وَمِنْهُمْ أَبُو سُهَيْلٍ عَمُّ الإِمَامِ مَالِكٍ وَعُمَرُ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الْقَدَرِ عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ عُمَرَ بنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَاسْتَشَارَنِي فِي الْقَدَرِيَّةِ فَقُلْتُ: أَرَى أَنْ تَسْتَتِيبَهُمْ فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا عَرَضْتَهُمْ عَلَى السَّيْفِ، فَقَالَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: وَذَلِكَ رَأْيِي، قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ رَأْيِي اهـ.

وَلِعُمَرَ بنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رِسَالَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ، رَوَاهَا أَبُو نُعَيْمٍ وَغَيْرُهُ.

وَمِنْهُمُ التَّابِعِيُّ الْجَلِيلُ مُحَمَّدُ بنُ سِيرِينَ، فَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُ الْقَدَرِ مِنَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي ءَايَاتِ اللَّهِ فَلا أَدْرِي مَنْ هُمْ اهـ.

وَمِنْهُمُ الْحَسَنُ الْبِصْرِيُّ فَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيْخِهِ عَنْ عَاصِمٍ قَالَ سَمِعْتُ الْحَسَنَ الْبِصْرِيَّ يَقُولُ: مَنْ كَذَّبَ بِالْقَدَرِ فَقَدْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدَّرَ خَلْقًا وَقَدَّرَ أَجَلًا وَقَدَّرَ بَلاءً وَقَدَّرَ مَعْصِيَةً وَقَدَّرَ مُعَافَاةً فَمَنْ كَذَّبَ بِالْقَدَرِ فَقَدْ كَذَّبَ بِالْقُرْءَانِ اهـ.

وَأَفْتَى الزُّهْرِيُّ عَبْدَ الْمَلِكِ بنَ مَرْوَانَ بِدِمَاءِ الْقَدَرِيَّةِ كَمَا ذَكَرَهُ الإِمَامُ عَبْدُ الْقَاهِرِ التَّمِيمِيُّ فِي أُصُولِ الدِّينِ.

وَلَعَنَهُمْ سَالِمُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ بنِ عَمَّارٍ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ سَالِمَ بنَ عَبْدِ اللَّهِ يَلْعَنُ الْقَدَرِيَّةَ اهـ.

وَمِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ صَرَّحَ بِكُفْرِهِمْ جَمَاعَةٌ كَبِيرَةٌ مِنْهُمُ الإِمَامُ مَالِكُ بنُ أَنَسٍ فَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ إِسْحَاقَ بنِ مُحَمَّدٍ الْفرويِّ أَنَّهُ قَالَ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ تَزْوِيجِ الْقَدَرِيِّ فَقَالَ: ﴿وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّنْ مُّشْرِكٍ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/221] اهـ.
وَمِنْهُمُ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ كَمَا صَرَّحَ فِي بَعْضِ رَسَائِلِهِ وَقَدْ قَالَ: الْكَلامُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَدَرِيَّةِ فِي حَرْفَيْنِ يُقَالُ لَهُمْ: هَلْ عَلِمَ اللَّهُ مَا يَكُونُ مِنَ الْعِبَادِ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلُوا، فَإِنْ قَالُوا لا كَفَرُوا لِأَنَّهُمْ جَهَّلُوا رَبَّهُمْ، وَإِنْ قَالُوا عَلِمَ يُقَالُ لَهُمْ: هَلْ شَاءَ خِلافَ مَا عَلِمَهُ، فَإِنْ قَالُوا نَعَمْ كَفَرُوا لِأَنَّهُمْ قَالُوا شَاءَ أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا، وَإِنْ قَالُوا لا رَجَعُوا إِلَى قَوْلِنَا اهـ. وَلِذَلِكَ قَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْقَدَرِيُّ إِذَا سَلَّمَ الْعِلْمَ خُصِمَ اهـ.

وَقَدْ كَفَّرَ الشَّافِعِيُّ حَفْصًا الْفَرْدَ مِنْ رُؤُوسِ الْمُعْتَزِلَةِ وَقَالَ لَهُ: لَقَدْ كَفَرْتَ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ اهـ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ.

وَأَمَّا تَكْفِيرُ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ لَهُمْ فَمَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ عَنْهُ رَوَاهُ عَدَدٌ مِنْهُمُ الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُمَا.

وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ تَكْفِيرَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَهُمْ بَلْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِيهِمْ: إِنَّهُمْ زَنَادِقَةٌ اهـ.

وَمِنْهُمْ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ كَمَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بنِ يُونُسَ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ رَجُلًا يَقُولُ لِسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: إِنَّ لَنَا إِمَامًا قَدَرِيًّا قَالَ: لا تُقَدِّمُوهُ، قَالَ: لَيْسَ لَنَا إِمَامٌ غَيْرُهُ، قَالَ: لا تُقَدِّمُوهُ اهـ.

وَمِنْهُمْ سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ، رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَيُّوبَ بنِ حَسَّانَ أَنَّهُ قَالَ سُئِلَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الْقَدَرِيَّةِ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي قَالَتِ الْقَدَرِيَّةُ مَا لَمْ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلا الْمَلائِكَةُ وَلا النَّبِيُّيونَ وَلا أَهْلُ الْجَنَّةِ وَلا أَهْلُ النَّارِ وَلا مَا قَالَ أَخُوهُمْ إِبْلِيسُ... إِلَخ اهـ.

وَمِنْهُمْ مُحَمَّدُ الْبَاقِرُ بنُ عَلِيٍّ زَيْنُ الْعَابِدِينَ كَمَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَارِثِ بنِ شُرَيْحٍ الْبَزَّارِ قَالَ قُلْتُ لِمُحَمَّدِ بنِ عَلِيٍّ: يَا أَبَا جَعْفَرٍ إِنَّ لَنَا إِمَامًا يَقُولُ فِي هَذَا الْقَدَرِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ الْفَارِسِيِّ انْظُرْ كُلَّ صَلاةٍ صَلَّيْتَهَا خَلْفَهُ فَأَعْدِهَا، إِخْوَان الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اهـ.

وَمِنْهُمُ الإِمَامُ الْمُجْتَهَدُ أَبُو عَمْرٍو الأَوْزَاعِيُّ فَإِنَّهُ كَفَّرَ غَيْلانَ الْقَدَرِيَّ وَقَالَ لِهِشَامِ بنِ عَبْدِ الْمَلِكِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ دَمُهُ فِي عُنُقِي اهـ رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخَ دِمَشْقَ بِرِوَاياتٍ عِدَّةٍ.

وَمِنْهُمُ الْحَافِظُ يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ فَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي تَارِيخِ أَصْبَهَانَ عَنْ سَعِيدِ بنِ عِيسَى الْكُزْبَرِيِّ يَقُولُ سَمِعْتُ يَحْيَى بنَ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ يَقُولُ: شَيْئَانِ مَا يُخَالِجُ قَلْبِي فِيهِمَا شَكٌّ تَكْفِيرُ الْقَدَرِيَّةِ وَتَحْرِيْمُ النَّبِيذِ اهـ.

وَمِنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ بنُ طَهْمَانَ كَمَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَسَنِ بنِ عِيسَى أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بنَ طَهْمَانَ يَقُولُ: الْجَهْمِيَّةُ وَالْقَدَرِيَّةُ كُفَّارٌ اهـ.

فَهَذِهِ أَقْوَالُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَهُمْ فُقَهَاؤُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَأُبِيُّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةُ وَزَيْدُ بنُ ثَابِتٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ مُجْمِعَةٌ عَلَى تَكْفِيرِ الْقَدَرِيَّةِ لَمْ يُخَالِفْهُمْ فِي ذَلِكَ صَحَابِيٌّ وَاحِدٌ، وَمَعَهُمْ عَلَى هَذَا مَشَاهِيرُ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ كَابْنِ سِيرِينَ وَعُمَرَ بنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنِ الْبِصْرِيِّ وَابْنِ شهَابٍ الزُّهْرِيِّ، وَتَبِعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَتْبَاعُ التَّابِعِينَ وَبَيْنَهُمُ الْمُجْتَهِدُونَ أَصْحَابُ الْمَذَاهِبِ الْمَشْهُورَةِ الْمَتْبُوعَةِ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَسُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ، وَمَعَ هَؤُلاءِ كُلِّهِمْ أَئِمَّةُ أَهْلِ الْبَيْتِ عَلِيٌّ وَالْحُسَيْنُ وَالْبَاقِرُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَكَيْفَ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ يَجْرُؤُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى الزَّعْمِ بِأَنَّ الْقَوْلَ الْمُعْتَمَدَ تَرْكُ تَكْفِيرِ الْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ بِخَلْقِ الْعَبْدِ لِأَعْمَالِهِ وَيَنْفِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِأَيِّ لِسَانٍ يَزْعُمُ مُنْتَسِبٌ إِلَى الإِسْلامِ بِأَنَّ الْقَوْلَ بِعَدَمِ تَكْفِيرِهِمُ الَّذِي يُخَالِفُ الأَحَادِيثَ الصَّرِيْحَةَ وَإِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ وَأَقْوَالَ أَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنَ التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ هُوَ الْقَوْلُ الْمُعْتَمَدُ. وَإِذَا كَانَ هَؤُلاءِ كُلُّهُمْ أَخْطَأُوا الصَّوَابَ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْكُفْرِ وَالإِيـمَانِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ كَلامُ هَؤُلاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ فَمِنْ أَيْنَ عَرَفُوا هُمُ الصَّوَابُ بِزَعْمِهِمْ فِي الْمَسْئَلَةِ وَمِنْ أَيِّ طَرِيقٍ بَلَغَهُمْ حُكْمَهَا.

بَلِ الْحَقُّ مَا جَاءَ بِهِ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ وَالصَّوَابُ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَالأَوْزَاعِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، وَأَمَّا مَا خَالَفَ ذَلِكَ مِمَّا قَالَهُ بَعْضُ مَنْ جَاءَ بَعْدَ هَؤُلاءِ بِمِئَاتٍ مِنَ السِّنِينَ كَالْبَاجُورِيِّ أَوِ الشَّرْبِينِيِّ أَوِ الأَشْخَرِ مِمَّنْ يُعَدُّ فِي الأُصُولِ وَالْفُرُوعِ كَالأَطْفَالِ بِالنِّسْبَةِ لِهَؤُلاءِ الأَسَاطِينِ فَيُضْرَبُ بِهِ عَرْضَ الْحَائِطِ وَلا يُقَامُ لَهُ وَزْنٌ.

وَلِذَلِكَ لَمْ يَعْتَبِرْ أَئِمَّةُ الْخَلَفِ وَمُحَقِّقُوهُمْ هَذَا الرَّأْيَ الشَّاذَّ بَلْ جَزَمُوا بِكُفْرِ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَقَلَ الإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ التَّمِيمِيُّ الْبَغْدَادِيُّ كُفْرَهُمْ عَنِ الأَئِمَّةِ فِي كِتَابِهِ أُصُولِ الدِّينِ، وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ: أَجْمَعَ أَصْحَابُنَا - أَيْ أَئِمَّةُ الأَشَاعِرَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ- عَلَى تَكْفِيرِ الْمُعْتَزِلَةِ اهـ.

وَكَفَّرَهُمْ إِمَامُ الْهُدَى أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ فِي كِتَابِهِ التَّوْحِيدِ وَعَلَيْهِ جَرَى أَئِمَّةُ الْحَنَفِيَّةِ: قَالَ الزَّبِيدِيُّ فِي شَرْحِ الإِحْيَاءِ: إِنَّ مَشَايِخَ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ لَمْ يَتَوَقَّفُوا عَنْ تَكْفِيرِ الْمُعْتَزِلَةِ اهـ وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْهُمْ نَجْمُ الدِّينِ منكوبرس شَارِحُ الطَّحَاوِيَّةِ.

وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بنُ الْعَرَبِي الْمَالِكِيُّ مِنْ أُصُولِ الإِيـمَانِ الْقَدَرُ مَنْ كَذَّبَ بِهِ فَقَدْ كَفَرَ. نَصَّ عَلَيْهِ مَالِكٌ فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ نِكَاحِ الْقَدَرِيَّةِ فَقَالَ: ﴿وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّنْ مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ﴾ اهـ.

وَكَفَّرَهُمُ الْفَقِيهُ اللُّغَوِيُّ شِيثُ بنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَالِكِيُّ وَأَلَّفَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ كِتَابَ «حَزُّ الْغَلاصِمِ وَإِفْحَامُ الْمَخَاصِمِ» وَهُوَ مَطْبُوعٌ.

وَسُئِلَ الْجُنَيْدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ التَّوْحِيدِ فَقَالَ: الْيَقِينُ، ثُمَّ اسْتُفْسِرَ عَنْ مَعْنَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ لا مُكَوِّنَ لِشَىْءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ مِنَ الأَعْيَانِ وَالأَعْمَالِ خَالِقٌ لَهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى اهـ.

وَقَالَ الْفَقِيهُ الْحَنْبَلِيُّ وَلِيُّ اللَّهِ السَّيِّدُ عَبْدُ الْقَادِرِ الْجِيلانِيُّ فِي كِتَابِ الْغُنْيَةِ لَهُ: تَبًّا لَهُمْ - أَيْ لِلْقَدَرِيَّةِ - وَهُمْ مَجُوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ وَنَسَبُوهُ إِلَى الْعَجْزِ وَأَنْ يَجْرِي فِي مِلْكِهِ مَا لا يَدْخُلُ فِي قُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا اهـ.

وَكَفَّرَهُمْ أَبُو حَامِدٍ الأَسْفَرَايِينِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الْوُجُوهِ بَيْنَ الشَّافِعِيَّةِ وَلَمْ يُصَحِّحِ الصَّلاةَ خَلْفَهُمْ.

وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الْكَرِيْمِ السَّمْعَانِيُّ الشَّافِعِيُّ فِي الأَنْسَابِ فِي تَرْجَمَةِ الْكَعْبِيِّ الْمُعْتَزِلِيِّ وَقَدْ كَفَرَتِ الْمُعْتَزِلَةُ قَبْلَهُ بِقَوْلِهَا إِنَّ الشُّرُورَ وَاقِعَةٌ مِنَ الْعِبَادِ بِخِلافِ إِرَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَشِيئَتِهِ اهـ ثُمَّ قَالَ فَزَادَ أَبُو الْقَاسِمِ الْكَعْبِيُّ فِي الْكُفْرِ فَزَعَمَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِرَادَةٌ وَلا مَشِيئَةٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ اهـ.

وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ تَكْفِيرَ مَنْ قَالَ أَنَا أَفْعَلُ بِغَيْرِ مَشِيئَةِ اللَّهِ وَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ اهـ.

وَسَبَقَ نَقْلُ مَا ذَكَرَهُ الْبُلْقِينِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْئَلَةِ وَرَدَّهُ عَلَى مَنْ صَحَّحَ الصَّلاةَ خَلْفَهُمْ.

فَتَلَخَّصَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْقَوْلَ الصَّحِيحَ الْمُعْتَمَدَ الَّذِي لا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ هُوَ تَكْفِيرُ الْمُعْتَزِلَةِ بِكُلِّ مَسْئَلَةٍ مِنَ الْمَسَائِلِ الثَّلاثِ الْمَذْكُورَةِ ءَانِفًا، وَلِلَّهِ دَرّ أَبِي الْقَاسِمِ الْعَلَوِيِّ الْقَائِلِ فِيمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي يَعْلَى حَمْزَةَ بنِ مُحَمَّدٍ الْعَلَوِيِّ يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ عَبْدَ الرَّحْمٰنِ بنَ مُحَمَّدِ بنِ الْقَاسِمِ الْحَسَنِيَّ وَمَا رَأَيْتُ عَلَوِيًّا - أَيْ مِنْ ذُرِّيَّةِ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - أَفْضَلَ مِنْهُ زُهْدًا وَعِبَادَةً يَقُولُ: الْمُعْتَزِلَةُ قَعَدَةُ الْخَوَارِجِ عَجَزُوا عَنْ قِتَالِ النَّاسِ بِالسُّيُوفِ فَقَعَدُوا لِلنَّاسِ يُقَاتِلُونَهُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ أَوْ تُجَاهِدُونَهُمْ أَوْ كَمَا قَالَ اهـ.]

فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ شَاءَ حُصُولَ الْكُفْرِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَىْءٍ﴾ [سُورَةَ فُصِّلَتْ/21] الْكُفَّارُ فِي حَالٍ مِنَ الأَحْوَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَخْتِمُ اللَّهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَنْكَرُوا الْكُفْرَ الَّذِي كَفَرُوهُ مِنْ شِدَّةِ اضْطِرَابِهِمْ فَقَالُوا: نَحْنُ مَا أَشْرَكْنَا، فَمَنَعَ اللَّهُ أَفْوَاهَهُمْ مِنَ الْكَلامِ وَأَنْطَقَ جَوَارِحَهُمْ وَجُلُودَهُمْ فَشَهِدَتْ عَلَيْهِمْ بِمَا عَمِلُوا.

وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام/39] دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ شَاءَ كُفْرَ الْكَافِرِ وَإِيـمَانَ الْمُؤْمِنِ فَنَفَذَ مُرَادُ اللَّهِ.

وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام/111] أَيْ أَنَّ حَسَنَاتِ الْعِبَادِ مِنْ إِيـمَانٍ وَمَا يَتْبَعُهُ لا يَكُونُ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ.

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام/35] أَيْ لَمْ يَشَأْ هِدَايَةَ جَمِيعِهِمْ.

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا﴾ أَيْ لَمْ يَشَأْ لِلْجَمِيعِ أَنْ يُؤْمِنُوا وَإِنْ كَانَ أَمَرَهُمْ بِالإِيـمَانِ.



وَالْهِدَايَةُ عَلَى وَجْهَيْنِ

أَحَدُهُمَا: إِبَانَةُ الْحَقِّ وَالدُّعَاءُ إِلَيْهِ، وَنَصْبُ الأَدِلَّةِ عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَصِحُّ إِضَافَةُ الْهِدَايَةِ إِلَى الرُّسُلِ وَإِلَى كُلِّ دَاعٍ لِلَّهِ.

الشَّرْحُ الْهِدَايَةُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ وَأَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ إِبَانَةُ الْحَقِّ وَالدُّعَاءُ إِلَيْهِ أَيْ أَمْرُ النَّاسِ بِهِ، فَالأَنْبِيَاءُ بِهَذَا الْمَعْنَى هُدَاةٌ لِأَنَّهُمْ دَلُّوا النَّاسَ عَلَى الْخَيْرِ وَبَيَّنُوا لِلنَّاسِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَحَذَّرُوا النَّاسَ مِمَّا لا يُحِبُّهُ اللَّهُ.

فَالأَنْبِيَاءُ وَظِيفَتُهُمُ الَّتِي هِيَ فَرْضٌ عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤَدُّوهَا الْبَيَانُ وَالدِّلالَةُ وَالإِرْشَادُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْ كَانَ اللَّهُ شَاءَ لَهُ الِاهْتَدَاءَ يَهْتَدِي بِقَوْلِ هَؤُلاءِ الأَنْبِيَاءِ بِالأَخْذِ بِدَعْوَتِهِمْ وَنَصِيحَتِهِمْ، وَمَنْ لَمْ يَشَإِ اللَّهُ أَنْ يَهْتَدِيَ لا يَهْتَدِي مَهْمَا رَأَوْا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، هَذَا أَبُو جَهْلٍ رَأَى انْشِقَاقَ الْقَمَرِ وَغَيْرُهُ مِنْ صَنَادِيدِ الْكُفْرِ وَلَمْ يَهْتَدِ مِنْهُمْ إِلَّا الَّذِي شَاءَ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَهْتَدِيَ وَلِذَلِكَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَالَ:

رَبِّ إِنَّ الْهُدَى هُدَاكَ وَءَايَاتُكُ نُورٌ تَهْدِي بِهَا مَنْ تَشَاءُ

مَعْنَاهُ الآيَاتُ لا تَهْدِي بِذَاتِهَا إِنَّمَا يَهْتَدِي بِهَا مَنْ شَاءَ اللَّهُ لَهُمُ الْهِدَايَةَ، وَالَّذِينَ لَمْ يَشَإِ اللَّهُ لَهُمُ الْهِدَايَةَ فَلا الْمُعْجِزَاتُ تُؤَثِّرُ فِيهِمْ وَلا الْعِبَرُ الَّتِي حَصَلَتْ لِمَنْ قَبْلَهُمْ مِمَّنْ كَذَّبُوا الأَنْبِيَاءَ، فَالدُّعَاءُ إِلَى الْحَقِّ يُقَالُ لَهُ هِدَايَةٌ، وَكَذَلِكَ نَصْبُ الأَدِلَّةِ عَلَيْهِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/52].

الشَّرْحُ أَيْ يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ تَدُلُّ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَتُبَيِّنُ لِلْخَلْقِ طَرِيقَ الْهِدَايَةِ طَرِيقَ الْهُدَى، لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْتَ تَخْلُقُ الِاهْتِدَاءَ فِي قُلُوبِ النَّاسِ، فَالرَّسُولُ لا يَمْلِكُ الْقُلُوبَ فَهُوَ يَقُولُ لَهُمْ ءَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، هَذَا يُقَالُ لَهُ هِدَايَةٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْهِدَايَةَ هُنَا لَيْسَتْ بِمَعْنَى خَلْقِ الِاهْتِدَاءِ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ مَاتَ كَافِرًا، أَلَيْسَ الرَّسُولُ كَانَ يُحِبُّ لِأَبِي طَالِبٍ أَنْ يَهْتَدِيَ وَمَعَ ذَلِكَ أَبُو طَالِبٍ مَاتَ كَافِرًا، مَعَ أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الرَّسُولَ وَيُدَافِعُ عَنْهُ وَلَكِنَّهُ مَا رَضِيَ أَنْ يَنْطِقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ لَمَّا كَانَ عَلَى فِرَاشِ الْمَوْتِ حِينَ دَخَلَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ فَقَالَ لَهُ: «يَا عَمُّ قُلْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدْ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ» فَلَمْ يَفْعَلْ وَقَالَ: إِنِّي عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَقَدْ كَانَ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ: لَوْلا أَنْ تُعَيِّرَنِي بِهَا قُرَيْشٌ لَأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ، ثُمَّ لَمَّا مَاتَ جَاءَ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ إِلَى الرَّسُولِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ الضَّالَّ قَدْ مَاتَ قَالَ: «اذْهَبْ فَوَارِهِ» جَهِّزْهُ لِلدَّفْنِ، وَالرَّسُولُ مَا خَرَجَ فِي جِنَازَتِهِ فَلَوْ كَانَ يُحِبُّهُ لِشَخْصِهِ كَانَ خَرَجَ فِي جِنَازَتِهِ، وَهَذَا دَلِيلٌ لَنَا عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ يُحِبُّ شَخْصَهُ بَلْ كَانَ كَارِهًا لَهُ مِنْ حَيْثُ كُفْرُهُ وَلا يَجُوزُ اعْتِقَادُ أَنَّ نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ يُحِبُّ وَاحِدًا مِنَ الْكُفَّارِ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان/32] وَأَنْبِيَاءُ اللَّهِ لا يُحِبُّونَ الْكَافِرِينَ لِأَنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّهُمْ، إِنَّمَا كَانَ يُحِبُّ اهْتِدَاءَهُ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [سُورَةَ الْقَصَص/56]، أَيْ يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ لا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَخْلُقَ الِاهْتِدَاءَ فِي قَلْبِ مَنْ أَحْبَبْتَ اهْتِدَاءَهُ، فَمَنْ أَحْبَبْتَ اهْتِدَاءَهُ لا تَهْدِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ لا يَهْتَدِيَ، ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ أَيْ مَنْ شَاءَ اللَّهُ لَهُ الْهِدَايَةَ فِي الأَزَلِ يَهْتَدِي.

الرَّسُولُ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَهْتَدِيَ أَبُو طَالِبٍ لِأَنَّهُ قَرِيبُهُ وَلِأَنَّهُ حَمَاهُ وَلِأَنَّهُ كَانَ يُنَاضِلُ عَنْهُ، لَكِنَّ اللَّهَ مَا شَاءَ لَهُ الإِيـمَانَ فَمَاتَ وَلَمْ يُسْلِمْ، وَقَدْ سَأَلَ الْعَبَّاسُ الرَّسُولَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عَمَّكَ أَبَا طَالِبٍ كَانَ يُحِبُّكَ وَيُنَاضِلُ عَنْكَ فَهَلْ نَفَعْتَهُ قَالَ: «إِنَّهُ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمَعْنَاهُ اللَّهُ جَعَلَ جَزَاءَهُ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ أَنَّ النَّارَ تَأْخُذُ مِنْهُ إِلَى الْقَدَمِ فَقَطْ، لا يَدْخُلُ الْمَكَانَ الَّذِي هُوَ بُعْدُهُ فِي النُّزُولِ مَسَافَةَ سَبْعِينَ عَامًا كَغَيْرِهِ مِنَ الْكُفَّارِ، الْكُفَّارُ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَصِلُ إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَوْلا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ» أَنَّ الرَّسُولَ نَفَعَهُ، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهُ لا يُخَفَّفُ عَنْهُ بَلْ يَبْقَى عَلَى هَذِهِ الْحَالِ أَبَدَ الآبِدِينَ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ مُسْلِمًا.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ [سُورَةَ فُصِّلَتْ/17].

الشَّرْحُ أَيْ بَيَّنَّا لَهُمُ الْحَقَّ وَدَلَلْنَاهُمْ عَلَيْهِ، وَثَمُودُ قَبِيلَةٌ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ قَبْلَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَهُمْ قَوْمُ نَبِيِّ اللَّهِ صَالِحٍ، وَمَسَاكِنُهُمْ بَعْدَ الْمَدِينَةِ بِثَلاثِمِائَةِ كِيلُو مِتْرٍ تَقْرِيبًا إِلَى جِهَةِ الشَّامِ، فَثَمُودُ بَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ طَرِيقَ الْخَيْرِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ صَالِحًا فَبَيَّنَ لَهُمْ طَرِيقَ الْهُدَى طَرِيقَ الإِسْلامِ فَكَذَّبُوهُ، وَكَفَرُوا بِنَبِيِّهِمْ فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ﴾ دَلَلْنَاهُمْ عَلَى الْحَقِّ ﴿فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ أَيْ كَذَّبُوا نَبِيَّهُمْ فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِطُغْيَانِهِمْ، أَمَرَ جِبْرِيلَ فَصَاحَ بِهِمْ فَهَلَكُوا. ﴿فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ أَيِ اخْتَارُوا الضَّلالَ وَلَمْ يَقْبَلُوا الإِيـمَانَ.

فَائِدَةٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّنْ سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ﴾ [سُورَةَ هُود].

أَيْ عَلَى قَبِيلَةِ لُوطٍ أَمْطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً كَانَتْ مُسَوَّمَةً أَيْ مُعَلَّمَةً كُلُّ وَاحِدَةٍ عَلَيْهَا عَلامَةٌ عَلَى مَنْ تَنْزِلُ عَلَيْهِ، وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَذَابًا بِأَنْ قَلَبَ جِبْرِيلُ قُرَاهُمْ وَزَادَهُمْ تِلْكَ الْحِجَارَةَ، أَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ﴿عِنْدَ رَبِّكَ﴾ [سُورَةَ هُود/83] لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِمَكَانٍ وَأَنَّ تِلْكَ الْحِجَارَةَ قُرْبَ اللَّهِ بِالْمَسَافَةِ، فَلَيْسَ لِلْمُشَبِّهَةِ فِي ذَلِكَ حُجَّةٌ بَلْ هَذِهِ الآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ لا يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهَا أَنَّ هَذِهِ الْحِجَارَةَ بِجَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مُقْتَضَى مَا يَزْعُمُونَ مِنْ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ قَاعِدٌ فَوْقَ الْعَرْشِ، فَمِنْ شِدَّةِ جَهْلِهِمْ يَحْتَجُّونَ بِكَلِمَةِ عِنْدَ رَبِّكَ عَلَى إِثْبَاتِ الْحَيِّزِ وَالْمَكَانِ لِلَّهِ، فَمَا أَبْعَدَهُمْ عَنْ فَهْمِ لُغَةِ الْعَرَبِ.

إِنْ كَانَتِ الْوَهَّابِيَّةُ تَنْتَسِبُ إِلَى بَنِي تَمِيمٍ الَّتِي هِيَ إِحْدَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ الْمَشْهُورَةِ الْقَدِيمَةِ، فَأَجْدَادُهُمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ لا يَفْهَمُونَ التَّحَيُّزَ وَالْجِهَةَ مِنْ هَذِهِ الآيَاتِ الْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي تَفْهَمُ مِنْهَا الْوَهَّابِيَّةُ التَّحَيُّزَ فِي الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ لِلَّهِ إِنَّمَا عَلَّمَهُمْ هَذَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ بِمَا أَخَذَهُ مِنْ كُتُبِ ابْنِ تَيْمِيَةَ الْمُجَسِّمِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ الَّذِي يَخُصُّ مَنْ يَشَاءُ بِمَا يَشَاءُ وَجَعَلَ الْفَهْمَ خَيْرَ مَا يُؤْتَاهُ الإِنْسَانُ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالثَّانِي: مِنْ جِهَةِ هِدَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ، أَيْ خَلْقِ الِاهْتِدَاءِ فِي قُلُوبِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام/125] وَالإِضْلالُ خَلْقُ الضَّلالِ فِي قُلُوبِ أَهْلِ الضَّلالِ. فَالْعِبَادُ مَشِيئَتُهُمْ تَابِعَةٌ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [سُورَةَ الإِنْسَان/30].

وَهَذِهِ الآيَةُ مِنْ أَوْضَحِ الأَدِلَّةِ عَلَى ضَلالِ جَمَاعَةِ أَمِين شَيْخُو لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنْ شَاءَ الْعَبْدُ الْهِدَايَةَ يَهْدِيهِ اللَّهُ وَإِنْ شَاءَ الْعَبْدُ الضَّلالَ يُضِلُّهُ اللَّهُ، فَمَاذَا يَقُولُونَ فِي هَذِهِ الآيَةِ: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ﴾ فَإِنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي سَبْقِ مَشِيئَةِ اللَّهِ عَلَى مَشِيئَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّ اللَّهَ نَسَبَ الْمَشِيئَةَ إِلَيْهِ وَمَا رَدَّهَا إِلَى الْعِبَادِ. فَأُولَئِكَ كَأَنَّهُمْ قَالُوا مَنْ يُرِدِ الْعَبْدُ أَنْ يَشْرَحَ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ يَشْرَحُ اللَّهُ صَدْرَهُ، ثُمَّ قَوْلُهُ: ﴿وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ﴾ فَلا يُمْكِنُ أَنْ يَرْجِعَ الضَّمِيرُ فِي يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ إِلَى الْعَبْدِ لِأَنَّ هَذَا يَجْعَلُ الْقُرْءَانَ رَكِيكًا ضَعِيفَ الْعِبَارَةِ وَالْقُرْءَانُ أَعْلَى الْبَلاغَةِ لا يُوجَدُ فَوْقَهُ بَلاغَةٌ، فَبَانَ بِذَلِكَ جَهْلُهُمُ الْعَمِيقُ وَغَبَاوَتُهُمُ الشَّدِيدَةُ. وَعَلَى مُوجَبِ كَلامِهِمْ يَكُونُ مَعْنَى الآيَةِ ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ﴾ أَنَّ الْعَبْدَ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَهْدِيَهُ اللَّهُ يَشْرَحُ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْهُدَى وَهَذَا عَكْسُ اللَّفْظِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللّهُ وَهَكَذَا كَانَ اللَّازِمُ عَلَى مُوجَبِ اعْتِقَادِهِمْ أَنْ يَقُولَ اللَّهُ وَالْعَبْدُ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُضِلَّهُ اللَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا، وَهَذَا تَحْرِيفٌ لِلْقُرْءَانِ لإِخْرَاجِهِ عَنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْءَانُ وَفَهِمَ الصَّحَابَةُ الْقُرْءَانَ عَلَى مُوجَبِهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمْ يَفْهَمُونَ الْقُرْءَانَ عَلَى خِلافِ مَا تَفْهَمُهُ هَذِهِ الْفِرْقَةُ اتِّفَاقُ الْمُسْلِمِينَ سَلَفِهِم وَخَلَفِهِمْ عَلَى قَوْلِهِمْ: مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.

الشَّرْحُ الْهِدَايَةُ بِمَعْنَى خَلْقِ الِاهْتِدَاءِ خَاصَّةٌ بِاللَّهِ تَعَالَى، فَالَّذِي يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يُحَبِّبُ الإِسْلامَ إِلَيْهِ، وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا فَلا يُحَبِّبُ الإِسْلامَ إِلَيْهِ.

وَالإِضْلالُ مَعْنَاهُ خَلْقُ الضَّلالِ فِي قُلُوبِ الْكَافِرِينَ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَخْلُقُ الِاهْتِدَاءَ فِي قُلُوبِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَضْلًا مِنْهُ وَكَرَمًا، وَيَخْلُقُ الضَّلالَةَ فِي قُلُوبِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ عَدْلًا مِنْهُ لا ظُلْمًا. وَهَذِهِ الآيَةُ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ عَقِيدَةِ الْمُعْتَزِلَةِ حَيْثُ قَالُوا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَفْعَلَ مَا هُوَ الأَصْلَحُ لِلْعِبَادِ فَعَلَى قَوْلِهِمْ اللَّهُ لَيْسَ حَكِيمًا حَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ كُلَّهُمْ مُؤْمِنِينَ.

قَالَ تَعَالَى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ لَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان/176] وَهَذِهِ الآيَةُ مِنْ أَوْضَحِ الآيَاتِ فِي أَنَّ كَلامَ هَذِهِ الْفِرْقَةِ تَحْرِيفٌ لِدِينِ اللَّهِ لِأَنَّهُ قَالَ: ﴿لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ﴾ مَعْنَاهُ اللَّهُ مَا شَاءَ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ، وَهُمْ يَقُولُونَ هُوَ شَاءَ وَلَكِنْ هُمُ امْتَنَعُوا، فَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا شَاءَ لَهُمُ الإِيـمَانَ، وَمَشِيئَةُ الْعَبْدِ تَابِعَةٌ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [سُورَةَ الإِنْسَان/30] مَعْنَاهُ أَنْتُمْ لا تَكُونُ مِنْكُمْ مَشِيئَةٌ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ يَخْلُقُ فِينَا هَذِهِ الْمَشِيئَةَ. ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ أَنَّ مَا شَاءَ أَنْ يَتَنَفَّذَ مِنْ مَشِيئَاتِهِمُ الَّتِي خَلَقَهَا فِيهِمْ تَنْفُذُ وَمَا لَمْ يَشَأْ نُفُوذَهَا لا تَنْفُذُ كَمَا دَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي حَقِّ أَبِي طَالِبٍ: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [سُورَةَ الْقَصَص/56] مَعْنَاهُ أَنَّ الرَّسُولَ كَانَ يَشَاءُ أَنْ يَهْتَدِيَ أَبُو طَالِبٍ لَكِنَّ اللَّهَ مَا شَاءَ، فَلَمْ تَنْفُذْ مَشِيئَةُ الرَّسُولِ.

وَمِنَ الأَدِلَّةِ الْوَاضِحَةِ فِي أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي شَاءَ الضَّلالَةَ لِمَنْ ضَلَّ مِنْ عِبَادِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ﴾ [سُورَةَ الْمَائِدَة/41] فَاللَّهُ يُخَاطِبُ رَسُولَهُ بِأَنَّهُ شَاءَ أَنْ يُضِلَّ أُولَئِكَ فَضَلُّوا وَكَرِهُوا الإِيـمَانَ وَأَنْتَ لا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَخْلُقَ فِيهِمُ الِاهْتِدَاءَ لِأَنَّ اللَّهَ مَا شَاءَ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ مِنَ الْكُفْرِ، فَمِنْ هُنَا نَعْلَمُ أَنَّ الأَنْبِيَاءَ وَظِيفَتُهُمُ الَّتِي هِيَ فَرْضٌ عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤَدُّوهَا الْبَيَانُ وَالدِّلالَةُ وَالإِرْشَادُ وَالأَمْرُ وَالنَّهْيُ، لَيْسَ لَهُمْ قُدْرَةٌ عَلَى خَلْقِ الْهُدَى فِي قُلُوبِهِمْ، لا أَحَدَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُقَ الْهُدَى فِي قَلْبِ عَبْدٍ لا مَلَكٌ وَلا نَبِيٌّ. وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ﴾ أَيْ ضَلالَتَهُ ﴿فَلَنْ تَمْلِكَ﴾ أَيْ يَا مُحَمَّدُ ﴿لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾، كَمْ مِنْ أَقَارِبَ لِلرَّسُولِ مَا اسْتَطَاعَ الرَّسُولُ أَنْ يَهْدِيَ قُلُوبَهُمْ فَيُؤْمِنُوا وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/272] أَيْ لَسْتَ مُكَلَّفًا بِأَنْ تَجْعَلَهُمْ مُؤْمِنِينَ مُعْتَقِدِينَ قَلْبًا إِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَيَانُ.

وَهَذِهِ الآيَةُ مُوَافِقَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/256] وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا لَيْسَ لَكَ أَنْ تُكْرِهَ أَهْلَ الذِّمَّةِ مَا دَامُوا يَدْفَعُونَ الْجِزْيَةَ وَيَخْضَعُونَ لِسُلْطَةِ الإِسْلامِ لَيْسَ لَكَ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ تَرْفَعَ عَلَيْهِمُ السِّلاحَ حَتَّى يُسْلِمُوا.

وَالتَّفْسِيرُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا قَبْلَ نُزُولِ ءَايَةِ الْقِتَالِ أَيْ لَيْسَ لَكَ أَنْ تُكْرِهَهُمْ عَلَى الإِسْلامِ الآنَ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ءَايَةَ الْقِتَالِ: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [سُورَةَ التَّوْبَة/29] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾.

تَقْدِيرُ اللَّهِ لا يَتَغَيَّرُ



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: اعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيرَ اللَّهِ تَعَالَى الأَزَلِيَّ لا يُغَيِّرُهُ شَىْءٌ لا دَعْوَةُ دَاعٍ وَلا صَدَقَةُ مُتَصَدِّقٍ وَلا صَلاةُ مُصَلٍّ وَلا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْحَسَنَاتِ بَلْ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْخَلْقُ عَلَى مَا قَدَّرَ لَهُمْ فِي الأَزَلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَغَيَّرَ ذَلِكَ.

الشَّرْحُ اللَّهُ تَعَالَى إِذَا قَدَّرَ أَنَّ وَاحِدًا مِنْ عِبَادِهِ يُصِيبُهُ كَذَا لا بُدَّ أَنْ يُصِيبَهُ ذَلِكَ الشَّىْءُ وَلَوْ تَصَدَّقَ ذَلِكَ الإِنْسَانُ صَدَقَةً أَوْ دَعَا أَوْ وَصَلَ رَحِمَهُ أَوْ عَمِلَ إِحْسَانًا لِأَقَارِبِهِ لِأُمِّهِ وَأُخْتِهِ وَعَمَّتِهِ وَخَالَتِهِ وَأَبِيهِ وَجَدِّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِهِ لَوْ عَمِلَ لَهُمْ إِحْسَانًا لا بُدَّ أَنْ يَتَنَفَّذَ مَا قَدَّرَ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَ هَذَا الإِنْسَانَ، وَلا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَقِدَ الإِنْسَانُ أَنَّهُ إِنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ أَوْ وَصَلَ رَحِمَهُ أَوْ دَعَا دُعَاءً يَنْجُو مِمَّا قَدَّرَ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُ كَمَا يَزْعُمُ بَعْضُ النَّاسِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ أَنَّهُمْ إِنْ دَعَوِا اللَّهَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ يَذْهَبُ عَنْهُمْ شَىْءٌ قَدَّرَ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ، وَهَذَا بِخِلافِ الَّذِي يَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ قَدَرًا مُعَلَّقًا بِأَنَّ فُلانًا إِنْ فَعَلَ كَذَا يُصِيبُ كَذَا مِنْ مَطَالِبِهِ أَوْ يُدْفَعُ عَنْهُ شَىْءٌ مِنَ الْبَلاءِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ كَذَا لا يَنَالُ مَا طَلَبَهُ فَهَذَا جَائِزٌ لِأَنَّ الْمَلائِكَةَ يَكْتُبُونَ فِي صُحُفِهِمْ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيقِ عَلَى حَسَبِ مَا يَتَلَقَّوْنَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى فَهَذَا لا يُنَافِي الإِيـمَانَ بِالْقَدَرِ. أَمَّا إِنْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الأَزَلِ أَنْ يُصِيبَنِي هَذَا الشَّىْءُ إِنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا أَوْ كَذَا مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ أَوِ التَّصَدُّقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَكِنْ عَلِمَ أَنَّهُ إِنْ دَعَوْتُ أَوْ تَصَدَّقْتُ بِصَدَقَةٍ أَوْ أَحْسَنْتُ إِلَى أَهْلِي وَإِلَى رَحِمِي يُنْجِينِي مِنْ ذَلِكَ أَسْلَمُ بِالدُّعَاءِ أَوْ بِالصَّدَقَةِ أَوْ بِصِلَةِ الرَّحِمِ، هَذَا لا ضَرَرَ فِيهِ.

وَأَمَّا الَّذِي يَدْعُو فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ بِنِيَّةِ أَنْ يَسْلَمَ مِمَّا قَدَّرَ اللَّهُ وَعَلِمَ أَنَّهُ يُصِيبُهُ لا مَحَالَةَ هَذَا كَافِرٌ لِأَنَّهُ جَعَلَ اللَّهَ مُتَغَيِّرَ الْمَشِيئَةِ وَالْعِلْمِ، وَتَغَيُّرُ الْعِلْمِ وَالْمَشِيئَةِ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ [سورة الرَّحْمٰنِ/29] فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ يُغَيِّرُ مَشِيئَتَهُ بِاخْتِلافِ الأَزْمَانِ وَالأَحْوَالِ بَلْ مَعْنَاهُ يَخْلُقُ خَلْقًا جَدِيدًا، كُلَّ يَوْمٍ يُغَيِّرُ فِي خَلْقِهِ وَلا يَتَغَيَّرُ فِي عِلْمِهِ وَمَشِيئَتِهِ.

وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ: «لا يَرُدُّ الْقَضَاءَ شَىْءٌ إِلَّا الدُّعَاءُ» فَالْمُرَادُ بِهِ الْقَضَاءُ الْمُعَلَّقُ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ مِنْهُ مَا هُوَ مُعَلَّقٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ مُبْرَمٌ لا يَتَغَيَّرُ وَقَدْ سَبَقَ شَرْحُ هَذَا، فَالْمُعَلَّقُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُعَلَّقٌ فِي صُحُفِ الْمَلائِكَةِ الَّتِي نَقَلُوهَا مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، مَثَلًا يَكُونُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فُلانٌ إِنْ وَصَلَ رَحِمَهُ أَوْ بَرَّ وَالِدَيْهِ أَوْ دَعَا بِكَذَا يَعِيشُ إِلَى الْمِائَةِ أَوْ يُعْطَى كَذَا مِنَ الرِّزْقِ وَالصِّحَّةِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَعِيشُ إِلَى السِّتِّينَ وَلا يُعْطَى كَذَا مِنَ الرِّزْقِ وَالصِّحَّةِ، هَذَا مَعْنَى الْقَضَاءِ الْمُعَلَّقِ أَوِ الْقَدَرِ الْمُعَلَّقِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ تَقْدِيرَ اللَّهِ الأَزَلِيَّ الَّذِي هُوَ صِفَتُهُ مُعَلَّقٌ عَلَى فِعْلِ هَذَا الشَّخْصِ أَوْ دُعَائِهِ، فَاللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ كُلَّ شَىْءٍ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْءٌ، هُوَ يَعْلَمُ بِعِلْمِهِ الأَزَلِيِّ أَيَّ الأَمْرَيْنِ سَيَخْتَارُ هَذَا الشَّخْصُ وَمَا الَّذِي سَيُصِيبُهُ، وَاللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ كُتِبَ فِيهِ ذَلِكَ أَيْضًا. وَعَلَى مِثْلِ ذَلِكَ يُحْمَلُ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «لا يَنْفَعُ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَمْحُو بِالدُّعَاءِ مَا شَاءَ مِنَ الْقَدَرِ»، فَقَوْلُهُ: «لا يَنْفَعُ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ» مَعْنَاهُ فِيمَا كَتَبَ مِنَ الْقَضَاءِ الْمَحْتُومِ، وَقَوْلُهُ: «وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمْحُو بِالدُّعَاءِ مَا شَاءَ مِنَ الْقَدَرِ» مَعْنَاهُ الْمَقْدُورُ.

وَمِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ أَهْلُ الْحَقِّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَشِيئَتَهُ لِدُعَاءِ دَاعٍ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْحَافِظُ عَبْدُ الرَّحْمٰنِ بنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَرْبَعًا فَأَعْطَانِي ثَلاثًا وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً...» الْحَدِيثَ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: «سَأَلْتُ رَبِّي ثَلاثًا فَأَعْطَانِي ثِنْتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً»، وَفِي رِوَايَةٍ: «وَإِنَّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لا يُرَدُّ»، فَلَوْ كَانَ اللَّهُ يُغَيِّرُ مَشِيئَتَهُ بِدَعْوَةٍ لَغَيَّرَهَا لِحَبِيبِهِ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لا تَتَغَيَّرُ صِفَاتُهُ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [سُورَةَ الرَّعْد/39] فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَحْوَ وَالإِثْبَاتَ فِي تَقْدِيرِ اللَّهِ، بَلِ الْمَعْنَى فِي هَذَا أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ كَتَبَ مَا يُصِيبُ الْعَبْدَ مِنْ عِبَادِهِ مِنَ الْبَلاءِ وَالْحِرْمَانِ وَالْمَوْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَأَنَّهُ إِنْ دَعَا اللَّهَ تَعَالَى أَوْ أَطَاعَهُ فِي صِلَةِ الرَّحِمِ وَغَيْرِهَا لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ الْبَلاءُ وَرَزَقَهُ كَثِيرًا أَوْ عَمَّرَهُ طَوِيلًا، وَكَتَبَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنَ الأَمْرَيْنِ، فَالْمَحْوُ وَالإِثْبَاتُ رَاجِعٌ إِلَى أَحَدِ الْكِتَابَيْنِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ قَالَ: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنْ أَحَدِ الْكِتَابَيْنِ، هُمَا كِتَابَانِ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ اهـ.

الشَّرْحُ عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَسَّرَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ﴾ بِالْقَضَاءِ الْمُعَلَّقِ، أَمَّا الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ فَسَّرَهُ بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ أَيْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَمْحُو مَا يَشَاءُ مِنَ الْقُرْءَانِ أَيْ يَرْفَعُ حُكْمَهُ وَيَنْسَخُهُ بِحُكْمٍ لاحِقٍ، وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ مِنَ الْقُرْءَانِ فَلا يَنْسَخُهُ، وَمَا يُبَدَّلُ وَمَا يُثْبَتُ كُلُّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ، وَهَذَا فِي حَياةِ الرَّسُولِ أَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ فَلا نَسْخَ، يَقُولُ الْبَيْهَقِيُّ: «هَذَا أَصَحُّ مَا قِيلَ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الآيَةِ».

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ أَيْ جُمْلَةُ الْكِتَابِ مَعْنَاهُ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ يَشْتَمِلُ عَلَى الْمَمْحُوِّ وَالْمُثْبَتِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مِمَّا يَسْتَنْسِخُهُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَكْتُبُهُ الْمَلَكُ فِي أَمْرٍ خَاصٍّ هَذَا فِيهِ ذِكْرُ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، أَيْ أَنَّهُمْ كَتَبُوا فِي صُحُفِهِمْ مَثَلًا فُلانٌ إِنْ وَصَلَ رَحِمَهُ يَعِيشُ إِلَى الْمِائَةِ وَإِنْ لَمْ يَصِلْ رَحِمَهُ يَعِيشُ إِلَى السِّتِّينَ، أَمَّا أَيُّ الأَمْرَيْنِ سَيَقَعُ أَخِيرًا هُمْ لا يَعْرِفُونَ فِي الِابْتِدَاءِ، لَيْسَ مَوْكُولًا إِلَى الْمَلائِكَةِ عِلْمُ الْمُسْتَقْبَلِ، إِنَّمَا هُمْ يَكْتُبُونَ مَا أُمِرُوا بِهِ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ لَمْ يُطْلِعْهُ اللَّهُ مِنْهُمْ عَلَى الأَمْرَيْنِ.

وَأَمَّا قَوْلُ الْبَيْهَقِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «هُمَا كِتَابَانِ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيُثْبِتُ» فَأَحَدُ الْكِتَابَيْنِ هُوَ الَّذِي كُتِبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَالآخَرُ هُوَ الَّذِي فِي أَيْدِي الْمَلائِكَةِ الَّذِينَ أُمِرُوا بِالِاسْتِنْسَاخِ مِنَ اللَّوْحِ. أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْقُرْءَانَ مُفَرَّقًا عَلَى الرَّسُولِ ثُمَّ كَانَ مِنَ الآيَاتِ مَا يُرْفَعُ بَعْدَ نُزُولِهِ فَيَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ قُرْءَانًا وَمِنْهُ مَا يَبْقَى تِلاوَةً لَكِنَّ حُكْمَهُ يُرْفَعُ هَذَا يُقَالُ لَهُ الْمَنْسُوخُ. هَذَا مَعْنَى الآيَةِ، أَيْ يَمْحُو بَعْضَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْءَانِ عَنْ حُكْمِ الْقُرْءَانِ وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الأَكْثَرُ لِأَنَّ الْمَنْسُوخَ قَلِيلٌ جِدًّا. وَمِمَّا نُزِّلَ قُرْءَانًا ثُمَّ رُفِعَتْ تِلاوَتُهُ مَا رَوَاهُ أَنَسٌ قَالَ: «إِنَّا كُنَّا نَقْرَأُ قُرْءَانًا يَا رَبَّنَا أَبْلِغْ قَوْمَنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا» ثُمَّ رُفِعَ ذَلِكَ.

وَالنَّسْخُ لا يَخْلُو مِنْ حِكْمَةٍ، بَلْ هُوَ مِمَّا تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ، لِأَنَّ الآيَةَ تَنْزِلُ فَيُعْمَلُ بِمُقْتَضَاهَا بُرْهَةً ثُمَّ يُرْفَعُ حُكْمُهَا وَتَأْتِي أُخْرَى بَدَلَهَا كَانَتِ الْحِكْمَةُ قَبْلَ رَفْعِ الْعَمَلِ بِهَا الْعَمَلَ بِهَا، ثُمَّ كَانَتْ مَصْلَحَةُ الْعِبَادِ فِي رَفْعِ ذَلِكَ الْحُكْمِ، لِأَنَّ الأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِيَ الإِلَهِيَّةَ مِنْهَا مَا هِيَ مُؤَبَّدَةٌ وَمِنْهَا مَا هِيَ مُؤَقَّتَةٌ، فَالظُّلْمُ مَثَلًا حُرِّمَ فِي كُلِّ الشَّرَائِعِ، وَكَذَلِكَ أَشْيَاءُ أُخْرَى كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ [سُورَةَ الرَّحْمٰنِ/29] فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ يُغَيِّرُ مَشِيئَتَهُ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَغْفِرُ ذَنْبًا وَيُفَرِّجُ كَرْبًا وَيَرْفَعُ قَوْمًا وَيَضَعُ ءَاخَرِينَ» رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَيُوَافِقُ هَذَا قَوْلَ النَّاسِ: سُبْحَانَ الَّذِي يُغَيِّرُ وَلا يَتَغَيَّرُ، وَهُوَ كَلامٌ جَمِيلٌ، إِذِ التَّغَيُّرُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ وَلَيْسَ فِي اللَّهِ وَصِفَاتِهِ، وَذَلِكَ كَمَا مَرَّ أَنَّ فِعْلَ اللَّهِ صِفَتُهُ فِي الأَزَلِ وَالْمَفْعُولَ مَخْلُوقٌ هَذَا عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ وَالْبُخَارِيِّ وَبَعْضِ قُدَمَاءِ الأَشَاعِرَةِ وَعَلَى ذَلِكَ الطَّحَاوِيُّ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بنُ سَلامَةَ الْمِصْرِيُّ وَهُوَ مَعْدُودٌ مِنَ السَّلَفِ لِأَنَّهُ وُلِدَ سَنَةَ مِائَتَيْنِ وَسَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَتُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلاثِمِائَةٍ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ قَبْلَ الأَشْعَرِيِّ وَقَبْلَ الْمَاتُرِيدِيِّ بَلْ عَلَى كَلامِ أَبِي جَعْفَرٍ هَذَا جُمْهُورُ مَذْهَبِ السَّلَفِ لِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ عَقِيدَتِهِ: «هَذَا ذِكْرُ بَيَانِ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ»، وَرَجَّحَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلانِيُّ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا الْمَاتُرِيدِيَّةُ. وَأَمَّا جُمْهُورُ الأَشَاعِرَةِ فَالْفِعْلُ عِنْدَهُمْ حَادِثٌ غَيْرُ قَائِمٍ بِذَاتِ اللَّهِ إِنَّمَا هُوَ مُتَعَلَّقُ الْقُدْرَةِ الأَزَلِيَّةِ، وَمَذْهَبُ الْمَاتُرِيدِيَّةِ أَلَّفَ فِيهِ كَثِيرٌ مِثْلُ الْقَاضِي بَدْر خَوَاهَرْزَادَه أَلَّفَ قَصِيدَةً جَامِعَةً، وَكِلا الْمَذْهَبَيْنِ لَيْسَ فِيهِ وَصْفُ اللَّهِ بِصِفَةٍ حَادِثَةٍ، وَلا يُؤَدِّي اخْتِلافُهُمْ إِلَى تَبْدِيعٍ وَتَفْسِيقٍ وَتَضْلِيلٍ لِأَنَّ هَذَا فِي فُرُوعِ الْعَقِيدَةِ لَيْسَ فِي أُصُولِهَا، وَهَذَا كَالْخِلافِ الَّذِي حَصَلَ فِيمَا بَيْنَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِي رُؤْيَةِ النَّبِيِّ رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ فَعَائِشَةُ وَابْنُ مَسْعُودٍ نَفَيَا وَأَثْبَتَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسُ بنُ مَالِكٍ، وَتَبِعَ كُلًّا مِنَ الْمَذْهَبَيْنِ كَثِيرٌ مِنَ التَّابِعِينَ، فَكَمَا أَنَّ هَذَا لا يُؤَدِّي إِلَى تَبْدِيعِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَتَفْسِيقِهِ كَذَلِكَ هَذَا الَّذِي جَرَى بَيْنَ الْمَاتُرِيدِيَّةِ وَالأَشَاعِرَةِ لا يُؤَدِّي إِلَى ذَلِكَ. فَعِنْدَ الأَشَاعِرَةِ صِفَاتُ الْمَعَانِي الْقَائِمَةُ بِذَاتِ اللَّهِ الأَزَلِيَّةُ ثَمَانِيَةٌ: الْحَيَاةُ وَالْقُدْرَةُ وَالإِرَادَةُ وَالْعِلْمُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلامُ وَالْبَقَاءُ وَذَلِكَ كَمَا قَالَ الشَّاطِبِيُّ:

حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ وَالْكَلامُ لَهُ بَاقٍ سَمِيعٌ بَصِيرٌ مَا أَرَادَ جَرَى

أَمَّا مُتَأَخِّرُو الأَشَاعِرَةِ أَكْثَرُهُمْ يَقُولُونَ: صِفَاتُ الْمَعَانِي سَبْعَةٌ: الْبَقَاءُ اعْتَبَرُوهُ لَيْسَ مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِي، لَكِنَّ الإِمَامَ أَبَا الْحَسَنِ الأَشْعَرِيَّ عَدَّهُ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِي ذَاتِيَّةً قَائِمَةً بِذَاتِ اللَّهِ وَمَعَهُ جُمْهُورُ الأَشَاعِرَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ.

وَأَمَّا الْمُشَبِّهَةُ فَعِنْدَهُمْ لَيْسَ لِلَّهِ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ غَيْرُ حَادِثَةٍ إِلَّا الْوُجُودُ، وَقَدْ أَشْرَكَ فِيهِ ابْنُ تَيْمِيَةَ مَعَ اللَّهِ جِنْسَ الْعَالَمِ وَنَوْعَهُ فَإِنَّهُ جَعَلَ جِنْسَ الْعَالَمِ أَزَلِيًّا لَمْ يَزَلْ مَعَ اللَّهِ وَهَذَا شَىْءٌ انْفَرَدَ فِيهِ ابْنُ تَيْمِيَةَ مِنْ بَيْنِ الْمُشَبِّهَةِ أَسْلافِهِ، وَالْعَجَبُ مِنْهُ كَيْفَ يَصِحُّ عِنْدَهُ الأَزَلِيَّةُ وَالتَّجَدُّدُ فَإِنَّهُ يَقُولُ إِرَادَةُ اللَّهِ أَزَلِيَّةُ النَّوْعِ حَادِثَةُ الأَفْرَادِ بِمَعْنَى أَنَّهُ تَحْدُثُ لَهُ إِرَادَةٌ بَعْدَ كُلِّ إِرَادَةٍ، فَكَيْفَ يَصِحُ النَّوْعُ أَزَلِيًّا مَعَ حُدُوثِ الأَفْرَادِ، هَذَا عِنْدَ الْعُقَلاءِ خُرُوجٌ عَنْ دَائِرَةِ الْعَقْلِ، حَتَّى إِنَّ مُحَمَّد عَبْدُه الَّذِي فِيهِ مَا فِيهِ اسْتَهْجَنَ كَلامَ ابْنِ تَيْمِيَةَ فِي رِسَالَتِهِ لَكِنَّهُ أَظْهَرَ تَرَدُّدًا فِي ثُبُوتِ ذَلِكَ عَنْهُ وَلا مَعْنَى لِلتَّرَدُّدِ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَرَّرَ ذَلِكَ فِي عِدَّةٍ مِنْ كُتُبِهِ بِإِسْهَابٍ وَإِطَالَةٍ فِي الْعِبَارَاتِ، وَلَعَلَّ عِبَارَاتِهِ فِي ذَلِكَ لَوْ جُمِعَتْ مِنْ كُتُبِهِ كُلِّهَا لَجَاءَتْ مُجَلَّدًا، وَمِنَ الْعَجَبِ الْعَجِيبِ جَعَلُهُ هَذَا مَذْهَبَ الْمُحَدِّثِينَ وَهَلْ كُلُّ رَأْيٍ يُعْجِبُهُ يَجْعَلُهُ مَذْهَبَ الْمُحَدِّثِينَ زُورًا وَبُهْتَانًا، وَهَلْ خَفِيَ عَلَيْهِ أَنَّ جُمْهُورَ الْمُحَدِّثِينَ الْحُفَّاظَ هُمْ أَشَاعِرَةٌ وَأَنَّ الدَّارَقُطْنِيَّ مُثْنٍ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ، وَمِنْ أَشْهَرِهِمْ وَإِمَامِهِمُ الْبَيْهَقِيُّ، وَمِنْهُمُ الْحَافِظُ أَبُو الْمَكَارِمِ، وَمِنْهُمُ الْحَافِظُ تَقِيُّ الدِّينِ بنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَمِنْهُمُ الْحَافِظُ زَيْنُ الدِّينِ الْعِرَاقِيُّ شَيْخُ الْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ، وَمِنْهُمْ شَيْخُ مَشَايِخِ الْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ أَبُو سَعِيدٍ الْعَلائِيُّ، وَمِنْهُمُ الْحَافِظُ سِرَاجُ الدِّينِ بنُ الْمُلَقِّنِ، وَمِنْهُمْ خَاتِمَةُ الْحُفَّاظِ مُحَمَّدُ مُرْتَضَى الزَّبِيِدِيُّ، وَهَؤُلاءِ الْمَذْكُورُونَ مَشَاهِيرُ حُفَّاظِ الأَشَاعِرَةِ وَهُنَاكَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ لَمْ يَبْلُغُوا فِي الشُّهْرَةِ مِثْلَ هَؤُلاءِ وَأَمَّا مُحَدِّثُوهُمْ فَلا يُحْصَوْنَ، أَمَّا الْمُشَبِّهَةُ كَابْنِ تَيْمِيَةَ فَمِنْهُمْ مَنْ سَبَقَهُ كَأَبِي إِسْمَاعِيلَ الْمُجَسِّمِ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاصَرَهُ كَتِلْمِيذِهِ ابْنِ عَبْدِ الْهَادِي، فَكَيْفَ تَصِحُّ دَعْوَى ابْنِ تَيْمِيَةَ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ الْمُحَدِّثِينَ وَلَيْسَ هَذَا إِلَّا مَذْهَبَ الْمُحْدَثِينَ مِنَ الْفَلاسِفَةِ فَإِنَّ الْفَلاسِفَةَ قَالَ مُتَقَدِّمُوهُمُ الْعَالَمُ أَزَلِيٌّ بِجِنْسِهِ وَأَفْرَادِهِ، وَقَالَ الْمُحْدَثُونَ الْعَالَمُ قَدِيمٌ بِجِنْسِهِ وَأَمَّا أَفْرَادُهُ حَادِثَةٌ، فَابْنُ تَيْمِيَةَ لِتَرْوِيجِ رَأْيِهِ الْفَاسِدِ الَّذِي وَافَقَ الْمُحْدَثِينَ مِنَ الْفَلاسِفَةِ افْتَرَى عَلَى الْمُحَدِّثِينَ فَقَالَ هَذَا مَا عَلَيْهِ الْمُحَدِّثُونَ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ. أَمَّا كِتَابُ الرُّؤْيَةِ الْمَنْسُوبُ لِلأَشْعَرِيِّ الَّذِي فِيهِ التَّشْبِيهُ فَقَدْ نَفَى صِحَّتَهُ عَنْهُ بَعْضُ الْحُفَّاظِ وَهُوَ الْحَافِظُ عَلِيُّ بنُ الْمُفَضَّلِ الْمَقْدِسِيُّ.

وَمِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ مِنْ أَمْرِ ابْنِ تَيْمِيَةَ أَنَّهُ يَنْفِي الإِجْمَاعَ وَيَنْسِبُ إِلَى الإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ مَنْ يَدَّعِي الإِجْمَاعَ فَهُوَ كَاذِبٌ ثُمَّ هُوَ فِي مَسَائِلَ أُخْرَى يَنْقُلُ الِاتِّفَاقَ وَالإِجْمَاعَ بَلْ يُصَرِّحُ بِلا اسْتِحْيَاءٍ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ فَضْلًا عَنِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَأَحْمَدُ لَيْسَ كَمَا قَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ الْقَوْلُ بِالإِجْمَاعِ فِي مَسْئَلَةِ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ وَفِي مَسَائِلَ أُخْرَى.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْمَحْوُ يَكُونُ فِي غَيْرِ الشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ.

الشَّرْحُ الْمَحْوُ مِنَ الْكِتَابِ الَّذِي كُتِبَ يَكُونُ فِي غَيْرِ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، لِأَنَّ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ لا يَدْخُلُهُمَا الْمَحْوُ وَالإِثْبَاتُ بِاعْتِبَارِ الْمَئَالِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [سُورَةَ الدُّخَان/4] أَنَّهُ قَالَ: «يُفْرَقُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مَا يَكُونُ فِي السَّنَةِ مِنْ رِزْقٍ أَوْ مُصِيبَةٍ، فَأَمَّا كِتَابُ الشَّقَاءِ وَالسَّعَادَةِ فَإِنَّهُ ثَابِتٌ لا يُغَيَّرُ» اهـ.

الشَّرْحُ مُجَاهِدُ بنُ جَبْرٍ تِلْمِيذُ ابْنِ عَبَّاسٍ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَذَا الْكَلامَ الَّذِي فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قَضَاءَ اللَّهِ الْمُبْرَمَ لا يُغَيَّرُ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ فَمَعْنَاهُ كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَبَّاسٍ تَرْجُمَانُ الْقُرْءَانِ إِنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ الَّتِي هِيَ مِنْ رَمَضَانَ هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يُفْرَقُ فِيهَا كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَيْ كُلُّ أَمْرٍ مُبْرَمٍ، أَيْ أَنَّهُ يَكُونُ تَقْسِيمُ الْقَضَايَا الَّتِي تَحْدُثُ لِلْعَالَمِ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ إِلَى مِثْلِهَا فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ مِمَّا يَحْدُثُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ مِنْ مَوْتٍ وَصِحَّةٍ وَمَرَضٍ وَفَقْرٍ وَغِنًى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَطْرَأُ مِنَ الأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ إِلَى مِثْلِهَا فِي الْعَامِ الْقَابِلِ، وَلَيْسَ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ كَمَا يَظُنُّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ.

وَإِنَّمَا الَّذِي وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «يَطَّلِعُ اللَّهُ إِلَى خَلْقِهِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ» رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. وَالْمُشَاحِنُ مَعْنَاهُ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُسْلِمٍ ءَاخَرَ عَدَاوَةٌ وَحِقْدٌ وَبَغْضَاءُ، أَمَّا مَنْ سِوَى هَذَيْنِ فَكُلُّ الْمُسْلِمِينَ يُغْفَرُ لَهُمْ يُغْفَرُ لِبَعْضٍ جَمِيعُ ذُنُوبِهِمْ وَلِبَعْضٍ بَعْضُ ذُنُوبِهِمْ. أَمَّا الْحَدِيثُ الآخَرُ: «فَيَغْفِرُ لِأَكْثَرَ مِنْ عَدَدِ شَعْرِ غَنَمِ كَلْبٍ» فَغَيْرُ صَحِيحٍ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَهُ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَلِذَلِكَ لا يَصِحُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّعَاءُ الَّذِي فِيهِ: «إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي فِي أُمِّ الْكِتَابِ عِنْدَكَ شَقِيًّا فَامْحُ عَنِّي اسْمَ الشَّقَاءِ وَأَثْبِتْنِي عِنْدَكَ سَعِيدًا، وَإِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي فِي أُمِّ الْكِتَابِ مَحْرُومًا مُقَتَّرًا عَلَيَّ رِزْقِي فَامْحُ عَنِّي حِرْمَانِي وَتَقْتِيرَ رِزْقِي وَأَثْبِتْنِي عِنْدَكَ سَعِيدًا مُوَفَّقًا لِلْخَيْرِ، فَإِنَّكَ تَقُولُ فِي كِتَابِكَ: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [سُورَةَ الرَّعْد/39] وَلا مَا أَشْبَهَهُ.

الشَّرْحُ إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَلا الْتِفَاتَ إِلَى نِسْبَةِ هَذَا الذِّكْرِ الَّذِي يَعْمَلُ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ الَّذِي أَوَّلُهُ: «يَا مَنْ يَمِنُّ وَلا يُمَنُّ عَلَيْهِ»، وَفِيهِ: «اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي فِي أُمِّ الْكِتَابِ شَقِيًّا أَوْ مَحْرُومًا أَوْ مُقَتَّرًا عَلَيَّ رِزْقِي فَامْحُ اللَّهُمَّ شَقَاوَتِي وَالإِقْتَارَ عَلَيَّ فِي رِزْقِي» إِلَى عُمَرَ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمَا مِنَ السَّلَفِ، فَلا يَثْبُتُ شَىْءٌ مِنْ ذَلِكَ كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ مُجَاهِدًا قَالَ: «ذَلِكَ فِي السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ» ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ فِي الْعَامِ الَّذِي يَلِيهِ. وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ الذِّكْرُ شُذُوذًا ءَاخَرَ وَهُوَ أَنَّ اللَّيْلَةَ الَّتِي يُفْرَقُ فِيهَا كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ وَيُبْرَمُ هِيَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، لَكِنْ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي عِدَّةٍ مِنَ الْبِلادِ وَيُوَافِقُهُمْ عَلَى ذَلِكَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ مَعَ إِضَافَةِ قِرَاءَةِ سُورَةِ يس وَغَيْرِهَا إِلَى ذَلِكَ فَيَنْبَغِي تَحْذِيرُهُمْ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا لَمَّا يَقْرُؤُهُ الْجَاهِلُ الَّذِي لَمْ يَتَعَلَّمِ الْعَقِيدَةَ يَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ يُغَيِّرُ مَشِيئَتَهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ لِمَنْ حَضَرَ هَذَا الِاجْتِمَاعَ، وَاعْتِقَادُ تَغَيُّرِ مَشِيئَةِ اللَّهِ كُفْرٌ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ نِسْبَةَ الْحُدُوثِ إِلَى اللَّهِ وَالْحُدُوثُ يُنَافِي الأُلُوهِيَّةَ إِلَّا عِنْدَ مَنْ لا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْقِدَمِ وَالْحُدُوثِ كَابْنِ تَيْمِيَةَ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿هُوَ الأَوَّلُ﴾ [سُورَةَ الْحَدِيد/3] وَهَذَا مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ حُدُوثِ كُلِّ الْعَالَمِ بِنَوْعِهِ وَأَفْرَادِهِ، وَعُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ لا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ نَوْعِ الْعَالَمِ وَأَفْرَادِهِ فِي أَنَّ كُلًّا خَلْقٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

وَأَمَّا إِنْ كَانَ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ هَذَا الدُّعَاءَ الْمَذْكُورَ يَفْهَمُونَ مِنْهُ إِنْ كَانَ شَاءَ اللَّهُ فِي الأَزَلِ أَنْ يُنَجِّيَنَا مِنَ الْمَصَائِبِ وَيُوَسِّعَ عَلَيْنَا فِي رِزْقِنَا بِدُعَائِنَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، يَحْصُلُ لَنَا عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ وَمَشِيئَتِهِ الأَزَلِيَيْنِ، لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ عَلَى الْعَقِيدَةِ، لَكِنَّ هَذَا اللَّفْظَ الَّذِي يَقْرَءُونَهُ غَلَطٌ، أَمَّا الَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ يُغَيِّرُ لَهُمْ مَشِيئَتَهُ إِذَا دَعَوْا بِهَذَا الدُّعَاءِ بِخِلافِ مَشِيئَتِهِ وَعِلْمِهِ السَّابِقَيْنِ فَهَذَا يَكْفُرُ، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلاءِ مَا تَعَلَّمُوا أَنَّ اللَّهَ لا تَحْدُثُ لَهُ مَشِيئَةٌ جَدِيدَةٌ وَلا عِلْمٌ جَدِيدٌ وَلا قُدْرَةٌ جَدِيدَةٌ، عِلْمُهُ أَزَلِيٌّ أَبَدِيٌّ مُحِيطٌ، وَمَشِيئَتُهُ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ اللَّهَ تَحْدُثُ فِيهِ مَشِيئَةٌ جَدِيدَةٌ فَيُغَيِّرُ وَيُبَدِّلُ وَمَنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ فَسَدَتْ عَقِيدَتُهُ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَمْ يَصِحَّ هَذَا الدُّعَاءُ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ وَلا عَنْ مُجَاهِدٍ وَلا عَنْ غَيْرِهِمَا مِنَ السَّلَفِ كَمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ «الْقَدَرِ» لِلْبَيْهَقِيِّ.

الشَّرْحُ أَلَّفَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ كِتَابًا سَمَّاهُ «كِتَابَ الْقَدَرِ» وَسَّعَ فِيهِ الْكَلامَ فِي هَذَا الأَمْرِ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لا عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ وَلا عَنْ مُجَاهِدٍ وَلا غَيْرِهِمَا ذَاكَ اللَّفْظُ الْمَرْوِيُّ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، لَكِنْ بَعْضُهُ يُرْوَى عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ وَلَمْ يَثْبُتْ وَبَعْضُهُ يُرْوَى عَنْ مُجَاهِدٍ وَلَمْ يَثْبُتْ.

[قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ وَأَمَّا مَا أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ قَالَ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيلَ السكري حَدَّثَنَا أَبُو قُرَيْشٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ نَصْرُ بنُ خَلَفٍ النَّيْسَابُورِيُّ، حَدَّثَنَا يَعْلَى بنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمٰنِ بنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الْقَاسِمِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمٰنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: مَا دَعَا عَبْدٌ بِهَذِهِ الدَّعَوَاتِ إِلَّا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَعِيشَته: يَا ذَا الْمَنِّ وَلا يُمَنُّ عَلَيْكَ، يَا ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ، يَا ذَا الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، ظهرَ اللَّاجِئِينَ، وَجَارَ الْمُسْتَجِيرِينَ، وَمَأْمَن الْخَائِفِينَ، إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي فِي أُمِّ الْكِتَابِ عِنْدَكَ شَقِيًّا فَامْحُ عَنِّي اسْمَ الشَّقَاءِ وَأَثْبِتْنِي عِنْدَكَ سَعِيدًا، وَإِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي فِي أُمِّ الْكِتَابِ مَحْرُومًا مُقَتَّرًا عَلَيَّ رِزْقِي فَامْحُ عَنِّي حِرْمَانِي وَتَقْتِيرَ رِزْقِي وَأَثْبِتْنِي عِنْدَكَ سَعِيدًا مُوَفَّقًا لِلْخَيْرِ، فَإِنَّكَ تَقُولُ فِي كِتَابِكَ: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ انْتَهَى. قَالَ: فَهَذَا مَوْقُوفٌ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَكِيمَةَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بنَ الْخَطَّابِ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي فِي السَّعَادَةِ فَأَثْبِتْنِي فِيهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَتَبْتَ عَلَيَّ الشَّقْوَةَ وَالذَّنْبَ وَالْمَقْتَ فَامْحُنِي وَأَثْبِتْنِي فِي السَّعَادَةِ ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ انْتَهَى. هَكَذَا رَوَاهُ حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي حَكِيمَةَ، وَبِمَعْنَاهُ [فِي الأَصْلِ «وَسَمِعْنَاهُ»] رَوَاهُ هِشَامٌ الدَّسْتَوَائِيُّ، عَنْ أَبِي حَكِيمَةَ مُخْتَصرًا وَقَالَ: «فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ وَعِنْدَكَ أُمُّ الْكِتَابِ». انْتَهَى. وَأَبُو حَكِيمَةَ اسْمُهُ عِصْمَةُ بصري تَفَرَّدَ بِهِ فَإِنْ صَحَّ شَىْءٌ مِنْ هَذَا فَمَعْنَاهُ يَرْجِعُ إِلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَحْوِ الْعَمَلِ وَالْحَالِ. وَتَقْدِيرُ قَوْلِهِ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي أَعْمَلُ عَمَلَ الأَشْقِيَاءِ وَحَالِي حَالُ الْفُقَرَاءِ بُرْهَةً مِنْ دَهْرِي فَامْحُ ذَلِكَ عَنِّي بِإِثْبَاتِ عَمَلِ السُّعَدَاءِ وَحَالِ الأَغْنِيَاءِ، وَاجْعَلْ خَاتِمَةَ أَمْرِي سَعِيدًا مُوَفَّقًا لِلْخَيْرِ فَإِنَّكَ قُلْتَ فِي كِتَابِكَ: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ أَيْ مِنْ عَمَلِ الأَشْقِيَاءِ ﴿وَيُثْبِتُ﴾ أَيْ مِنْ عَمَلِ السُّعَدَاءِ وَيُبَدِّلُ مَا يَشَاءُ مِنْ حَالِ الْفَقْرِ وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ مِنْ حَالِ الْغِنَى.

ثُمَّ الْمَحْوُ وَالإِثْبَاتُ جَمِيعًا مَسْطُورَانِ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرِ بنُ قَتَادَةَ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ النضروي، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بنُ نَجْدَةَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ قَالَ: قُلْتُ لِمُجَاهِدٍ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ اسْمِي فِي السُّعَدَاءِ فَأَثْبَتَهُ فِيهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِي الأَشْقِيَاءِ فَامْحُهُ مِنْهُمْ وَاجْعَلْهُ فِي السُّعَدَاءِ، فَقَالَ: حَسَنٌ. ثُمَّ مَكَثْتُ حَوْلًا فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: ﴿حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [سُورَةَ الدُّخَان]. قَالَ: يُفْرَقُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مَا يَكُونُ فِي السَّنَةِ مِنْ رِزْقٍ أَوْ مُصِيبَةٍ، فَأَمَّا كِتَابُ الشَّقَاءِ وَالسَّعَادَةِ فَإِنَّهُ ثَابِتٌ لا يُغَيَّرُ. انْتَهَى كَلامُ الْبَيْهَقِيِّ، يَعْنِي رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ الأَوَّلِ إِلَى الثَّانِي.

ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بنُ بَشْرَانَ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الزَّاهِدِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يَعْنِي النَّرْسِيَّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْمنهال بنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [سُورَةَ الرَّعْد/39] قَالَ: «يُرِيدُ أَمْرَ السَّمَاءِ، يَعْنِي فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَيَمْحُو مَا يَشَاءُ غَيْرَ الشَّقَاءِ وَالسَّعَادَةِ وَالْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ» انْتَهَى.

وَأَخْبَرَنَا أَبُو زَكَرِيَّا، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الطَّرَائِفِيُّ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بنُ صَالِحٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بنِ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ يَقُولُ: «يُبَدِّلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنَ الْقُرْءَانِ فَيَنْسَخُهُ، ﴿وَيُثْبِتُ﴾ يَقُولُ: يُثْبِتُ مَا يَشَاءُ لا يُبَدِّلُهُ، ﴿أُمُّ الْكِتَابِ﴾ يَقُولُ: جُمْلَةُ ذَلِكَ عِنْدَهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ، وَمَا يُبَدَّلُ وَمَا يُثْبَتُ كُلُّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ»، هَذَا أَصَحُّ مَا قِيلَ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الآيَةِ وَأَجْرَاهُ عَلَى الأُصُولِ، وَعَلَى مِثْلِ ذَلِكَ حَمَلَهَا الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَمِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالزِّيَادَةِ فِي الْعُمُرِ نَفْيُ الآفَاتِ عَنْهُ وَالزِّيَادَةُ فِي عَقْلِهِ وَفَهْمِهِ وَبَصِيرَتِهِ. انْتَهَى كَلامُ الْبَيْهَقِيِّ.

فَانْظُرْ أَيُّهَا الطَّالِبُ الْوُقُوفَ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَتَأَمَّلْ أَنَّ هَذِهِ الأَلْفَاظَ الْمَرْوِيَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ لَيْسَ فِيهَا هَذِهِ الْكَلِمَاتُ الَّتِي اعْتَادَ بَعْضُ النَّاسِ قِرَاءَتَهَا فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ إِنَّمَا الْمَذْكُورُ فِي ذَلِكَ بَعْضُ مَا يَقْرَءُونَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ لَمْ يُصَحِّحْ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَقَدْ أَتَى بِصِيغَةِ التَّرَدُّدِ فِيمَا رَوَى عَنْ عُمَرَ لِلدِّلالَةِ عَلَى عَدَمِ ثُبُوتِهِ، وَتَرْجِيحُهُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ بِالآيَةِ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ مَا سِوَى ذَلِكَ. وَأَنْتَ قَدْ رَأَيْتَ الْبَيْهَقِيَّ لَمْ يُعَرِّجْ عَلَى الْكَلِمَةِ الَّتِي اعْتَادُوهَا وَهِيَ: «اللَّهُمَّ أَسْأَلُكَ بِالتَّجَلِّي الأَعْظَمِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ الْمُكَرَّمِ الَّتِي يُفْرَقُ فِيهَا كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ وَيُبْرَمُ» بِالْمَرَّةِ، بَلِ الصَّحِيحُ أَنَّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ كَمَا يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾ [سُورَةَ الدُّخَان/3] مَعَ قَوْلِهِ: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [سُورَةَ الْقَدْر/1].

فَلا تَكُنْ أَسِيرَ التَّقْلِيدِ فِي غَيْرِ مَعْنًى.]



تَقْسِيمُ الأُمُورِ إِلَى أَرْبَعَةٍ

الأُمُورُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: الأَوَّلُ: شَىْءٌ شَاءَهُ اللَّهُ وَأَمَرَ بِهِ: وَهُوَ إِيـمَانُ الْمُؤْمِنِينَ وَطَاعَةُ الطَّائِعِينَ.

وَالثَّانِي: شَىْءٌ شَاءَهُ اللَّهُ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ: وَهُوَ عِصْيَانُ الْعُصَاةِ وَكُفْرُ الْكَافِرِينَ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكُفْرَ مَعَ أَنَّهُ خَلَقَهُ بِمَشِيئَتِهِ وَلا يَرْضَاهُ لِعِبَادِهِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ﴾ [سُورَةَ الزُّمَر/7].

الثَّالِثُ: أَمْرٌ لَمْ يَشَأْهُ اللَّهُ وَأَمَرَ بِهِ: وَهُوَ الإِيـمَانُ بِالنِّسْبَةِ لِلْكَافِرِينَ الَّذِينَ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ يَمُوتُونَ عَلَى الْكُفْرِ أُمِرُوا بِالإِيـمَانِ وَلَمْ يَشَأْهُ لَهُمْ.

الرَّابِعُ: أَمْرٌ لَمْ يَشَأْهُ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ: وَهُوَ الْكُفْرُ بِالنِّسْبَةِ لِلأَنْبِيَاءِ وَالْمَلائِكَةِ.


الشَّرْحُ إِنَّ مِنْ جُمْلَةِ الأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ شَاءَ حُصُولَ الْمَعَاصِي قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا﴾ [سُورَةَ مَرْيَم/83] أَيْ تُغْرِيهِمْ وَتَدْفَعُهُمْ إِلَى الْمَعَاصِي وَتُشَهِّيهِمْ فِعْلَهَا، هَذَا دَلِيلٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَنَقْضٌ لِعَقِيدَةِ الْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ اللَّهَ مَا أَرَادَ وُقُوعَ الْمَعَاصِي مِنْ خَلْقِهِ إِنَّمَا هُمْ خَلَقُوهَا بِمَشِيئَتِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: «لَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ لا يُعْصَى مَا خَلَقَ إِبْلِيسَ»، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُّورٍ﴾ [سُورَةَ النُّور/40].

وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الأَمْرَ غَيْرُ الْمَشِيئَةِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ بِالْوَحْيِ الْمَنَامِيِّ، - أَنْ يَذْبَحَ ابْنَهُ إِسْمَاعِيلَ - وَمَنَامُ الأَنْبِيَاءِ حَقٌّ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ لَكِنْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَنْذَبِحَ إِسْمَاعِيلُ بَلْ فُدِيَ إِسْمَاعِيلُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ أَيْ بِكَبْشٍ جَاءَ بِهِ جِبْرِيلُ مِنَ الْجَنَّةِ. فَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ فَسَادُ قَوْلِ بَعْضِهِمْ: «كُلُّهُ بِأَمْرِهِ»، لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِمْ هَذَا أَنَّ كُلَّ مَا يَقَعُ مِنَ الْعِبَادِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ فَهُوَ بِأَمْرِ اللَّهِ وَهَذَا تَكْذِيبٌ لِلشَّرْعِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَصِحُّ قَوْلُهُ: «كُلُّ مَا يَجْرِي فَهُوَ يَجْرِي بِمَشِيئَتِهِ وَعِلْمِهِ وَتَقْدِيرِهِ»، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ [سُورَةَ الإِسْرَاء/16] فَقَدْ فَسَّرَ أَهْلُ الْعِلْمِ ﴿أَمَرْنَا﴾ فِي هَذِهِ الآيَةِ بِكَثَّرْنَا، أَيْ نُكَثِّرُهُمْ فَيَصِيرُونَ أَقْوِيَاءَ فَيَفْسُقُونَ وَيَكْفُرُونَ وَيَخْرُجُونَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ فَيُهْلِكُهُمْ، هَذَا فِي الأُمَمِ الْمَاضِيَةِ ظَهَرَ تَأْوِيلُهُ بِقَوْمِ لُوطٍ وَقَوْمِ هُودٍ وَقَوْمِ صَالِحٍ وَغَيْرِهِمْ، كَثُرُوا فَكَثُرَتْ فِيهِمُ النِّعْمَةُ ثُمَّ فَجَرُوا وَضَلُّوا فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، أَمَّا بَعْدَ بِعْثَةِ الرَّسُولِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لا يَنْقَطِعُ الإِسْلامُ فِي أُمَّتِهِ، مَهْمَا حَصَلَ لا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ صَالِحُونَ وَفُسَّاقٌ مَعَ مَا يُقَاسُونَ مِنَ اضْطِهَادٍ مِنَ الْمُنْحَرِفِينَ وَإِيذَاءٍ وَمُعَارَضَاتٍ، اللَّهُ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ يُثَبِّتُ الصَّالِحِينَ عَلَى الْحَقِّ فَلا يُنْزِلُ هَلاكًا عَامًّا كَهَلاكِ أُولَئِكَ الأُمَمِ السَّابِقَةِ بَعْدَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: ﴿أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا﴾ أَيْ بِالطَّاعَةِ ﴿فَفَسَقُواْ﴾ أَيْ فَخَالَفُوا، وَهَذَا التَّفْسِيرُ لا بَأْسَ بِهِ لَكِنَّ التَّفْسِيرَ الأَوَّلَ أَحْسَنُ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِالْقُرْءَانِ الْكَرِيمِ فَلْيَقِفْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [سُورَةَ الأَنْبِيَاء/23] فَلا يُقَالُ كَيْفَ يُعَذِّبُ الْعُصَاةَ عَلَى مَعَاصِيهِمُ الَّتِي شَاءَ وُقُوعَهَا مِنْهُمْ فِي الآخِرَةِ.

الشَّرْحُ اللَّهُ تَعَالَى لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ أَيِ الْعِبَادُ يُسْأَلُونَ، فَلا يَجُوزُ أَنْ نَقِيسَ اللَّهَ عَلَى أَنْفُسِنَا، نَحْنُ نَتَصَرَّفُ بِمَا أَذِنَ بِهِ الشَّرْعُ فَإِذَا خَرَجْنَا عَنْ ذَلِكَ الإِذْنِ تَكُونُ عَلَيْنَا مَسْئُولِيَّةٌ، أَمَّا هُوَ فَلا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ أَمْرٌ، لا يُقَالُ كَيْفَ يُعَذِّبُ اللَّهُ الْعُصَاةَ عَلَى الْمَعَاصِي الَّتِي شَاءَ وُقُوعَهَا مِنْهُمْ بِاخْتِيَارِهِمْ فَمَنْ قَالَ هَذَا يُعَدُّ مُعْتَرِضًا عَلَى اللَّهِ، وَالْمُعْتَرِضُ عَلَى اللَّهِ كَافِرٌ، فَرَبُّنَا لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ. أَمَّا غَيْرُ الْمُؤْمِنِ فَيُقَالُ لَهُ اللَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِهِ الَّذِي هُوَ يَمْلِكُهُ حَقِيقَةً لا مَجَازًا، فَكَيْفَ يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ؟!.

وَأَمَّا إِذَا أَرَادَ وَاحِدٌ أَنْ يَفْهَمَ الْحِكْمَةَ لِيَرُدَّ عَلَى الْمُفْسِدِينَ وَلَيْسَ إِنْكَارًا فَقَالَ: لِمَاذَا شَاءَ اللَّهُ كُفْرَ الْكَافِرِينَ وَقَدْ كَتَبَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَيْسَ حَرَامًا.



تَوْحِيدُ اللَّهِ فِي الْفِعْلِ

الشَّرْحُ تَوْحِيدُ اللَّهِ فِي صِفَاتِهِ مَعْنَاهُ أَنْ يَعْتَقِدَ الْمَرْءُ أَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ لا تُشْبِهُ صِفَاتِ غَيْرِهِ، وَأَمَّا تَوْحِيدُهُ فِي الأَفْعَالِ فَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ الْمَرْءُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَفْعَلُ فِعْلًا بِقُدْرَتِهِ الأَزَلِيَّةِ بِتَكْوِينِهِ الأَزَلِيِّ بِلا مُبَاشَرَةٍ وَلا مُمَاسَّةٍ لِشَىْءٍ.

قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [سُورَةَ يس/82] وَقَدْ جَاءَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ عَلَى مَا قَالَ بَعْضُهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُوجِدُ مَا شَاءَ وُجُودَهُ بِدُونِ تَعَبٍ وَلا مَشَقَّةٍ وَلا تَأَخُّرٍ عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي شَاءَ، يَخْلُقُ الأَشْيَاءَ بِلا حَرَكَةٍ وَلا اسْتِعْمَالِ ءَالَةٍ إِنَّمَا بِمُجَرَّدِ مَشِيئَتِهِ الأَزَلِيَّةِ يَحْصُلُ الشَّىْءُ، قَالُوا مَعْنَاهَا سُرْعَةُ الإِيجَادِ بِلا مَشَقَّةٍ تَلْحَقُهُ وَبِدُونِ تَأَخُّرٍ عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي شَاءَ وُجُودَهُ فِيهِ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ يَنْطِقُ بِلَفْظِ كُنْ الْمَرَّكَبِ مِنَ الْكَافِ وَالنُّونِ بِعَدَدِ مَخْلُوقَاتِهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلامٍ هُوَ حَرْفٌ وَصَوْتٌ كَمَا نَحْنُ نَتَكَلَّمُ وَإِنَّمَا نَزَلَ هَذَا فِي الْقُرْءَانِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ لِتَقْرِيبِ الْمَعْنَى إِلَى عِبَادِهِ وَذَلِكَ أَنَّ كَلِمَةَ كُنْ أَسْهَلُ شَىْءٍ بِالنِّسْبَةِ لِلْعِبَادِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ هَيِّنٌ عَلَيْهِ إِيْجَادُ مَا أَرَادَ وُجُودَهُ كَمَا يَهُونُ عَلَى الْعِبَادِ النُّطْقُ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ. وَإِنَّمَا امْتَنَعَ تَفْسِيرُ الآيَةِ عَلَى الظَّاهِرِ الَّذِي هُوَ نِسْبَةُ إِثْبَاتِ النُّطْقِ بِالْحَرْفِ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ اللَّهُ يَنْطِقُ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ لَلَزِمَ تَشْبِيهُ اللَّهِ بِخَلْقِهِ وَلَوْ كَانَ اللَّهُ يَتَكَلَّمُ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ بِالْحَرْفِ وَالصَّوْتِ لَكَانَ مِثْلَ عِبَادِهِ فَلَوْ كَانَ يَجُوزُ هَذَا عَلَى اللَّهِ لَكَانَ يَجُوزُ عَلَيْهِ كُلُّ صِفَاتِ الْبَشَرِ وَذَلِكَ يُنَافِي التَّوْحِيدَ لِأَنَّ التَّوْحِيدَ عَدَمُ تَشْبِيهِ اللَّهِ بِشَىْءٍ مِنْ صِفَاتِ خَلْقِهِ وَلَوْ كَانَ الأَمْرُ كَذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يُسَمَّى اللَّهُ نَاطِقًا وَاللَّهُ لا يُسَمَّى نَاطِقًا بَلْ يُسَمَّى مُتَكَلِّمًا لِأَنَّ النَّاطِقَ هُوَ مَنْ يَنْطِقُ بِالْحَرْفِ وَالصَّوْتِ اللَّذَيْنِ هُمَا عَرَضَانِ مِنَ الأَعْرَاضِ الَّتِي يُوصَفُ بِهَا الْجِسْمُ كَاللَّذَّةِ وَالرَّاحَةِ وَالِانْبِسَاطِ وَالِانْزِعَاجِ.

وَقَالَ بَعْضُ الأَشَاعِرَةِ إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [سُورَةَ يس/82] حُكْمُ اللَّهِ فِي الأَزَلِ بِوُجُودِ الْحَادِثَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا فَيَرْجِعُ إِلَى الْكَلامِ الأَزَلِيِّ لَيْسَ الْكَلامَ الْحَرْفِيَّ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الْخَلْقِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْبَيْهَقِيُّ، وَالأَوَّلُ هُوَ مَا قَالَهُ الإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ وَعَلَيْهِ جَرَى أَكْثَرُ الْمَاتُرِيدِيَّةِ، وَكِلا الْفَرِيقَيْنِ مُتَّفِقَانِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لا يُوصَفُ بِالنُّطْقِ بِالصَّوْتِ وَالْحَرْفِ إِنَّمَا ذَلِكَ هُوَ عَقِيدَةُ الْحَشَوِيَّةِ الَّذِينَ يَقِيسُونَ الْخَالِقَ بِخَلْقِهِ فَيَجْعَلُونَ صِفَاتِ اللَّهِ كَصِفَاتِ خَلْقِهِ.

وَاللَّهُ هُوَ خَالِقُ الأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ، وَقَدِ انْتَشَرَ فِي دُعَاءِ الْمُسْلِمِينَ قَوْلُهُمْ: يَا مُسَبِّبَ الأَسْبَابِ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى تَوْحِيدِ الأَفْعَالِ أَيْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي فِعْلُهُ لا يَتَخَلَّفُ أَثَرُهُ، إِذَا شَاءَ حُصُولَ شَىْءٍ إِثْرَ مُزَاوَلَةِ الْمَخْلُوقِ لِشَىْءٍ حَصَلَ لا مَحَالَةَ، فَالتَّوْحِيدُ كَمَا قَالَ شَيْخُ الصُّوفِيَّةِ الْجُنَيْدُ بنُ مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيُّ الْمَدْفُونُ بِبَغْدَادَ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ثَلاثِمِائَةٍ إِلَّا ثَلاثَ سَنَوَاتٍ تَقْرِيبًا: «التَّوْحِيدُ إِفْرَادُ الْقَدِيمِ مِنَ الْمُحْدَثِ» أَيْ لا تَشَابُهَ بَيْنَ الْقَدِيمِ وَهُوَ اللَّهُ وَالْمُحْدَثِ وَهُوَ الْعَالَمُ بِأَسْرِهِ.

وَمَعْنَى اللَّهُ وَاحِدٌ فِي أَفْعَالِهِ أَنَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَفْعَلُ بِمَعْنَى الإِخْرَاجِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَلا فَاعِلَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إِلَّا اللَّهُ. وَمَعْنَى اللَّهُ وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ أَيْ أَنَّ ذَاتَهُ لَيْسَ مُرَكَّبًا يَقْبَلُ الِانْقِسَامَ لِأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْحَدِّ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: رُوِيَ عَنِ الْجُنَيْدِ إِمَامِ الصُّوفِيَّةِ الْعَارِفِينَ عِنْدَمَا سُئِلَ عَنِ التَّوْحِيدِ أَنَّهُ قَالَ: «الْيَقِينُ» ثُمَّ اسْتُفْسِرَ عَنْ مَعْنَاهُ فَقَالَ: «إِنَّهُ لا مُكَوِّنَ لِشَىْءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ مِنَ الأَعْيَانِ وَالأَعْمَالِ خَالِقٌ لَهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى»، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [سُورَةَ الصَّافَّات/96].

الشَّرْحُ شُهُودُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ بِالْقَلْبِ هُوَ الْيَقِينُ، فَلْيَجْعَلِ الْمُؤْمِنُ هَذَا عَقْدَ قَلْبِهِ وَلْيُكْثِرْ مِنْ شُهُودِ هَذَا الْمَعْنَى حَتَّى يَكُونَ مُوَحِّدًا لِلَّهِ تَعَالَى تَوْحِيدًا شُهُودِيًّا فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَفِي جَمِيعِ حَالاتِهِ فَتَهُونُ عَلَيْهِ الْمَصَائِبُ وَالْخَوْفُ مِنَ الْعِبَادِ، مَنْ جَعَلَ هَذَا الْمَعْنَى ذِكْرَهُ الْقَلْبِيَّ أَيْ جَعَلَ قَلْبَهُ يَسْتَشْعِرُ بِذَلِكَ دَائِمًا هَانَتْ عَلَيْهِ الْمَصَائِبُ وَسَهُلَ عَلَيْهِ مَا يَتَوَقَّعُهُ أَنْ يَحْدُثَ مِنْ قِبَلِ النَّاسِ وَهَانَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ فَلا يَسْتَفِزُّهُ ذَلِكَ عَلَى نِسْيَانِ أَنَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي كُلِّ شَىْءٍ، هَذَا يُقَالُ لَهُ التَّوْحِيدُ الشُّهُودِيُّ. وَمَعْنَى ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ﴾ أَيْ خَلَقَ ذَوَاتِكُمْ ﴿وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ أَيْ أَعْمَالَكُمْ حَرَكَاتِكُمْ وَسَكَنَاتِكُمْ هُوَ خَلَقَهَا، وَنِيَّاتُنَا هُوَ خَلَقَهَا.

فَاللَّهُ هُوَ الأَزَلِيُّ الْخَالِقُ لِمَا سِوَاهُ، وَمَا سِوَاهُ حَادِثٌ وُجِدَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَقَدْ جَاءَ يَهُودِيٌّ إِلَى عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لَهُ: مَتَى كَانَ اللَّهُ، فَقَالَ لَهُ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ: لا يُقَالُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى مَتَى كَانَ إِنَّمَا يُقَالُ مَتَى كَانَ عَمَّا لَمْ يَكُنْ ثُمَّ كَانَ، أَمَّا اللَّهُ تَعَالَى هُوَ قَبْلَ الْقَبْلِ وَبَعْدَ الْبَعْدِ.

هَذَا الْيَهُودِيُّ أَرَادَ الِامْتِحَانَ لِأَنَّهُ كَانَ اطَّلَعَ فِي التَّوْرَاةِ عَلَى هَذَا الْكَلامِ فَلَمَّا أَجَابَهُ عَلِيٌّ بِهَذَا الْجَوَابِ الَّذِي هُوَ مَذْكُورٌ فِي تَوْرَاتِهِمُ الأَصْلِيَّةِ، الرَّجُلُ مَا تَمَالَكَ نَفْسَهُ عَنْ أَنْ يُسْلِمَ فَتَشَهَّدَ فِي الْمَجْلِسِ، قَالَ فِي نَفْسِهِ: عَلِيٌّ مَا لَهُ اطِّلاعٌ عَلَى التَّوْرَاةِ مِنْ أَيْنَ عَرَفَ الْجَوَابَ لَوْلا أَنَّ دِينَهُ صَحِيحٌ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ صَانِعُ كُلِّ صَانِعٍ وَصَنْعَتِهِ»، رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ.

الشَّرْحُ الصَّنْعَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُرَادُ بِهَا الْعَمَلُ الَّذِي يَعْمَلُهُ الْعَبْدُ حَرَكَاتُهُ وَسُكُونُهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ عَامِلٍ وَعَمَلِهِ. وَفِي هَذَا إِبْطَالٌ لِقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ بِقُدْرَةٍ خَلَقَهَا اللَّهُ فِيهِ. فَالإِنْسَانُ جِسْمُهُ وَاحِدٌ، وَأَمَّا أَعْمَالُهُ حَرَكَاتُهُ وَسَكَنَاتُهُ تُعَدُّ بِالْمَلايِينِ، فَلَوْ كَانَ اللَّهُ خَلَقَ الْجِسْمَ فَقَطْ وَالْعَبْدُ يَخْلُقُ حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ لَكَانَ مَخْلُوقُ الْعَبْدِ أَكْثَرَ مِنْ مَخْلُوقِ اللَّهِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِذِ الْعِبَادُ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَإِنَّمَا يَكْتَسِبُونَهَا، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ﴾ [سُورَةَ الرَّعْد/16] تَمَدَّحَ تَعَالَى بِذَلِكَ لِأَنَّهُ شَىْءٌ يَخْتَصُّ بِهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْعُمُومَ وَالشُّمُولَ لِلأَعْيَانِ وَالأَعْمَالِ وَالْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ.

الشَّرْحُ اللَّهُ تَعَالَى تَمَدَّحَ بِأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ خَالِقُ أَجْسَامِنَا وَحَرَكَاتِنَا وَسَكَنَاتِنَا وَغَيْرِهَا مِنْ كُلِّ فِعْلٍ ظَاهِرِيٍّ وَكُلِّ صِفَةٍ بَاطِنِيَّةٍ كَالتَّفْكِيرِ وَالْخَوَاطِرِ الَّتِي تَخْطُرُ بِبَالِ الْعَبْدِ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْفَعَهَا وَكُلِّ كَائِنٍ دَخَلَ فِي الْوُجُودِ بِقَوْلِهِ: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ﴾ [سُورَةَ الرَّعْد/16]، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ خَالِقَ ذَلِكَ كُلِّهِ بَلْ كَانَ خَالِقَ الأَجْسَامِ فَقَطْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَمَدُّحٌ لَهُ، لِأَنَّهُ كَانَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ مَا يَخْلُقُهُ الْعِبَادُ أَكْثَرُ مِمَّا يَخْلُقُهُ اللَّهُ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام].

سَاقَ اللَّهُ الصَّلاةَ وَالنُّسُكَ وَالْمَحْيا وَالْمَمَاتَ فِي مَسَاقٍ وَاحِدٍ وَجَعَلَهَا مِلْكًا لَهُ. فَكَمَا أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ كَذَلِكَ اللَّهُ خَالِقٌ لِلأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ كَالصَّلاةِ وَالنُّسُكِ، وَالْحَرَكَاتِ الِاضْطِرَارِيَّةِ مِنْ بَابِ الأَوْلَى.

الشَّرْحُ قُلْ أَيْ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، وَمَعْنَاهُ أَعْلِمْ قَوْمَكَ بِأَنَّكَ لا تُشْرِكُ بِاللَّهِ لا فِي صَلاتِكَ وَلا فِي نُسُكِكَ، وَالنُّسُكُ هُوَ مَا يُذْبَحُ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ مِنَ الذَّبِيحَةِ كَالأُضْحِيَّةِ، كَذَلِكَ فِي الْحَجِّ إِذَا أَخَذَ الإِنْسَانُ مِنْ بَلَدِهِ إِبِلًا أَوْ بَقَرًا أَوْ غَنَمًا فَذَبَحَهُ ضِمْنَ حُدُودِ الْحَرَمِ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ فَهَذَا الذَّبْحُ لِلَّهِ أَيْ مِلْكٌ لِلَّهِ، وَخَلْقٌ لَهُ، وَمَحْيَايَ أَيْ حَيَاتِي، وَمَمَاتِي مِلْكٌ لِلَّهِ لا أُشْرِكُ بِهِ فِي ذَلِكَ شَيْئًا، أَمَّا الْمَحْيَا وَالْمَمَاتُ فَهُمَا مِنَ الأَفْعَالِ غَيْرِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَهِيَ خَلْقٌ لِلَّهِ قَالَ تَعَالَى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [سُورَةَ الْمُلْك/2] فَإِذًا الأَعْمَالُ الِاخْتِيَارِيَّةُ وَغَيْرُ الِاخْتِيَارِيَّةِ خَلْقٌ وَمِلْكٌ لِلَّهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ مَعْنَاهُ أَنَا أَوَّلُ مَنْ جَاءَ بِهَذَا الدِّينِ دِينِ التَّوْحِيدِ مِنْ بَيْنِ هَؤُلاءِ الْبَشَرِ الَّذِينَ يَعِيشُونَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ فِي هَذَا الزَّمَنِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنَ الْبَشَرِ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مُسْلِمٌ غَيْرُهُ، أَيْ أَنَا أَوَّلُ مُسْلِمِي هَذِهِ الأُمَّةِ. وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ مُسْلِمٌ عَلَى الإِطْلاقِ. وَالْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْقَرْنِ وَهُمْ حِزْبُ التَّحْرِيرِ الْمُنْتَسِبُونَ لِتَقِيِّ الدِّينِ النَّبَهَانِي خَالَفُوا هَذِهِ الآيَةَ فَخَرَجُوا عَنِ التَّوْحِيدِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِنَّمَا تَمْتَازُ الأَعْمَالُ الِاخْتِيَارِيَّةُ أَيِ الَّتِي لَنَا فِيهَا مَيْلٌ بِكَوْنِهَا مُكْتَسَبَةً لَنَا فَهِيَ مَحَلُّ التَّكْلِيفِ.

وَالْكَسْبُ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْعَبْدِ وَعَلَيْهِ يُثَابُ أَوْ يُؤَاخَذُ فِي الآخِرَةِ هُوَ تَوْجِيهُ الْعَبْدِ قَصْدَهُ وَإِرَادَتَهُ نَحْوَ الْعَمَلِ أَيْ يَصْرِفُ إِلَيْهِ قُدْرَتَهُ فَيَخْلُقُهُ اللَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ.

الشَّرْحُ الْفَرْقُ بَيْنَ الأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَغَيْرِ الِاخْتِيَارِيَّةِ أَنَّ الِاخْتِيَارِيَّةَ مُكْتَسَبَةٌ لَنَا وَأَمَّا غَيْرُ الِاخْتِيَارِيَّةِ فَهِيَ غَيْرُ مُكْتَسَبَةٍ لَنَا. فَالأَعْمَالُ الِاخْتِيَارِيَّةُ هِيَ مَحَلُّ التَّكْلِيفِ أَيْ هِيَ الَّتِي يُحَاسَبُ الْعَبْدُ عَلَى فِعْلِهَا فَمَا كَانَ مِنْهَا خَيْرًا يُثَابُ عَلَيْهِ وَمَا كَانَ مِنْهَا شَرًّا يُؤَاخَذُ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا الأَعْمَالُ الَّتِي هِيَ غَيْرُ اخْتِيَارِيَّةٍ فَلَيْسَتْ مَحَلَّ التَّكْلِيفِ إِنَّمَا نُسْأَلُ عَنْ أَعْمَالِنَا الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَأَمَّا الْمَصَائِبُ الَّتِي تُصِيبُ الْمُؤْمِنَ كَالأَمْرَاضِ وَنَحْوِهَا كَوَفَاةِ الْقَرِيبِ فَيُثَابُ عَلَيْهَا وَيُكَفَّرُ بِهَا السَّيِّئَاتُ وَتُرْفَعُ بِهَا الدَّرَجَاتُ فَإِنَّ نَفْسَ الْمَرَضِ لَيْسَ مِنَ الأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَإِنَّمَا الصَّبْرُ مِنَ الأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَالْعَبْدُ كَاسِبٌ لِعَمَلِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى خَالِقٌ لِعَمَلِ هَذَا الْعَبْدِ الَّذِي هُوَ كَسْبٌ لَهُ، وَهُوَ مِنْ أَغْمَضِ الْمَسَائِلِ فِي هَذَا الْعِلْمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/286].

الشَّرْحُ الْكَسْبُ أَمْرٌ دُونَ الْخَلْقِ وَهُوَ الْعَزْمُ الْمُصَمَّمُ عَلَى فِعْلِ الشَّىْءِ، لَمَّا يُوَجِّهُ وَيُعَلِّقُ الْعَبْدُ قَصْدَهُ وَإِرَادَتَهُ بِشَىْءٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ذَلِكَ الشَّىْءَ، وَالْكَسْبُ عَلَى مَفْهُومِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ شَىْءٌ غَامِضٌ مِنْ أَغْمَضِ الْمَسَائِلِ فِي عِلْمِ الْكَلامِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ﴾ أَيْ مِنْ عَمَلِ الْخَيْرِ أَيْ تَنْتَفِعُ بِذَلِكَ، ﴿وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ أَيْ مِنَ الْمَعَاصِي، أَيْ عَلَيْهَا وَبَالُ مَا اكْتَسَبَتْهُ مِنَ الْمَعَاصِي، أَيْ تَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ عَلَيْهِ، فَفِي هَذِهِ الآيَةِ إِثْبَاتُ الْكَسْبِ لِلْعَبْدِ. فَكُلُّ أَعْمَالِ الْعَبْدِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ أَيْ هُوَ يُوجِدُهَا مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ وَلا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ شَىْءٌ، فَمَا فِي كِتَابِ الْوَصَايَا تَأْلِيفِ الْكَمَالِ بنِ الْهُمَامِ فِي الِاعْتِقَادِ وَكِتَابِ التَّحْرِيرِ لَهُ مِنْ أَنَّهُ يُسْتَثْنَى فِعْلٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْعَزْمُ الْمُصَمَّمُ فَإِنَّهُ مَخْلُوقٌ لِلْعَبْدِ لِتَصْحِيحِ التَّكْلِيفِ بَاطِلٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ بَلْ هُوَ عَيْنُ الِاعْتِزَالِ فَلْيُحْذَرْ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَلَيْسَ الإِنْسَانُ مَجْبُورًا لِأَنَّ الْجَبْرَ يُنَافِي التَّكْلِيفَ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْحَقُّ وَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ أَيْ مَذْهَبِ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ.

الشَّرْحُ الإِنْسَانُ لَيْسَ مَجْبُورًا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَجْبُورًا لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا وَالْمَجْبُورُ هُوَ مَنْ لا اخْتِيَارَ لَهُ، يَعْنُونَ بِالْمَجْبُورِ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ الرِّيشَةِ الْمُعَلَقَّةِ فِي الْهَوَاءِ تَأْخُذُهَا الرِّيَاحُ يَمْنَةً وَيَسْرَةً مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ لَهَا فِي ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مِثْلَ هَذِهِ الرِّيشَةِ لَمْ يُؤْمَرْ بِالأَوَامِرِ وَلَمْ يُنْهَ عَنِ الْمَنَاهِي. وَالْمُعْتَزِلَةُ وَالْجَبْرِيَّةُ طَائِفَتَانِ مُتَبَايِنَتَانِ تَبَايُنًا شَدِيدًا، فَالْجَبْرِيَّةُ تَقُولُ الْعَبْدُ مَجْبُورٌ كَالرِّيشَةِ الْمُعَلَّقَةِ فِي الْهَوَاءِ، وَالْمُعْتَزِلَةُ تَقُولُ الْعَبْدُ يَخْلُقُ أَعْمَالَ نَفْسِهِ اسْتِقْلالًا بِقُدْرَةٍ خَلَقَهَا اللَّهُ فِيهِ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ لا مِنْ هَؤُلاءِ وَلا مِنْ هَؤُلاءِ بَلْ هُمْ وَسَطٌ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ.

أَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ الإِنْسَانُ لَمَّا يُقْدِمُ عَلَى الشَّىْءِ بِاخْتِيَارِهِ أَيْ بِمَيْلِهِ فَهُوَ مُخْتَارٌ ظَاهِرًا، لَكِنْ إِنْ نَظَرْنَا إِلَى أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ سَيَفْعَلُ هَذَا الْفِعْلَ الَّذِي هُوَ طَاعَةٌ أَوْ غَيْرُهَا فَلا بُدَّ أَنْ يَفْعَلَهُ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ لا يَتَغَيَّرُ، فَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى هَذَا الْمَعْنَى نَجِدُ الْعِبَادَ مُخْتَارِينَ ظَاهِرًا مَجْبُورِينَ بَاطِنًا، الْعِبَادُ مُخْتَارُونَ اخْتِيَارًا مَمْزُوجًا بِجَبْرٍ، فَالإِنْسَانُ لَهُ اخْتِيَارٌ تَابِعٌ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ، مُخْتَارٌ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ. وَيُقَالُ الْعَبْدُ مُخْتَارٌ لا مَجْبُورٌ فِي الأَعْمَالِ التَّكْلِيفِيَّةِ. وَلا تُقَالُ هَذِهِ الْعِبَارَةُ الَّتِي شَاعَتْ بَيْنَ الْعَوَامِّ: الْعَبْدُ مُسَيَّرٌ أَوْ مُخَيَّرٌ، لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ وَالتَّسْيِيرَ لَيْسَا مَعْنَيَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ بَلْ يَجْتَمِعَانِ، الْعَبْدُ لَهُ اخْتِيَارٌ، وَمُسَيَّرٌ أَيْ يُمَكِّنُهُ اللَّهُ مِنَ السَّيْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ [سُورَةَ يُونُس/22]، هَذِهِ الْعِبَارَةُ الَّتِي يَلْهَجُ بِهَا الْعَوَامُّ وَبَعْضُ مَنْ يَدَّعِي الْعِلْمَ فَاسِدَةٌ لُغَةً وَمُخَالِفَةٌ لِلشَّرْعِ وَهِيَ شَائِعَةٌ بَيْنَ الْعَوَامِّ وَأَشْبَاهِ الْعُلَمَاءِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ أَعْمَالَهُ كَالْمُعْتَزِلَةِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «كَلامُ الْقَدَرِيَّةِ كُفْرٌ» وَالْقَدَرِيَّةُ هُمُ الْمُعْتَزِلَةُ.

الشَّرْحُ الْمُعْتَزِلَةُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ أَعْمَالَهُ كَفَرُوا لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا الْقُرْءَانَ، كَذَّبُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ﴾ [سُورَةَ الرَّعْد/16] وَءَايَاتٍ كَثِيرَةً وَهُمْ يَقُولُونَ اللَّهُ خَالِقُ الأَعْيَانِ أَيِ الأَجْسَامِ فَقَطْ وَالأَعْمَالُ خَلَقَهَا الْعَبْدُ، وَتَسَتَّرُوا بِقَوْلِ «بِقُدْرَةٍ خَلَقَهَا اللَّهُ فِيهِ »وَلا يَنْفَعُهُمْ قَوْلُهُمْ هَذَا وَهُمْ قَائِلُونَ بِاسْتِقْلالِ الْعَبْدِ فِي أَفْعَالِهِ حَتَّى قَالَ مُتَأَخِّرُوهُمْ «إِنَّ اللَّهَ كَانَ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ حَرَكَاتِنَا وَسَكَنَاتِنَا قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَنَا الْقُدْرَةَ عَلَيْهَا فَلَمَّا أَعْطَانَا الْقُدْرَةَ عَلَيْهَا صَارَ عَاجِزًا عَنْهَا» ذَكَرَ هَذَا إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَأَبُو سَعِيدٍ الْمُتَوَلِّي وَأَبُو الْحَسَنِ شِيثُ بنُ إِبْرَاهِيمَ فِي كِتَابِهِ الَّذِي أَلَّفَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَسَمَّاهُ حَزَّ الْغَلاصِمِ فِي إِفْحَامِ الْمُخَاصِمِ وَغَيْرُهُمْ، قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: الْمُعْتَزِلَةُ جَعَلَتِ اللَّهَ كَمَا يَقُولُ الْمَثَلُ: «أَدْخَلْتُهُ دَارِي فَأَخْرَجَنِي مِنْهَا»، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا تَرَدُّدٌ فِي تَكْفِيرِهِمْ.

وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بِأَنَّ كَلامَهُمْ كُفْرٌ لِأَنَّهُمْ قَالُوا الْمَعَاصِي تَحْصُلُ بِدُونِ مَشِيئَةِ اللَّهِ وَإِنَّ أَعْمَالَنَا نَحْنُ نَخْلُقُهَا: لِذَلِكَ سُمُّوا الْقَدَرِيَّة.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَالَ أَبُو يُوسُفَ: «الْمُعْتَزِلَةُ زَنَادِقَةٌ».

الشَّرْحُ أَبُو يُوسُفَ هُوَ صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَكْبَرُ تَلامِيذِهِ عِلْمًا، وَكَانَ قَاضِيًا فِي أَيَّامِ هَارُونَ الرَّشِيدِ قَالَ: «الْمُعْتَزِلَةُ زَنَادِقَةٌ». وَالزِّنْدِيقُ مَنْ لا دِينَ لَهُ أَيِ الْمُلْحِدُ الَّذِي لا يَتَمَسَّكُ بِدِينٍ، فَالْمُعْتَزِلَةُ مِثْلُ أُولَئِكَ. وَلَمْ يَكُنِ الْمُعْتَصِمُ مِنْهُمْ وَإِنَّمَا وَافَقَهُمْ فِي قَوْلِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ «الْقُرْءَانُ مَخْلُوقٌ» وَيَعْنِي اللَّفْظَ الْمُنَزَّلَ، أَمَّا فِي سَائِرِ عَقَائِدِهِمْ لَمْ يُوَافِقْهُمْ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْئَلَةِ أَيْضًا هُوَ لَمْ يُوَافِقْهُمْ فِيهَا عَلَى التَّمَامِ لِأَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ تَنْفِي الْكَلامَ الْقَائِمَ بِذَاتِ اللَّهِ وَتَقُولُ اللَّهُ مُتَكَلِّمٌ بِمَعْنَى خَالِقِ الْكَلامِ فِي غَيْرِهِ، لِذَلِكَ تَنْفِي أَنْ يَكُونَ الْقُرْءَانُ كَلامًا قَدِيمًا قَائِمًا بِذَاتِ اللَّهِ لَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا، فَمُعْتَصِمٌ لَيْسَ مُعْتَزِلِيًّا وَكَذَلِكَ أَخَوَاهُ الْمَأْمُونُ وَالْوَاثِقُ لِذَلِكَ خَاطَبَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ»، فَلَمْ يُحْفَظْ عَنِ الْمُعْتَصِمِ قَوْلُ إِنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ أَعْمَالَهُ الِاخْتِيَارِيَّةَ اسْتِقْلالًا الَّذِي هُوَ أَصْلُ اعْتِقَادِ الْمُعْتَزِلَةِ، فَهَذَا الْقَوْلُ «الْقُرْءَانُ مَخْلُوقٌ» مَحْظُورٌ لَكِنْ مَنْ قَالَهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ اللَّفْظَ الْمُنَزَّلَ لَيْسَ فِي الْمَعْنَى بَاطِلًا وَإِنَّمَا التَّعْبِيرُ بِذَلِكَ مَمْنُوعٌ، لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ صِفَةَ الْكَلامِ الْقَائِمَةَ بِذَاتِ اللَّهِ مَخْلُوقَةٌ، وَأَمَّا كَوْنُ اللَّفْظِ الْمُنَزَّلِ مَخْلُوقًا فَلا يَمْتَرِي فِي ذَلِكَ عَاقِلٌ وَعَلَيْهِ دَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ [سُورَةَ الْحَاقَّة/40] وَالرَّسُولُ الْكَرِيمُ هُوَ جِبْرِيلُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْقُرْءَانَ بِمَعْنَى اللَّفْظِ الْمُنَزَّلِ مَقْرُوءُ جِبْرِيلَ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْكَلامِ الْقَائِمِ بِذَاتِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ أَزَلِيٌّ أَبَدِيٌّ كَسَائِرِ صِفَاتِ اللَّهِ لَيْسَ حُرُوفًا مُرَكَّبَةً يَسْبِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيَتَأَخَّرُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، وَهَذَا الِاعْتِقَادُ وَسَطٌ بَيْنَ الْمُشَبِّهَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ بِحُرُوفٍ حَادِثَةٍ وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ النَّافِينَ عَنْهُ كَلامًا هُوَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّهِ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ وَقَدْ بَسَطْنَا شَرْحَ ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ أَهْلَ السُّنَّةِ لِلصَّوَابِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَوَصَفَهُمْ أَبُو مَنْصُورٍ التَّمِيمِيُّ فِي كِتَابِهِ« الْفَرْقُ بَيْنَ الْفِرَقِ» بِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ. وَأَبُو مَنْصُورٍ هُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ: «وَقَالَ الإِمَامُ الْكَبِيرُ إِمَامُ أَصْحَابِنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ»، وَهُوَ مِمَّنْ كَتَبَ عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْحَدِيثِ.

الشَّرْحُ أَبُو مَنْصُورٍ التَّمِيمِيُّ هُوَ إِمَامٌ كَبِيرٌ شَافِعِيُّ الْمَذْهَبِ أَشْعَرِيٌّ فِي الْعَقِيدَةِ، وَلَيْسَ هُوَ فَقَطْ مَنْ كَفَّرَ الْمُعْتَزِلَةَ بَلْ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ كَفَّرَهُمْ، وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يُكَفِّرُوهُمْ فَقَلِيلٌ لا يُؤْخَذُ بِقَوْلِهِمْ كَصَاحِبِ كِتَابِ الإِقْنَاعِ بِشَرْحِ أَبِي شُجَاعٍ. وَالصَّوَابُ الَّذِي لا مَحِيدَ عَنْهُ مَا قَالَهُ الإِمَامُ الْحَافِظُ الْبُلْقِينِيُّ [سِرَاجُ الدِّينِ عُمَرُ بنُ رَسْلانَ شَيْخُ الْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ]: إِنَّ مَنْ ثَبَتَتْ عَنْهُ قَضِيَّةٌ مُعَيَّنَةٌ تَقْتَضِي تَكْفِيرَهُ لا تَصِحُّ الصَّلاةُ خَلْفَهُ، قَالَ الْبُلْقِينِيُّ: وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: «أَقْبَلُ شَهَادَةَ أَهْلِ الأَهْوَاءِ إِلَّا الْخَطَّابِيَّة»، عَنَى الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ «أَهْلِ الأَهْوَاءِ» مَنْ خَالَفُوا أَهْلَ السُّنَّةِ فِي الِاعْتِقَادِ تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ مَا لَمْ تَثْبُتْ عَلَيْهِ قَضِيَّةٌ مُعَيَّنَةٌ تَقْتَضِي كُفْرَهُ، وَغَلِطَ مَنْ عَمَّمَ عَدَمَ تَكْفِيرِ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَطْلَقَهُ بِلا تَفْصِيلٍ فَقَالُوا تَصِحُّ الْقُدْوَةُ بِالْمُعْتَزِلَةِ فِي الصَّلاةِ، وَلَيْسَ هَذَا اعْتِقَادَ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ كَفَّرَ حَفْصًا الْفَرْدَ وَهُوَ مُعْتَزِلِيٌّ لِأَنَّهُ ثَبَتَتْ عَلَيْهِ قَضِيَّةٌ مُعَيَّنَةٌ تَقْتَضِي كُفْرَهُ وَذَلِكَ أَنَّهُ نَاظَرَهُ فِي قَوْلِهِمُ الْقُرْءَانُ مَخْلُوقٌ بِالْمَعْنَى الَّذِي هُوَ مُعْتَقَدُهُمْ أَنَّهُ لا كَلامَ لِلَّهِ إِلَّا هَذَا اللَّفْظَ الْقُرْءَانِيَّ الَّذِي هُوَ حُرُوفٌ. فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يُصَحِّحُ الْقُدْوَةَ بِالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ مُخَالِفِي أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْعَقِيدَةِ بِدُونِ مُرَاعَاةِ هَذَا الشَّرْطِ فَقَدْ غَلِطَ عَلَى الشَّافِعِيِّ وَنَسَبَ إِلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْهُ. وَفِي كِتَابِ نَجْمِ الْمُهْتَدِي أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمٰنِ بنَ مَهْدِي ذُكِرَ عِنْدَهُ رَجُلٌ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ ءَادَمَ بِيَدِهِ فَقَالَ عَجَنَهُ بِيَدِهِ وَحَرَّكَ يَدَهُ بِالْعَجِينِ فَقَالَ لَوِ اسْتَشَارَنِي هَذَا السُّلْطَانُ فِي الْجَهْمِيَّةِ لَأَشَرْتُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَتِيبَهُمْ فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا ضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ اهـ وَنَقَلَ صَاحِبُ نَجْمِ الْمُهْتَدِي أَنَّ فِي كِتَابِ رَوْضَةِ الطَّالِبِينَ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَمَنْ تَابَعَهُ أَنَّهُمْ جَزَمُوا بِرَدِّ شَهَادَةِ أَهْلِ الأَهْوَاءِ، وَحَمَلُوا نَصَّ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ: أَقْبَلُ شَهَادَةَ أَهْلِ الأَهْوَاءِ عَلَى الْمُخَالِفِينَ فِي الْفُرُوعِ فَقَالُوا هَؤُلاءِ أَوْلَى بِرَدِّ الشَّهَادَةِ مِنَ الْفَسَقَةِ وَلَعَلَّهُ عَثَرَ عَلَى نُسْخَةٍ مِنْ كِتَابِ رَوْضَةِ الطَّالِبِينَ مُخَالِفَةٍ لِلنُّسْخَةِ الَّتِي طُبِعَتْ عَلَيْهَا النُّسْخَةُ الْمَطْبُوعَةُ اهـ. ثُمَّ نَقَلَ عَنْ أَقْضَى الْقُضَاةِ نَجْمِ الدِّينِ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى كِفَايَةَ النَّبِيهِ فِي شَرْحِ التَّنْبِيهِ عِنْدَ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ فِي بَابِ صِفَةِ الأَئِمَّةِ وَلا يَجُوزُ الصَّلاةُ خَلْفَ كَافِرٍ لِأَنَّهُ لا صَلاةَ لَهُ فَكَيْفَ يُقْتَدَى بِهِ. ثُمَّ قَالَ مَا مَعْنَاهُ هَذَا يَشْمَلُ مَنْ كُفْرُهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ يَعْنِي مِمَّنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَمَنْ كَفَّرْنَاهُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ كَالْقَائِلِينَ بِخَلْقِ الْقُرْءَانِ وَبِأَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ الْمَعْلُومَاتِ قَبْلَ وُجُودِهَا وَمَنْ لا يُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ وَكَذَا مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ جَالِسٌ عَلَى الْعَرْشِ كَمَا حَكَاهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ هُنَا عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. ثُمَّ نَقَلَ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ فِي بَابِ مَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَمَنْ لا تُقْبَلُ وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَتَبِعَهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ إِنَّ بِهِ قَالَ أَصْحَابُنَا.

وَأَهْلُ الأَهْوَاءِ عَلَى ثَلاثَةِ أَضْرُبٍ ضَرْبٌ يُكَفَّرُونَ وَسَنَذْكُرُهُمْ فَلا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَضَرْبٌ يُفَسَّقُونَ وَلا يُكَفَّرُونَ كَمَنْ سَبَّ الْقَرَابَةَ مِنَ الْخَوَارِجِ يَعْنِي عَلِيًّا وَالصَّحَابَةَ مِنَ الرَّوَافِضِ فَلا نَحْكُمُ بِشَهَادَتِهِمْ أَيْضًا، وَضَرْبٌ لا يُكَفَّرُونَ وَلا يُفَسَّقُونَ وَلَكِنْ يُخَطَّئُونَ. قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ كَالْبُغَاةِ - أَيْ فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ لَيْسَ فِي أَصْلِ فِعْلِهِمْ لِأَنَّهُمْ فُسَّاقٌ لا شَكَّ فِي خُرُوجِهِمْ عَلَى الْخَلِيفَةِ مَعْنَاهُ أَيْ فَهُمْ يَفْسُقُونَ مِنْ جِهَةٍ وَلا يَفْسُقُونَ مِنْ جِهَةٍ -، وَقَالَ غَيْرُهُ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ لِذَلِكَ سِتَّةَ شُرُوطٍ، ثُمَّ مَثَّلَ الضَّرْبَ الأَوَّلَ، ثُمَّ حَكَى بَعْدَ ذَلِكَ عَنِ الْبَنْدَنِيجِيِّ فَقَالَ قَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ: فَلا تَحِلُّ مُنَاكَحَةُ مَنْ ذَكَرْنَاهُمْ وَلا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُمْ وَحُكْمُهُمْ فِي هَذَا حُكْمُ الْكُفَّارِ. هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. قَالَ الإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ عُمَرُ بنُ الْحُسَيْنِ بنِ الْحَسَنِ الْمَكِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى نِهَايَةُ الْمَرَامِ فِي عِلْمِ الْكَلامِ حَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ يَعْنِي ابْنَ الْبَاقِلَّانِيِّ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَعْنِي الأَشْعَرِيَّ أَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ النَّوَادِرِ عِنْدَ سُؤَالِهِ هَلْ يَعْرِفُ اللَّهَ تَعَالَى عَبْدٌ اعْتَقَدَ أَنَّهُ جِسْمٌ؟ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْقَائِلَ غَيْرُ عَارِفٍ بِاللَّهِ وَإِنَّهُ كَافِرٌ بِهِ اهـ وَقَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ عِنْدَهُ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ كَلامَ اللَّهِ تَعَالَى مَخْلُوقٌ اهـ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَصِحُّ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَمَّا كِتَابُ الإِبَانَةِ لَمْ يَكُنْ طَبَعُهُ مِنْ أَصْلٍ وَثِيقٍ وَفِي الْمَقَالاتِ الْمَنْشُورَةِ بِاسْمِهِ وَقْفَةٌ لِأَنَّ جَمِيعَ النُّسَخِ الْمَوْجُودَةِ الْيَوْمَ مِنْ أَصْلٍ وَحِيدٍ كَانَ فِي حِيَازَةِ أَحَدِ كِبَارِ الْحَشَوِيَّةِ مِمَّنْ لا يُؤْتَمَنُ عَلَى الِاسْمِ وَلا عَلَى الْمُسَمَّى. بَلْ لَوْ صَحَّ الْكِتَابَانِ عَنْهُ عَلَى وَضْعِهِمَا الْحَاضِرِ لَمَا بَقِيَ وَجْهٌ لِمُنَاصَبَةِ الْحَشَوِيَّةِ الْعَدَاءَ لَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ اهـ. وَمَعْلُومٌ طَعْنُ الْحَشَوِيَّةِ الْمُجَسِّمَةِ فِيهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا. يَكْفِي فِي ذَلِكَ مَا اشْتُهِرَ عِنْدَ الْوَهَّابِيَّةِ مِنْ ذَمِّهِ وَتَضْلِيلِهِ وَتَصْرِيحِ بَعْضِهِمْ بِتَكْفِيرِهِ، فَلَوْ كَانَتْ نُسْخَةً صَحِيحَةً مِنَ الْكِتَابَيْنِ لَاكْتَفَوْا بِهِمَا لإِثْبَاتِ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لَهُمْ وَلَمْ يَحْتَاجُوا إِلَى الشَّتَائِمِ الْغَلِيظَةِ وَالتَّكْفِيرِ، حَتَّى إِنَّهُ بَلَغَ بَعْضُهُمْ فِي شِدَّةِ كَرَاهِيَتِهِ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى قَبْرِهِ فَأَحْدَثَ عَلَيْهِ، ثُمَّ اللَّهُ تَعَالَى انْتَقَمَ مِنْهُ فَمَاتَ بِنَزِيفِ الدَّمِ بَعْدَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ وَفِي هَذَا دِلالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّ هَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ لَيْسَا لَهُ. لَوْ كَانَ عِنْدَهُمْ نُسْخَةٌ صَحِيحَةٌ مِنْ هَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ مَا احْتَاجُوا إِلَى الشَّتْمِ بَلْ لَجَاهَرُوا بِأَنَّ الأَشْعَرِيَّ مَعَنَا لَيْسَ مَعَكُمْ وَهَذَانِ الْكِتَابَانِ مِنْ كَلامِهِ فَهُوَ مَعَنَا لا مَعَكُمْ. وَمَعْلُومٌ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ صِحَّةَ النُّسْخَةِ شَرْطٌ فِي الرِّوَايَةِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلا تَغْتَرَّ بِعَدَمِ تَكْفِيرِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ لَهُمْ، فَقَدْ نَقَلَ الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ التَّمِيمِيُّ فِي كِتَابِهِ «أُصُولُ الدِّينِ» وَكَذَلِكَ فِي كِتَابِهِ «تَفْسِيرُ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ» تَكْفِيرَهُمْ عَنِ الأَئِمَّةِ.

قَالَ الإِمَامُ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابِهِ «تَفْسِيرُ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ» [هَذَا الْكِتَابُ نَادِرُ الْوُجُودِ يُوجَدُ مِنْهُ نُسْخَتَانِ أَوْ ثَلاثٌ خَطِيَّةٌ فِي بَعْضِ الْمَكْتَبَاتِ]: «أَصْحَابُنَا أَجْمَعُوا عَلَى تَكْفِيرِ الْمُعْتَزِلَةِ» أَيِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْعَبْدُ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ الِاخْتِيَارِيَةَ، وَكَذَلِكَ الَّذِينَ يَقُولُونَ فَرْضٌ عَلَى اللَّهِ أَنَّ يَفْعَلَ مَا هُوَ الأَصْلَحُ لِلْعِبَادِ. وَقَوْلُهُ: «أَصْحَابُنَا» يَعْنِي بِهِ الأَشْعَرِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ لِأَنَّهُ أَشْعَرِيٌّ شَافِعِيٌّ بَلْ هُوَ رَأْسٌ كَبِيرٌ فِي الشَّافِعِيَّةِ كَمَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ وَهُوَ إِمَامٌ مُقَدَّمٌ فِي النَّقْلِ مَعْرُوفٌ بِذَلِكَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَالأُصُولِيِّينَ وَالْمُؤَرِّخِينَ الَّذِينَ أَلَّفُوا فِي الْفِرَقِ، فَمَنْ أَرَادَ مَزِيدَ التَّأَكُّدِ فَلْيُطَالِعْ كُتُبَهُ هَذِهِ، فَلا يُدَافَعُ نَقْلُهُ بِكَلامِ الْبَاجُورِيِّ وَأَمْثَالِهِ مِمَّنْ هُوَ مِنْ قَبْلِ عَصْرِهِ أَوْ بَعْدَهُ.

الشَّرْحُ الْبَاجُورِيُّ كَلامُهُ لا يُقَاوِمُ نَقْلَ أَبِي مَنْصُورٍ التَّمِيمِيِّ الَّذِي أَلَّفَ كِتَابَهُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْفِرَقِ لِيُبَيِّنَ الْفِرَقَ الْمَوْجُودَةَ فِي الدُّنْيَا وَبَيَّنَ أَدْيَانَهُمْ وَعَقَائِدَهُمْ، فَالْبَاجُورِيُّ لا شَىْءَ بِالنِّسْبَةِ لِأَبِي مَنْصُورٍ.

وَقَدْ بَيَّنَ أَبُو مَنْصُورٍ أَقْسَامَ الْمُعْتَزِلَةِ لِأَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ مِنْهُمْ مَنْ لا يَقُولُ بِأَنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ أَفْعَالَ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا يُشَارِكُونَ الْمُعْتَزِلَةَ بِاعْتِقَادَاتٍ أُخْرَى كَالْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ لا يُرَى فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ يُخَلَّدُ فِي النَّارِ لا يَخْرُجُ مِنْهَا لا هُوَ مُؤْمِنٌ وَلا هُوَ كَافِرٌ، وَيُنْكِرُونَ الشَّفَاعَةَ، وَلَهُمْ أَقْوَالٌ أُخْرَى هُمْ مُتَأَوِّلُونَ فِيهَا لَمْ يُكَفَّرُوا بِهَا هَؤُلاءِ الْمُعْتَزِلَةُ كَبِشْرٍ الْمِرِّيسِيِّ فَإِنَّهُ كَانَ مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ يُوَافِقُهُمْ إِلَّا فِي مَسْأَلَةِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ أَمَّا فِي هَذِهِ كَانَ يُكَفِّرُهُمْ. وَالْمَأْمُونُ الْعَبَّاسِيُّ ءَاذَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لا يَقُولُونَ الْقُرْءَانُ مَخْلُوقٌ.

وَالْفِرَقُ الَّذِينَ خَالَفُوا أَهْلَ السُّنَّةِ وَيَدَّعُونَ الإِسْلامَ اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ فِرْقَةً لَكِنْ لَوْ عُدُّوا لَطَلَعُوا قِلَّةً قَلِيلَةً بِاعْتِبَارِ أَهْلِ السُّنَّةِ فَإِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَزِيدُونَ عَلَيْهِمْ فِي الْعَدَدِ، أَمَّا أُولَئِكَ أَسْمَاءُ فِرَقِهِمْ كَثُرَتْ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَمَّا كَلامُ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ تَرْكِ تَكْفِيرِهِمْ فَمَحْمُولٌ عَلَى مِثْلِ بِشْرٍ الْمِرِّيسِيِّ وَالْمَأْمُونِ الْعَبَّاسِيِّ، فَإِنَّ بِشْرًا كَانَ مُوَافِقَهُمْ فِي الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْءَانِ وَكَفَّرَهُمْ فِي الْقَوْلِ بِخَلْقِ الأَفْعَالِ فَلا يُحْكَمُ عَلَى جَمِيعِ مَنِ انْتَسَبَ إِلَى الِاعْتِزَالِ بِحُكْمٍ وَاحِدٍ وَيُحْكَمُ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْهُمْ بِكَوْنِهِ ضَالًّا.

الشَّرْحُ الْحُكْمُ الَّذِي يَجْمَعُ الْمُعْتَزِلَةَ أَنَّهُمْ ضَالُّونَ، كُلُّ فِرَقِهِمْ ضَالُّونَ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ خَرَجَ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْمُعْتَقَدِ يُسَمَّوْنَ ضَالِّينَ. وَالْمَأْمُونُ الْعَبَّاسِيُّ إِنَّمَا لَمْ يُكَفِّرُوهُ لِأَنَّهُمْ مَا فَهِمُوا مُرَادَهُ مِنْ قَوْلِهِ «الْقُرْءَانُ مَخْلُوقٌ»، وَلَوْ فَهِمُوا مِنْهُ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ كَلامَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ صِفَتُهُ مَخْلُوقٌ لَكَفَّرُوهُ لِأَنَّ هَذَا لا شَكَّ فِي كُفْرِ قَائِلِهِ.

رِسَالَةٌ مُهِمَّةٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ

رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ سَيِّدِنَا الْحُسَيْنِ بنِ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: وَاللَّهِ مَا قَالَتِ الْقَدَرِيَّةُ بِقَوْلِ اللَّهِ وَلا بِقَوْلِ الْمَلائِكَةِ وَلا بِقَوْلِ النَّبِيِّينَ وَلا بِقَوْلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَلا بِقَوْلِ أَهْلِ النَّارِ وَلا بِقَوْلِ صَاحِبِهِمْ إِبْلِيسَ فَقَالَ النَّاسُ: تُفَسِّرُهُ لَنَا يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ، فَقَالَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [سُورَةَ يُونُس/25] فَالْمُعْتَزِلَةُ خَالَفُوا اللَّهَ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ هَذَا لِأَنَّهُمْ قَالُوا وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ «الْعَبْدُ خَلَقَ الْحَسَنَاتِ وَعَمِلَهَا فَصَارَ فَرْضًا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَلَيْسَ إِدْخَالُهُ لِلْعِبَادِ الْجَنَّةَ فَضْلًا مِنْهُ» مَعْنَاهُ عَلَى زَعْمِهِمْ أَنَّ اللَّهُ مَدْيُونٌ لِلْعِبَادِ لِأَنَّهُمْ خَلَقُوا هَذِهِ الْحَسَنَاتِ فَهُوَ مُلْزَمٌ بِأَنْ يُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ، وَالصَّوَابُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَضْلًا مِنْهُ يُدْخِلُ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَهُمْ وَهُوَ الَّذِي أَلْهَمَهُمْ أَعْمَالَ الْخَيْرِ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ فِيهِمْ هَذِهِ الْجَوَارِحَ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ فِيهِمُ الْعَقْلَ الَّذِي مَيَّزُوا بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ هَذِهِ الْجَنَّةَ، فَإِدْخَالُ الصَّالِحِينَ الْجَنَّةَ لَيْسَ فَرْضًا عَلَى اللَّهِ، لَيْسُوا مُمْتَنِّينَ عَلَى اللَّهِ بَلْ هُوَ الْمُمْتَنُّ عَلَيْهِمْ، هَذَا مَعْنَى كَلامِ سَيِّدِنَا الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَذَلِكَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمَّا قَالَ ﴿وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ أَفْهَمَنَا أَنَّهُ لا يَهْتَدِي أَحَدٌ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ الأَزَلِيَّةِ، وَالْمُعْتَزِلَةُ يَنْفُونَ عَنِ اللَّهِ الصِّفَاتِ، عِنْدَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى لا يُقَالُ لَهُ إِرَادَةٌ لَهُ عِلْمٌ لَهُ سَمْعٌ لَهُ بَصَرٌ لَهُ كَلامٌ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ هُوَ قَادِرٌ بِذَاتِهِ عَالِمٌ بِذَاتِهِ وَأَحْيَانًا يَقُولُونَ عَالِمٌ لِذَاتِهِ قَادِرٌ لِذَاتِهِ لا بِعِلْمٍ وَقُدْرَةٍ، خَالَفُوا الآيَةَ بِأَكْثَرَ مِنْ وَجْهٍ كَمَا قَالَ سَيِّدُنَا الْحُسَيْنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

وَقَدْ خَالَفَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الآيَةَ ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [سُورَةَ التَّكْوِير/29]، لِأَنَّهُمْ قَالُوا نَحْنُ بِإِرَادَتِنَا نَخْلُقُ الْمَعَاصِيَ وَالشُّرُورَ، قَالُوا اللَّهُ مَا لَهُ تَصَرُّفٌ فِي ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَخْبَرَنَا أَنَّ الْعِبَادَ لا تَحْصُلُ مِنْهُمْ مَشِيئَةٌ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ فِي الأَزَلِ أَنْ يَشَاؤُوا، فَالْمُعْتَزِلَةُ خَالَفُوا الآيَةَ.

وَخَالَفُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿سَنُقْرِؤُكَ فَلا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ [سُورَةَ الأَعْلَى]. فَهَذِهِ الآيَةُ أَيْضًا فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَعْمَالَ الْقُلُوبِ مِنَ الْخَلْقِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَنَا عَنْ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَنْسَى إِنْ شَاءَ اللَّهُ نِسْيَانَهُ، أَمَّا مَا لَمْ يَشَإِ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَنْسَى شَيْئًا مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْءَانِ لا يَنْسَى، فَفِي قَوْلِهِ: ﴿إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَلْبَ مَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمٰنِ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «إِنَّ قُلُوبَ بَنِي ءَادَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمٰنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَمَعْنَاهُ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيهَا هُوَ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ، فَمَا لِهَؤُلاءِ التَّائِهِينَ بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْقُلُوبَ هُوَ يُقَلِّبُهَا يَقُولُونَ إِنَّ الْعَبْدَ هُوَ يَخْلُقُ أَفْعَالَ نَفْسِهِ مَشِيئَتَهُ وَحَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ، وَأَوَّلُ مَنْ فَتَحَ هَذَا الْبَابَ مِمَّنْ يَدَّعِي الإِسْلامَ الْمُعْتَزِلَةُ فَأَضَلُّوا كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ، كَانَ فِي أَيَّامِ السَّلَفِ أُنَاسٌ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ أَحْوَالُهُمْ حَسَنَةٌ طَيِّبَةٌ فَتَنَهُمْ رَجُلٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ فَضَلُّوا.

وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُمْ لِلْمَلائِكَةِ فَقَدْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ: ﴿قَالُواْ سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/32]. مَعْنَاهُ الْعِلْمُ الَّذِي فِينَا أَنْتَ تَخْلُقُهُ يَا اللَّهُ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَعْمَالِنَا الْبَاطِنِيَّةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ لا تَكُونُ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَخَلْقِهِ، أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ قَالُوا عُلُومُنَا وَإِدْرَاكَاتُنَا نَحْنُ نَخْلُقُهَا.

وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُمْ لِلنَّبِيِّينَ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّونَ: ﴿وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَّعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف/89] بَعْضُ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ فِي مَقَامِ التَّبَرُّئِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَعْمَالِهِمْ نَحْنُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِي مِلَّتِكُمْ، مَعْنَاهُ نَحْنُ أَنْقَذَنَا اللَّهُ مِنْ أَنْ نَكُونَ فِي مِلَّتِكُمْ، أَيْ حَمَانَا اللَّهُ مِنْ أَنْ نَدْخُلَ فِيهَا وَنَعْتَقِدَهَا كَمَا أَنْتُمْ تَعْتَقِدُونَهَا، ﴿إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ مَعْنَاهُ أَمَّا لَوْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الأَزَلِ أَنْ نَتَّبِعَكُمْ لَتَبِعْنَاكُمْ لَكِنْ مَا شَاءَ ذَلِكَ فَلا نَتْبَعُكُمْ.

وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ﴾ [سُورَةَ هُود/34] هُنَا نُوحٌ أَثْبَتَ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْمَشِيئَةَ لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا، أَيْ أَنَّ الطَّاعَاتِ مِنْ عِبَادِهِ تَحْصُلُ بِمَشِيئَتِهِ وَأَنَّ مَعَاصِيَهُمْ تَحْصُلْ بِمَشِيئَتِهِ.

وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُمْ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فَأَهْلُ الْجَنَّةِ قَالُوا: ﴿وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف/43]. اعْتَرَفُوا بِأَنَّ هَذِهِ الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ الَّتِي اسْتَحَقُّوا بِهَا هَذَا النَّعِيمَ الْمُقِيمَ لَيْسَ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَخَلْقِهِ فِيهِمْ، وَلَوْلا أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ فِيهِمْ ذَلِكَ مَا دَخَلُوا هَذِهِ الْجَنَّةَ وَلا نَالُوا هَذَا النَّعِيمَ. الْمُعْتَزِلَةُ خَالَفَتْ فَقَالَتْ نَحْنُ خَلَقْنَا إِيـمَانَنَا وَأَعْمَالَنَا الصَّالِحَةَ فَلِذَلِكَ صَارَ عَلَى اللَّهِ فَرْضًا لازِمًا أَنْ يُثِيبَنَا.

وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُمْ لِأَهْلِ النَّارِ فَقَدْ قَالَ أَهْلُ النَّارِ: ﴿قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا﴾ [سُورَةَ الْمُؤْمِنُون/106].

هَذَا الْكَلامُ أَيْضًا فِيهِ اعْتِرَافٌ ضِمْنِيٌّ بِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى شَاءَ وَخَلَقَ فِيهِمُ الضَّلالَ الَّذِي اسْتَحَقُّوا بِهِ هَذِهِ النَّارَ.

وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُمْ لإِبْلِيسَ فَقَدْ قَالَ أَخُوهُمْ إِبْلِيسُ: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف/16]، فَمَعْنَى كَلامِ إِبْلِيسَ يَا رَبِّ لِأَنَّكَ أَغْوَيْتَنِي أَيْ كَتَبْتَ عَلَيَّ الْغَوَايَةَ أَيْ أَنْ أَضِلَّ بِاخْتِيَارِي ضَلَلْتُ، أَنَا أَقْعُدُ لِبَنِي ءَادَمَ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ أَيْ لِأُخْرِجَهُمْ وَأُبْعِدَهُمْ مِنْهُ، هَذَا إِبْلِيسُ صَارَ أَفْقَهَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ لِأَنَّهُ عَرَفَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ الْغَوَايَةِ وَالضَّلالَةِ فِيمَنْ ضَلُّوا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا مُسْتَقِلِّينَ عَنْ مَشِيئَةِ اللَّهِ وَتَخْلِيقِهِ أَيْ لا يَعْمَلُونَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْبِقَ مَشِيئَةٌ مِنَ اللَّهِ فِي الأَزَلِ فِي ذَلِكَ الَّذِي يَحْصُلُ مِنْهُمْ.

وَمِثْلُ هَذَا الْكَلامِ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بنِ عُيَيْنَةَ الَّذِي هُوَ مِنَ الأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ الَّذِينَ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْهُمْ أَحَادِيثَ نَبَوِيَّةً بِالأَسَانِيدِ لِأَنَّهُ كَانَ مُحَدِّثًا أَكْبَرَ سِنًّا مِنَ الشَّافِعِيِّ.



الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ بِأَنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ

قَالَ أَهْلُ الْحَقِّ: «امْتَنَعَ خَلْقُ الْعَبْدِ لِفِعْلِهِ لِعُمُومِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ وَعِلْمِهِ».

الشَّرْحُ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لا يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ هُوَ أَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ عَامَّةٌ وَإِرَادَتَهُ عَامَّةٌ فَكَيْفَ لا يَكُونُ عَمَلُ الْعَبْدِ مَخْلُوقًا لِلَّهِ، فَالْمُعْتَزِلَةُ تَقُولُ اللَّهُ مَا لَهُ تَصَرُّفٌ فِي الْعِبَادِ إِنَّمَا هُمْ يَخْلُقُونَ أَعْمَالَهُمُ الِاخْتِيَارِيَّةَ أَيِ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا عَمْدًا، وَكَلامُهُمْ هَذَا مَرْدُودٌ، يُقَالُ لَهُمْ: قُدْرَةُ اللَّهِ عَامَّةٌ شَامِلَةٌ وَإِرَادَتُهُ عَامَّةٌ شَامِلَةٌ فَكَيْفَ تَكُونُ خَاصَّةً بِالأَجْسَامِ دُونَ أَعْمَالِ الْعِبَادِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، هَذَا لا يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ، لِأَنَّ مَعْنَى كَلامِكُمْ هَذَا أَنَّهُ يُوجَدُ شَىْءٌ خَصَّ قُدْرَةَ اللَّهِ عَنْ أَنْ تَكُونَ شَامِلَةً لِكُلِّ شَىْءٍ، وَهَذَا مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ مَحْكُومٌ لِغَيْرِهِ، جَعَلْتُمْ لَهُ مُخَصِّصًا خَصَّصَهُ بِبَعْضِ الْمُمْكِنَاتِ الْعَقْلِيَّةِ دُونَ بَعْضٍ وَكُلُّ شَىْءٍ لَهُ مُخَصِّصٌ مُحْتَاجٌ لِذَلِكَ الْمُخَصِّصِ، إِذًا عَلَى قَوْلِكِمُ اللَّهُ لَهُ مُخَصِّصٌ وَالَّذِي لَهُ مُخَصِّصٌ مُحْدَثٌ، وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْحُدُوثِ، فَبَطَلَ قَوْلُكُمْ.

فَلَمَّا كَانَتْ قُدْرَةُ اللَّهِ شَامِلَةً لِكُلِّ مُمْكِنٍ عَقْلِيٍّ وَإِرَادَتُهُ كَذَلِكَ وَعِلْمُهُ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُمْكِنٍ عَقْلِيٍّ وَاقِعًا بِتَخْلِيقِ اللَّهِ وَتَكْوِينِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَفْعَالُ الْعِبَادِ الِاخْتِيَارِيَّةُ يَجِبُ عَقْلًا دُخُولُهَا فِي ذَلِكَ أَيْ أَنْ تَكُونَ مَخْلُوقَةً لَهُ لا لِلْعِبَادِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَىْءٌ مِنْهَا بِخَلْقِ غَيْرِهِ مَعَ كَوْنِهَا مِنَ الْمُمْكِنِ الْعَقْلِيِّ لَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ تَعَالَى مَانِعٌ مَنَعَهُ مِنْ خَلْقِ ذَلِكَ الْعَمَلِ، خَصَّصَهُ عَنْ خَلْقِ هَذِهِ الأَعْمَالِ وَجَعَلَهَا بِخَلْقِ غَيْرِهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى نِسْبَةِ الْعَجْزِ إِلَى اللَّهِ، وَلَكَانَ يَلْزَمُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُخَصِّصُ إِلَهًا ءَاخَرَ، وَتَعَدُّدُ الإِلَهِ مُحَالٌ بِالْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ.

وَلَنَا هُنَا عِبَارَةٌ أُخْرَى هِيَ أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ أَعْمَالُ الْعِبَادِ الِاخْتِيَارِيَّةُ بِخَلْقِ الْعِبَادِ لا بِخَلْقِ اللَّهِ لَاقْتَضَى ذَلِكَ وُجُودَ مُخَصِّصٍ خَصَّصَ اللَّهَ تَعَالَى بِذَلِكَ وَتَعَلَّقَ الْمُخَصِّصِ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ هُنَاكَ فَاعِلًا بِالإِرَادَةِ يَمْنَعُ اللَّهَ تَعَالَى عَنْ بَعْضِ الْمُمْكِنَاتِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُمْكِنَاتِ الْعَقْلِيَّةَ إِمَّا أَجْسَامٌ وَجَوَاهِرُ وَإِمَّا أَعْمَالٌ وَصِفَاتٌ حَادِثَةٌ فَلَوْ كَانَتْ قُدْرَةُ اللَّهِ غَيْرَ شَامِلَةٍ لِلْجَمِيعِ وَكَانَتْ مُقْتَصِرَةً عَلَى الأَعْيَانِ وَالْجَوَاهِرِ وَالأَعْرَاضِ وَالأَعْمَالِ الِاضْطِرَارِيَّةِ دُونَ الأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ لَكَانَ لِلَّهِ مُخَصِّصٌ يُخَصِّصُ قُدْرَتَهُ بِبَعْضِ الْمُمْكِنَاتِ الْعَقْلِيَّةِ دُونَ بَعْضٍ، وَفِي ذَلِكَ نِسْبَةُ الْقُصُورِ إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ قُدْرَةُ اللَّهِ قَاصِرَةً عَلَى بَعْضِ الْمُمْكِنَاتِ دُونَ بَعْضٍ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ نِسْبَةَ النَّقْصِ إِلَى اللَّهِ وَالنَّقْصُ عَلَيْهِ مُحَالٌ، وَيَلْزَمُ مِمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُعْتَزِلَةُ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُمَانِعٌ يَمْنَعُهُ عَنْ بَعْضِ الْمُمْكِنَاتِ دُونَ بَعْضٍ وَذَلِكَ عَجْزٌ وَالْعَجْزُ عَلَيْهِ مُحَالٌ.

وَيَأْتِي عَلَى قَوْلِ الْمُخَالِفِينَ الْمُحَالُ الَّذِي نَفَاهُ أَهْلُ الْحَقِّ وَهُوَ تَعَدُّدُ الإِلَهِ وَمَا أَدَّى إِلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَبَيَانُ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ عَامَّةٌ وَعِلْمَهُ عَامٌّ وَإِرَادَتَهُ عَامَّةٌ فَإِنَّ نِسْبَتَهَا إِلَى الْمُمْكِنَاتِ نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ.

الشَّرْحُ نِسْبَةُ قُدْرَةِ اللَّهِ إِلَى الْمُمْكِنَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَاحِدَةٌ، أَيْ نِسْبَةُ قُدْرَةِ اللَّهِ إِلَى أَجْسَامِنَا وَنِسْبَةُ قُدْرَةِ اللَّهِ إِلَى أَعْمَالِنَا وَاحِدَةٌ، يُقَالُ لَهُمْ: كَيْفَ جَعَلْتُمْ قُدْرَةَ اللَّهِ خَاصَّةً بِأَجْسَامِنَا فَقَطْ دُونَ أَعْمَالِنَا؟

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنَّ وُجُودَ الْمُمْكِنِ الْعَقْلِيِّ إِنَّمَا احْتَاجَ إِلَى الْقَادِرِ مِنْ حَيْثُ إِمْكَانُهُ وَحُدُوثُهُ.

الشَّرْحُ يُقَالُ لَهُمْ وُجُودُ الْمُمْكِنِ الْعَقْلِيِّ كَيْفَ احْتَاجَ إِلَى الإِلَهِ، أَلَيْسَ لِأَنَّهُ مُمْكِنٌ عَقْلِيٌّ حَادِثٌ وَكُلُّ حَادِثٍ لَهُ مُحْدِثٌ؟، أَلَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ احْتَاجَ إِلَى اللَّهِ؟ فَإِذًا كُلُّ جَائِزٍ عَقْلِيٍّ كُلُّ مُمْكِنٍ عَقْلِيٍّ تَتَعَلَّقُ بِهِ قُدْرَةُ اللَّهِ، فَاللَّهُ هُوَ الْخَالِقُ لِكُلِّ مُمْكِنٍ عَقْلِيٍّ وَأَعْمَالُنَا مِنَ الْمُمْكِنَاتِ الْعَقْلِيَّةِ.

وَيُقَالُ لَهُمْ: أَعْمَالُنَا حَرَكَاتُنَا وَسَكَنَاتُنَا الَّتِي نَقْصِدُهَا وَنَتَعَمَّدُهَا مِنَ الْمُمْكِنِ الْعَقْلِيِّ هِيَ أَمْ هِيَ مِنَ الْمُسْتَحِيلِ أَمْ هِيَ مِنَ الْوَاجِبِ الْعَقْلِيِّ؟ يَقُولُونَ: مِنَ الْمُمْكِنِ الْعَقْلِيِّ، فَيُقَالُ لَهُمْ: إِذًا الْمُمْكِنُ الْعَقْلِيُّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلَّقًا لِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، يَجِبُ أَنْ تَكُونَ قُدْرَةُ اللَّهِ مُتَعَلِّقَةً بِهِ أَيْ شَامِلَةً لَهُ، فَلا يَجُوزُ أَنْ نَجْعَلَ قُدْرَةَ اللَّهِ مُتَعَلِّقَةً بِبَعْضِ الْمُمْكِنَاتِ الْعَقْلِيَّةِ دُونَ بَعْضٍ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَلَوْ تَخَصَّصَتْ صِفَاتُهُ هَذِهِ بِبَعْضِ الْمُمْكِنَاتِ لَلَزِمَ اتِّصَافُهُ تَعَالَى بِنَقِيضِ تِلْكَ الصِّفَاتِ مِنَ الْجَهْلِ وَالْعَجْزِ وَذَلِكَ نَقْصٌ وَالنَّقْصُ عَلَيْهِ مُحَالٌ.

الشَّرْحُ لَوْ كَانَتْ قُدْرَةُ اللَّهِ لا تَشْمَلُ جَمِيعَ الْمُمْكِنَاتِ الْعَقْلِيَّةِ لَكَانَتْ قَاصِرَةً عَلَى بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ وَلَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَىْءٌ خَصَّصَ قُدْرَةَ اللَّهِ بِبَعْضِ الْمُمْكِنَاتِ الْعَقْلِيَّةِ دُونَ بَعْضٍ، وَهَذَا مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ مُحْتَاجٌ إِلَى غَيْرِهِ وَهَذَا مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ لا يَجُوزُ، فَبَطَلَ قَوْلُكُمْ.

يُقَالُ لَهُمْ: لَوْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى لا يَخْلُقُ أَعْمَالَ الْعِبَادِ الِاخْتِيَارِيَّةَ وَيَخْلُقُ مَا سِوَى ذَلِكَ لَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ مُخَصِّصٌ يُخَصِّصُهُ بِشَىْءٍ دُونَ شَىْءٍ وَذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى الْعَجْزِ وَالْمَغْلُوبِيَّةِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنْ لا إِلَهَ غَيْرُهُ بِالْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَاقْتَضَى تَخَصُّصُهَا مُخَصِّصًا وَتَعَلَّقَ الْمُخَصِّصُ بِذَاتِ الْوَاجِبِ الْوُجُودِ وَصِفَاتِهِ وَذَلِكَ مُحَالٌ.

الشَّرْحُ مَعْنَاهُ لَوْ لَمْ تَكُنْ قُدْرَةُ اللَّهِ مُتَعَلِّقَةً بِكُلِّ الْمُمْكِنَاتِ الْعَقْلِيَّةِ لَكَانَ لِلَّهِ شَىْءٌ يُؤَثِّرُ فِيهِ، فَلَوْ كَانَ كَمَا يَقُولُونَ قُدْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى قَاصِرَةٌ عَلَى بَعْضِ الْمُمْكِنَاتِ الْعَقْلِيَّةِ دُونَ بَعْضٍ أَيْ لَوْ كَانَتْ قَاصِرَةً عَلَى أَجْسَامِنَا دُونَ أَعْمَالِنَا لَاقْتَضَى ذَلِكَ شَيْئًا خَصَّصَ قُدْرَةَ اللَّهِ، وَكَانَ ذَلِكَ يَقْتَضِي تَعَلُّقَ الْمُخَصِّصِ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا لا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مُحَالٌ عَقْلِيٌّ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِذًا ثَبَتَ عُمُومُ صِفَاتِهِ.

الشَّرْحُ عُمُومُ قُدْرَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ ثَبَتَ، اللَّهُ خَالِقٌ لِكُلِّ أَعْمَالِنَا الِاخْتِيَارِيَّةِ وَغَيْرِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَخُصُومُنَا يُوَافِقُونَنَا فِي غَيْرِ الِاخْتِيَارِيَّةِ كَحَرَكَاتِ النَّائِمِ وَحَرَكَةِ الْمُرْتَعِشِ، هَذِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ، أَمَّا الْحَرَكَةُ الإِرَادِيَّةُ فَهَذِهِ عِنْدَهُمْ مَا دَخَلَتْ تَحْتَ الْقُدْرَةِ، هُمْ يَقُولُونَ هَذِهِ الْعَبْدُ يَخْلُقُهَا وَهَذَا بَاطِلٌ، الْعَبْدُ لا يَخْلُقُ شَيْئًا لا الْحَرَكَةَ الِاخْتِيَارِيَّةَ وَلا الْحَرَكَةَ الِاضْطِرَارِيَّةَ، هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى إِيجَادَ حَادِثٍ وَأَرَادَ الْعَبْدُ خِلافَهُ وَنَفَذَ مُرَادُ الْعَبْدِ دُونَ مُرَادِ اللَّهِ لَلَزِمَ الْمُحَالُ الْمَفْرُوضُ فِي إِثْبَاتِ إِلَهَيْنِ، وَتَعَدُّدُ الإِلَهِ مُحَالٌ بِالْبُرْهَانِ، فَمَا أَدَّى إِلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ.

الشَّرْحُ يَعْنِي أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ قُدْرَةُ اللَّهِ مُتَعَلِّقَةً بِبَعْضِ الْمُمْكِنَاتِ دُونَ بَعْضٍ كَمَا تَقُولُ الْمُعْتَزِلَةُ لَلَزِمَ الْمُحَالُ الْمَفْرُوضُ فِي إِثْبَاتِ إِلَهَيْنِ فَمَا أَدَّى إِلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ، لَوْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ شَىْءٌ لا يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَرَادَ أَنْ يُوجَدَ شَىْءٌ وَالآخَرَ أَرَادَ أَنْ لا يُوجَدَ فَإِنْ نَفَذَ مُرَادُ هَذَا وَلَمْ يَنْفُذْ مُرَادُ ذَاكَ فَالَّذِي لَمْ يَنْفُذْ مُرَادُهُ صَارَ عَاجِزًا، وَالْعَاجِزُ لا يَصْلُحُ لِأَنَّ يَكُونَ إِلَهًا، فَبَطَلَ تَعَدُّدُ الإِلَهِ، وَبَطَلَ قَوْلُهُمْ بِأَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى لا تَشْمَلُ أَعْمَالَ الْعِبَادِ الِاخْتِيَارِيَّةَ.



إِثْبَاتُ أَنَّ الأَسْبَابَ الْعَادِيَّة لا تُؤَثِّرُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا الْمُؤَثِّرُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ اللَّهُ

ذَكَرَ الْحَاكِمُ صَاحِبُ الْمُسْتَدْرَكِ فِي تَارِيخِ نَيْسَابُورَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا زَكَرِيَّا يَحْيَى بنَ مُحَمَّدٍ الْعَنْبَرِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا عِيسَى ابْنَ مُحَمَّدِ بنِ عِيسَى الطَّهْمَانِيَّ الْمَرْوَرُّوذِيَّ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُظْهِرُ مَا شَاءَ إِذَا شَاءَ مِنَ الآيَاتِ وَالْعِبَرِ فِي بَرِيَّتِهِ.

الشَّرْحُ اللَّهُ تَعَالَى يُظْهِرُ مَا شَاءَ فِي بَرِيَّتِهِ أَيْ خَلْقِهِ مِنَ الآيَاتِ أَيِ الْعَلامَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ الإِسْلامِ وَالْعِبَرِ أَيْ مَا يُعْتَبَرُ بِهِ أَيْ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ قُوَّةُ عَقِيدَةِ الإِيـمَانِ.

قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَيَزِيدُ الإِسْلامَ بِهَا عِزًّا وَقُوَّةً وَيُؤَيِّدُ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْهُدَى وَالْبَيِّنَاتِ وَيُنْشِئُ أَعْلامَ النُّبُوَّةِ وَيُوضِحُ دِلالَةَ الرِّسَالَةِ وَيُوثِقُ عُرَى الإِسْلامِ.

الشَّرْحُ قَوْلُهُ: «أَعْلامَ النُّبُوَّةِ »أَيْ دَلائِلَ النُّبُوَّةِ، وَالْعُرَى مَعْنَاهُ الْحَبْلُ لَمَّا يَكُونُ فِي وَسَطِهِ عُقَدٌ.

قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيُثْبِتُ حَقَائِقَ الإِيـمَانِ مَنًّا مِنْهُ [أَيْ فَضْلًا مِنْهُ] عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَزِيَادَةً فِي الْبُرْهَانِ لَهُمْ وَحُجَّةً عَلَى مَنْ عَانَدَ فِي طَاعَتِهِ [أَيْ حَتَّى يَكُونَ حُجَّةً عَلَى الَّذِينَ تَرَكُوا طَاعَتَهُ] وَأَلْحَدَ فِي دِينِهِ [أَيْ تَرَكَ دِينَ اللَّهِ] لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [أَيْ حَتَّى يَهْلِكَ الْهَالِكُونَ عَنْ بَيِّنَةٍ، أَيْ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ، وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ، أَيْ حَتَّى يُؤْمِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِالدَّلِيلِ، يَكُونُ صَارَ مَعَهُمْ دَلِيلٌ بَعْدَ رُؤْيَتِهِمْ لِمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الآيَاتِ وَالْعِبَرِ] فَلَهُ الْحَمْدُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ذُو الْحُجَّةِ الْبَالِغَةِ [أَيِ الْقَوِيَّةِ، مَعْنَاهُ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الظُّلْمُ] وَالْعِزِّ الْقَاهِرِ [أَيْ لَهُ عِزٌّ قَاهِرٌ، عِزٌّ يَغْلِبُ أَعْدَاءَهُ، اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْعَزِيزُ، مَعْنَاهُ الَّذِي يَغْلِبُ وَلا يُغْلَبُ] وَالطَّوْلِ الْبَاهِرِ [أَيِ الْفَضْلِ الْقَوِيِّ، وَالطَّوْلُ بِفَتْحِ الطَّاءِ، اللَّهُ تَعَالَى ذُو الطَّوْلِ أَيْ ذُو الْفَضْلِ، وَالْبَاهِرُ مَعْنَاهُ الْقَوِيُّ].

وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ وَرَسُولِ الْهُدَى وَعَلَى ءَالِهِ الطَّاهِرِينَ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ.

وَإِنَّ مِمَّا أَدْرَكْنَا عِيَانًا وَشَاهَدْنَاهُ فِي زَمَانِنَا وَأَحَطْنَا عِلْمًا بِهِ [أَيْ تَحَقَّقْنَا مِنْهُ] فَزَادَنَا يَقِينًا فِي دِينِنَا وَتَصْدِيقًا لِمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا وَدَعَا إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ فَرَغَّبَ فِيهِ مِنَ الْجِهَادَ مِنْ فَضِيلَةِ الشُّهَدَاءِ [مَعْنَاهُ يُحَبِّبُ إِلَى النَّاسِ الشَّهَادَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] وَبَلَّغَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ إِذْ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ﴾. [الْمَعْنَى أَنَّ مِمَّا يَزِيدُ بِالشَّهَادَةِ لِصِحَّةِ هَذِهِ الآيَةِ الَّتِي تُثْبِتُ أَنَّ الشُّهَدَاءَ أَحْيَاءٌ يُرْزَقُونَ أَيْ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ بَعْدَ أَنْ يُقْتَلُوا لِأَنَّ أَجْسَادَهُمْ تَحْيَا فِي الْقَبْرِ لِأَنَّ أَثَرَ الرُّوحِ يَعُودُ إِلَيْهَا] [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان].

إِنِّي وَرَدْتُ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَلاثِينَ وَمِائَتَيْنِ مَدِينَةً مِنْ مَدَائِنِ خُوَارِزْمَ تُدْعَى هَزَارَاسِبْ [هَزَارَاسِبْ لُغَةٌ فَارِسِيَّةٌ] وَهِيَ فِي غَرْبِيِّ وَادِي جَيْحُونَ وَمِنْهَا إِلَى الْمَدِينَةِ الْعُظْمَى مَسَافَةُ نِصْفِ يَوْمٍ [أَيْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ عَاصِمَةِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ نِصْفُ يَوْمٍ] وَخُبِّرْتُ أَنَّ بِهَا امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ الشُّهَدَاءِ رَأَتْ رُؤْيَةً كَأَنَّهَا أُطْعِمَتْ فِي مَنَامِهَا شَيْئًا فَهِيَ لا تَأْكُلُ شَيْئًا وَلا تَشْرَبُ مُنْذُ عَهْدِ أَبِي الْعَبَّاسِ ابْنِ طَاهِرٍ وَالِي خُرَاسَانَ وَكَانَ تُوُفِّيَ قَبْلَ ذَلِكَ بِثَمَانِ سِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ [أَبُو الْعَبَّاسِ بنُ طَاهِرٍ كَانَ حَاكِمًا فِي خُرُاسَانَ مِنْ قِبَلِ الْعَبَّاسِيِّينَ. الْخَلِيفَةُ الْعَبَّاسِيُّ كَانَ حَاكِمًا فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ] ثُمَّ مَرَرْتُ بِتِلْكَ الْمَدِينَةِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ [يَعْنِي بَعْدَ أَرْبَعِ سَنَوَاتٍ] فَرَأَيْتُهَا وَحَدَّثَتْنِي بِحَدِيثِهَا فَلَمْ أَسْتَقْصِ عَلَيْهَا لِحَدَاثَةِ سِنِّي [يَعْنِي مَا تَتَبَّعْتُ خَبَرَهَا، إِنَّمَا هِيَ حَدَّثَتْنِي لَكِنْ أَنَا لَمْ أَبْحَثُ مَعَهَا فِي أَمْرِهَا] ثُمَّ إِنِّي عُدْتُ إِلَى خُوَارِزْمَ فِي ءَاخِرِ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ فَرَأَيْتُهَا بَاقِيَةً وَوَجَدْتُ حَدِيثَهَا شَائِعًا مُسْتَفِيضًا [يَعْنِي بَعْدَ أَنْ مَضَى أَكْثَرُ مِنْ عَشْرِ سَنَوَاتٍ مِنْ سَمَاعِ خَبَرِهَا مَرَّ هَذَا الشَّيْخُ الطَّهْمَانِيُّ فَوَجَدَ خَبَرَهَا مُسْتَفِيضًا أَيْ ظَاهِرًا بَيْنَ النَّاسِ مُنْتَشِرًا مَشْهُورًا، أَيْ شَاعَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهَا لا تَأْكُلُ وَلا تَشْرَبُ]. وَهَذِهِ الْمَدِينَةُ عَلَى مَدْرَجَةِ الْقَوَافِلِ [أَيِ الْمُسَافِرُونَ يَمُرُّونَ بِهَا] وَكَانَ الْكَثِيرُ مِمَّنْ يَنْزِلُهَا إِذَا بَلَغَهُمْ قِصَّتُهَا أَحَبُّوا أَنْ يَنْظُرُوا إِلَيْهَا [أَيِ الَّذِينَ يَنْزِلُونَ إِلَى تِلْكَ الْبَلْدَةِ وَيَسْمَعُونَ خَبَرَهَا يُرِيدُونَ أَنْ يَرَوْهَا وَيَتَحَقَّقُوا مِنْ هَذَا الأَمْرِ] فَلا يَسْأَلُونَ عَنْهَا رَجُلًا وَلا امْرَأَةً وَلا غُلامًا إِلَّا عَرَفَهَا وَدَلَّ عَلَيْهَا [مَعْنَاهُ أَهْلُ الْبَلَدِ يَعْرِفُونَهَا، الذُّكُورُ وَالإِنَاثُ يَعْرِفُونَهَا وَيَدُلُّونَ عَلَيْهَا] فَلَمَّا وَافَيْتُ النَّاحِيَةَ طَلَبْتُهَا فَوَجَدْتُهَا غَائِبَةً عَلَى عِدَّةِ فَرَاسِخَ فَمَضَيْتُ فِي أَثَرِهَا [يَعْنِي لَمَّا عَلِمْتُ أَنَّهَا مُسَافِرَةٌ إِلَى مَسَافَةِ عِدَّةِ فَرَاسِخَ، وَالْفَرْسَخُ الْوَاحِدُ ثَلاثَةُ أَمْيَالٍ تَقْرِيبًا أَيْ مَسَافَةُ سَاعَةٍ وَنِصْفٍ مَشْيًا مَضَيْتُ فِي أَثَرِهَا] مِنْ قَرْيَةٍ إِلَى قَرْيَةٍ فَأَدْرَكْتُهَا بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ تَمْشِي مِشْيَةً قَوِيَّةً فَإِذَا هِيَ امْرَأَةٌ نَصَفٌ [مَعْنَاهُ عُمْرُهَا مُتَوَسِّطٌ أَيْ نَحْوُ الثَّلاثِينَ] جَيِّدَةُ الْقَامَةِ حَسَنَةُ الثَّدِيَّةِ ظَاهِرَةُ الدَّمِ مُتَوَرِّدَةُ الْخَدَّيْنِ ذَكِيَّةُ الْفُؤَادِ [يَعْنِي لَبِيبَة] فَسَايَرَتْنِي [مَعْنَاهُ سَارَتْ مَعِي] وَأَنَا رَاكِبٌ، فَعَرَضْتُ عَلَيْهَا مَرْكَبًا فَلَمْ تَرْكَبْهُ [مَعْنَاهُ هُوَ رَاكِبٌ وَهِيَ مَاشِيَةٌ، فَعَرَضَ عَلَيْهَا مَرْكَبًا أَيْ دَابَّةً تَرْكَبُهَا فَلَمْ تَقْبَلْ] وَأَقْبَلَتْ تَمْشِي مَعِي بِقُوَّةٍ [أَيْ مَشْيُهَا كَانَ مِشْيَةَ إِنْسَانٍ قَوِيَّةٍ].

وَكَانَ حَضَرَ مَجْلِسِي قَوْمٌ مِنَ التُّجَّارِ وَالدَّهَاقِين وَفِيهِمْ فَقِيهٌ يُسَمَّى مُحَمَّدَ بنَ حَمْدَوَيْه الْحَارِثِيَّ [أَيْ كَانَ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ عَالِمٌ اسْمُهُ مُحَمَّدُ بنُ حَمْدَوَيْه] وَقَدْ كَتَبَ عَنْهُ مُوسَى بنُ هَارُونَ الْبَزَّارُ بِمَكَّةَ [مُوسَى بنُ هَارُونَ كَانَ أَخَذَ عَنْ هَذَا الْفَقِيهِ عِلْمَ الْحَدِيثِ، مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ عُلَمَاءِ عِلْمِ الْحَدِيثِ] وَكَهْلٌ لَهُ عِبَادَةٌ وَرِوَايَةٌ لِلْحَدِيثِ، وَشَابٌّ حَسَنٌ يُسَمَّى عَبْدَ اللَّهِ بنَ عَبْدِ الرَّحْمٰنِ، وَكَانَ يُحَلِّفُ أَصْحَابَ الْمَظَالِمِ بِنَاحِيَتِهِ [أَيْ أَنَّهُ كَانَ مُوَظَّفًا يُحَلِّفُ أَصْحَابَ الشَّكَاوَى] فَسَأَلْتُهُمْ عَنْهَا فَأَحْسَنُوا الثَّنَاءَ عَلَيْهَا وَقَالُوا عَنْهَا خَيْرًا وَقَالُوا إِنَّ أَمْرَهَا ظَاهِرٌ عِنْدَنَا فَلَيْسَ فِينَا مَنْ يَخْتَلِفُ فِيهَا، قَالَ الْمُسَمَّى عَبْدَ اللَّهِ بنَ عَبْدِ الرَّحْمٰنِ: أَنَا أَسْمَعُ حَدِيثَهَا مُنْذُ أَيَّامِ الْحَدَاثَةِ [أَيْ مُنْذُ الصِّغَرِ] وَنَشَأْتُ وَالنَّاسُ يَتَفَاوَضُونَ فِي خَبَرِهَا وَقَدْ فَرَّغْتُ بَالِي لَهَا وَشَغَلْتُ نَفْسِيَ بِالِاسْتِقْصَاءِ عَلَيْهَا فَلَمْ أَرَ إِلَّا سَتْرًا وَعَفَافًا [أَيْ مَا رَأَيْتُ مِنْهَا إِلَّا شَيْئًا حَسَنًا] وَلَمْ أَعْثُرْ لَهَا عَلَى كَذِبٍ فِي دَعْوَاهَا وَلا حِيلَةٍ فِي التَّلْبِيسِ، وَذَكَرَ أَنَّ مَنْ كَانَ يَلِي خُوَارِزْمَ مِنَ الْعُمَّالِ [أَيِ الْحُكَّامِ] كَانُوا فِيمَا خَلا يَسْتَحْضِرُونَهَا وَيَحْصُرُونَهَا الشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ وَالأَكْثَرَ فِي بَيْتٍ يُغْلِقُونَ عَلَيْهَا [يَعْنِي يَحْبِسُونَهَا فِي مَكَانٍ الشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَتَحَقَّقُوا أَنَّهَا لا تَأْكُلُ وَلا تَشْرَبُ] ويُوَكِّلُونَ مَنْ يُرَاعِيهَا [أَيْ يُوَكِّلُونَ مَنْ يُرَاقِبُ هَلْ يَأْخُذُ لَهَا أَحَدٌ طَعَامًا وَشَرَابًا] فَلا يَرَوْنَهَا تَأْكُلُ وَلا تَشْرَبُ، وَلا يَجِدُونَ لَهَا أَثَرَ بَوْلٍ وَلا غَائِطٍ فَيَبَرُّونَهَا [أَيْ يُحْسِنُونَ إِلَيْهَا] وَيَكْسُونَهَا [أَيْ يُعْطُونَهَا اللِّبَاسَ] وَيُخْلُونَ سَبِيلَهَا [أَيْ يَتْرُكُونَهَا] فَلَمَّا تَوَاطَأَ أَهْلُ النَّاحِيَةِ عَلَى تَصْدِيقِهَا قَصَصْتُهَا عَنْ حَدِيثِهَا وَسَأَلْتُهَا عَنِ اسْمِهَا وَشَأْنِهَا كُلِّهِ، فَذَكَرَتْ أَنَّ اسْمَهَا رَحْمَةُ بِنْتُ إِبْرَاهِيمَ وَأَنَّهُ كَانَ لَهَا زَوْجٌ نَجَّارٌ فَقِيرٌ مَعَاشُهُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، يَأْتِيهِ رِزْقُهُ يَوْمًا فَيَوْمًا [أَيْ كَانَ يُحَصِّلُ مَصْرُوفَ يَوْمٍ ثُمَّ مَصْرُوفَ الْيَوْمِ الَّذِي بَعْدَهُ، كُلَّ يَوْمٍ بِيَوْمِهِ] لا فَضْلَ فِي كَسْبِهِ عَنْ قُوتِ أَهْلِهِ، وَأَنَّهَا وَلَدَتْ لَهُ عِدَّةَ أَوْلادٍ، وَجَاءَ الأَقْطَعُ مَلِكُ الْكُفَّارِ إِلَى الْقَرْيَةِ فَعَبَرَ الْوَادِيَ عِنْدَ جُمُودِهِ إِلَيْنَا فِي زُهَاءِ ثَلاثَةِ ءَالافِ فَارِسٍ [أَيْ فِي قَدْرِ ثَلاثَةِ ءَالافِ مُقَاتِلٍ جَاءَ إِلَيْهِمْ لَمَّا كَانَ النَّهْرُ جَمَدَ فِي الشِّتَاءِ، لِأَنَّ هَذَا النَّهْرَ فِي الشِّتَاءِ يَصِيرُ جَامِدًا مِثْلَ الأَرْضِ يُمْشَى عَلَيْهِ] وَأَهْلُ خُوَارِزْمَ يَدْعُونَهُ كَسْرَى، قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَالأَقْطَعُ هَذَا كَانَ كَافِرًا غَاشِمًا [أَيْ شَدِيدَ الظُّلْمِ] شَدِيدَ الْعَدَاوَةِ لِلْمُسْلِمِينَ [أَيْ يَكْرَهُ الْمُسْلِمِينَ جِدًّا] قَدْ أَثَّرَ عَلَى أَهْلِ الثُّغُورِ [أَيْ عَلَى أَهْلِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَلِي جِهَةَ الْكُفَّاِر] وَأَلَحَّ عَلَى أَهْلِ خُوَارِزْمَ بِالسَّبْيِ وَالْقَتْلِ وَالْغَارَاتِ وَكَانَ وُلاةُ خُرَاسَانَ يَتَأَلَّفُونَهُ وَأَشْبَاهَهُ مِنْ عُظَمَاءِ الأَعَاجِمِ لِيَكُفُّوا غَارَاتِهِمْ عَنِ الرَّعِيَّةِ وَيَحْقِنُوا دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ [أَيْ كَانُوا يُصَادِقُونَهُ حَتَّى لا يَعْمَلَ هُجُومًا فَيَقْتُلَ الْمُسْلِمِينَ، لِيَحْفَظُوا دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ] فَيَبْعَثُونَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِأَمْوَالٍ وَأَلْطَافٍ كَثِيرَةِ وَأَنْوَاعٍ مِنْ فَاخِرِ الثِّيَابِ [أَيْ كَانُوا يُعْطُونَهُمْ مِنَ الأَمْوَالِ حَتَّى يَكُفُّوا شَرَّهُمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ] وَإِنَّ هَذَا الْكَافِرَ اسْتَاءَ فِي بَعْضِ السِّنِينَ عَلَى السُّلْطَانِ، وَلا أَدْرِي لِمَ ذَاكَ، هَلِ اسْتَبْطَأَ الْمَبَارَّ عَنْ وَقْتِهَا أَمِ اسْتَقَلَّ مَا بُعِثَ إِلَيْهِ فِي جَنْبِ مَا بُعِثَ إِلَى نُظَرَائِهِ مِنَ الْمُلُوكِ [مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا الْكَافِرَ اسْتَاءَ إِمَّا لِأَنَّهُ انْقَطَعَ عَنْهُ مَا كَانُوا فِي الأَوَّلِ يُعْطُونَهُ إِيَّاهُ أَوِ اسْتَقَلَّ فَقَالَ: كَيْفَ أَعْطَوْنِي هَذَا الْقَدْرَ الْقَلِيلَ، لِهَذَا جَاءَ إِلَيْهِمْ] فَأَقْبَلَ فِي جُنُودِهِ وَاسْتَعْرَضَ الطُّرُقَ [أَيْ مَنَعَ النَّاسَ مِنَ الْمُرُورِ] فَعَاثَ وَأَفْسَدَ وَقَتَلَ وَمَثَّلَ فَعَجَزَ عَنْهُ خُيُولُ خُوَارِزْمَ، وَبَلَغَ خَبَرُهُ أَبَا الْعَبَّاسِ عَبْدَ اللَّهِ بنَ طَاهِرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَأَنْهَضَ إِلَيْهِ أَرْبَعَةً مِنَ الْقُوَّادِ [أَيْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ أَرْبَعَةً مِنَ الْقُوَّادِ]: طَاهِرَ بنَ إِبْرَاهِيمَ بنِ مَالِكٍ، وَيَعْقُوبَ بنَ مَنْصُورِ بنِ طَلْحَةَ، وَمِيكَالَ مَوْلَى طَاهِرٍ، وَهَارُونَ الْعَارِضَ وَشَحَنَ الْبَلَدَ بِالْعَسَاكِرِ وَالأَسْلِحَةِ وَرَتَّبَهُمْ فِي أَرْبَاعِ الْبَلَدِ كُلٌّ فِي رُبْعٍ، فَحَمَوِا الْحَرِيمَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ إِنَّ وَادِي جَيْحُونَ وَهُوَ الَّذِي فِي أَعْلَى نَهْرِ بَلْخٍ جَمَدَ لَمَّا اشْتَدَّ الْبَرْدُ، وَهُوَ وَادٍ عَظِيمٌ شَدِيدُ الطُّغْيَانِ [أَيْ يُتْلِفُ الزَّرْعَ] كَثِيرُ الآفَاقِ [أَيْ كَثِيرُ النَّوَاحِي] وَإِذَا امْتَدَّ كَانَ عَرْضُهُ نَحْوًا مِنْ فَرْسَخٍ وَإِذَا جَمَدَ انْطَبَقَ فَلَمْ يُوصَلْ مِنْهُ إِلَى شَىْءٍ حَتَّى يُحْفَرَ فِيهِ كَمَا تُحْفَرُ الآبَارُ فِي الصُّخُورِ وَقَدْ رَأَيْتُ كِثَفَ الْجَمَدِ عَشَرَةَ أَشْبَارٍ، وَأُخْبِرْتُ أَنَّهُ كَانَ فِيمَا مَضَى يَزِيدُ عَلَى عِشْرِينَ شِبْرًا وَإِذَا هُوَ انْطَبَقَ صَارَ الْجَمَدُ جِسْرًا لِأَهْلِ الْبَلَدِ تَسِيرُ عَلَيْهِ الْعَسَاكِرُ وَالْعَجَلُ [أَيِ الْحُمُولُ] وَالْقَوَافِلُ فَيَنْتَظِمُ مَا بَيْنَ الشَّاطِئَيْنِ، وَرُبَّمَا دَامَ الْجَمَدُ مِائَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَإِذَا قَلَّ الْبَرْدُ فِي عَامٍ بَقِيَ سَبْعِينَ يَوْمًا إِلَى نَحْوِ ثَلاثَةِ أَشْهُرٍ. قَالَتِ الْمَرْأَةُ: فَعَبَرَ الْكَافِرُ فِي خَيْلِهِ إِلَى بَابِ الْحِصْنِ وَقَدْ تَحَصَّنَ النَّاسُ وَضَمُّوا أَمْتِعَتَهُمْ وَصَحِبُوا الْمُسْلِمِينَ وَأَضَرُّوا بِهِمْ فَحُصِرَ مِنْ ذَلِكَ أَهْلُ النَّاحِيَةِ وَأَرَادُوا الْخُرُوجَ فَمَنَعَهُمُ الْعَامِلُ [أَيِ الْحَاكِمُ] دُونَ أَنْ تَتَوَافَى عَسَاكِرُ السُّلْطَانِ وَتَتَلاحَقَ الْمُتَطَوِّعَةُ، فَشَدَّ طَائِفَةٌ مِنْ شُبَّانِ النَّاسِ وَأَحْدَاثِهِمْ فَتَقَارَبُوا مِنَ السُّورِ بِمَا أَطَاقُوا حَمْلَهُ مِنَ السِّلاحِ [مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مُسْتَعِدِّينَ لِلِقَاءِ هَذَا الْكَافِرِ، ثُمَّ بَعْضُ الشَّبَابِ تَحَمَّسُوا فَتَقَدَّمُوا إِلَيْهِ لِضَرْبِهِ].

فَلَمَّا أَصْحَرُوا كَرَّ الْكُفَّارُ عَلَيْهِمْ [مَعْنَاهُ لَمَّا صَارُوا فِي الصَّحْرَاءِ أَيْ لَمَّا خَرَجُوا إِلَى الْبَرِّيَّة كَرَّ عَلَيْهِمُ الْكُفَّارُ] وَصَارَ الْمُسْلِمُونَ فِي مِثْلِ الْحَرَجَةِ [أَيْ فِي مِثْلِ الْغَابَةِ] فَتَحَصَّنُوا وَاتَّخَذُوا دَارَةً يُحَارِبُونَ مِنْ وَرَائِهَا وَانْقَطَعَ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْحِصْنِ وَبَعُدَتِ الْمَعُونَةُ عَنْهُمْ فَحَارَبُوا كَأَشَدِّ حَرْبٍ وَثَبَتُوا حَتَّى تَقَطَّعَتِ الأَوْتَارُ وَالْقِسِيُّ [الأَوْتَارُ جَمْعُ وَتَرٍ وَهُوَ مَا لِلْقَوْسِ، وَالْقِسِيُّ جَمْعُ قَوْسٍ] وَأَدْرَكَهُمُ التَّعَبُ وَمَسَّهُمُ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ وَقُتِلَ مُعْظَمُهُمْ وَأُثْخِنَ الْبَاقُونَ بِالْجِرَاحَاتِ [مَعْنَاهُ مَاتَ أَكْثَرُهُمْ وَالآخَرُونَ أُثْخِنُوا مَعْنَاهُ أَصَابَهُمْ جِرَاحَاتٌ شَدِيدَةٌ وَلَكِنْ لَمْ يَمُوتُوا].

وَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِمُ اللَّيْلُ [أَيْ لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِمُ اللَّيْلُ] تَحَاجَزَ الْفَرِيقَانِ [أَيْ هَؤُلاءِ تَوَقَّفُوا عَنْ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ تَوَقَّفُوا عَنْ هَؤُلاءِ] قَالَتِ الْمَرْأَةُ: وَرُفِعَتِ النَّارُ عَلَى الْمَنَاظِرِ سَاعَةَ عُبُورِ الْكَافِرِ، فَاتَّصَلَ الْخَبَرُ بِالْجُرْجَانِيَّةِ وَهِيَ مَدِينَةٌ عَظِيمَةٌ فِي قَاصِيَةِ خُوَارِزْمَ [أَيْ فِي أَطْرَافِهَا]، وَكَانَ مِيكَالُ مَوْلَى طَاهِرٍ بِهَا فِي عَسْكَرٍ فَخَفَّ فِي الطَّلَبِ هَيْبَةً لِلأَمِيرِ أَبِي الْعَبَّاسِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ طَاهِرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَرَكَضَ إِلَى هَزَارَاسْبْ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَرْبَعِينَ فَرْسَخًا بِفَرَاسِخِ خُوَارِزْمَ وَفِيهَا فَضْلٌ كَثِيرٌ عَلَى فَرَاسِخِ خُرَاسَانَ [يَعْنِي عِنْدَهُمْ فِي عَادَتِهِمْ فَرَاسِخُهُمْ تَزِيدُ عَلَى فَرَاسِخِ تِلْكَ الْبِلادِ].

وَغَدَا الْكَافِرُ لِلْفَرَاغِ مِنْ أَمْرِ أُولَئِكَ النَّفَرِ [أَيِ الْجَمَاعَةِ] فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذِ ارْتَفَعَتْ لَهُمُ الأَعْلامُ السُّودُ وَسَمِعُوا أَصْوَاتَ الطُّبُولِ فَأَفْرَجُوا عَنِ الْقَوْمِ [مَعْنَاهُ الْكُفَّارُ هَرَبُوا لَمَّا رَأَوِا الْجَيْشَ الإِسْلامِيَّ قَادِمًا]، وَوَافَى مِيكَالُ [أَيْ حَضَرَ مِيكَالُ] مَوْضِعَ الْمَعْرَكَةِ فَوَارَى الْقَتْلَى وَحَمَلَ الْجَرْحَى [أَيْ دَفَنَ الْقَتْلَى الَّذِينَ مَاتُوا، وَالْجَرْحَى حَمَلَهُمْ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ إِلَى مَكَانِ الْمُدَاوَاةِ].

قَالَتِ الْمَرْأَةُ: وَأُدْخِلَ الْحِصْنَ عَلَيْنَا عَشِيَّةَ ذَلِكَ زُهَاءُ أَرْبَعِمِائَةِ جِنَازَةٍ، فَلَمْ تَبْقَ دَارٌ إِلَّا حُمِلَ إِلَيْهَا قَتِيلٌ وَعَمَّتِ الْمُصِيبَةُ وَارْتَجَّتِ النَّاحِيَةُ بِالْبُكَاءِ.

قَالَتْ: وَوُضِعَ زَوْجِي بَيْنَ يَدَيَّ قَتِيلًا فَأَدْرَكَنِي مِنَ الْجَزْعِ وَالْهَلَعِ [أَيِ الْحُزْنِ الشَّدِيدِ وَالْبُكَاءِ] عَلَيْهِ مَا يُدْرِكُ الْمَرْأَةَ الشَّابَّةَ عَلَى زَوْجِهَا أَبِي الأَوْلادِ، وَكَانَتْ لَنَا عِيَالٌ.

قَالَتْ: فَاجْتَمَعَ النِّسَاءُ مِنْ قَرَابَاتِي وَالْجِيرَانُ يُسْعِدْنَنِي عَلَى الْبُكَاءِ [أَيْ يُسَاعِدْنَنِي عَلَى الْحُزْنِ]، وَجَاءَ الصِّبْيَانُ وَهُمْ أَطْفَالٌ لا يَعْقِلُونَ مِنَ الأَمْرِ شَيْئًا [أَيْ لا يُدْرِكُونَ مَعْنَى هَذِهِ الْمُصِيبَةِ] يَطْلُبُونَ الْخُبْزَ وَلَيْسَ عِنْدِي فَضِقْتُ صَدْرًا بِأَمْرِي ثُمَّ إِنِّي سَمِعْتُ أَذَانَ الْمَغْرِبِ فَفَزِعْتُ إِلَى الصَّلاةِ [أَيْ قُمْتُ إِلَى الصَّلاةِ وَلَجَأْتُ إِلَيْهَا] فَصَلَّيْتُ مَا قَضَى لِي رَبِّي ثُمَّ سَجَدْتُ أَدْعُو وَأَتَضَرَّعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَسْأَلُهُ الصَّبْرَ وَأَنْ يَجْبُرَ يُتْمَ صِبْيَانِي فَذَهَبَ بِيَ النَّوْمُ فِي سُجُودِي فَرَأَيْتُ فِي مَنَامِي كَأَنِّي فِي أَرْضٍ حَسْنَاءَ ذَاتِ حِجَارَةٍ وَأَنَا أَطْلُبُ زَوْجِي، فَنَادَانِي رَجُلٌ: إِلَى أَيْنَ أَيَّتُهَا الْحُرَّةُ؟ قُلْتُ: أَطْلُبُ زَوْجِي، فَقَالَ: خُذِي ذَاتَ الْيَمِينِ، فَرُفِعَ لِي أَرْضٌ سَهْلَةٌ [أَيْ رَأَيْتُ أَرْضًا سَهْلَةً] طَيِّبَةُ الرَّيِّ ظَاهِرَةُ الْعُشْبِ وَإِذَا قُصُورٌ وَأَبْنِيَةٌ لا أَحْفَظُ أَنْ أَصِفَهَا وَلَمْ أَرَ مِثْلَهَا [أَيْ لا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَصِفَهَا مِنْ حُسْنِهَا] وَإِذَا أَنْهَارٌ تَجْرِي عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ بِغَيْرِ أَخَادِيدَ [أَيْ لَيْسَتْ فِي وِهَادٍ عَمِيقَةٍ، إِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْهَا الْمَاءُ بِسُهُولَةٍ] لَيْسَ لَهَا حَافَّاتٌ، فَانْتَهَيْتُ إِلَى قَوْمٍ جُلُوسٍ حَلَقًا حَلَقًا [مَعْنَاهُ يَجْلِسُونَ فِي دَوَائِرَ] عَلَيْهِمْ ثِيَابٌ خُضْرٌ قَدْ عَلاهُمُ النُّورُ، فَإِذَا هُمُ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي الْمَعْرَكَةِ يَأْكُلُونَ عَلَى مَوَائِدَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَجَعَلْتُ أَتَخَلَّلُهُمْ وَأَتَصَفَّحُ وُجُوهَهُمْ [أَيْ أَتَأَمَّلُهَا] لِأَلْقَى زَوْجِي لَكِنَّهُ هُوَ يَنْظُرُنِي، فَنَادَانِي: يَا رَحْمَةُ! فَيَمَّمْتُ الصَّوْتَ [أَيْ تَبِعْتُ وَقَصَدْتُ صَوْتَهُ] فَإِذَا بِهِ فِي مِثْلِ حَالِ مَنْ رَأَيْتُ مِنَ الشُّهَدَاءِ، وَجْهُهُ مِثْلُ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَهُوَ يَأْكُلُ مَعَ رُفْقَةٍ لَهُ قُتِلُوا يَوْمَئِذٍ مَعَهُ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ هَذِهِ الْبَائِسَةَ جَائِعَةٌ مُنْذُ الْيَوْمَ أَفَتَأْذَنُونَ لِي أَنْ أُنَاوِلَهَا شَيْئًا تَأْكُلُهُ؟ فَأَذِنُوا لَهُ، فَنَاوَلَنِي كِسْرَةَ خُبْزٍ [أَيْ قِطْعَةَ خُبْزٍ]. قَالَتْ: وَأَنَا أَعْلَمُ حِينَئِذٍ أَنَّهُ خُبْزٌ وَلَكِنْ لا أَدْرِي كَيْفَ يَخْبَزُ، هُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ وَاللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَالسُّكَّرِ وَأَلْيَنُ مِنَ الزُّبْدِ وَالسَّمْنِ [أَيْ طَرَوَاتُهُ أَشَدُّ مِنَ الزُّبْدِ وَالسَّمْنِ]، فَأَكَلْتُهُ فَلَمَّا اسْتَقَرَّ فِي جَوْفِي قَالَ: اذْهَبِي كَفَاكِ اللَّهُ مَؤُونَةَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مَا حَيِيْتِ فِي الدُّنْيَا، فَانْتَبَهْتُ مِنْ نَوْمِي شَبْعَى رَيَّا لا أَحْتَاجُ إِلَى طَعَامٍ وَلا شَرَابٍ وَمَا ذُقْتُهَا مُنْذُ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِي هَذَا وَلا شَيْئًا يَأْكُلُهُ النَّاسُ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَكَانَتْ تَحْضُرُنَا وَكُنَّا نَأْكُلُ فَتَتَنَحَّى وَتَأْخُذُ عَلَى أَنْفِهَا تَزْعُمُ أَنَّهَا تَتَأَذَّى مِنْ رَائِحَةِ الطَّعَامِ، فَسَأَلْتُهَا: أَتَتَغَذَّى بِشَىْءٍ أَوْ تَشْرَبُ شَيْئًا غَيْرَ الْمَاءِ؟ فَقَالَتْ: لا، فَسَأَلْتُهَا: هَلْ يَخْرُجُ مِنْهَا رِيحٌ أَوْ أَذًى كَمَا يَخْرُجُ مِنَ النَّاسِ؟ قَالَتْ: لا عَهْدَ لِي بِالأَذَى مُنْذُ ذَلِكَ الزَّمَانِ، قُلْتُ: وَالْحَيْضُ؟ أَظُنُّهَا قَالَتْ: انْقَطَعَ بِانْقِطَاعِ الطُّعْمِ [أَيِ الطَّعَامِ]، قُلْتُ: هَلْ تَحْتَاجِينَ حَاجَةَ النِّسَاءِ إِلَى الرِّجَالِ قَالَتْ: أَمَا تَسْتَحِي مِنِّي تَسْأَلُنِي عَنْ مِثْلِ هَذَا، قُلْتُ: إِنِّي لَعَلِّي أُحَدِّثُ النَّاسَ عَنْكِ وَلا بُدَّ أَنْ أَسْتَقْصِيَ، قَالَتْ: لا أَحْتَاجُ، قُلْتُ: فَتَنَامِينَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ أَطْيَبَ نَوْمٍ، قُلْتُ: فَمَا تَرَيْنَ فِي مَنَامِكِ؟ قَالَتْ: مِثْلَمَا تَرَوْنَ، قُلْتُ: فَتَجِدِينَ لِفَقْدِ الطَّعَامِ وَهْنًا؟ قَالَتْ: مَا أَحْسَسْتُ بِجُوعٍ مُنْذُ طَعِمْتُ ذَلِكَ الطَّعَامَ، وَكَانَتْ تَقْبَلُ الصَّدَقَةَ فَقُلْتُ لَهَا: مَا تَصْنَعِينَ بِهَا، قَالَتْ: أَكْتَسِي وَأَكْسُو وَلَدِي، قُلْتُ: فَهَلْ تَجِدِينَ الْبَرْدَ وَتَتَأَذَّيْنَ بِالْحَرِّ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قُلْتُ: يُدْرِكُكِ اللُّغُوبُ [أَيِ التَّعَبُ] إِذَا مَشَيْتِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ أَلَسْتُ مِنَ الْبَشَرِ، قُلْتُ: فَتَتَوَضَّئِينَ لِلصَّلاةِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قُلْتُ: لِمَ؟ قَالَتْ: أَمَرَنِي الْفُقَهَاءُ بِذَلِكَ، قُلْتُ: إِنَّهُمْ أَفْتَوْهَا عَلَى حَدِيثِ: «لا وُضُوءَ إِلَّا مِنْ حَدَثٍ أَوْ نَوْمٍ«، وَذَكَرَتْ لِي أَنَّ بَطْنَهَا لاصِقٌ بِظَهْرِهَا، فَأَمَرْتُ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِنَا فَنَظَرَتْ (أَيْ إِلَى غَيْرِ الْعَوْرَة) فَإِذَا بَطْنُهَا كَمَا وَصَفَتْ وَإِذَا قَدِ اتَّخَذَتْ كِيسًا فَضَمَّتِ الْقُطْنَ وَشَدَّتْهُ عَلَى بَطْنِهَا كَيْ لا يَنْقَصِفَ ظَهْرُهَا إِذَا مَشَتْ، ثُمَّ لَمْ أَزَلْ أَخْتَلِفُ إِلَى هَزَارَاسْبْ بَيْنَ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلاثِ فَتَحْضُرُنِي فَأُعِيدُ مَسْأَلَتَهَا فَلا تَزِيدُ وَلا تَنْقُصُ، وَعَرَضْتُ كَلامَهَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمٰنِ الْفَقِيهِ، فَقَالَ: أَنَا أَسْمَعُ هَذَا الْكَلامَ مُنْذُ نَشَأْتُ فَلا أَجِدُ مَنْ يَدْفَعُهُ أَوْ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَّهَا تَأْكُلُ أَوْ تَشْرَبُ أَوْ تَتَغَوَّطُ. انْتَهَى.

فَهَذِهِ الْقِصَّةُ فِيهَا أَنْ لا تَلازُمَ عَقْلِيٌّ بَيْنَ فِقْدَانِ الأَكْلِ وَبَيْنَ الْمَرَضِ وَذَهَابِ الصِّحَّةِ وَانْهِدَامِ الْبُنْيَةِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ يَصِحُّ عَقْلًا أَنْ تَتَخَلَّفَ مَفْعُولاتُهَا وَأَنَّ الأَشْيَاءَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ الشُّهَدَاءَ لَهُمْ حَيَاةٌ بَرْزَخِيَّةٌ فَسُبْحَانَ الْقَدِيرِ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ.

الشَّرْحُ هَذِهِ الْقِصَّةُ تُفِيدُنَا أَنَّهُ لا تَلازُمَ عَقْلِيٌّ بَيْنَ الأَسْبَابِ وَمُسَبَّبَاتِهَا مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ، إِنَّمَا هِيَ أَسْبَابٌ يَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَهَا الْمُسَبَّبَاتِ، يَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ الأَكْلِ الشِّبَعَ وَعِنْدَ الشُّرْبِ الرِّيَّ وَقَدْ لا يَخْلُقُ الشِّبَعَ وَالرِّيَّ عِنْدَ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ، جَائِزٌ عَقْلًا أَنْ لا يَخْلُقَ الشِّبَعَ بَعْدَ الأَكْلِ وَالرِّيَّ بَعْدَ الشُّرْبِ، هَذَا يَجُوزُ وَهَذَا يَجُوزُ. كَذَلِكَ تُفِيدُنَا أَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ ضَرَرٌ بِخَلْقِ اللَّهِ بِتَرْكِ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَقَدْ لا يَحْصُلُ، هَذِهِ الْمَرْأَةُ تَرَكَتِ الأَكْلَ وَالشُّرْبَ زَمَانًا طَوِيلًا فَلَمْ تَنْضَرَّ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ إِذَا تَرَكُوا الأَكْلَ وَالشُّرْبَ لِأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ خَمْسَةٍ أَوْ سِتَّةِ أَيَّامٍ يَمُوتُونَ مِنَ الْجُوعِ، فَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الأَسْبَابَ لا تَخْلُقُ شَيْئًا، الأَكْلُ لا يَخْلُقُ الشِّبَعَ وَتَرْكُ الأَكْلِ لا يَخْلُقُ الضَّرَرَ، اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَخْلُقُ الشِّبَعَ عِنْدَ الأَكْلِ وَيَخْلُقُ الضَّرَرَ عِنْدَ تَرْكِ الأَكْلِ إِنْ شَاءَ. وَكَذَلِكَ النَّارُ إِذَا مَسَّتْ شَيْئًا يَخْلُقُ اللَّهُ الإِحْرَاقَ عِنْدَ مُمَاسَّةِ ذَلِكَ الشَّىْءِ لِلنَّارِ وَقَدْ لا يَخْلُقُ اللَّهُ ذَلِكَ، كُلٌّ عَلَى حَسَبِ مَشِيئَةِ اللَّهِ الأَزَلِيَّةِ، فَهَذَا سَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ رَمَاهُ قَوْمُهُ فِي النَّارِ الْعَظِيمَةِ فَلَمْ تُحْرِقْهُ وَلا ثِيَابَهُ وَإِنَّمَا أَحْرَقَتِ الْقَيْدَ الَّذِي قَيَّدُوهُ بِهِ وَكَانَتِ النَّارُ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلامًا، وَكَذَلِكَ حَصَلَ لِأَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلانِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا رَمَاهُ الأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ فِي النَّارِ فَلَمْ تُحْرِقْهُ، وَكَذَلِكَ حَصَلَ لِكَثِيرِينَ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ رِفَاعِيَّةٍ وَقَادِرِيَّةٍ وَغَيْرِهِمْ. كُلُّ هَذَا فِيهِ دَلائِلُ عَلَى أَنَّ الأَسْبَابَ لا تَخْلُقُ مُسَبَّبَاتِهَا فَالدَّوَاءُ لا يَخْلُقُ الشِّفَاءَ كَمْ مِنْ مَرْضَى يَأْخُذُونَ دَوَاءً لِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ فَهَذَا يَتَعَافَى وَالآخَرُ لا يَتَعَافَى، وَقَدْ قَالَ أَحَدُ شُعَرَاءِ الأَنْدَلُسِ فِي الْقَرْنِ السَّابِعِ الْهِجْرِيِّ وَاسْمُهُ يَعْقُوبُ بنُ جَابِرٍ الْمِنْجَنِيقِيُّ:

قُلْ لِمَنْ يَدَّعِي الْفَخَارَ دَعِ الفَخَــرَ # لِذِي الْكِبْرِيَاءِ وَالْجَبَرُوتِ

نَسْجُ دَاوُدَ لَمْ يُفِدْ لَيْلَةَ الْغَارِ # وَكَانَ الْفَخَارُ لِلْعَنْكَبُوتِ

وَبَقَاءُ السَّمَنْدِ فِي لَهَبِ النَّارِ # مُزِيلٌ فَضِيلَةَ الْيَاقُوتِ

وَكَذَاكَ النَّعَامُ يَلْتَقِمُ الْجَمْــرَ # وَمَا الْجَمْرُ لِلنَّعَامِ بِقُوتِ

مَعْنَاهُ قُلْ لِلْمُتَفَاخِرِ الْمُتَبَجِّحِ اتْرُكِ الْكِبْرِيَاءَ وَالْفَضْلَ لِلَّهِ تَعَالَى، اللَّهُ تَعَالَى هُوَ يُفَضِّلُ بَعْضَ خَلْقِهِ عَلَى بَعْضٍ، الْفَخْرُ يَأْتِي بِمَعْنَى الْفَضْلِ وَالْفَخَارُ كَذَلِكَ. وَالْكِبْرِيَاءُ مَعْنَاهُ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْعَظَمَةِ لَيْسَ عَيْنَ الْعَظَمَةِ.

وَنَسْجُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ هُوَ دُرُوعُ الْحَدِيدِ، اللَّهُ أَلانَ لَهُ الْحَدِيدَ فَكَانَ يَصْنَعُ بِيَدَيْهِ دُرُوعَ الْحَدِيدِ، وَلَيْلَةَ الْغَارِ أَيْ لَيْلَةَ كَانَ النَّبِيُّ مَعَ صَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ فِي الْغَارِ وَلَحِقَ بِهِمَا الْمُشْرِكُونَ.

وَأَمَّا السَّمَنْدُ فَهُوَ حَيَوَانٌ يَدْخُلُ النَّارَ يَنَامُ فِيهَا فَلا تُؤَثِّرُ فِيهِ وَكَانُوا إِذَا أَرَادُوا تَنْظِيفَ جِلْدِهِ رَمَوْهُ فِي النَّارِ فَيَحْتَرِقُ مَا سِوَاهُ، وَهُوَ حَيَوَانٌ نَادِرُ الْوُجُودِ كَانَ يُوجَدُ مِنْهُ فِي بِلادِ الصِّينِ. وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْيَاقُوتَ حَجَرٌ فَلا يَعْجَبُ الإِنْسَانُ إِذَا لَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِ النَّارُ كَمَا يَعْجَبُ مِنْ عَدَمِ تَأْثِيرِهَا فِي السَّمَنْدَلِ الَّذِي هُوَ مِنْ لَحْمٍ وَدَمٍ، كَذَلِكَ ذَكَرَ كَيْفَ تَأْكُلُ النَّعَامُ الْجَمْرَ الأَحْمَرَ وَتَسْتَمْرِئُهُ مَعَ أَنَّ النَّعَامَ مِنْ لَحْمٍ وَدَمٍ، فَسُبْحَانَ الْقَدِيرِ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ.

ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ الَّتِي حَصَلَتْ لِهَذِهِ الْمَرْأَةِ أَيْضًا فِيهَا دِلالَةٌ عَلَى أَنَّ الشُّهَدَاءَ لَهُمْ حَيَاةٌ بَرْزَخِيَّةٌ أَيْ فِي مُدَّةِ الْقَبْرِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، أَبْدَانُهُمْ لَهَا حَيَاةٌ وَإِنْ كَانَ الَّذِي يَنْظُرُ إِلَيْهَا كَهَيْئَةِ جِسْمِ شَخْصٍ نَائِمٍ لَكِنْ هِيَ فِيهَا حَيَاةٌ، الشَّهِيدُ لَمَّا يُفْتَحُ قَبْرُهُ فَيُنْظَرُ إِلَيْهِ يُرَى كَهَيْئَةِ رَجُلٍ نَائِمٍ، مَعَ ذَلِكَ نَحْنُ نَقُولُ فِيهِ حَيَاةٌ، رُوحُهُ الَّتِي فِي الْجَنَّةِ مُتَّصِلَةٌ بِهِ وَيُحِسُّ بِلَذَّةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الَّذِي يَأْكُلُهُ الرُّوحُ فِي الْجَنَّةِ، يَصِلُ إِلَيْهِ فَيَظَلُّ فِيهِ دَمٌ، لَوْ بَعْدَ أَلْفِ سَنَةٍ جُرِحَ يَطْلَعُ مِنْهُ دَمٌ.

هَذَا إِنْ كَانَتْ عَقِيدَتُهُ صَحِيحَةً وَنِيَّتُهُ صَحِيحَةً فَقَاتَلَ الْكُفَّارَ فَقَتَلُوهُ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْعَقِيدَةُ فَاسِدَةً يَكُونُ كَغَيْرِهِ، بَعْدَ نَحْوِ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ يَنْتَفِخُ وَيَطْلَعُ مِنْ أَنْفِهِ سَائِلٌ، رُطُوبَةٌ كَرِيهَةٌ مُنْتِنَةٌ ثُمَّ يَأْكُلُهُ التُّرَابُ، وَكَذَلِكَ يَحْصُلُ لِمَنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ فَاسِدَةً لِمَنْ قَاتَلَ لِيَقُولَ النَّاسُ عَنْهُ شُجَاعٌ، لَيْسَ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ فَقَطْ.



تَنْبِيهٌ مُهِمٌّ

لا يُعْفَى الْجَاهِلُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الأُصُولِ، وَلا يُعْذَرُ فِيمَا يَقَعُ مِنْهُ مِنَ الْكُفْرِ لِعَدَمِ اهْتِمَامِهِ بِالدِّينِ.

الشَّرْحُ الْجَاهِلُ إِذَا كَانَ لا يَعْرِفُ أَنَّ سَبَّ اللَّهِ كُفْرٌ فَسَبَّ اللَّهَ لا يُقَالُ هَذَا مَعْذُورٌ لا يَكْفُرُ لِأَنَّهُ جَهِلَ الْحُكْمَ، لا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِالْكُفْرِ بِسَبَبِ جَهْلِهِ هَكَذَا قَالَ الْمَالِكِيَّةُ كَالْقَاضِي عِيَاضٍ وَابْنِ حَجَرٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَكَذَا الْحَنَفِيَّةُ، بَلْ قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْقَوْلُ بِأَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ بِالْكُفْرِ عَامِدًا لَكِنْ يَجْهَلُ الْحُكْمَ إِنَّهُ يُعْذَرُ خِلافُ الصَّحِيحِ أَيْ قَوْلٌ لا يُعْتَبَرُ فَهُوَ كَالْعَدَمِ.

وَحُكْمُ غَيْرِ سَبِّ اللَّهِ مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ كَحُكْمِ سَبِّ اللَّهِ وَذَلِكَ كَسَبِّ الرَّسُولِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ وَدِينِ اللَّهِ الإِسْلامِ مَعَ اعْتِقَادٍ أَوْ بِغَيْرِ اعْتِقَادٍ لا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ يَقُولُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ عَنِ اعْتِقَادٍ وَبَيْنَ مَنْ يَقُولُهَا مَزْحًا أَوْ تَقِيَّةً إِلَّا الْمُكْرَهَ فَإِنَّ الْمُكْرَهَ بِالْقَتْلِ عَلَى أَنْ يَنْطِقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ أَوْ عَلَى فِعْلِ الْكُفْرِ كَالسُّجُودِ لِلصَّنَمِ وَدَوْسِ الْمُصْحَفِ بِالْقَدَمِ لا يَكْفُرُ. وَالْعِبْرَةُ فِي الْكَلِمَاتِ الْكُفْرِيَّةِ بِكَوْنِ النَّاطِقِ بِهَا يَفْهَمُ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ كُفْرٌ فَلا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ قَاصِدًا لِلْمَعْنَى أَوْ غَيْرَ قَاصِدٍ كَالَّذِي حَصَلَ لِرَجُلٍ فِي الشَّامِ كَانَ مَعَ زُمَلائِهِ فِي دَائِرَةٍ مِنْ دَوَائِرِ الْحُكُومَةِ فَرَأَوْا رَجُلًا أَعْمَى مُقْبِلًا فَقَالَ أَحَدُهُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِذَا رَأَيْتَ الأَعْمَى فَكُبَّهُ لَسْتَ أَكْرَمَ مِنْ رَبِّهِ. قَالَ ذَلِكَ لِيُضْحِكَ زُمَلائَهُ وَهُوَ لا يَعْتَقِدُ أَنَّ هَذَا قُرْءَانٌ. وَكَثِيرٌ مِنَ الْجَهَلَةِ يَقُولُونَ مِثْلَ هَذَا وَلا يَظُنُّونَ فِيهِ مَعْصِيَةً فَضْلًا عَنْ أَنْ يَرَوْهُ كُفْرًا.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَوْ كَانَ الْجَهْلُ يُسْقِطُ الْمُؤَاخَذَةَ لَكَانَ الْجَهْلُ خَيْرًا مِنَ الْعِلْمِ وَهَذَا خِلافُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ [سُورَةَ الزُّمَر/9]، إِلَّا أَنَّ مَنْ كَانَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِإِسْلامٍ وَنَحْوَهُ لا يَكْفُرُ بِإِنْكَارِ فَرْضِيَّةِ الصَّلاةِ وَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إِنْ لَمْ يَكُنْ سَمِعَ أَنَّ هَذَا دِينُ الإِسْلامِ.

الشَّرْحُ هَذَا مَعْنَاهُ أَنَّ الْجَهْلَ لَوْ كَانَ يُسْقِطُ الْعُقُوبَةَ فِي الآخِرَةِ عَلَى الإِطْلاقِ لَكَانَ الْجَهْلُ خَيْرًا لِلنَّاسِ، وَلَكِنَّ الأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ بِدَلِيلِ الآيَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. اللَّهُ تَعَالَى فَضَّلَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ فَلَوْ كَانَ الْجَاهِلُ يُعْذَرُ لِجَهْلِهِ عَلَى الإِطْلاقِ لَكَانَ الْجَهْلُ أَفْضَلَ لِلنَّاسِ. إِلَّا أَنَّهُ إِذَا أَنْكَرَ شَخْصٌ أَمْرًا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ مِمَّا هُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ لا يُكَفَّرُ مُنْكِرُهُ بَلْ يُعَلَّمُ ثُمَّ إِنْ عَادَ فَأَنْكَرَ يُكَفَّرُ، حَتَّى لَوْ دَخَلَ رَجُلٌ فِي الإِسْلامِ وَمَضَتْ عَلَيْهِ مُدَّةٌ وَلَمْ يَعْلَمْ قَبْلَ دُخُولِهِ أَنَّ الزِّنَى حَرَامٌ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَسْمَعْ فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ اسْتِحْلالُ الزِّنَى لا يُكَفَّرُ بَلْ يُعَلَّمُ أَنَّ الزِّنَى فِي دِينِ اللَّهِ حَرَامٌ، فَإِنْ عَادَ فَأَنْكَرَ أَوْ شَكَّ كُفِّرَ، وَعَلَى هذَا يُقَاسُ كَثِيرٌ مِنَ الأُمُورِ. وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَسْمَعْ شَخْصٌ وُلِدَ بَيْنَ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ وَعَاشَ وَلَمْ يَسْمَعْ بِأَنَّهُ فِي دِينِ الإِسْلامِ تَجِبُ خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فَأَنْكَرَ وُجُوبَهَا فَظَنَّ أَنَّهَا لَيْسَتْ وَاجِبَةً فَلا يُكَفَّرُ بَلْ يُعَلَّمُ، يُقَالُ لَهُ إِنَّ فِي دِينِ الإِسْلامِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ ثُمَّ إِنْ أَنْكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالرِّدَّةِ فَيُطَالَبُ بِالْعَوْدَةِ إِلَى الإِسْلامِ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَمَنْ كَانَ حَالُهُ هَذَا فَهُوَ كَالْكَافِرِ الَّذِي أَسْلَمَ مِنْ قَرِيبٍ.

تَنْبِيهٌ فِي بَيَانِ مَنِ الَّذِي يُعَدُّ مِثْلَ قَرِيبِ عَهْدٍ بِإِسْلامٍ

اعْلَمْ رَحِمَكَ اللَّهُ أَنَّ الَّذِي يُعَدُّ مِثْلَ قَرِيبِ عَهْدٍ بِإِسْلامٍ هُوَ الَّذِي لَمْ يُعَلِّمْهُ أَهْلُهُ وَلا غَيْرُهُمْ أُمُورَ الدِّينِ إِلَّا الشَّهَادَتَيْنِ وَعَاشَ عَلَى ذَلِكَ زَمَانًا طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا فَهَذَا إِذَا أَنْكَرَ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ الَّتِي هِيَ ظَاهِرَةٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لا يُكَفَّرُ بَلْ يُعَلَّمُ، فَالَّذِي هُوَ بَعِيدٌ عَنْ مَعْرِفَةِ سَمَاعِ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَوْ كَانَ يَعِيشُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ هَذَا الَّذِي يُقَالُ لَهُ مِثْلُ قَرِيبِ عَهْدٍ بِإِسْلامٍ، لَيْسَ الَّذِي تَخْفَى عَلَيْهِ مَسْئَلَةٌ وَمَرَّتْ لَهُ نَظَائِرُهَا كَالَّذِينَ سَمِعُوا كَثِيرًا مِنَ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِمَّا هُوَ شَبِيهُ هَذِهِ الْمَسْئَلَةِ فَهَذَا لا يُعَدُّ مِثْلَ قَرِيبِ عَهْدٍ بِإِسْلامٍ، إِنَّمَا شَبِيهُ قَرِيبِ الْعَهْدِ بِالإِسْلامِ هُوَ الَّذِي عَاشَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ لا يَتَعَلَّمُ مَعَهُمْ شَيْئًا وَهُوَ مِنْ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ.

فَالَّذِي تَعَلَّمَ كَثِيرًا مِمَّا يُشْبِهُ هَذِهِ الْمَسْئَلَةَ وَمَعَ هَذَا جَهِلَهَا هَذَا لا يُعَدُّ مِثْلَ قَرِيبِ عَهْدٍ بِإِسْلامٍ.

أَمَّا بَعْضُ الأَشْيَاءِ الَّتِي لَيْسَتْ مِمَّا يُفْهَمُ مِنَ النَّظَائِرِ فَهَذِهِ إِنْ جَهِلَهَا الشَّخْصُ يُعْذَرُ وَلَوْ كَانَ دَارِسًا زَمَانًا وَاسِعًا لِعِلْمِ الدِّينِ لِأَنَّهُ مَا سَمِعَ بِهَا. مَثَلًا: شَخْصٌ مَا سَمِعَ بِأَنَّ نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ اسْمُهُ إِلْيَاسُ وَهُوَ مَضَى عَلَيْهِ زَمَانٌ طَوِيلٌ، وَلا قَرَأَ فِي الْقُرْءَانِ اسْمَ إِلْيَاسَ بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ فَنَفَى نُبُوَّتَهُ فَهَذَا لَوْ كَانَ دَرَسَ عِدَّةَ كُتُبٍ وَتَلَقَّى مِنَ الْمَشَايِخِ لا يُكَفَّرُ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَسْئَلَةِ لا يُعْلَمُ بِالْقِيَاسِ إِلَّا بِالسَّمَاعِ.

وَكَذَلِكَ لَوْ قَرَأَ بَعْضُهُمْ فِي الْقُرْءَانِ أَنَّ إِلْيَاسَ نَبِيٌّ ثُمَّ نَسِيَ فَنَفَى نُبُوَّتَهُ فَهَذَا أَيْضًا لا يُكَفَّرُ.

وَقَدْ مَرَّ أَنْ ذَكَرْنَا أَنَّ الَّذِي يُنْكِرُ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ الَّتِي تُعْرَفُ بِالْعَقْلِ لَوْ لَمْ يَرِدْ بِهَا نَصٌّ قُرْءَانِيٌّ وَلا حَدِيثِيٌّ كَقُدْرَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَحَيَاتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ لِلْمَخْلُوقَاتِ أَيْ لا يُشْبِهُهَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ وَأَنَّهُ سَمِيعٌ وَأَنَّهُ بَصِيرٌ وَأَنَّهُ عَالِمٌ وَأَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ وَاسْتِغْنَائِهِ عَنْ كُلِّ شَىْءٍ وَقِدَمِهِ أَيْ أَنَّهُ أَزَلِيٌّ لَمْ يَسْبِقْ وُجُودَهُ الْعَدَمُ كَغَيْرِهِ وَبَقَائِهِ أَيْ لا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْعَدَمُ لا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِالْجَهْلِ بِذَلِكَ لَوْ كَانَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِإِسْلامٍ لَمْ يَسْمَعْ بِشَىْءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ إِلَّا أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ لا إِلَهَ غَيْرُهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُهُ وَصِدْقَ الأَنْبِيَاءِ وَأَمَانَتَهُمْ وَفَسَادَ دِينٍ غَيْرِ دِينِ الإِسْلامِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْفَرْضُ الأَوَّلُ فِي حَقِّ الأَهْلِ تَعْلِيمُهُمْ أُصُولَ الْعَقِيدَةِ كَيْلا يَقَعُوا فِي الْكُفْرِ بِجَهْلِهِمْ بِالْعَقِيدَةِ فَإِنِ اعْتَقَدُوا أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ نُورَانِيٌّ أَبْيَضُ فَاسْتَمَرُّوا بَعْدَ الْبُلُوغِ عَلَى ذَلِكَ فَمَاتُوا عَلَيْهِ خُلِّدُوا فِي النَّارِ نَتِيجَةَ اعْتِقَادَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ.

الشَّرْحُ أَهَمُّ مَا يَجِبُ تَعْلِيمُهُ لِلأَهْلِ هُوَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِأَنَّ الأَهْلَ مِنْ أَطْفَالٍ وَغَيْرِهِمْ إِنْ تُرِكُوا مِنْ غَيْرِ تَعْلِيمِهِمْ أُصُولَ الْعَقِيدَةِ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيمِهِمْ أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنِ الشَّكْلِ وَالْحَدِّ وَالطُّولِ وَالْعَرْضِ وَاللَّوْنِ وَالتَّحَيُّزِ فِي الْمَكَانِ وَكُلِّ مَا هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ قَدْ يَعْتَقِدُونَ اعْتِقَادًا فَاسِدًا فَيَهْلِكُونَ، فَإِنْ تَرَكْنَا الطِّفْلَ بِلا تَعْلِيمٍ قَدْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ شَىْءٌ مِنْ قَبِيلِ النُّورِ الأَبْيَضِ أَوْ شَىْءٌ أَزْرَقُ كَلَوْنِ السَّمَاءِ أَوْ أَنَّهُ جِسْمٌ سَاكِنُ السَّمَاءِ فَيَخْرُجُ مِنَ الدُّنْيَا وَهُوَ جَاهِلٌ بِخَالِقِهِ فَإِنْ بَلَغَ عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ وَمَاتَ عَلَيْهِ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، لِذَلِكَ صَارَ أَوْلَى مَا يُعَلِّمُ الأَهْلُ الْوَلَدَ الْعَقِيدَةَ، يُعَلِّمُونَهُ أَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ بِلا مَكَانٍ لِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْمَكَانِ بِلا مَكَانٍ كَانَ قَبْلَ وُجُودِ الْعَرْشِ وَالسَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَجِهَةِ فَوْقٍ وَجِهَةِ تَحْتٍ وَجِهَةِ يَمِينٍ وَجِهَةِ شِمَالٍ وَجِهَةِ أَمَامٍ وَجِهَةِ خَلْفٍ وَقَبْلَ وُجُودِ الْفَرَاغِ وَالضَّوْءِ وَالظَّلامِ وَأَنَّهُ لا شَبِيهَ لَهُ وَأَنَّهُ لا يُتَصَوَّرُ فِي الْعُقُولِ وَالأَذْهَانِ لِأَنَّهُ لا مِثْلَ لَهُ وَلا شَبِيهَ وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ وَلا خَالِقَ لِشَىْءٍ سِوَاهُ وَأَنَّهُ عَالِمٌ بِكُلِّ شَىْءٍ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُعَلَّمُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَالصِّيَامَ صِيَامَ رَمَضَانَ وَأَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ قَادِرٍ عَلَى الصِّيَامِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ السَّرِقَةُ حَرَامٌ وَالزِّنَى حَرَامٌ وَاللِّوَاطُ حَرَامٌ وَالظُّلْمُ حَرَامٌ وَالْكَذِبُ حَرَامٌ وَضَرْبُ الْمُسْلِمِينَ وَسَبُّهُمْ بِغَيْرِ حَقٍّ حَرَامٌ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَالَ الْفُضَيْلُ بنُ عِيَاضٍ: «لا يَغُرَّنَّكَ كَثْرَةُ الْهَالِكِينَ»، فَهَلْ هَذَا الْجَهْلُ فِي الْعَقِيدَةِ هُوَ نَتِيجَةُ مَحَبَّةِ الأَهْلِ لِأَبْنَائِهِمْ؟

الشَّرْحُ الْفُضَيْلُ كَانَ مِنْ أَكَابِرِ السَّلَفِ مِنَ الأَتْقِيَاءِ الأَوْلِيَاءِ الْعُلَمَاءِ الزَّاهِدِينَ الْمَعْرُوفِينِ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ كَانَ فِي الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ فِي زَمَنِ الشَّافِعِيِّ، أَخَذَ الْعِلْمَ مِنْ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ الْفُضَيْلِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ: «لا يَغُرَّنَّكَ كَثْرَةُ الْهَالِكِينَ» مَعْنَاهُ لا تَنْظُرْ إِلَى كَثْرَةِ مَنْ يَتَخَبَّطُ بِالْمَعَاصِي وَالْجَهْلِ فَتَقُولَ أَكْثَرُ النَّاسِ ضَالُّونَ فَتَضِلَّ مَعَهُمْ، اتْرُكْهُمْ فِيمَا ضَلُّوا فِيهِ وَاسْتَعْمِلْ عَقْلَكَ الَّذِي هُوَ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ بِهِ تُمَيِّزُ بَيْنَ الْقَبِيحِ وَالْحَسَنِ لِتَكُونَ مَعَ النَّاجِينَ، اتْرُكْ أَكْثَرَ الْبَشَرِ وَلا تَمْشِ مَعَهُمْ فِي الضَّلالِ وَاسْلُكْ سَبِيلَ الصَّالِحِينَ وَلَوْ قَلُّوا.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [سُورَةَ الذَّارِيَات/56] وَجَاءَ فِي تَفْسِيرِ الآيَةِ: أَيْ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَأْمُرَهُمْ بِعِبَادَتِهِ.

الشَّرْحُ هَذِهِ الآيَةُ لَيْسَ مَعْنَاهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَاءَ لِلْجَمِيعِ أَنْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ كَمَا تَقُولُ الْمُعْتَزِلَةُ، اللَّهُ أَمَرَ الْجَمِيعَ بِالْعِبَادَةِ لَكِنْ مَا شَاءَ لِلْجَمِيعِ أَنْ يَكُونُوا عَابِدِينَ لَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [سُورَةَ السَّجْدَة/13] وَغَيْرُهَا مِنَ الآيَاتِ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [سُورَةَ الإِسْرَاء/23] أَيْ أَمَرَ اللَّهُ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ لَيْسَ مَعْنَاهُ شَاءَ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ عَابِدِينَ لَهُ، بَلْ أَمَرَ الْجَمِيعَ أَنْ يَعْبُدُوهُ. وَالْعِبَادَةُ هِيَ نِهَايَةُ التَّذَلُّلِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَبَعْدَ أَنْ جَاءَنَا الْهُدَى وَهُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَامَتْ عَلَيْنَا الْحُجَّةُ بِهِ فَلا عُذْرَ لَنَا، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [سُورَةَ الإِسْرَاء/15].

الشَّرْحُ هَذِهِ الآيَةُ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لا يُعَذِّبُ الَّذِينَ لَمْ يَسْمَعُوا بِدَعْوَةِ الإِسْلامِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الأَنْبِيَاءُ، لا يُعَذِّبُهُمْ لا عَذَابَ اسْتِئْصَالٍ فِي الدُّنْيَا وَلا عَذَابًا فِي الآخِرَةِ بِنَارِ جَهَنَّمَ، وَبِهَذِهِ الآيَةِ احْتَجَّ الأَشَاعِرَةُ فَقَالُوا مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ نَبِيٍّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ ثُمَّ مَاتَ فَلا يُعَذَّبُ لَوْ عَاشَ يَعْبُدُ الْوَثَنَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِالْجَهْلِ بِخَالِقِهِ، مَعْنَاهُ الْعَقْلُ وَحْدَهُ يَكْفِي فَمَنْ لَمْ يَسْمَعْ بِدَعْوَةِ الأَنْبِيَاءِ يَكْفِيهِ الْعَقْلُ وَحْدَهُ مِمَّا يَرَاهُ مِنْ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَخَلْقِ نَفْسِهِ. لَيْسَ لَهُ عُذْرٌ إِنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ. وَقَالَتِ الأَشَاعِرَةُ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الآيَةِ عَذَابُ الاِسْتِئْصَالِ فِي الدُّنْيَا لَيْسَ عَذَابَ الآخِرَةِ. عَذَابُ الاِسْتِئْصَالِ مَعْنَاهُ الْعَذَابُ الْكَاسِحُ مِثْلُ عَذَابِ قَوْمِ نُوحٍ وَهُوَ الْغَرَقُ.



النُّبُوَّةُ

اشْتِقَاقُهَا مِنَ النَّبَإِ أَيِ الْخَبَرِ لِأَنَّ النُّبُوَّةَ إِخْبَارٌ عَنِ اللَّهِ، أَوْ مِنَ النَّبْوَةِ وَهِيَ الرِّفْعَةُ، فَالنَّبِيُّ عَلَى الأَوَّلِ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ لِأَنَّهُ يُخْبِرُ عَنِ اللَّهِ بِمَا يُوحَى إِلَيْهِ، أَوْ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ أَيْ مُخْبَرٌ عَنِ اللَّهِ أَيْ يُخْبِرُهُ الْمَلَكُ عَنِ اللَّهِ، فَالنُّبُوَّةُ جَائِزَةٌ عَقْلًا لَيْسَتْ مُسْتَحِيلَةً.

الشَّرْحُ النَّبَأُ مَعْنَاهُ الْخَبَرُ، أَمَّا النَّبْوَةُ مَعْنَاهَا الِارْتِفَاعُ، فَلَفْظُ النَّبِيِّ إِمَّا مُشْتَقٌّ مِنَ النَّبَإِ أَيِ الْخَبَرِ أَيِ الإِخْبَارِ أَوْ مِنَ النَّبْوَةِ أَيِ الِارْتِفَاعِ وَكِلاهُمَا صَحِيحٌ، إِنْ قُلْنَا مِنَ النَّبَإِ أَيِ الإِخْبَارِ فَمَعْنَاهُ أَنَّ الأَنْبِيَاءَ يُخْبِرُونَ عَنِ اللَّهِ، وَإِنْ قُلْنَا النَّبِيُّ مَأْخُوذٌ مِنَ النَّبْوَةِ أَيِ الِارْتِفَاعِ فَمَعْنَاهُ الأَنْبِيَاءُ دَرَجَاتُهُمْ مُرْتَفِعَةٌ عَالِيَةٌ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ الأَنْبِيَاءَ رَحْمَةً لِلْعِبَادِ إِذْ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يُسْتَغْنَى بِهِ عَنْهُمْ لِأَنَّ الْعَقْلَ لا يَسْتَقِلُّ بِمَعْرِفَةِ الأَشْيَاءِ الْمُنْجِيَةِ فِي الآخِرَةِ.

الشَّرْحُ الْعَقْلُ وَحْدَهُ لا يَكْفِي لِلنَّجَاةِ. الْكُفَّارُ فِيهِمْ عَقْلٌ طَبِيعِيٌّ لَكِنْ مَعَ ذَلِكَ هُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَشْكُرُوا الْمُنْعِمَ وَهُوَ اللَّهُ فَإِنَّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ لا يَكُونُ إِلَّا بِالإِيـمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ الَّذِي أَرْسَلَهُ لِيَتْبَعَهُ النَّاسُ. الْكَافِرُ مَهْمَا أَحْسَنَ إِلَى النَّاسِ وَأَعَانَ الْفُقَرَاءَ وَالْمَلْهُوفِينَ لا يَكُونُ شَاكِرًا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُ وَمَنَّ عَلَيْهِ بِالْعَقْلِ وَالشُّكْرُ الَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ وَرَضِيَهُ لَهُمْ لَيْسَ قَوْلَ الشُّكْرُ لِلَّهِ وَلِذَلِكَ هَذِهِ الْكَلِمَةُ الشُّكْرُ لِلَّهِ لَيْسَتْ مِنَ الأَذْكَارِ الْوَارِدَةِ الْوَاجِبَةِ أَمَّا الْحَمْدُ لِلَّهِ فَهُوَ وَارِدٌ فِي الْقُرْءَانِ يُقَالُ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ عَلَى الْوُجُوبِ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ الَّتِي قِرَاءَتُهَا وَاجِبَةٌ. أَمَّا الشُّكْرُ لِلَّهِ فَهُوَ مِنْ كَلِمَاتِ الذِّكْرِ الْمَشْرُوعَةِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ فَلَوْ عَاشَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ وَلَمْ يَقُلْ فِي عُمُرِهِ الشُّكْرُ لِلَّهِ فَهُوَ شَاكِرٌ إِنِ اتَّقَى اللَّهَ تَعَالَى. لِذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ بِعْثَةُ الأَنْبِيَاءِ، الأَنْبِيَاءُ هُمُ الَّذِينَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ مَا يُنْجِي فِي الآخِرَةِ وَمَا يُهْلِكُ فِي الآخِرَةِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَفِي بِعْثَةِ الأَنْبِيَاءِ مَصْلَحَةٌ ضَرُورِيَّةٌ لِحَاجَتِهِمْ لِذَلِكَ، فَاللَّهُ مُتَفَضِّلٌ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ فَهِيَ سَفَارَةٌ بَيْنَ الْحَقِّ تَعَالَى وَبَيْنَ الْخَلْقِ.

الشَّرْحُ بِعْثَةُ الأَنْبِيَاءِ مَصْلَحَةٌ ضَرُورِيَّةٌ لِلْعِبَادِ، اللَّهُ تَعَالَى تَكَرَّمَ عَلَى الْعِبَادِ بِأَنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَ، هَذَا فَضْلٌ مِنْهُ وَلَوْ لَمْ يُرْسِلِ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا.

وَلْيُعْلَمْ أَنَّ النُّبُوَّةَ خَاصَّةٌ بِالذُّكُورِ مِنَ الْبَشَرِ فَلا نَبِيَّةَ فِي النِّسَاءِ كَمَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِم﴾ [سُورَةَ النَّحْل/43] فَهَذِهِ الآيَةُ فِيهَا دَلِيلُ اخْتِصَاصِ الرِّسَالَةِ بِالذُّكُورِ وَهُمْ مِنَ الإِنْسِ فَقَطْ.
وَلْيُعْلَمْ أَنَّ جِبْرِيلَ هُوَ الَّذِي يَنْزِلُ بِالْوَحْيِ عَلَى الأَنْبِيَاءِ فِي أَكْثَرِ الأَوْقَاتِ وَفِي بَعْضِ الأَحْيَانِ قَدْ يَنْزِلُ غَيْرُهُ، وَالْوَحْيُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِوَاسِطَةِ مَلَكٍ أَوْ بِسَمَاعِ كَلامِ اللَّهِ الأَزَلِيِّ أَوْ بِالإِفَاضَةِ عَلَى قَلْبِ النَّبِيِّ.



الْفَرْقُ بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ

اعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ وَالرَّسُولَ يَشْتَرِكَانِ فِي الْوَحْيِ، فَكُلٌّ قَدْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ بِشَرْعٍ يَعْمَلُ بِهِ لِتَبْلِيغِهِ لِلنَّاسِ، غَيْرَ أَنَّ الرَّسُولَ يَأْتِي بِنَسْخِ بَعْضِ شَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ أَوْ بِشَرْعٍ جَدِيدٍ.

الشَّرْحُ الرَّسُولُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ بِشَرْعٍ يَعْمَلُ بِهِ وَيُوحَى إِلَيْهِ بِنَسْخِ بَعْضِ شَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ، أَيْ بِنَسْخِ بَعْضِ الأَحْكَامِ الَّتِي كَانَتْ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ الَّذِي قَبْلَهُ أَوْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ حُكْمٌ جَدِيدٌ لَمْ يَنْزِلْ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الأَنْبِيَاءِ، هَذَا يُقَالُ لَهُ رَسُولٌ، أَمَّا الَّذِي لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ شَىْءٌ جَدِيدٌ إِلَّا أَنْ يَعْمَلَ بِشَرِيعَةِ الرَّسُولِ الَّذِي قَبْلَهُ كَأَنْ أُمِرَ فَقِيلَ لَهُ بَلِّغْ شَرِيعَةَ مُوسَى مَثَلًا، فَهَذَا يُقَالُ لَهُ نَبِيٌّ وَلا يُقَالُ لَهُ رَسُولٌ.

وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ عَدَدَ الأَنْبِيَاءِ مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ نَبِيٍّ فِيهِمْ ثَلاثُمِائَةٍ وَثَلاثَةَ عَشَرَ رَسُولًا أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ، أَوَّلُهُمْ سَيِّدُنَا ءَادَمُ وَءَاخِرُهُمْ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ وَخِيَارُهُمْ مُحَمَّدٌ ثُمَّ إِبْرَاهِيمُ ثُمَّ مُوسَى ثُمَّ عِيسَى ثُمَّ نُوحٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَأَمَّا حَدِيثُ: «لا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، فَمَعْنَاهُ لا تَدْخُلُوا فِي التَّفْضِيلِ بِآرَائِكُمْ لِأَنَّ التَّفْضِيلَ بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ بِالرَّأْيِ لا يَجُوزُ إِنَّمَا التَّفْضِيلُ بِالْوَحْيِ فَمَنْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الأَنْبِيَاءِ فَهُمُ الأَفْضَلُونَ أَمَّا نَحْنُ بِآرَائِنَا لا نُفَضِّلُ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالنَّبِيُّ غَيْرُ الرَّسُولِ يُوحَى إِلَيْهِ لِيَتَّبِعَ شَرْعَ رَسُولٍ قَبْلَهُ لِيُبَلِّغَهُ.

الشَّرْحُ هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ النَّبِيِّ وَالرَّسُولِ هُوَ الصَّحِيحُ وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي مُؤَلَّفَاتِهِمْ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ مَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِشَرْعٍ وَلَمْ يُؤْمَرْ بِتَبْلِيغِهِ فَهُوَ فَاسِدٌ بَعِيدٌ مِنْ مَعْنَى النُّبُوَّةِ فَلْيُحْذَرْ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ الصَّحِيحُ ذَكَرَهُ كَثِيرٌ كَالإِمَامِ الْجَلِيلِ شَيْخِ الشَّافِعِيَّةِ وَالأَشَاعِرَةِ أَبِي مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيِّ وَالْقَوْنَوِيِّ شَارِحِ الطَّحَاوِيَّةِ وَالْمُنَاوِيِّ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَلِذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ: «كُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ وَلَيْسَ كُلُّ نَبِيٍّ رَسُولًا»، ثُمَّ أَيْضًا يَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ الرِّسَالَةَ يُوصَفُ بِهَا الْمَلَكُ وَالْبَشَرُ وَالنُّبُوَّةَ لا تَكُونُ إِلَّا فِي الْبَشَرِ.

الشَّرْحُ الرُّسُلُ أَفْضَلُ مِنَ الأَنْبِيَاءِ غَيْرِ الرُّسُلِ فَكُلُّ مَنْ كَانَ رَسُولًا نَبِيٌّ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ كَانَ نَبِيًّا رَسُولًا، ثُمَّ الرِّسَالَةُ يُوصَفُ بِهَا الْمَلَكُ وَالْبَشَرُ أَمَّا النُّبُوَّةُ فَلا تَكُونُ إِلَّا فِي الْبَشَرِ، الْمَلائِكَةُ فِيهِمْ رُسُلٌ مِنْهُمْ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَهُوَ رَسُولٌ مِنَ الْمَلائِكَةِ كَذَلِكَ يُوجَدُ غَيْرُهُ يُرْسِلُهُ اللَّهُ إِلَى الْمَلائِكَةِ لِيُبَلِّغَ الْوَحْيَ، اللَّهُ تَعَالَى يَأْمُرُهُمْ بِأَنْ يُبَلِّغُوا طَائِفَةً مِنَ الْمَلائِكَةِ بِأَمْرٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ﴾ [سُورَةَ الْحَجّ/75] اللَّهُ يَخْتَارُ مِنْ بَيْنِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنْ بَيْنِ الْبَشَرِ رُسُلًا فَجِبْرِيلُ سَفِيرٌ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ مِنَ الْبَشَرِ وَبَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْمَلائِكَةِ أَيْضًا.



مَا يَجِبُ لِلأَنْبِيَاءِ وَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمْ

يَجِبُ لِلأَنْبِيَاءِ الصِّدْقُ وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الْكَذِبُ، وَتَجِبُ لَهُمُ الْفَطَانَةُ وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الْبَلادَةُ وَالْغَبَاوَةُ، وَتَجِبُ لَهُمُ الأَمَانَةُ.

فَالأَنْبِيَاءُ سَالِمُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْكَبَائِرِ وَصَغَائِرِ الْخِسَّةِ وَهَذِهِ هِيَ الْعِصْمَةُ الْوَاجِبَةُ لَهُمْ، وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الْخِيَانَةُ وَيَجِبُ لَهُمُ الصِّيَانَةُ فَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الرَّذَالَةُ وَالسَّفَاهَةُ وَالْجُبْنُ وَكُلُّ مَا يُنَفِّرُ عَنْ قَبُولِ الدَّعْوَةِ مِنْهُمْ.

الشَّرْحُ يَجِبُ لِلأَنْبِيَاءِ الصِّدْقُ وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الْكَذِبُ وَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْرُوفًا بَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ بِالأَمِينِ لِمَا عُرِفَ بِهِ مِنَ الصِّدْقِ وَالأَمَانَةِ وَالنَّزَاهَةِ، لَمْ تُجَرَّبْ عَلَيْهِ كَذْبَةٌ قَطُّ كُلَّ الْمُدَّةِ الَّتِي قَضَاهَا قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَهِيَ أَرْبَعُونَ سَنَةً، فَالْكَذِبُ نَقْصٌ يُنَافِي مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ.

وَيَجِبُ لِلأَنْبِيَاءِ الْفَطَانَةُ أَيِ الذَّكَاءُ فَكُلُّهُمْ كَانُوا أَذْكِيَاءَ فُطَنَاءَ أَصْحَابَ عُقُولٍ كَامِلَةٍ قَوِيَّةِ الْفَهْمِ. وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الْبَلادَةُ وَالْغَبَاوَةُ فَلَيْسَ فِيهِمْ بَلِيدٌ أَيْ مَنْ هُوَ ضَعِيفُ الْفَهْمِ لا يَفْهَمُ الْكَلامَ بِسُرْعَةٍ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُكَرَّرَ عَلَيْهِ عِدَّةَ مَرَّاتٍ وَلا مَنْ هُوَ ضَعِيفٌ عَنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ لِمَنْ يُعَارِضُهُ بِالْبَيَانِ وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ غَبِيٌّ أَيْ فَهْمُهُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا أَغْبِيَاءَ لَنَفَرَ النَّاسُ مِنْهُمْ لِغَبَاوَتِهِمْ، وَاللَّهُ حَكِيمٌ لا يَفْعَلُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ أُرْسِلُوا لِيُبَلِّغُوا النَّاسَ مَصَالِحَ ءَاخِرَتِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَالْبَلادَةُ تُنَافِي هَذَا الْمَطْلُوبَ مِنْهُمْ.

وَيَجِبُ لِلأَنْبِيَاءِ الأَمَانَةُ فَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الْخِيَانَةُ فِي الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ وَالأَحْوَالِ فَإِذَا اسْتَنْصَحَهُمْ شَخْصٌ لا يَكْذِبُونَ عَلَيْهِ فَيُوهِمُونَهُ خِلافَ الْحَقِيقَةِ وَإِذَا وَضَعَ عِنْدَهُمْ شَخْصٌ شَيْئًا لا يُضَيِّعُونَهُ.

وَالأَنْبِيَاءُ سَالِمُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْكَبَائِرِ وَصَغَائِرِ الْخِسَّةِ أَيِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى دَنَاءَةِ النَّفْسِ كَسَرِقَةِ حَبَّةِ عِنَبٍ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا وَهَذِهِ هِيَ الْعِصْمَةُ الْوَاجِبَةُ لَهُمْ، وَيَجُوزُ عَلَيْهِمْ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِي لَكِنْ يُنَبَّهُونَ فَوْرًا لِلتَّوْبَةِ قَبْلَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ فِيهَا غَيْرُهُمْ. وَبِهَذَا يُجَابُ عَمَّا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الأَشَاعِرَةِ كَالسَّنُوسِيِّ فِي كُتُبِهِ الثَّلاثَةِ الْكُبْرَى وَالْوُسْطَى وَالصُّغْرَى، وَابْنِ عَاشِرٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، حَيْثُ أَوْجَبُوا لِلأَنْبِيَاءِ الْعِصْمَةَ مِنَ الْحَرَامِ وَالْمَكْرُوهِ مُحْتَجِّينَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يَحْصُلُ مِنْهُمْ مَعْصِيَةٌ مَا أَوْ مَكْرُوهٌ لَانْقَلَبَتِ الْمَعْصِيَةُ وَالْمَكْرُوهُ طَاعَةً لِأَنَّنَا مَأْمُورُونَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، يُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ يَنْدَفِعُ بِمَا ذُكِرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُلْهِمُهُمُ التَّوْبَةَ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ أَحَدٌ وَبِذَلِكَ يَزُولُ الْمَحْذُورُ.

وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ حُصُولِ ذَلِكَ مِنْهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ [سُورَةَ طَه/121]، وَءَايَاتٌ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [سُورَةَ مُحَمَّد/19].

تَنْبِيهٌ يَجِبُ الْحَذَرُ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ النَّاسِ إِنَّ ءَادَمَ كَانَ مَأْمُورًا بَاطِنًا بِالأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ مَنْهِيًّا ظَاهِرًا كَمَا فِي حَاشِيَةِ الصَّاوِيِّ عَلَى الدَّرْدِيرِ، وَهَذَا كَلامٌ لا مَعْنَى لَهُ. كَيْفَ يَجْتَمِعُ الأَمْرُ وَالنَّهْيُ فِي شَىْءٍ وَاحِدٍ.

وَمِمَّا يَجِبُ لِلأَنْبِيَاءِ الصِّيَانَةُ فَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الرَّذَالَةُ كَاخْتِلاسِ النَّظَرِ إِلَى الأَجْنَبِيَّةِ بِشَهْوَةٍ وَكَسَرِقَةِ حَبَّةِ عِنَبٍ، وَكَذَلِكَ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ السَّفَاهَةُ كَالَّذِي يَقُولُ أَلْفَاظًا شَنِيعَةً، وَكَذَلِكَ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الْجُبْنُ فَالأَنْبِيَاءُ هُمْ أَشْجَعُ خَلْقِ اللَّهِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: «كُنَّا إِذَا حَمِيَ الْوَطِيسُ فِي الْمَعْرَكَةِ نَحْتَمِي بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»، فَقَدْ أَعْطَى اللَّهُ نَبِيَّنَا قُوَّةَ أَرْبَعِينَ رَجُلًا مِنَ الأَشِدَّاءِ.

عِصْمَةُ الأَنْبِيَاءِ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ وَلُطْفٌ بِهِمْ وَلَكِنْ عَلَى وَجْهٍ يَبْقَى اخْتِيَارُهُمْ بَعْدَ الْعِصْمَةِ فِي الإِقْدَامِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالِامْتِنَاعِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ مَالَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ، وَهُوَ الْقَوْلُ السَّدِيدُ وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ إِذْ لَوْلا ذَلِكَ لَكَانُوا مَجْبُورِينَ فِي أَفْعَالِهِمْ وَمَنْ كَانَ مَجْبُورًا عَلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ وَالِامْتِنَاعِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ لا يَكُونُ مَأْجُورًا فِي فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ [سُورَةَ يُوسُف/24] فَقَدْ قِيلَ فِيهِ نَحْوُ خَمْسِ تَأْوِيلاتٍ وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَهَمَّ بِهَا﴾ مَرْبُوطٌ بِمَا بَعْدَهُ بِـ ﴿ لَوْلا أَنْ رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ فَيَكُونُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ مَا هَمَّ يُوسُفُ بِالْمَرَّةِ لِأَنَّهُ رَأَى الْبُرْهَانَ، أَمَّا لَوْ لَمْ يَرَ الْبُرْهَانَ لَهَمَّ، وَالْبُرْهَانُ هُوَ الْعِصْمَةُ أَيْ أَنَّهُ أُلْهِمَ أَنَّ الأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ عَنْ مِثْلِ هَذَا الشَّىْءِ وَأَنَّهُ سَيُؤْتَى النُّبُوَّةَ فَلَمْ يَهُمَّ، هَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ. وَالْخُلاصَةُ أَنَّ الأَنْبِيَاءَ لا يَقَعُونَ فِي الزِّنَى وَلا يَهُمُّونَ بِهِ. وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْمَغَارِبَةِ مَعْنَى «وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ» أَيْ هَمَّتْ بِأَنْ تَدْفَعَهُ لِيَزْنِيَ بِهَا وَهَمَّ يُوسُفُ بِدَفْعِهَا لِيَخْلُصَ مِنْهَا وَهَذَا التَّفْسِيرُ شَبِيهٌ بِمَا ذُكِرَ ءَانِفًا.

تَنْبِيهٌ مُهِمٌّ

إِنَّ مِمَّا يَجِبُ لِلأَنْبِيَاءِ التَّبْلِيغَ فَكُلُّ الأَنْبِيَاءِ مَأْمُورُونَ بِالتَّبْلِيغِ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾.

فَمَعْنَى تَمَنَّى فِي هَذِهِ الآيَةِ دَعَا قَوْمَهُ، وَمَعْنَى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ أَيْ يَزِيدُ الشَّيْطَانُ عَلَى مَا قَالُوهُ مَا لَمْ يَقُولُوهُ لِيُوهِمُوا غَيْرَهُمْ أَنَّ الأَنْبِيَاءَ قَالُوا ذَلِكَ الْكَلامَ الْفَاسِدَ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ فَقَدْ قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: يَكْفُرُ مَنْ قَالَ إِنَّ الشَّيْطَانَ أَجْرَى كَلامًا عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ هُوَ مَدْحُ الأَوْثَانِ الثَّلاثَةِ اللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى، إِذْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُمَكِّنَ اللَّهُ الشَّيْطَانَ مِنْ أَنْ يُجْرِيَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَدْحَ الأَوْثَانِ، وَإِيضَاحُ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ أَنَّ الرَّسُولَ كَانَ يَقْرَأُ ذَاتَ يَوْمٍ سُورَةَ النَّجْمِ فَلَمَّا بَلَغَ ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى﴾ انْتَهَزَ الشَّيْطَانُ وَقْفَةَ رَسُولِ اللَّهِ وَسَكْتَتَهُ فَأَسْمَعَ الشَّيْطَانُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا بِقُرْبِ النَّبِيِّ مُوهِمًا لَهُمْ أَنَّهُ صَوْتُ النَّبِيِّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ «تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى »فَفَرِحَ الْمُشْرِكُونَ وَقَالُوا مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ ءَالِهَتَنَا قَبْلَ الْيَوْمِ بِخَيْرٍ فَجَاءَ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْقُرْءَانِ فَحَزِنَ الرَّسُولُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ تَسْلِيَةً لَهُ ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ ءَايَاتِهِ﴾. وَالصَّحِيحُ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الآيَةَ الْمَذْكُورَةَ ءَانِفًا لِتَكْذِيبِهِمْ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ﴾ أَيْ يَكْشِفُ اللَّهُ وَيُبَيِّنُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الأَنْبِيَاءِ، وَذَلِكَ ابْتِلاءٌ مِنَ اللَّهِ وَامْتِحَانٌ لِيَتَمَيَّزَ مَنْ يَتَّبِعُ مَا يَقُولُهُ الشَّيْطَانُ وَمَنْ لا يَتَّبِعُ فَيَهْلِكُ هَذَا وَيَسْعَدُ هَذَا.

وَلَيْسَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ النَّبِيُّ يُرْسَلُ إِلَى قَوْمِهِ وَأُرْسِلْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً» أَنَّ مَنْ سِوَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُمْ مَنْ سِوَى قَوْمِهِ إِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّ الأَنْبِيَاءَ غَيْرَ نَبِيِّنَا أُرْسِلُوا إِلَى أَقْوَامِهِمْ أَيْ أَنَّ النَّصَّ لَهُمْ كَانَ أَنْ يُبَلِّغُوا قَوْمَهُمْ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لا يُبَلِّغُونَ سِوَى قَوْمِهِمْ لِأَنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْ أَفْرَادِ الْمُكَلَّفِينَ وَذَلِكَ فِي حَقِّ الأَنْبِيَاءِ أَوْكَدُ.

وَلْيُعْلَمْ أَنَّ كُلَّ الأَنْبِيَاءِ فُصَحَاءُ فَلَيْسَ فِيهِمْ أَرَتُّ وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ فِي لِسَانِهِ عُقْدَةٌ وَحَبْسَةٌ وَيُعَجِّلُ فِي كَلامِهِ فَلا يُطَاوِعُهُ لِسَانُهُ، وَلا تَأْتَاءُ وَلا أَلْثَغُ، وَأَمَّا الأَلْثَغُ فَهُوَ الَّذِي يُصَيِّرُ الرَّاءَ غَيْنًا أَوْ لامًا وَالسِّينَ ثَاءً وَأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمْ سَبْقُ اللِّسَانِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ وَالْعَادِيَّاتِ، لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ عَلَيْهِمْ لَارْتَفَعَتِ الثِّقَةُ فِي صِحَّةِ مَا يَقُولُونَهُ وَلَقَالَ قَائِلٌ لَمَّا يَبْلُغُهُ كَلامٌ عَنِ النَّبِيِّ «مَا يُدْرِينَا أَنَّهُ يَكُونُ قَالَهُ عَلَى وَجْهِ سَبْقِ اللِّسَانِ»، فَلا يَحْصُلُ مِنَ النَّبِيِّ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ كَلامٌ غَيْرُ الَّذِي أَرَادَ قَوْلَهُ، أَوْ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ كَلامٌ مَا أَرَادَ قَوْلَهُ بِالْمَرَّةِ كَمَا يَحْصُلُ لِمَنْ يَتَكَلَّمُ وَهُوَ نَائِمٌ. وَأَمَّا النِّسْيَانُ الْجَائِزُ عَلَيْهِمْ فَهُوَ كَالسَّلامِ مِنْ رَكْعَتَيْنِ كَمَا حَصَلَ مَعَ الرَّسُولِ مِمَّا وَرَدَ مِنْ أَنَّهُ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ: أَقُصِرَتِ الصَّلاةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ نُسِّيتَ، قَالَ: «كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ»، ثُمَّ سَأَلَ أَصْحَابَهُ: «أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ» - وَهُوَ السَّائِلُ - فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقَامَ فَأَتَى بِالرَّكْعَتَيْنِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَمِمَّا يَسْتَحِيلُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ أَيْضًا الْجُنُونُ، وَأَمَّا الإِغْمَاءُ فَيَجُوزُ عَلَيْهِمْ، فَقَدْ كَانَ يُغْمَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ مِنْ شِدَّةِ الأَلَمِ فِي مَرَضِ وَفَاتِهِ ثُمَّ يُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ فَيُفِيقُ.

وَمِمَّا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمْ تَأْثِيرُ السِّحْرِ فِي عُقُولِهِمْ فَلا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ الرَّسُولَ أَثَّرَ السِّحْرُ فِي عَقْلِهِ وَإِنْ كَانَ قَالَهُ مَنْ قَالَهُ. وَأَمَّا تَأْثِيرُ السِّحْرِ عَلَى جَسَدِ النَّبِيِّ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِنَّهُ جَائِزٌ فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ يَهُودِيًّا عَمِلَ السِّحْرَ لِرَسُولِ اللَّهِ فَتَأَلَّمَ الرَّسُولُ مِنْ أَثَرِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ يَسْتَحِيلُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ الْجُبْنُ أَمَّا الْخَوْفُ الطَّبِيعِيُّ فَلا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمْ. الْخَوْفُ الطَّبِيعِيُّ مَوْجُودٌ فِيهِمْ وَذَلِكَ مِثْلُ النُّفُورِ مِنَ الْحَيَّةِ فَإِنَّ طَبِيعَةَ الإِنْسَانِ تَقْتَضِي الْهَرَبَ مِنَ الْحَيَّةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِثْلُ التَّخَوُّفِ مِنْ تَكَالُبِ الْكُفَّارِ عَلَيْهِ حَتَّى يَقْتُلُوهُ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ عَلَيْهِمْ. وَلَكِنْ لا يُقَالُ عَنِ النَّبِيِّ هَرَبَ لِأَنَّ هَرَبَ يُشْعِرُ بِالْجُبْنِ أَمَّا إِذَا قِيلَ هَاجَرَ فِرَارًا مِنَ الْكُفَّارِ أَيْ مِنْ أَذَى الْكُفَّارِ فَلا يُشْعِرُ بِالْجُبْنِ بَلْ ذَلِكَ جَائِزٌ مَا فِيهِ نَقْصٌ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكَذَلِكَ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمْ كُلُّ مَرَضٍ مُنَفِّرٍ. فَمَنْ نَسَبَ إِلَيْهِمُ الْكَذِبَ أَوِ الْخِيَانَةَ أَوِ الرَّذَالَةَ أَوِ السَّفَاهَةَ أَوِ الْجُبْنَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَقَدْ كَفَرَ.

الشَّرْحُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا حَسَنَ الْوَجْهِ حَسَنَ الصَّوْتِ وَإِنَّ نَبِيَّكُمْ أَحْسَنُهُمْ وَجْهًا وَأَحْسَنُهُمْ صَوْتًا» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. فَالأَنْبِيَاءُ كُلُّهُمْ كَانُوا ذَوِي حُسْنٍ وَجَمَالٍ فَلا يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الْمَرَضُ الَّذِي يُنَفِّرُ النَّاسَ مِنْهُمْ، اللَّهُ تَعَالَى لا يُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الأَمْرَاضَ، أَمَّا الْمَرَضُ الْمُؤْلِمُ الشَّدِيدُ حَتَّى لَوْ كَانَ يَحْصُلُ مِنْهُ الإِغْمَاءُ أَيِ الْغَشْيُ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا الأَمْرَاضُ الْمُنَفِّرَةُ فَلا تَجُوزُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ، هَذَا أَيُّوبُ عَلَيْهِ السَّلامُ الَّذِي ابْتَلاهُ اللَّهُ بَلاءً شَدِيدًا اسْتَمَرَّ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ عَامًا وَفَقَدَ مَالَهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ عَافَاهُ اللَّهُ وَأَغْنَاهُ وَرَزَقَهُ الْكَثِيرَ مِنَ الأَوْلادِ، بَعْضُ النَّاسِ الْجُهَّالِ يَفْتَرُونَ عَلَيْهِ وَيَقُولُونَ إِنَّ الدُّودَ أَكَلَ جِسْمَهُ فَكَانَ الدُّودُ يَتَسَاقَطُ ثُمَّ يَأْخُذُ الدُّودَةَ وَيُعِيدُهَا إِلَى مَكَانِهَا مِنْ جِسْمِهِ وَيَقُولُ: «يَا مَخْلُوقَةَ رَبِّي كُلِي مِنْ رِزْقِكِ الَّذِي رَزَقَكِ»، نَعُوذُ بِاللَّهِ هَذَا ضَلالٌ مُبِينٌ.

وَأَمَّا نَبِيُّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ الَّذِي تَأَثَّرَ لِسَانُهُ بِالْجَمْرَةِ الَّتِي تَنَاوَلَهَا وَوَضَعَهَا فِي فَمِهِ حِينَ كَانَ طِفْلًا أَمَامَ فِرْعَوْنَ لِحِكْمَةٍ، مَا تَرَكَتْ تِلْكَ الْجَمْرَةُ فِي لِسَانِهِ أَنْ يَكُونَ كَلامُهُ غَيْرَ مُفْهِمٍ لِلنَّاسِ إِنَّمَا كَانَتْ عُقْدَةً خَفِيفَةً بَلْ كَانَ كَلامُهُ مُفْهِمًا لا يُبْدِلُ حَرْفًا بِحَرْفٍ بَلْ يَتَكَلَّمُ عَلَى الصَّوَابِ لَكِنْ كَانَ فِيهِ عُقْدَةٌ خَفِيفَةٌ أَيْ بُطْءٌ مِنْ أَثَرِ تِلْكَ الْجَمْرَةِ ثُمَّ دَعَا اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ قَالَ: ﴿وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّنْ لِّسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾ [سُورَةَ طَه] فَأَذْهَبَهَا اللَّهُ عَنْهُ.

الْحَاصِلُ أَنَّ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ كُلَّهُمْ أَصْحَابُ خِلْقَةٍ سَوِيَّةٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ ذُو عَاهَةٍ فِي خِلْقَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَعْرَجُ وَلا كَسِيحٌ وَلا أَعْمَى إِنَّمَا يَعْقُوبُ مِنْ شِدَّةِ بُكَائِهِ عَلَى يُوسُفَ ابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنْ شِدَّةِ الْحُزْنِ فَعَمِيَ ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بَصَرَهُ لَمَّا أَرْسَلَ يُوسُفُ بِقَمِيصِهِ مِنْ مِصْرَ إِلَى مَدْيَنَ وَهِيَ الْبَلْدَةُ الَّتِي فِيهَا أَبُوهُ فَشَمَّ يَعْقُوبُ رِيحَ يُوسُفَ فِي هَذَا الْقَمِيصِ، اللَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ يَشُمُّ رِيحَ يُوسُفَ فَارْتَدَّ بَصِيرًا هُوَ لَمْ يَكُنْ أَعْمَى مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَلا كَانَ بِهِ عَمًى قَبْلَ هَذِهِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي أَصَابَتْهُ بِفَقْدِ ابْنِهِ يُوسُفَ. فَالنَّبِيُّ فِي الْبَدْءِ أَوَّلَ مَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَعْمَى لِمُدَّةٍ كَمَا حَصَلَ لِنَبِيِّ اللَّهِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ.

وَأَمَّا الَّذِي يَقُولُ إِنَّ ءَادَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ كَانَ مُتَوَحِّشًا قَصِيرَ الْقَامَةِ شَبِيهًا بِالْقِرْدِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ كَانَ يَمْشِي فِي الأَرْضِ عُرْيَانًا كَالْبَهَائِمِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَكْذِيبًا لِلْقُرْءَانِ، قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ التِّينِ: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [سُورَةَ التِّين] أَيْ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ وَقَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:« إِنَّ ءَادَمَ كَانَ طُولُهُ سِتِّينَ ذِرَاعًا وَعَرْضُهُ سَبْعَةً وَافِرَ الشَّعَرِ».

فَقَوْلُ بَعْضِ الْمُلْحِدِينَ فِي الْعُصُورِ الأَخِيرَةِ إِنَّ أَوَّلَ الْبَشَرِ كَانَ عَلَى صُورَةِ الْقِرْدِ تَكْذِيبٌ لِلآيَةِ الْمَذْكُورَةِ وَلِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «كَانَ ءَادَمُ سِتِّينَ ذِرَاعًا طُولًا فِي سَبْعَةِ أَذْرُعٍ عَرْضًا» رَوَاهُ أَحْمَدُ.

تَنْبِيهٌ لا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ فِعْلَ اللِّوَاطِ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمِ نَبِيِّ اللَّهِ لُوطٍ، وَقَدْ ذَكَرَ الْفَقِيهُ الْمُحَدِّثُ الأُصُولِيُّ بَدْرُ الدِّينِ الزَّرْكَشِيُّ فِي كِتَابِ تَشْنِيفِ الْمَسَامِعِ مَا نَصُّهُ: «أَنَّ الأَفْعَالَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْمَصَادِرِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالأَفْعَالُ أَصْلٌ لِلصِّفَاتِ الْمُشْتَقَّةِ مِنْهَا فَتَكُونُ الْمَصَادِرُ أَصْلًا لَهَا أَيْضًا» اهـ.

وَقَالَ أَبُو مَنْصُورٍ اللُّغَوِيُّ: «وَكُلُّ أَسْمَاءِ الأَنْبِيَاءِ أَعْجَمِيَّةٌ إِلَّا أَرْبَعَةً: ءَادَمُ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَمُحَمَّدٌ» اهـ. وَهَذَا خِلافُ مَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ، فَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ: «أَرْبَعَةٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ مِنَ الْعَرَبِ هُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَمُحَمَّدٌ» وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ أَسْمَاءَ غَيْرِ الأَرْبَعَةِ أَعْجَمِيَّةٌ وَيُمْكِنُنَا تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّ الأَرْبَعَةَ عَرَبٌ وَمَنْ سِوَاهُمْ لا يُسَمَّوْنَ عَرَبًا مِنْ حَيْثُ الْجِنْسِيَّةُ وَعَلَى هَذَا لا يُعَارِضُ كَوْنُ لَفْظِ ءَادَمَ عَرَبِيًّا. وَكَيْفَ يَمْضِي هَذَا الزَّمَنُ الطَّوِيلُ مِنْ ءَادَمَ إِلَى لُوطٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ وَهِيَ أَوَّلُ لُغَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا ءَادَمُ وَعَلَّمَهَا أَبْنَاءَهُ كَلُغَاتٍ غَيْرِهَا فِيهَا فِعْلُ اللِّوَاطِ بَلْ كانَ أَوْلادُ ءَادَمَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ يَعْرِفُونَ كَلِمَةَ لاطَ بِتَصَارِيفِهَا كَمَا كَانُوا يَعْرِفُونَ كَلِمَةَ الزِّنَى وَتَصَارِيفَهَا، وَقَائِلُ هَذَا كَالَّذِي يَقُولُ إِنَّ الْبَشَرَ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ كَلِمَةَ الزِّنَى وَتَصَارِيفَهَا حَتَّى مَضَى عَلَى الْبَشَرِ زَمَانٌ طَوِيلٌ، وَكَيْفَ يَكُونُ هُودٌ وَصَالِحٌ اللَّذَانِ هُمَا مَبْعُوثَانِ إِلَى الْعَرَبِ لُغَتُهُمَا وَلُغَةُ مَنْ أُرْسِلا إِلَيْهِ خَالِيَةً عَنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَلا يُغْتَرَّ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ الشَّنِيعَةَ مَذْكُورَةٌ فِي كِتَابِ لِسَانِ الْعَرَبِ وَشَرْحِ الْقَامُوسِ وَلَيْسَ لَهُمَا حُجَّةٌ إِلَّا تَقْلِيدُ اللَّيْثِ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ زَيَّفَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ الزَّجَّاجُ.

وَهِيَ أَوَّلُ لُغَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا ءَادَمُ فَلا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ لُوطًا مُشَتَقٌّ مِنَ اللِّوَاطِ لِأَنَّ اللِّوَاطَ لَفْظٌ عَرَبِيٌّ وَهُوَ مَصْدَرُ لاطَ، وَلُوطٌ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ فَكَيْفَ يَدَّعِي مُدَّعٍ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ اللِّوَاطِ، وَكَذَلِكَ عَكْسُهُ وَهُوَ الْقَوْلُ بِأَنَّ اللِّوَاطَ مَأْخُوذٌ مِنْ لُوطٍ، فَلَفْظُ اللِّوَاطِ كَانَ قَبْلَ قَوْمِ لُوطٍ لِأَنَّ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ لُغَةٌ قَدِيمَةٌ حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ أَوَّلَ لُغَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا ءَادَمُ هِيَ الْعَرَبِيَّةُ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ: «أَنَّ ءَادَمَ عَطَسَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ»، وَإِنَّمَا قَوْمُ لُوطٍ هُمْ أَوَّلُ مَنْ فَعَلَ تِلْكَ الْفِعْلَةَ الشَّنِيعَةَ، أَمَّا اللَّفْظُ كَانَ مَوْضُوعًا بَيْنَ الْمُتَكَلِّمِينَ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ قَبْلَ لُوطٍ وَهُمْ قَوْمُ عَادٍ، وَلَيْسَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ قَوْلِ لُوطٍ لِقَوْمِهِ: ﴿أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف/80] أَنَّ لَفْظَ اللِّوَاطِ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ فِعْلَ تِلْكَ الْفَاحِشَةِ لَمْ يَسْبِقْهُمْ بِهَا قَبْلَهُمْ غَيْرُهُمْ، فَوَضْعُ الْكَلِمَةِ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَاللِّوَاطُ هَكَذَا اللَّفْظُ سَابِقٌ لَكِنَّ التَّنْفِيذَ مَا حَصَلَ إِلَّا فِي قَوْمِ لُوطٍ، وَلا يُقَاسُ الِاشْتِقَاقُ عَلَى الْمُعَرَّبِ فَالْمُعَرَّبُ لا يُسَمَّى اشْتِقَاقًا فَهُوَ شَىْءٌ وَالِاشْتِقَاقُ شَىْءٌ ءَاخَرُ فَنَقُولُ فِي الْمُعَرَّبِ: نَقْلُ لُغَةٍ أَعْجَمِيَّةٍ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ وَلَمْ يَسْتَعْمِلُوهُ عَلَى أَنَّهُ عَرَبِيٌّ، فَأَسْمَاءُ الأَعْيَانِ نُقِلَ عَدَدٌ مِنْهُمْ وَالْعَرَبُ اسْتَعْمَلَتْهَا اسْتِعْمَالًا، وَلَيْسَ هُنَاكَ أَنَّهُ اشْتُقَّ هَذَا مِنْ هَذَا، فَرْقٌ بَعِيدٌ بَيْنَ الْمُعَرَّبِ وَالِاشْتِقَاقِ.

ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَانَ الأَنْبِيَاءَ مِنَ الْمُنَفِّرَاتِ كَكَوْنِ أَسَامِيهِمْ مِنَ الأَسْمَاءِ الْقَبِيحَةِ الشَّنِيعَةِ وَأَخْلاقِهِمْ مِنَ الأَخْلاقِ الْقَبِيحَةِ، فَمَنْ نَسَبَ إِلَيْهِمُ اسْمًا شَنِيعًا بَشِعًا فَقَدِ انْتَقَصَهُمْ، فَكَيْفَ اسْتَسَاغَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ الْقَوْلَ بِأَنَّ لُوطًا مَأْخُوذٌ مِنَ اللِّوَاطِ، وَهَذِهِ الْمَقَالَةُ بَاطِلَةٌ شَنِيعَةٌ لُغَةً وَشَرْعًا، فَلْيُحْذَرْ كَلامُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنَ اللُّغَوِيِّينَ، فَلْيُحْذَرْ مِنْ تَقْلِيدِ هَؤُلاءِ، وَكَيْفَ خَفِيَ عَلَى مَنْ قَالَ تِلْكَ الْمَقَالَةَ أَنَّ الأَفْعَالَ وَأَسْمَاءَ الأَفْعَالِ وَأَسْمَاءَ الْفَاعِلِينَ وَالصِّفَةَ الْمُشَبَّهَةَ وَأَفْعَلَ التَّفْضِيلِ كُلُّ ذَلِكَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَصْدَرِ، قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْحَرِيرِيُّ فِي مُلْحَةِ الإِعْرَابِ:

وَالْمَصْدَرُ الأَصْلُ وَأَيُّ أَصْلِ وَمِنْهُ يَا صَاحِ اشْتِقَاقُ الْفِعْلِ

فَكَيْفَ اسْتَجَازُوا أَنْ يَكُونَ اسْمُ هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ مُشْتَقًّا مِنَ اللِّوَاطِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ اللِّوَاطُ مُشْتَقًّا مِنْهُ، اللَّهُ تَعَالَى عَصَمَ الأَنْبِيَاءَ مِنْ أَنْ تَكُونَ أَسْمَاؤُهُمْ خَبِيثَةً أَوْ مُشْتَقَّةً مِنْ خَبِيثٍ أَوْ يُشْتَقُّ مِنْهَا خَبِيثٌ، وَلا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ أَنْ قَوْلَ هَؤُلاءِ لا يَنْطَبِقُ عَلَى أَنْوَاعِ الِاشْتِقَاقِ الثَّلاثَةِ الَّتِي بَيَّنَهَا الْعُلَمَاءُ فِي مَحَلِّهَا.

وَقَدْ صَحَّ أَنَّ الرَّسُولَ قَالَ: «مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا حَسَنَ الْوَجْهِ حَسَنَ الصَّوْتِ »رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، فَإِذَا كَانَ الأَنْبِيَاءُ هَكَذَا يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ أَسَامِيهِمْ حَسَنَةً، وَمَا نَقَلَهُ الأَزْهَرِيُّ عَنِ اللَّيْثِ مِنْ أَنَّ النَّاسَ اشْتَقُّوا مِنِ اسْمِ لُوطٍ فِعْلًا لِمَنْ فَعَلَ اللِّوَاطَ لا يَتَّفِقُ مَعَ مَا قَالَهُ الأَزْهَرِيُّ مِنْ أَنَّ مَا سِوَى الأَسْمَاءِ الأَرْبَعَةِ مِنْ أَسْمَاءِ الأَنْبِيَاءِ عَجَمِيَّةٌ، فَلا اعْتِمَادَ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا قَوْلُ النَّاسِ لِمَنْ يَفْعَلُ تِلْكَ الْفِعْلَةَ لُوطِيٌّ فَإِنَّمَا هُوَ نِسْبَةٌ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَلَيْسَ إِلَى لُوطٍ نَفْسِهِ، عَمَلًا بِالْقَاعِدَةِ الْعَرَبِيَّةِ فِي النِّسْبَةِ مِنْ أَنَّهُمْ إِذَا نَسَبُوا شَيْئًا إِلَى اللَّفْظِ الْمُرَكَّبِ مِنْ مُضَافٍ وَمُضَافٍ إِلَيْهِ يَذْكُرُونَ لَفْظَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فَيَقُولُونَ فِي عَبْدِ الْقَيْسِ فُلانٌ قَيْسِيٌّ وَلا يَفْهَمُونَ مِنْهُ إِلَّا الْقَبِيلَةَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ لُوطِيّ، ثُمَّ هَذِهِ لَيْسَتْ مِنَ الْعِبَارَاتِ الْمُسْتَحْسَنَةِ فَإِنْ أُرِيدُ اللَّفْظُ عِنْدَ النِّسْبَةِ يُقَالُ فُلانٌ اللِّوَاطِيُّ أَوْ فُلانٌ اللَّائِطُ.

هَذَا وَقَوْلُ اللَّيْثِ إِنَّ النَّاسَ اشْتَقُّوا مِنِ اسْمِ لُوطٍ فِعْلًا لِمَنْ فَعَلَ اللِّوَاطَ لَيْسَ صَرِيحًا فِي أَنَّ هَذَا اشْتِقَاقٌ صَحِيحٌ لُغَةً فَلَعَلَّ مُرَادَهُ أَنْ هَذِهِ نِسْبَةٌ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ وَإِنَّمَا بَعْضُ الْكُفَّارِ فَعَلُوا ذَلِكَ وَلا يُرِيدُ بِذَلِكَ تَصْحِيحَ اشْتِقَاقِ ذَلِكَ الْفِعْلِ مِنِ اسْمِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلامُ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنِ اشْتِقَاقِ لاطَ وَنَحْوِهِ مِنِ اسْمِ لُوطٍ لَيْسَ فِي شَىْءٍ مِنَ الِاشْتِقَاقِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ عِنْدَ اللُّغَوِيِّينَ، لِأَنَّ الِاشْتِقَاقَ الْمُصْطَلَحَ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ شَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَقُّ وَالْمُشْتَقُّ مِنْهُ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ لِقَوْلِهِمْ فِي تَعْرِيفِهِ: «رَدُّ لَفْظٍ إِلَى لَفْظٍ ءَاخَرَ لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا مَعَ تَقْسِيمِهِمْ أَنْوَاعَهُ الثَّلاثَةَ إِلَى أَمْثِلَةٍ مِنَ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ حَيْثُ مَثَّلُوا لِلِاشْتِقَاقِ الصَّغِيرِ [الِاشْتِقَاقُ الصَّغِيرُ هُوَ إِذَا اتَّفَقَتْ كَلِمَتَانِ فِي الْحُرُوفِ وَالتَّرْتِيبِ، فَإِنَّ حَلَب اسْمُ مَصْدَرٍ وَحَلَبَ فِعْلٌ] بِحَلَب وَحَلَبَ وَلِلْوَسَطِ بِضَرْبٍ وَضَارِبٍ وَلِلأَكْبَرِ بِثَلْبٍ وَثَلْمٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلُوطٌ عَلَيْهِ السَّلامُ هُوَ ابْنُ أَخِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ وَهُمَا لَيْسَا عَرَبِيَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ.



الْمُعْجِزَةُ

اعْلَمْ أَنَّ السَّبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ النَّبِيِّ الْمُعْجِزَةُ.

الشَّرْحُ بِالْمُعْجِزَةِ يُعْرَفُ النَّبِيُّ فَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَكَانَتْ لَهُ مُعْجِزَةٌ، وَمَعْنَى الْمُعْجِزَةِ الْعَلامَةُ الشَّاهِدَةُ الَّتِي تَشْهَدُ أَنَّ هَذَا الإِنْسَانَ الَّذِي يَقُولُ عَنْ نَفْسِهِ إِنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَأَنَّهُ صَادِقٌ، وَقَدْ أُعْطِيَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ حَتَّى قِيلَ إِنَّ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي حَصَلَتْ فِي حَالِ حَيَاتِهِ بَيْنَ الأَلْفِ وَالثَّلاثَةِ ءَالافٍ عَدَدًا، وَأَعْظَمُ الْمُعْجِزَاتِ مُعْجِزَةُ الْقُرْءَانِ الْكَرِيمِ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا أَعْطَى اللَّهُ نَبِيًّا مُعْجِزَةً إِلَّا وَأَعْطَى مُحَمَّدًا مِثْلَهَا أَوْ أَعْظَمَ مِنْهَا. فَمَنْ لَمْ يَتَعَلَّمْ شَيْئًا مِنْ مُعْجِزَاتِ الرَّسُولِ يَكُونُ مُقَصِّرًا تَقْصِيرًا كَبِيرًا.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهِيَ أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ.

الشَّرْحُ أَيْ هِيَ أَمْرٌ مُخَالِفٌ وَمُنَاقِضٌ لِلْعَادَةِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَأْتِي عَلَى وَفْقِ دَعْوَى مَنِ ادَّعَوِا النُّبُوَّةَ.

الشَّرْحُ أَيْ هَذَا الأَمْرُ الْخَارِقُ يُوَافِقُ دَعْوَى ذَلِكَ النَّبِيِّ، فَمَا لَمْ يَكُنْ مُوَافِقًا لِلدَّعْوَى لا يُسَمَّى مُعْجِزَةً كَالَّذِي حَصَلَ لِمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ الَّذِي ادَّعَى النُّبُوَّةَ مِنْ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى وَجْهِ رَجُلٍ أَعْوَرَ فَعَمِيَتِ الْعَيْنُ الأُخْرَى، فَإِنَّ هَذَا الَّذِي حَصَلَ مُنَاقِضٌ لِدَعْوَاهُ وَلَيْسَ مُوَافِقًا.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: سَالِمٌ مِنَ الْمُعَارَضَةِ بِالْمِثْلِ.

الشَّرْحُ أَيْ لا يَسْتَطِيعُ الْمُكَذِّبُونَ أَنْ يَفْعَلُوا مِثْلَهُ، فَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَقَارَنَ دَعْوَاهُ خَارِقٌ ثُمَّ ادَّعَى ءَاخَرُ أَنَّ الْمُدَّعِيَ لَيْسَ بِنَبِيٍّ وَأَظْهَرَ خَارِقًا مِثْلَهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الأَوَّلَ لَيْسَ بِنَبِيٍّ.

تَنْبِيهٌ مُهِمٌّ الْمُعْجِزَةُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهَا أَنْ تَكُونَ مَقْرُونَةً بِالتَّحَدِّي وَإِنَّمَا مِنْ شَرْطِهَا أَنْ تَكُونَ صَالِحَةً لِلتَّحَدِّي.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَمَا كَانَ مِنَ الأُمُورِ عَجِيبًا وَلَمْ يَكُنْ خَارِقًا لِلْعَادَةِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزَةٍ. وَكَذَلِكَ مَا كَانَ خَارِقًا لَكِنَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ كَالْخَوَارِقِ الَّتِي تَظْهَرُ عَلَى أَيْدِي الأَوْلِيَاءِ أَتْبَاعِ الأَنْبِيَاءِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُعْجِزَةٍ بَلْ يُسَمَّى كَرَامَةً.

الشَّرْحُ الَّذِي يَتَّبِعُ النَّبِيَّ بِصِدْقٍ اتِّبَاعًا تَامًّا يُؤَدِّي الْوَاجِبَاتِ وَيَجْتَنِبُ الْمُحَرَّمَاتِ وَيُكْثِرُ مِنَ النَّوَافِلِ، الأَمْرُ الْخَارِقُ الَّذِي يَظْهَرُ عَلَى يَدِهِ يُقَالُ لَهُ كَرَامَةٌ وَلا يُقَالُ لَهُ مُعْجِزَةٌ لِأَنَّ الْوَلِيَّ لا يَدَّعِي أَنَّهُ نَبِيٌّ وَإِلَّا لَمَا حَصَلَتْ لَهُ هَذِهِ الْخَوَارِقُ، وَكُلُّ كَرَامَةٍ تَحْصُلُ لِهَذَا الْوَلِيِّ فَهِيَ مُعْجِزَةٌ لِلنَّبِيِّ الَّذِي يَتَّبِعُهُ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكَذَلِكَ لَيْسَ مِنَ الْمُعْجِزَةِ مَا يُسْتَطَاعُ مُعَارَضَتُهُ بِالْمِثْلِ كَالسِّحْرِ فَإِنَّهُ يُعَارَضُ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ.

الشَّرْحُ السِّحْرُ لا يُسَمَّى مُعْجِزَةً لِأَنَّ السِّحْرَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعْمَلَ سَاحِرٌ ءَاخَرُ مِثْلَهُ، أَمَّا الْمُعْجِزَةُ لا يَسْتَطِيعُ الْمُعَارِضُونَ أَنْ يَفْعَلُوا مِثْلَهَا، أَمَّا غَيْرُ الْمُعَارِضِينَ مِنْ أَتْبَاعِ الأَنْبِيَاءِ كَالأَوْلِيَاءِ هَؤُلاءِ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُظْهِرُوا أَمْرًا يُشْبِهُ الْمُعْجِزَةَ، لِأَنَّ هَؤُلاءِ لا يُعَارِضُونَ النَّبِيَّ بَلْ يُصَدِّقُونَهُ وَيَتَّبِعُونَهُ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْمُعْجِزَةُ قِسْمَانِ: قِسْمٌ يَقَعُ بَعْدَ اقْتِرَاحٍ مِنَ النَّاسِ عَلَى الَّذِي ادَّعَى النُّبُوَّةَ، وَقِسْمٌ يَقَعُ مِنْ غَيْرِ اقْتِرَاحٍ.

الشَّرْحُ بَعْضُ الأَنْبِيَاءِ مُعْجِزَاتُهُمْ تَظْهَرُ لَمَّا يَطْلُبُ مِنْهُمُ النَّاسُ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ، وَبَعْضٌ مِنْ دُونِ اقْتِرَاحٍ يَظْهَرُ عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنْ دُونِ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُمْ أَحَدٌ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَالأَوَّلُ نَحْوُ نَاقَةِ صَالِحٍ الَّتِي خَرَجَتْ مِنَ الصَّخْرَةِ. اقْتَرَحَ قَوْمُهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا مَبْعُوثًا إِلَيْنَا لِنُؤْمِنَ بِكَ فَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ نَاقَةً وَفَصِيلَهَا فَأَخْرَجَ لَهُمْ نَاقَةً مَعَهَا فَصِيلُهَا (أَيْ وَلَدُهَا) فَانْدَهَشُوا فَآمَنُوا بِهِ.

الشَّرْحُ إِنَّ مِمَّا جَاءَ فِي قِصَّةِ قَوْمِ صَالِحٍ أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ صَالِحٍ أَنْ يُظْهِرَ لَهُمْ مُعْجِزَةً وَهِيَ أَنْ يُخْرِجَ لَهُمْ نَاقَةً مَعَهَا وَلَدُهَا مِنَ الصَّخْرَةِ فَأَخْرَجَ لَهُمْ ثُمَّ حَذَّرَهُمْ أَنْ يَتَعَرَّضُوا لَهَا، وَكَانَ مِمَّا امْتُحِنَ بِهِ قَوْمُ صَالِحٍ أَنْ جَعَلَ الْيَوْمَ الَّذِي تَرِدُ فِيهِ نَاقَةُ صَالِحٍ الْمَاءَ لا تَرِدُ مَوَاشِيهِمُ الْمَاءَ، وَكَانَتْ هَذِهِ النَّاقَةُ تَكْفِيهِمْ بِحَلِيبِهَا فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَتَآمَرَ تِسْعَةُ أَشْخَاصٍ مِنْهُمْ عَلَى أَنْ يَقْتُلُوهَا فَقَتَلُوهَا وَبَعْدَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ نَزَلَ بِهِمُ الْعَذَابُ فَمَحَاهُمْ، قَالَ تَعَالَى: ﴿فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [سُورَةَ فُصِّلَتْ].

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَاذِبًا فِي قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ لَمْ يَأْتِ بِهَذَا الأَمْرِ الْعَجِيبِ الْخَارِقِ لِلْعَادَةِ الَّذِي لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَنْ يُعَارِضَهُ بِمِثْلِ مَا أَتَى بِهِ، فَثَبَتَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ. وَلا يَسَعُهُمْ إِلَّا الإِذْعَانُ وَالتَّصْدِيقُ لِأَنَّ الْعَقْلَ يُوجِبُ تَصْدِيقَ مَنْ أَتَى بِمْثِلِ هَذَا الأَمْرِ الَّذِي لا يُسْتَطَاعُ مُعَارَضَتُهُ بِالْمِثْلِ مِنْ قِبَلِ الْمُعَارِضِينَ. فَمَنْ لَمْ يُذْعِنْ وَعَانَدَ يُعَدُّ مُهْدِرًا لِقِيمَةِ الْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ.



مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي حَصَلَتْ لِمَنْ قَبْلَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي حَصَلَتْ لِمَنْ قَبْلَ مُحَمَّدٍ عَدَمُ تَأْثِيرِ النَّارِ الْعَظِيمَةِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ حَيْثُ لَمْ تَحْرِقْهُ وَلا ثِيَابَهُ.

الشَّرْحُ سَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ أَرَادَ مِنْهُ قَوْمُهُ أَنْ يَتْرُكَ دِينَهُ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ وَيَتَّبِعَ دِينَهُمُ الْبَاطِلَ لِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ فَأَبَى فَأَضْرَمُوا لَهُ نَارًا عَظِيمَةً مَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قُوَّتِهَا أَنْ يَقْتَرِبُوا مِنْهَا فَقَذَفُوهُ إِلَيْهَا بِالْمِنْجَنِيقِ وَلَكِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سَلَّمَهُ فَكَانَتِ النَّارُ بَرْدًا وَسَلامًا عَلَيْهِ فَلَمْ تُحْرِقْهُ وَلا ثِيَابَهُ وَإِنَّمَا أَحْرَقَتِ الْقَيْدَ الَّذِي قَيَّدُوهُ بِهِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمِنْهَا انْقِلابُ عَصَا مُوسَى ثُعْبَانًا حَقِيقِيًّا ثُمَّ عَوْدُهَا إِلَى حَالَتِهَا بَعْدَ أَنِ اعْتَرَفَ السَّحَرَةُ الَّذِينَ أَحْضَرَهُمْ فِرْعَوْنُ لِمُعَارَضَتِهِ وَأَذْعَنُوا فَآمَنُوا بِاللَّهِ وَكَفَرُوا بِفِرْعَوْنَ وَاعْتَرَفُوا لِمُوسَى بِأَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا جَاءَ بِهِ.

الشَّرْحُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لِسَيِّدِنَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ انْقِلابُ عَصَاهُ ثُعْبَانًا حَقِيقِيًّا، وَذَلِكَ لَمَّا تَحَدَّى فِرْعَوْنُ سَيِّدَنَا مُوسَى، فَجَمَعَ فِرْعَوْنُ سَبْعِينَ سَاحِرًا مِنْ كِبَارِ السَّحَرَةِ الَّذِينَ عِنْدَهُ، فَأَلْقَوِا الْحِبَالَ الَّتِي فِي أَيْدِيهِمْ فَخُيِّلَ لِلنَّاسِ أَنَّهَا حَيَّاتٌ تَسْعَى، فَأَلْقَى سَيِّدُنَا مُوسَى بِعَصَاهُ فَانْقَلَبَ الْعَصَا ثُعْبَانًا حَقِيقِيًّا أَكَلَ تِلْكَ الْحِبَالَ الَّتِي رَمَاهَا السَّحَرَةُ، فَعَرَفَ السَّحَرَةُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ السِّحْرِ وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ لا يَسْتَطِيعُونَ مُعَارَضَتَهُ بِالْمِثْلِ، فَقَالُوا: ءَامَنَّا بِرَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ، فَغَضِبَ فِرْعَوْنُ لِأَنَّهُمْ ءَامَنُوا قَبْلَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ وَتَرَكُوا مَا كَانُوا عَلَيْهِ فَأَضْرَمَ لَهُمْ نَارًا عَظِيمَةً فَلَمْ يَرْجِعُوا عَنِ الإِيـمَانِ بِرَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ فَقَتَلَهُمْ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمِنْهَا مَا ظَهَرَ لِلْمَسِيحِ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَذَلِكَ لا يُسْتَطَاعُ مُعَارَضَتُهُ بِالْمِثْلِ فَلَمْ تَسْتَطِعِ الْيَهُودُ الَّذِينَ كَانُوا مُولَعِينَ بِتَكْذِيبِهِ وَحَرِيصِينَ عَلَى الِافْتِرَاءِ عَلَيْهِ أَنْ يُعَارِضُوهُ بِالْمِثْلِ. وَقَدْ أَتَى أَيْضًا بِعَجِيبَةٍ أُخْرَى عَظِيمَةٍ وَهِيَ إِبْرَاءُ الأَكْمَهِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ مُعَارَضَتَهُ بِالْمِثْلِ مَعَ تَوَفُّرِ الطِّبِّ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ. فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِهِ فِي كُلِّ مَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ وُجُوبِ عِبَادَةِ الْخَالِقِ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ إِشْرَاكٍ بِهِ وَوُجُوبِ مُتَابَعَتِهِ فِي الأَعْمَالِ الَّتِي يَأْمُرُهُمْ بِهَا.

الشَّرْحُ سَيِّدُنَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى، وَالَّذِي حَصَلَ أَنَّهُ كَانَ مَلِكٌ مِنَ الْمُلُوكِ مَحْمُولٌ عَلَى النَّعْشِ يَذْهَبُونَ بِهِ فَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى سَيِّدُنَا الْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلامُ أَنْ يُحْيِيَهُ فَأَحْيَاهُ اللَّهُ، رَأَى الْيَهُودُ ذَلِكَ وَمَعَ ذَلِكَ قَالُوا لَهُ أَنْتَ سَاحِرٌ.

وَكَذَلِكَ كَانَ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ إِبْرَاءُ الأَكْمَهِ أَيِ الَّذِي وُلِدَ أَعْمَى، فَقَدْ كَانَ يُؤْتَى لَهُ بِالأَعْمَى فَيَمْسَحُ لَهُ عَلَى وَجْهِهِ بِيَدِهِ الشَّرِيفَةِ فَيَتَعَافَى.

وَكُلُّ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ هَؤُلاءِ الأَنْبِيَاءِ وَمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ وُجُوبِ الإِيـمَانِ بِاللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ إِشْرَاكٍ بِهِ وَوُجُوبِ طَاعَتِهِمْ فِيمَا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِهِ. فَظَهَرَ بُطْلانُ قَوْلِ بَعْضِ الْمُلْحِدِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ إِنَّ مَا أَتَى بِهِ مُحَمَّدٌ وَعِيسَى مِنَ الْمُعْجِزَاتِ هُوَ تَخْدِيرٌ لِأَفْكَارِ النَّاسِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ السِّحْرِ، وَبُطْلانُ هَذَا ظَاهِرٌ لِأَنَّ السِّحْرَ يُعَارَضُ بِالْمِثْلِ وَهَذَا الَّذِي يُظْهِرُهُ اللَّهُ عَلَى أَيْدِي الأَنْبِيَاءِ مِنَ الْخَوَارِقِ لا يُعَارَضُ بِالْمِثْلِ مِنْ قَبِيلِ السَّحَرَةِ، إِنَّمَا كَلامُ هَذَا الْمُلْحِدِ تَمْوِيهٌ عَلَى ضُعَفَاءِ الْعُقُولِ لِأَنَّ هَؤُلاءِ الْعَوَامَّ لا يَعْرِفُونَ الْمَعْنَى الْفَارِقَ بَيْنَ السِّحْرِ وَالْمُعْجِزَةِ.



مِنْ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

وَأَمَّا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى جَمِيعِ إِخْوَانِهِ الأَنْبِيَاءِ: حَنِينُ الْجِذْعِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَنِدُ حِينَ يَخْطُبُ إِلَى جِذْعِ نَخْلٍ فِي مَسْجِدِهِ قَبْلَ أَنْ يُعْمَلَ لَهُ الْمِنْبَرُ، فَلَمَّا عُمِلَ لَهُ الْمِنْبَرُ صَعِدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَبَدَأَ بِالْخُطْبَةِ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَنَّ الْجِذْعُ حَتَّى سَمِعَ حَنِينَهُ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْتَزَمَهُ - أَيْ ضَمَّهُ وَاعْتَنَقَهُ- فَسَكَتَ.

الشَّرْحُ هَذَا الْجِذْعُ الَّذِي حَنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُ خَلَقَ فِيهِ الإِدْرَاكَ وَالْمَحَبَّةَ وَالشَّوْقَ لِرَسُولِ اللَّهِ فَحَنَّ مِنْ شِدَّةِ الشَّوْقِ وَكَانَ هَذَا الْجِذْعُ فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ.

وَحَدِيثُ حَنِينِ الْجِذْعِ هَذَا مُتَوَاتِرٌ كَمَا أَنَّ الْقُرْءَانَ مُتَوَاتِرٌ وَهَذِهِ مِنْ أَعْجَبِ الْمُعْجِزَاتِ وَيَصِحُّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّهَا أَعْجَبُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى الَّذِي حَصَلَ لِلْمَسِيحِ لِأَنَّ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى يَتَضَمَّنُ رُجُوعَ هَؤُلاءِ الأَشْخَاصِ إِلَى مِثْلِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتُوا، أَمَّا الْخَشَبُ فَهُوَ مِنَ الْجَمَادِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِإِرَادَةٍ فَهُوَ أَعْجَبُ، هَذَا مِنْ أَظْهَرِ الْمُعْجِزَاتِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْطَاقُ الْعَجْمَاءِ أَيِ الْبَهِيمَةِ. رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ يَعْلَى بنِ مُرَّةَ الثَّقَفِيِّ قَالَ: بَيْنَمَا نَسِيرُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ مَرَّ بِنَا بَعِيرٌ يُسْنَى عَلَيْهِ [أَيْ يُحْمَلُ عَلَيْهِ الْمَاءُ] فَلَمَّا رَءَاهُ الْبَعِيرُ جَرْجَرَ [أَيْ أَصْدَرَ صَوْتًا مِنْ حَلْقِهِ] فَوَضَعَ جِرَانَهُ [أَيْ مُقَدَّمَ عُنُقِهِ] فَوَقَفَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَيْنَ صَاحِبُ هَذَا الْبَعِيرِ؟ فَجَاءَهُ فَقَالَ: بِعْنِيهِ، فَقَالَ: بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّهُ لِأَهْلِ بَيْتٍ مَا لَهُمْ مَعِيشَةٌ غَيْرُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ: «أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ أَمْرِهِ فَإِنَّهُ شَكَا كَثْرَةَ الْعَمَلِ وَقِلَّةَ الْعَلَفِ فَأَحْسِنُوا إِلَيْهِ».

وَأَخْرَجَ ابْنُ شَاهِينَ فِي دَلائِلِ النُّبُوَّةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ جَعْفَرٍ قَالَ: «أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ خَلْفَهُ فَدَخَلَ حَائِطَ [أَيْ بُسْتَانَ] رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَإِذَا جَمَلٌ فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَنَّ فَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ ذَفَرَاتِهِ [أَيْ دُمُوعَهُ] فَسَكَنَ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ؟ فَجَاءَ فَتًى مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: هَذَا لِي، فَقَالَ: أَلا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ [أَيْ تُتْعِبُهُ]». وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ كَمَا قَالَ الْمُحَدِّثُ مُرْتَضَى الزَّبِيدِيُّ فِي شَرْحِ إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ.

وَمِنْهَا تَفَجُّرُ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ بِالْمُشَاهَدَةِ فِي عِدَّةِ مَوَاطِنَ فِي مَشَاهِدَ عَظِيمَةٍ وَرَدَتْ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ يُفِيدُ مَجْمُوعُهَا الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ الْمُسْتَفَادَ مِنَ التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ [أَيْ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ] وَلَمْ يَحْصُلْ لِغَيْرِ نَبِيِّنَا حَيْثُ نَبَعَ مِنْ عَظْمِهِ وَعَصَبِهِ وَلَحْمِهِ وَدَمِهِ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ تَفَجُّرِ الْمِيَاهِ مِنَ الْحَجَرِ الَّذِي ضَرَبَهُ مُوسَى لِأَنَّ خُرُوجَ الْمَاءِ مِنَ الْحِجَارَةِ مَعْهُودٌ بِخِلافِهِ مِنْ بَيْنِ اللَّحْمِ وَالدَّمِ. رَوَاهُ جَابِرٌ وَأَنَسٌ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو لَيْلَى الأَنْصَارِيُّ وَأَبُو رَافِعٍ.

وَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِلَفْظِ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ حَانَتْ صَلاةُ الْعَصْرِ وَالْتَمَسَ الْوَضُوءَ [أَيْ طَلَبَ مَاءَ الْوُضُوءِ] فَلَمْ يَجِدُوهُ فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَضُوءٍ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي ذَلِكَ الإِنَاءِ فَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَتَوَضَّؤُوا فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ فَتَوَضَّأَ النَّاسُ حَتَّى تَوَضَّؤُوا مِنْ عِنْدِ ءَاخِرِهِمْ». وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ قَالَ الرَّاوِي لِأَنَسٍ: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: ثَلاثَمِائَةٍ.

وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَيْضًا: «عَطِشَ النَّاسُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ يَتَوَضَّأُ مِنْهَا فَجَهَشَ النَّاسُ [أَيْ أَقْبَلُوا إِلَيْهِ] فَقَالَ: مَا لَكُمْ؟ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ عِنْدَنَا مَا نَتَوَضَّأُ بِهِ وَلا مَا نَشْرَبُهُ إِلَّا مَا بَيْنَ يَدَيْكَ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي الرَّكْوَةِ فَجَعَلَ الْمَاءُ يَفُورُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ كَأَمْثَالِ الْعُيُونِ، فَشَرِبْنَا وَتَوَضَّأْنَا، فَقِيلَ: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: لَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا كُنَّا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً». وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمَاءَ كَانَ يَنْبُعُ مِنْ نَفْسِ اللَّحْمِ الْكَائِنِ فِي الأَصَابِعِ وَبِهِ صَرَّحَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ جَابِرٍ: «فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَخْرُجُ»، وَفِي رِوَايَةٍ «يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ».

وَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ: رَدُّ عَيْنِ قَتَادَةَ بَعْدَ انْقِلاعِهَا فَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلائِلِ عَنْ قَتَادَةَ بنِ النُّعْمَانِ أَنَّهُ أُصِيبَتْ عَيْنُهُ يَوْمَ بَدْرٍ فَسَالَتْ حَدَقَتُهُ عَلَى وَجْنَتِهِ فَأَرَادُوا أَنْ يَقْطَعُوهَا فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: لا، فَدَعَا بِهِ فَغَمَزَ حَدَقَتَهُ بِرَاحَتِهِ، فَكَانَ لا يَدْرِي أَيَّ عَيْنَيْهِ أُصِيبَتْ اهـ.

وَفِي هَاتَيْنِ الْمُعْجِزَتَيْنِ قَالَ بَعْضُ الْمَادِحِينَ شِعْرًا مِنَ الْبَسِيطِ:

إِنْ كَانَ مُوسَى سَقَى الأَسْبَاطَ مِنْ حَجَرٍ # فَإِنَّ فِي الْكَفِّ مَعْنًى لَيْسَ فِي الْحَجَرِ

إِنْ كَانَ عِيسَى بَرَا الأَعْمَى بِدَعْوَتِهِ # فَكَمْ بِرَاحَتِهِ قَدْ رَدَّ مِنْ بَصَرِ 

[بَرَا أَصْلُهُ بَرَأَ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ فِعْلٌ لازِمٌ، ثُمَّ تُرِكَتِ الْهَمْزَةُ لِلْوَزْنِ، وَالْمَعْنَى تَعَافَى الأَعْمَى بِدَعْوَةِ الْمَسِيحِ]

الشَّرْحُ خُرُوجُ الْمَاءِ بَيْنَ أَصَابِعِ النَّبِيِّ نَظِيرُ مَا أَعْطَى اللَّهُ لِمُوسَى، فَإِنَّهُ لَمَّا جَاءَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ مَعَ عَدَدٍ كَبِيرٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُوَ قَاصِدٌ الْقُدْسَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْقُدْسِ بَقِيَ زَمَانًا فِي أَرْضٍ هِيَ قَبْلَ الْقُدْسِ بِمَسَافَةٍ قَصِيرَةٍ، هُنَاكَ احْتَاجُوا إِلَى الْمَاءِ فِي تِلْكَ الأَرْضِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى: ﴿أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف/160] فَضَرَبَ الْحَجَرَ بِعَصَاهُ فَانْبَجَسَتْ مِنَ الْحَجَرِ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، فَوَزَّعَ مُوسَى هَذِهِ الْعُيُونَ الَّتِي خَرَجَتْ مِنْ هَذَا الْحَجَرِ الَّذِي ضَرَبَهُ بِعَصَاهُ عَلَى الأَسْبَاطِ أَيْ عَلَى الْقَبَائِلِ الَّتِي كَانَتْ مَعَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي هُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ يَعْقُوبَ وَهُوَ إِسْرَائِيلُ، فَصَارُوا يَأْخُذُونَ مِنْ هَذَا الْحَجَرِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَاءِ، ثُمَّ يُمْسِكُ هَذَا الْحَجَرَ ثُمَّ يُفَجِّرُ مَاءً بَعْدَ ذَلِكَ أَيْضًا ثُمَّ يُمْسِكُ وَهَكَذَا ظَلُّوا زَمَانًا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ تَسْبِيحُ الطَّعَامِ فِي يَدِهِ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «كُنَّا نَأْكُلُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّعَامَ وَنَحْنُ نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ». وَهَذِهِ الْمُعْجِزَاتُ الثَّلاثُ أَعْجَبُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى الَّذِي هُوَ أَحَدُ مُعْجِزَاتِ الْمَسِيحِ.

وَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ.

الإِسْرَاءُ ثَبَتَ بِنَصِّ الْقُرْءَانِ وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فَيَجِبُ الإِيـمَانُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْرَى اللَّهُ بِهِ لَيْلًا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى.

الشَّرْحُ أَجْمَعَ أَهْلُ الْحَقِّ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَمُحَدِّثِينَ وَمُتَكَلِّمِينَ وَمُفَسِّرِينَ وَعُلَمَاءَ وَفُقَهَاءَ عَلَى أَنَّ الإِسْرَاءَ كَانَ بِالْجَسَدِ وَالرُّوحِ وَفِي الْيَقَظَةِ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَأَنَسٍ وَعُمَرَ وَحُذَيْفَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: «إِنَّ مَنْ أَنْكَرَ الإِسْرَاءَ فَقَدْ كَذَّبَ الْقُرْءَانَ وَمَنْ كَذَّبَ الْقُرْءَانَ فَقَدْ كَفَرَ».

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَمَّا الْمِعْرَاجُ فَقَدْ ثَبَتَ بِنَصِّ الأَحَادِيثِ. وَأَمَّا الْقُرْءَانُ فَلَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ نَصًّا صَرِيحًا لا يَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا لَكِنَّهُ وَرَدَ فِيهِ مَا يَكَادُ يَكُونُ نَصًّا صَرِيحًا.

الشَّرْحُ الْمِعْرَاجُ لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْءَانِ بِنَصٍّ صَرِيحٍ لا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ إِنَّمَا وَرَدَ فِي الْقُرْءَانِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمِعْرَاجِ لَكِنَّهُ لَيْسَ نَصًّا صَرِيحًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى﴾ فَمَنْ فَهِمَ أَنَّ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى فِي السَّمَاءِ وَمَعَ ذَلِكَ أَنْكَرَ الْمِعْرَاجَ كَفَرَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ لا يَعْرِفُ وَلَمْ يَفْهَمْ ذَلِكَ مِنَ الْقُرْءَانِ وَلا اعْتَقَدَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ هَذَا اعْتِقَادُهُمْ فَلا يَكْفُرُ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَالإِسْرَاءُ قَدْ جَاءَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَاتِنَا﴾ [سُورَةَ الإِسْرَاء/1].

الشَّرْحُ السَّبْحُ فِي اللُّغَةِ التَّبَاعُدُ، وَمَعْنَى سَبِّحِ اللَّهَ تَعَالَى أَيْ بَعِّدْهُ وَنَزِّهْهُ عَمَّا لا يَلِيقُ بِهِ مِنْ شَبَهِ الْمَخْلُوقَاتِ وَصِفَاتِهِمْ كَالْحَجْمِ اللَّطِيفِ وَالْحَجْمِ الْكَثِيفِ وَصِفَاتِهِمَا كَالأَلْوَانِ وَالْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ وَالْمَقَادِيرِ كَالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ وَالتَّحَيُّزِ فِي الْجِهَةِ وَالْمَكَانِ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/11] فَلَوْ كَانَ لَهُ حَجْمٌ كَبِيرٌ أَوْ صَغِيرٌ لَكَانَ لَهُ أَمْثَالٌ كَثِيرٌ.

وَقَوْلُهُ: ﴿بِعَبْدِهِ﴾ أَيْ بِمُحَمَّدٍ، قِيلَ: لَمَّا وَصَلَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ وَالْمَرَاتِبِ الرَّفِيعَةِ فِي الْمِعْرَاجِ أَوْحَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِلَيْهِ: يَا مُحَمَّدُ بِمَاذَا أُشَرِّفُكَ، قَالَ: بِأَنْ تَنْسُبَنِي إِلَى نَفْسِكَ بِالْعُبُودِيَّةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ قَوْلَهُ: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾، مَعْنَاهُ أَنَّ هَذِهِ النِّسْبَةَ نِسْبَةَ النَّبِيِّ إِلَى رَبِّهِ بِوَصْفِ الْعُبُودِيَّةِ غَايَةُ الشَّرَفِ لِلرَّسُولِ لِأَنَّ عِبَادَ اللَّهِ كَثِيرٌ فَلِمَ خَصَّهُ فِي هَذِهِ الآيَةِ بِالذِّكْرِ، ذَلِكَ لِتَخْصِيصِهِ بِالشَّرَفِ الأَعْظَمِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَيْلًا﴾ نَصْبٌ عَلَى الظَّرْفِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَاذَا أَتْبَعَ بِذِكْرِ اللَّيْلِ؟ قُلْنَا: أَرَادَ بِقَوْلِهِ ﴿لَيْلًا﴾ بِلَفْظِ التَّأْكِيدِ تَقْلِيلَ مُدَّةِ الإِسْرَاءِ فَإِنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الشَّامِ.

وَأَمَّا الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ فَهُوَ هَذَا الَّذِي بِمَكَّةَ فَقَدْ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِحُرْمَتِهِ أَيْ لِشَرَفِهِ عَلَى سَائِرِ الْمَسَاجِدِ لِأَنَّهُ خُصَّ بِأَحْكَامٍ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ، وَمُضَاعَفَةُ الأَجْرِ فِيهِ أَكْثَرُ مِمَّا فِي غَيْرِهِ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا.

وَأَمَّا الْمَسْجِدُ الأَقْصَى فَقَدْ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ قِيلَ لِأَنَّهُ مَقَرُّ الأَنْبِيَاءِ وَمَهْبِطُ الْمَلائِكَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [سُورَةَ الصَّافَّات/99] أَيْ إِلَى حَيْثُ وَجَّهَنِي رَبِّي إِلَى مَكَانٍ أَمَرَنِي اللَّهُ أَنْ أَذْهَبَ إِلَيْهِ، أَيْ إِلَى بَرِّ الشَّامِ إِلَى فِلَسْطِينَ لِأَنَّهُ عَرَفَ بِتَعْرِيفِ اللَّهِ إِيَّاهُ أَنَّ الشَّامَ مَهْبِطُ الرَّحَمَاتِ وَأَنَّ أَكْثَرَ الْوَحْيِ يَكُونُ بِالشَّامِ وَأَنَّ أَكْثَرَ الأَنْبِيَاءِ كَانُوا بِهَا، وَلِأَنَّ فِلَسْطِينَ لَيْسَتْ تَحْتَ حُكْمِ النُّمْرُودِ، فَيَسْتَطِيعُ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ فِيهَا مِنْ غَيْرِ تَشْوِيشٍ، وَمِنْ غَيْرِ أَذًى يَلْحَقُهُ، فَانْتَقَلَ مِنْ بَلَدِهِ الْعِرَاقِ إِلَى فِلَسْطِينَ ثُمَّ بَعْدَ زَمَانٍ ذَهَبَ إِلَى مَكَّةَ، وَتَرَكَ سُرِّيَّتَهُ هَاجَرَ وَابْنَهُ إِسْمَاعِيلَ هُنَاكَ وَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَرْزُقَ أَهْلَ مَكَّةَ مِنَ الثَّمَرَاتِ فَاسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ لِأَنَّ مَكَّةَ وَادٍ لَيْسَ بِهَا زَرْعٌ، فَأَمَرَ اللَّهُ جِبْرِيلَ أَنْ يَنْقُلَ جَبَلَ الطَّائِفِ مِنْ بَرِّ الشَّامِ إِلَى هُنَاكَ فَقَلَعَهُ جِبْرِيلُ وَوَضَعَهُ هُنَاكَ، وَهَذَا الْجَبَلُ فِيهِ عِنَبٌ مِنْ أَجْوَدِ الْعِنَبِ وَفِيهِ الرُّمَّانُ وَفِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ، وَهَوَاؤُهُ لَطِيفٌ جِدًّا، وَهُوَ مُصْطَافُ أَهْلِ مَكَّةَ، ذَكَرَ ذَلِكَ الأَزْرَقِيُّ فِي كِتَابِ أَخْبَارِ مَكَّةَ، وَهُوَ كِتَابٌ جَلِيلُ الْفَوَائِدِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَاتِنَا﴾ أَيْ مَا رَأَى تِلْكَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْعَجَائِبِ وَالآيَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ.

وَقَدْ أَسْرَى اللَّهُ تَعَالَى بِسَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ مِنْ مَكَّةَ لَيْلًا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَرَّ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَى أَرْضِ الْمَدِينَةِ وَهَذَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ إِلَيْهَا. وَهُوَ بِمَكَّةَ جَاءَهُ جِبْرِيلُ لَيْلًا فَفَتَحَ سَقْفَ بَيْتِهِ وَلَمْ يَهْبِطْ عَلَيْهِمْ لا تُرَابٌ وَلا حَجَرٌ وَلا شَىْءٌ، وَكَانَ النَّبِيُّ نَائِمًا حِينَهَا فِي بَيْتِ بِنْتِ عَمِّهِ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ أُخْتِ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ فِي حَيٍّ اسْمُهُ أَجْيَاد بَيْنَ عَمِّهِ حَمْزَةَ وَجَعْفَرِ بنِ أَبِي طَالِبٍ فَأَيْقَظَهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ ذَهَبَ بِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ثُمَّ أَرْكَبَهُ عَلَى الْبُرَاقِ خَلْفَهُ وَانْطَلَقَ بِهِ فَوَصَلا إِلَى أَرْضِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: انْزِلْ فَنَزَلَ فَقَالَ لَهُ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ بِطُورِ سِينَاءَ حَيْثُ كَانَ مُوسَى لَمَّا سَمِعَ كَلامَ اللَّهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ فَوَصَلَ إِلَى مَدْيَنَ وَهِيَ بَلَدُ نَبِيِّ اللَّهِ شُعَيْبٍ فَقَالَ لَهُ انْزِلْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ فَفَعَلَ، ثُمَّ مِثْلَ ذَلِكَ فَعَلَ فِي بَيْتِ لَحْمٍ حَيْثُ وُلِدَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَلَمَّا وَصَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ صَلَّى بِالأَنْبِيَاءِ إِمَامًا، اللَّهُ جَمَعَهُمْ لَهُ هُنَاكَ كُلَّهُمْ تَشْرِيفًا لَهُ، بَعَثَهُمُ اللَّهُ وَقَدْ كَانُوا مَاتُوا قَبْلَ ذَلِكَ إِلَّا عِيسَى فَلَمْ يَكُنْ مِمَّنْ مَاتَ بَلْ كَانَ فِي السَّمَاءِ حَيًّا. ثُمَّ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى زَادَ نَبِيَّهُ تَشْرِيفًا بِأَنْ رَفَعَ ثَمَانِيَةً مِنَ الأَنْبِيَاءِ هُمْ ءَادَمُ وَعِيسَى وَيَحْيَى وَيُوسُفُ وَإِدْرِيسُ وَهَارُونُ وَمُوسَى وَإِبْرَاهِيمُ إِلَى السَّمَوَاتِ فَاسْتَقْبَلُوهُ فِي السَّمَوَاتِ، كَمَا يَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ ثُمَّ إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ كَانَ قَدْ أَخَذَ النَّبِيَّ قَبْلَ ذَلِكَ وَوَصَلَ بِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ حَيْثُ شَقَّ صَدْرَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحِسَّ بِأَلَمٍ وَغُسِلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيـمَانًا فَأَفْرَغَهَا فِي صَدْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ فِيهِ سِرَّ الْحِكْمَةِ وَالإِيـمَانِ ثُمَّ أَعَادَهُ مِثْلَمَا كَانَ وَذَلِكَ حَتَّى يَتَحَمَّلَ مُشَاهَدَةَ عَجَائِبِ خَلْقِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ شُقَّ صَدْرُ النَّبِيِّ لَمَّا كَانَ صَغِيرًا وَأُخْرِجَ مِنْ قَلْبِهِ عَلَقَةٌ سَوْدَاءُ هِيَ حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنِ ابْنِ ءَادَمَ حَتَّى يَظَلَّ طُولَ عُمُرِهِ مَحْفُوظًا مِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ.

وَمِنْ عَجَائِبِ مَا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الإِسْرَاءِ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَزَّارُ مِنْ أَنَّهُ فِي أَثْنَاءِ سَيْرِهِ مَعَ جِبْرِيلَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَأَى الدُّنْيَا بِصُورَةِ عَجُوزٍ، وَرَأَى إِبْلِيسَ مُتَنَحِّيًا عَنِ الطَّرِيقِ، وَرَأَى الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَزْرَعُونَ وَيَحْصُدُونَ فِي يَوْمَيْنِ، وَرَأَى خُطَبَاءَ الْفِتْنَةِ الَّذِينَ يَدْعُونَ لِلضَّلالِ وَالْفَسَادِ تُقْرَضُ أَلْسِنَتُهُمْ وَشِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ أَيْ بِمِقَصَّاتٍ مِنْ نَارٍ.

وَرَأَى كَيْفَ يَكُونُ حَالُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ الْفَاسِدَةِ، وَحَالُ الَّذِينَ لا يُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ، وَحَالُ تَارِكِي الصَّلاةِ، وَالزُّنَاةِ، وَالَّذِينَ لا يُؤَدُّونَ الأَمَانَةَ، وَءَاكِلِي الرِّبَا، وَءَاكِلِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى، وَشَارِبِي الْخَمْرِ، وَالَّذِينَ يَمْشُونَ بِالْغِيبَةِ، وَشَمَّ رَائِحَةً طَيِّبَةً مِنْ قَبْرِ مَاشِطَةِ بِنْتِ فِرْعَوْنَ وَكَانَتْ مُؤْمِنَةً صَالِحَةً وَجَاءَ فِي قِصَّتِهَا أَنَّهَا بَيْنَمَا كَانَتْ تَمْشُطُ رَأْسَ بِنْتِ فِرْعَوْنَ سَقَطَ الْمِشْطُ مِنْ يَدِهَا فَقَالَتْ: بِسْمِ اللَّهِ، فَسَأَلَتْهَا بِنْتُ فِرْعَوْنَ: أُولَكِ رَبٌّ إِلَهٌ غَيْرُ أَبِي، فَقَالَتِ الْمَاشِطَةُ: رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكَ هُوَ اللَّهُ، فَقَالَتْ: أَأُخْبِرُ أَبِي بِذَلِكَ، قَالَتْ: أَخْبِرِيهِ، فَأَخْبَرَتْهُ فَطَلَبَ مِنْهَا الرُّجُوعَ عَنْ دَينِهَا، فَأَبَتْ، فَحَمَّى لَهَا مَاءً حَتَّى صَارَ شَدِيدَ الْحَرَارَةِ، مُتَنَاهِيًا فِي الْحَرَارَةِ، فَأَلْقَى فِيهِ أَوْلادَهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، ثُمَّ لَمَّا جَاءَ الدَّوْرُ إِلَى طِفْلٍ كَانَتْ تُرْضِعُهُ تَقَاعَسَتْ، أَيْ صَارَ فِيهَا كَأَنَّهَا تَتَرَاجَعُ، ازْدَادَ خَوْفُهَا وَانْزِعَاجُهَا وَقَلَقُهَا، فَانْطَقَ اللَّهُ تَعَالَى الرَّضِيعَ فَقَالَ: «يَا أُمَّاهُ اصْبِرِي فَإِنَّ عَذَابَ الآخِرَةِ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا فَلا تَتَقَاعَسِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ» فَتَجَالَدَتْ فَرَمَى الطِّفْلَ، فَقَالَتْ لِفِرْعَوْنَ: لِي عِنْدَكَ طَلَبٌ أَنْ تَجْمَعَ الْعِظَامَ وَتَدْفِنَهَا، فَقَالَ: لَكِ ذَلِكَ، ثُمَّ أَلْقَاهَا فِيهِ.

ثُمَّ نُصِبَ الْمِعْرَاجُ وَالْمِعْرَاجُ مِرْقَاةٌ شِبْهُ السُّلَّمِ فَعَرَجَ بِهَا النَّبِيُّ إِلَى السَّمَاءِ، وَهَذِهِ الْمِرْقَاةُ دَرَجَةٌ مِنْهَا مِنْ فِضَّةٍ وَالأُخْرَى مِنْ ذَهَبٍ، ثُمَّ اسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ بَابَ السَّمَاءِ فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ سُؤَالُ الْمَلَكِ عَنْ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ بِقَوْلِهِ: «وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ» لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ عَلِمَ بِبِعْثَتِهِ بَلْ كَانَ أَمْرُ مَبْعَثِهِ قَدِ اشْتَهَرَ فِي الْمَلَإِ الأَعْلَى، قِيلَ إِنَّمَا هُوَ لِزِيَادَةِ التَّأَكُّدِ، وَقِيلَ: إِنَّ السُّؤَالَ مَعْنَاهُ هَلْ بُعِثَ إِلَيْهِ لِلْعُرُوجِ. فَرَأَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّمَاءِ الأُولَى ءَادَمَ، وَفِي الثَّانِيَةِ رَأَى عِيسَى وَيَحْيَى، وَفِي الثَّالِثَةِ رَأَى يُوسُفَ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ فِي وَصْفِهِ يُوسُفَ: «قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، يَعْنِي نِصْفَ الْجَمَالِ الَّذِي وُزِّعَ بَيْنَ الْبَشَرِ، وَفِي الرَّابِعَةِ رَأَى إِدْرِيسَ، وَفِي الْخَامِسَةِ رَأَى هَارُونَ، وَفِي السَّادِسَةِ رَأَى مُوسَى، وَفِي السَّابِعَةِ رَأَى إِبْرَاهِيمَ وَكَانَ يُشْبِهُ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا مِنْ حَيْثُ الْخِلْقَةُ. ثُمَّ رَأَى سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى وَهِيَ شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ وَبِهَا مِنَ الْحُسْنِ مَا لا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَنْ يَصِفَهُ، مِنْ حُسْنِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ وَجَدَهَا يَغْشَاهَا فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْرَاقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ وَثِمَارُهَا كَالْقِلالِ، وَالْقِلالُ جَمْعُ قُلَّةٍ وَهِيَ الْجَرَّةُ الْعَظِيمَةُ، أَصْلُهَا فِي السَّادِسَةِ وَتَمْتَدُّ إِلَى السَّابِعَةِ وَإِلَى مَا فَوْقَ ذَلِكَ، ثُمَّ سَارَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ وَحْدَهُ حَتَّى وَصَلَ إِلَى مَكَانٍ يَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الأَقْلامِ الَّتِي تَنْسَخُ بِهَا الْمَلائِكَةُ فِي صُحُفِهَا مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، ثُمَّ هُنَاكَ أَزَالَ اللَّهُ عَنْهُ الْحِجَابَ الَّذِي يَمْنَعُ مِنْ سَمَاعِ كَلامِ اللَّهِ الَّذِي لَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا فَأَسْمَعَهُ كَلامَهُ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ ﴿وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ رُؤْيَةً مَنَامِيَّةً، قُلْنَا: هَذَا تَأْوِيلٌ وَلا يَسُوغُ تَأْوِيلُ النَّصِّ أَيْ إِخْرَاجُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ لِغَيْرِ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ قَاطِعٍ أَوْ سَمْعِيٍّ ثَابِتٍ كَمَا قَالَهُ الرَّازِيُّ فِي «الْمَحْصُولِ» وَغَيْرُهُ مِنَ الأُصُولِيِّينَ. وَلَيْسَ هُنَا دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ.

الشَّرْحُ رَأَى مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلَى صُورَتِهِ الأَصْلِيَّةِ مَرَّةً أُخْرَى أَيْ مَرَّةً ثَانِيَةً عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَهَذَا فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمِعْرَاجِ لِأَنَّ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى أَصْلُهَا فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ وَتَمْتَدُّ إِلَى السَّابِعَةِ وَإِلَى مَا فَوْقَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْقُرْءَانَ لَمْ يَنُصَّ عَلَى الْمِعْرَاجِ نَصًّا صَرِيحًا لا يَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا لِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَنْ أَنْكَرَ الإِسْرَاءَ كَفَرَ وَمَنْ أَنْكَرَ الْمِعْرَاجَ لا يَكْفُرُ، لِأَنَّ دَلِيلَ الْمِعْرَاجِ لَيْسَ كَدَلِيلِ الإِسْرَاءِ دَلِيلُ الإِسْرَاءِ أَقْوَى. فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: ﴿وَلَقَدْ رَءَاهُ﴾ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ رُؤْيَةً مَنَامِيَّةً، قُلْنَا: هَذَا تَأْوِيلٌ وَلا يَجُوزُ تَأْوِيلُ النَّصِّ أَيْ إِخْرَاجُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ لِغَيْرِ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ قَاطِعٍ أَوْ سَمْعِيٍّ ثَابِتٍ، وَالسَّمْعِيُّ مَا كَانَ قُرْءَانًا أَوْ حَدِيثًا لِأَنَّ طَرِيقَهُ السَّمْعُ، أَمَّا الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ فَيَكُونُ بِالنَّظَرِ الصَّحِيحِ بِالْعَقْلِ. فَلا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُؤَوِّلَ ءَايَةً أَوْ حَدِيثًا إِلَّا بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ قَطْعِيٍّ أَوْ بِدَلِيلٍ سَمْعِيٍّ ثَابِتٍ أَيْ صَحِيحٍ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ [وَهُوَ مِنْ دَوَابِّ الْجَنَّةِ] وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ [أَيْ حَيْثُ يَصِلُ نَظَرُهُ يَضَعُ رِجْلَهُ، كُلُّ خَطْوَةٍ مِنْ خَطَوَاتِهِ تَسَعُ إِلَى مَدِّ الْبَصَرِ، هَذَا أَمْرُ الْبُرَاقِ مِنَ الْعَجَائِبِ الْمُخَالِفَةِ لِلْعَادَةِ]، قَالَ: فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلَقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهَا الأَنْبِيَاءُ، قَالَ: ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ [أَيْ مِنْ خَمْرِ الْجَنَّةِ اللَّذِيذِ الَّذِي لا يُسْكِرُ وَلا يُصْدِعُ الرَّأْسَ] وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ [أَيْ حَلِيبٍ] فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ: «اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ» [أَيْ تَمَسَّكْتَ بِالدِّينِ] قَالَ: ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ... »إِلَى ءَاخِرِ الْحَدِيثِ.

وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الإِسْرَاءَ وَالْمِعْرَاجَ كَانَا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ يَقَظَةً إِذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّهُ وَصَلَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ نَامَ.

أَمَّا رُؤْيَةُ النَّبِيِّ لِرَبِّهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ فَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ الأَوْسَطِ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ مَرَّتَيْنِ»، وَرَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ: «رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ»، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ رَءَاهُ بِقَلْبِهِ بِدَلِيلِ حَدِيثِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ [سُورَةَ النَّجْم]، قَالَ: «رَأَى رَبَّهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ».

تَنْبِيهٌ: قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ: «الصَّحِيحُ أَنَّ النَّبِيَّ لَمْ يَرَ رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ»، وَمُرَادُهُ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ بِعَيْنِهِ إِذْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَأَيْتُهُ بِعَيْنِي وَلا أَنَّ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ أَوِ التَّابِعِينَ أَوْ أَتْبَاعِهِمْ قَالَ: رَءَاهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ.

الشَّرْحُ اللَّهُ تَعَالَى أَزَالَ عَنْ قَلْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحِجَابَ فَرَأَى اللَّهَ تَعَالَى بِقَلْبِهِ أَيْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ قُوَّةَ الرُّؤْيَا وَالنَّظَرِ بِقَلْبِهِ، فَرَأَى الرَّسُولُ رَبَّهُ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَرَهُ بِعَيْنِهِ لِأَنَّ اللَّهَ لا يُرَى فِي الدُّنْيَا بِالْعَيْنِ وَلَوْ كَانَ يَرَاهُ أَحَدٌ بِالْعَيْنِ لَكَانَ رَءَاهُ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، كَمَا يُفْهَمُ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى لِسَيِّدِنَا مُوسَى: ﴿لَنْ تَرَانِي﴾. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ فَقَالَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ رَأَيْتُهُ بِفُؤَادِي وَمَا رَأَيْتُهُ بِعَيْنِي» وَهَذَا ضَعِيفٌ لَمْ يَثْبُتْ. وَقَالَ الإِمَامُ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «لا يُرَى الْبَاقِي بِالْعَيْنِ الْفَانِيَةِ وَإِنَّمَا يُرَى بِالْعَيْنِ الْبَاقِيَةِ فِي الآخِرَةِ» أَيْ أَنَّ عُيُونَ أَهْلِ الْجَنَّةِ لا يَلْحَقُهَا الْفَنَاءُ لِأَنَّهُمْ لا يَمُوتُونَ أَبَدَ الآبِدِينَ.

وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ فَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ وَمَنْ قَالَهُ لا يُبَدَّعُ وَلا يُفَسَّقُ لِأَنَّهُ قَالَ بِهِ جَمْعٌ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ، فَمَنْ قَالَ بِذَلِكَ يُقَالُ لَهُ: هَذَا الْقَوْلُ مَرْجُوحٌ وَالْقَوْلُ الرَّاجِحُ أَنَّهُ رَءَاهُ بِفُؤَادِهِ أَيْ بِقَلْبِهِ لا بِعَيْنَيْهِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «رَءَاهُ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَرَهُ بِعَيْنِهِ»، وَنَحْنُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ.

تَكْمِيلٌ حَدِيثُ مَاشِطَةِ بِنْتِ فِرْعَوْنَ صَحِيحٌ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ.



وَجْهُ دِلالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الأَمْرُ الْخَارِقُ الَّذِي يَظْهَرُ عَلَى يَدِ مَنِ ادَّعَوِا النُّبُوَّةَ مَعَ التَّحَدِّي مَعَ عَدَمِ مُعَارَضَتِهِ بِالْمِثْلِ نَازِلٌ مَنْزِلَةَ قَوْلِ اللَّهِ صَدَقَ عَبْدِي فِي كُلِّ مَا يُبَلِّغُ عَنِّي، أَيْ لَوْلا أَنَّهُ صَادِقٌ فِي دَعْوَاهُ لَمَا أَظْهَرَ اللَّهُ لَهُ هَذِهِ الْمُعْجِزَةَ، فَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ صَدَقَ عَبْدِي هَذَا الَّذِي ادَّعَى النُّبُوَّةَ فِي دَعْوَاهُ لِأَنِّي أَظْهَرْتُ لَهُ هَذِهِ الْمُعْجِزَةَ، لِأَنَّ الَّذِي يُصَدِّقُ الْكَاذِبَ كَاذِبٌ، وَاللَّهُ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا خَلَقَهُ لِتَصْدِيقِهِ، إِذْ كُلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى وَقَلْبَ الْعَصَا ثُعْبَانًا وَإِخْرَاجَ نَاقَةٍ مِنْ صَخْرَةٍ صَمَّاءَ لَيْسَ بِمُعْتَادٍ.

الشَّرْحُ مَعْنَى قَوْلِهِ «نَازِلٌ مَنْزِلَةَ قَوْلِ اللَّهِ صَدَقَ عَبْدِي فِي كُلِّ مَا يُبَلِّغُ عَنِّي»، أَيْ كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ صَدَقَ عَبْدِي مُوسَى فِي كُلِّ مَا يُبَلِّغُ عَنِّي، صَدَقَ عَبْدِي عِيسَى فِي كُلِّ مَا يُبَلِّغُ عَنِّي، صَدَقَ عَبْدِي مُحَمَّدٌ فِي كُلِّ مَا يُبَلِّغُ عَنِّي.



السَّبِيلُ إِلَى الْعِلْمِ بِالْمُعْجِزَةِ بِالْقَطْعِ وَالْيَقِينِ

الْعِلْمُ بِالْمُعْجِزَاتِ يَحْصُلُ: بِالْمُشَاهَدَةِ لِمَنْ شَاهَدُوهَا، وَبِبُلُوغِ خَبَرِهَا بِطَرِيقِ التَّوَاتُرِ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَشْهَدْهَا، وَذَلِكَ كَعِلْمِنَا بِالْبُلْدَانِ النَّائِيَةِ وَالْحَوَادِثِ التَّارِيخِيَّةِ الثَّابِتَةِ الْوَاقِعَةِ لِمَنْ قَبْلَنَا مِنَ الْمُلُوكِ وَالأُمَمِ، وَالْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ يَقُومُ مَقَامَ الْمُشَاهَدَةِ، فَوَجَبَ الإِذْعَانُ لِمَنْ أَتَى بِهَا عَقْلًا كَمَا أَنَّهُ وَاجِبٌ شَرْعًا.

الشَّرْحُ الْمُعْجِزَةُ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ الأَنْبِيَاءِ فِي كُلِّ مَا جَاؤُوا بِهِ وَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِهِمْ شَرْعًا وَعَقْلًا، أَمَّا الْعِلْمُ بِثُبُوتِ الْمُعْجِزَاتِ فَيُعْلَمُ بِطَرِيقِ الْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ لِأَنَّهَا جَاءَتْ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ، وَخَبَرُ التَّوَاتُرِ لا يَكُونُ إِلَّا صِدْقًا.

وَالْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ هُوَ أَنْ يُخْبِرَ عَدَدٌ كَثِيرٌ عَنْ جَمْعٍ كَثِيرٍ بِحَادِثَةٍ قَوْلِيَّةٍ أَوْ فِعْلِيَّةٍ بِحَيْثُ لا يُمْكِنُ عَادَةً أَنْ يَتَوَاطَؤُا عَلَى الْكَذِبِ، كَالأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ بَيْنَ النَّاسِ عَنْ وُجُودِ فِرْعَوْنَ فِيمَا مَضَى، وَكَالأَخْبَارِ عَنْ وُجُودِ بُلْدَانٍ نَائِيَةٍ نَحْنُ مَا شَاهَدْنَاهَا، وَالأَخْبَارِ عَنْ إِنْسَانٍ اسْمُهُ لِينِينَ وَضَعَ كَذَا وَكَذَا مِنَ الْمَبَادِئِ، فَيُقَالُ لِلْمُعْتَرِضِ: فَكَمَا أَنْتَ صَدَّقْتَ بِهَذَا نَحْنُ صَدَّقْنَا بِالْمُعْجِزَاتِ، أَمَّا أَنْ تُؤْمِنَ بِخَبَرِ لِينِينَ مَعَ أَنَّكَ لَمْ تَرَهُ وَلا تُؤْمِنَ بِأَنَّ النَّبِيَّ حَصَلَ لَهُ كَذَا فَهَذَا تَحَكُّمٌ لَيْسَ مُجَارَاةً لِلْوَاقِعِ بَلْ أَنْتَ شَاذٌّ مُكَابِرٌ.

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي حَدِّ التَّوَاتُرِ عَلَى أَقْوَالٍ وَالْمُعْتَمَدُ أَنْ لا نُحَدِّدَ عَدَدًا بَلْ نَقُولُ جَمْعٌ يَسْتَحِيلُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ عَادَةً فِي أَمْرٍ حِسِّيٍّ شُوهِدَ بِالْمُعَايَنَةِ.

ثُمَّ يُقَالُ لِلْمُعْتَرِضِ: مُعْجِزَاتُ الأَنْبِيَاءِ ثَابِتَةٌ مَعَ أَنَّنَا لَمْ نُشَاهِدْهُمْ فَإِذًا يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُصَدِّقَهُمْ بِمَا جَاءُوا بِهِ، وَتَكْذِيبُكُمْ لِلأَنْبِيَاءِ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ لِأَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ وَلا تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَأْتُوا بِمَا أَتَوْا بِهِ. أَخْبَارُ الأَنْبِيَاءِ التَّارِيخُ سَجَّلَهَا، نَحْنُ مِنْ أَيَّامِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَاتَرَ إِلَيْنَا خَبَرُ نَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ النَّبِيِّ وَخَبَرُ حَنِينِ الْجِذْعِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، فَالْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ مِثْلُ الْمُشَاهَدَةِ لِمَنْ لَمْ يُشَاهِدْ لِأَنَّ أَصْلَهُ مُشَاهَدَةٌ.

تَنْبِيهٌ شَرْطُ الْمُتَوَاتِرِ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْكَثْرَةُ فِي الطَّبَقَةِ الأُولَى الَّتِي شَاهَدَتْ وَالَّتِي تَلِيهَا ثُمَّ الَّتِي تَلِيهَا، وَهَذَا التَّوَاتُرُ لَمْ يَحْصُلْ بِالْقَوْلِ فِي خَبَرِ أَنَّ الْمَسِيحَ قُتِلَ وَصُلِبَ بَلْ لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْعَدَدُ فِي الطَّبَقَةِ الأُولَى، وَالطَّبَقَةُ الأُولَى هِيَ الأَصْلُ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْعَدَدُ فِي الطَّبَقَةِ الأُولَى ثُمَّ حَصَلَ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ لا يُعَدُّ مُتَوَاتِرًا، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ خَبَرُ قَتْلِ الْمَسِيحِ وَصَلْبِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ.



الإِيـمَانُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ وَنَعِيمِهِ وَسُؤَالِهِ

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [سُورَةَ غَافِر/46].

الشَّرْحُ يُخْبِرُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّ ءَالَ فِرْعَوْنَ أَيْ أَتْبَاعَهُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ عَلَى الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ فِي الْبَرْزَخِ أَيْ فِي مُدَّةِ الْقَبْرِ، وَالْبَرْزَخُ مَا بَيْنَ الْمَوْتِ إِلَى الْبَعْثِ، يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ عَرْضًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلُوهَا حَتَّى يَمْتَلِئُوا رُعْبًا، أَوَّلَ النَّهَارِ مَرَّةً وَءَاخِرَ النَّهَارِ مَرَّةً. وَوَقْتُ الْغَدَاةِ مِنَ الصُّبْحِ إِلَى الضُّحَى، وَأَمَّا الْعَشِيُّ فَهُوَ وَقْتُ الْعَصْرِ ءَاخِرَ النَّهَارِ، ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ﴾ أَيْ يُقَالُ لِلْمَلائِكَةِ أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ، ءَالُ فِرْعَوْنَ هُمُ الَّذِينَ عَبَدُوهُ وَاتَّبَعُوهُ فِي أَحْكَامِهِ الْجَائِرَةِ، لَيْسَ مَعْنَاهُ أَقَارِبَهُ.

وَمِنْ جُمْلَةِ عَذَابِ الْقَبْرِ ضَغْطَةُ الْقَبْرِ حَتَّى تَخْتَلِفَ الأَضْلاعُ وَهَذَا لِلْكُفَّارِ وَبَعْضِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَنْ لا يَتَجَنَّبُ الْبَوْلَ وَلَيْسَتِ الضَّغْطَةُ لِكُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ كَمَا قَالَ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ التَّقِيُّ فَهُوَ فِي نَعِيمٍ أَيْنَمَا دُفِنَ وَلَوْ دُفِنَ وَسَطَ الْكُفَّارِ وَقَدْ يُسَخِّرُ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْمَلائِكَةِ مَنْ يَنْقُلُهُ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُدْفَنَ فِيهِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ [سُورَةَ طَه/124].

الشَّرْحُ أَنَّ الْكُفَّارَ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنِ الإِيـمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى إِذَا مَاتُوا يَتَعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِـ ﴿مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ أَيِ الْمَعِيشَةَ الضَّيِّقَةَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِـ ﴿مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ مَعِيشَةً قَبْل الْمَوْتِ إِنَّمَا الْمُرَادُ حَالُهُمْ فِي الْبَرْزَخِ.

فَفِي هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ إِثْبَاتُ عَذَابِ الْقَبْرِ، الأُولَى صَرِيحَةٌ وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَقَدْ عُرِفَ كَوْنُ الْمُرَادِ بِهَا عَذَابَ الْقَبْرِ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ إِلَى النَّبِيِّ هُوَ فَسَّرَ هَذِهِ الآيَةَ: ﴿مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ بِعَذَابِ الْقَبْرِ. رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَيِّتَ فِي الْقَبْرِ بَعْدَ عَوْدِ الرُّوحِ إِلَيْهِ يَكُونُ لَهُ إِحْسَاسٌ بِالْعَذَابِ إِنْ كَانَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ لِلْكُفْرِ أَوْ لِلْمَعَاصِي.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَهَاتَانِ الآيَاتَانِ وَارِدَتَانِ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ لِلْكُفَّارِ، وَأَمَّا عُصَاةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الَّذِينَ مَاتُوا قَبْلَ التَّوْبَةِ فَهُمْ صِنْفَانِ: صِنْفٌ يُعْفِيهِمُ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَصِنْفٌ يُعَذِّبُهُمْ ثُمَّ يَنْقَطِعُ عَنْهُمْ وَيُؤَخِّرُ لَهُمْ بَقِيَّةَ عَذَابِهِمْ إِلَى الآخِرَةِ.

الشَّرْحُ لِيُعْلَمْ أَنَّهُ لا يُقَالُ إِنَّ الْمَيِّتَ إِذَا كَانَ يُرَى فِي الْقَبْرِ فِي هَيْئَةِ النَّائِمِ وَلا يُرَى عَلَيْهِ شَىْءٌ مِنَ الِاضْطِرَابَاتِ وَلا يَصْرُخُ فَإِذًا هُوَ لَيْسَ فِي عَذَابٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ رُوحُهُ بِلا جِسْمِهِ مُعَذَّبَةً فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءُ: «عَدَمُ الْوِجْدَانِ لا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْوُجُودِ» مَعْنَاهُ عَدَمُ الِاطِّلاعِ عَلَى الشَّىْءِ لا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ وُجُودِ ذَلِكَ الشَّىْءِ، فَإِذَا نَحْنُ لَمْ نَرَ الشَّىْءَ بِأَعْيُنِنَا فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا الشَّىْءَ لَيْسَ مَوْجُودًا، فَكَثِيرٌ مِنَ الأُمُورِ أَخْفَاهَا اللَّهُ عَنَّا وَبَعْضُهَا يَكْشِفُهَا اللَّهُ لِبَعْضِ عِبَادِهِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ: إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرِ إِثْمٍ، قَالَ: بَلَى، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ، ثُمَّ دَعَا بِعَسِيبٍ رَطْبٍ فَشَقَّهُ اثْنَيْنِ فَغَرَسَ عَلَى هَذَا وَاحِدًا وَعَلَى هَذَا وَاحِدًا، ثُمَّ قَالَ: «لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا».

الشَّرْحُ هَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ بَعْدَ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى إِثْبَاتِ عَذَابِ الْقَبْرِ، الرَّسُولُ مَرَّ عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرِ إِثْمٍ» ثُمَّ قَالَ: «بَلَى»، أَيْ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ بِحَسَبِ مَا يَرَى النَّاسُ لَيْسَ ذَنْبُهُمَا شَيْئًا كَبِيرًا لَكِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ ذَنْبٌ كَبِيرٌ لِذَلِكَ قَالَ: «بَلَى»، «أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ» وَهِيَ نَقْلُ الْكَلامِ بَيْنَ اثْنَيْنِ لِلإِفْسَادِ بَيْنَهُمَا يَقُولُ لِهَذَا فُلانٌ قَالَ عَنْكَ كَذَا وَيَقُولُ لِلآخَرِ فُلانٌ قَالَ عَنْكَ كَذَا لِيُوقِعَ بَيْنَهُمَا الشَّحْنَاءَ، «وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ» أَيْ كَانَ يَتَلَوَّثُ بِالْبَوْلِ، وَهَذَا مِنَ الْكَبَائِرِ، فَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: «اسْتَنْزِهُوا مِنَ الْبَوْلِ فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، مَعْنَاهُ تَحَفَّظوا مِنَ الْبَوْلِ لِئَلَّا يُلَوِّثَكُمْ، مَعْنَاهُ لا تُلَوِّثُوا ثِيَابَكُمْ وَجِلْدَكُمْ بِهِ لِأَنَّ أَكْثَرَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ.

هَذَانِ الأَمْرَانِ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ النَّاسُ لَيْسَ ذَنْبًا كَبِيرًا لَكِنَّهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ عِنْدَ اللَّهِ ذَنْبٌ كَبِيرٌ، فَالرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ رَءَاهُمَا بِحَالَةٍ شَدِيدَةٍ وَأَنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْعَذَابِ أَنْ تَمَسَّ النَّارُ جَسَدَهُ، اللَّهُ جَعَلَ عَذَابًا كَثِيرًا غَيْرَ النَّارِ فِي الْقَبْرِ. الرَّسُولُ رَأَى ذَلِكَ وَبَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ يَرَوْنَ عَذَابَ الْقَبْرِ وَيَرَوْنَ النَّعِيمَ، اللَّهُ يُكَاشِفُهُمْ، الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ السَّلامِ كَانَ يَمُرُّ بِقَبْرِ عَالِمٍ تَقِيٍّ صَالِحٍ يَقِفُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: إِنَّهُ فِي نَعِيمٍ عَظِيمٍ، يَرَاهُ يُكَاشِفُهُ اللَّهُ، يَرَى مَوْضِعَ قَبْرِهِ أَنَّهُ مُنَوَّرٌ وَأَنَّهُ مُوَسَّعٌ وَأَنَّهُ مَمْلُوءٌ خَضِرَةً وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَأَمَّا الدَّلائِلُ أَنَّ الْمَقْبُورَ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى يَكُونُ فِي نَعِيمٍ فَالشَّوَاهِدُ وَالأَدِلَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ عَوْدُ الرُّوحِ إِلَى الْجَسَدِ فِي الْقَبْرِ كَحَدِيثِ الْبَرَاءِ بنِ عَازِبٍ الَّذِي رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَأَبُو عُوَانَةَ وَصَحَّحَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِلَّا عَرَفَهُ وَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ». رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَعَبْدُ الْحَقِّ الإِشْبِيلِيُّ وَصَحَّحَهُ.

الشَّرْحُ نَحْنُ نُؤْمِنُ بِمَا وَرَدَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَلَوْ لَمْ نَكُنْ نَسْمَعُ رَدَّ السَّلامِ مِنَ الْمَيِّتِ لِأَنَّ اللَّهَ حَجَبَ عَنَّا ذَلِكَ، وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ بنِ عَازِبٍ حَدِيثٌ طَوِيلٌ فِيهِ: «وَيُعَادُ الرُّوحُ إِلَى جَسَدِهِ»، أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ وَالِاسْتِذْكَارِ وَصَحَّحَهُ الْحَافِظُ عَبْدُ الْحَقِّ فِي كِتَابِهِ الْعَاقِبَةِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَيَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ رُجُوعَ الرُّوحِ إِلَى الْبَدَنِ كُلِّهِ وَذَلِكَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَوْ إِلَى بَعْضِهِ. وَيَتَأَكَّدُ عَوْدُ الْحَيَاةِ فِي الْقَبْرِ إِلَى الْجَسَدِ مَزِيدَ تَأَكُّدٍ فِي حَقِّ الأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّهُ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ يُصَلُّونَ» صَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَأَقَرَّهُ الْحَافِظُ.

الشَّرْحُ عَوْدُ الرُّوحِ إِلَى الْجَسَدِ ثَابِتٌ فِي حَقِّ كُلِّ الأَشْخَاصِ الصَّالِحِينَ وَالطَّالِحِينَ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الأَنْبِيَاءِ فَأَقْوَى، فَقَدْ صَحَّ حَدِيثُ: «الأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ يُصَلُّونَ» هَذَا ثَابِتٌ لِكُلِّ نَبِيٍّ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ قَدْ يَحْصُلُ لِبَعْضِهِمْ لَكِنَّهُ لَيْسَ عَامًّا، كَمَا حَصَلَ لِلتَّابِعِيِّ الْجَلِيلِ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ فَقَدْ شُوهِدَ فِي قَبْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهُوَ يُصَلِّي.

وَقَالَ ابْنُ رَجَبٍ فِي كِتَابِهِ أَهْوَالِ الْقُبُورِ: «رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بنُ الصِّمَّةِ الْمُهَلَّبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي الَّذِينَ كَانُوا يَمُرُّونَ بِالْجِصِّ بِالأَسْحَارِ قَالُوا: كُنَّا إِذَا مَرَرْنَا بِجَنَبَاتِ قَبْرِ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعْنَا قِرَاءَةَ الْقُرْءَانِ.

وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ سَيَّارِ بنِ حَسَنٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَنَا وَالَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أَدْخَلْتُ ثَابِتًا الْبُنَانِيَّ لَحْدَهُ وَمَعِي حُمَيْدٌ وَرَجُلٌ غَيْرُهُ فَلَمَّا سَوَّيْنَا عَلَيْهِ اللَّبِنَ سَقَطَتْ لَبِنَةٌ فَنَزَلْتُ فَأَخَذْتُهَا مِنْ قَبْرِهِ فَإِذَا بِهِ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ، فَقُلْتُ لِلَّذِي مَعِي: أَلا تَرَاهُ؟ قَالَ: اسْكُتْ، فَلَمَّا سَوَّيْنَا عَلَيْهِ التُّرَابَ وَفَرَغْنَا أَتَيْنَا ابْنَتَهُ فَقُلْنَا لَهَا: مَا كَانَ عَمَلُ ثَابِتٍ، قَالَتْ: وَمَا رَأَيْتُمْ، فَأَخْبَرْنَاهَا، فَقَالَتْ: كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ خَمْسِينَ سَنَةً فَإِذَا كَانَ السَّحَرُ قَالَ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ أَعْطَيْتَ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ الصَّلاةَ فِي قَبْرِهِ فَأَعْطِنِيهَا، فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَرُدَّ ذَلِكَ الدُّعَاءَ» اهـ.

وَرَوَى أَيْضًا عَنْ سَالِمِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «خَرَجْتُ أَسِيرُ وَحْدِي فَمَرَرْتُ بِقُبُورٍ مِنْ قُبُورِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِذَا رَجُلٌ قَدْ خَرَجَ عَلَيَّ مِنْ قَبْرٍ مِنْهَا يَلْتَهِبُ نَارًا وَفِي عُنُقِهِ سِلْسِلَةٌ مِنْ نَارٍ وَمَعِي إِدَاوَةٌ مِنْ مَاءٍ فَلَمَّا رَءَانِي قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ اسْقِنِي، يَا عَبْدَ اللَّهِ صُبَّ عَلَيَّ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي أَعَرَفَنِي أَوْ كَلِمَةٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ أَيْ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ أَنْ يَقُولُوا لِمَنْ لا يَعْرِفُونَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ أَوْ يَا أَخَا الْعَرَبِ، إِذْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنَ الْقَبْرِ وَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ لا تَسْقِهِ فَإِنَّهُ كَافِرٌ قَالَ: فَأَخَذَ السِّلْسِلَةَ فَاجْتَذَبَهُ حَتَّى أَدْخَلَهُ الْقَبْرَ، قَالَ: وَءَاوَانِيَ اللَّيْلُ إِلَى مَنْزِلِ عَجُوزٍ إِلَى جَانِبِ بَيْتِهَا قَبْرٌ وَقَالَ: سَمِعْتُ هَاتِفًا يَهْتِفُ بِاللَّيْلِ يَقُولُ: بَوْلٌ وَمَا بَوْلٌ شَنٌّ وَمَا شَنٌّ فَقُلْتُ لِلْعَجُوزِ: وَيْحَكِ مَا هَذَا فَقَالَتْ: زَوْجٌ لِي وَكَانَ لا يَتَنَزَّهُ مِنَ الْبَوْلِ فَأَقُولُ لَهُ وَيْحَكَ إِنَّ الْبَعِيرَ إِذَا بَالَ تَفَاجَّ - أَيْ بَاعَدَ مَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ - فَكَانَ لا يُبَالِي قَالَتْ: وَبَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: اسْقِنِي فَإِنِّي عَطْشَانُ قَالَ: عِنْدَكَ الشَّنُّ وَشَنٌّ لَنَا مُعَلَّقٌ فَقَالَ: يَا هَذَا اسْقِنِي فَإِنِّي عَطْشَانُ السَّاعَةَ أَمُوتُ، قَالَ: عِنْدَكَ الشَّنُّ قَالَتْ: وَوَقَعَ الرَّجُلُ مَيِّتًا، قَالَتْ: فَهُوَ يُنَادِي مِنْ يَوْمِ مَاتَ «بَوْلٌ وَمَا بَوْلٌ شَنٌّ وَمَا شَنٌّ»، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرْتُهُ بِمَا رَأَيْتُ فِي سَفَرِي فَنَهَى عِنْدَ ذَلِكَ أَنْ يُسَافِرَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ» اهـ.

فَصْلٌ وَأَمَّا مَا شُوهِدَ مِنْ نَعِيمِ الْقَبْرِ وَكَرَامَةِ أَهْلِهِ فَكَثِيرٌ أَيْضًا وَقَدْ سَبَقَ فِي الْبَابِ الأَوَّلِ وَالرَّابِعِ بَعْضُ ذَلِكَ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الرِّقَّةِ وَالْبُكَاءِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مِسْكِينِ بنِ مَكِينٍ أَنَّ وَرَّادَ الْعَجْلِيَّ لَمَّا مَاتَ فَحُمِلَ إِلَى حُفْرَتِهِ نَزَلُوا لِيَدْفِنُوهُ فِي حُفْرَتِهِ فَإِذَا اللَّحْدُ مَفْرُوشٌ بِالرَّيْحَانِ فَأَخَذَ بَعْضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ الرَّيْحَانِ فَمَكَثَ سَبْعِينَ يَوْمًا طَرِيًّا لا يَتَغَيَّرُ يَغْدُو النَّاسُ وَيَرُوحُونَ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَأَكْثَرَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ فَأَخَذَهُ الأَمِيرُ وَفَرَّقَ النَّاسَ خَشْيَةَ الْفِتْنَةِ فَفَقَدَهُ الأَمِيرُ مِنْ مَنْزِلِهِ لا يَدْرِي كَيْفَ ذَهَبَ اهـ.

وَالْكَافِرُ يُقَالُ لَهُ انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ الْجَنَّةِ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ النَّارِ فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ رُوحَهُ تُؤْخَذُ إِلَى مَكَانٍ دُونَ السَّمَاءِ الأُولَى فَيَرَى مِنْ هُنَاكَ مِثَالَ مَقْعَدِهِ أَنْ لَوْ كَانَ مَاتَ عَلَى الإِيـمَانِ، وَتُؤْخَذُ رُوحُهُ إِلَى مَكَانٍ قَرِيبٍ مِنْ جَهَنَّمَ فَيَرَى مَقْعَدَهُ فِي النَّارِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ إِذَا انْصَرَفُوا أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولانِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ؟ فَأَمّا الْمُؤْمِنُ - أَيِ الْكَامِلُ - فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا. وَأَمَّا الْكَافِرُ أَوِ الْمُنَافِقُ فَيَقُولُ: لا أَدْرِي كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِيهِ، فَيُقَالُ: لا دَرَيْتَ وَلا تَلَيْتَ، ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ بَيْنَ أُذُنَيْهِ فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ».

الشَّرْحُ أَنَّهُ تُؤْخَذُ رُوحُهُ إِلَى مَكَانٍ يَنْظُرُ مِنْهُ إِلَى جَهَنَّمَ فَيَرَى مَقْعَدَهُ فِي النَّارِ لَوْ كَانَ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ، وَتُؤْخَذُ رُوحُهُ إِلَى مَكَانٍ قُرْبَ الْجَنَّةِ فَيَرَى مَقْعَدَهُ الَّذِي يَتَبَوَّؤُهُ فِي الآخِرَةِ فَيَعْرِفُ فَضْلَ الإِسْلامِ حِينَ ذَلِكَ مَعْرِفَةً عِيَانِيَّةً كَمَا كَانَ يَعْرِفُ فِي الدُّنْيَا مَعْرِفَةً قَلْبِيَّةً.

وَمَعْنَى: «لا دَرَيْتَ وَلا تَلَيْتَ »أَيْ لا عَرَفْتَ، وَإِنَّمَا قِيلَ وَلا تَلَيْتَ لِتَأْكِيدِ الْمَعْنَى لِأَنَّ الْمَعْنَى وَاحِدٌ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ حَسَنٌ بَسَنٌ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ لِتَأْكِيدِ الْمَعْنَى ثُمَّ إِنَّ مُنْكَرًا وَنَكِيرًا يَضْرِبَانِهِ بِهَذِهِ الْمِطْرَقَةِ ضَرْبَةً لَوْ ضُرِبَ بِهَا الْجَبَلُ لَانْدَكَّ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ مِنْ بَهَائِمَ وَطُيُورٍ إِلَّا الإِنْسَ وَالْجِنَّ فَإِنَّ اللَّهَ حَجَبَ عَنْهُمْ ذَلِكَ.

وَلَفْظُ الإِشَارَةِ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي قَوْلِهِ: «مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ» لَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ يَكُونُ ظَاهِرًا مَرْئِيًا مُشَاهَدًا، وَإِنَّمَا هَذِهِ الإِشَارَةُ تُسَمَّى إِشَارَةً لِلْمَعْهُودِ الذِّهْنِيِّ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ فَتَّانَيِ الْقَبْرِ فَقَالَ عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَتُرَدُّ عَلَيْنَا عُقُولُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «نَعَمْ كَهَيْئَتِكُمُ الْيَوْمَ»، قَالَ: فَبِفِيهِ الْحَجَرُ.

الشَّرْحُ الْفَتَّانُ هُوَ الْمُمْتَحِنُ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ سُمِّيَا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمَا يَمْتَحِنَانِ النَّاسَ. مُنْكَرٌ مَعْنَاهُ هَذِهِ الْهَيْئَةُ غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ هَيْئَتُهُمَا تَخْتَلِفُ عَنْ سَائِرِ الْمَلائِكَةِ وَعَنِ الإِنْسِ وَالْجِنِّ. هَذَا مَعْنَى مُنْكَرٍ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ بَاطِلًا قَالَ تَعَالَى: ﴿قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُّنْكَرُونَ﴾ [سُورَةَ الذَّارِيَات/25] وَسُؤَالُ الْقَبْرِ خَاصٌّ بِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ أَنْ يُسْأَلَ الْمَيِّتُ مَاذَا تَقُولُ فِي مُوسَى، مَاذَا تَقُولُ فِي عِيسَى، وَإِنَّمَا هَذَا زِيَادَةٌ فِي شَرْعِ مُحَمَّدٍ.

وَقَوْلُهُ: «أَتُرَدُّ عَلَيْنَا عُقُولُنَا »يَعْنِي عِنْدَ السُّؤَالِ، فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ: «نَعَمْ كَهَيْئَتِكُمُ الْيَوْمَ»، أَيْ يَكُونُ الْجَوَابُ مِنَ الْجِسْمِ مَعَ الرُّوحِ، فَقَالَ: «فَبِفِيهِ الْحَجَرُ»، أَيْ ذَاكَ الْخَبَرُ الَّذِي لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ وَسَكَتَ وَانْقَطَعَ عَنِ الْكَلامِ، مَعْنَاهُ لَيْسَ لَهُ حُجَّةٌ عَلَى مَا كَانَ يَظُنُّ، هُوَ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ لا تُرَدُّ عَلَيْهِمْ عُقُولُهُمْ فَلَمَّا قَالَ لَهُ الرَّسُولُ بِأَنَّهُ تُرَدُّ عَلَيْهِمْ عُقُولُهُمْ عَرَفَ خَطَأَ ظَنِّهِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا قُبِرَ الْمَيِّتُ أَوِ الإِنْسَانُ أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا مُنْكَرٌ وَلِلآخَرِ نَكِيرٌ فَيَقُولانِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ؟ فَهُوَ قَائِلٌ مَا كَانَ يَقُولُ. فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا قَالَ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَيَقُولانِ لَهُ: إِنْ كُنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّكَ لَتَقُولُ ذَلِكَ، ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِينَ ذِرَاعًا وَيُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ، فَيُقَالُ لَهُ: نَمْ، فَيَنَامُ كَنَوْمِ الْعَرُوسِ الَّذِي لا يُوقِظُهُ إِلَّا أَحَبُّ أَهْلِهِ حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ.

الشَّرْحُ بَعْدَمَا يُدْفَنُ الإِنْسَانُ يَأْتِيهِ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ أَيْ لَوْنُهُمَا لَيْسَ مِنَ السَّوَادِ الْخَالِصِ بَلْ مِنَ الأَسْوَدِ الْمَمْزُوجِ بِالزُّرْقَةِ وَهَذَا يَكُونُ أَخْوَفَ مَا يَكُونُ مِنَ الأَلْوَانِ، حَتَّى يَفْزَعَ الْكَافِرُ مِنْهُمَا، أَمَّا الْمُؤْمِنُ التَّقِيُّ لا يَخَافُ مِنْهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يُثَبِّتُهُ، يُلْهِمُهُ الثَّبَاتَ، وَهُمَا لا يَنْظُرَانِ إِلَيْهِ نَظْرَةَ غَضَبٍ، أَمَّا الْكَافِرُ يَرْتَاعُ مِنْهُمَا.

وَقَدْ سُمِّيَا مُنْكَرًا وَنَكِيرًا لِأَنَّ الَّذِي يَرَاهُمَا يَفْزَعُ مِنْهُمَا، وَهُمَا اثْنَانِ أَوْ يَكُونُ هُنَاكَ جَمَاعَةٌ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُسَمَّى مُنْكَرًا وَجَمَاعَةٌ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ اسْمُهُ نَكِيرٌ فَيَأْتِي إِلَى كُلِّ مَيِّتٍ اثْنَانِ مِنْهُمْ أَحَدُهُمَا مِنْ هَذَا الْفَرِيقِ وَالآخَرُ مِنْ ذَاكَ الْفَرِيقِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُعْطِيَ اللَّهُ لِهَؤُلاءِ أَشْبَاحًا فَيَحْضُرَانِ إِلَى كُلِّ مَيِّتٍ بِشَبَحَيْنِ إِمَّا بِالشَّبَحِ الأَصْلِيِّ وَإِمَّا بِالشَّبَحِ الْفَرْعِيِّ، وَكَذَلِكَ عَزْرَائِيلُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ يَتَطَوَّرُ إِلَى أْشَبَاحٍ كَثِيرَةٍ وَيَقْبِضُ هَذِهِ الأَرْوَاحَ الْكَثِيرَةَ، وَلَوْ كَانَ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ وَفِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ أَرَادَ أَنْ يَقْبِضَ مِائَةَ أَلْفِ نَفْسٍ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْضُرَ وَيَقْبِضَ هَؤُلاءِ الأَرْوَاحَ، ثُمَّ يَتَنَاوَلُ مِنْهُ الْمَلائِكَةُ إِمَّا مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَإِمَّا مَلائِكَةُ الْعَذَابِ، مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ مَنْظَرُهُمْ جَمِيلٌ أَمَّا مَلائِكَةُ الْعَذَابِ مَنْظَرُهُمْ مُخِيفٌ، فَلا يَتْرُكُونَ الرُّوحَ فِي يَدِ عَزْرَائِيلَ بَعْدَمَا يَقْبِضُهَا طَرْفَةَ عَيْنٍ، يَذْهَبُونَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ إِنْ كَانَتِ الرُّوحُ مُؤْمِنَةً، وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً فَإِلَى الأَرْضِ السَّابِعَةِ إِلَى سِجِّينَ.

فَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ مُنْكَرًا وَنَكِيرًا يَقُولانِ لِلْمَقْبُورِ: «مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ »أَيْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُسَمِّيَانِ الرَّسُولَ بِاسْمِهِ وَلَيْسَ الرَّسُولُ شَاهِدًا حَاضِرًا لِلسُّؤَالِ. بَعْضُ أَهْلِ الْغُلُوِّ يَدَّعُونَ أَنَّ الرَّسُولَ بِذَاتِهِ يَحْضُرُ يَكُونُ شَاهِدًا، هَذَا لا أَسَاسَ لَهُ، إِنَّمَا هِيَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَعْهُودِ ذِهْنًا. فَيَقُولُ الرَّجُلُ مَا كَانَ يَقُولُهُ قَبْلَ الْمَوْتِ، الْمُسْلِمُ قَبْلَ الْمَوْتِ كَانَ يَقُولُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ فَيَقُولُ ذَلِكَ وَيَقْرِنُهُ بِالشَّهَادَةِ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، اللَّهُ تَعَالَى يُلْهِمُهُ وَيُقْدِرُهُ عَلَى الْجَوَابِ، كُلُّ مُسْلِمٍ يُجِيبُ بِذَلِكَ، إِنَّمَا الَّذِي لا يَسْتَطِيعُ الْجَوَابَ هُوَ الَّذِي يُنْكِرُ وَيَجْزِمُ بِنَفْيِ رِسَالَةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، الْكَافِرُ الْمُعْلِنُ وَالْمُنَافِقُ كِلاهُمَا يَقُولانِ: كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ.

ثُمَّ إِنَّ الْمُؤْمِنَ التَّقِيَّ يُوَسَّعُ قَبْرُهُ سَبْعِينَ ذِرَاعًا طُولًا فِي سَبْعِينَ ذِرَاعًا عَرْضًا وَذَلِكَ بِذِرَاعِ الْيَدِ وَهِيَ شِبْرَانِ تَقْرِيبًا، وَبَعْضُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَمَا حَصَلَ لِلْعَلاءِ بنِ الْحَضْرَمِيِّ الصَّحَابِيِّ الْجَلِيلِ الَّذِي كَانَ مِنْ أَكَابِرِ الأَوْلِيَاءِ، فَإِنَّهُ اتَّسَعَ قَبْرُهُ مَدَّ الْبَصَرِ شَاهَدُوا ذَلِكَ لَمَّا نَبَشُوا الْقَبْرَ لِيَدْفِنُوهُ فِي مَكَانٍ ءَاخَرَ لِأَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي دَفَنُوهُ بِهِ كَثِيرُ السِّبَاعِ. وَيُنَوَّرُ قَبْرُهُ أَيِ الْمُؤْمِنِ التَّقِيِّ وَيُفْتَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ فَيَأْتِيهِ نَسِيمُهَا، وَيُمْلَأُ عَلَيْهِ خَضِرًا أَيْ يُوضَعُ فِي قَبْرِهِ مِنْ نَبَاتِ الْجَنَّةِ الأَخْضَرِ، وَهَذَا كُلُّهُ حَقِيقِيٌّ لَيْسَ وَهْمًا لَكِنَّ اللَّهَ يَحْجُبُ ذَلِكَ عَنْ أَبْصَارِ النَّاسِ أَيْ أَكْثَرِهِمْ أَمَّا أَهْلُ الْخُصُوصِيَّةِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الْكَامِلِينَ فَيُشَاهِدُونَ. وَالْحِكْمَةُ فِي إِخْفَاءِ اللَّهِ حَقَائِقَ أُمُورِ الْقَبْرِ وَأُمُورِ الآخِرَةِ لِيَكُونَ إِيـمَانُ الْعِبَادِ إِيـمَانًا بِالْغَيْبِ فَيَعْظُمَ ثَوَابُهُ. ثُمَّ إِنَّ الْمُؤْمِنَ التَّقِيَّ يُقَالُ لَهُ: نَمْ، فَيَنَامُ كَنَوْمِ الْعَرُوسِ الَّذِي لا يُوقِظُهُ إِلَّا أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ، أَيْ لا يُحِسُّ بِقَلَقٍ وَلا وَحْشَةٍ، أَمَّا الآنَ النَّاسُ يَخَافُونَ مِنَ الْمَوْتِ، لَكِنْ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ لا يَخَافُونَ لِأَنَّ اللَّهَ ءَامَنَهُمْ مِنَ الْخَوْفِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الأَثَرِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ أَيِ الْكَامِلَ يَقُولُ لَهُ الْمَلائِكَةُ السَّلامُ عَلَيْكَ يَا وَلِيَّ اللَّهِ فَلا يَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ فِيهِ خَوْفٌ مِنَ الْمَوْتِ وَالْقَبْرِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا قَالَ: لا أَدْرِي، كُنْتُ أَسْمَعُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَكُنْتُ أَقُولُهُ، فَيَقُولانِ لَهُ: إِنْ كُنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ ذَلِكَ، ثُمَّ يُقَالُ لِلأَرْضِ الْتَئِمِي فَتَلْتَئِمُ عَلَيْهِ حَتَّى تَخْتَلِفَ أَضْلاعُهُ فَلا يَزَالُ مُعَذَّبًا حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ».

الشَّرْحُ سُؤَالُ الْمَلَكَيْنِ لِلْكَافِرِ «مَنْ رَبُّكَ» وَهُمَا يَعْلَمَانِ أَنَّهُ سَيَقُولُ لا أَدْرِي لِأَنَّهُمَا يَعْرِفَانِ أَنَّهُ لا يَقُولُهَا عَنِ اعْتِقَادٍ إِنَّمَا يَقُولُهَا عَنْ دَهْشَةٍ، يَقُولُهَا عَنْ سَبْقِ لِسَانٍ مِنْ شِدَّةِ الْفَزَعِ مِنْ غَيْرِ ضَبْطِ لِسَانِهِ وَلا يَعْتَقِدُ ذَلِكَ إِنَّمَا يُخْبِرُ عَمَّا مَضَى لَهُ فِي الدُّنْيَا. بَعْضُ النَّاسِ يَسْتَشْكِلُونَ يَقُولُونَ إِذَا كَانَ لا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِلْكَافِرِ مَا دِينُكَ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ سَيُجِيبُ أَنَا يَهُودِيٌّ أَوْ مَجُوسِيٌّ فَكَيْفَ يَجُوزُ لِلْمَلَكَيْنِ فِي الْقَبْرِ أَنْ يَسْأَلا الْكَافِرَ وَهُمَا يَعْلَمَانِ أَنَّهُ سَيُجِيبُ لا أَدْرِي. فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ يُجِيبُ مُخْبِرًا عَمَّا كَانَ يَعْتَقِدُهُ فِي الْمَاضِي قَبْلَ الْمَوْتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَقِدَ الآنَ أَنَّهُ حَقٌّ وَبِهَذَا زَالَ الإِشْكَالُ.

وَقَوْلُهُمَا «إِنْ كُنَّا لَنَعْلَمُ» مَعْنَاهُ قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ، «إِنْ» هَذِهِ تُسَمَّى مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ أَيِ الْمُشَدَّدَةِ، يُقَالُ فِي اللُّغَةِ: «إِنْ كُنْتُ أَعْلَمُ كَذَا وَكَذَا» أَيْ قَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ كَذَا وَكَذَا، هَذِهِ أَصْلُهَا إِنَّ وَلَكِنْ خُفِّفَتْ بِتَرْكِ الشَّدَّةِ، وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُ كُنَّا نَعْلَمُ ذَلِكَ، وَهَذِهِ اللَّامُ تُسَمَّى لامَ التَّوْكِيدِ أَيْ أَنَّنَا كُنَّا قَبْلَ أَنْ تُجِيبَ أَنَّكَ كُنْتَ عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ نَعْلَمُ ذَلِكَ. وَالْمُنَافِقُ هُوَ الَّذِي يُبْطِنُ الْكُفْرَ وَيَتَظَاهَرُ بِالإِسْلامِ كَعَبْدِ اللَّهِ بنِ أُبَيٍّ فَإِنَّهُ مَعَ مَا ظَهَرَ مِنْهُ مِنَ النِّفَاقِ كَانَ يَتَشَهَّدُ وَيُصَلِّي خَلْفَ الرَّسُولِ وَلَمَّا سُئِلَ أَنْتَ قُلْتَ كَذَا أَيْ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ أَنْكَرَ قَالَ لَمْ أَقُلْ، وَمُرَادُهُ بِالأَعَزِّ نَفْسُهُ، وَبِالأَذَلِّ الرَّسُولُ، لَكِنَّ الرَّسُولَ كَانَ يُجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامَ الْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَرِفْ بَلْ بَقِيَ مُتَظَاهِرًا بِالإِسْلامِ فَكَانَ الرَّسُولُ يُجْرِي عَلَيْهِ فِي الظَّاهِرِ أَحْكَامَ الْمُسْلِمِ، وَعِنْدَمَا مَاتَ ظَنَّ الرَّسُولُ أَنَّهُ زَالَ عَنْهُ النِّفَاقُ وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الظَّنِّ صَلَّى عَلَيْهِ، هَذَا هُوَ الصَّوَابُ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ وَغَيْرُهُ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ إِنَّ الرَّسُولَ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ بَعْدُ مُنَافِقٌ كَافِرٌ ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ فَقَدْ جَعَلَ الرَّسُولَ مُتَلاعِبًا بِالدِّينِ، جَعَلَهُ كَأَنَّهُ يَقُولُ فِي صَلاتِهِ عَلَيْهِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِمَنْ لا تَغْفِرُ لَهُ وَذَلِكَ كُفْرٌ.

ثُمَّ يُقَالُ لِلأَرْضِ الْتَئِمِي عَلَيْهِ فَيَضِيقُ عَلَيْهِ الْقَبْرُ حَتَّى تَتَشَابَكَ أَضْلاعُهُ، ثُمَّ هَذَا الْعَبْدُ لا يَزَالُ مُعَذَّبًا بِهَذَا الْعَذَابِ حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ، ثُمَّ بَعْدَ أَنْ يُبْعَثَ يُعَذَّبُ بِأَشْيَاءَ غَيْرِ الَّتِي كَانَ يُعَذَّبُ بِهَا وَهُوَ فِي الْقَبْرِ ثُمَّ بَعْدَ دُخُولِهِ النَّارَ يَكُونُ أَشَدَّ وَأَشَدَّ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْحَدِيثَانِ رَوَاهُمَا ابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُمَا، فَفِي الأَوَّلِ مِنْهُمَا إِثْبَاتُ عَوْدِ الرُّوحِ إِلَى الْجَسَدِ فِي الْقَبْرِ وَالإِحْسَاسِ، وَفِي الثَّانِي إِثْبَاتُ اسْتِمْرَارِ الرُّوحِ فِي الْقَبْرِ وَإِثْبَاتُ النَّوْمِ وَذَلِكَ مَا لَمْ يَبْلَ الْجَسَدُ.

وَهَذَا النَّعِيمُ لِلْمُؤْمِنِ الْقَوِيِّ وَهُوَ الَّذِي يُؤَدِّي الْفَرَائِضَ وَيَجْتَنِبُ الْمَعَاصِيَ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَسَنَتُهُ فَإِذَا فَارَقَ الدُّنْيَا فَارَقَ السِّجْنَ وَالسَّنَةَ»، حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ، يَعْنِي الْمُؤْمِنَ الْكَامِلَ.

الشَّرْحُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: «سِجْنُ الْمُؤْمِنِ» أَيْ بِالنِّسْبَةِ لِمَا يَلْقَاهُ مِنَ النَّعِيمِ فِي الآخِرَةِ الدُّنْيَا كَالسِّجْنِ، وَقَوْلُهُ: «وَسَنَتُهُ» أَيْ دَارُ جُوعٍ وَبَلاءٍ.

وَفِي كِتَابِ أَهْوَالِ الْقُبُورِ: وَفِي كِتَابِ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا خَرَّجَ لِأَبِي الْقَاسِمِ إِسْحَاقَ بنِ إِبْرَاهِيمَ الْخُتَلِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ اللَّهِ ابْنَ مُحَمَّدٍ الْعَبْسِيَّ يَقُولُ: حَدَّثَهُ عَمْرُو بنُ مُسْلِمٍ عَنْ رَجُلٍ حَفَّارِ الْقُبُورِ قَالَ: حَفَرْتُ قَبْرَيْنِ وَكُنْتُ فِي الثَّالِثِ فَاشْتَدَّ عَلَيَّ الْحَرُّ فَأَلْقَيْتُ كِسَائِي عَلَى مَا حَفَرْتُ وَاسْتَظَلَّيْتُ فِيهِ فَبَيْنَمَا أَنَا كَذَلِكَ إِذْ رَأَيْتُ شَخْصَيْنِ عَلَى فَرَسَيْنِ أَشْهَبَيْنِ فَوَقَعَا عَلَى الْقَبْرِ الأَوَّلِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اكْتُبْ، فَقَالَ: مَا أَكْتُبُ، قَالَ: فَرْسَخٌ فِي فَرْسَخٍ، ثُمَّ تَحَوَّلا إِلَى الآخَرِ فَقَالَ: اكْتُبْ، قَالَ: مَا أَكْتُبُ، قَالَ: مَدُّ الْبَصَرِ، ثُمَّ تَحَوَّلا إِلَى الآخَرِ الَّذِي أَنَا فِيهِ قَالَ: اكْتُبْ، قَالَ: مَا أَكْتُبُ، قَالَ: فِتْرٌ فِي فِتْرٍ، فَقَعَدْتُ أَنْظُرُ الْجَنَائِزَ فَجِيءَ بِرَجُلٍ مَعَهُ نَفَرٌ يَسِيرٌ فَوَقَفُوا عَلَى الْقَبْرِ الأَوَّلِ قُلْتُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ؟ قَالَ إِنْسَانٌ قَرَّابٌ يَعْنِي سَقَّاءٌ ذُو عِيَالٍ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَىْءٌ فَجَمَعْنَا لَهُ فَقُلْتُ: رُدُّوا الدَّرَاهِمَ عَلَى عِيَالِهِ وَدَفَنْتُهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِجِنَازَةٍ لَيْسَ مَعَهَا إِلَّا مَنْ يَحْمِلُهَا فَسَأَلُوا عَنِ الْقَبْرِ فَجَاؤُوا إِلَى الْقَبْرِ الَّذِي قَالُوا مَدَّ الْبَصَرِ قَالَ: مَنْ هَذَا الرَّجُلُ؟ قَالُوا: إِنْسَانٌ غَرِيبٌ مَاتَ عَلَى مَزْبَلَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَىْءٌ فَلَمْ ءَاخُذْ مِنْهُمْ شَيْئًا وَصَلَّيْتُ عَلَيْهِ مَعَهُمْ، وَقَعَدْتُ أَنْتَظِرُ الثَّالِثَ فَلَمْ أَزَلْ إِلَى الْعِشَاءِ فَجِيءَ بِجِنَازَةِ امْرَأَةٍ لِبَعْضِ الأُمَرَاءِ فَسَأَلْتُهُمُ الأُجْرَةَ فَضَرَبُوا رَأْسِيَ وَأَبَوْا أَنْ يُعْطُونِي وَدَفَنُوهَا فِي ذَلِكَ الْقَبْرِ. انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ، وَالشَّخْصَانِ مَلَكَانِ مِنَ الْمَلائِكَةِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: ثُمَّ إِذَا بَلِيَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا عَجْبُ الذَّنَبِ يَكُونُ رُوحُ الْمُؤْمِنِ التَّقِيِّ فِي الْجَنَّةِ وَتَكُونُ أَرْوَاحُ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الَّذِينَ مَاتُوا بِلا تَوْبَةٍ بَعْدَ بِلَى الْجَسَدِ فِيمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَبَعْضُهُمْ فِي السَّمَاءِ الأُولَى. وَتَكُونُ أَرْوَاحُ الْكُفَّارِ بَعْدَ بِلَى الْجَسَدِ فِي سِجِّينَ، وَهُوَ مَكَانٌ فِي الأَرْضِ السُّفْلَى.

الشَّرْحُ عَجْبُ الذَّنَبِ لا يَبْلَى وَلَوْ سُلِّطَ عَلَيْهِ نَارٌ شَدِيدَةٌ، وَهُوَ عَظْمٌ صَغِيرٌ قَدْرُ حَبَّةِ خَرْدَلَةٍ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ: «مِنْهُ خُلِقَ الإِنْسَانُ وَعَلَيْهِ يُرَكَّبُ »أَيْ أَنَّ سَائِرَ الْعِظَامِ تُرَكَّبُ عَلَى هَذَا الْعَظْمِ الصَّغِيرِ.

وَأَمَّا الَّذِينَ لا تَبْلَى أَجْسَادُهُمْ فَهُمُ الأَنْبِيَاءُ وَشُهَدَاءُ الْمَعْرَكَةِ وَبَعْضُ الأَوْلِيَاءِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَمَّا الشُّهَدَاءُ فَتَصْعَدُ أَرْوَاحُهُمْ فَوْرًا إِلَى الْجَنَّةِ.

تَنْبِيهٌ: يُسْتَثْنَى مِنَ السُّؤَالِ الأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ أَيْ شُهَدَاءُ الْمَعْرَكَةِ وَكَذَلِكَ الطِّفْلُ أَيِ الَّذِي مَاتَ دُونَ الْبُلُوغِ.

الشَّرْحُ الشُّهَدَاءُ الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَصَّهُمُ اللَّهُ بِمَزَايَا عَدِيدَةٍ مِنْهَا أَنَّهُمْ لا تَبْلَى أَجْسَادُهُمْ وَتَصْعَدُ أَرْوَاحُهُمْ فَوْرًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ: «أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ»، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَخْلُقُ اللَّهُ لَهُمْ أَجْسَادًا تَكُونُ بِصُورَةِ طُيُورٍ وَأَرْوَاحُهُمْ تَكُونُ فِي حَوْصَلَةِ هَذِهِ الطُّيُورِ يَطِيرُونَ فِي الْجَنَّةِ وَيَأْكُلُونَ مِنْ ثِمَارِهَا، أَمَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَأْخُذُ مُتَبَوَّأَهُ الْخَاصَّ، لا يَدْخُلُونَ فِي حَوَاصِلِ الطُّيُورِ الَّتِي فِي الْجَنَّةِ.

وَالأَوْلِيَاءُ وَالْوَلِيَّاتُ بَعْدَمَا يَأْكُلُ التُّرَابُ أَجْسَادَهُمْ أَرْوَاحُهُمْ تَصْعَدُ إِلَى الْجَنَّةِ فَتَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ بِشَكْلِ طَائِرٍ، لَيْسَ بِشَكْلِ جَسَدِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، الرُّوحُ يَتَشَكَّلُ بِشَكْلِ طَائِرٍ فَيَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ ثُمَّ بَعْدَ الْبَعْثِ تَعُودُ الأَرْوَاحُ إِلَى أَجْسَادِهَا ثُمَّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ءَامِنِينَ. وَفِي ذَلِكَ وَرَدَ الْحَدِيثُ: «إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَيْرٌ يَعْلُقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ» رَوَاهُ مَالِكٌ، أَرْوَاحُهُمْ بَعْدَ بِلَى أَجْسَامِهِمْ تَكُونُ فِي الْجَنَّةِ تَأْكُلُ مِنْ أَشْجَارِ الْجَنَّةِ لَكِنْ لا يَتَبَوَّؤُنَ الْمَكَانَ الَّذِي هُيِّءَ لَهُمْ لِيَدْخُلُوهُ فِي الآخِرَةِ، إِنَّمَا لَهُمْ مَكَانٌ يَنْطَلِقُونَ فِيهِ فِي الْجَنَّةِ فَيَأْكُلُونَ مِنْ أَشْجَارِهَا وَمِنْ ثِمَارِهَا.






تَنْبِيهٌ مُهِمٌّ



مَا يَتَوَهَّمُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّ الْقَبْرَ يُضَيَّقُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي الْبِدَايَةِ ثُمَّ يُوَسَّعُ عَلَى الْمُؤْمِنِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَهُوَ لا يَلِيقُ بِكَرَامَةِ الْمُؤْمِنِ عِنْدَ اللَّهِ أَيِ الْمُؤْمِنِ التَّقِيِّ لِأَنَّ بَعْضَ الْعُصَاةِ يَحْصُلُ لَهُمْ ذَلِكَ بُرْهَةً مِنَ الزَّمَنِ، وَأَمَّا مَا يَرُوِيهِ بَعْضُهُمْ فِي حَقِّ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ نَجَا أَحَدٌ مِنْ ضَغْطَةِ الْقَبْرِ لَنَجَا سَعْدٌ» فَغَيْرُ صَحِيحٍ وَإِنْ صَحَّحَهُ مَنْ صَحَّحَهُ، كَيْفَ وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ سَعْدٍ «اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، فَمَنِ اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِهِ كَيْفَ يَلِيقُ بِمَقَامِهِ أَنْ يُصِيبَهُ ضَغْطَةُ الْقَبْرِ. وَمَا يُرْوَى عَنْهُ مِنْ أَنَّهُ كَانَ لا يَحْتَرِزُ مِنَ الْبَوْلِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ بِدَلِيلِ مَا وَرَدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ أَنَّهُ وَصَفَ سَعْدًا: «بِأَنَّهُ شَدِيدٌ فِي أَمْرِ اللَّهِ»، وَوَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ فِي حَقِّ سَعْدٍ: «لَمْ يَكُنْ فِي عَشِيرَةِ بَنِي الأَشْهَلِ أَفْضَلَ مِنْ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ وَأُسَيْدِ بنِ حُضَيْرٍ وَعَبَّادِ بنِ بِشْرٍ. وَكَانَ أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا يَقْرَأُ الْقُرْءَانَ أَحْيَانًا تَنْزِلُ الْمَلائِكَةُ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ.

وَأَمَّا الأَحَادِيثُ الَّتِي وَرَدَتْ فِي حُصُولِ ضَغْطَةِ الْقَبْرِ لِصَبِيٍّ دُفِنَ فِي عَصْرِ الرَّسُولِ وَأَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «لَوْ كَانَ يَسْلَمُ مِنْهَا أَحَدٌ لَسَلِمَ مِنْهَا هَذَا الصَّبِيُّ»، وَفِي حَقِّ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِي حَقِّ بِنْتِ النَّبِيِّ زَيْنَبَ، فَهَذِهِ الأَحَادِيثُ مُعَارِضَةٌ لِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا وَهِيَ لَمْ يُخَرِّجْهَا الشَّيْخَانِ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ أَنَّ ضَغْطَةَ الْقَبْرِ لِلْكَافِرِ وَالْمُنَافِقِ فَكَيْفَ يُقَالُ إِنَّهَا تُصِيبُ كُلَّ مَيِّتٍ إِلَّا الأَنْبِيَاءَ. وَمِمَّا يَمْنَعُ صِحَّةَ مَا وَرَدَ فِي حَقِّ سَعْدٍ مِنْ ضَغْطَةِ الْقَبْرِ أَنَّهُ كَانَ شَهِيدًا لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ جُرْحٍ أُصِيبَ بِهِ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ، وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الْوَارِدُ فِي حَقِّهِ أَنَّهُ اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمٰنِ لِمَوْتِ سَعْدٍ فَكَيْفَ يَصِحُّ فِي حَقِّهِ مَعَ هَذَيْنِ الأَمْرَيْنِ أَنْ يُعَذَّبَ بِضَغْطَةِ الْقَبْرِ، وَتُدْفَعُ تِلْكَ الأَحَادِيثُ أَيْضًا بِالآيَةِ: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [سُورَةَ يُونُس/62.[



بَيَانُ بَعْضِ أَسْبَابِ النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ



رَوَى الضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ فِي الْقُرْءَانِ ثَلاثِينَ ءَايَةً تَسْتَغْفِرُ لِصَاحِبِهَا حَتَّى يُغْفَرَ لَهُ، تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ»، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «وَدِدْتُ أَنَّهَا - أَيْ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ- فِي جَوْفِ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ أُمَّتِي» رَوَاهُ الْحَافِظُ الْعَسْقَلانِيُّ فِي أَمَالِيِّهِ. فَمَنْ حَافَظَ عَلَى قِرَاءَتِهَا كُلَّ يَوْمٍ كَانَ دَاخِلًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَأَمَّا مَنْ قَرَأَهَا لَيْلَةً وَاحِدَةً وَمَاتَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ فَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ أَنَّهُ لا يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ وَلا يُسْأَلُ.

وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا ضَرَبَ خَيْمَةً عَلَى قَبْرٍ فَصَارَ يَسْمَعُ مِنَ الْقَبْرِ قِرَاءَةَ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ حَتَّى خَتَمَهَا، فَذَهَبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِمَا حَصَلَ فَقَالَ مُصَدِّقًا لَهُ: «هِيَ الْمَانِعَةُ هِيَ الْمُنْجِيَةُ»، وَكَانَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا أَتَى الْقُبُورَ بَكَى حَتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ بِالدُّمُوعِ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ:

فَإِنْ تَنْجُ مِنْهَا تَنْجُ مِنْ ذِي عَظِيمَةٍ وَإِلَّا فَإِنِّي لا إِخَالُكَ نَاجِيًا

أَيْ لا أَظُنُّكَ، وَذَكَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْقَبْرُ أَوَّلُ مَنَازِلِ الآخِرَةِ فَإِنْ نَجَا مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَهُنَاكَ حَدِيثٌ ءَاخَرُ أَقْوَى إِسْنَادًا وَفِيهِ أَنَّ مَا بَعْدَ عَذَابِ الْقَبْرِ أَيْسَرُ، وَفِيهِ دِلالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ عُذِّبَ فِي قَبْرِهِ لا يُشْتَرَطُ أَنْ يَتَعَذَّبَ فِي الآخِرَةِ.

وَمِنْ أَسْبَابِ النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَالآخِرَةِ لِمَنْ مَاتَ قَبْلَ التَّوْبَةِ مَنْ مَاتَ وَقَدْ نَالَ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الشَّهَادَاتِ، وَالشَّهَادَاتُ سِوَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَبْعٌ: الَّذِي يَمُوتُ بِغَرَقٍ، أَوْ بِحَرْقٍ، أَوْ بِمَرَضِ ذَاتِ الْجَنْبِ، وَهُوَ وَرَمٌ فِي الْخَاصِرَةِ بِالدَّاخِلِ ثُمَّ يَظْهَرُ يَنْفَتِحُ إِلَى الْخَارِجِ فَيَحْصُلُ لِصَاحِبِهِ حُمَّى وَقَيْءٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الِاضْطِرَابَاتِ، وَالَّذِي يَقْتُلُهُ بَطْنُهُ أَيْ إِسْهَالٌ أَوِ احْتِبَاسٌ لا يَخْرُجُ مِنْهُ رِيحٌ وَلا غَائِطٌ فَيَمُوتُ فَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ قَتَلَهُ بَطْنُهُ لَمْ يُعَذَّبْ فِي قَبْرِهِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، كَذَلِكَ الَّذِي يَقْتُلُهُ الطَّاعُونُ [سُئِلَ النَّبِيُّ عَنِ الطَّاعُونِ فَقَالَ: «وَخْزُ أَعْدَائِكُمْ مِنَ الْجِنِّ»] وَهُوَ وَرَمٌ يَحْدُثُ فِي مَرَاقِ الْجِسْمِ أَيِ الْمَوَاضِعِ الرَّقِيقَةِ مِنْهُ وَيَحْصُلُ مِنْهُ حُمَّى وَإِسْهَالٌ وَقَيْءٌ، وَقَدْ حَصَلَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ طَاعُونٌ مَاتَ فِيهِ سَبْعُونَ أَلْفًا، كَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الَّتِي تَمُوتُ بِجَمْعٍ أَيْ بِأَلَمِ الْوِلادَةِ، وَكَذَلِكَ الَّذِي يَمُوتُ تَحْتَ الْهَدْمِ، أَوْ بِالتَّرَدِّي مِنْ عُلْوٍ إِلَى سُفْلٍ.

وَهُنَاكَ أَيْضًا شَهَادَاتٌ أُخْرَى غَيْرُ هَذِهِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَرَدَتْ فِي أَحَادِيثَ أُخْرَى كَالَّذِي يُقْتَلُ دُونَ أَهْلِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ وَلَدِهِ، وَكَذَلِكَ لا يُعَذَّبُ مَنْ مَاتَ غَرِيبًا عَنْ بَلَدِهِ وَأَهْلِهِ لِحَدِيثِ: «مَوْتُ الْغَرِيبِ شَهَادَةٌ»، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَضَعَّفَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ، وَكَذَلِكَ مَنْ قُتِلَ ظُلْمًا فَهُوَ شَهِيدٌ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُمْكِنُ سُؤَالُ عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنَ الأَمْوَاتِ؟ فَالْجَوَابُ مَا قَالَ الْحَلِيمِيُّ: «إِنَّ الأَشْبَهَ أَنْ يَكُونَ مَلائِكَةُ السُّؤَالِ جَمَاعَةً كَثِيرَةً يُسَمَّى بَعْضُهُمْ مُنْكَرًا وَبَعْضُهُمْ نَكِيرًا فَيُبْعَثُ إِلَى كُلِّ مَيِّتٍ اثْنَانِ مِنْهُمْ».

حُكْمُ مُنْكِرِ عَذَابِ الْقَبْرِ

وَيَكْفُرُ مُنْكِرُ عَذَابِ الْقَبْرِ لِقَوْلِ اللَّهِ: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [سُورَةَ غَافِر/46] بِخِلافِ مُنْكِرِ سُؤَالِهِ فَلا يُكَفَّرُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الْعِنَادِ.

الشَّرْحُ الَّذِي يُنْكِرُ سُؤَالَ الْقَبْرِ فَقَطْ وَلا يُنْكِرُ عَذَابَ الْقَبْرِ لا يُكَفَّرُ بَلْ يُفَسَّقُ، إِلَّا إِذَا كَانَ إِنْكَارُهُ عَلَى وَجْهِ الْعِنَادِ كَأَنْ سَمِعَ بِأَنَّ الرَّسُولَ أَثْبَتَ ذَلِكَ وَمَعَ ذَلِكَ أَنْكَرَهُ.



أَشْرَاطُ السَّاعَةِ



قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾ [سُورَةَ الْقَمَر/1]، وَيَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ أَيْضًا: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا﴾ [سُورَةَ النَّازِعَات].

اعْلَمْ رَحِمَكَ اللَّهُ أَنَّ الْقِيَامَةَ لا تَقُومُ حَتَّى تَحْصُلَ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى، أَمَّا الْعَلامَاتُ الصُّغْرَى فَمِنْهَا مَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ عَنْهَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَنَّ جِبْرِيلَ سَأَلَهُ عَنْ أَمَارَاتِ السَّاعَةِ أَيْ عَلامَاتِهَا فَقَالَ: «أَنَّ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا - أَيْ سَيِّدَتَهَا - وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رَعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ» وَهَذَا حَصَلَ.

وَمِنْهَا: زَوَالُ جِبَالٍ عَنْ مَرَاسِيهَا وَكَثْرَةُ الزَّلازِلِ وَكَثْرَةُ الأَمْرَاضِ الَّتِي مَا كَانَ يَعْرِفُهَا النَّاسُ سَابِقًا، وَكَثْرَةُ الدَّجَّالِينَ وَخُطَبَاءِ السُّوءِ وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ. وَمِنْهَا ادِّعَاءُ أُنَاسٍ النُّبُوَّةَ وَقَدْ حَصَلَ هَذَا أَيْضًا، وَتَغَيُّرُ أَحْوَالِ الْهَوَاءِ فِي الصَّيْفِ يَصِيرُ كَأَنَّهُ فِي الشِّتَاءِ وَفِي الشِّتَاءِ يَصِيرُ كَأَنَّهُ فِي الصَّيْفِ، وَكَذَلِكَ قِلَّةُ الْعِلْمِ وَكَثْرَةُ الْجَهْلِ أَيِ الْجَهْلِ بِعِلْمِ الدِّينِ وَهَذَا قَدْ حَصَلَ، وَكَثْرَةُ الْقَتْلِ وَالظُّلْمِ، وَتَقَارُبُ الزَّمَانِ، وَتَقَارُبُ الأَسْوَاقِ، وَتَدَاعِي الأُمَمِ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ كَتَدَاعِيهِمْ عَلَى قَصْعَةِ الطَّعَامِ يُحِيطُونَ بِهِمْ مِنْ كُلِّ صَوْبٍ، وَهَذَا كُلُّهُ حَصَلَ أَيْضًا.

وَمِنْ عَلامَاتِ السَّاعَةِ أَيْضًا مَا أَخْبَرَ عَنْهَا النَّبِيُّ فِي حَدِيثِهِ الَّذِي قَالَ فِيهِ: «صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي لَمْ أَرَهُمَا - أَيْ سَيَأْتُونَ مِنْ بَعْدِي - قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ»، ثُمَّ قَالَ: «وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلاتٌ مَائِلاتٌ»، أَيْ أَنَّهُنَّ يَلْبَسْنَ ثِيَابًا لا تَسْتُرُ جَمِيعَ الْعَوْرَةِ وَأَنَّهُنَّ مَائِلاتٌ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَيُمِلْنَ غَيْرَهُنَّ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ أَيْ فَاجِرَاتٌ يَرْمِينَ النَّاسَ فِي الزِّنَى «رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ» أَيْ يَرْفَعْنَ رُؤُوسَهُنَّ لِيُعْجَبَ بِهِنَّ النَّاسُ أَوْ يَمْشِينَ مِشْيَةً خَاصَّةً يُمَيَّزْنَ بِهَا عَنْ غَيْرِهِنَّ، وَهَذَا حَصَلَ فِي بَعْضِ مَا مَضَى مِنَ الزَّمَنِ فِي بَغْدَادَ وَغَيْرِهَا، وَلَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ مُنْطَبِقًا تَمَامَ الِانْطِبَاقِ عَلَى مُجَرَّدِ اللَّاتِي يَكْشِفْنَ شَيْئًا مِنْ عَوْرَاتِهِنَّ، بَلْ أُولَئِكَ يَزِدْنَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُنَّ زَانِيَاتٌ، أَخْبَرَ الرَّسُولُ عَنْهُنَّ فِي تِتِمَّةِ الْحَدِيثِ أَنَّهُنَّ «لا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلا يَجِدْنَ رِيحَهَا وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا»، وَهَذَا أَيْضًا حَصَلَ. وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْبَيْهَقِيُّ وَأَحْمَدُ.

وَءَاخِرُهَا ظُهُورُ الْمَهْدِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَهُوَ ثَابِتٌ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَمْلِكَ النَّاسَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِي وَاسْمُ أَبِيهِ اسْمَ أَبِي فَيَمْلَؤُهَا - أَيِ الأَرْضَ - قِسْطًا وَعَدْلًا»، فَالْمَهْدِيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ اسْمُهُ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ حَسَنِيٌّ أَوْ حُسَيْنِيٌّ مِنْ وَلَدِ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَقَدْ وَرَدَ فِي الأَثَرِ أَنَّهُ يَسِيرُ مَعَهُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ مَلَكٌ يُنَادِي: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَذَا خَلِيفَةُ اللَّهِ الْمَهْدِيُّ فَاتَّبِعُوهُ»، وَوَرَدَ فِي الأَثَرِ أَيْضًا أَنَّ الْمَهْدِيَّ أَوَّلَ مَا يَخْرُجُ يَخْرُجُ مِنَ الْمَدِينَةِ وَيَخْرُجُ مَعَهُ أَلْفٌ مِنَ الْمَلائِكَةِ يَمِدُّونَهُ ثُمَّ يَذْهَبُ إِلَى مَكَّةَ وَهُنَاكَ يَنْتَظِرُهُ ثَلاثُمِائَةٍ مِنَ الأَوْلِيَاءِ هُمْ أَوَّلُ مَنْ يُبَايِعُهُ، ثُمَّ يَخْرُجُ جَيْشٌ لِغَزْوِهِ فَيَخْسِفُ اللَّهُ بِذَلِكَ الْجَيْشِ الأَرْضَ فِيمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، بَعْدَ ذَلِكَ يَأْتِي إِلَى بَرِّ الشَّامِ، وَفِي أَيَّامِ الْمَهْدِيِّ تَحْصُلُ مَجَاعَةٌ، وَالْمُؤْمِنُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَشْبَعُ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ أَيْ بِذِكْرِ اللَّهِ وَتَعْظِيمِهِ، يَعْنِي الْمُؤْمِنَ الْكَامِلَ.

وَأَشْرَاطُ السَّاعَةِ الْكُبْرَى عَشَرَةٌ وَهِيَ: خُرُوجُ الدَّجَّالِ، وَنُزُولُ الْمَسِيحِ، وَخُرُوجُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَطُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجُ دَابَّةِ الأَرْضِ، بَعْدَ ذَلِكَ لا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ أَحَدٍ تَوْبَةً، وَهَاتَانِ الْعَلامَتَانِ تَحْصُلانِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ بَيْنَ الصُّبْحِ وَالضُّحَى، وَدَابَّةُ الأَرْضِ هَذِهِ تُكَلِّمُ النَّاسَ وَتُمَيِّزُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ وَلا أَحَدَ مِنْهُمْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَهْرُبَ مِنْهَا، ثُمَّ الدُّخَانُ، يَنْزِلُ دُخَانٌ يَنْتَشِرُ فِي الأَرْضِ فَيَكَادُ الْكَافِرُونَ يَمُوتُونَ مِنْ شِدَّةِ هَذَا الدُّخَانِ، وَأَمَّا الْمُسْلِمُ يَصِيرُ عَلَيْهِ كَالزُّكَامِ، وَثَلاثَةُ خُسُوفٍ خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَهَذِهِ الْخُسُوفُ لا تَأْتِي إِلَّا بَعْدَ خُرُوجِ الدَّجَّالِ وَنُزُولِ الْمَسِيحِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ وَتَقَعُ فِي أَوْقَاتٍ مُتَقَارِبَةٍ، وَالْخُسُوفُ مَعْنَاهُ انْشِقَاقُ الأَرْضِ وَبَلْعُ مَنْ عَلَيْهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَقَعَ هَذِهِ الْخُسُوفُ فِي ءَانٍ وَاحِدٍ، وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنَ فَتَسُوقُ النَّاسَ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَعَدَنُ أَرْضٌ بِالْيَمَنِ.

وَالآنَ نَسْرُدُ بَعْضَ تَفَاصِيلِ بَعْضِ هَذِهِ الْعَلامَاتِ وَالَّتِي مِنْهَا خُرُوجُ الدَّجَّالِ وَيُقَالُ لَهُ الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ وَالْمَسِيحُ الْكَذَّابُ، وَسُمِّيَ بِالْمَسِيحِ لِأَنَّهُ يُكْثِرُ السِّيَاحَةَ فَهُوَ يَطُوفُ الأَرْضَ فِي نَحْوِ سَنَةٍ وَنِصْفٍ يَسِيحُ فِي الدُّنْيَا إِلَى كُلِّ الْجِهَاتِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَة لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ وَلا الْمَدِينَةَ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الدَّجَّالَ يَأْتِي إِلَى الْمَدِينَةِ فَيَجِدُ عَلَى كُلِّ نَقَبٍ مِنْ أَنْقَابِهَا مَلَكًا مَعَهُ سَيْفٌ مُسَلَّطٌ فَيَفِرُّ. وَالدَّجَّالُ شَأْنُهُ غَرِيبٌ فِي تَنَقُّلِهِ لَيْسَ مِثْلَنَا لِيَفْتِنَ اللَّهُ بِهِ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ فَيَضِلُّوا مَعَهُ، يُسَهِّلُ لَهُ التَّنَقُّلَ فِي الأَرْضِ بِطَرِيقٍ غَرِيبٍ فَيُضِلُّ هُنَا وَهُنَا وَهُنَا يَقُولُ لِلنَّاسِ أَنَا رَبُّكُمْ وَيُظْهِرُ لَهُمْ تَمْوِيهَاتٍ فَيُؤْمِنُ بِهِ الْيَهُودُ ثُمَّ بَعْضُ الَّذِينَ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الشَّقَاوَةَ مِنْ غَيْرِ الْيَهُودِ، فَلِكَثْرَةِ سِيَاحَتِهِ يُسَمَّى الْمَسِيحَ، لَكِنَّهُ بِمَا أَنَّهُ كَافِرٌ يُضِلُّ النَّاسَ يُسَمَّى الدَّجَّالَ.

وَلَمَّا يَخْرُجُ الدَّجَّالُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِهِ يَشْبَعُونَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَفْتِنُ بِهِ بَعْضَ الْخَلْقِ، فَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِهِ يُيَسِّرُ اللَّهُ لَهُمُ الأَرْزَاقَ وَيُوَسِّعُ عَلَيْهِمْ، وَالْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَهُ وَلا يَتَّبِعُونَهُ تَحْصُلُ لَهُمْ مَجَاعَةٌ، فَيُعِينُهُمُ اللَّهُ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ، فَهَذَا يَقُومُ مَقَامَ الأَكْلِ فَلا يَضُرُّهُمُ الْجُوعُ، ثُمَّ لَمَّا يَنْزِلُ الْمَسِيحُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ يَقْتُلُ الدَّجَّالَ، بَعْدَ ذَلِكَ يَصِيرُ رَخَاءٌ كَبِيرٌ، وَيَلْتَقِي الْمَهْدِيُّ بِعِيسَى أَوَّلَ نُزُولِهِ فَعِيسَى يُقَدِّمُ الْمَهْدِيَّ إِمَامًا إِظْهَارًا لِكَرَامَةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ وَإِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَنْزِلُ لِيُطَبِّقَ شَرِيعَةَ مُحَمَّدٍ فِي الأَرْضِ، ثُمَّ فِي عَهْدِ الْمَسِيحِ يَصِيرُ رَخَاءٌ كَثِيرٌ وَأَمْنٌ فَتُخْرِجُ الأَرْضُ مَا فِي دَاخِلِهَا مِنَ الذَّهَبِ حَتَّى إِنَّهُ لا يُوجَدُ إِنْسَانٌ يَقْبَلُ الصَّدَقَةَ مِنْ عُمُومِ الْغِنَى.

وَالأَعْوَرُ الدَّجَّالُ إِنْسَانٌ مِنْ بَنِي ءَادَمَ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِحْدَى عَيْنَيْهِ طَافِيَةٌ كَالْعِنَبَةِ وَالأُخْرَى مَمْسُوحَةٌ فَلِذَلِكَ يُقَالُ لَهُ الأَعْوَرُ. وَهُوَ الآنَ مَحْبُوسٌ فِي جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ، الْمَلائِكَةُ حَبَسُوهُ هُنَاكَ، وَهَذِهِ الْجَزِيرَةُ لَيْسَتْ مَعْرُوفَةً، رَءَاهُ وَاجْتَمَعَ بِهِ الصَّحَابِيُّ تَمِيمُ بنُ أَوْسٍ عِيَانًا، رَكِبَ وَمَنْ مَعَهُ السَّفِينَةَ فَتَاهَتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ شَهْرًا وَبَعُدَتْ، ثُمَّ وَصَلُوا إِلَى جَزِيرَةٍ فَاجْتَمَعُوا بِهِ مُكَبَّلًا بِالسَّلاسِلِ، وَهُوَ رَجُلٌ عَظِيمٌ جَسَدُهُ، كَلَّمَهُمْ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ قَالَ: أَنَا فُلانٌ، وَسَأَلَهُمْ عَنْ أَشْيَاءَ، هَلْ صَارَ كَذَا، هَلْ صَارَ كَذَا، وَسَأَلَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هَلْ ظَهَرَ النَّبِيُّ الْعَرَبِيُّ، ثُمَّ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ بِمِثْلِ مَا رَأَى هَذَا الصَّحَابِيُّ مِنَ الدَّجَّالِ. وَهَذَا الأَعْوَرُ الدَّجَّالُ اللَّهُ تَعَالَى ابْتِلاءً مِنْهُ يُظْهِرُ عَلَى يَدَيْهِ خَوَارَقَ، وَمِنْ عَجَائِبِهِ أَنَّهُ يَشُقُّ رَجُلًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يُكَذِّبُهُ فِي وَجْهِهِ نِصْفَيْنِ ثُمَّ يُحْيِيهِ بِإِذْنِ اللَّهِ فَيَقُولُ الرَّجُلُ الَّذِي فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ: لَمْ أَزْدَدْ بِهَذَا إِلَّا تَكْذِيبًا لَكَ، وَيَقُولُ لِلسَّمَاءِ أَمْطِرِي فَتُمْطِرُ، وَيَقُولُ لِلأَرْضِ أَخْرِجِي زَرْعَكِ فَتُخْرِجُهُ، مَعَهُ نَهْرَانِ وَاحِدٌ مِنْ نَارٍ وَهُوَ بَرْدٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَوَاحِدٌ مِنْ مَاءٍ وَهُوَ نَارٌ عَلَيْهِمْ. وَأَوَّلُ مَا يَظْهَرُ الدَّجَّالُ يَكُونُ يَوْمٌ كَسَنَةٍ وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ وَيَوْمٌ كَأُسْبُوعٍ، وَقَبْلَ ظُهُورِهِ بِثَلاثِ سَنَوَاتٍ تُمْسِكُ السَّمَاءُ ثُلُثَ مَائِهَا ثُمَّ بَعْدَ سَنَةٍ تُمْسِكُ ثُلُثَيْ مَائِهَا ثُمَّ قَبْلَ ظُهُورِهِ بِسَنَةٍ تُمْسِكُ كُلَّ مَائِهَا، ثُمَّ هَذَا الأَعْوَرُ الدَّجَّالُ يُصَادِفُ نَبِيَّ اللَّهِ عِيسَى بِفِلْسَطِينَ فَيَقْتُلُهُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى هُنَاكَ بِبَابِ لُدٍّ، وَلُدٌّ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى فِلَسْطِينَ.

وَأَمَّا يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ فَهُمْ فِي الأَصْلِ قَبِيلَتَانِ مِنْ بَنِي ءَادَمَ مِنَ الْبَشَرِ كُلُّهُمْ كُفَّارٌ، وَأَمَّا مَكَانُهُمْ فَهُوَ مَحْجُوبٌ عَنِ النَّاسِ فِي طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِ الأَرْضِ. اللَّهُ تَعَالَى حَجَزَهُمْ عَنِ الْبَشَرِ فَلا يَرَاهُمُ النَّاسُ، فَلا هُمْ يَأْتُونَ إِلَيْنَا وَلا نَحْنُ نَذْهَبُ إِلَيْهِمْ، الصَّعْبُ ذُو الْقَرْنَيْنِ عَلَيْهِ السَّلامُ الَّذِي كَانَ مِنْ أَكَابِرِ الأَوْلِيَاءِ حَجَزَهُمْ عَنِ الْبَشَرِ، بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى بَنَى سَدًّا، اللَّهُ تَعَالَى أَعْطَاهُ مِنْ كُلِّ شَىْءٍ سَبَبًا لِأَنَّهُ وَلِيٌّ كَبِيرٌ، كَانَتِ الرِّيحُ تَحْمِلُهُ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَذُو الْقَرْنَيْنِ عَلَيْهِ السَّلامُ بِكَرَامَةٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا بَنَى سَدًّا جَبَلًا شَامِخًا مِنْ حَدِيدٍ ثُمَّ أُذِيبَ عَلَيْهِ النُّحَاسُ فَصَارَ أَمْتَنَ، لا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ أَنْ يَتَرَقَّاهُ بِطَرِيقِ الْعَادَةِ، وَهُمْ يُحَاوِلُونَ أَنْ يَخْتَرِقُوا هَذَا الْجَبَلَ كُلَّ يَوْمٍ فَلا يَسْتَطِيعُونَ، وَيَقُولُونَ كُلَّ يَوْمٍ بَعْدَ طُولِ عَمَلٍ وَجُهْدٍ غَدًا نُكْمِلُ، فَيَعُودُونَ فِي الْيَوْمِ الْقَابِلِ فَيَجِدُونَ مَا فَتَحُوهُ قَدْ سُدَّ إِلَى أَنْ يَقُولُوا: غَدًا نُكْمِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَيَعُودُونَ فِي الْيَوْمِ الْقَابِلِ فَيَجِدُونَ مَا بَدَؤُوا بِهِ قَدْ بَقِيَ عَلَى حَالِهِ فَيُكْمِلُونَ الْحَفْرَ حَتَّى يَتَمَكَّنُوا مِنَ الْخُرُوجِ.

ثُمَّ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ لا يَمُوتُ أَحَدُهُمْ حَتَّى يَلِدَ أَلْفًا مِنْ صُلْبِهِ أَوْ أَكْثَرَ كَمَا ذَكَرَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، فَيَصِيرُ عَدَدُهُمْ قَبْلَ خُرُوجِهِمْ كَبِيرًا جِدًّا، حَتَّى إِنَّ الْبَشَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالنِّسْبَةِ لَهُمْ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ كَوَاحِدٍ مِنْ مِائَةٍ، اللَّهُ أَعْلَمُ كَيْفَ يَعِيشُونَ الآنَ وَمَاذَا يَأْكُلُونَ، وَمَا يُرْوَى مِنْ أَنَّ ءَاذَانَهُمْ طَوِيلَةٌ يَنَامُونَ عَلَى وَاحِدَةٍ وَيَتَغَطَّوْنَ بِالأُخْرَى وَأَنَّهُمْ قِصَارُ الْقَامَةِ فَغَيْرُ ثَابِتٍ.

وَفِي أَيَّامِهِمْ تَحْصُلُ مَجَاعَةٌ يَمُرُّونَ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّا الَّتِي فِي فِلَسْطِينَ فَيَشْرَبُونَهَا، فَيَمُرُّ ءَاخِرُهُمْ فَيَقُولُ كَانَ هُنَا مَاءٌ، ثُمَّ لَمَّا يَنْزِلُ الْمَسِيحُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ السَّمَاءِ هُمْ يَنْبَهِتُونَ، فَلا يَتَجَرَّأُ الْمُسْلِمُونَ لِحَرْبِهِمْ، فَيَذْهَبُ سَيِّدُنَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى جَبَلِ الطُّورِ يَدْعُونَ اللَّهَ يَسْتَغِيثُونَ بِهِ مِنْهُمْ، وَيَتَضَرَّعُونَ إِلَى اللَّهِ أَنْ يُهْلِكَهُمْ، فَيُنْزِلُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ دُودًا يَدْخُلُ رَقَبَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَيَرْمِيهِ صَرِيعًا مَيِّتًا، ثُمَّ اللَّهُ تَعَالَى يُرْسِلُ طُيُورًا فَتَحْمِلُهُمْ وَتَرْمِيهِمْ فِي الْبَحْرِ ثُمَّ يُنْزِلُ مَطَرًا يَجْرِفُ ءَاثَارَهُمْ إِلَى الْبَحْرِ، وَهَؤُلاءِ بَعْدَ أَنْ يَنْزِلَ سَيِّدُنَا عِيسَى بِمُدَّةٍ يَظْهَرُونَ.

وَأَمَّا نُزُولُ الْمَسِيحِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ السَّمَاءِ فَإِنَّهُ ثَابِتٌ بِالأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ وَأَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ - يَعْنِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ - وَإِنَّهُ نَازِلٌ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَاعْرِفُوهُ: رَجُلٌ مَرْبُوعٌ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ، بَيْنَ مُمَصَّرَتَيْنِ كَأَنَّ رَأْسَهُ يَقْطُرُ وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ، فَيُقَاتِلُ النَّاسَ عَلَى الإِسْلامِ فَيَدُقُّ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَيُهْلِكُ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلَ كُلَّهَا إِلَّا الإِسْلامَ، وَيُهْلِكُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ، فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ يُتَوَفَّى فَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ». وَمِنَ الأُمُورِ الْعَجِيبَةِ الَّتِي تَحْصُلُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَيْضًا أَنَّ اللَّهَ يُنْطِقُ الشَّجَرَ وَالْحَجَرَ فَيَقُولُ لِلْمُسْلِمِ: يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي تَعَالَ فَاقْتُلْهُ إِلَّا شَجَرَ الْغَرْقَدِ فَإِنَّهُ لا يَدُلُّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مِنْ شَجَرِهِمْ.

ثُمَّ إِنَّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمَّا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ يَنْزِلُ وَيَدَاهُ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ، يَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ كَمَا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ أَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ هَذِهِ الْمَنَارَةُ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً شَرْقِيَّ دِمَشْقَ، أَمَّا الآنَ فَهِيَ مَوْجُودَةٌ كَمَا وَصَفَهَا رَسُولُ اللَّهِ، وَالْمَنَارَةُ هِيَ بِمَعْنَى عَمُودِ النُّورِ وَقَدْ عُمِلَ عَمُودُ نُورٍ لِلْمَطَارِ الْجَدِيدِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ، ثُمَّ إِنَّ الْمَسِيحَ لَمَّا يَنْزِلُ يَلْتَقِي مَعَ الْمَهْدِيِّ فِي بِلادِ الشَّامِ، وَالشَّامُ لَيْسَتْ سُورِيَا فَقَطْ بَلْ لُبْنَانُ وَالأُرْدُنُّ وَفِلَسْطِينُ كُلُّ هَذَا شَامٌ. وَحَدُّ الشَّامِ مِنَ الْعَرِيشِ إِلَى بَالِسٍ.

وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: «ثُمَّ يُتَوَفَّى فَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ »يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُمِتْهُ بَعْدُ إِنَّمَا رَفَعَهُ حَيًّا مِنَ الأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ يَقْظَانَ، وَمَنْ قَالَ إِنَّهُ قَدْ تُوُفِّيَ مِنْ غَيْرِ قَتْلٍ وَلا صَلْبٍ فَقَدْ غَلِطَ، ثُمَّ إِنَّ الرَّسُولَ وَصَفَ لَوْنَهُ فَفِي رِوَايَةٍ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: «أَنَّهُ ءَادَمُ». الآدَمُ مَعْنَاهُ الأَسْمَرُ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ وَصَفَهُ بِالأَحْمَرِ، فَمَعْنَى الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ لَيْسَ أَبْيَضَ مُشْرِقًا بَلْ هُوَ أَسْمَرُ سُمْرَةً خَفِيفَةً مَعَ شَىْءٍ مِنَ الْحُمْرَةِ وَبَيَاضٍ خَفِيفَيْنِ، فَالَّذِي وَرَدَ فِي الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ أَسْمَرُ أَمَّا فِي أَبِي دَاوُدَ وَرَدَ أَنَّهُ أَبْيَضُ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان/55] فَبِحَسَبِ اللَّفْظِ مُتَوَفِّيكَ مُقَدَّمٌ، أَمَّا بِحَسَبِ الْمَعْنَى مُتَوَفِّيكَ مُؤَخَّرٌ وَرَافِعُكَ مُقَدَّمٌ، فَالتَّرْتِيبُ بِحَسَبِ الْمَعْنَى: إِنِّي رَافِعُكَ إِلَيَّ أَيْ إِلَى مَحِلِّ كَرَامَتِي أَيِ الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ مُشَرَّفٌ عِنْدِي وَهُوَ السَّمَاءُ، وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَيْ مُخَلِّصُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَيِ الْيَهُودِ، وَمُتَوَفِّيكَ أَيْ بَعْدَ إِنْزَالِكَ إِلَى الأَرْضِ، أَيْ مُمِيتُكَ بَعْدَ إِنْزَالِكَ إِلَى الأَرْضِ، هَذَا هُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ الْمُوَافِقُ لِلأَحَادِيثِ، وَهَكَذَا فَسَّرَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَبَّاسٍ تَرْجُمَانُ الْقُرْءَانِ الآيَةَ، أَيْ مِنْ بَابِ الْمُقَدَّمِ وَالْمُؤَخَّرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى﴾ [سُورَةَ الأَعْلَى] الْغُثَاءُ الْيَابِسُ الْمُتَكَسِّرُ وَالأَحْوَى الأَخْضَرُ، وَالنَّبَاتُ أَوَّلًا يَكُونُ أَحْوَى أَيْ أَخْضَرَ ثُمَّ يَكُونُ غُثَاءً أَيْ يَابِسًا مُتَكَسِّرًا. وَيَجُوزُ تَفْسِيرُ ﴿مُتَوَفِّيكَ﴾ أَيْ قَابِضُكَ مِنَ الأَرْضِ وَأَنْتَ حَيٌّ ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ أَيْ إِلَى مَحَلِّ كَرَامَتِي، كِلا التَّفْسِيرَيْنِ جَائِزٌ، إِنَّمَا الَّذِي لا يَجُوزُ تَفْسِيرُ مُتَوَفِّيكَ بِمَعْنَى مُمِيتُكَ قَبْلَ رَفْعِكَ إِلَى السَّمَاءِ وَإِنْزَالِكَ إِلَى الأَرْضِ، لِأَنَّ هَذَا يُعَارِضُ حَدِيثَ أَبِي دَاوُدَ الْمَذْكُورَ. وَمَا تَدَّعِيهِ الْقَادِيَانِيَّةٌ أَتْبَاعُ غُلامِ أَحْمَدَ الْقَادِيَانِيِّ نِسْبَةً إِلَى قَادِيَان مِنَ الْهِنْدِ وَتُعَدُّ الْيَوْمَ مِنَ الْبَاكِسْتَانِ مِنْ أَنَّ الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ مَاتَ وَصُلِبَ فَهُوَ كَذِبٌ، وَغُلامُ أَحْمَدَ هَذَا دَجَّالٌ لِأَنَّهُ قَالَ أَنَا نَبِيٌّ وَقَالَ إِنِّي أَنَا الْمَسِيحُ الْمَوْعُودُ وَقَالَ تَمْوِيهًا عَلَى النَّاسِ إِنِّي نَبِيٌّ فِي ظِلِّ مُحَمَّدٍ، وَقَدْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ [سُورَةَ الأَحْزَاب/40] أَيْ ءَاخِرَ النَّبِيِّينَ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انْقَطَعَتِ الرِّسَالَةُ وَالنُّبُوَّةُ فَلا نَبِيَّ بَعْدِي وَلا رَسُولَ وَبَقِيَتِ الْمُبَشِّرَاتُ ».

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ عِيسَى مَعَ اثْنَيْ عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَيْتٍ فَقَالَ: إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ يَكْفُرُ بِي بَعْدَ أَنْ ءَامَنَ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّكُمْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي وَيُقْتَلُ مَكَانِي فَيَكُونُ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ، فَقَامَ شَابٌّ أَحَدَثُهُمْ سِنًّا فَقَالَ: أَنَا، قَالَ: اجْلِسْ، ثُمَّ عَادَ فَعَادَ، فَقَالَ: اجْلِسْ، ثُمَّ عَادَ فَعَادَ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: أَنْتَ هُوَ، فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُهُ، فَأُخِذَ الشَّابُّ فَصُلِبَ بَعْدَ أَنْ رُفِعَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ مِنْ رَوْزَنَةٍ فِي الْبَيْتِ، وَجَاءَ الطَّلَبُ مِنَ الْيَهُودِ فَأَخَذُوا الشَّابَّ، وَهَذَا إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَالرَّوْزَنَةُ نَافِذَةٌ فِي السَّطْحِ يُصْعَدُ إِلَيْهَا، فِي زَاوِيَةٍ مِنَ الْبَيْتِ تَكُونُ.

أَمَّا مَا يَرْوِيهِ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ يَهُودِيًّا جَاءَ مَعَ الْيَهُودِ لِيَدُلَّهُمْ وَوَعَدُوهُ مَبْلَغَ كَذَا مِنَ الْمَالِ، ثُمَّ لَمَّا أَدْخَلَهُمْ إِلَى الْبَيْتِ أُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُ الْمَسِيحِ فَظَنُّوهُ هُوَ الْمَسِيحُ فَقَتَلُوهُ فَهَذَا غَيْرُ ثَابِتٍ لَكِنَّهُ مَشْهُورٌ عِنْدَ الْمُؤَرِّخِينَ، وَالصَّحِيحُ هُوَ مَا قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَبَّاسٍ.

وَفِي ءَاخِرِ الزَّمَانِ يَنْزَوِي الإِيـمَانُ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ كَمَا تَنْزَوِي الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا أَيْ إِلَى وَكْرِهَا، لِأَنَّ ءَاخِرَ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الإِسْلامِ تَخْرَبُ هِيَ الْمَدِينَةُ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ: «ءَاخِرُ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الإِسْلامِ خَرَابًا الْمَدِينَةُ»، وَلا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْمَدِينَةُ أَحْسَنَ حَالًا مِنْ غَيْرِهَا فِيمَا مَضَى وَفِيمَا سَيَأْتِي. وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ: «إِنَّ الإِيـمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ - أَيْ تَنْزَوِي - الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا».

وَقَدْ خَالَفَتِ الْوَهَّابِيَّةُ هَذَا الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ فَفَضَّلَتْ نَجْدَهَا، وَمِنَ الْمَشْهُورِ عَنْهُمْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا كَانَ فِي الْحِجَازِ فَعَادَ إِلَى نَجْدِ الرِّيَاضِ وَنَحْوِهَا مِنْ بُلْدَانِهِمْ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ دَخَلْنَا دِيرَةَ الإِيـمَانِ. فَضَّلُوا نَجْدَهُمُ الَّذِي قَالَ الرَّسُولُ فِيهِ: «هُنَاكَ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ» عَلَى الْحِجَازِ وَهَذَا مِنْ أَدِلَّةِ ضَلالِهِمْ. وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَفِي ءَاخِرِ الزَّمَانِ يُرْفَعُ الْقُرْءَانُ إِلَى السَّمَاءِ وَلا تَبْقَى ءَايَةٌ مِنَ الْقُرْءَانِ فِي الأَرْضِ، عِنْدَئِذٍ يَمُوتُ الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلامُ.

ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ حُصُولِ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ الْكُبْرَى الْعَشَرَةِ تَقُومُ الْقِيَامَةُ عَلَى الْكُفَّارِ، وَقَبْلَ ذَلِكَ بِمِائَةِ عَامٍ تَأْتِي رِيحٌ وَتَدْخُلُ تَحْتَ إِبْطِ كُلِّ مُسْلِمٍ فَيَمُوتُ كُلُّ الْمُسْلِمِينَ وَيَبْقَى الْكُفَّارُ فَتَقُومُ الْقِيَامَةُ عَلَيْهِمْ، يَنْفُخُ إِسْرَافِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فِي الصُّورِ أَيْ فِي الْبُوقِ فَيَفْزَعُونَ مِنْ هَذَا الصَّوْتِ، فَإِنَّ صَوْتَ نَفْخَةِ إِسْرَافِيلَ فِي الْبُوقِ هَوْلُهُ عَظِيمٌ تَتَقَطَّعُ مِنْهُ قُلُوبُ الْكُفَّارِ حَتَّى يَمُوتُوا مِنْ شِدَّةِ هَذَا الصَّوْتِ، وَكَذَلِكَ الْجِنُّ الْكُفَّارُ يَمُوتُون تِلْكَ السَّاعَةَ، فَلا يَبْقَى بَشَرٌ وَلا جِنٌّ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ إِلَّا وَقَدْ مَاتَ، وَأَمَّا الَّذِينَ مَاتُوا قَبْلَ ذَلِكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ فَيُغْشَى عَلَيْهِمْ تِلْكَ السَّاعَةَ أَيْ يُغْمَى عَلَيْهِمْ إِلَّا الشُّهَدَاءَ أَيْ شُهَدَاءَ الْمَعْرَكَةِ فَلا يُغْشَى عَلَيْهِمْ تِلْكَ السَّاعَةَ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: «النَّاسُ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى ءَاخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ، فَلا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَالأَنْبِيَاءُ لَمَّا يُصْعَقُونَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لا يُصِيبُهُمْ أَلَمٌ وَكَذَلِكَ الأَتْقِيَاءُ، وَلَمَّا يُفِيقُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تِلْكَ الصَّعْقَةِ يَجِدُ مُوسَى وَهُوَ مَاسِكٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَمْرُهُ هَلْ أُعْفِيَ مِنَ الصَّعْقَةِ فَلَمْ يُصْعَقْ، أَمْ صُعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلَهُ.

ثُمَّ بَعْدَ مَوْتِ الْبَشَرِ يَمُوتُ الْمَلائِكَةُ، وَءَاخِرُهُمْ مَوْتًا عَزْرَائِيلُ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يُسْتَثْنَى خَزَنَةُ الْجَنَّةِ وَخَزَنَةُ جَهَنَّمَ وَحَمَلَةُ الْعَرْشِ وَالْحُورُ وَالْوِلْدَانُ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ إِسْرَافِيلَ الَّذِي كَانَ نَفَخَ فِي الصُّورِ الْمَرَّةَ الأُولَى، ثُمَّ يَنْفَخُ مَرَّةً ثَانِيَةً وَذَلِكَ بَعْدَ أَرْبَعِينَ عَامًا فَيَقُومُ الأَمْوَاتُ مِنْ قُبُورِهِمْ وَبَعْدَ ذَلِكَ السُّؤَالُ وَالْحِسَابُ.



الْبَعْثُ

الْبَعْثُ حَقٌّ، وَهُوَ خُرُوجُ الْمَوْتَى مِنَ الْقُبُورِ بَعْدَ إِعَادَةِ الْجَسَدِ الَّذِي أَكَلَهُ التُّرَابُ إِنْ كَانَ مِنَ الأَجْسَادِ الَّتِي يَأْكُلُهَا التُّرَابُ وَهِيَ أَجْسَادُ غَيْرِ الأَنْبِيَاءِ وَشُهَدَاءِ الْمَعْرَكَةِ وَبَعْضِ الأَوْلِيَاءِ لِمَا تَوَاتَرَ مِنْ مُشَاهَدَةِ بَعْضِ الأَوْلِيَاءِ. وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَهْلُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ مِنْ أَوَّلِ مَنْ يُبْعَثُ.

الشَّرْحُ إِنَّمَا قِيلَ مِنْ أَوَّلِ مَنْ يُبْعَثُ لِأَنَّ الأَنْبِيَاءَ هُمْ أَوَّلُ مَنْ يُبْعَثُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْبَعْثَ حَقٌّ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ﴾ [سُورَةَ الْمُؤْمِنُون/16]، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ النُّصُوصِ الْقَاطِعَةِ بِحَشْرِ الأَجْسَادِ.



الْحَشْرُ

وَالْحَشْرُ حَقٌّ، وَهُوَ أَنْ يُجْمَعُوا بَعْدَ الْبَعْثِ إِلَى مَكَانٍ، وَيَكُونُ عَلَى الأَرْضِ الْمُبَدَّلَةِ وَهِيَ أَرْضٌ مُسْتَوِيَةٌ كَالْجِلْدِ الْمَشْدُودِ لا جِبَالَ فِيهَا وَلا وِدْيَانَ، أَكْبَرُ وَأَوْسَعُ مِنْ أَرْضِنَا هَذِهِ بَيْضَاءُ كَالْفِضَّةِ.

الشَّرْحُ بَرُّ الشَّامِ هِيَ أَرْضُ الْمَحْشَرِ وَالْمَنْشَرِ، يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَيْهَا الْعِبَادُ، وَأُمُّ بَرِّ الشَّامِ فِلَسْطِينُ فَهِيَ الأَصْلُ لِأَنَّ الأَنْبِيَاءَ أَكْثَرُهُمْ كَانُوا فِي فِلَسْطِينَ. إِبْرَاهِيمُ وَابْنُهُ إِسْحَاقُ وَابْنُهُ يَعْقُوبُ وَابْنُهُ يُوسُفُ كُلُّهُمْ قُبُورُهُمْ فِي فِلَسْطِينَ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَكُونُ الْحَشْرُ عَلَى ثَلاثَةِ أَحْوَالٍ:

(1) قِسْمٌ طَاعِمُونَ كَاسُونَ رَاكِبُونَ عَلَى نُوقٍ رَحَائِلُهَا مِنْ ذَهَبٍ وَهُمُ الأَتْقِيَاءُ.

(2) وَقِسْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ.

(3) وَقِسْمٌ يُحْشَرُونَ وَيُجَرُّونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ وَهُمُ الْكُفَّارُ.

الشَّرْحُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْحَشْرِ عَلَى هَذِهِ الأَحْوَالِ الثَّلاثَةِ، وَمِنْ فَضْلِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَى مَنْ قَبْلَهَا مِنَ الأُمَمِ أَنَّهُمْ أَكْثَرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَأَهْلُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ صَفًّا، وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ هُمْ ثَمَانُونَ صَفًّا مِنَ الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ صَفًّا.

وَاللَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ دُخُولَ أَيِّ أُمَّةٍ الْجَنَّةَ قَبْلَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ الرَّسُولُ يَدْخُلُ الأَنْبِيَاءُ الْجَنَّةَ ثُمَّ يَدْخُلُ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ.



الْحِسَابُ

وَالْحِسَابُ حَقٌّ، وَهُوَ عَرْضُ أَعْمَالِ الْعِبَادِ عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُ بِتَكْلِيمِ اللَّهِ لِلْعِبَادِ جَمِيعِهِمْ، فَيَفْهَمُونَ مِنْ كَلامِ اللَّهِ السُّؤَالَ عَمَّا فَعَلُوا بِالنِّعَمِ الَّتِي أَعْطَاهُمُ اللَّهُ إِيَّاهَا، فَيُسَرُّ الْمُؤْمِنُ التَّقِيُّ، وَلا يُسَرُّ الْكَافِرُ لِأَنَّهُ لا حَسَنَةَ لَهُ فِي الآخِرَةِ، بَلْ يَكَادُ يَغْشَاهُ الْمَوْتُ، فَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ.

الشَّرْحُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُعْرَضُ عَلَيْهِمْ أَعْمَالُهُمْ، كُلٌّ مَعَهُ كِتَابُهُ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ مَا عَمِلَ، وَيَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ الأَزَلِيَّ الَّذِي لا يُشْبِهُ كَلامَ الْعَالَمِينَ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: اللَّهُ يَتَكَلَّمُ بِلا ءَالَةٍ وَلا حَرْفٍ، فَالْكُفَّارُ لَمَّا يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ يَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الْخَوْفُ وَالِانْزِعَاجُ وَالْخَجَلُ وَالتَّضَايُقُ وَالْقَلَقُ، وَأَمَّا عُصَاةُ الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُونَ عَلَى حَالَيْنِ قِسْمٌ مِنْهُمْ يُصِيبُهُمْ خَوْفٌ وَانْزِعَاجٌ وَقِسْمٌ لا يُصِيبُهُمْ ذَلِكَ.



الْمِيزَانُ

وَالْمِيزَانُ حَقٌّ، وَهُوَ كَمِيزَانِ الدُّنْيَا لَهُ قَصَبَةٌ وَعَمُودٌ وَكَفَّتَانِ كَفَّةٌ لِلْحَسَنَاتِ وَكَفَّةٌ لِلسَّيِّئَاتِ تُوزَنُ بِهِ الأَعْمَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالَّذِي يَتَوَلَّى وَزْنَهَا جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، وَمَا يُوزَنُ إِنَّمَا هُوَ الصَّحَائِفُ الَّتِي كُتِبَ عَلَيْهَا الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ فَمَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّجَاةِ، وَمَنْ تَسَاوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّجَاةِ أَيْضًا وَلَكِنَّهُ أَقَلُّ رُتْبَةً مِنَ الطَّبَقَةِ الأُولَى وَأَرْفَعُ مِنَ الثَّالِثَةِ، وَمَنْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ فَهُوَ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ. وَأَمَّا الْكَافِرُ فَتَرْجَحُ كَفَّةُ سَيِّئَاتِهِ لا غَيْرَ لِأَنَّهُ لا حَسَنَاتَ لَهُ فِي الآخِرَةِ لِأَنَّهُ أُطْعِمَ بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا.

الشَّرْحُ وَالْمِيزَانُ حَقٌّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [سُورَةَ الأَنْبِيَاء/47]، وَلِلأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَالَّذِينَ تَسَاوَتْ حَسَنَاتُهُمْ مَعَ سَيِّئَاتِهِمْ هُمْ مِنْ أَهْلِ النَّجَاةِ، لَكِنَّ هَؤُلاءِ يُؤَخَّرُونَ بُرْهَةً عَنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ ثُمَّ يَدْخُلُونَ، يَكُونُونَ عَلَى الأَعْرَافِ عَلَى أَعْلَى سُورِ الْجَنَّةِ، الْجَنَّةُ لَهَا سُورٌ يُحِيطُ بِهَا وَسُورُهَا عَرِيضٌ وَاسِعٌ.



الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ

الثَّوَابُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ لَيْسَ بِحَقٍّ لِلطَّائِعِينَ وَاجِبٍ عَلَى اللَّهِ، وَإِنَّمَا هُوَ فَضْلٌ مِنْهُ وَهُوَ الْجَزَاءُ الَّذِي يُجْزَى بِهِ الْمُؤْمِنُ مِمَّا يَسُرُّهُ فِي الآخِرَةِ.

وَالْعِقَابُ لا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ أَيْضًا إِيقَاعُهُ لِلْعُصَاةِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَدْلٌ مِنْهُ، وَهُوَ مَا يَسُوءُ الْعَبْدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَكْبَرَ وَأَصْغَرَ، فَالْعِقَابُ الأَكْبَرُ هُوَ دُخُولُ النَّارِ وَالْعِقَابُ الأَصْغَرُ مَا سِوَى ذَلِكَ كَأَذَى حَرِّ الشَّمْسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنَّهَا تُسَلَّطُ عَلَى الْكُفَّارِ فَيَغْرَقُونَ حَتَّى يَصِلَ عَرَقُ أَحَدِهِمْ إِلَى فِيهِ وَلا يَتَجَاوَزُ عَرَقُ هَذَا الشَّخْصِ إِلَى شَخْصٍ ءَاخَرَ بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ حَتَّى يَقُولَ الْكَافِرُ مِنْ شِدَّةِ مَا يُقَاسِي مِنْهَا: رَبِّ أَرِحْنِي وَلَوْ إِلَى النَّارِ، وَيَكُونُ الْمُؤْمِنُونَ الأَتْقِيَاءُ تِلْكَ السَّاعَةَ تَحْتَ ظِلِّ الْعَرْشِ، وَهَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ» أَيْ فِي ظِلِّ عَرْشِهِ.

الشَّرْحُ هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ، وَتَمَامُ الْحَدِيثِ: «إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَافْتَرَقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ»، وَيَلْتَحِقْ بِهِمْ أُنَاسٌ ءَاخَرُونَ ذُكِرُوا فِي أَحَادِيثَ أُخْرَى صَحِيحَةٍ.

فَائِدَةٌ شُهِرَ التَّعْبِيرُ عَنِ الْحِسَابِ بِالْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَمَعْنَى الْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ حِسَابُهُمْ عِنْدَ عَرْضِ أَعْمَالِهِمْ عَلَيْهِمْ وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَكُونُ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ وَيَكُونُ النَّاسُ حَوْلَهُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ جِسْمًا يَتَحَيَّزُ فِي مَكَانٍ. لَيْسَ مُتَحَيِّزًا فِي مَكَانٍ وَلا جِهَةٍ وَلا فِي الْفَرَاغِ وَلا ضِمْنَ بِنَاءٍ وَلا هُوَ فِي هَوَاءِ الْعَرْشِ وَلا هُوَ جَالِسٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْجُلُوسَ وَالِاسْتِقْرَارَ مِنْ صِفَاتِ الْخَلْقِ وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ هَذَا كُلِّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/11] وَتِلْكَ الْهَيْئَةُ الَّتِي يَتَصَوَّرُهَا بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ يَكُونُ ذَلِكَ الْيَوْمَ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ وَالنَّاسُ حَوْلَهُ يَجْتَمِعُونَ لِلْحِسَابِ هَذِهِ الْهَيْئَةُ لا تَجُوزُ عَلَى اللَّهِ لِأَنَّ هَذِهِ هَيْئَةُ الْمُلُوكِ تَحُفُّ بِهِمْ رَعَايَاهُمْ.



الصِّرَاطُ

وَالصِّرَاطُ حَقٌّ، وَهُوَ جِسْرٌ عَرِيضٌ مَمْدُودٌ عَلَى جَهَنَّمَ تَرِدُ عَلَيْهِ الْخَلائِقُ، فَمِنْهُمْ مِنْ يَرِدُهُ وُرُودَ دُخُولٍ وَهُمُ الْكُفَّارُ وَبَعْضُ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ يَزِلُّونَ مِنْهُ إِلَى جَهَنَّمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرِدُهُ وُرُودَ مُرُورٍ فِي هَوَائِهِ، فَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يَمُرُّ كَالْبَرْقِ الْخَاطِفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَطَرْفَةِ عَيْنٍ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ، وَأَحَدُ طَرَفَيْهِ فِي الأَرْضِ الْمُبَدَّلَةِ وَالآخَرُ فِيمَا يَلِي الْجَنَّةَ، وَقَدْ وَرَدَ فِي صِفَتِهِ أَنَّهُ «دَحْضٌ مَزَلَّةٌ» وَمِمَّا وَرَدَ أَنَّهُ أَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ وَأَدَقُّ مِنَ الشَّعْرَةِ كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: «بَلَغَنِي أَنَّهُ أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرَةِ وَأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ» وَلَمْ يَرِدْ مَرْفُوعًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ ظَاهِرَهُ بَلْ هُوَ عَرِيضٌ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّ خَطَرَهُ عَظِيمٌ، فَإِنَّ يُسْرَ الْجَوَازِ عَلَيْهِ وَعُسْرَهُ عَلَى قَدْرِ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي وَلا يَعْلَمُ حُدُودَ ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ مَعْنَاهُ أَنَّ أَعْمَالَهُمْ تَصِيرُ لَهُمْ قُوَّةَ السَّيْرِ.

الشَّرْحُ مَعْنَى قَوْلِهِ: «دَحْضٌ مَزَلَّةٌ» أَيْ أَمْلَسُ تَزِلُّ مِنْهُ الأَقْدَامُ.



الْحَوْضُ

وَالْحَوْضُ حَقٌّ، وَهُوَ مَكَانٌ أَعَدَّ اللَّهُ فِيهِ شَرَابًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ يَشْرَبُونَ مِنْهُ قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَبَعْدَ مُجَاوَزَةِ الصِّرَاطِ، فَلِنَبِيِّنَا حَوْضٌ تَرِدُهُ أُمَّتُهُ فَقَطْ لا تَرِدُهُ أُمَمُ غَيْرِهِ طُولُهُ مَسِيرَةُ شَهْرٍ وَعَرْضُهُ كَذَلِكَ، ءَانِيَتُهُ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ، شَرَابُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَأَطْيَبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ.

وَقَدْ أَعَدَّ اللَّهُ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضًا وَأَكْبَرُ الأَحْوَاضِ حَوْضُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

الشَّرْحُ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ، مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لا يَظْمَأُ أَبَدًا».



صِفَةُ الْجَنَّةِ

وَالْجَنَّةُ حَقٌّ فَيَجِبُ الإِيـمَانُ بِهَا وَأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ الآنَ كَمَا يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنَ الْقُرْءَانِ وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَهِيَ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ [كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى﴾ [سُورَةَ النَّجْم/15]، أَيْ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى] لَيْسَتْ مُتَّصِلَةً بِهَا، وَسَقْفُهَا عَرْشُ الرَّحْمٰنِ، وَأَهْلُهَا عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ ءَادَمَ سِتُّونَ ذِرَاعًا طُولًا فِي سَبْعَةِ أَذْرُعٍ عَرْضًا جَمِيلُو الصُّورَةِ، جُرْدٌ مُرْدٌ فِي عُمْرِ ثَلاثَةٍ وَثَلاثِينَ عَامًا، خَالِدُونَ فِيهَا لا يَخْرُجُونَ مِنْهَا أَبَدًا. وَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ بِأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ ءَادَمَ سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ فِي سَبْعَةِ أَذْرُعٍ عَرْضًا.

الشَّرْحُ الْجَنَّةُ حَقٌّ أَيْ وُجُودُهَا ثَابِتٌ، وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ الآنَ وَلَهَا ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ مِنْهَا بَابُ الرَّيَّانِ الَّذِي يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ، وَشَهِيدُ الْمَعْرَكَةِ يُخَيَّرُ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ أَنْ يَدْخُلَ، وَالْجَنَّةُ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ مُنْفَصِلَةٌ عَنْهَا بِمَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ وَلَهَا أَرْضُهَا الْمُسْتَقِلَّةُ وَسَقْفُهَا عَرْشُ الرَّحْمٰنِ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: «إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ - الْجَنَّةَ - فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمٰنِ».

وَأَهْلُ الْجَنَّةِ عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ ءَادَمَ سِتُّونَ ذِرَاعًا طُولًا فِي عَرْضِ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ حِسَانُ الْوُجُوهِ فَمَنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ دَمِيمًا تَذْهَبُ عَنْهُ دَمَامَتُهُ، اللَّهُ تَعَالَى يَجْعَلُهُ فِي الْجَنَّةِ كَجَمَالِ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ، يُعْطِيهِ شَبَهًا بِيُوسُفَ الصِّدِّيقِ فِي الْجَمَالِ، وَالَّذِي كَانَ قَصِيرًا يَذْهَبُ عَنْهُ قِصَرُهُ. وَيَجْعَلُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كُلِّ وَاحِدٍ عَلامَةً تُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ أَنَّ هَذَا هُوَ فُلانٌ حَتَّى إِنْ زَارَهُ مَنْ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا يَعْرِفُهُ تِلْكَ السَّاعَةَ، فَإِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ وَتَزَاوُرُهُمْ يَحْصُلُ إِمَّا بِأَنْ يَطِيرَ بِالشَّخْصِ سَرِيرُهُ حَتَّى يَنْزِلَ بِهِ أَمَامَ سَرِيرِ الَّذِي يُرِيدُ زِيَارَتَهُ فَيَجْلِسَانِ مُتَقَابِلَيْنِ لِأَنَّهُ مِنْ سُهُولَةِ السَّيْرِ هُنَاكَ السَّرِيرُ الَّذِي عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ مَا يَشْتَاقُ الإِنْسَانُ لِصَاحِبِهِ الَّذِي يُرِيدُ رُؤْيَتَهُ يَطِيرُ بِهِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَنْزِلَ بِهِ أَمَامَ سَرِيرِ ذَلِكَ الشَّخْصِ فَيَتَجَالَسَانِ فَيَتَحَدَّثَانِ، ثُمَّ يَطِيرُ بِهِ إِذَا أَرَادَ الرُّجُوعَ إِلَى مَنْزِلِهِ وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الآيَةِ: ﴿عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ﴾ [سُورَةَ الْحِجْر/47].

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ﴾ [سُورَةَ الْغَاشِيَة/13] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلْوَاحُهَا مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلَةٌ بِالزَّبَرْجَدِ وَالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ مُرْتَفِعَةٌ مَا لَمْ يَجِئْ أَهْلُهَا، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَجْلِسَ عَلَيْهَا أَصْحَابُهَا تَوَاضَعَتْ لَهُمْ حَتَّى يَجْلِسُوا عَلَيْهَا، ثُمَّ تَرْتَفِعُ إِلَى مَوْضِعِهَا، وَأَحْيَانًا يَرْكَبُونَ خُيُولًا مِنْ يَاقُوتٍ لَهَا أَجْنِحَةٌ مِنْ ذَهَبٍ تَطِيرُ بِهِمْ.

وَأَهْلُ الْجَنَّةِ جُرْدٌ مُرْدٌ فِي عُمْرِ ثَلاثَةٍ وَثَلاثِينَ عَامًا، لا تَنْبُتُ لَهُمْ لِحْيَةٌ وَلَيْسَ عَلَى أَذْرِعَتِهِمْ وَلا عَلَى بُطُونِهِمْ وَلا عَلَى سِيقَانِهِمْ شَعَرٌ إِلَّا شَعَرُ الرَّأْسِ وَالْحَاجِبِ، طَعَامُهُمْ وَشَرَابُهُمْ لا يَتَحَوَّلُ إِلَى الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ، إِنَّمَا يَفِيضُ مِنْ جِسْمِهِمْ عَرَقًا كَالْمِسْكِ لَيْسَ كَعَرَقِ الدُّنْيَا، عَرَقُ الدُّنْيَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ الْوَسَخُ وَالْقَمْلُ.

وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ نَادَى مُنَادٍ: إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلا تَسْقَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلا تَهْرَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلا تَبْأَسُوا أَبَدًا» وَءَاخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ مِثْلُ الدُّنْيَا وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهَا وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ.

وَالْوَاحِدُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَقَلُّ مَا يَكُونُ عِنْدَهُ مِنَ الْوِلْدَانِ الْمُخَلَّدِينَ عَشَرَةُ ءَالافٍ، بِإِحْدَى يَدَيْ كُلٍّ مِنْهُمْ صَحِيفَةٌ مِنْ ذَهَبٍ وَبِالأُخْرَى صَحِيفَةٌ مِنْ فِضَّةٍ قَالَ تَعَالَى: ﴿يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ﴾ [سُورَةَ الزُّخْرُف/71] وَالأَكْوَابُ جَمْعُ كُوبٍ وَهُوَ إِنَاءٌ مُسْتَدِيرٌ لا عُرْوَةَ لَهُ أَيْ لا أُذُنَ لَهُ. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ﴾ [سُورَةَ الطُّور/24] أَيْ يَطُوفُ لِلْخِدْمَةِ غِلْمَانٌ كَأَنَّهُمْ مِنَ الْحُسْنِ وَالْبَيَاضِ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ أَيْ لَمْ تَمَسَّهُ الأَيْدِي وَهَؤُلاءِ الْغِلْمَانُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ لَيْسُوا بَشَرًا وَلا جِنًّا وَلا مَلائِكَةً.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَصْفِهَا: «هِيَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ نُورٌ يَتَلَأْلَأُ وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ، وَقَصْرٌ مَشِيدٌ وَنَهْرٌ مُطَّرِدٌ، وَفَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ نَضِيجَةٌ، وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ، وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ فِي مُقَامٍ أَبَدِيٍّ فِي حُبْرَةٍ وَنَضْرَةٍ» رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ.

الشَّرْحُ فِي بِدَايَةِ الْحَدِيثِ يَقُولُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ لِأَصْحَابِهِ: «هَلْ مُشَمِّرٌ لِلْجَنَّةِ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ لا خَطَرَ لَهَا»، أَيْ لا مِثْلَ لَهَا، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: «هِيَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ» أَيْ أُقْسِمُ بِرَبِّ الْكَعْبَةِ عَلَى أَنَّهَا نُورٌ يَتَلَأْلَأُ أَيْ فَلا تَحْتَاجُ الْجَنَّةُ إِلَى شَمْسٍ وَلا قَمَرٍ، لا ظَلامَ فِيهَا هُنَاكَ كَمَا فِي الدُّنْيَا، لَكِنَّ مِقْدَارَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ يُعْرَفُ بِعَلامَةٍ جَعَلَهَا اللَّهُ فِيهَا، إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ نِسَاءِ الْجَنَّةِ كَمَا نَعَتَهَا رَسُولُ اللَّهِ وَوَصَفَهَا بِحَيْثُ لَوِ اطَّلَعَتْ عَلَى هَذِهِ الدُّنْيَا لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ فِيهَا ظَلامٌ، وَلَوْ كَانَتْ أَعْيُنُ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِنِسْبَةِ قُوَّتِهَا الْيَوْمَ لَعَمِيَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ عُظْمِ نُورِ الْجَنَّةِ، لَكِنَّ اللَّهَ يُعْطِيهِمْ قُوَّةً أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً إِلَى حَدٍّ يَعْلَمُهُ اللَّهُ، اللَّهُ أَعْطَى أَبْصَارَهُمْ قُوَّةً بِحَيْثُ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَرَى مَسَافَةَ أَلْفِ سَنَةٍ كَأَنَّهَا كَفٌّ، يَرَوْنَهَا رُؤْيَةً لَيْسَ فِيهَا اشْتِبَاهٌ.

وَوَصَفَهَا بِأَنَّهَا «رَيْحَانَهٌ تَهْتَزُّ»، أَيْ ذَاتُ خُضْرَةٍ كَثِيرَةٍ يَانِعَةٍ أَيْ مُعْجِبَةِ الْمَنْظَرِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ مَوَاسِمُ لِلثِّمَارِ بَلْ فِي أَيِّ وَقْتٍ مَا تَشْتَهِيهِ تَجِدُهُ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ﴾ [سُورَةَ الْوَاقِعَة/33] فَإِذَا كَانَ الْمُؤْمِنُ جَالِسًا أَوْ مُسْتَلْقِيًا فَاشْتَهَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْ شَجَرَةٍ مِنْ أَشْجَارِ الْجَنَّةِ مَالَتْ إِلَيْهِ لِيَأْخُذَ مِنْهَا مَا يُرِيدُ ثُمَّ تَعُودُ كَمَا كَانَتْ وَقَدْ أَنْبَتَ اللَّهُ فِيهَا بَدَلَ الَّذِي أُخِذَ مِنْهَا، ثُمَّ إِنَّ كُلَّ شَجَرَةٍ فِي الْجَنَّةِ سَاقُهَا مِنْ ذَهَبٍ، وَأَشْجَارُ الْجَنَّةِ لَمَّا تَتَحَرَّكُ يَصْدُرُ لَهَا صَوْتٌ جَمِيلٌ جِدًّا تَمِيلُ إِلَيْهِ النُّفُوسُ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ يُوجَدُ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ اسْمُهَا طُوبَى يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لا يَقْطَعُهَا تَتَفَتَّقُ بِثِيَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَيْ يَخْرُجُ مِنْهَا ثِيَابٌ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ يَلْبَسُونَهَا، فَثِيَابُهُمْ مِنْهَا الْحَرِيرُ وَالسُّنْدُسُ وَالِاسْتَبْرَقُ، وَمَجَامِرُهُمُ الأَلُوَّةُ أَيِ الْعُودُ وَأَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ، وَكَلامُ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَرَبِيٌّ، يَذْكُرُونَ اللَّهَ وَيُسَبِّحُونَهُ وَيَقْرَأُونَ الْقُرْءَانَ أَمَّا الصَّلاةُ فَلَمْ يَرِدْ لَهَا ذِكْرٌ.

وَفِي الْحَدِيثِ الْمَارِّ أَنَّ الرَّسُولَ وَصَفَ الْجَنَّةَ بِأَنَّهَا قَصْرٌ مَشِيدٌ أَيْ فِيهَا قُصُورٌ عَالِيَةٌ مُرْتَفِعَةٌ فِي الْهَوَاءِ، وَقَدْ صَحَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ لِلْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ خَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ مُجَوَّفَةٍ وَاحِدَةٍ طُولُهَا فِي السَّمَاءِ سِتُّونَ مِيلًا. وَفِي الْجَنَّةِ جَنَّتَانِ ءَانِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا مِنْ ذَهَبٍ، يَسْكُنُهُمَا الْمُقَرَّبُونَ، وَهُنَاكَ أَيْضًا جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ ءَانِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ الْجَنَّةَ مِنْهَا مَا بَنَاؤُهُ لَبِنُ ذَهَبٍ وَلَبِنُ فِضَّةٍ، وَهِيَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «جِنَانٌ كَثِيرَةٌ »رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَكَذَلِكَ يُوجَدُ فِي الْجَنَّةِ غُرَفٌ يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا.

وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ فِي الْحَدِيثِ الْمَارِّ: «نَهْرٌ مُطَّرِدٌ »أَيْ أَنْهَارٌ جَارِيَةٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّنْ مَّاءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّنْ لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى﴾ [سُورَةَ مُحَمَّد/15] اللَّبَنُ الْمَذْكُورُ فِي الآيَةِ الْمُرَادُ بِهِ الْحَلِيبُ، وَالْخَمْرُ الَّذِي هُنَاكَ لا يُسْكِرُ وَلا يُغَيِّبُ الْعَقْلَ وَلا يُصْدِعُ الرَّأْسَ وَلَيْسَ مُرَّ الطَّعْمِ بَلْ هُوَ لَذِيذُ الطَّعْمِ جِدًّا، وَالْعَسَلُ الَّذِي هُنَاكَ غَيْرُ الْعَسَلِ الَّذِي تُخْرِجُهُ النَّحْلُ.

وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ فِي الْحَدِيثِ الْمَارِّ: «وَفَاكِهَةٌ نَضِيجَةٌ »أَيْ أَنَّ فِيهَا مِنَ الْفَوَاكِهِ كُلَّ مَا تَشْتَهِيهِ النَّفْسُ، وَكُلُّ مَا فِيهَا مِنَ الْفَوَاكِهِ نَضِيجٌ. وَفِي الْجَنَّةِ أَيْضًا طُيُورٌ وَغَنَمٌ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّكَ لَتَنْظُرُ إِلَى الطَّيْرِ فِي الْجَنَّةِ فَتَشْتَهِيهِ فَيَخِرُّ بَيْنَ يَدَيْكَ مَشْوِيًّا»، ثُمَّ بَعْدَمَا يَأْكُلُهُ الْمُؤْمِنُ يُعِيدُهُ اللَّهُ كَمَا كَانَ فَيَطِيرُ.

وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ فِي الْحَدِيثِ الْمَارِّ: «وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ» فَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ: «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ» وَهَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَيْضًا الَّذِي رَوَاهُ الضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ فِي الْمُخْتَارَةِ: «أَنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَيَطُوفُ فِي الْغَدَاةِ الْوَاحِدَةِ عَلَى مِائَةِ عَذْرَاءَ». وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ الشَّهِيدَ لَهُ اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ زَوْجَةً، ثُمَّ سَائِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَلَى مَرَاتِبَ مِنْهُمْ مَنْ عِنْدَهُ مِائَةٌ مِنَ النِّسَاءِ، فِي الْجَنَّةِ اللَّهُ يُعْطِي الْوَاحِدَ مِنَ الرِّجَالِ قُوَّةَ مِائَةِ رَجُلٍ فِي الشَّهْوَةِ، وَكَذَلِكَ فِي الأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَلا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ فُتُورٌ عَقِبَ الْجِمَاعِ وَلا يَنْزِلُ مِنْهُ مَنِيٌّ لِأَنَّ الْجَنَّةَ لَيْسَ فِيهَا ذَلِكَ وَلَكِنْ يُحِسُّ بِاللَّذَّةِ دُونَ نُزُولِ الْمَنِيِّ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ نِسَاءَ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَلَى رُءُوسِهِنَّ خُمُرٌ، الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا لا تُسَاوِي الْخِمَارَ الَّذِي يَلْبَسْنَهُ نِسَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَهُنَّ يَلْبَسْنَ الْخِمَارَ تَجَمُّلًا زِيَادَةً فِي الْحُسْنِ، وَالْخِمَارُ مَا تُغَطِّي النِّسَاءُ بِهِ رُءُوسَهُنَّ. وَنِسَاءُ الْجَنَّةِ أَبْكَارٌ أَيْ كُلَّمَا أَتَى الْمُؤْمِنُ زَوْجَتَهُ وَجَدَهَا بِكْرًا، ثُمَّ مَعَ كَثْرَةِ أَزْوَاجِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لا يَحْصُلُ بَيْنَ نِسَائِهِمْ تَبَاغُضٌ وَغَيْرَةٌ وَتَحَاسُدٌ لِأَنَّ اللَّهَ يُطَهِّرُ قُلُوبَ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ ذَلِكَ، وَالْمُؤْمِنَةُ التَّقِيَّةُ مِنْ بَنَاتِ ءَادَمَ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ مَقَامًا.

وَالْحُورُ الْعِينُ نِسَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ غَيْرِ الإِنْسِ خُلِقْنَ خَلْقًا مِنْ غَيْرِ تَوَالُدٍ إِكْرَامًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْحُورُ جَمْعُ حَوْرَاءَ وَالْعِينُ جَمْعُ عَيْنَاءَ، وَالْحُورُ مِنَ الْحَوَرِ وَهُوَ شِدَّةُ بَيَاضِ الْعَيْنِ وَشِدَّةُ سَوَادِهَا، وَأَمَّا الْعِينُ فَمَعْنَاهُ وَاسِعَاتُ الْعُيُونِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي وَصْفِهِنَّ: ﴿كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ﴾ [سُورَةَ الرَّحْمٰنِ/58] وَهُنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ أَزْوَاجُ قَوْمٍ كِرَامٍ. وَالْوَاحِدَةُ مِنْهُنَّ مِنْ شِدَّةِ صَفَاءِ عَظْمِهَا يُرَى مُخُّ سَاقِهَا مِنْ خَلالِ الْجِلْدِ.

وَلَيْسَ فِي الْجَنَّةِ عَزَبٌ وَلا عَزَبَةٌ بَلْ كُلُّهُمْ يَتَزَوَّجُونَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا فِي الْجَنَّةِ أَعْزَبُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: «فِي مُقَامٍ أَبَدِيٍّ» أَيْ فِي حَيَاةٍ دَائِمَةٍ لا نِهَايَةَ لَهَا.

وَقَوْلُهُ: «فِي حُبْرَةٍ» أَيْ سُرُورٍ دَائِمٍ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: «نَضْرَةٍ» فَمَعْنَاهُ أَنَّ وُجُوهَ أَهْلِهَا نَاضِرَةٌ أَيْ جَمِيلَةٌ لِأَنَّهُمْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ فِيهَا كَآبَةٌ. وَلْيُعْلَمْ أَنَّ أَعْظَمَ نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ هُوَ رُؤْيَتُهُمْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَيْسَ شَىْءٌ أَحَبَّ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ رُؤْيَةِ اللَّهِ، يَرَوْنَهُ بِلا كَيْفٍ وَلا مَكَانٍ وَلا جِهَةٍ، الأَوْلِيَاءُ يَرَوْنَهُ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ أَمَّا سَائِرُ الْمُؤْمِنِينَ فَفِي الأُسْبُوعِ مَرَّةً.

وَفِي نِهَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ الصَّحَابَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ: «نَحْنُ الْمُشَمِّرُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ»، فَقَالَ: «قُولُوا إِنْ شَاءَ اللَّهُ»، وَذَلِكَ لِيُعَلِّمَهُمُ التَّفْوِيضَ إِلَى اللَّهِ فِي أُمُورِهِمْ كُلِّهَا، فَهَنِيئًا لِمَنْ عَمِلَ لِآخِرَتِهِ فَإِنَّ نَعِيمَ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ لِنَعِيمِ الآخِرَةِ كَلا شَىْءٍ، فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَمَعْنَاهُ هَذَا الْبَلَلُ الَّذِي يَعْلَقُ بِالإِصْبَعِ مَاذَا يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ لِعُظْمِ الْبَحْرِ. وَقَدْ ثَبَتَ حَدِيثُ: «مَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. السَّوْطُ هُوَ الآلَةُ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ لِلضَّرْبِ تَكُونُ غَالِبًا مِنَ الْجِلْدِ أَيْ أَنَّ الْمِسَاحَةَ الَّتِي يَأْخُذُهَا السَّوْطُ إِذَا وُضِعَ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا.

وَمِنْ خَصَائِصِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ هُوَ أَوَّلُ مَنْ يَأْخُذُ بِحَلْقَةِ بَابِ الْجَنَّةِ يَسْتَفْتِحُ فَيَقُولُ الْمَلَكُ خَازِنُ الْجَنَّةِ الْمُوَكَّلُ بِبَابِهَا: مَنْ، فَيَقُولُ: «مُحَمَّدٌ»، فَيَقُولُ الْمَلَكُ: بِكَ أُمِرْتُ لا أَفْتَحُ لِأَحَدٍ قَبْلَكَ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ فِيهِمْ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْهُمْ وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ دَفْعَةً وَاحِدَةً بِلا حِسَابٍ وَلا عِقَابٍ وَهَؤُلاءِ هُمُ الأَوْلِيَاءُ الصَّالِحُونَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَيَلِيهِمْ أُنَاسٌ وُجُوهُهُمْ كَأَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ مَعَ كُلِّ أَلْفٍ مِنَ السَّبْعِينَ أَلْفًا سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِلا حِسَابٍ وَمَعَهُمْ زِيَادَةٌ عَلَيْهِمْ لا يَعْلَمُ مِقْدَارَهُمْ إِلَّا اللَّهُ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ أَيْضًا بِلا حِسَابٍ وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ خَيْرُ الأُمَمِ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ.

وَمِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الأُمَّةِ مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: «نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ »رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، أَيِ الآخِرُونَ وُجُودًا السَّابِقُونَ دُخُولًا الْجَنَّةَ.



صِفَةُ جَهَنَّمَ

وَالنَّارُ حَقٌّ، فَيَجِبُ الإِيـمَانُ بِهَا وَبِأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ الآنَ، كَمَا يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنَ الآيَاتِ وَالأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَهِيَ مَكَانٌ أَعَدَّهُ اللَّهُ لِعَذَابِ الْكُفَّارِ الَّذِي لا يَنْتَهِي أَبَدًا وَبَعْضِ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَكَانُهَا تَحْتَ الأَرْضِ السَّابِعَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً بِهَا.

الشَّرْحُ النَّارُ حَقٌّ أَيْ وُجُودُهَا ثَابِتٌ فَيَجِبُ الإِيـمَانُ بِهَا وَبِأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ الآنَ كَمَا يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنَ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ كَحَدِيثِ: «أُوقِدَ عَلَى النَّارِ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى احْمَرَّتْ وَأَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى ابْيَضَّتْ وَأَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى اسْوَدَّتْ فَهِيَ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَجَهَنَّمُ لَيْسَتْ مُتَّصِلَةً بِالأَرْضِ السَّابِعَةِ بَلْ تَحْتَهَا مُنْفَصِلَةٌ عَنْهَا، لَهَا أَرْضُهَا وَسَقْفُهَا الْمُسْتَقِلَّانِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَزِيدُ اللَّهُ فِي حَجْمِ الْكَافِرِ فِي النَّارِ لِيَزْدَادَ عَذَابًا حَتَّى يَكُونَ ضِرْسُهُ كَجَبَلِ أُحُدٍ.

الشَّرْحُ مَا بَيْنَ مَنْكِبَيِ الْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَسِيرَةُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، وَلَوْ كَانَتْ خِلْقَتُهُمْ تَكُونُ كَمَا هِيَ فِي الدُّنْيَا لَذَابُوا بِلَحْظَةٍ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ أَبَدًا لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا أَيْ حَيَاةً فِيهَا رَاحَةٌ، لَيْسَ لَهُمْ فِيهَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ، وَشَرَابُهُمْ مِنَ الْمَاءِ الْحَارِّ الْمُتَنَاهِي الْحَرَارَةِ.

الشَّرْحُ الْكُفَّارُ يَخْلُدُونَ فِي النَّارِ أَبَدًا لا يَخْرُجُونَ مِنْهَا كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا﴾ [سُورَةَ الأَحْزَاب] وَلا يَمُوتُونَ فِي النَّارِ فَيَرْتَاحُونَ مِنَ الْعَذَابِ وَلا يَحْيَوْنَ حَيَاةً هَنِيئَةً طَيِّبَةً بَلْ هُمْ دَائِمًا فِي نَكَدٍ وَعَذَابٍ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى﴾ [سُورَةَ طَه/74]، وَقَالَ مَلاحِدَةُ الْمُتَصَوِّفَةِ: إِنَّ أَهْلَ النَّارِ يَعُودُونَ يَتَلَذَّذُونَ فِي النَّارِ حَتَّى لَوْ أُمِرُوا بِالْخُرُوجِ لا يَرْضَوْنَ، وَهَذَا رَدٌّ لِلنُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ وَرَدُّ النُّصُوصِ كُفْرٌ.

وَطَعَامُهُمْ مِنْ ضَرِيعٍ وَهُوَ شَجَرٌ كَرِيهُ الْمَنْظَرِ كَرِيهُ الطَّعْمِ كَرِيهُ الرَّائِحَةِ، يُوجَدُ فِي الْبِلادِ الْحَارَّةِ شَبِيهُهُ، قَالَ تَعَالَى: ﴿لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لَّا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ﴾ [سُورَةَ الْغَاشِيَة]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ﴾ [سُورَةَ الدُّخَان].

وَهَذِهِ الشَّجَرَةُ مَنْظَرُهَا قَبِيحٌ جِدًّا وَرَائِحَتُهَا كَرِيهَةٌ جِدًّا لا تُطَاقُ لَكِنْ هُمْ مِنْ شِدَّةِ اضْطِرَارِهِمْ وَمِنْ شِدَّةِ جُوعِهِمْ وَحِرْمَانِهِمْ كَأَنَّهُمْ يَأْكُلُونَهُ بِدُونِ اخْتِيَارٍ، مَلائِكَةُ الْعَذَابِ يُطْعِمُونَهُمْ مِنْ هَذَا، قَالَ تَعَالَى: ﴿أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ﴾ [سُورَةَ الصَّافَّات].

وَكَذَلِكَ يَأْكُلُ أَهْلُ النَّارِ مِنَ الْغِسْلِينِ قَالَ تَعَالَى: ﴿فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ لَّا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ﴾ [سُورَةَ الْحَاقَّة]، وَالْغِسْلِينُ هُوَ مَا يَسِيلُ مِنْ جُلُودِ أَهْلِ النَّارِ، لِأَنَّهُ كُلَّمَا أَنْضَجَتْ جُلُودَهُمُ النَّارُ يُكْسَوْنَ جُلُودًا غَيْرَهَا فِيهَا رُطُوبَةٌ.

وَأَمَّا شَرَابُ أَهْلِ النَّارِ فَهُوَ الْمَاءُ الْمُتَنَاهِي فِي الْحَرَارَةِ قَالَ تَعَالَى: ﴿إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا﴾ [سُورَةَ النَّبَأ/25]، وَالْحَمِيمُ هُوَ الْمَاءُ الْمُتَنَاهِي فِي الْحَرَارَةِ، وَالْغَسَّاقُ هُوَ مَا يَسِيلُ مِنْ جُلُودِ أَهْلِ النَّارِ، وَمَلائِكَةُ الْعَذَابِ يَسْقُونَهُمْ مِنْ هَذَا فَتُقَطِّعُ أَمْعَاءَهُمْ.
وَثِيَابُ الْكُفَّارِ مِنَ نَارٍ قَالَ تَعَالَى: ﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّنْ نَّارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ﴾ [سُورَةَ الْحَجّ/19].

وَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ فِي جَهَنَّمَ لِتَعْذِيبِ الْكُفَّارِ حَيَّاتٍ الْحَيَّةُ الْوَاحِدَةُ كَالْوَادِي، وَعَقَارِبَ كَالْبِغَالِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَمَّا كَوْنُ الْجَنَّةِ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَذَلِكَ ثَابِتٌ فِيمَا صَحَّ مِنَ الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَفَوْقَهُ» يَعْنِي الْفِرْدَوْسَ «عَرْشُ الرَّحْمٰنِ»، وَأَمَّا كَوْنُ جَهَنَّمَ تَحْتَ الأَرْضِ السَّابِعَةِ فَقَدْ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ: إِنَّ ذَلِكَ جَاءَتْ فِيهِ رِوَايَاتٌ صَحِيحَةٌ.

الشَّرْحُ ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ فِي كِتَابِهِ الْمُسْتَدْرَكِ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ جَاءَتْ رِوَايَاتٌ صَحِيحَةٌ فِي أَنَّ جَهَنَّمَ تَحْتَ الأَرْضِ السَّابِعَةِ.




الشَّفَاعَةُ

وَالشَّفَاعَةُ حَقٌّ، وَهِيَ سُؤَالُ الْخَيْرِ مِنَ الْغَيْرِ لِلْغَيْرِ، فَيَشْفَعُ النَّبِيُّونَ وَالْعُلَمَاءُ الْعَامِلُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَالْمَلائِكَةُ، وَيَشْفَعُ نَبِيُّنَا لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِهِ.

الشَّرْحُ يَجِبُ الإِيـمَانُ بِالشَّفَاعَةِ الَّتِي ادَّخَرَهَا النَّبِيُّ لِأُمَّتِهِ وَمَعْنَاهَا لُغَةً سُؤَالُ الْخَيْرِ أَيْ طَلَبُ الْخَيْرِ مِنَ الْغَيْرِ لِلْغَيْرِ، وَالشَّفَاعَةُ فِي الآخِرَةِ تَكُونُ لِتَخْلِيصِ النَّاسِ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهَذِهِ لِسَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، أَمَّا الْكُفَّارُ فَيَنْتَقِلُونَ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ إِلَى عَذَابٍ أَشَدَّ. وَمِنَ الشَّفَاعَةِ الشَّفَاعَةُ فِي إِخْرَاجِ بَعْضِ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ مَاتُوا بِلا تَوْبَةٍ مِنْ جَهَنَّمَ، وَهَذِهِ يَشْتَرِكُ فِيهَا الرَّسُولُ وَغَيْرُهُ فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَخْرُجُ نَاسٌ مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَنَحْوِهِ يُعْلَمُ أَنَّهُ لا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ بَعْضُ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ النَّارَ، فَلا يَجُوزُ الدُّعَاءُ بِنَجَاةِ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ دُخُولِ النَّارِ، وَقَوْلُ بَعْضِ الْمُنْتَسِبِينَ لِلطَّرِيقَةِ الْقَادِرِيَّةِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمْ لِقِرَاءَةِ الأَوْرَادِ: «اللَّهُمَّ أَجِرْنَا وَأَجِرْ وَالِدِينَا وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ النَّارِ» حَرَامٌ وَهَذَا يَحْصُلُ فِي الْجَزَائِرِ وَفِي سُورِيَا وَالْحَبَشَةِ يَجْتَمِعُونَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فَيَقْرَأُونَ أَوْرَادَهُمْ وَيَقُولُونَ هَذَا اللَّفْظَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَهَذَا دَاءٌ مِنْ أَدْوَاءِ الْجَهْلِ فَإِنَّ أَكْثَرَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الطُّرُقِ جُهَّالٌ يَنْتَسِبُونَ لِأَخْذِ الطُّرُقِ قَبْلَ أَنْ يَتَعَلَمُّوا الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ. وَالْعَجَبُ مِنْ هَؤُلاءِ كَيْفَ خَفِيَ عَلَيْهِمْ فَسَادُ هَذَا الْكَلامِ مَعَ أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ أَنَّ الرَّسُولَ يَشْفَعُ لِبَعْضِ أُمَّتِهِ فِي إِخْرَاجِهِمْ مِنَ النَّارِ، وَلَوْ سَلَكَ هَؤُلاءِ مَسْلَكَ الصُّوفِيَّةِ الْحَقِيقِيِّينَ لَسَلِمُوا لِأَنَّ الصُّوفِيَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ مِنْ شُرُوطِهِمُ الأَسَاسِيَّةِ تَعَلُّمُ عِلْمِ الدِّينِ الضَّرُورِيِّ الَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَهَؤُلاءِ حَالُهُمْ كَحَالِ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَصْعَدَ إِلَى السَّطْحِ الَّذِي لا سَبِيلَ لِلْوُصُولِ إِلَيْهِ إِلَّا بِارْتِقَاءِ السُّلَّمِ بِغَيْرِ سُلَّمٍ، وَلَعَلَّ بَعْضَ هَؤُلاءِ مِنْ شِدَّةِ الْجَهْلِ يَقْرَأُونَ هَذَا اللَّفْظَ وَلا يَفْهَمُونَ مَعْنَاهُ، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.

أَمَّا الصُّوفِيَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ وَهُمُ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ بِهِ يَكُونُونَ مُحَصِّلِينَ لِلْعِلْمِ الَّذِي لا بُدَّ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ مِنْ تَعَلُّمِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَبَعْضُهُمْ يَكُونُونَ جَمَعُوا مِنَ الْعِلْمِ زِيَادَةً عَلَى الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ وَهَؤُلاءِ عُلَمَاءُ صُوفِيَّةٌ هَؤُلاءِ مِنْ خِيَارِ خَلْقِ اللَّهِ وَالطَّاعِنُ فِيهِمْ جَاهِلٌ بِالدِّينِ، وَمِنْ رُءُوسِ هَؤُلاءِ وَمَشَاهِيرِهِمُ الْجُنَيْدُ بنُ مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيُّ الَّذِي تُوُفِّيَ فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الثَّالِثِ الْهِجْرِيِّ.

اعْلَمْ أَنَّ الصُّوفِيَّةَ بِهَذَا الْمَعْنَى يَشْمَلُ الصَّحَابَةَ الَّذِي كَانُوا بِهَذِهِ الصِّفَةِ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ مَعَ الزُّهْدِ وَتَرْكِ التَّنَعُّمِ لِأَنَّ تَرْكَ التَّنَعُّمِ حَالُهُمْ، فَالطَّبَقَةُ الأُولَى مِنْ هَؤُلاءِ هُمُ الْخُلَفَاءُ الأَرْبَعَةُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ أَيْ عُلَمَاءَ عَامِلِينَ زُهَّادًا فِي الدُّنْيَا تَرَكُوا التَّنَعُّمَ الَّذِي أَحَلَّهُ اللَّهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ عَمَلًا بِمَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ الرَّسُولُ لِقَوْلِهِ لِمُعَاذِ بنِ جَبَلٍ: «إِيَّاكَ وَالتَّنَعُّمَ فَإِنَّ عِبَادَ اللَّهِ لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّمِينَ »رَوَاهُ أَحْمَدُ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ لِبَعْضِ النَّوَاحِي إِرْشَادَاتٍ جَاءَ فِيهَا: «وَاخْشَوْشِنُوا وَتَمَعْدَدُوا وَإِيَّاكُمْ وَزِيَّ الْعَجَمِ» وَالِاخْشِيشَانُ هُوَ تَرْكُ التَّنَعُّمِ وَالْمَعْنَى خُذُوا بِسِيرَةِ مَعَدِّ بنِ عَدْنَانَ أَحَدِ أَجْدَادِ الرَّسُولِ. تَشَبَّهُوا بِهِ لِأَنَّهُ كَانَ رَجُلًا صَاحِبَ حَزْمٍ وَجَلادَةٍ مَا كَانَ يَرْكَنُ لِلْمَلَذَّاتِ مَا كَانَ يَتْبَعُ الْمَلَذَّاتِ بَلْ كَانَ يَلْتَزِمُ خُشُونَةَ الْعَيْشِ وَتَحَمُّلَ الْمَشَقَّاتِ.

وَمِنَ الْعَجَبِ الْعُجَابِ تَكْفِيرُ وَهَّابِيَّةِ الْعَصْرِ لِلصُّوفِيَّةِ بِلا تَفْصِيلٍ مَعَ أَنَّ زَعِيمَهُمْ ابْنَ تَيْمِيَةَ قَالَ فِي الْجُنَيْدِ إِنَّهُ إِمَامُ هُدًى، ذَكَرَ ذَلِكَ فِي كِتَابَيْنِ مِنْ مُؤَلَّفَاتِهِ، بَلْ قَالُوا مِنْ شِدَّةِ خَبْطِهِمْ وَخَلْطِهِمْ: يَجِبُ مُحَارَبَةُ الصُّوفِيَّةِ قَبْلَ الْيَهُودِ، وَالْوَاقِعُ أَنَّهُ مُنْذُ عَصْرِ الصَّحَابَةِ إِلَى عَصْرِنَا هَذَا لا تَزَالُ صُوفِيَّةٌ صَادِقَةٌ مُتَحَقِّقَةٌ جَمَعُوا بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ.

وَالَّذِينَ يَحْتَاجُونَ لِلشَّفَاعَةِ هُمْ أَهْلُ الْكَبَائِرِ أَمَّا الأَتْقِيَاءُ فَلا يَحْتَاجُونَ لِلشَّفَاعَةِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ.

أَيْ غَيْرُ أَهْلِ الْكَبَائِرِ لَيْسُوا بِحَاجَةٍ لِلشَّفَاعَةِ، وَتَكُونُ لِبَعْضِهِمْ قَبْلَ دُخُولِهِمُ النَّارَ وَلِبَعْضٍ بَعْدَ دُخُولِهِمْ قَبْلَ أَنْ تَمْضِيَ الْمُدَّةُ الَّتِي يَسْتَحِقُّونَ بِمَعَاصِيهِمْ، وَلا تَكُونُ لِلْكُفَّارِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾ [سُورَةَ الأَنْبِيَاء/28].

الشَّرْحُ مَعْنَى حَدِيثِ: «شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» أَنَّ غَيْرَ أَهْلِ الْكَبَائِرِ لا يَحْتَاجُونَ لِلشَّفَاعَةِ لِلإِنْقَاذِ مِنَ الْعَذَابِ، وَكَذَلِكَ لا يَحْتَاجُ لِلشَّفَاعَةِ الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ تَائِبُونَ، وَمَعَ هَذَا يَقُولُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِنَّ لِلرَّسُولِ شَفَاعَاتٍ أُخْرَى.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَوَّلُ شَافِعٍ يَشْفَعُ هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

الشَّرْحُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ هُوَ أَوَّلُ مَنْ يَشْفَعُ وَأَوَّلُ مَنْ تُقْبَلُ شَفَاعَتُهُ، فَهُوَ يَخْتَصُّ بِالشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى وَقَدْ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا لا تَخْتَصُّ بِأُمَّتِهِ فَقَطْ بَلْ يَنْتَفِعُ بِهَا غَيْرُ أُمَّتِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ لِتَخْلِيصِهِمْ مِنَ الِاسْتِمْرَارِ فِي حَرِّ الشَّمْسِ فِي الْمَوْقِفِ، فَإِنَّ النَّاسَ عِنْدَمَا يَكُونُونَ فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَعَالَوْا لِنَذْهَبَ إِلَى أَبِينَا ءَادَمَ لِيَشْفَعَ لَنَا إِلَى رَبِّنَا، فَيَأْتُونَ إِلَى ءَادَمَ فَيَقُولُونَ: يَا ءَادَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ - أَيْ بِعِنَايَةٍ مِنْهُ - وَأَسْجَدَ لَكَ مَلائِكَتَهُ فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّنَا، فَيَقُولُ لَهُمْ: لَسْتُ فُلانًا، اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ، فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَطْلُبُونَ مِنْهُ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُمْ: ايِتُوا إِبْرَاهِيمَ، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ إِبْرَاهِيمُ يَقُولُ لَهُمْ: لَسْتُ فُلانًا، مَعْنَاهُ أَنَا لَسْتُ صَاحِبَ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ، فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ لَهُمْ: لَسْتُ فُلانًا، فَيَقُولُ لَهُمْ: ايِتُوا عِيسَى، فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ لَهُمْ: لَسْتُ فُلانًا وَلَكِنِ اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ، فَيَأْتُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَسْجُدُ النَّبِيُّ لِرَبِّهِ فَيُقَالُ لَهُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ وَسَلْ تُعْطَ، هَذِهِ تُسَمَّى الشَّفَاعَةَ الْعُظْمَى لِأَنَّهَا عَامَّةٌ. وَأَمَّا الْكُفَّارُ فَلا يَنْتَفِعُونَ بِهَا لِأَنَّهُمْ يُنْقَلُونَ مِنْ هَذَا الْمَوْقِفِ إِلَى مَوْقِفٍ أَشَدَّ لا يَسْتَفِيدُونَ تَخْفِيفَ مَشَقَّةٍ وَلا نَيْلَ رَاحَةٍ.

وَلا تَكُونُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا لِمَنْ ءَامَنَ بِمُحَمَّدٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ لِابْنَتِهِ فَاطِمَةَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ: «يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا »رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمَعْنَاهُ لا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُنْقِذَكِ مِنَ النَّارِ إِذَا لَمْ تُؤْمِنِي، أَمَّا فِي الدُّنْيَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْفَعَكِ بِمَالِي، أَمَّا فِي الآخِرَةِ لا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْفَعَكِ إِنْ لَمْ تَدْخُلِي فِي دَعْوَةِ الإِسْلامِ.



الرُّوحُ

يَجِبُ الإِيـمَانُ بِالرُّوحِ وَهِيَ جِسْمٌ لَطِيفٌ لا يَعْلَمُ حَقِيقَتَهُ إِلَّا اللَّهُ.

الشَّرْحُ الْجِسْمُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ كَثِيفًا كَالشَّجَرِ وَالْحَجَرِ وَالإِنْسَانِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَطِيفًا كَالْهَوَاءِ وَالْجِنِّ وَالْمَلائِكَةِ وَالرُّوحِ، فَالْمَلائِكَةُ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَدْخُلُوا فِي جِسْمِ ابْنِ ءَادَمَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْعُرَ وَيُحِسَّ بِهِمْ، وَالْجِنِّيُّ كَذَلِكَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْخُلَ فِي جِسْمِ الإِنْسَانِ غَيْرِ الأَنْبِيَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْعُرَ بِهِ كَالْقَرِينِ الَّذِي يُوَسْوِسُ لِلإِنْسَانِ لِيَأْمُرَهُ بِالشَّرِّ يَدْخُلُ إِلَى صَدْرِ الإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْعُرَ بِهِ الشَّخْصُ.

تَنْبِيهٌ لا يَسْتَطِيعُ الشَّيْطَانُ وَلَوْ كَانَ قَرِينًا أَنْ يَدْخُلَ فِي جِسْمِ نَبِيٍّ، وَمَنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ كَفَرَ، وَإِنَّمَا الشَّيْطَانُ يُوَسْوِسُ لَهُمْ مِنْ خَارِجٍ لَكِنْ لا يَتَسَلَّطُ عَلَيْهِمْ أَيْ لا يَتَمَكَّنُ مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الأَوْلِيَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ [سُورَةَ الْحِجْر/42].

فَالرُّوحُ مِنَ الأَجْسَامِ اللَّطِيفَةِ وَقَدْ أَخْفَى اللَّهُ عَنَّا حَقِيقَتَهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [سُورَةَ الإِسْرَاء/85] فَنَتْرُكُ الْخَوْضَ فِي الْبَحْثِ عَنْ حَقِيقَتِهَا لِأَنَّهُ أَمْرٌ لَنْ نَصِلَ إِلَيْهِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ أَنْ تَسْتَمِرَّ الْحَيَاةُ فِي أَجْسَامِ الْمَلائِكَةِ وَالإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْبَهَائِمِ مَا دَامَتْ تِلْكَ الأَجْسَامُ اللَّطِيفَةُ مُجْتَمِعَةً مَعَهَا، وَتُفَارِقَهَا إِذَا فَارَقَتْهَا تِلْكَ الأَجْسَامُ، وَهِيَ حَادِثَةٌ لَيْسَتْ قَدِيمَةً، فَمَنْ قَالَ إِنَّهَا قَدِيمَةٌ لَيْسَتْ مَخْلُوقَةً فَقَدْ كَفَرَ.

الشَّرْحُ الأَرْوَاحُ حَادِثَةٌ مَخْلُوقَةٌ وَلَكِنَّهَا بَاقِيَةٌ لا تَفْنَى، وَبَعْدَ أَنْ خَلَقَ اللَّهُ سَيِّدَنَا ءَادَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ أَخْرَجَ مِنْ ظَهْرِهِ أَرْوَاحَ ذُرِّيَّتِهِ وَاسْتَنْطَقَهُمْ فَاعْتَرَفُوا كُلُّهُمْ بِأُلُوهِيَّةِ اللَّهِ، ثُمَّ بَعْدَ أَنْ خَرَجُوا مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ اسْتَمَرُّوا أَيْضًا عَلَى مُقْتَضَى ذَلِكَ الِاعْتِرَافِ لَكِنَّ اللَّهَ أَنْسَاهُمْ تِلْكَ الْمَفَاهِيمَ ذَهَبَتْ عَنْهُمُ الْمَعْلُومَاتُ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الإِيـمَانَ وَنَشَأَ عَلَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْكُفْرَ وَنَشَأَ عَلَيْهِ، فَصَارَ قِسْمٌ مِنَ الْعِبَادِ مُؤْمِنِينَ وَقِسْمٌ مِنْهُمْ كَافِرِينَ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ الْبَهَائِمُ لا أَرْوَاحَ لَهَا كَمَا قَالَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ مُتَوَلِّي الشَّعْرَاوِي فِي كِتَابَيْهِ التَّفْسِيرِ وَالْفَتَاوَى. وَذَلِكَ تَكْذِيبٌ لِلْقُرْءَانِ وَإِنْكَارٌ لِلْعِيَانِ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾ [سُورَةَ التَّكْوِير/5]. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَتُؤَدَّنَّ الْحُقُوقُ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْجَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

الشَّرْحُ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْخُذُ الْحُقُوقَ لِأَهْلِهَا حَتَّى يُقَادَ أَيْ حَتَّى يُؤْخَذَ حَقُّ الْجَلْحَاءِ أَيِ الشَّاةِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا قَرْنٌ مِنَ الْقَرْنَاءِ الَّتِي ضَرَبَتْهَا فِي الدُّنْيَا، الْقَرْنَاءُ مَعْنَاهُ الَّتِي لَهَا قَرْنٌ، وَلَكِنْ لَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنْ تُؤْخَذَ الْقَرْنَاءُ الَّتِي ضَرَبَتِ الأُخْرَى إِلَى النَّارِ كَمَا يَحْصُلُ لَبَنِي ءَادَمَ، بَنُو ءَادَمَ إِذَا ضَرَبَ أَحَدُهُمْ فِي الدُّنْيَا إِنْسَانًا ظُلْمًا يُقْتَصُّ مِنْهُ بِنَارِ جَهَنَّمَ، أَمَّا الْبَهَائِمُ فَلَيْسَتْ كَذَلِكَ، إِنَّمَا هَذِهِ تَضْرِبُ هَذِهِ كَمَا ضَرَبَتْهَا فِي الدُّنْيَا ثُمَّ تَمُوتُ وَلا تَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلا النَّارَّ إِنَّمَا تَعُودُ تُرَابًا. وَمَا يُقَالُ مِنْ أَنَّ نَاقَةَ صَالِحٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَكَذَلِكَ كَلْبُ أَهْلِ الْكَهْفِ فَلا أَصْلَ لَهُ. وَيَجِبُ الْكَفُّ عَنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ.



بَيَانُ أَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ شَامِلَةٌ فِي الدُّنْيَا لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ خَاصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي الآخِرَةِ

وَاللَّهُ تَعَالَى يَرْحَمُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي الدُّنْيَا وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلًّا، أَمَّا فِي الآخِرَةِ فَرَحْمَتُهُ خَاصَّةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف/156].

أَيْ وَسِعَتْ فِي الدُّنْيَا كُلَّ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ، قَالَ: ﴿فَسَأَكْتُبُهَا﴾ أَيْ فِي الآخِرَةِ، ﴿لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ أَيْ أَخُصُّهَا لِمَنْ اتَّقَى الشِّرْكَ وَسَائِرَ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ.

الشَّرْحُ هَذِهِ الآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرْحَمُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي الدُّنْيَا وَذَلِكَ بِأَنْ يُعْطِيَهُمُ الصِّحَّةَ وَالرِّزْقَ وَالْهَوَاءَ الْعَلِيلَ وَالْمَاءَ الْبَارِدَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، أَمَّا فِي الآخِرَةِ يَخُصُّهَا لِلْمُؤْمِنِينَ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف/50].

الشَّرْحُ أَهْلُ النَّارِ يُنَادُونَ أَهْلَ الْجَنَّةِ، إِمَّا يَرَوْنَهُمْ عِيَانًا مَعَ بُعْدِ الْمَسَافَةِ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فِي وَقْتٍ مِنَ الأَوْقَاتِ هَؤُلاءِ فِي النَّارِ وَهَؤُلاءِ فِي الْجَنَّةِ وَإِمَّا يَسْمَعُونَ صَوْتَهُمْ، فَيَطْلُبُونَ مِنَ الضِّيقِ الَّذِي هُمْ فِيهِ ﴿أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾ فَيَكُونُ جَوَابُ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَهُمْ: ﴿إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ﴾، فَيَسْكُتُ أَهْلُ النَّارِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْكَافِرِينَ الرِّزْقَ النَّافِعَ وَالْمَاءَ الْمُرْوِيَ فِي الآخِرَةِ.

الشَّرْحُ أَيْ لا يَجِدُونَ مَاءً بَارِدًا مُرْوِيًا إِلَّا ذَاكَ الْمَاءَ الَّذِي هُوَ بِمُنْتَهَى الْحَرَارَةِ فَيُقَطِّعُ أَمْعَاءَهُمْ، وَالْغِسْلِينَ الَّذِي هُوَ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ أَيْ مَا يَسِيلُ مِنْ جُلُودِهِمْ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَضَاعُوا أَعْظَمَ حُقُوقِ اللَّهِ الَّذِي لا بَدِيلَ لَهُ وَهُوَ الإِيـمَانُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ.

الشَّرْحُ الْكُفَّارُ لا حَظَّ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ أَضَاعُوا أَعْظَمَ حُقُوقِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ لِمَاذَا يُعَذِّبُهُمُ اللَّهُ ذَلِكَ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ الَّذِي لا نِهَايَةَ لَهُ، يُقَالُ: لِأَنَّهُمْ أَضَاعُوا أَعْظَمَ حُقُوقِ اللَّهِ، لِذَلِكَ جَعَلَ جَزَاءَهُمْ أَنْ يَتَأَبَّدُوا فِي ذَلِكَ الْعَذَابِ الَّذِي لا يَنْقَطِعُ، وَهُمْ كَانَتْ نِيَّاتُهُمْ أَنْ يَبْقَوْا عَلَى كُفْرِهِمْ فَكَانَ جَزَاؤُهُمْ وِفَاقًا عَذَابًا لا يَنْقَطِعُ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الدُّخُولَ فِي الإِسْلامِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ نِعَمِ اللَّهِ سَهْلًا، وَذَلِكَ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.

وَجَعَلَ الْكُفْرَ سَهْلًا فَكَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ تَدُلُّ عَلَى الِاسْتِخْفَافِ بِاللَّهِ أَوْ شَرِيعَتِهِ تُخْرِجُ قَائِلَهَا مِنَ الإِيـمَانِ، وَتُوقِعُهُ فِي الْكُفْرِ الَّذِي هُوَ أَسْوَأُ الأَحْوَالِ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ اللَّهِ أَحْقَرَ مِنَ الْحَشَرَاتِ وَالْوُحُوشِ، سَوَاءٌ تَكَلَّمَ بِهَا جَادًّا أَوْ مَازِحًا أَوْ غَضْبَانَ.

الشَّرْحُ هَذَا هُوَ مَعْنَى الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ».

وَالْمَعْنَى أَنَّ الإِنْسَانَ يَكْسِبُ الْجَنَّةَ بِعَمَلٍ يَسِيرٍ مِنَ الْحَسَنَاتِ، وَكَذَلِكَ يَكْسِبُ دُخُولَ النَّارِ بِعَمَلٍ خَفِيفٍ مِنَ السَّيِّئَاتِ فَلَوْ عَاشَ الْعَبْدُ عَلَى الْكُفْرِ سِنِينَ طَوِيلَةٍ قَضَى عُمُرَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ قَبْلَ مَوْتِهِ أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يَرَى مَلائِكَةَ الْعَذَابِ وَقَبْلَ أَنْ يَيْأَسَ مِنَ الْحَيَاةِ وَيُوقِنَ بِالْمَوْتِ كَرُؤْيَةِ مَلَكِ الْمَوْتِ أَوْ إِدْرَاكِ الْغَرَقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَسْلَمَ وَاعْتَقَدَ بِقَلْبِهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَلَوْ لَمْ يُدْرِكْ صَلاةً، وَلا يُؤَاخَذُ بِشَىْءٍ مِمَّا عَمِلَهُ مِنَ الذُّنُوبِ لِأَنَّ الإِسْلامَ هَدَمَهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِآخِرِ حَالِ الإِنْسَانِ الَّذِي يُخْتَمُ لَهُ بِهِ. وَمُقَابِلُ هَذَا رَجُلٌ عَاشَ عَلَى الإِسْلامِ ثُمَّ مَرِضَ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الأَلَمُ فَلَمْ يَتَحَمَّلْ فَاعْتَرَضَ عَلَى رَبِّهِ فَقَالَ يَا رَبِّ لِمَ ظَلَمْتَنِي بِتَسْلِيطِ هَذَا الأَلَمِ الَّذِي لا أُطِيقُهُ فَمَاتَ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الْجَنَّةُ لِأَنَّهُ كَفَرَ بِاعْتِرَاضِهِ عَلَى رَبِّهِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا».

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ شُرِحَ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ فِي الْمَذَاهِبِ الْمُعْتَبَرَةِ وَحَكَمُوا أَنَّ الْمُتَلَفِّظَ بِهَا يَكْفُرُ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [سُورَةَ الأَنْفَال/55].

الشَّرْحُ الدَّوَابُّ جَمْعُ دَابَّةٍ وَهِيَ كُلُّ مَا يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مِنْ إِنْسَانٍ وَبَهَائِمَ وَحَشَرَاتٍ، هَذَا مَعْنَاهَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ، ثُمَّ تَعَارَفَ النَّاسُ عَلَى إِطْلاقِهَا عَلَى مَا يُرْكَبُ مِنَ الْبَهَائِمِ وَلا يَصِحُّ فِي الْقُرْءَانِ هَذَا التَّفْسِيرُ، فَالإِنْسَانُ يُقَالُ لَهُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ دَابَّةٌ لِأَنَّهُ يَدِبُّ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ. وَالآيَةُ الْمَذْكُورَةُ مَعْنَاهَا أَنَّ الْكَافِرَ هُوَ أَحْقَرُ الْمَخْلُوقَاتِ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَأَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ: «لا تَفْتَخِرُوا بِآبَائِكُمُ الَّذِينَ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ مَا يُدَهْدِهُهُ الْجُعَلُ بِمِنْخَرَيْهِ خَيْرٌ مِنْ ءَابَائِكُمُ الَّذِينَ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ» أَيْ عَلَى الشِّرْكِ، لِأَنَّ الْكُفَّارَ الَّذِينَ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِسْمَانِ قِسْمٌ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الأَنْبِيَاءِ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَقِسْمٌ لَمْ تَبْلُغْهُمْ وَكُلٌّ كَانُوا مُشْتَرِكِينَ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ يَشْمَلُ سَائِرَ أَنْوَاعِ الْكُفَّارِ لِأَنَّ مَعْنَى الْكُفْرِ يَشْمَلُهُ وَإِنْ كَانُوا بِالنِّسْبَةِ لِعَذَابِ الآخِرَةِ يَخْتَلِفُ حَالُهُمْ فَالَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ وَلَمْ تَبْلُغْهُمُ الدَّعْوَةُ لا يُعَذِّبُهُمُ اللَّهُ بِالنَّارِ أَمَّا الَّذِينَ بَلَغَتْهُمُ الدَّعْوَةُ فَلَمْ يُسْلِمُوا فَهُمُ الَّذِينَ يُعَذَّبُونَ بِالنَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا مُخَلَّدِينَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْكَافِرَ أَخَسُّ مَا خَلَقَ اللَّهُ.

وَمَعْنَى: «مَا يُدَهْدِهُهُ الْجُعَلُ بِمِنْخَرَيْهِ» أَيِ الْقَذَرُ لِيَتَقَوَّتَ بِهِ، وَالْجُعَلُ هُوَ حَشَرَةٌ صَغِيرَةٌ سَوْدَاءُ تَسُوقُ الْقَذَرَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ بَنِي ءَادَمَ تَجْعَلُهُ حُبَيْبَاتٍ تَسُوقُهُ لِتَتَقَوَّتَ بِهِ، فَهَذَا الَّذِي يَسُوقُهُ الْجُعَلُ الرَّسُولُ قَالَ خَيْرٌ مِنْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَانَ النَّاسُ فِي أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ يَفْتَخِرُونَ بِهِمْ يَقُولُونَ: هَذَا جَدِّي كَانَ كَذَا، أَبِي كَانَ كَذَا، فَالْمَعْنَى كُفُّوا عَنِ الِافْتِخَارِ بِهَؤُلاءِ الَّذِينَ مَا يَسُوقُهُ الْجُعَلُ بِأَنْفِهِ خَيْرٌ مِنْهُمْ لِكُفْرِهِمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ شُكْرَ الْخَالِقِ الْمُنْعِمِ لا يَصِحُّ مَعَ عِبَادَةِ غَيْرِهِ أَوْ تَكْذِيبِ رَسُولِهِ الَّذِي أَرْسَلَهُ لِيَتْبَعَهُ النَّاسُ. وَلَوْ أَنْفَقَ هَذَا الْكَافِرُ مِثْلَ جَبَلٍ ذَهَبًا لِلْمَسَاكِينِ وَالأَرَامِلِ لا يَكُونُ شَاكِرًا لِخَالِقِهِ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِالْوُجُودِ وَالْعَقْلِ فَلا يَكُونُ الْكَافِرُ شَاكِرًا لِلَّهِ مَهْمَا عَمِلَ مِنَ الْخَدَمَاتِ لِلنَّاسِ وَمَهْمَا كَانَ عِنْدَهُ عَطْفٌ وَرَحْمَةٌ وَحَنَانٌ عَلَى الْمَنْكُوبيِنَ وَالْمَلْهُوفِينَ. الْكُفَّارُ هُمْ أَحْقَرُ خَلْقِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَتْ صُورَتُهُمْ صُورَةَ الْبَشَرِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَضَاعُوا أَعْظَمَ حُقُوقِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فَكَفَرُوا بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.



الْبِدْعَةُ

الْبِدْعَةُ لُغَةً مَا أُحْدِثَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ، وَشَرْعًا الْمُحْدَثُ الَّذِي لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ وَلا الْحَدِيثُ.

وَتَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ كَمَا يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»، أَيْ مَرْدُودٌ.

الشَّرْحُ الشَّىْءُ الْمُحْدَثُ الَّذِي لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ وَلا حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ هَذَا يُقَالُ لَهُ بِدْعَةٌ. ثُمَّ هَذَا الأَمْرُ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ قِسْمٌ يُخَالِفُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقِسْمٌ لا يُخَالِفُهُ بَلْ يُوَافِقُهُ فِي نَظَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَالْقِسْمُ الأَوَّلُ وَهُوَ مَا أُحْدِثَ وَكَانَ مُخَالِفًا لِلْقُرْءَانِ وَالْحَدِيثِ يُسَمَّى بِدْعَةَ ضَلالَةٍ وَهُوَ إِمَّا اعْتِقَادِيٌّ وَإِمَّا عَمَلِيٌّ.

فَالِاعْتِقَادِيُّ كَعَقِيدَةِ الْمُشَبِّهَةِ الْقُدَمَاءِ وَالْمُحْدَثِينَ مِنَ الْكَرَّامِيَّةِ مِنَ الْمُشَبِّهَةِ الْقُدَمَاءِ وَالْوَهَّابِيَّةِ مِنَ الْمُحْدَثِينَ وَالْمُعْتَزِلَةِ الْقَدَرِيَّةِ وَالْخَوَارِجِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْهُمْ وَالْمُتَأَخِّرِينَ كَأَتْبَاعِ سَيِّدِ قُطُب الْمُسَمَّيْنَ الْجَمَاعَةَ الإِسْلامِيَّةَ فَإِنَّ مِنَ الْخَوَارِجِ الْقُدَمَاءِ كَانَ أُنَاسٌ يُقَالُ لَهُمُ الْبَيْهَسِيَّةُ يَقُولُونَ إِذَا حَكَمَ الْمَلِكُ بِغَيْرِ الشَّرْعِ كَفَرَ وَكَفَرَتِ الرَّعِيَّةُ مَنْ تَابَعَهُ فِي الْحُكْمِ وَمَنْ لَمْ يُتَابِعْهُ، وَفِرْقَةُ سَيِّدِ قُطُب أَحَيَوْا فِي هَذَا الْعَصْرِ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ الْمُبْتَدَعَةَ فَاعْتَقَدُوا أَنَّ مَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ الشَّرْعِ وَلَوْ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ كَفَرَ وَالرَّعِيَّةُ الَّتِي تَعِيشُ تَحْتَ حُكْمِهِ كَفَرَتْ وَلا يَسْتَثْنُونَ أَحَدًا إِلَّا مَنْ قَامَ لِيَثُورَ عَلَيْهِ وَعَلَى ذَلِكَ يَسْتَحِلُّونَ قَتْلَ غَيْرِهِمْ كَمَا تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَعْمَالُهُمْ فِي مِصْرَ وَالْجَزَائِرِ وَالشِّيشَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلاءِ يَتَعَلَقُّونَ بِآيَاتٍ فَهِمُوهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا وَظَنُّوا أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ حَقٌّ مُوَافِقٌ لِلْقُرْءَانِ وَلَمْ يَدْرُوا أَنَّ الْقُرْءَانَ ذُو وُجُوهٍ كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَأْتِي الْكَلِمَةُ الْوَاحِدَةُ لِمَعْنَيَيْنِ وَلِأَكْثَرَ مِنْ حَيْثُ لُغَةُ الْعَرَبِ فَبَعْضُ هَذِهِ الْمَعَانِي يَصِحُّ تَفْسِيرُ الْقُرْءَانِ بِهِ وَالْبَعْضُ الآخَرُ لا يَصِحُّ تَفْسِيرُ الْقُرْءَانِ بِهِ، فَهَؤُلاءِ الْفِرَقُ أَخَذُوا بِالْمَعَانِي الَّتِي لا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مُرَادَةً أَيْ مَرْضِيَّةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ.

وَأَمَّا الْعَمَلِيَّةُ فَهِيَ مِثْلُ بِدْعَةِ الْمُتَشَبِّهِينَ بِالصُّوفِيَّةِ صُورَةً بِلا حَقِيقَةٍ فَإِنَّهُمْ حَرَّفُوا اسْمَ اللَّهِ فِي مَجَالِسِ الذِّكْرِ يَقُولُونَ ءَاه وَيَعْتَبِرُونَ ءَاه اسْمًا لِلَّهِ حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ غَلا فَقَالَ ءَاه أَقْرَبُ لِلْفُتُوحِ مِنْ اللَّه. فَإِنَّ هَذَا الْعَمَلَ مُبْتَدَعٌ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ الْقُدَمَاءِ، قَالَ بَعْضُ هَذِهِ الْفِرْقَةِ الشَّاذِلِيَّةِ هَذَا التَّحْرِيفُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ شَيْخِ الطَّرِيقَةِ أَبِي الْحَسَنِ الشَّاذِلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِنَّمَا أَحْدَثَهُ شَاذِلِيَّةُ فَاس. وَمِنَ الْبِدْعَةِ الْعَمَلِيَّةِ الْمُحْدَثَةِ عَلَى خِلافِ الْقُرْءَانِ وَالْحَدِيثِ مُعَاقَبَةُ مَنْ طَبَعَ كِتَابًا أَلَّفَهُ غَيْرُهُ بِدُونِ إِذْنِهِ بِالتَّغْرِيمِ أَوِ الْحَبْسِ يَكْتُبُونَ فِي النُّسْخَةِ الَّتِي يَطْبَعُهَا الْمُؤَلِّفُ أَوْ مَنْ أَذِنَ لَهُ الْمُؤَلِّفُ «حُقُوقُ الطَّبْعِ مَحْفُوظَةٌ لِلْمُؤَلِّفِ أَوِ النَّاشِرِ» وَهَذِهِ الْبِدْعَةُ مُخَالِفَةٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ لَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ وَلا مِنَ الْخَلَفِ إِنَّمَا أُحْدِثَتْ مُنْذُ نَحْوِ مِائَتَيْ سَنَةٍ تَخْمِينًا اتِّبَاعًا لِلأُورُوبِيِّينَ، وَلَوْ كَانَ جَائِزًا لَكَانَ السَّلَفُ أَحْوَجَ لِلْعَمَلِ بِهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتْعَبُونَ عِنْدَ تَأْلِيفِهِمْ تَعَبًا كَبِيرًا. كَانَ الْمُؤَلِّفُ يَسْتَعْمِلُ الْقَلَمَ الَّذِي يَبْرِيهِ بِيَدِهِ كُلَّمَا انْكَسَرَ قَلَمٌ يَبْرِي غَيْرَهُ حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يَتَكَوَّمُ عِنْدَهُمْ مِنْ بُرَايَةِ الأَقْلامِ شَىْءٌ كَثِيرٌ وَكَانُوا يَعْمَلُونَ الْحِبْرَ بِأَيْدِيهِمْ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَفْعَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ هَذَا الْحَجْرَ. كَانُوا لا يَعْتَرِضُونَ عَلَى مَنِ اسْتَنْسَخَ نُسُخًا مِنْ مُؤَلَّفَاتِهِمْ لِلتِّجَارَةِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدِ احْتَجَّ بَعْضُ هَؤُلاءِ الْمُبْتَدِعِينَ مِنْ أَهْلِ عَصْرِنَا هَذَا بِأَنَّهُ أَتْعَبَ أَفْكَارَهُ فِي تَأْلِيفِهِ.

وَأَمَّا مَا أَحْدَثَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ مِمَّا لا يُخَالِفُ الْقُرْءَانَ وَالْحَدِيثَ كَإِحْدَاثِ الْمَحَارِيبِ الْمُجَوَّفَةِ وَالْمَآذِنِ وَشَكْلِ الْقُرءَانِ وَنَقْطِهِ فَإِنَّهُ أَحْدَثَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِمَّنْ كَانَ فِي الْقَرْنِ الأَوَّلِ كَعُمَرَ بنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَابْنِ يَعْمَرَ وَطُرُقِ أَهْلِ اللَّهِ الْقَادِرِيَّةِ وَالرِّفَاعِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا وَعَمَلِ الْمَوْلِدِ فَهَذِهِ سُنَّةٌ حَسَنَةٌ تَدْخُلُ تَحْتَ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا لا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَىْءٌ »وَمَنْ عَدَّ هَذِهِ بِدْعَةَ ضَلالَةٍ فَهُوَ جَاهِلٌ لا يُعْتَدُّ بِكَلامِهِ وَقَدْ يَحْتَجُّ بَعْضُ هَؤُلاءِ بِحَدِيثِ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» وَلَمْ يَدْرِ أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ إِحْدَاثُ مَا لَيْسَ مِنَ الدِّينِ أَيْ مَا لا يُوَافِقُهُ لِأَنَّ ذَلِكَ مَرْدُودٌ. هَؤُلاءِ يُقَالُ لَهُمُ الْمَسَاجِدُ مَسْجِدُ الرَّسُولِ وَغَيْرُهُ مَا كَانَ لَهُ مِحْرَابٌ مُجَوَّفٌ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ وَلا كَانَ لَهُ مِئْذَنَةٌ وَقَدْ أُحْدِثَ فِي ءَاخِرِ الْقَرْنِ الأَوَّلِ أَحْدَثَ ذَلِكَ الْخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ عُمَرُ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَقَرَّهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ وَأَنْتُمْ لا تَعْتَرِضُونَ عَلَى ذَلِكَ بَلْ تُوَافِقُونَ فَكَيْفَ تُنْكِرُونَ الطَّرِيقَةَ وَالْمَوْلِدَ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ بِدَعْوَى أَنَّ هَذَا لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْءَانِ أَوِ الْحَدِيثِ تُقِرُّونَ مَا أَعْجَبَكُمْ وَتَنْفُونَ مَا لَمْ يُعْجِبْكُمْ بِلا دَلِيلٍ. وَحَدِيثُ «مَنْ سَنَّ» إِلَخ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَمَّا الْحَدِيثُ الآخَرُ «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» فَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْقِسْمُ الأَوَّلُ: الْبِدْعَةُ الْحَسَنَةُ: وَتُسَمَّى السُّنَّةَ الْحَسَنَةَ، وَهِيَ الْمُحْدَثُ الَّذِي يُوَافِقُ الْقُرْءَانَ وَالسُّنَّةَ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: الْبِدْعَةُ السَّيِّئَةُ: وَتُسَمَّى السُّنَّةَ السَّيِّئَةَ، وَهِيَ الْمُحْدَثُ الَّذِي يُخَالِفُ الْقُرْءَانَ وَالْحَدِيثَ.

وَهَذَا التَّقْسِيمُ مَفْهُومٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَىْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَىْءٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

الشَّرْحُ الدَّلِيلُ الْقُرْءَانِيُّ عَلَى أَنَّ الْبِدْعَةَ مِنْهَا مَا هُوَ حَسَنٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ﴾ [سُورَةَ الْحَدِيد/27].

فَفِي هَذِهِ الآيَةِ مَدْحُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أُمَّةِ عِيسَى لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ رَحْمَةٍ وَرَأْفَةٍ وَلِأَنَّهُمُ ابْتَدَعُوا الرَّهْبَانِيَّةَ وَهِيَ الِانْقِطَاعُ عَنِ الشَّهَوَاتِ الْمُبَاحَةِ زِيَادَةً عَلَى تَجَنُّبِ الْمُحَرَّمَاتِ حَتَّى إِنَّهُمُ انْقَطَعُوا عَنِ الزِّوَاجِ وَتَرَكُوا اللَّذَائِذَ مِنَ الْمَطْعُومَاتِ وَالثِّيَابِ الْفَاخِرَةِ وَأَقْبَلُوا عَلَى الآخِرَةِ إِقْبَالًا تَامًّا. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ﴾ فِيهِ مَدْحٌ لَهُمْ عَلَى مَا ابْتَدَعُوا أَيْ مِمَّا لَمْ يُنَصَّ لَهُمْ عَلَيْهِ فِي الإِنْجِيلِ وَلا قَالَ لَهُمُ الْمَسِيحُ بِنَصٍّ مِنْهُ افْعَلُوا كَذَا، إِنَّمَا هُمْ أَرَادُوا الْمُبَالَغَةَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّجَرُّدَ لِطَاعَتِهِ بِتَرْكِ الِاشْتِغَالِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالزِّوَاجِ وَنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَالأَهْلِ. ثُمَّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ مَدَحَهُمُ اللَّهُ كَانُوا مِنْ أَتْبَاعِ عِيسَى عَلَى الإِسْلامِ مَعَ التَّمَسُّكِ بِشَرِيعَةِ عِيسَى كَانُوا يَبْنُونَ الصَّوَامِعَ أَيْ بُيُوتًا خَفِيفَةً مِنْ طِينٍ أَوْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ عَلَى الْمَوَاضِعِ الْمُنْعَزِلَةِ عَنِ الْبَلَدِ لِيَتَجَرَّدُوا لِلْعِبَادَةِ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَهُمْ أُنَاسٌ قَلَّدُوا أُولَئِكَ مَعَ الشِّرْكِ أَيْ مَعَ عِبَادَةِ عِيسَى وَأُمِّهِ وَتَشَبَّهُوا بِأُولَئِكَ بِالِانْقِطَاعِ عَنِ الشَّهَوَاتِ وَالْعُكُوفِ فِي الصَّوَامِعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾ [سُورَةَ الْحَدِيد/27] لِأَنَّ هَؤُلاءِ مَا الْتَزَمُوا بِالرَّهْبَّانِيَّةِ الْمُوَافِقَةِ لِشَرْعِ عِيسَى كَمَا الْتَزَمَ أُولَئِكَ السَّابِقُونَ، فَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ أَنَّ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لا يُخَالِفُ الشَّرْعَ بَلْ يُوَافِقُهُ لَيْسَ بِدْعَةً مَذْمُومَةً بَلْ يُثَابُ فَاعِلُهُ وَيُسَمَّى سُنَّةً حَسَنَةً وَسُنَّةَ خَيْرٍ، وَيُسَمَّى بِدْعَةً حَسَنَةً أَوْ بِدْعَةً مُسْتَحَبَّةً.

وَفِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ »إِشْعَارٌ بِأَنَّ مَنْ أَحْدَثَ مَا هُوَ مِنْهُ أَيْ مَا هُوَ مُوَافِقٌ لَهُ فَلَيْسَ مَرْدُودًا، كَمَا أَحْدَثَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي التَّلْبِيَةِ شَيْئًا زَائِدًا عَلَى تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَتَلْبِيَةُ رَسُولِ اللَّهِ هِيَ: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لا شَرِيكَ لَكَ». فَزَادَ عُمَرُ: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ وَسَعْدَيْكَ، الْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، وَالْعَمَلُ وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ»، فَلَمْ يَعِبْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ شَيْئًا يُوَافِقُهَا، وَكَذَلِكَ مَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ زَادُوا أَشْيَاءَ مُوَافِقَةً لِلشَّرْعِ كَكِتَابَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذِكْرِ اسْمِ الرَّسُولِ عَقِبَهُ فَإِنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَكْتُبْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقِبَ اسْمِ مُحَمَّدٍ فِي كِتَابِهِ إِلَى هِرَقْلَ وَفِي كِتَابِهِ إِلَى كِسْرَى وَغَيْرِ ذَلِكَ ثُمَّ جَرَى عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى كِتَابَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقِبَ اسْمِهِ حَتَّى إِنَّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ عَلَى النَّاسِ الْبِدَعَ الْحَسَنَةَ مِنْ عَمَلِ الْمَوْلِدِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ وَالصَّلاةِ عَلَى النَّبِيِّ جَهْرَةً عَقِبَ الأَذَانِ يَعْمَلُونَ هَذِهِ الْبِدْعَةَ أَيْ كِتَابَةَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقِبَ اسْمِ مُحَمَّدٍ فِي مُؤَلَّفَاتِهِمْ فَمَا لَهُمْ يُنَاقِضُونَ أَنْفُسَهُمْ يَقُولُونَ: مَا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ أَوْ يَأْمُرْ بِهِ نَصًّا بِدْعَةٌ مُحَرَّمَةٌ، وَهُمْ مُرْتَكِبُونَ مَا يَعِيبُونَهُ عَلَى النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ.

وَأَمَّا الدَّلِيلُ مِنَ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْبِدْعَةَ مِنْهَا مَا هُوَ حَسَنٌ فَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: «مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا».

فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مَعْنَاهُ مَنْ سَنَّ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ أَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ فَلا، فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: «لا تَثْبُتُ الْخُصُوصِيَّةُ إِلَّا بِدَلِيلٍ» وَهُنَا الدَّلِيلُ يُعْطِي خِلافَ مَا يَدَّعُونَ حَيْثُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ»، وَلَمْ يَقُلْ مَنْ سَنَّ فِي حَيَاتِي وَلا قَالَ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَنَا عَمِلْتُهُ فَأَحْيَاهُ، وَلَمْ يَكُنِ الإِسْلامُ مَقْصُورًا عَلَى الزَّمَنِ الَّذِي كَانَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ، فَبَطَلَ زَعْمُهُمْ. فَإِنْ قَالُوا: الْحَدِيثُ سَبَبُهُ أَنَّ أُنَاسًا فُقَرَاءَ شَدِيدِي الْفَقْرِ يَلْبَسُونَ النِّمَارَ [النِّمَارُ شَىْءٌ يُعْمَلُ مِنْ صُوفٍ وَشَعَرٍ خَرَقُوا وَسَطَهُ وَأَدْخَلُوهُ عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَيْسَ مَعَهُ شَىْءٌ غَيْرُهُ يَلْبَسُونَهُ، وَهُوَ شَىْءٌ يُلْبَسُ لِلْبَرْدِ عَادَةً] جَاؤُوا فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا رَأَى مِنْ بُؤْسِهِمْ فَتَصَدَّقَ النَّاسُ حَتَّى جَمَعُوا لَهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا فَتَهَلَّلَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ: «مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا» فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لا بِخُصُوصِ السَّبَبِ كَمَا ذَكَرَ الأُصُولِيُّونَ.

وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ: «وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ» فَلا يَدْخُلُ فِيهِ الْبِدْعَةُ الْحَسَنَةُ، لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ، أَيْ أَنَّ لَفْظَهُ عَامٌّ وَلَكِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالْبِدْعَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلشَّرِيعَةِ بِدَلِيلِ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ: «مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا» الْحَدِيثَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَحَادِيثَ رَسُولِ اللَّهِ تَتَعَاضَدُ وَلا تَتَنَاقَضُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ تَخْصِيصَ الْعَامِّ بِمَعْنًى مَأْخُوذٍ مِنْ دَلِيلٍ نَقْلِيٍّ أَوْ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ مَقْبُولٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ، فَلَوْ تُرِكَ ذَلِكَ لَضَاعَ كَثِيرٌ مِنَ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَحَصَلَ تَنَاقُضٌ بَيْنَ النُّصُوصِ، فَأَهْلُ الْعِلْمِ هُمُ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ أَنَّ هَذَا الْعُمُومَ مَخْصُوصٌ بِدَلِيلٍ ءَاخَرَ عَقْلِيٍّ أَوْ نَقْلِيٍّ.

وَكَذَلِكَ يُعْلَمُ أَنَّ الْبِدْعَةَ تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ »فَأَفْهَمَ رَسُولُ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: «مَا لَيْسَ مِنْهُ» أَنَّ الْمُحْدَثَ إِنَّمَا يَكُونُ رَدًّا أَيْ مَرْدُودًا إِذَا كَانَ عَلَى خِلافِ الشَّرِيعَةِ، وَأَنَّ الْمُحْدَثَ الْمُوَافِقَ لِلشَّرِيعَةِ لَيْسَ مَرْدُودًا.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَمِنَ الْقِسْمِ الأَوَّلِ: الِاحْتِفَالُ بِمَوْلِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ مَلِكُ إِرْبِلَ فِي الْقَرْنِ السَّابِعِ الْهِجْرِيِّ، وَتَنْقِيطُ التَّابِعِيِّ الْجَلِيلِ يَحْيَى بنِ يَعْمَرَ الْمُصْحَفَ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالتَّقْوَى، وَأَقَرَّ ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ مِنْ مُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ وَاسْتَحْسَنُوهُ وَلَمْ يَكُنْ مُنَقَّطًا عِنْدَمَا أَمْلَى الرَّسُولُ عَلَى كَتَبَةِ الْوَحْيِ، وَكَذَلِكَ عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ لَمَّا كَتَبَ الْمَصَاحِفَ الْخَمْسَةَ أَوِ السِّتَّةَ لَمْ تَكُنْ مُنَقَّطَةً، وَمُنْذُ ذَلِكَ التَّنْقِيطِ لَمْ يَزَلِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ إِلَى الْيَوْمِ، فَهَلْ يُقَالُ فِي هَذَا إِنَّهُ بِدْعَةُ ضَلالَةٍ لِأَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَفْعَلْهُ؟ فَإِنْ كَانَ الأَمْرُ كَذَلِكَ فَلْيَتْرُكُوا هَذِهِ الْمَصَاحِفَ الْمُنَقَّطَةَ أَوْ لِيَكْشِطُوا هَذَا التَّنْقِيطَ مِنَ الْمَصَاحِفِ حَتَّى تَعُودَ مُجَرَّدَةً كَمَا فِي أَيَّامِ عُثْمَانَ. قَالَ أَبُو بَكْرِ بنُ أَبِي دَاوُدَ صَاحِبِ السُّنَنِ فِي كِتَابِهِ الْمَصَاحِف: «أَوَّلُ مَنْ نَقَطَ الْمَصَاحِفَ يَحْيَى بنُ يَعْمَرَ» اهـ، وَهُوَ مِنْ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ رَوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ.

الشَّرْحُ هَذَا الَّذِي ذُكِرَ هُنَا بَعْضُ الأَمْثِلَةِ عَنِ الْبِدْعَةِ الْحَسَنَةِ وَيَتَبَيَّنُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ خَالَفَ هَذَا فَهُوَ شَاذٌّ مُكَابِرٌ لِأَنَّ مُؤَدَّى كَلامِهِ أَنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ بَشَرَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ بِالْجَنَّةِ كَعُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ كَانُوا عَلَى ضَلالٍ، فَعُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَمَعَ النَّاسَ عَلَى صَلاةِ التَّرَاوِيحِ فِي رَمَضَانَ وَكَانُوا فِي أَيَّامِ رَسُولِ اللَّهِ يُصَلُّونَهَا فُرَادَى وَقَاَلَ عُمَرُ عَنْ ذَلِكَ: «نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ»، وَقَدْ رَوَى ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ.

وَعُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ أَحْدَثَ أَذَانًا ثَانِيًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الأَذَانُ الثَّانِي فِي أَيَّامِ رَسُولِ اللَّهِ، وَمَا زَالَ النَّاسُ عَلَى هَذَا الأَذَانِ الثَّانِي يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَقَدْ رَوَى ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ أَيْضًا.

وَكَذَلِكَ أَحْدَثَ الصَّحَابِيُّ الْجَلِيلُ خُبَيْبُ بنُ عَدِيٍّ صَلاةَ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْقَتْلِ، فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «فَكَانَ خُبَيْبٌ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْقَتْلِ».

وَمِنَ الْمُحْدَثَاتِ الْمُوَافِقَةِ لِلشَّرِيعَةِ أَيْضًا تَنْقِيطُ التَّابِعِيِّ الْجَلِيلِ يَحْيَى بنِ يَعْمَرَ الْمُصْحَفَ، فَالصَّحَابَةُ الَّذِينَ كَتَبُوا الْوَحْيَ الَّذِي أَمْلاهُ عَلَيْهِمُ الرَّسُولُ كَانُوا يَكْتُبُونَ الْبَاءَ وَالتَّاءَ وَنَحْوَهُمَا بِلا نَقْطٍ.

فَالْمُحْدَثَاتُ الَّتِي تُوَافِقُ الشَّرِيعَةَ كَانَتْ فِي الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَوَافَقَ عَلَيْهَا الْعُلَمَاءُ فِي مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَمِنْ هَذِهِ الْمُحْدَثَاتِ الِاحْتِفَالُ بِمَوْلِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي أَحْدَثَهُ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ فِي أَوَائِلِ السِّتِّمِائَةِ لِلْهِجْرَةِ وَكَانَ عَالِمًا تَقِيًّا شُجَاعًا وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ وَالصُّوفِيَّةُ الصَّادِقُونَ فِي مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا مِنْهُمُ الْحَافِظُ أَحْمَدُ بنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلانِيُّ وَتِلْمِيذُهُ الْحَافِظُ السَّخَاوِيُّ وَكَذَلِكَ الْحَافِظُ السُّيُوطِيُّ، وَلِلْحَافِظِ السُّيُوطِيِّ رِسَالَةٌ سَمَّاهَا: «حُسْنُ الْمَقْصِدِ فِي عَمَلِ الْمَوْلِدِ».



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي: الْمُحْدَثَاتُ فِي الِاعْتِقَادِ كَبِدْعَةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الَّذِينَ خَرَجُوا عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الْمُعْتَقَدِ، وَكِتَابَةِ (ص) أَوْ (صَلْعَمْ) [وَكِتَابَةُ (صَلْعَمْ) بَعْدَ اسْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَحُ مِنْ كِتَابَةِ (ص)] بَعْدَ اسْمِ النَّبِيِّ بَدَلَ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَقَدْ نَصَّ الْمُحَدِّثُونَ فِي كُتُبِ مُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ كِتَابَةَ الصَّادِ مُجَرَّدَةً مَكْرُوهٌ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يُحَرِّمُوهَا بَلْ فَعَلُوهَا.

الشَّرْحُ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي كِتَابِ تَهْذِيبِ الأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ مَا نَصُّهُ: «قَالَ الإِمَامُ الشَّيْخُ الْمُجْمَعُ عَلَى إِمَامَتِهِ وَجَلالَتِهِ وَتَمَكُّنِهِ فِي أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَبَرَاعَتِهِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ بنُ عَبْدِ السَّلامِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ فِي ءَاخِرِ كِتَابِ الْقَوَاعِدِ: الْبِدْعَةُ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى: وَاجِبَةٍ وَمُحَرَّمَةٍ وَمَنْدُوبَةٍ وَمَكْرُوهَةٍ وَمُبَاحَةٍ. قَالَ: وَالطَّرِيقُ فِي ذَلِكَ أَنْ تُعْرَضَ الْبِدْعَةُ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ فَإِنْ دَخَلَتْ فِي قَوَاعِدِ الإِيجَابِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ، أَوْ فِي قَوَاعِدِ التَّحْرِيمِ فَمُحَرَّمَةٌ، أَوِ النَّدْبِ فَمَنْدُوبَةٌ، أَوِ الْمَكْرُوهِ فَمَكْرُوهَةٌ، أَوِ الْمُبَاحِ فَمُبَاحَةٌ» انْتَهَى كَلامُ النَّوَوِيِّ.

وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ فِي رَدِّ الْمُحْتَارِ عَلَى الدُّرِّ الْمُخْتَارِ مَا نَصُّهُ: «فَقَدْ تَكُونُ الْبِدْعَةُ وَاجِبَةً كَنَصْبِ الأَدِلَّةِ لِلرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ، وَتَعَلُّمِ النَّحْوِ الْمُفْهِمِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَنْدُوبَةً كَإِحْدَاثِ نَحْوِ رِبَاطٍ وَمَدْرَسَةٍ وَكُلِّ إِحْسَانٍ لَمْ يَكُنْ فِي الصَّدْرِ الأَوَّلِ، وَمَكْرُوهَةً كَزَخْرَفَةِ الْمَسَاجِدِ، وَمُبَاحَةً كَالتَّوَسُّعِ بِلَذِيذِ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالثِّيَابِ» اهـ. قُلْتُ إِنَّ التَّوَسُّعَ بِلَذِيذِ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالثِّيَابِ مَكْرُوهٌ.

وَكَذَلِكَ الأَكْلُ بِالْمَلاعِقِ فَإِنَّهُ فِي أَيَّامِ الصَّحَابَةِ مَا كَانُوا يَأْكُلُونَ بِهَا وَكَانُوا يَأْكُلُونَ عَلَى الأَرْضِ مَا كَانُوا يَأْكُلُونَ قَاعِدِينَ عَلَى الْكَرَاسِي وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْبِدَعِ الْمُبَاحَةِ، وَكِتَابَةُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ كِتَابَةِ اسْمِ النَّبِيِّ لَمْ تَكُنْ فِي أَيَّامِ النَّبِيِّ فَإِنَّ الرَّسُولَ لَمَّا كَتَبَ كِتَابًا إِلَى هِرَقْلَ كَتَبَ فِيهِ «مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ»، مِنْ دُونِ كِتَابَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقِبَ اسْمِ النَّبِيِّ كَمَا أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ فِي أَوَّلِ صَحِيحِهِ، فَمَا لِلْوَهَّابِيَّةِ لا يُنْكِرُونَ هَذَا بَلْ يَفْعَلُونَهُ كَمَا يَفْعَلُهُ غَيْرُهُمْ وَيُنْكِرُونَ أَشْيَاءَ كَالْمَوْلِدِ وَالطَّرِيقَةِ بِدَعْوَى أَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَفْعَلْهُ، فَظَهَرَ أَنَّهُمْ مُتَحَكِّمُونَ بِآرَائِهِمْ فَمَا اسْتَحْسَنَتْهُ نُفُوسُهُمْ أَقَرُّوهُ وَمَا لَمْ تَسْتَحْسِنْهُ نُفُوسُهُمْ أَنْكَرُوهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مِيزَانٌ شَرْعِيٌّ.

وَقَدْ تَكُونُ الْبِدْعَةُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ كَبِدْعَةِ الْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ، وَالْخَوَارِجِ الْقَائِلِينَ بِكُفْرِ مَنْ سِوَاهُمْ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ نَحْوِ هَذِهِ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ.

وَمِنَ الْبِدَعِ الْحَسَنَةِ الَّتِي لَمْ تُذْكَرْ فِي الْمَتْنِ الطُّرُقُ الَّتِي أَحْدَثَهَا بَعْضُ الصَّالِحِينَ وَمِنْهَا الطُّرُقُ الَّتِي أَحْدَثَهَا بَعْضُ أَهْلِ اللَّهِ كَالرِّفَاعِيَّةِ وَالْقَادِرِيَّةِ وَهِيَ نَحْوُ أَرْبَعِينَ، فَهَذِهِ الطُّرُقُ أَصْلُهَا بِدَعٌ حَسَنَةٌ، وَلَكِنْ شَذَّ بَعْضُ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَيْهَا وَهَذَا لا يَقْدَحُ فِي أَصْلِهَا.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَمِنْ أَيْنَ لِهَؤُلاءِ الْمُتَنَطِّعِينَ الْمُشَوِّشِينَ أَنْ يَقُولُوا عَنْ عَمَلِ الْمَوْلِدِ بِدْعَةٌ مُحَرَّمَةٌ وَعَنِ الصَّلاةِ عَلَى النَّبِيِّ جَهْرًا عَقِبَ الأَذَانِ إِنَّهُ بِدْعَةٌ مُحَرَّمَةٌ بِدَعْوَى أَنَّ الرَّسُولَ مَا فَعَلَهُ وَالصَّحَابَةَ لَمْ يَفْعَلُوهُ.

الشَّرْحُ الْمُرَادُ بِالْمُتَنَطِّعِينَ هُنَا الْوَهَّابِيَّةُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ، وَالْمُتَنَطِّعُونَ هُمُ الَّذِينَ يَتَكَلَّفُونَ وَيَفْعَلُونَ وَيَقُولُونَ مَا لا فَائِدَةَ فِيهِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ حَرَّفُوا الشَّرِيعَةَ فَكَانَ مِنْ بِدَعِهِمُ الَّتِي سَنَّهَا لَهُمْ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ تَحْرِيمُ الصَّلاةِ عَلَى النَّبِيِّ جَهْرًا مِنَ الْمُؤَذِّنِ عَقِبَ الأَذَانِ، وَهُمْ يُبَالِغُونَ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ أَحَدُهُمْ فِي الشَّامِ فِي جَامِعِ الدَّقَّاقِ حِينَ سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ يَقُولُ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَذَا حَرَامٌ هَذَا كَالَّذِي يَنْكِحُ أُمَّهُ، بَلْ أَمَرَ زَعِيمُهُمْ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ بِقَتْلِ الْمُؤَذِّنِ الأَعْمَى الَّذِي صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ عَقِبَ الأَذَانِ جَهْرًا.

وَالْجَوَابُ: نَقُولُ بِعَوْنِ اللَّهِ: ثَبَتَ حَدِيثَانِ أَحَدُهُمَا حَدِيثُ مُسْلِمٍ: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَمَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ»، وَحَدِيثُ: «مَنْ ذَكَرَنِي فَلْيُصَلِّ عَلَيَّ» أَخْرَجَهُ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى وَالْحَافِظُ السَّخَاوِيُّ فِي كِتَابِهِ الْقَوْلِ الْبَدِيعِ فِي الصَّلاةِ عَلَى النَّبِيِّ الشَّفِيعِ، وَقَالَ: لا بَأْسَ بِإِسْنَادِهِ، فَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ وَالْمُسْتَمِعَ كِلَيْهِمَا مَطْلُوبٌ مِنْهُ الصَّلاةُ عَلَى النَّبِيِّ، وَهَذَا يَحْصُلُ بِالسِّرِّ وَالْجَهْرِ، فَمَاذَا تَقُولُ الْوَهَّابِيَّةُ بَعْدَ هَذَا؟



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمِنْهُ تَحْرِيفُ اسْمِ اللَّهِ إِلَى ءَاهٍ وَنَحْوِهِ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الطُّرُقِ فَإِنَّ هَذَا مِنَ الْبِدَعِ الْمُحَرَّمَةِ.

الشَّرْحُ مِنَ الْبِدَعِ الْمُحَرَّمَةِ تَحْرِيفُ اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ كَالَّذِينَ يُحَرِّفُونَ اسْمَ اللَّهِ إِلَى ءَاه فَإِنَّ ءَاه لَيْسَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ بِالِاتِّفَاقِ بَلْ هُوَ لَفْظٌ مِنْ أَلْفَاظِ الأَنِينِ، وَالأَنِينُ لَيْسَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ، وَمَا يَرْوِيهِ بَعْضُهُمْ حَدِيثًا وَفِيهِ أَنَّ الرَّسُولَ قَالَ عَنْ مَرِيضٍ يَئِنُّ «دَعُوهُ يَئِنُّ فَإِنَّ الأَنِينَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ» فَهُوَ مَكْذُوبٌ عَلَى الرَّسُولِ وَلا يَصِحُّ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف/180.[



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «الْمُحْدَثَاتُ مِنَ الأُمُورِ ضَرْبَانِ، أَحَدُهُمَا مَا أُحْدِثَ مِمَّا يُخَالِفُ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً أَوْ إِجْمَاعًا أَوْ أَثَرًا فَهَذِهِ الْبِدْعَةُ الضَّلالَةُ، وَالثَّانِيَةُ مَا أُحْدِثَ مِنَ الْخَيْرِ وَلا يُخَالِفُ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً أَوْ إِجْمَاعًا وَهَذِهِ مُحْدَثَةٌ غَيْرُ مَذْمُومَةٍ»، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِالإِسْنَادِ الصَّحِيحِ فِي كِتَابِهِ «مَنَاقِبُ الشَّافِعِيِّ».

الشَّرْحُ قَوْلُهُ: «مِمَّا يُخَالِفُ كِتَابًا» أَيِ الْقُرْءَانَ، وَقَوْلُهُ: «أَوْ سُنَّةً» أَيِ الْحَدِيثَ، وَقَوْلُهُ: «أَوْ إِجْمَاعًا» أَيْ إِجْمَاعَ مُجْتَهِدِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، وَالإِجْمَاعُ مَعْنَاهُ اتِّفَاقُ مُجْتَهِدِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَى أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، فَغَيْرُ الْمُجْتَهِدِينَ هُنَا لا عِبْرَةَ بِهِمْ فَإِنَّ الإِجْمَاعَ يَثْبُتُ بِالْمُجْتَهِدِينَ، فَالْمُجْتَهِدُونَ فِي عَصْرِ التَّابِعِينَ إِذَا اتَّفَقُوا عَلَى شَىْءٍ فَهُوَ إِجْمَاعٌ حُجَّةٌ كَذَلِكَ فِي الْعَصْرِ الَّذِي يَلِيهِ إِنِ اتَّفَقَ مُجْتَهِدُو ذَلِكَ الْعَصْرِ عَلَى شَىْءٍ هَذَا يُعَدُّ إِجْمَاعًا، كَذَلِكَ الَّذِينَ بَعْدَهُمْ. وَقَدْ يُخَالِفُ أَحَدُ الْمُجْتَهِدِينَ قَوْلَ الْجُمْهُورِ وَلا يَكُونُ قَوْلُهُ مُعْتَبَرًا فَقَدْ قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ:

وَلَيْسَ كُلُّ خِلافٍ جَاءَ مُعْتَبَرًا إِلَّا خِلافٌ لَهُ حَظٌّ مِنَ النَّظَرِ

وَقَوْلُهُ: «أَوْ أَثَرًا» أَيْ أَثَرَ الصَّحَابَةِ، أَيْ مَا ثَبَتَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكَرْ عِنْدَهُمْ. وَكَلامُ الشَّافِعِيِّ هَذَا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَقْسِيمِ الْبِدْعَةِ إِلَى قِسْمَيْنِ.



إِثْبَاتُ أَنَّ التَّوَسُّلَ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ جَائِزٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ شِرْكًا كَمَا تَقُولُ الْوَهَّابِيَّةُ

اعْلَمْ أَنَّهُ لا دَلِيلَ حَقِيقِيٌّ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّوَسُّلِ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ فِي حَالِ الْغَيْبَةِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِمْ بِدَعْوَى أَنَّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ لِغَيْرِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ عِبَادَةً لِغَيْرِ اللَّهِ مُجَرَّدُ النِّدَاءِ لِحَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ وَلا مُجَرَّدُ التَّعْظِيمِ وَلا مُجَرَّدُ الِاسْتِغَاثَةِ بِغَيْرِ اللَّهِ، وَلا مُجَرَّدُ قَصْدِ قَبْرِ وَلِيٍّ لِلتَّبَرُّكِ، وَلا مُجَرَّدُ طَلَبِ مَا لَمْ تَجْرِ بِهِ الْعَادَةُ بَيْنِ النَّاسِ، وَلا مُجَرَّدُ صِيغَةِ الِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ لَيْسَ ذَلِكَ شِرْكًا لِأَنَّهُ لا يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ تَعْرِيفُ الْعِبَادَةِ عِنْدَ اللُّغَوِيِّينَ، لِأَنَّ الْعِبَادَةَ عِنْدَهُمُ الطَّاعَةُ مَعَ الْخُضُوعِ.

قَالَ الأَزْهَرِيُّ الَّذِي هُوَ أَحَدُ كِبَارِ اللُّغَوِيِّينَ فِي كِتَابِ تَهْذِيبِ اللُّغَةِ نَقْلًا عَنِ الزَّجَّاجِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَشْهَرِهِمْ: الْعِبَادَةُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الطَّاعَةُ مَعَ الْخُضُوعِ، وَقَالَ مِثْلَهُ الْفَرَّاءُ كَمَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ لِابْنِ مَنْظُورٍ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَقْصَى غَايَةِ الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ، وَقَالَ بَعْضٌ: نِهَايَةُ التَّذَلُّلِ كَمَا يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ كَلامِ شَارِحِ الْقَامُوسِ مُرْتَضَى الزَّبِيدِيِّ خَاتِمَةِ اللُّغَوِيِّينَ، وَهَذَا الَّذِي يَسْتَقِيمُ لُغَةً وَعُرْفًا.

وَلَيْسَ مُجَرَّدُ التَّذَلُّلِ عِبَادَةً لِغَيْرِ اللَّهِ وَإِلَّا لَكَفَرَ كُلُّ مَنْ يَتَذَلَّلُ لِلْمُلُوكِ وَالْعُظَمَاءِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ مُعَاذَ بنَ جَبَلٍ لَمَّا قَدِمَ مِنَ الشَّامِ سَجَدَ لِرَسُولِ اللَّهِ، فَقَالَ الرَّسُولُ: «مَا هَذَا »فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَأَيْتُ أَهْلَ الشَّامِ يَسْجُدُونَ لِبَطَارِقَتِهِمْ [الْبِطْرِيقُ بِالْكَسْرِ مِنَ الرُّومِ كَالْقَائِدِ مِنَ الْعَرَبِ] وَأَسَاقِفَتِهِمْ [عُلَمَاءُ النَّصَارَى يُقَالُ لَهُمْ أَسَاقِفَةٌ] وَأَنْتَ أَوْلَى بِذَلِكَ، فَقَالَ: «لا تَفْعَلْ، لَوْ كُنْتُ ءَامُرُ أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا»، رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمَا. وَلَمْ يَقُلْ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَرْتَ، وَلا قَالَ لَهُ أَشْرَكْتَ مَعَ أَنَّ سُجُودَهُ لِلنَّبِيِّ مَظْهَرٌ كَبِيرٌ مِنْ مَظَاهِرِ التَّذَلُّلِ.

الشَّرْحُ التَّوَسُّلُ هُوَ طَلَبُ حُصُولِ مَنْفَعَةٍ أَوِ انْدِفَاعِ مَضَرَّةٍ مِنَ اللَّهِ بِذِكْرِ اسْمِ نَبِيٍّ أَوْ وَلِيٍّ إِكْرَامًا لِلْمُتَوَسَّلِ بِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ أُمُورَ الدُّنْيَا عَلَى الأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ مَعَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعْطِيَنَا الثَّوَابَ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَقُومَ بِالأَعْمَالِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/45] وَقَالَ: ﴿وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ [سُورَةَ الْمَائِدَة/35] أَيْ كُلَّ شَىْءٍ يُقَرِّبُكُمْ إِلَيْهِ اطْلُبُوهُ يَعْنِي هَذِهِ الأَسْبَابَ، اعْمَلُوا الأَسْبَابَ فَنُحَقِّقُ لَكُمُ الْمُسَبَّبَاتِ، نُحَقِّقُ لَكُمْ مَطَالِبَكُمْ بِهَذِهِ الأَسْبَابِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى تَحْقِيقِهَا بِدُونِ هَذِهِ الأَسْبَابِ.

وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنَ الأَسْبَابِ الْمُعِينَةِ لَنَا لِتَحْقِيقِ مَطَالِبَ لَنَا التَّوَسُّلَ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ فِي حَالِ حَيَاتِهِمْ وَبَعْدَ مَمَاتِهِمْ، فَنَحْنُ نَسْأَلُ اللَّهَ بِهِمْ رَجَاءَ تَحْقِيقِ مَطَالِبِنَا، فَنَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِجَاهِ رَسُولِ اللَّهِ أَوْ بِحُرْمَةِ رَسُولِ اللَّهِ أَنْ تَقْضِيَ حَاجَتِي وَتُفَرِّجَ كَرْبِي، أَوْ نَقُولُ: اللَّهُمَّ بِجَاهِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلانِيِّ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ وَإِنَّمَا حَرَّمَ ذَلِكَ الْوَهَّابِيَّةُ فَشَذُّوا بِذَلِكَ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ.

فَالتَّوَسُّلُ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ جَائِزٌ فِي حَالِ حَضْرَتِهِمْ وَفِي حَالِ غَيْبَتِهِمْ، وَمُنَادَاتُهُمْ جَائِزَةٌ فِي حَالِ غَيْبَتِهِمْ وَفِي حَالِ حَضْرَتِهِمْ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ، فَلَيْسَ مَعْنَى الْعِبَادَةِ مُجَرَّدَ نِدَاءِ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ كَمَا قَالَتِ الْوَهَّابِيَّةُ بَلْ لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ فِي تَفْسِيرِهِمْ لِمَعْنَى الْعِبَادَةِ بَلْ قَالَ إِمَامُ اللُّغَوِيِّينَ الَّذِينَ أَلَّفُوا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الْفَرَّاءُ: الْعِبَادَةُ الطَّاعَةُ مَعَ الْخُضُوعِ وَبِهَذَا فَسَّرُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، أَيْ نُطِيعُكَ الطَّاعَةَ الَّتِي مَعَهَا الْخُضُوعُ، وَالْخُضُوعُ مَعْنَاهُ التَّذَلُّلُ.

وَمِنَ الأَدِلَّةِ عَلَى جَوَازِ التَّوَسُّلِ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَصَحَّحَهُ وَالَّذِي فِيهِ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَ الأَعْمَى أَنْ يَتَوَسَّلَ بِهِ فَذَهَبَ فَتَوَسَّلَ بِهِ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ وَعَادَ إِلَى مَجْلِسِ النَّبِيِّ وَقَدْ أَبْصَرَ، وَكَانَ مِمَّا عَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يَقُولَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَتَوَجَّهُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي (وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ) لِتُقْضَى لِي».

فَبِهَذَا الْحَدِيثِ بَطَلَ زَعْمُهُمْ أَنَّهُ لا يَجُوزُ التَّوَسُّلُ إِلَّا بِالْحَيِّ الْحَاضِرِ، لِأَنَّ هَذَا الأَعْمَى لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا فِي الْمَجْلِسِ حِينَ تَوَسَّلَ بِرَسُولِ اللَّهِ بِدَلِيلِ أَنَّ رَاوِيَ الْحَدِيثِ عُثْمَانَ بنَ حُنَيْفٍ قَالَ لَمَّا رَوَى حَدِيثَ الأَعْمَى: «فَوَاللَّهِ مَا تَفَرَّقْنَا وَلا طَالَ بِنَا الْمَجْلِسُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْنَا الرَّجُلُ وَقَدْ أَبْصَرَ».

فَمِنْ قَوْلِهِ: «حَتَّى دَخَلَ عَلَيْنَا» عَلِمْنَا أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا فِي الْمَجْلِسِ حِينَ تَوَسَّلَ بِرَسُولِ اللَّهِ.

وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ التَّوَسُّلِ بِرَسُولِ اللَّهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَيُؤْخَذُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بنِ حُنَيْفٍ الَّذِي رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَصَحَّحَهُ فَإِنَّ فِيهِ أَنَّهُ عَلَّمَ رَجُلًا هَذَا الدُّعَاءَ الَّذِي فِيهِ تَوَسُّلٌ بِرَسُولِ اللَّهِ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ حَاجَةٌ عِنْدَ سَيِّدِنَا عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ فِي خِلافَتِهِ وَمَا كَانَ يَتَيَسَّرُ لَهُ الِاجْتِمَاعُ بِهِ حَتَّى قَرَأَ هَذَا الدُّعَاءَ، فَتَيَسَّرَ أَمْرُهُ بِسُرْعَةٍ وَقَضَى لَهُ سَيِّدُنَا عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ حَاجَتَهُ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَهَؤُلاءِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ الشَّخْصَ لِأَنَّهُ قَصَدَ قَبْرَ الرَّسُولِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الأَوْلِيَاءِ لِلتَّبَرُّكِ فَهُمْ جَهِلُوا مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَخَالَفُوا مَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ سَلَفًا وَخَلَفًا لَمْ يَزَالُوا يَزُورُونَ قَبْرَ النَّبِيِّ لِلتَّبَرُّكِ وَلَيْسَ مَعْنَى الزِّيَارَةِ لِلتَّبَرُّكِ أَنَّ الرَّسُولَ يَخْلُقُ لَهُمُ الْبَرَكَةَ بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَرْجُونَ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ لَهُمُ الْبَرَكَةَ بِزِيَارَتِهِمْ لِقَبْرِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ مَالِكِ الدَّارِ وَكَانَ خَازِنَ عُمَرَ [وَقَوْلُ بَعْضِ الْوَهَّابِيَّةِ إِنَّ مَالِكَ الدَّارِ مَجْهُولٌ يَرُدُّهُ أَنَّ عُمَرَ لا يَتَّخِذُ خَازِنًا إِلَّا خَازِنًا ثِقَةً، وَمُحَاوَلَتُهُمْ لِتَضْعِيفِ هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَمَا صَحَّحَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ لَغْوٌ لا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ. وَيُقَالُ لِهَذَا الْمَدَّعِي: لا كَلامَ لَكَ بَعْدَ تَصْحِيحِ أَهْلِ الْحِفْظِ أَنْتَ لَيْسَ لَكَ فِي اصْطِلاحِ أَهْلِ الْحَدِيثِ حَقٌّ. عَلَى أَنَّ التَّصْحِيحَ وَالتَّضْعِيفَ خَاصٌّ بِالْحَافِظِ وَأَنْتَ تَعْرِفُ نَفْسَكَ أَنَّكَ بَعِيدٌ مِنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ بُعْدَ الأَرْضِ مِنَ السَّمَاءِ فَمَا حَصَلَ مِنْ هَذَا الصَّحَابِيِّ اسْتِغَاثَةٌ وَتَوَسُّلٌ. وَبِهَذَا الأَثَرِ يَبْطُلُ أَيْضًا قَوْلُ الْوَهَّابِيَّةِ إِنَّ الِاسْتِغَاثَةَ بِالرَّسُولِ بَعْدَ وَفَاتِهِ شِرْكٌ. وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ الْفَقِيهُ اللُّغَوِيُّ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ إِنَّ التَّوَسُّلَ وَالِاسْتِغَاثَةَ وَالتَّوَجُّهَ وَالتَّجَوُّهَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ شِفَاءُ السَّقَامِ الَّذِي أَلَّفَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى ابْنِ تَيْمِيَةَ فِي إِنْكَارِهِ سُنِّيَّةَ السَّفَرِ لِزِيَارَةِ قَبْرِ الرَّسُولِ وَتَحْرِيمِهِ قَصْرَ الصَّلاةِ فِي ذَلِكَ السَّفَرِ] قَالَ: أَصَابَ النَّاسَ قَحْطٌ [أَيْ وَقَعَتْ مَجَاعَةٌ، تِسْعَةَ أَشْهُرٍ انْقَطَعَ الْمَطَرُ عَنْهُمْ] فِي زَمَانِ عُمَرَ [أَيْ فِي خِلافَتِهِ] فَجَاءَ رَجُلٌ [أَيْ مِنَ الصَّحَابَةِ] إِلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَسْقِ لِأُمَّتِكَ فَإِنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا [مَعْنَاهُ اطْلُبْ مِنَ اللَّهِ الْمَطَرَ لِأُمَّتِكَ فَإِنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا] فَأُتِيَ الرَّجُلُ فِي الْمَنَامِ [أَيْ أُرِيَ فِي الْمَنَامِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ يُكَلِّمُهُ] فَقِيلَ لَهُ: أَقْرِئْ عُمَرَ السَّلامَ [أَيْ سَلِّمْ لِي عَلَيْهِ] وَأَخْبِرْهُ أَنَّهُمْ يُسْقَوْنَ [أَيْ سَيَأْتِيهِمُ الْمَطَرُ، ثُمَّ سَقَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى سُمِّيَ ذَلِكَ الْعَامُ عَامَ الْفَتْقِ مِنْ شِدَّةِ مَا ظَهَرَ مِنَ الأَعْشَابِ وَسَمِنَتِ الْمَوَاشِي حَتَّى تَفَتَّقَتْ بِالشَّحْمِ]، وَقُلْ لَهُ: عَلَيْكَ الْكَيْسَ الْكَيْسَ [أَيْ عَلَيْكَ بِالِاجْتِهَادِ بِالسَّعْيِ فِي خِدْمَةِ الأُمَّةِ]. فَأَتَى الرَّجُلُ عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ، فَبَكَى عُمَرُ وَقَالَ: يَا رَبِّ مَا ءَالُو إِلَّا مَا عَجَزْتُ [أَيْ لا أُقَصِّرُ إِلَّا مَا عَجَزْتُ، أَيْ سَأَفْعَلُ مَا فِي وُسْعِي لِخِدْمَةِ الأُمَّةِ]. وَقَدْ جَاءَ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الرَّجُلِ أَنَّهُ بِلالُ بنُ الْحَارِثِ الْمُزَنِيُّ الصَّحَابِيُّ. فَهَذَا الصَّحَابِيُّ قَدْ قَصَدَ قَبْرَ الرَّسُولِ لِلتَّبَرُّكِ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ عُمَرُ وَلا غَيْرُهُ فَبَطَلَ دَعْوَى ابْنِ تَيْمِيَةَ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَارَةَ شِرْكِيَّةٌ. وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ وَلِيُّ الدِّينِ الْعِرَاقِيُّ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ مُوسَى قَالَ: «رَبِّ أَدْنِنِي مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ»، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَاللَّهِ لَوْ أَنِّي عِنْدَهُ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَنْبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ»: فِيهِ اسْتِحْبَابُ مَعْرِفَةِ قُبُورِ الصَّالِحِينَ لِزِيَارَتِهَا وَالْقِيَامِ بِحَقِّهَا اهـ. وَقَالَ الْحَافِظُ الضِّيَاءُ حَدَّثَنِي سَالِمُ التَّلِّ قَالَ: «مَا رَأَيْتُ اسْتِجَابَةَ الدُّعَاءِ أَسْرَعَ مِنْهَا عِنْدَ هَذَا الْقَبْرِ، وَحَدَّثَنِي الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُونُسَ الْمَعْرُوفُ بِالأَرْمَنِيِّ أَنَّهُ زَارَ هَذَا الْقَبْرَ وَأَنَّهُ نَامَ فَرَأَى فِي مَنَامِهِ قُبَّةً عِنْدَهُ وَفِيهَا شَخْصٌ أَسْمَرُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ مُوسَى كَلِيمُ اللَّهِ أَوْ قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ، فَقَالَ: نَعَمْ، فَقُلْتُ: قُلْ لِي شَيْئًا، فَأَوْمَأَ إِلَيَّ بِأَرْبَعِ أَصَابِعَ وَوَصَفَ طُولَهُنَّ، فَانْتَبَهْتُ وَلَمْ أَدْرِ مَا قَالَ، فَأَخْبَرْتُ الشَّيْخَ ذَيَّالًا بِذَلِكَ فَقَالَ: يُولَدُ لَكَ أَرْبَعَةُ أَوْلادٍ، فَقُلْتُ: أَنَا قَدْ تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً لَمْ أَقْرَبْهَا، فَقَالَ: تَكُونُ غَيْرُ هَذِهِ، فَتَزَوَّجْتُ أُخْرَى فَوَلَدَتْ لِي أَرْبَعَةَ أَوْلادٍ» انْتَهَى.

الشَّرْحُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُطَهِّرَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ مِنَ الْكُفَّارِ لَمَّا كَانُوا مُسْتَوْلِينَ عَلَيْهَا بَلْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَهَا، وَقَدْ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، قَالَ: يَا رَبِّ أَدْنِنِي مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ وَلَوْ مِقْدَارَ رَمْيَةٍ بِحَجَرٍ، فَلَمَّا جَاءَ أَجَلُهُ قَرَّبَهُ اللَّهُ إِلَى الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ جَعَلَ وَفَاتَهُ بِمَكَانٍ قَرِيبٍ مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، وَالأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ تَبْدَأُ مِنَ الْجِبَالِ الَّتِي بَعْدَ أَرِيحَا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقَبْرُ مُوسَى قَبْلَ جَبَلِ الْقُدْسِ، يُوجَدُ هُنَاكَ بِأَرِيحَا مَقَامٌ كَبِيرٌ لَهُ أَرْبَعَةُ أَبْوَابٍ، بَابٌ شَرْقِيٌّ وَبَابٌ غَرْبِيٌّ وَبَابٌ شِمَالِيٌّ وَبَابٌ جَنُوبِيٌّ بَنَاهُ الْمُسْلِمُونَ يَأْوِي إِلَيْهِ الزُّوَّارُ.

فَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ عَنْ قَبْرِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ «وَاللَّهِ لَوْ أَنِّي عِنْدَهُ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَنْبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ» وَالَّذِي هُوَ قُرْبَ أَرِيحَا الإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ زِيَارَةَ قُبُورِ الأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِلتَّبَرُّكِ بِهِمْ مَطْلُوبَةٌ وَعَلَى هَذَا كَانَ الأَكَابِرُ وَعَلَى ذَلِكَ نَصُّوا، وَقَدْ ذَكَرَ الإِمَامُ أَبُو الْوَفَاءِ بنُ عَقِيلٍ الْحَنْبَلِيُّ الَّذِي هُوَ مِنْ أَعْمِدَةِ الْمَذْهَبِ الْحَنْبَلِيِّ أَنَّهُ مِمَّا يُسْتَحَبُّ قَوْلُهُ عِنْدَ زِيَارَةِ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ إِنَّكَ قُلْتَ فِي كِتَابِكَ لِنَبِيِّكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا﴾ [سُورَةَ النِّسَاء/64]، وَإِنِّي قَدْ أَتَيْتُ نَبِيَّكَ تَائِبًا مُسْتَغْفِرًا فَأَسْأَلُكَ أَنْ تُوجِبَ لِيَ الْمَغْفِرَةَ كَمَا أَوْجَبْتَهَا لِمَنْ أَتَاهُ فِي حَيَاتِهِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَتَوَجَّهُ بِكَ إِلَى رَبِّي لِيَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي»، فَبَعْدَ هَذَا كَيْفَ يَقُولُ بَعْضُهُمْ إِنَّ زِيَارَةَ قَبْرِ النَّبِيِّ لِلتَّبَرُّكِ بِهِ وَالتَّوَسُّلِ بِهِ زِيَارَةٌ شِرْكِيَّةٌ، فَمَا أَبْعَدَ هَؤُلاءِ عَنِ الْحَقِّ. ثُمَّ إِنَّ أَحَدَ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ وَاسْمُهُ الْحَافِظُ سِرَاجُ الدِّينِ بنُ الْمُلَقِّنِ هَذَا تُوُفِّيَ بَعْدَ ابْنِ تَيْمِيَةَ بِنَحْوِ سِتِّينَ سَنَةً وَهُوَ مِنَ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيِّينَ ذَكَرَ عَنْ نَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ طَبَقَاتِ الأَوْلِيَاءِ وَهُوَ كِتَابٌ يَذْكُرُ فِيهِ تَرَاجِمَ أَوْلِيَاءَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فَقَالَ: «ذَهَبْتُ إِلَى قَبْرِ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ وَقَفْتُ وَدَعَوْتُ اللَّهَ عِدَّةَ مَرَّاتٍ، فَالأَمْرُ الَّذِي كَانَ يَصْعُبُ عَلَيَّ يَنْقَضِي لَمَّا أَدْعُو اللَّهَ هُنَاكَ عِنْدَ قَبْرِهِ» هَذَا مَعْرُوفٌ الْكَرْخِيُّ مِنَ الأَوْلِيَاءِ الْبَارِزِينَ الْمَشْهُورِينَ فِي بَغْدَادَ، مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، يَقْصِدُونَ قَبْرَهُ لِلتَّبَرُّكِ.

وَذَكَرَ الْحَافِظُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي تَارِيخِ بَغْدَادَ عَنِ الْحَسَنِ بنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلَّالِ أَنَّهُ قَالَ: «مَا هَمَّنِي أَمْرٌ فَقَصَدْتُ قَبْرَ مُوسَى بنِ جَعْفَرٍ فَتَوَسَّلْتُ بِهِ إِلَّا سَهَّلَ اللَّهُ تَعَالَى لِي مَا أُحِبُّ». اهـ.

وَذَكَرَ عَنْ بَعْضِ أَكَابِرِ السَّلَفِ مِمَّنْ كَانَ فِي زَمَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ وَاسْمُهُ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ أَبُو إِسْحَاقَ وَكَانَ حَافِظًا فَقِيهًا مُجْتَهِدًا يُشَبَّهُ بِأَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ، وَكَانَ الإِمَامُ أَحْمَدُ يُرْسِلُ ابْنَهُ لِيَتَعَلَّمَ عِنْدَهُ الْحَدِيثَ أَنَّهُ قَالَ: «قَبْرُ مَعْرُوفٍ التِّرْيَاقُ الْمُجَرَّبُ»، وَالتِّرْيَاقُ هُوَ دَوَاءٌ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ وَهُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الأَطِبَاءِ الْقُدَامَى مِنْ كَثْرَةِ مَنَافِعِهِ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ أَنْوَاعٌ، شَبَّهَ الْحَرْبِيُّ قَبْرَ مَعْرُوفٍ بِالتِّرْيَاقِ فِي كَثْرَةِ الِانْتِفَاعِ فَكَأَنَّ الْحَرْبِيَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ اقْصِدُوا قَبْرَ مَعْرُوفٍ تَبَرُّكًا بِهِ مِنْ كَثْرَةِ مَنَافِعِهِ.

وَذَكَرَ أَيْضًا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمٰنِ بنِ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: «قَبْرُ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ مُجَرَّبٌ لِقَضَاءِ الْحَوَائِجِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ مَنْ قَرَأَ عِنْدَهُ مِائَةَ مَرَّةٍ: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [سُورَةَ الإِخْلاص/1] وَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى مَا يُرِيدُ قَضَى اللَّهُ لَهُ حَاجَتَهُ».

وَذَكَرَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمَحَامِلِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «أَعْرِفُ قَبْرَ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً، مَا قَصَدَهُ مَهْمُومٌ إِلَّا فَرَّجَ اللَّهُ هَمَّهُ».

وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «إِنِّي لَأَتَبَرَّكُ بِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَجِيءُ إِلَى قَبْرِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ - يَعْنِي زَائِرًا - فَإِذَا عَرَضَتْ لِي حَاجَةٌ صَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ وَجِئْتُ إِلَى قَبْرِهِ وَسَأَلْتُ اللَّهَ تَعَالَى الْحَاجَةَ عِنْدَهُ فَمَا تَبْعُدُ عَنِّي حَتَّى تُقْضَى».

وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ الْجَزَرِيُّ وَهُوَ شَيْخُ الْقُرَّاءِ وَكَانَ مِنْ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ فِي كِتَابٍ لَهُ يُسَمَّى الْحِصْنَ الْحَصِينَ وَكَذَلِكَ ذَكَرَ فِي مُخْتَصَرِهِ قَالَ: «مِنْ مَوَاضِعِ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ قُبُورُ الصَّالِحِينَ» اهـ، وَهَذَا الْحَافِظُ جَاءَ بَعْدَ ابْنِ تَيْمِيَةَ بِنَحْوِ مِائَةِ سَنَةٍ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الشَّاذِّينَ الَّذِينَ لَحِقُوا نُفَاةَ التَّوَسُّلِ مِنْ أَتْبَاعِ ابْنِ تَيْمِيَةَ.

وَنَخْتِمُ هَذَا الْمَقَالَ بِقَوْلِ الإِمَامِ مَالِكٍ لِلْخَلِيفَةِ الْمَنْصُورِ لَمَّا حَجَّ فَزَارَ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَأَلَ مَالِكًا قَائِلًا: «يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَأَدْعُو أَمْ أَسْتَقْبِلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: وَلِمَ تَصْرِفُ وَجْهَكَ عَنْهُ وَهُوَ وَسِيلَتُكَ وَوَسِيلَةُ أَبِيكَ ءَادَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ بَلِ اسْتَقْبِلْهُ وَاسْتَشْفِعْ بِهِ فَيُشَفِّعَهُ اللَّهُ» ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي كِتَابِ الشِّفَا.

فَهَذَا قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ مِمَّا تَحْوِيهِ كُتُبُ الْمُحَدِّثِينَ وَالْمُؤَرِّخِينَ مِنْ قَصْدِ الْمُسْلِمِينَ قُبُورَ الأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِلتَّبَرُّكِ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ، فَلَوْ تُتُبِّعَ مَا فِي كُتُبِ التَّارِيخِ وَالْحَدِيثِ وَطَبَقَاتِ الْمُحَدِّثِينَ وَالزُّهَّادِ مِنْ هَذَا الْبَابِ لَجَاءَ مُجَلَّدَاتٍ عَدِيدَةً، فَكَيْفَ تَجَرَّأَ ابْنُ تَيْمِيَةَ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ وَتَكْفِيرِ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَالْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالشِّرْكِ، ثُمَّ كَيْفَ تَجَرَّأَ عَلَى دَعْوَى أَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَلَوْ قَالَ هَذَا مَا أَرَاهُ وَأَعْتَقِدُهُ لَكَانَ ذَلِكَ إِبْدَاءَ رَأْيِهِ الْخَاصِّ لَكِنَّهُ أَوْهَمَ أَنَّ هَذَا الَّذِي يَرَاهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الإِسْلامِ تَلْبِيسًا عَلَى النَّاسِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَمَا أَعْظَمَ مَا تَرَتَّبَ مِنْ كَلامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ هَذَا مِنْ تَكْفِيرِ أَتْبَاعِهِ الْوَهَّابِيَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ لِمُجَرَّدِ قَصْدِ قُبُورِ الأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الأَنْبِيَاءَ وَالأَوْلِيَاءَ أَسْبَابٌ فَقَطْ لا يَخْلُقُونَ مَنْفَعَةً وَلا مَضَرَّةً، فَكُلُّ إِثْمِ تَكْفِيرِ هَؤُلاءِ الْمُسْلِمِينَ يَكُونُ فِي صَحَائِفِ ابْنِ تَيْمِيَةَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ هَذَا، فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ لا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَىْءٌ» وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ.

وَمِنْ عَجَائِبِ تَكْفِيرِ الْوَهَّابِيَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ مَا حَدَّثَنِي بِهِ الشَّيْخُ أَحْمَدُ ذَاكِر قَالَ: كُنْتُ فِي نَاحِيَةِ بَنِي غَامِدٍ فِي الْحِجَازِ جَالِسًا تَحْتَ شَجَرَةٍ أَدْعُو اللَّهَ رَافِعًا يَدَيَّ فَأَقْبَلَ إِلَيَّ وَاحِدٌ وَقَالَ بِصَوْتٍ عَالٍ: لِمَ تَعْبُدُ الشَّجَرَةَ، وَهَذَا الإِنْكَارُ مِنْهُ وَتَكْفِيرُهُ لَهُ نَاشِئٌ مِنْ مُجَرَّدِ سُوءِ الظَّنِّ بِالرَّجُلِ كَفَّرَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُ مَا يَقُولُ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا فِي بَلَدٍ مِنْ بِلادِ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ ظُهُورِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ فِي نَجْدِ الْحِجَازِ، ثُمَّ ازْدَادَ أَتْبَاعُهُ غُلُوًّا وَلا يَزَالُونَ يَزْدَادُونَ غُلُوًّا إِلَى يَوْمِنَا هَذَا.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّ الْحَارِثَ بنَ حَسَّانٍ الْبَكْرِيَّ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ أَكُونَ كَوَافِدِ عَادٍ، الْحَدِيثَ بِطُولِهِ دَلِيلٌ يُبْطِلُ قَوْلَ الْوَهَّابِيَّةِ: الِاسْتِعَاذَةُ بِغَيْرِ اللَّهِ شِرْكٌ.

الشَّرْحُ الْحَارِثُ بنُ حَسَّانٍ الْبَكْرِيُّ قَالَ: «خَرَجْتُ أَشْكُو الْعَلاءَ بنَ الْحَضْرَمِيَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرَرْتُ بِالرَّبْذَةِ فَإِذَا عَجُوزٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ مُنْقَطَعٌ بِهَا، فَقَالَتْ لِي: يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنَّ لِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاجَةً فَهَلَّا أَنْتَ مُبَلِّغِي إِلَيْهِ، قَالَ: فَحَمَلْتُهَا فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ فَإِذَا الْمَسْجِدُ غَاصٌّ بِأَهْلِهِ، وَإِذَا رَايَةٌ سَوْدَاءُ تَخْفِقُ وَبِلالٌ مُتَقَلِّدٌ السَّيْفَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: مَا شَأْنُ النَّاسِ، قَالُوا: يُرِيدُ أَنْ يَبْعَثَ عَمْرَو بنَ الْعَاصِ وَجْهًا، قَالَ: فَجَلَسْتُ، قَالَ: فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ أَوْ قَالَ رَحْلَهُ، قَالَ: فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ فَأَذِنَ لِي فَدَخَلْتُ فَسَلَّمْتُ، فَقَالَ: «هَلْ كَانَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي تَمِيمٍ شَىْءٌ»، قَالَ: فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: وَكَانَتْ لَنَا الدَّبْرَةُ عَلَيْهِمْ، وَمَرَرْتُ بِعَجُوزٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ مُنْقَطَعٍ بِهَا فَسَأَلَتْنِي أَنْ أَحْمِلَهَا إِلَيْكَ وَهَا هِيَ بِالْبَابِ، فَأَذِنَ لَهَا فَدَخَلَتْ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ بَنِي تَمِيمٍ حَاجزًا فَاجْعَلِ الدَّهْنَاءَ، فَحَمِيَتِ الْعَجُوزُ وَاسْتَوْفَزَتْ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِلَى أَيْنَ تَضْطَّرُ مُضَرُكَ، قَالَ: قُلْتُ: إِنَّمَا مَثَلِي مَا قَالَ الأَوَّلُ: مَعْزَاءُ حَمَلَتْ حَتْفَهَا، حَمَلْتُ هَذِهِ وَلا أَشْعُرُ أَنَّهَا كَانَتْ لِي خَصْمًا، أَعُوذُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ أَكُونَ كَوَافِدِ عَادٍ، قَالَ: «هِيهْ وَمَا وَافِدُ عَادٍ» وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ مِنْهُ وَلَكِنْ يَسْتَطْعِمُهُ، قُلْتُ: إِنَّ عَادًا قُحِطُوا - أَيِ انْقَطَعَ عَنْهُمُ الْمَطَرُ- فَبَعَثُوا وَافِدًا لَهُمْ يُقَالُ لَهُ قِيل، فَمَرَّ بِمُعَاوِيَةَ بنِ بَكْرٍ فَأَقَامَ عِنْدَهُ شَهْرًا يَسْقِيهِ خَمْرًا وَتُغَنِّيهِ جَارِيَتَانِ يُقَالُ لَهُمَا الْجَرَادَتَانِ، فَلَمَّا مَضَى الشَّهْرُ خَرَجَ إِلَى جِبَالِ تِهَامَةَ - يَطْلُبُ الْمَطَرَ مِنَ اللَّهِ، لِأَنَّ هَؤُلاءِ كَانُوا مَعَ شَرْكِهِمْ يُعَظِّمُونَ مَكَّةَ - فَنَادَى: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَجِىءْ إِلَى مَرِيضٍ فَأُدَاوِيَهُ وَلا إِلَى أَسِيرٍ فَأُفَادِيَهُ، اللَّهُمَّ اسْقِ عَادًا مَا كُنْتَ تَسْقِيهِ، فَمَرَّتْ بِهِ سَحَابَاتٌ سُودٌ - وَالْغَالِبُ أَنَّ السَّحَابَةَ السَّوْدَاءَ هِيَ الَّتِي تَحْمِلُ الْمَطَرَ، فَرِحَ فَقَالَ الآنَ يَنْزِلُ الْمَطَرُ - فَنُودِيَ مِنْهَا - أَيْ نَادَاهُ الْمَلَكُ قَائِلًا-: اخْتَرْ، فَأَوْمَأَ إِلَى سَحَابَةٍ مِنْهَا سَوْدَاءَ فَنُودِيَ مِنْهَا: خُذْهَا رَمَادًا رِمْدِدًا لا تُبْقِي مِنْ عَادٍ أَحَدًا، قَالَ: فَمَا بَلَغَنِي أَنَّهُ بُعِثَ عَلَيْهِمْ مِنَ الرِّيحِ إِلَّا قَدْرُ مَا يَجْرِي فِي خَاتَمِي هَذَا حَتَّى هَلَكُوا، قَالَ أَبُو وَائِلٍ: وَصَدَقَ، قَالَ: فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ وَالرَّجُلُ إِذَا بَعَثُوا وَافِدًا لَهُمْ قَالُوا: لا تَكُنْ كَوَافِدِ عَادٍ» اهـ.

وَوَجْهُ الدَّلِيلِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَقُلْ لِلْحَارِثِ أَشْرَكْتَ لِقَوْلِكَ «وَرَسُولِهِ»، حَيْثُ اسْتَعَذْتَ بِي وَقَدْ جَمَعَ الْحَارِثُ الِاسْتِعَاذَةَ بِالرَّسُولِ مَعَ الِاسْتِعَاذَةِ بِاللَّهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسْتَعَاذُ بِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَأَمَّا الرَّسُولُ فَمُسْتَعَاذٌ بِهِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ سَبَبٌ، فَتَبَيَّنَ لِلْحَارِثِ أَنَّ حَاجَتَهَا مِثْلُ حَاجَتِهِ، هُوَ جَاءَ لِيَطْلُبَ مِنَ الرَّسُولِ أَرْضًا مِنَ الأَرَاضِي وَهِيَ نَفْسُ الشَّىْءِ كَانَ فِي قَلْبِهَا أَنْ تَطْلُبَ مِنَ الرَّسُولِ، فَلَمَّا أَوْصَلَهَا إِلَى الرَّسُولِ فَإِذَا بِهَا تَذْكُرُ لِلرَّسُولِ مَا عِنْدَهَا مَا كَانَ فِي ضَمِيرِهَا أَيْ فِي قَلْبِهَا، فَقَالَ الصَّحَابِيُّ: أَعُوذُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ أَكُونَ كَوَافِدِ عَادٍ، يَعْنِي أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ خَائِبًا فِي أَمَلِي الَّذِي أَمَّلْتُهُ، مَعْنَاهُ هَذِهِ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ أَنْ تَسْبِقَنِي إِلَى مَا هُوَ حَاجَتِي.

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَذَا اسْتِعَاذَةٌ بِالرَّسُولِ فِي حَيَاتِهِ فِي حَضْرَتِهِ وَنَحْنُ لا نُنْكِرُ هَذَا إِنَّمَا نُنْكِرُ الِاسْتِعَاذَةَ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ؟ قُلْنَا: الِاسْتِعَاذَةُ مَعْنًى وَاحِدٌ إِنْ كَانَ طَلَبُهَا مِنْ حَيٍّ حَاضِرٍ أَوْ غَائِبٍ فَكَيْفَ يَكُونُ طَلَبُهَا مِنَ الْحَاضِرِ جَائِزًا وَمِنَ الْغَائِبِ شِرْكًا هَذَا غَيْرُ مَعْقُولٍ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ إِنِ اسْتَعَاذَ بِحَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ فَإِنَّهُ يَرَى الْمُسْتَعَاذَ بِهِ سَبَبًا أَيْ أَنَّهُ يَنْفَعُ الْمُسْتَعِيذَ بِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَيْ إِنْ كَتَبَ اللَّهُ أَنَّهُ يَنْفَعُهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى لا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَعَاذُ بِهِ حَيًّا حَاضِرًا أَوْ مَيِّتًا غَائِبًا، فَلا الْحَيُّ الْحَاضِرُ الْمُسْتَعَاذُ بِهِ خَالِقٌ لِلإِعَاذَةِ وَلا الْمَيِّتُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ﴾، وَأَيْنَ مَعْنَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ فِي هَذَا أَلَيْسَ مَعْنَى الْعِبَادَةِ لُغَةً وَشَرْعًا نِهَايَةَ التَّذَلُّلِ يَا مُكَفِّرِينَ لِأُمَّةِ الْهُدَى بِلا سَبَبٍ، افْهَمُوا مَعْنَى الْعِبَادَةِ ثُمَّ تَكَلَّمُوا.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ سِوَى الْحَفَظَةِ يَكْتُبُونَ مَا يَسْقُطُ مِنْ وَرَقِ الشَّجَرِ فَإِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ عَرْجَةٌ بِأَرْضٍ فَلاةٍ فَلْيُنَادِ أَعِينُوا عِبَادَ اللَّهِ»، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَقَالَ الْحَافِظُ الْهَيْثَمِيُّ: رِجَالُهُ ثِقَاتٌ.

الشَّرْحُ هَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ دِلالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِغَاثَةِ بِغَيْرِ اللَّهِ لِأَنَّ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَنَا أَنْ نَقُولَ إِذَا أَصَابَ أَحَدَنَا مُشْكِلَةٌ فِي فَلاةٍ مِنَ الأَرْضِ أَيْ بَرِّيَّةٍ «يَا عِبَادَ اللَّهِ أَعِينُوا» فَإِنَّ هَذَا يَنْفَعُهُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ حَسَّنَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ، وَنَصُّ الْحَدِيثِ كَمَا أَخْرَجَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الأَمَالِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً سِوَى الْحَفَظَةِ سَيَّاحِينَ فِي الْفَلاةِ يَكْتُبُونَ مَا يَسْقُطُ مِنْ وَرَقِ الشَّجَرِ فَإِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ عَرْجَةٌ فِي فَلاةٍ فَلْيُنَادِ يَا عِبَادَ اللَّهِ أَعِينُوا»، اللَّهُ تَعَالَى يُسْمِعُ هَؤُلاءِ الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ وُكِّلُوا بِأَنْ يَكْتُبُوا مَا يَسْقُطُ مِنْ وَرَقِ الشَّجَرِ فِي الْبَرِّيَّةِ نِدَاءَ هَذَا الشَّخْصِ لَوْ كَانَ عَلَى مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ مِنْهُمْ. الْمَلِكُ الْحَيُّ الْحَاضِرُ إِذَا اسْتُغِيثَ بِهِ: يَا مَلِكَنَا ظَلَمَنِي فُلانٌ أَنْقِذْنِي، يَا مَلِكَنَا أَصَابَنِي مَجَاعَةٌ فَأَنْقِذْنِي، هَذَا الْمَلِكُ لا يُغِيثُ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، كَذَلِكَ هَؤُلاءِ الْمَلائِكَةُ لا يُغِيثُونَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، كَذَلِكَ الأَوْلِيَاءُ وَالأَنْبِيَاءُ إِذَا إِنْسَانٌ اسْتَغَاثَ بِهِمْ بَعْدَ وَفَاتِهِمْ يُغِيثُونَهُ بِإِذْنِ اللَّهِ، فَإِذًا هَؤُلاءِ سَبَبٌ، وَكِلا الأَمْرَيْنِ جَائِزٌ.

أَمَّا ابْنُ تَيْمِيَةَ فَيَقُولُ: قَوْلُ أَغِثْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ شِرْكٌ إِنْ كَانَ فِي غِيَابِهِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ، عِنْدَهُ لا يَجُوزُ التَّوَسُّلُ إِلَّا بِالْحَيِّ الْحَاضِرِ، يَقُولُ ابْنُ تَيْمِيَةَ وَالْوَهَّابِيَّةُ لِمَ تَسْتَغِيثُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، اللَّهُ تَعَالَى لا يَحْتَاجُ إِلَى وَاسِطَةٍ، فَيُقَالُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ: كَذَلِكَ الْمَلِكُ اللَّهُ تَعَالَى لا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِيُغِيثَكَ وَكَذَلِكَ الْمَلائِكَةُ اللَّهُ لا يَحْتَاجُ إِلَيْهِمْ لِيُغِيثُوكَ، فَمَا أَبْعَدَ ابْنَ تَيْمِيَةَ وَأَتْبَاعَهُ عَنِ الْحَقِّ حَيْثُ إِنَّهُمْ وَضَعُوا شُرُوطًا لِصِحَّةِ الِاسْتِغَاثَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِ اللَّهِ لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَكُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ. هَذَا وَالْعَجَبُ مِنَ ابْنِ تَيْمِيَةَ ثَبَتَ عَنْهُ أَمْرَانِ مُتَنَاقِضَانِ وَهُوَ أَنَّ الْقَوْلَ الْمَشْهُورَ عَنْهُ الْمَذْكُورَ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ تَحْرِيمُ الِاسْتِغَاثَةِ بِغَيْرِ الْحَيِّ الْحَاضِرِ، وَصَرَّحَ فِي كِتَابِهِ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ بِاسْتِحْسَانِ أَنَّ يَقُولَ مَنْ أَصَابَهُ خَدَرٌ فِي رِجْلِهِ «يَا مُحَمَّدُ»، وَكِتَابُهُ هَذَا الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ثَابِتٌ أَنَّهُ مِنْ تَأْلِيفِهِ فَمَا أَثْبَتَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ هُوَ مُوَافِقٌ لِعَمَلِ الْمُسْلِمِينَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَأَمَّا مُشَبِّهَةُ الْعَصْرِ الْوَهَّابِيَّةُ الَّذِينَ هُمْ أَتْبَاعُ ابْنِ تَيْمِيَةَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ قَوْلَ يَا مُحَمَّدُ شِرْكٌ وَكُفْرٌ. وَهَذَا الْكِتَابُ الَّذِي عَقَدَ فِيهِ ابْنُ تَيْمِيَةَ فَصْلًا لِاسْتِحْبَابِ أَنْ يَقُولَ مَنْ أَصَابَهُ الْخَدَرُ يَا مُحَمَّدُ ثَابِتٌ عَنْهُ تُوجَدُ مِنْهُ نُسَخٌ خَطِّيَّةٌ وَنُسَخٌ مَطْبُوعَةٌ. وَقَدِ اعْتَرَفَ بِصِحَّةِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّهُ لِابْنِ تَيْمِيَةَ زَعِيمُ الْوَهَّابِيَّةِ نَاصِرُ الدِّينِ الأَلْبَانِيُّ وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي مُقَدِّمَةِ النُّسْخَةِ الَّتِي طَبَعَهَا الْوَهَّابِيُّ تِلْمِيذُ الأَلْبَانِيِّ زُهَيْرُ الشَّاوِيش، فَهُمْ وَقَعُوا فِي حَيْرَةٍ لَمَّا أُورِدَ عَلَيْهِمْ هَذَا السُّؤَالُ: «هَذَا ابْنُ تَيْمِيَةَ قَالَ فِي كِتَابِهِ هَذَا فَصْلٌ فِي الرِّجْلِ إِذَا خَدِرَتْ وَأَوْرَدَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بنَ عُمَرَ خَدِرَتْ رِجْلُهُ فَقِيلَ لَهُ اذْكُرْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيْكَ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ فَاسْتَقَامَتْ رِجْلُهُ كَأَنَّهُ نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ. هَذَا فِيهِ اسْتِحْبَابُ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ عِنْدَكُمْ وَقَائِلُ هَذَا زَعِيمُكُمُ الَّذِي أَخَذْتُمْ مِنْهُ أَكْثَرَ عَقَائِدِكُمْ، فَمَاذَا تَقُولُونَ كَفَرَ لِهَذَا أَمْ لَمْ يَكْفُرْ، فَإِنْ قُلْتُمْ كَفَرَ لِهَذَا وَأَنْتُمْ تُسَمُّونَهُ شَيْخَ الإِسْلامِ فَهَذَا تَنَاقُضٌ تُكَفِّرُونَهُ وَتُسَمُّونَهُ شَيْخَ الإِسْلامِ وَإِنْ قُلْتُمْ لَمْ يَكْفُرْ نَقَضْتُمْ عَقِيدَتَكُمْ تَكُونُونَ قُلْتُمْ قَوْلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتِغَاثَةً بِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ تُكَفِّرُوهُ جِهَارًا فَإِنَّكُمْ مُعْتَقِدُونَ أَنَّ قَوْلَهُ هَذَا شِرْكٌ فَلِمَاذَا لا تَتَبَرَّءُونَ مِنْهُ إِنْ كُنْتُمْ عَلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ. وَالآنَ وَقَدْ وَضَحَ لَكُمُ الأَمْرُ لَكِنَّكُمْ لا تَزَالُونَ تُخَالِفُونَهُ فِيمَا وَافَقَ فِيهِ الْحَقَّ وَتَتْبَعُونَهُ فِيمَا ضَلَّ وَزَاغَ فِيهِ وَهَلْ لَكُمْ مُسْتَنَدٌ لِتَحْرِيمِ التَّوَسُّلِ بِغَيْرِ الْحَيِّ الْحَاضِرِ سِوَى مَا أَخَذْتُمْ مِنْ كُتُبِهِ وَزَعَمْتُمْ أَنَّ ذَلِكَ حُجَّةٌ، وَهُوَ أَمْرٌ انْفَرَدَ بِهِ ابْنُ تَيْمِيَةَ مِنْ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَسْبِقْهُ أَحَدٌ فِي تَحْرِيمِ التَّوَسُّلِ بِالنَّبِيِّ وَالْوَلِيِّ بَعْدَ الْوَفَاةِ أَوْ فِي غَيْرِ حَضْرَةِ النَّبِيِّ وَالْوَلِيِّ فِي الْحَيَاةِ وَظَهَرَ وَثَبَتَ أَنَّكُمْ لَسْتُمْ مَعَ السَّلَفِ وَلا مَعَ الْخَلَفِ». هَؤُلاءِ السَّلَفُ كُتُبُهُمْ تَشْهَدُ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَبَرَّكُونَ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ بِالتَّوَسُّلِ بِهِمْ وَبِزِيَارَةِ قُبُورِهِمْ وَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَلَّفُوا مِنَ السَّلَفِ وَذَكَرُوا فِي مُؤَلَّفَاتِهِمْ هَذَا الأَثَرَ مِنْ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ لَمَّا خَدِرَتْ رِجْلُهُ يَا مُحَمَّدُ كَانَ مُقَرَّرًا عِنْدَ السَّلَفِ كَإِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ صَاحِبِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِهِ غَرِيبِ الْحَدِيثِ أَيْ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ، وَالْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِهِ الأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَهذَا الأَثَرُ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ إِسْنَادَيْنِ أَحَدُهُمَا فِيهِ رَاوٍ ضَعِيفٍ. وَلَوْ فُرِضَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ لَكِنَّ هَؤُلاءِ أَوْرَدُوهُ فِي كُتُبِهِمْ مُسْتَحْسِنِينَ لِيَعْمَلَ النَّاسُ بِهِ فَمَاذَا تَحْكُمُونَ عَلَيْهِمْ هَلْ تَحْكُمُونَ عَلَيْهِمْ بِالشِّرْكِ وَالْكُفْرِ حَيْثُ إِنَّهُمْ تَرَكُوا لِلنَّاسِ مَا فِيهِ شِرْكٌ فِي تَآلِيفِهِمْ وَكَذَلِكَ عُلَمَاءُ الْخَلَفِ مِنْ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ ذَكَرُوا هَذَا فِي مُؤَلَّفَاتِهِمْ فَأَنْتُمْ تَكُونُونَ كَفَّرْتُمُ السَّلَفَ وَالْخَلَفَ فَمَنِ الْمُسْلِمُ عَلَى زَعْمِكُمْ إِنْ كَانَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ كُفَّارًا عَلَى مُوجَبِ كَلامِكُمْ، وَهَذَا الإِمَامُ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ الَّذِي تَعْتَزُّونَ بِهِ أَجَازَ تَقْبِيلَ قَبْرِ النَّبِيِّ وَمَسَّهُ لِلتَّبَرُّكِ وَذَلِكَ فِي كِتَابِ الْعِلَلِ وَمَعْرِفَةِ الرِّجَالِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ وَمَمَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُحْدِثُونَ وَيُحْدَثُ لَكُمْ، وَوَفَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ فَمَا رَأَيْتُ مِنْ خَيْرٍ حَمِدْتُ اللَّهَ عَلَيْهِ وَمَا رَأَيْتُ مِنْ شَرٍّ اسْتَغْفَرْتُ لَكُمْ»، رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ.

الشَّرْحُ هَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ يَنْفَعُ بَعْدَ مَوْتِهِ خِلافًا لِلْوَهَّابِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لا يَنْفَعُ أَحَدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ لَمَّا قَالَ: «وَمَمَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ» أَفْهَمَنَا أَنَّهُ يَنْفَعُنَا بَعْدَ مَوْتِهِ أَيْضًا بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا نَفَعَنَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ لَمَّا سَأَلَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِكَ؟، فَقَالَ لَهُ: «خَمْسِينَ صَلاةً»، قَالَ: ارْجِعْ وَسَلِ التَّخْفِيفَ فَإِنِّي جَرَّبْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فُرِضَ عَلَيْهِمْ صَلاتَانِ فَلَمْ يَقُومُوا بِهِمَا، فَرَجَعَ فَطَلَبَ التَّخْفِيفَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَفِي كُلِّ مَرَّةٍ كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ يَقُولُ لَهُ: ارْجِعْ فَسَلِ التَّخْفِيفَ، إِلَى أَنْ صَارُوا خَمْسَ صَلَوَاتٍ بِأَجْرِ خَمْسِينَ، فَهَلْ يَشُكُّ عَاقِلٌ بِنَفْعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ هَذَا النَّفْعَ الْعَظِيمَ، وَقَدْ كَانَ مُوسَى تُوُفِّيَ قَبْلَ لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ بِأَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ سَنَةٍ، فَهَذَا عَمَلٌ بَعْدَ الْمَوْتِ نَفَعَ بِهِ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: «تُحْدِثُونَ وَيُحْدَثُ لَكُمْ »فَمَعْنَاهُ يَحْصُلُ مِنْكُمْ أُمُورٌ ثُمَّ يَأْتِي الْحُكْمُ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ.

ثُمَّ يُؤَكِّدُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ نَفْعَهُ لِأُمَّتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِقَوْلِهِ: «وَوَفَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ فَمَا رَأَيْتُ مِنْ خَيْرٍ حَمِدْتُ اللَّهَ عَلَيْهِ وَمَا رَأَيْتُ مِنْ شَرٍّ اسْتَغْفَرْتُ لَكُمْ». وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ أَنَّ كُلًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ لَقِيَهُمْ فِي السَّمَاءِ دَعَا لِلرَّسُولِ بِخَيْرٍ وَهُمْ ثَمَانِيَةٌ ءَادَمُ فِي الأُولَى وَعِيسَى وَيَحْيَى فِي الثَّانِيَةِ وَيُوسُفُ فِي الثَّالِثَةِ وَإِدْرِيسُ فِي الرَّابِعَةِ وَهَارُونُ فِي الْخَامِسَةِ وَمُوسَى فِي السَّادِسَةِ وَإِبْرَاهِيمُ فِي السَّابِعَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ نَفْعٌ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَبَطَلَ تَعَلُّقُ الْوَهَّابِيَّةِ بِالِاسْتِدْلالِ بِحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ: «إِذَا مَاتَ ابْنُ ءَادَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلاثٍ» فَإِنَّهُ بِزَعْمِهِمْ يَمْنَعُ الِانْتِفَاعَ بِزِيَارَةِ قُبُورِ الأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ وَالتَّوَسُّلِ بِهِمْ. يُقَالُ لَهُمُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ «انْقَطَعَ عَمَلُهُ» أَيِ الْعَمَلُ التَّكْلِيفِيُّ وَلَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ نَحْوِ نَفْعِ التَّوَسُّلِ بِهِمْ بَلْ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلافِ دَعْوَاهُمْ حَيْثُ إِنَّ فِيهِ أَنَّ دَعْوَةَ الْوَلَدِ الصَّالِحِ تَنْفَعُ أَبَاهُ وَلَيْسَ مُرَادُ الرَّسُولِ بِذَلِكَ أَنَّهُ لا يَنْفَعُ دُعَاءُ غَيْرِ وَلَدِهِ الصَّالِحِ لِلْمَيِّتِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمَيْهِ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ عَنْ عُثْمَانَ بنِ حُنَيْفٍ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَخْتَلِفُ - أَيْ يَتَرَدَّدُ - إِلَى عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ، فَكَانَ عُثْمَانُ لا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ وَلا يَنْظُرُ فِي حَاجَتِهِ، فَلَقِيَ عُثْمَانَ بنَ حُنَيْفٍ فَشَكَى إِلَيْهِ ذَلِكَ، فَقَالَ: ائْتِ الْمِيضَأَةَ فَتَوَضَّأْ ثُمَّ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَتَوَجَّهُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي لِتُقْضَى لِي، ثُمَّ رُحْ حَتَّى أَرُوحَ مَعَكَ. فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ فَفَعَلَ مَا قَالَ، ثُمَّ أَتَى بَابَ عُثْمَانَ فَجَاءَ الْبَوَّابُ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَأَدْخَلَهُ عَلَى عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ فَأَجْلَسَهُ عَلَى طِنْفِسَتِهِ - أَيْ سَجَّادَتِهِ - فَقَالَ: مَا حَاجَتُكَ؟ فَذَكَرَ لَهُ حَاجَتَهُ، فَقَضَى لَهُ حَاجَتَهُ وَقَالَ: مَا ذَكَرْتُ حَاجَتَكَ حَتَّى كَانَتْ هَذِهِ السَّاعَةُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ فَلَقِيَ عُثْمَانَ بنَ حُنَيْفٍ فَقَالَ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، مَا كَانَ يَنْظُرُ فِي حَاجَتِي وَلا يَلْتَفِتُ إِلَيَّ حَتَّى كَلَّمْتَهُ فِيَّ، فَقَالَ عُثْمَانُ بنُ حُنَيْفٍ: وَاللَّهِ مَا كَلَّمْتُهُ وَلَكِنْ شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَتَاهُ ضَرِيرٌ فَشَكَى إِلَيْهِ ذَهَابَ بَصَرِهِ، فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ صَبَرْتَ وَإِنْ شِئْتَ دَعَوْتُ لَكَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ شَقَّ عَلَيَّ ذَهَابُ بَصَرِي وَإِنَّهُ لَيْسَ لِي قَائِدٌ فَقَالَ لَهُ: ائْتِ الْمِيضَأَةَ فَتَوَضَّأْ وَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قُلْ هَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ، فَفَعَلَ الرَّجُلُ مَا قَالَ، فَوَاللَّهِ مَا تَفَرَّقْنَا وَلا طَالَ بِنَا الْمَجْلِسُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْنَا الرَّجُلُ وَقَدْ أَبْصَرَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِهِ ضُرٌّ قَطُّ قَالَ الطَّبَرَانِيُّ فِي كُلٍّ مِنْ «مُعْجَمَيْهِ»: وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ لا يُصَحِّحُ حَدِيثًا مَعَ اتِّسَاعِ كِتَابِهِ الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ، مَا قَالَ عَنْ حَدِيثٍ أَوْرَدَهُ وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا: الْحَدِيثُ صَحِيحٌ، إِلَّا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ فِي الصَّغِيرِ وَصَحَّحَهُ.

فَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الأَعْمَى تَوَسَّلَ بِالنَّبِيِّ فِي غَيْرِ حَضْرَتِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِ عُثْمَانَ بنِ حُنَيْفٍ: «حَتَّى دَخَلَ عَلَيْنَا الرَّجُلُ»، وَفِيهِ أَنَّ التَّوَسُّلَ بِالنَّبِيِّ جَائِزٌ فِي حَالَةِ حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ فَبَطَلَ قَوْلُ ابْنِ تَيْمِيَةَ: لا يَجُوزُ التَّوَسُّلُ إِلَّا بِالْحَيِّ الْحَاضِرِ، وَكُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ.

الشَّرْحُ هَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ دِلالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى جَوَازِ التَّوَسُّلِ بِالنَّبِيِّ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ فِي حَضْرَتِهِ أَوْ فِي غَيْرِ حَضْرَتِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ تَيْمِيَةَ لَيْسَ التَّوَسُّلُ الْوَارِدُ فِي الْحَدِيثِ تَوَسُّلًا بِذَاتِ النَّبِيِّ بَلْ بِدُعَائِهِ فَهُوَ دَعْوَى بَاطِلَةٌ، لِأَنَّ التَّوَسُّلَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ التَّبَرُّكِ، الرَّسُولُ ذَاتُهُ مُبَارَكَةٌ وَءَاثَارُهُ أَيْ شَعْرُهُ وَقُلامَةُ ظُفْرِهِ وَالْمَاءُ الَّذِي تَوَضَّأَ بِهِ وَنُخَامَتُهُ وَرِيقُهُ مُبَارَكٌ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَتَبَرَّكُونَ بِذَلِكَ كَمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ فَكَأَنَّ قَوْلَ ابْنِ تَيْمِيَةَ هَذَا يُنَادِي بِأَنَّ الصَّحَابَةَ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ الْحَقِيقَةَ بَلْ كَانُوا جَاهِلِينَ وَمَا قَالَهُ مُخَالِفٌ لِلأُصُولِ، فَإِنَّ عُلَمَاءَ الأُصُولِ لا يُسَوِّغُونَ التَّأْوِيلَ إِلَّا لِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ قَاطِعٍ أَوْ سَمْعِيٍّ ثَابِتٍ، وَكَلامُ ابْنِ تَيْمِيَةَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَجِبُ تَقْدِيرُ مَحْذُوفٍ فَالْحَدِيثُ عِنْدَهُ يُقَدَّرُ فِيهِ مَحْذُوفٌ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ عَلَى مُوجَبِ دَعْوَاهُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِدُعَاءِ نَبِيِّنَا وَكَذَلِكَ يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَتَوَجَّهُ بِكَ إِلَى رَبِّي يَلْزَمُ مِنْهُ التَّقْدِيرُ إِنِّي أَتَوَجَّهُ بِدُعَائِكَ إِلَى رَبِّي، وَالأَصْلُ فِي النُّصُوصِ عَدَمُ التَّقْدِيرِ وَالتَّقْدِيرُ لا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلَّا لِدَلِيلٍ وَهَذَا الْمَعْرُوفُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الأُصُولِ فَابْنُ تَيْمِيَةَ حُبِّبَ إِلَيْهِ الشُّذُوذُ وَخَرْقُ الإِجْمَاعِ مِنْ شِدَّةِ إِعْجَابِهِ بِنَفْسِهِ. وَمِنْ فَرْطِ إِعْجَابِهِ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ ذُكِرَتْ مَسْئَلَةٌ نَحْوِيَّةٌ عِنْدَهُ فَقِيلَ لَهُ هَكَذَا قَالَ سِيبَوَيْهِ فَقَالَ سِيبَوَيْهِ يَكْذِبُ، وَمَنِ ابْنُ تَيْمِيَةَ فِي النَّحْوِ حَتَّى يُكَذِّبَ إِمَامَ النَّحْوِ لِأَنَّهُ خَالَفَ رَأْيَهُ، وَهَذَا خَفِيفٌ بِالنِّسْبَةِ لِتَخْطِئَةِ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ فِي سَبْعَ عَشْرَةَ مَسْئَلَةً، فَلِهَذَا انْحَرَفَ عَنْهُ أَبُو حَيَّانَ النَّحْوِيُّ بَعْدَ أَنْ كَانَ يُحِبُّهُ وَقَدِ امْتَدَحَهُ بِقَصِيدَةٍ ثُمَّ لَمَّا رَأَى مِنْهُ تَكْذِيبَ سِيبَوَيْهِ وَرَأَى كِتَابَهُ الَّذِي سَمَّاهُ كِتَابَ الْعَرْشِ الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ قَاعِدٌ عَلَى الْكُرْسِيِّ وَأَنَّهُ أَخْلَى مَوْضِعًا لِلرَّسُولِ لِيُقْعِدَهُ فِيهِ زَادَتْ كَرَاهِيَتُهُ لَهُ فَصَارَ يَلْعَنُهُ حَتَّى مَاتَ، ذَكَرَ ذَلِكَ الْحَافِظُ مُحَمَّدُ مُرْتَضَى الزَّبِيدِيُّ، وَأَبُو حَيَّانَ إِمَامٌ فِي الْقِرَاءَاتِ وَالنَّحْوِ وَالتَّفْسِيرِ وَلَهُ سَمَاعٌ مِنْ شُيُوخِ الْحَدِيثِ. وَقَدْ وَصَفَ الذَّهَبِيُّ ابْنَ تَيْمِيَةَ فِي رِسَالَتِهِ بَيَانُ زَغَلِ الْعِلْمِ وَالطَّلَبِ بِأَنَّهُ أَهْلَكَهُ فَرْطُ الْغَرَامِ فِي رِئَاسَةِ الْمَشْيَخَةِ وَالِازْدِرَاءُ بِالأَكَابِرِ وَمَا قَالَهُ الذَّهَبِيُّ صَحِيحٌ لِأَنَّ ابْنَ تَيْمِيَةَ انْتَقَصَ سَيِّدَنَا عَلِيًّا بِقَوْلِهِ إِنَّ حُرُوبَهُ مَا نَفَعَتِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ ضَرَّتْهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَبِقَوْلِهِ إِنَّ الْقِتَالَ مَعَهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلا مُسْتَحَبٍّ، وَابْنُ تَيْمِيَةَ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [سُورَةَ النِّسَاء/59] وَعَلِيٌّ دَاخِلٌ فِي هَذِهِ الآيَةِ وَقَالَ: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِىءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾ [سُورَةَ الْحُجُرَات/9] بَلْ عَلِيٌّ أَوَّلُ مَنِ امْتَثَلَ الأَمْرَ الَّذِي فِي هَذِهِ الآيَةِ فَقَاتَلَ مَنْ بَغَى عَلَيْهِ وَكَلِمَةُ قَاتِلُوا تُعْطِي أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ قَاتِلُوا الْبُغَاةَ مَعَ عَلِيٍّ. وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا مُصِيبٌ فِي حُرُوبِهِ الثَّلاثَةِ وَقْعَةِ الْجَمَلِ وَوَقْعَةِ صِفِّينَ وَوَقْعَةِ النَّهْرَوَانِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ: «إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ يُقَاتِلُ عَلَى تَأْوِيلِهِ كَمَا قَاتَلْتُ عَلَى تَنْزِيلِهِ»، فَقِيلَ: مَنْ هُوَ؟ فَقَالَ: «خَاصِفُ النَّعْلِ»، وَكَانَ عَلِيٌّ يَخْصِفُ نَعْلَهُ. فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ تَصْوِيبُ قِتَالِ عَلِيٍّ، وَهَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ ثَابِتٌ أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ، وَحَدِيثُ أَبِي يَعْلَى وَالْبَزَّارِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَهِدَ إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاكِثِينَ وَالْقَاسِطِينَ وَالْمَارِقِينَ اهـ. وَرِسَالَةُ الذَّهَبِيِّ «بَيَانُ زَغَلِ الْعِلْمِ وَالطَّلَبِ» صَحِيحَةُ النِّسْبَةِ إِلَيْهِ لِأَنَّ الْحَافِظَ السَّخَاوِيَّ نَسَبَهَا لِلذَّهَبِيِّ فِي كِتَابِهِ «الإِعْلانُ بِالتَّوْبِيخِ لِمَنْ ذَمَّ التَّارِيخَ» وَنَقَلَ فِيهِ بَعْضَ مَا مَرَّ ذِكْرُهُ مِنْ وَصْفِهِ لِابْنِ تَيْمِيَةَ بِأَنَّ فَرْطَ الْغَرَامِ فِي رِئَاسَةِ الْمَشْيَخَةِ وَالِازْدِرَاءَ بِالأَكَابِرِ أَهْلَكَهُ وَذَكَرَ أَنَّهُ اشْتَغَلَ بِالْفَلْسَفَةِ فَصَارَ مُظْلِمًا مَكْسُوفًا. وَالْمَفْتُونُونَ بِهِ لا يَذْكُرُونَ عَنِ الذَّهَبِيِّ فِي أَمْرِ ابْنِ تَيْمِيَةَ إِلَّا مَا وَصَفَهُ بِهِ فِي تَذْكِرَةِ الْحُفَّاظِ مِنْ قَوْلِهِ فِيهِ: مَا رَأَتْ عَيْنَايَ مِثْلَهُ وَكَأَنَّ السُّنَّةَ نُصْبَ عَيْنَيْهِ، فَلا الْتِفَاتَ إِلَى مَنْ يَنْفِي صِحَّتَهَا وَنِسْبَتَهَا إِلَى الذَّهَبِيِّ بِلا دَلِيلٍ بَلْ لِيُرْضِيَ أَتْبَاعَ ابْنِ تَيْمِيَةِ الْوَهَّابِيَّةَ لِأَجْلِ الْمَالِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَمَّا تَمَسُّكُ بَعْضِ الْوَهَّابِيَّةِ لِدَعْوَى ابْنِ تَيْمِيَةَ هَذِهِ فِي رِوَايَةِ حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ الَّذِي فِيهِ: اللَّهُمَّ شَفِّعْهُ فِيَّ وَشَفِّعْنِي فِي نَفْسِي»، فَلا يُفِيدُ أَنَّهُ لا يُتَبَرَّكُ بِذَاتِ النَّبِيِّ، بَلِ التَّبَرُّكُ بِذَاتِ النَّبِيِّ إِجْمَاعٌ لَمْ يُخَالِفْهُ إِلَّا ابْنُ تَيْمِيَةَ، وَالرَّسُولُ هُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ الْقَائِلُ:

وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ # ثِمَالَ الْيَتَامَى [أَيْ غِيَاثَهُمْ] عِصْمَةٌ لِلأَرَامِلِ 

أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَأَمَّا تَوَسُّلُ عُمَرَ بِالْعَبَّاسِ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ لِأَنَّ الرَّسُولَ قَدْ مَاتَ، بَلْ كَانَ لِأَجْلِ رِعَايَةِ حَقِّ قَرَابَتِهِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِدَلِيلِ قَوْلِ الْعَبَّاسِ حِينَ قَدَّمَهُ عُمَرُ: «اللَّهُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ تَوَجَّهُوا بِي إِلَيْكَ لِمَكَانِي مِنْ نَبِيِّكَ [أَيْ لِمَكَانَتِي عِنْدَهُ]»، فَتَبَيَّنَ بُطْلانُ رَأْيِ ابْنِ تَيْمِيَةَ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ مُنْكِرِي التَّوَسُّلِ. رَوَى هَذَا الأَثَرَ الزُّبَيْرُ بنُ بَكَّارٍ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ، وَيُسْتَأْنَسُ لَهُ أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرَى لِلْعَبَّاسِ مَا يَرَى الْوَلَدُ لِوَالِدِهِ، يُعَظِّمُهُ وَيُفَخِّمُهُ وَيَبَرُّ قَسَمَهُ، فَاقْتَدُوا أَيُّهَا النَّاسُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَمِّهِ الْعَبَّاسِ وَاتَّخِذُوهُ وَسِيلَةً إِلَى اللَّهِ فِيمَا نَزَلَ بِكُمْ»، فَهَذَا يُوضِحُ سَبَبَ تَوَسُّلِ عُمَرَ بِالْعَبَّاسِ.

الشَّرْحُ يُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ تَوَسُّلَ عُمَرَ بِالْعَبَّاسِ كَانَ لِرِعَايَةِ حَقِّ قَرَابَتِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَرْكُ عُمَرَ التَّوَسُّلَ بِالنَّبِيِّ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لَيْسَ فِيهِ دِلالَةٌ عَلَى مَنْعِ التَّوَسُّلِ بِغَيْرِ الْحَيِّ الْحَاضِرِ، فَقَدْ تَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْمُبَاحَاتِ فَهَلْ دَلَّ تَرْكُهُ لَهَا عَلَى حُرْمَتِهَا؟ وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِي كُتُبِ الأُصُولِ أَنَّ تَرْكَ الشَّىْءِ لا يَدُلُّ عَلَى مَنْعِهِ. وَقَدْ أَرَادَ سَيِّدُنَا عُمَرُ بِفِعْلِهِ ذَلِكَ أَنْ يُبَيِّنَ جَوَازَ التَّوَسُّلِ بِغَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاحِ مِمَّنْ تُرْجَى بَرَكَتُهُ، وَلِذَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي عَقِبَ هَذِهِ الْقِصَّةِ مَا نَصُّهُ: «يُسْتَفَادُ مِنْ قِصَّةِ الْعَبَّاسِ اسْتِحْبَابُ الِاسْتِشْفَاعِ بِأَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلاحِ وَأَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ» اهـ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَلا الْتِفَاتَ بَعْدَ هَذَا إِلَى دَعْوَى بَعْضِ هَؤُلاءِ الْمُشَوِّشِينَ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ فِي إِسْنَادِهِ أَبُو جَعْفَرٍ وَهُوَ رَجُلٌ مَجْهُولٌ، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمُوا بَلْ أَبُو جَعْفَرٍ هَذَا هُوَ أَبُو جَعْفَرٍ الْخِطْمِيُّ ثِقَةٌ، وَكَذَلِكَ دَعْوَى بَعْضِهِمْ وَهُوَ نَاصِرُ الدِّينِ الأَلْبَانِيُّ أَنَّ مُرَادَ الطَّبَرَانِيِّ بِقَوْلِهِ: «وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ» الْقَدْرُ الأَصْلِيُّ وَهُوَ مَا فَعَلَهُ الرَّجُلُ الأَعْمَى فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ فَقَطْ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ مَا فَعَلَهُ الرَّجُلُ أَيَّامَ عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ وَهَذَا مَرْدُودٌ، لِأَنَّ عُلَمَاءَ الْمُصْطَلَحِ قَالُوا: الْحَدِيثُ يُطْلَقُ عَلَى الْمَرْفُوعِ إِلَى النَّبِيِّ وَالْمَوْقُوفِ عَلَى الصَّحَابَةِ، أَيْ أَنَّ كَلامَ الرَّسُولِ يُسَمَّى حَدِيثًا وَقَوْلَ الصَّحَابِيِّ يُسَمَّى حَدِيثًا، وَلَيْسَ لَفْظُ الْحَدِيثِ مَقْصُورًا عَلَى كَلامِ النَّبِيِّ فَقَطْ فِي اصْطِلاحِهِمْ، وَهَذَا الْمُمَوِّهُ كَلامُهُ لا يُوَافِقُ الْمُقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْمُصْطَلَحِ فَلْيَنْظُرْ مَنْ شَاءَ فِي كِتَابِ تَدْرِيبِ الرَّاوِي وَالإِفْصَاحِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ الْمُصْطَلَحِ، فَإِنَّ الأَلْبَانِيَّ لَمْ يَجُرَّهُ إِلَى هَذِهِ الدَّعْوَى إِلَّا شِدَّةُ تَعَصُّبِهِ لِهَوَاهُ وَعَدَمُ مُبَالاتِهِ بِمُخَالَفَةِ الْعُلَمَاءِ كَسَلَفِهِ ابْنِ تَيْمِيَةَ.

الشَّرْحُ وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ، مِنْهُمُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلانِيُّ كَمَا نَقَلَ عَنْهُ السُّيُوطِيُّ فِي تَدْرِيبِ الرَّاوِي، وَابْنُ الصَّلاحِ فِي مُقَدِّمَتِهِ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ» فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى مَنْعِ التَّوَسُّلِ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ لِأَنَّ الْحَدِيثَ مَعْنَاهُ أَنَّ الأَوْلَى بِأَنْ يُسْأَلَ وَيُسْتَعَانَ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ لا تَسْأَلْ غَيْرَ اللَّهِ وَلا تَسْتَعِنْ بِغَيْرِ اللَّهِ. نَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا وَلا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ»، فَكَمَا لا يُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ عَدَمُ جَوَازِ صُحْبَةِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ وَإِطْعَامِ غَيْرِ التَّقِيِّ، وَإِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الأَوْلَى فِي الصُّحْبَةِ الْمُؤْمِنُ وَأَنَّ الأَوْلَى بِالإِطْعَامِ هُوَ التَّقِيُّ، كَذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ لا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا الأَوْلَوِيَّةُ وَأَمَّا التَّحْرِيمُ الَّذِي يَدَّعُونَهُ فَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.

الشَّرْحُ الْمُتَوَسِّلُ الْقَائِلُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِنَبِيِّكَ أَوْ بِأَبِي بَكْرٍ أَوْ بِأُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ سَأَلَ اللَّهَ لَمْ يَسْأَلْ غَيْرَهُ فَأَيْنَ الْحَدِيثُ وَأَيْنَ دَعْوَاهُمْ، ثُمَّ إِنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ فِيهِ أَدَاةُ نَهْيٍ لَمْ يَقُلِ الرَّسُولُ لِابْنِ عَبَّاسٍ لا تَسْأَلْ غَيْرَ اللَّهِ وَلا تَسْتَعِنْ بِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَوْ وَرَدَ بِلَفْظِ النَّهْيِ فَلَيْسَ كُلُّ أَدَاةِ نَهْيٍ لِلتَّحْرِيمِ كَحَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ: «لا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا وَلا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ»، فَهَذَا الْحَدِيثُ مَعَ وُجُودِ أَدَاةِ النَّهْيِ فِيهِ لَيْسَ دَلِيلًا عَلَى تَحْرِيمِ أَنْ يُطْعِمَ الرَّجُلُ غَيْرَ تَقِيٍّ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّ الأَوْلَى أَنْ تُطْعِمَ طَعَامَكَ التَّقِيَّ. فَكَيْفَ تَجَرَّأَتِ الْوَهَّابِيَّةُ عَلَى الِاسْتِدْلالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِمَنْعِ التَّوَسُّلِ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ، مَا أَجْرَأَهُمْ عَلَى التَّحْرِيمِ وَالتَّكْفِيرِ بِغَيْرِ سَبَبٍ، وَمَنْ عَرَفَ حَقِيقَتَهُمْ لا يَجْعَلُ لِكَلامِهِمْ وَزْنًا، كَيْفَ يُجْعَلُ لِهَذِهِ الْفِرْقَةِ وَزْنٌ وَهُمْ يُكَفِّرُونَ الْمُؤْمِنَ الَّذِي يَأْتِي لِيُسَلِّمَ عَلَى الرَّسُولِ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَدْعُو اللَّهَ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْقَبْرِ الشَّرِيفِ، فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ هَذَا شِرْكًا وَلا سِيَّمَا إِذَا وَضَعَ يَدَهُ عَلَى الشَّبِيكَةِ يَجْعَلُونَ هَذَا الشِّرْكَ الأَكْبَرَ الَّذِي يَسْتَوْجِبُ فَاعِلُهُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ تَصَرُّفِهِمْ مَعَ الزَّائِرِينَ.

وَهَذِهِ الْفِرْقَةُ الَّذِينَ مُعْتَقَدُهُمْ هَذَا مَاذَا يَقُولُونَ فِيمَا ثَبَتَ عَنْ أَبِي أَيُّوبٍ الأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى قَبْرِ الرَّسُولِ فَوَضَعَ وَجْهَهُ عَلَيْهِ لِلتَّبَرُّكِ وَهَذَا لا شَكَّ عِنْدَهُمْ مِنْ أَكْبَرِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ، وَحَاشَا لِلَّهِ أَنْ يَكُونَ أَبُو أَيُّوبٍ أَشْرَكَ بِاللَّهِ لِذَلِكَ وَلا يَخْطُرُ هَذَا بِبَالِ مُسْلِمٍ، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ السَّلَفِ بَلْ وَلا مِنَ الْخَلَفِ، فَإِذَا كَانَ وَضْعُ الْوَجْهِ عَلَى قَبْرِ الرَّسُولِ لِلتَّبَرُّكِ لا يُعَدُّ شِرْكًا فَكَيْفَ وَضْعُ الْكَفِّ عَلَى الشَّبِيكَةِ الَّتِي هِيَ بَيْنَ الْقَبْرِ وَبَيْنَ الزَّائِرِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ اللَّهُمَّ إِلَيْكَ الْمُشْتَكَى، فَمَعْنَى الْحَدِيثِ الأَوْلَى بِأَنْ تَسْأَلَهُ وَتَسْتَعِينَ بِهِ اللَّهُ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلا فَرْقَ بَيْنَ التَّوَسُّلِ وَالِاسْتِغَاثَةِ، فَالتَّوَسُّلُ يُسَمَّى اسْتِغَاثَةً كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَبْلُغَ الْعَرَقُ نِصْفَ الأُذُنِ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ ثُمَّ مُوسَى ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» الْحَدِيثَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ لِحَدِيثِ الشَّفَاعَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَفِي رِوَايَةِ أَنَسٍ رُوِيَ بِلَفْظِ الِاسْتِشْفَاعِ وَكِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ فِي الصَّحِيحِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الِاسْتِشْفَاعَ وَالِاسْتِغَاثَةَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ فَسَمَّى الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الطَّلَبَ مِنْ ءَادَمَ أَنْ يَشْفَعَ لَهُمْ إِلَى رَبِّهِمُ اسْتِغَاثَةً.

الشَّرْحُ هَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّوَسُّلَ يَأْتِي بِمَعْنَى الِاسْتِغَاثَةِ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لِهَذَا الْحَدِيثِ: «يَا ءَادَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّنَا» وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ جَعَلَ التَّوَسُّلَ بِغَيْرِ اللَّهِ شِرْكًا. الِاسْتِشْفَاعُ وَالتَّوَسُّلُ وَالِاسْتِغَاثَةُ وَالتَّوَجُّهُ وَالتَّجَوُّهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ فِي شِفَاءِ السَّقَامِ: الِاسْتِشْفَاعُ وَالتَّوَسُّلُ وَالتَّوَجُّهُ وَالتَّجَوُّهُ وَالِاسْتِغَاثَةُ وَالِاسْتِعَانَةُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَالتَّقِيُّ السُّبْكِيُّ مُحَدِّثٌ حَافِظٌ فَقِيهٌ لُغَوِيٌّ كَمَا وَصَفَهُ بِذَلِكَ السُّيُوطِيُّ فِي الذَّيْلِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: ثُمَّ الرَّسُولُ سَمَّى الْمَطَرَ مُغِيثًا، فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ بِالإِسْنَادِ الصَّحِيحِ أَنَّ الرَّسُولَ قَالَ: «اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا مَرِيعًا نَافِعًا غَيْرَ ضَارٍّ عَاجِلًا غَيْرَ ءَاجِلٍ»، فَالرَّسُولُ سَمَّى الْمَطَرَ مُغِيثًا لِأَنَّهُ يُنْقِذُ مِنَ الشِّدَّةِ بِإِذْنِ اللَّهِ، كَذَلِكَ النَّبِيُّ وَالْوَلِيُّ يُنْقِذَانِ مِنَ الشِّدَّةِ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى.

الشَّرْحُ بَقِيَ لَنَا أَنْ نَذْكُرَ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُؤَلِّفُ الدَّلِيلَ عَلَى جَوَازِ طَلَبِ مَا لَمْ تَجْرِ بِهِ الْعَادَةُ بَيْنَ النَّاسِ فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ أَنَّ رَبِيعَةَ بنَ كَعْبٍ الأَسْلَمِيَّ الَّذِي خَدَمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ بَابِ حُبِّ الْمُكَافَأَةِ: «سَلْنِي» فَطَلَبَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ رَفِيقَهُ فِي الْجَنَّةِ فَقَالَ لَهُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ بَلْ قَالَ لَهُ مِنْ بَابِ التَّوَاضُعِ: «أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ»، فَقَالَ الصَّحَابِيُّ: هُوَ ذَاكَ، فَقَالَ لَهُ: «فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ»، وَكَذَلِكَ سَيِّدُنَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ حِينَ طَلَبَتْ مِنْهُ عَجُوزٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ تَكُونَ مَعَهُ فِي الْجَنَّةِ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا ذَلِكَ، رَوَى ذَلِكَ عَنْهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرُهُ. فَمِنْ أَيْنَ لِابْنِ تَيْمِيَةَ وَأَتْبَاعِهِ أَنْ يَبْنُوا قَاعِدَةً وَهِيَ قَوْلُهُمْ «طَلَبُ مَا لَمْ تَجْرِ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ شِرْكٌ».



التَّبَرُّكُ بِآثَارِ النَّبِيِّ

اعْلَمْ أَنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَانُوا يَتَبَرَّكُونَ بِآثَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ وَلا زَالَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُمْ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا عَلَى ذَلِكَ، وَجَوَازُ هَذَا الأَمْرِ يُعْرَفُ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَمَ شَعَرَهُ حِينَ حَلَقَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَأَظْفَارَهُ.

أَمَّا اقْتِسَامُ الشَّعَرِ فَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، فَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا رَمَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَمْرَةَ وَنَحَرَ نُسُكَهُ وَحَلَقَ نَاوَلَ الْحَالِقَ شِقَّهُ الأَيْمَنَ فَحَلَقَ ثُمَّ دَعَا أَبَا طَلْحَةَ الأَنْصَارِيَّ فَأَعْطَاهُ ثُمَّ نَاوَلَهُ الشِّقَّ الأَيْسَرَ فَقَالَ: احْلِقْ، فَحَلَقَ فَأَعْطَاهُ أَبَا طَلْحَةَ فَقَالَ: اقْسِمْهُ بَيْنَ النَّاسِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا: فَبَدَأَ بِالشِّقِّ الأَيْمَنِ فَوَزَّعَهُ الشَّعْرَةَ وَالشَّعْرَتَيْنِ بَيْنَ النَّاسِ ثُمَّ قَالَ بِالأَيْسَرِ فَصَنَعَ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: هَهُنَا أَبُو طَلْحَةَ فَدَفَعَهُ إِلَى أَبِي طَلْحَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِمُسْلِمٍ أَيْضًا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ قَالَ لِلْحَلَّاقِ هَا، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْجَانِبِ الأَيْمَنِ فَقَسَمَ شَعَرَهُ بَيْنَ مَنْ يَلِيهِ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى الْحَلَّاقِ إِلَى الْجَانِبِ الأَيْسَرِ فَحَلَقَهُ فَأَعْطَاهُ أُمَّ سُلَيْمٍ، فَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ وَزَّعَ بِنَفْسِهِ بَعْضًا بَيْنَ النَّاسِ الَّذِينَ يَلُونَهُ وَأَعْطَى بَعْضًا لِأَبِي طَلْحَةَ لِيُوَزِّعَهُ فِي سَائِرِهِمْ وَأَعْطَى بَعْضًا أُمَّ سُلَيْمٍ فَفِيهِ التَّبَرُّكُ بِآثَارِ الرَّسُولِ، فَقَدْ قَسَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَعَرَهُ لِيَتَبَرَّكُوا بِهِ وَلِيَسْتَشْفِعُوا إِلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ مِنْهُ وَيَتَقَرَّبُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ، قَسَمَ بَيْنَهُمْ لِيَكُونَ بَرَكَةً بَاقِيَةً بَيْنَهُمْ وَتَذْكِرَةً لَهُمْ. ثُمَّ تَبِعَ الصَّحَابَةَ فِي خُطَّتِهِمْ فِي التَّبَرُّكِ بِآثَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَسْعَدَهُ اللَّهُ وَتَوَارَدَ ذَلِكَ الْخَلَفُ عَنِ السَّلَفِ.

الشَّرْحُ التَّبَرُّكُ مَعْنَاهُ طَلَبُ زِيَادَةِ الْخَيْرِ، وَقَدْ قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَعْرَهُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ لِيَتَبَرَّكُوا بِهِ لا لِيَأْكُلُوهُ لِأَنَّ الشَّعْرَ لا يُؤْكَلُ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ الأَكْلِ، فَأَرْشَدَ الرَّسُولُ أُمَّتَهُ إِلَى التَّبَرُّكِ بِآثَارِهِ كُلِّهَا حَتَّى بُصَاقِهِ، وَكَانَ أَحَدُهُمْ أَخَذَ شَعْرَةً وَالآخَرُ أَخَذَ شَعْرَتَيْنِ وَمَا قَسَمَهُ إِلَّا لِيَتَبَرَّكُوا بِهِ فَكَانُوا يَتَبَرَّكُونَ بِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ، حَتَّى إِنَّهُمْ كَانُوا يَغْمِسُونَهُ فِي الْمَاءِ فَيَسْقُونَ هَذَا الْمَاءَ بَعْضَ الْمَرْضَى تَبَرُّكًا بِأَثَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ. وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ بَصَقَ فِي فِي الطِّفْلِ الْمَعْتُوهِ وَكَانَ يَعْتَرِيهِ الشَّيْطَانُ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ وَقَالَ: «اخْرُجْ عَدُوَّ اللَّهِ أَنَا رَسُولُ اللَّهِ »رَوَاهُ الْحَاكِمُ، فَخَرَجَ مِنْهُ الْجِنِّيُّ فَتَعَافَى.

فَتَقْسِيمُ النَّبِيِّ لِشَعْرِهِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ كَانَ لِيَتَبَرَّكُوا بِهِ وَلِيَسْتَشْفِعُوا إِلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ مِنْهُ وَيَتَقَرَّبُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ، قَسَمَ بَيْنَهُمْ لِيَكُونَ بَرَكَةً بَاقِيَةً بَيْنَهُمْ وَتَذْكِرَةً لَهُمْ ثُمَّ تَبِعَ الصَّحَابَةَ فِي خُطَّتِهِمْ [الْخُطَّةُ بِالضَّمِّ الْخَصْلَةُ، كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ] فِي التَّبَرُّكِ بِآثَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ مَنْ أَسْعَدَهُ اللَّهُ، وَتَوَارَدَ ذَلِكَ الْخَلَفُ عَنِ السَّلَفِ وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ. وَقَدْ رَوَى الذَّهَبِيُّ فِي كِتَابِ السِّيَرِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ الإِمَامِ أَحْمَدَ قَالَ: «رَأَيْتُ أَبِي يَأْخُذُ شَعْرَةً مِنْ شَعَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ فَيَضَعُهَا عَلَى فِيهِ يُقَبِّلُهَا، وَأَحْسَبُ أَنِّي رَأَيْتُهُ يَضَعُهَا عَلَى عَيْنِهِ، وَيَغْمِسُهَا فِي الْمَاءِ وَيَشْرَبُهُ يَسْتَشْفِي بِهِ، وَرَأَيْتُهُ أَخَذَ قَصْعَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ فَغَمَسَهَا فِي جُبِّ الْمَاءِ ثُمَّ شَرِبَ فِيهَا، وَرَأَيْتُهُ يَشْرَبُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ يَسْتَشْفِي بِهِ، وَيَمْسَحُ بِهِ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ».

وَرَوَى الْحَافِظُ الزَّبِيدِيُّ فِي شَرْحِ الإِحْيَاءِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: «حَضَرْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ أَحْدَثْتُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ حَدَثًا وَلا أَدْرِي مَا حَالِي عِنْدَهُ [لا تَعْنِي بِهِ الْخَوْفَ مِنْ دُخُولِ النَّارِ إِنَّمَا تَعْنِي بِهِ مَا دُونَ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ خِلافُ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَإِنَّ صِفَاتِ الْكَمَالِ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ] فَلا تَدْفِنُونِي مَعَهُ، فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُجَاوِرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ وَلا أَدْرِي مَا حَالِي عِنْدَهُ، ثُمَّ دَعَتْ بِخِرْقَةٍ مِنْ قَمِيصِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ فَقَالَتْ: ضَعُوا هَذِهِ عَلَى صَدْرِي وَادْفِنُوهَا مَعِي لَعَلِّي أَنْجُو بِهَا مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» [يَجُوزُ أَنْ تَتَخَيَّلَ أَنْ يُصِيبَهَا شَىْءٌ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ لَكِنْ لا تَتَخَيَّلُ أَنْ يُصِيبَهَا عَذَابُ الآخِرَةِ] اهـ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَمَّا اقْتِسَامُ الأَظْفَارِ فَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ قَلَّمَ أَظْفَارَهُ وَقَسَمَهَا بَيْنَ النَّاسِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِيَأْكُلَهَا النَّاسُ بَلْ لِيَتَبَرَّكُوا بِهَا.

أَمَّا جُبَّتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ عَنْ مَوْلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: «أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا جُبَّةً طَيَالِسَةً كِسْرَوَانِيَّةً لَهَا لَبِنَةُ دِيبَاجٍ وَفَرْجَاهَا مَكْفُوفَانِ، وَقَالَتْ: هَذِهِ جُبَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ، فَلَمَّا قُبِضَتْ قَبَضْتُهَا وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ يَلْبَسُهَا فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا لِلْمَرْضَى نَسْتَشْفِي بِهَا»، وَفِي رِوَايَةٍ: «نَغْسِلُهَا لِلْمَرِيضِ مِنَّا».

وَعَنْ حَنْظَلَةَ بنِ حَذْيَمَ قَالَ: «وفَدْتُ مَعَ جَدِّي حَذْيَمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي بَنِينَ ذَوِي لِحًى وَغَيْرَهُمْ وَهَذَا أَصْغَرُهُمْ فَأَدْنَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ وَمَسَحَ رَأْسِي، وَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ، قَالَ الذَّيَّالُ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ حَنْظَلَةَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْوَارِمِ وَجْهُهُ أَوِ الشَّاةِ الْوَارِمِ ضَرْعُهَا، فَيَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ عَلَى مَوْضِعِ كَفِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ فَيَمْسَحُهُ فَيَذْهَبُ الْوَرَمُ»، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوْسَطِ وَالْكَبِيرِ بِنَحْوِهِ، وَأَحْمَدُ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ وَرِجَالُ أَحْمَدَ ثِقَاتٌ.

وَعَنْ ثَابِتٍ قَالَ: «كُنْتُ إِذَا أَتَيْتُ أَنَسًا يُخْبَرُ بِمَكَانِي فَأَدْخُلُ عَلَيْهِ فَآخُذُ بِيَدَيْهِ فَأُقَبِّلُهُمَا وَأَقُولُ: بِأَبِي هَاتَانِ الْيَدَانِ اللَّتَانِ مَسَّتَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ وَأُقَبِّلُ عَيْنَيْهِ وَأَقُولُ بِأَبِي هَاتَانِ الْعَيْنَانِ اللَّتَانِ رَأَتَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ». رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ غَيْرُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أَبِي بَكْرٍ الْمَقْدِمِيِّ وَهُوَ ثِقَةٌ.

وَعَنْ دَاوُدَ بنِ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: أَقْبَلَ مَرْوَانُ [يَعْنِي مَرْوَانَ بنَ الْحَكَمِ] يَوْمًا [وَكَانَ حَاكِمًا عَلَى الْمَدِينَةِ مِنْ قِبَلِ مُعَاوِيَةَ، وَلَمْ يَرَ رَسُولَ اللَّهِ كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ] فَوَجَدَ رَجُلًا وَاضِعًا وَجْهَهُ عَلَى الْقَبْرِ فَقَالَ: أَتَدْرِي مَا تَصْنَعُ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ أَبُو أَيُّوبٍ [وَاسْمُهُ خَالِدُ بنُ زَيْدٍ] فَقَالَ: نَعَم جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ وَلَمْ ءَاتِ الْحَجَرَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ يَقُولُ: لا تَبْكُوا عَلَى الدِّينِ إِذَا وَلِيَهُ أَهْلُهُ وَلَكِنِ ابْكُوا عَلَيْهِ إِذَا وَلِيَهُ غَيْرُ أَهْلِهِ [مَعْنَاهُ أَنْتَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ يَا مَرْوَانُ، لَسْتَ أَهْلًا لِتَوَلِّي الأَمْرِ] رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالأَوْسَطِ.

وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلائِلِ النُّبُوَّةِ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَغَيْرُهُمَا بِالإِسْنَادِ أَنَّ خَالِدَ بنَ الْوَلِيدِ فَقَدَ قَلَنْسُوَةً لَهُ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ فَقَالَ: اطْلُبُوهَا، فَلَمْ يَجِدُوهَا، ثُمَّ طَلَبُوهَا فَوَجَدُوهَا، فَقَالَ خَالِدٌ: اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ فَحَلَقَ رَأْسَهُ فَابْتَدَرَ النَّاسُ جَوَانِبَ شَعَرِهِ فَسَبَقْتُهُمْ إِلَى نَاصِيَتِهِ فَجَعَلْتُهَا فِي هَذِهِ الْقَلَنْسُوَةِ فَلَمْ أَشْهَدْ قِتَالًا وَهِيَ مَعِي إِلَّا رُزِقْتُ النَّصْرَ. وَهَذِهِ الْقِصَّةُ صَحِيحَةٌ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الشَّيْخُ حَبِيبُ الرَّحْمٰنِ الأَعْظَمِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ فَقَالَ «قَالَ الْبُوصِيرِيُّ رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَقَالَ الْهَيْثَمِيُّ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو يَعْلَى بِنَحْوِهِ وَرِجَالُهُمَا رِجَالُ الصَّحِيحِ» اهـ.

فَلا الْتِفَاتَ بَعْدَ هَذَا إِلَى دَعْوَى مُنْكِرِي التَّوَسُّلِ وَالتَّبَرُّكِ بِآثَارِهِ الشَّرِيفَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ.

الشَّرْحُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّبَرُّكِ بِآثَارِ النَّبِيِّ وَبِقَبْرِهِ كَذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ وَضْعُ الْوَجْهِ عَلَى الْقَبْرِ مِنْ أَبِي أَيُّوبٍ لَمْ يَسْتَنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَاذَا يَقُولُ أَتْبَاعُ ابْنِ تَيْمِيَةَ الَّذِينَ يَعْتَبِرُونَ قَصْدَ الْقَبْرِ لِلتَّبَرُّكِ شِرْكًا؟ هَلْ يُكَفِّرُونَ أَبَا أَيُّوبٍ أَمْ مَاذا يَفْعَلُونَ؟ فَتَكْفِيرُ الْوَهَّابِيَّةِ لِمَنْ يَقْصِدُ قُبُورَ الصَّالِحِينَ لِلتَّبَرُّكِ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ يَنْعَطِفُ عَلَى مَنْ قَبْلَ هَذَا الْعَصْرِ إِلَى الصَّحَابَةِ فَيَكُونُونَ كَفَّرُوا السَّلَفَ وَالْخَلَفَ. ثُمَّ مَاذَا يَفْعَلُ هَؤُلاءِ بِنَصِّ الإِمَامِ أَحْمَدَ الَّذِي نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ الْعِلَلِ وَمَعْرِفَةِ الرِّجَالِ قَالَ: سَأَلْتُهُ - يَعْنِي سَأَلَ أَبَاهُ الإِمَامَ أَحْمَدَ - عَنِ الرَّجُلِ يَمَسُّ مِنْبَرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَتَبَرَّكُ بِمَسِّهِ وَيُقَبِّلُهُ وَيَفْعَلُ بِالْقَبْرِ مِثْلَ ذَلِكَ أَوْ نَحْوَ هَذَا، يُرِيدُ بِذَلِكَ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ فَقَالَ: «لا بَأْسَ بِذَلِكَ» اهـ. وَهَذِهِ النُّسْخَةُ نُسْخَةٌ مُعْتَمَدَةٌ طُبِعَتْ فِي اسْطَنْبُول عَلَى نُسْخَةٍ خَطِّيَّةٍ عَلَيْهَا خَطُّ أَبِي عَلِيٍّ الصَّوَّافِ وَقُوبِلَتْ عَلَى نُسْخَةِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ. وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ فِي كِتَابِهِ اقْتِضَاءِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ [انْظُرِ الْكِتَابَ (ص/367)] فَقَدْ رَخَّصَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ فِي التَّمَسُّحِ بِالْمِنْبَرِ وَالرُّمَّانَةِ الَّتِي هِيَ مَوْضِعُ مَقْعَدِ النَّبِيِّ وَيَدِهِ اهـ.

وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ الْحَنْبَلِيُّ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ رَدًّا عَلَى ابْنِ تَيْمِيَةَ الَّذِي افْتَرَى عَلَى السَّلَفِ وَالأَئِمَّةِ فِي دَعْوَى الإِجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيمِ قَصْدِ قُبُورِ الأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ رَجَاءَ قَبُولِ الدُّعَاءِ عِنْدَهُمْ فَقَالَ - أَيِ ابْنُ تَيْمِيَةَ -: اتَّفَقَ السَّلَفُ وَالأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَإِنَّهُ لا يَتَمَسَّحُ بِالْقَبْرِ وَلا يُقَبِّلُهُ مَا نَصُّهُ: «بَلْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: يُسْتَحَبُّ تَقْبِيلُ حُجْرَةِ النَّبِيِّ »اهـ.

وَذَكَرَ مَنْصُورٌ الْبَهُوتِيُّ الْحَنْبَلِيُّ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ أَنَّ الإِمَامَ أَحْمَدَ قَالَ لِلْمَرْوَزِيِّ يَتَوَسَّلُ يَعْنِي الْمُسْتَسْقِي بِالنَّبِيِّ فِي دُعَائِهِ، وَنَصُّ عِبَارَةِ كَشَّافِ الْقِنَاعِ قَالَ أَحْمَدُ فِي مَنْسَكِهِ الَّذِي كَتَبَهُ لِلْمَرْوَزِيِّ إِنَّهُ يَتَوَسَّلُ بِالنَّبِيِّ فِي دُعَائِهِ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْمُسْتَوْعَبِ وَغَيْرِهِ يَعْنِي فِي الِاسْتِسْقَاءِ.

وَقَالَ السُّمْهُودِيُّ فِي وَفَاءِ الْوَفَا مَا نَصُّهُ: «لَمَّا قَدِمَ بِلالٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الشَّامِ لِزِيَارَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى الْقَبْرَ فَجَعَلَ يَبْكِي عِنْدَهُ وَيُمَرِّغُ وَجْهَهُ عَلَيْهِ»، وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ كَمَا سَبَقَ. وَفِي تُحْفَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «لَمَّا رُمِسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا فَوَقَفَتْ عَلَى قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاخَذَتْ قَبْضَةً مِنْ تُرَابِ الْقَبْرِ وَوَضَعَتْ عَلَى عَيْنِهَا وَبَكَتْ، وَأَنْشَأَتْ تَقُولُ:

مَاذَا عَلَى مَنْ شَمَّ تُرْبَةَ أَحْمَدٍ أَنْ لا يَشَمَّ مَدَى الزَّمَانِ غَوَالِيَا

صُبَّتْ عَلَيَّ مَصَائِبٌ لَوْ أَنَّهَا صُبَّتْ عَلَى الأَيَّامِ عُدْنَ لَيَالِيَا

ثُمَّ أَحَدُ الْحَنَابِلَةِ يُقَالُ لَهُ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ بنُ سَعِيدٍ كَانَتْ خَرَجَتْ لَهُ دُمَّلَةٌ تَدَاوَى مِنْهَا فَأَعْيَاهُ عِلاجُهَا مَا كَانَ يَتَعَافَى، فَذَهَبَ إِلَى قَبْرِ الإِمَامِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ مَسَحَهَا فَتَعَافَى.

فَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ ابْنَ تَيْمِيَةَ وَأَتْبَاعَهُ شَاذُّونَ عَنِ الأُمَّةِ سَلَفِهَا وَخَلَفِهَا، وَتَسْمِيَةُ الْوَهَّابِيَّةِ أَنْفُسَهُمْ سَلَفِيَّةً كَذِبٌ ظَاهِرٌ فَلا يَجُوزُ تَسْمِيَتُهُمْ بِهَذَا الِاسْمِ الَّذِي هُمْ سَمَّوْا أَنْفُسَهُمْ بِهِ لِيُوهِمُوا النَّاسَ أَنَّهُمْ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ، إِنَّمَا يُسَمَّوْنَ وَهَّابِيَّةً وَهَذَا الِاسْمُ هُوَ الِاسْمُ الَّذِي سَمَّاهُمْ بِهِ الْمُسْلِمُونَ مُنْذُ أَوَّلِ مَا ظَهَرُوا إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَهَذَا الَّذِي يُنْسَبُونَ إِلَيْهِ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَلا مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَلا مِنَ النَّحْوِيِّينَ لِذَلِكَ لَمْ يَعُدَّهُ مَنْ أَلَّفَ فِي طَبَقَاتِ الْحَنَابِلَةِ مِنْ فُقَهَائِهِمْ، إِنَّمَا مَدَحَهُ مَنْ كَانَ مِنْ أَتْبَاعِهِ فَلا عِبْرَةَ بِذَلِكَ، وَأَمَّا عُلَمَاءُ عَصْرِهِ وَمِنْهُمْ أَخُوهُ الشَّيْخُ سُلَيْمَانُ بنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، وَعَالِمُ الْيَمَنِ مُحَمَّدُ بنُ الأَمِيرِ الصَّنْعَانِيُّ فَقَدْ ذَمَّاهُ وَغَيْرُهُمَا، وَأَخُوهُ الشَّيْخُ سُلَيْمَانُ أَلَّفَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ تَأْلِيفًا سَمَّاهُ: «فَصْلُ الْخِطَابِ فِي الرَّدِّ عَلَى مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ»، وَأَمَّا مُحَمَّدُ بنُ الأَمِيرِ الصَّنْعَانِيُّ كَانَ بَلَغَهُ فِي بَدْءِ الأَمْرِ عَنِ ابْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ أَنَّهُ رَجُلٌ يُؤَيِّدُ السُّنَّةَ وَيَقْمَعُ الْبِدْعَةَ فَمَدَحَهُ بِأَبْيَاتٍ مِنْهَا هَذَا الْبَيْتُ:

سَلامٌ عَلَى نَجْدٍ وَمَنْ حَلَّ فِي نَجْدِ وَإِنْ كَانَ تَسْلِيمِي عَلَى الْبُعْدِ لا يُجْدِي

ثُمَّ جَاءَهُ الْخَبَرُ الْيَقِينُ بِأَنَّهُ عَكْسُ مَا بَلَغَهُ عَنْهُ فَنَقَضَ تِلْكَ الْقَصِيدَةَ بِقَصِيدَةٍ أُخْرَى أَوَّلُهَا:

رَجَعْتُ عَنِ الْقَوْلِ الَّذِي قُلْتُ فِي النَّجْدِي فَقَدْ صَحَّ لِي عَنْهُ خِلافُ الَّذِي عِنْدِي

وَالْوَهَّابِيَّةُ الْيَوْمَ يَذْكُرُونَ الْمَدْحَ الَّذِي مَدَحَهُ الأَمِيرُ الصَّنْعَانِيُّ وَلا يَذْكُرُونَ النَّقْضَ الَّذِي نَقَضَ بِهِ مَدْحَهُ الأَوَّلَ مِنْ شِدَّةِ تَعَصُّبِهِمْ لِزَعِيمِهِمْ.



الِاجْتِهَادُ وَالتَّقْلِيدُ

الِاجْتِهَادُ هُوَ اسْتِخْرَاجُ الأَحْكَامِ الَّتِي لَمْ يَرِدْ فِيهَا نَصٌّ صَرِيحٌ لا يَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدًا. فَالْمُجْتَهِدُ مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ حَافِظًا لِآيَاتِ الأَحْكَامِ وَأَحَادِيثِ الأَحْكَامِ وَمَعْرِفَةِ أَسَانِيدِهَا وَمَعْرِفَةِ أَحْوَالِ رِجَالِ الإِسْنَادِ.

الشَّرْحُ الْمُجْتَهِدُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْرِفَ أَحْوَالَ الرُّوَاةِ قُوَّةً وَضَعْفًا فَيُقَدِّمُ عِنْدَ التَّعَارُضِ الْخَاصَّ عَلَى الْعَامِّ وَالْمُقَيَّدَ عَلَى الْمُطْلَقِ وَالنَّصَّ عَلَى الظَّاهِرِ وَالْمُحْكَمَ عَلَى الْمُتَشَابِهِ وَالنَّاسِخَ وَالْمُتَّصِلَ وَالْقَوِيَّ عَلَى مُقَابِلِهِ. وَالِاجْتِهَادُ هُوَ اسْتِخْرَاجُ الأَحْكَامِ الَّتِي لَمْ يَرِدْ فِيهَا نَصٌّ صَرِيحٌ لا يَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدًا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِيهِ نَصٌّ صَرِيحٌ لا يَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا فَلا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ وَهُوَ أَبُو بَكْرِ بنُ الْمُنْذِرِ: «إِذَا جَاءَ الْخَبَرُ ارْتَفَعَ النَّظَرُ» يَعْنِي بِالْخَبَرِ النَّصَّ الْقُرْءَانِيَّ وَالنَّصَّ الْحَدِيثِيَّ. وَالْمُجْتَهِدُ يَكُونُ حَافِظًا لِآيَاتِ الأَحْكَامِ وَهِيَ خَمْسُمِائَةٍ وَأَحَادِيثِ الأَحْكَامِ وَهِيَ خَمْسُمِائَةٍ، وَهِيَ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ، لَيْسَ الَّتِي هِيَ قَصَصٌ وَأَخْبَارٌ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمَعْرِفَةِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ.

الشَّرْحُ النَّسْخُ مَعْنَاهُ الإِزَالَةُ، وَحَدُّهُ: هُوَ الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى رَفْعِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى وَجْهٍ لَوْلاهُ لَكَانَ ثَابِتًا مَعَ تَرَاخِيهِ عَنْهُ، وَيُقَالُ: رَفْعُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ سَابِقٍ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ لاحِقٍ.

وَيَجُوزُ نَسْخُ الرَّسْمِ وَبَقَاءُ الْحُكْمِ، أَيْ يَجُوزُ نَسْخُ رَسْمِ الآيَةِ فِي الْمُصْحَفِ وَتِلاوَتِهَا عَلَى أَنَّهَا قُرْءَانٌ مَعَ بَقَاءِ حُكْمِهَا وَالتَّكْلِيفِ بِهِ نَحْوُ ءَايَةِ الرَّجْمِ وَهِيَ: «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ».

وَيَجُوزُ نَسْخُ الْحُكْمِ وَبَقَاءُ الرَّسْمِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/240]. نُسِخَتْ بِالآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَهِيَ: ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/234].

وَيَجُوزُ النَّسْخُ إِلَى بَدَلٍ كَمَا فِي نَسْخِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ.

وَيَجُوزُ النَّسْخُ إِلَى غَيْرِ بَدَلٍ كَمَا فِي نَسْخِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً﴾ [سُورَةَ الْمُجَادِلَة/12]، [اللَّهُ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ إِذَا تَكَلَّمَ أَحَدُهُمْ مَعَ النَّبِيِّ وَحْدَهُ عَلَى انْفِرَادٍ أَنْ يَدْفَعَ صَدَقَةً لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الرَّسُولَ لا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ وَلا الزَّكَاةَ. كَانَ ذَلِكَ فَرْضًا عَلَيْهِمْ ثُمَّ نُسِخَ هَذَا الْحُكْمُ قَبْلَ أَنْ يُنَفَّذَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ﴾ [سُورَةَ الْمُجَادِلَة/13].

وَيَجُوزُ النَّسْخُ إِلَى مَا هُوَ أَغْلَظُ كَمَا فِي نَسْخِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ صَوْمِ رَمَضَانَ وَالْفِدْيَةِ بِالطَّعَامِ إِلَى تَعْيِينِ الصَّوْمِ.

وَيَجُوزُ النَّسْخُ إِلَى مَا هُوَ أَخَفُّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنْ يَكُن مِّنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ ثُمَّ قَالَ: ﴿الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِّنْكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ [سُورَةَ الأَنْفَال/66].
وَيَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ كَمَا فِي ءَايَتَيِ الْعِدَّةِ وَءَايَتَيِ الْمُصَابَرَةِ.

وَيَجُوزُ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ كَمَا فِي نَسْخِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ الثَّابِتِ بِالسُّنَّةِ الْفِعْلِيَّةِ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/144].

وَيَجُوزُ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ كَمَا فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلا فَزُورُوهَا»، وَيَجُوزُ نَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ بِالْمُتَوَاتِرِ مِنْهُمَا أَيِ الْقُرْءَانِ وَالسُّنَّةِ، وَيَجُوزُ نَسْخُ الآحَادِ بِالآحَادِ وَبِالْمُتَوَاتِرِ، وَلا يَجُوزُ نَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ بِالآحَادِ.
تَنْبِيهٌ لا يَلْزَمُ مِنَ النَّسْخِ الْبَدَاءُ كَمَا ادَّعَتِ الْيَهُودُ أَنَّ النَّسْخَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنَّ اللَّهَ ظَهَرَ لَهُ أَمْرٌ كَانَ خَافِيًا عَلَيْهِ، وَمَعْنَى الْبَدَاءِ ظُهُورُ أَمْرٍ كَانَ خَافِيًا. يُقَالُ لَهُمْ: النَّسْخُ لا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ بَلْ فِيهِ حِكْمَةٌ لِأَنَّ أَحْوَالَ الْعِبَادِ وَمَصَالِحَهُمْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ الأَزْمَانِ كَمَا أَنَّ الطَّبِيبَ يَصِفُ الدَّوَاءَ فِي وَقْتٍ وَيَنْهَى عَنْهُ فِي وَقْتٍ ءَاخَرَ لِكَوْنِ الْوَقْتِ الأَوَّلِ مُنَاسِبًا لِحَالِ الْمَرِيضِ غَيْرَ مُنَاسِبٍ لِحَالِهِ الثَّانِي، فَاللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِمَصَالِحِ عِبَادِهِ فَيُنْزِلُ حُكْمًا ثُمَّ يَنْسَخُهُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَصْلَحَةِ الْعِبَادِ، وَمُرَادُهُمْ بِدَفْعِ النَّسْخِ تَأْيِيدُ دَعْوَاهُمْ أَنَّ مُوسَى قَالَ «إِنَّ شَرِيعَتِي بَاقِيَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» افْتَرَوْا عَلَى مُوسَى مَا لَمْ يَقُلْهُ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ أُخْتَيْنِ كَانَ جَائِزًا فِي شَرْعِ يَعْقُوبَ ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي شَرْعِ مُوسَى، وَيَكْفِي لِرَدِّ دَعْوَاهُمْ أَنَّ تَزْوِيجَ الأَخِ بِالأُخْتِ الَّتِي لَيْسَتْ تَوْأَمًا لَهُ كَانَ جَائِزًا فِي شَرْعِ ءَادَمَ لِأَنَّ ءَادَمَ كَانَ يُزَوِّجُ الرَّجُلَ مِنْ بَنِيهِ بِأُخْتِهِ الَّتِي هِيَ تَوْأَمَةُ أَخٍ لَهُ ءَاخَرَ، وَلا يُزَوِّجُ وَاحِدًا مِنْهُمْ بِتَوْأَمَتِهِ، ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ بَعْدَهُ، وَهَذَا مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ لَكِنَّ الْعِنَادَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى الِافْتِرَاءِ عَلَى مُوسَى.
 


وَالْعَامِّ وَالْخَاصِّ

الشَّرْحُ الْعَامُّ هُوَ مَا عَمَّ شَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا، وَالْعُمُومُ مِنْ صِفَاتِ النُّطْقِ، وَلا يَجُوزُ دَعْوَى الْعُمُومِ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْفِعْلِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ. وَالْخَاصُّ يُقَابِلُ الْعَامَّ، وَالتَّخْصِيصُ تَمْيِيزُ بَعْضِ الْجُمْلَةِ.

وَيَجُوزُ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ نَحْوُ: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوَءٍ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/228] الشَّامِلُ لِأُولاتِ الأَحْمَالِ فَخُصَّ بِقَوْلِهِ: ﴿وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [سُورَةَ الطَّلاق/4].

وَيَجُوزُ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ كَتَخْصِيصِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ﴾ الآيَةَ، الشَّامِلِ لِلْمَوْلُودِ الْكَافِرِ بِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: «لا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ».

وَيَجُوزُ تَخْصِيصُ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ، مِثْلُ تَخْصِيصِ حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: «لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأْ» بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَى﴾ إِلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا﴾ [سُورَةَ الْمَائِدَة/6] وَإِنْ وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِالتَّيَمُّمِ أَيْضًا بَعْدَ نُزُولِ الآيَةِ.

وَيَجُوزُ تَخْصِيصُ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ مِثْلُ تَخْصِيصِ حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ الْعُشْرَ» بِحَدِيثِ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَيَجُوزُ تَخْصِيصُ النَّطْقِ بِالْقِيَاسِ وَنَعْنِي بِالنُّطْقِ قَوْلَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَقَوْلَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِثَالُ تَخْصِيصِ الْكِتَابِ بِالْقِيَاسِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ [سُورَةَ النُّور/2] خُصَّ عُمُومُهُ الشَّامِلُ لِلأَمَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ [سُورَةَ النِّسَاء/25]، وَخُصَّ عُمُومُهُ أَيْضًا بِالْعَبْدِ الْمَقِيسِ عَلَى الأَمَةِ.



وَالْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ

الشَّرْحُ الْمُطْلَقُ الدَّالُّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ بِلا قَيْدٍ أَيْ مِنْ حَيْثُ هِيَ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ عَارِضٍ مِنْ عَوَارِضِهَا كَقَوْلِنَا: الرَّجُلُ خَيْرٌ مِنَ الْمَرْأَةِ، فَيَخْرُجُ بِقَوْلِهِمْ بِلا قَيْدٍ الْمَعْرِفَةُ وَالنَّكِرَةُ، أَمَّا الْمَعْرِفَةُ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ مَعَ وَحْدَةٍ مُعَيَّنَةٍ كَزَيْدٍ، وَأَمَّا النَّكِرَةُ فَلِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَيْهَا مَعَ وَحْدَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ كَرَجُلٍ وَهَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالنَّكِرَةِ، وَقَالَ الآمِدِيُّ: لا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: النَّكِرَةُ الْمُطْلَقُ فِي سِيَاقِ الإِثْبَاتِ.

وَذَلِكَ كَحَدِيثِ: «يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ »فَإِنَّهُ مُطْلَقٌ فِي رِوَايَةٍ وَوَرَدَ مُقَيَّدًا فِي رِوَايَةٍ: «إِذَا تَطَهَّرَ فَلَبِسَ»، فَاللَّفْظُ الأَوَّلُ مُطْلَقٌ وَالثَّانِي مُقَيَّدٌ، كَذَلِكَ حَدِيثُ: «لا يُمْسِكَنَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَهُوَ يَبُولُ» مَعَ الرِّوَايَةِ الأُخْرَى بِالنَّهْيِ عَنْ مَسِّهِ بِالْيَمِينِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِحَالَةِ الْبَوْلِ.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ: ﴿وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً﴾ [سُورَةَ النِّسَاء/92]، وَقَالَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ [سُورَةَ الْمُجَادِلَة/3] بِدُونِ تَقْيِيدِهَا بِالإِيـمَانِ.

وَفِي كِتَابِ الْمَجْمُوعِ الْمُذَهَّبِ لِلْحَافِظِ الْعَلائِيِّ مَا نَصُّهُ: «فَصْلٌ فِي حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَبَيَانِ صُوَرِهِ: وَجُمْلَتُهَا أَنَّ الْمُطْلَقَ وَالْمُقَيَّدَ إِمَّا أَنْ يَتَّحِدَا فِي الْحُكْمِ وَالسَّبَبِ الْمُقْتَضِي لَهُ أَوْ يَخْتَلِفَا فِيهِمَا أَوْ يَتَّحِدَا فِي الْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ أَوْ بِالْعَكْسِ بِأَنْ يَخْتَلِفَا فِي الْحُكْمِ وَيَتَّحِدَا فِي السَّبَبِ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ وَعَلَى كُلٍّ مِنْهَا إِمَّا أَنْ يَكُونَا ثُبُوتَيْنِ أَوْ نَفْيَيْنِ أَوْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا ثُبُوتًا وَالآخَرُ نَفْيًا فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ أُخَرُ تَصِيرُ الْجُمْلَةُ سِتَّ عَشْرَةَ صُورَةً، فَمَتَى اخْتَلَفَ الْحُكْمُ وَالسَّبَبُ لَمْ يُحْمَلِ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ أَبَدًا، وَإِنِ اسْتَوَيَا كَانَا ثُبُوتَيْنِ أَوْ نَفْيَيْنِ أَوْ مُخْتَلِفَيْنِ فَسَقَطَ بِهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا﴾ [سُورَةَ الْمُجَادِلَة/4] مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنْكُمْ﴾ [سُورَةَ الطَّلاق/2] فَلا يُحْمَلُ الإِطْلاقُ فِي لَفْظِ الْمَسَاكِينِ عَلَى التَّقْيِيدِ بِالْعَدَالَةِ فِي الآيَةِ الأُخْرَى وَذَلِكَ ظَاهِرٌ، وَمِثَالُ اتِّحَادِ السَّبَبِ وَالْحُكْمِ وَهُمَا ثُبُوتَانِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيـمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾ [سُورَةَ الْمَائِدَة/5] مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/217] الآيَةَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/282] مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِّجَالِكُمْ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء﴾، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ »وَفِي حَدِيثٍ ءَاخَرَ: «فَأَبْرِدُوهَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ»، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ: «خَمْسٌ فَوَاسِقُ تُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ» وَذَكَرَ مِنْهَا الْغُرَابَ، وَفِي حَدِيثٍ ءَاخَرَ تَقْيِيدُ الْغُرَابِ بِالأَبْقَعِ.

وَمِثَالُ اتِّحَادِهِمَا وَهُمَا نَفْيَانِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبَ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ» مَعَ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الآخَرِ: «إِلَّا يَدًا بِيَدٍ، وَلا تَبِيعُوا شَيْئًا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ».

وَقَدْ نَقَلَ اتِّفَاقَ الْعُلَمَاءِ عَلَى حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي هَذَا الْقِسْمِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بنُ الْبَاقِلَّانِيِّ وَابْنُ فُورَك وَأَبُو نَصْرِ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ وَابْنُ بُرْهَانَ وَالْمَازَرِيُّ وَالآمِدِيُّ وَءَاخَرُونَ، وَحَكَى الإِمَامُ أَبُو الْمُظَفَّرِ بنُ السِّمْعَانِيِّ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ مَنْعَ ذَلِكَ مُطْلَقًا وَهُوَ خِلافٌ شَاذٌّ جِدًّا، نَعَمْ قَالَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ إِنَّهُ إِذَا تَأَخَّرَ الْمُقَيَّدُ يَكُونُ نَسْخًا لِمُقْتَضَى الإِطْلاقِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِمَا مَا يُشْتَرَطُ بَيْنَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مِنَ التَّوَافُقِ فِي الْقَطْعِ أَوِ الظَّنِّ، وَقَدْ مَثَّلَ الآمِدِيُّ وَابنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُمَا اتِّحَادَ الْحُكْمِ وَالسَّبَبِ وَهُمَا نَفْيَانِ بِمَا إِذَا قَالَ: «لا تُعْتِقْ مُكَاتَبًا»، وَقَالَ فِي مَرَّةٍ أُخْرَى: «لا تُعْتِقْ مُكَاتَبًا كَافِرًا» فَإِنَّهُ يُعْمَلُ بِهِمَا جَمِيعًا، وَجَعَلُوا ذَلِكَ مِنَ الْوَاضِحِ، وَغَيْرُهُمْ خَرَّجَ ذَلِكَ عَلَى اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الصِّفَةِ وَتَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِهِ، فَإِنَّ مُقْتَضَى مَفْهُومِ التَّقْيِيدِ بِالْكَافِرِ فِي الثَّانِي يَقْتَضِي نَفْيَ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ فَلا يَكُونُ غَيْرُ الْكَافِرِ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مُكَاتَبًا، وَإِذَا قُلْنَا بِأَنَّ الْمَفْهُومَ يُخَصِّصُ الْعُمُومَ قَيَّدْنَا النَّهْيَ الْمُطْلَقَ بِمَا إِذَا كَانَ كَافِرًا وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَا نَفْيَيْنِ نَعَمْ لا يَجِيءُ مِثْلُهُ فِي حَدِيثِ الرِّبَا الَّذِي مِثَّلْنَا بِهِ إِذْ لا مَفْهُومَ صِفَةٍ فِيهِ يُعْتَبَرُ.

وَأَمَّا اخْتِلافُ السَّبَبِ مَعَ اتِّحَادِ الْحُكْمِ فَمِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي ءَايَةِ الظِّهَارِ: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا﴾ [سُورَةَ الْمُجَادِلَة/3] وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي ءَايَةِ الْقَتْلِ: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ﴾ فَإِنَّ الْحُكْمَ وَاحِدٌ وَهُوَ الْعِتْقُ وَالسَّبَبُ مُخْتَلِفٌ، وَقَدْ أَطْلَقَ الرَّقَبَةَ فِي مَوْضِعٍ وَقَيَّدَهَا بِالإِيـمَانِ فِي الآخَرِ.

وَمِثَالُ اتِّحَادِ السَّبَبِ وَاخْتِلافِ الْحُكْمِ فِي جَانِبِ الثُّبُوتِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي ءَايَةِ التَّيَمُّمِ: ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ﴾ [سُورَةَ الْمَائِدَة/6] مَعَ قَوْلِهِ فِي ءَايَةِ الْوُضُوءِ: ﴿وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ فَإِنَّ السَّبَبَ وَاحِدٌ فِيهِمَا وَهُوَ التَّطَهُّرُ لِلصَّلاةِ بَعْدَ الْحَدَثِ، وَالْحُكْمُ مُخْتَلِفٌ بِالْغَسْلِ فِي أَحَدِهِمَا وَالْمَسْحِ فِي الآخَرِ، فَأَمَّا النَّوْعُ الأَوَّلُ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ حَمْلُ الْمُطْلَقِ فِيهِ عَلَى الْمُقَيَّدِ لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وَجْهِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ بِحُكْمِ اللَّفْظِ وَمُقْتَضَى اللِّسَانِ كَمَا فِي الْقِسْمِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ عِنْدَ وُجُودِ الْوَصْفِ الْجَامِعِ وَاسْتِجْمَاعِ شُرُوطِهِ وَفِي النَّوْعِ الثَّانِي تَوَقُّفٌ أَيْضًا، وَمُقْتَضَى الْمَذْهَبِ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِالْوَصْفِ الْجَامِعِ أَيْضًا، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِ اللَّفْظِ بَعِيدٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مَسْأَلَةٌ تَابِعَةٌ: تَرْجَمَةٌ خَاصَّةٌ:

تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ غَيْرُ جَائِزٍ اتِّفَاقًا إِلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ التَّكْلِيفِ بِمَا لا يُطَاقُ وَلا تَفْرِيعَ عَلَيْهِ، وَنَظِيرُهُ مِنَ الْفِقْهِ مَسَائِلُ مِنْهَا إِذَا أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِشَىْءٍ مُجْمَلٍ فَطُولِبَ بِالتَّفْسِيرِ فَامْتَنَعَ فَثَلاثَةُ أَوْجُهٍ أَصَحُّهَا أَنَّهُ يُحْبَسُ كَمَا يُحْبَسُ إِذَا امْتَنَعَ عَنْ أَدَاءِ الْحَقِّ لِأَنَّ التَّفْسِيرَ وَالْبَيَانَ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ إِنْ وَقَعَ الإِقْرَارُ الْمُبْهَمُ فِي جَوَابِ دَعْوَى وَامْتَنَعَ مِنَ الْبَيَانِ جُعِلَ ذَلِكَ إِنْكَارًا مِنْهُ لِمَا وَقَعَتْ بِهِ الدَّعْوَى فَتُعْرَضُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فَإِذَا أَصَرَّ جُعِلَ نَاكِلًا وَحُلِّفَ الْمُدَّعِي أَمَّا إِذَا أَقَرَّ بِالْمُجْمَلِ ابْتِدَاءً فَيُقَالُ لِلْمُقَرِّ لَهُ ادَّعِ عَلَيْهِ حَقَّكَ فَإِذَا ادَّعَى عَلَيْهِ شَيْئًا مُعَيَّنًا فَإِنْ أَنْكَرَ أُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ وَإِنْ قَالَ لا أَدْرِي جَعَلْنَاهُ مُنْكِرًا فَإِنْ أَصَرَّ جَعَلْنَاهُ نَاكِلًا.

وَالثَّالِثُ أَنَّهُ إِنْ أَقَرَّ بِغَصْبٍ مُبْهَمٍ وَامْتَنَعَ مِنْ بَيَانِهِ حُبِسَ، وَإِنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ مُبْهَمٍ فَالْحُكْمُ كَمَا فِي الْوَجْهِ الثَّانِي» اهـ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمَعَ إِتْقَانِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِحَيْثُ إِنَّهُ يَحْفَظُ مَدْلُولاتِ أَلْفَاظِ النُّصُوصِ عَلَى حَسَبِ اللُّغَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْءَانُ.

الشَّرْحُ يَنْبَغِي عَلَى الْمُجْتَهِدِ أَنْ يُتْقِنَ لُغَةَ الْعَرَبِ وَيَعْرِفَ مَدْلُولاتِ النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ وَيَعْرِفَ النَّحْوَ وَالصَّرْفَ وَالْبَلاغَةَ. هَذَا فِي غَيْرِ السَّلِيقِيِّ أَمَّا السَّلِيقِيُّ كَالصَّحَابَةِ وَمَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ فِي كَوْنِ كَلامِهِ مُطَابِقًا لِلُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى حَسَبِ أُصُولِهَا وَأَسَالِيبِهَا فَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ تَعَلُّمِ النَّحْوِ وَالصَّرْفِ لِأَنَّهُ مَطْبُوعٌ عَلَى النُّطْقِ بِالصَّوَابِ فِي اللُّغَةِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمَعْرِفَةِ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُجْتَهِدُونَ وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ لا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرِقَ الإِجْمَاعَ أَيْ إِجْمَاعَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ.

الشَّرْحُ يَنْبَغِي لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْرِفَ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ إِجْمَاعًا وَاخْتِلافًا فَلا يُخَالِفُهُمْ فِي اجْتِهَادِهِ.

وَالْمُجْتَهِدُ يَسْتَدِلُّ عَلَى مَا احْتَمَلَ التَّأْوِيلَ بِالسُّنَّةِ وَبِالإِجْمَاعِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِالْقِيَاسِ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِالْقِيَاسِ عَلَى مَا فِي السُّنَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِالْقِيَاسِ عَلَى مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَإِجْمَاعُ النَّاسِ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مُخَالِفٌ، وَلا يَجُوزُ الْقَوْلُ فِي شَىْءٍ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الأَوْجُهِ. وَلا يَكُونُ صَالِحًا لِأَنْ يَقِيسَ حَتَّى يَكُونَ عَالِمًا بِمَا مَضَى قَبْلَهُ مِنَ السُّنَنِ وَأَقْوَالِ السَّلَفِ وَإِجْمَاعِ النَّاسِ وَاخْتِلافِ الْعُلَمَاءِ وَلِسَانِ الْعَرَبِ، وَيَكُونَ صَحِيحَ الْعَقْلِ لِيُفَرِّقَ بَيْنَ الْمُشْتَبِهَاتِ، وَلا يَعْجَلُ وَيَسْمَعُ مِمَّنْ خَالَفَهُ لِيَتَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى غَفْلَةٍ إِنْ كَانَتْ، وَأَنْ يَبْلُغَ غَايَةَ جَهْدِهِ، وَيُنْصِفَ مِنْ نَفْسِهِ حَتَّى يَعْرِفَ مِنْ أَيْنَ قَالَ مَا قَالَ.

وَمِمَّا يُشْتَرَطُ فِي الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْرِفَ الْمُجْمَلَ وَالْمُبَيَّنَ وَالظَّاهِرَ. وَالْمُجْمَلُ: مَا افْتَقَرَ إِلَى الْبَيَانِ، وَالْبَيَانُ هُوَ إِخْرَاجُ الشَّىْءِ مِنْ حَيِّزِ الإِشْكَالِ إِلَى حَيِّزِ التَّجَلِّي أَيِ الظُّهُورِ وَالْوُضُوحِ، وَأَمَّا الظَّاهِرُ فَهُوَ مَا احْتَمَلَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَظْهَرُ مِنَ الآخَرِ. وَيُؤَوَّلُ الظَّاهِرُ بِالدَّلِيلِ وَيُسَمَّى الظَّاهِرَ بِالدَّلِيلِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ﴾ [سُورَةَ الذَّارِيَات/47] أَيْ بِقُوَّةٍ، فَإِنَّ ظَاهِرَهُ جَمْعُ يَدٍ وَهُوَ مُحَالٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَصُرِفَ عَنْهُ إِلَى مَعْنَى الْقُوَّةِ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الْقَاطِعِ كَمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالنَّصِّ الْقُرْءَانِيِّ الصَّرِيحِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيُشْتَرَطُ فَوْقَ ذَلِكَ شَرْطٌ وَهُوَ رُكْنٌ عَظِيمٌ فِي الِاجْتِهَادِ وَهُوَ فِقْهُ النَّفْسِ أَيْ قُوَّةُ الْفَهْمِ وَالإِدْرَاكِ.

وَتُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ وَهِيَ السَّلامَةُ مِنَ الْكَبَائِرِ وَمِنَ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى الصَّغَائِرِ بِحَيْثُ تَغْلِبُ عَلَى حَسَنَاتِهِ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ.

الشَّرْحُ: لَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَخْلِصَ عِلْمَ الدِّينِ مِنَ الْقُرْءَانِ وَالْحَدِيثِ مُبَاشَرَةً لِأَنَّ الْقَرَائِحَ تَخْتَلِفُ، هَذَا ذَكَاؤُهُ أَقْوَى مِنْ هَذَا وَهَذَا ذَكَاؤُهُ أَقْوَى مِنْ هَذَا، وَهَذَا بَلِيدٌ وَهَذَا أَبْلَدُ، وَهَؤُلاءِ الأَئِمَّةُ الْمُجْتَهِدُونَ كُلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَعْطَاهُمْ قَرَائِحَ قَوِيَّةً أَذْهَانًا قَوِيَّةً. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ قَرَائِحِهِمْ أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ وُجُودِ الشَّافِعِيِّ بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ مَالِكٍ بَعْدَ أَنْ دَرَسَ عَلَى مَالِكٍ زَمَانًا جَاءَ رَجُلٌ حَلَفَ قَالَ: عَلَيَّ الطَّلاقُ أَنَّ هَذَا الْقُمْرِيَّ لا يَهْدَأُ مِنْ صِيَاحٍ، وَالْقُمْرِيُّ نَوْعٌ مِنَ الْحَمَامِ، فَسَأَلَ مَالِكًا قَالَ أَنَا حَلَفْتُ بِطَلاقِ زَوْجَتِي أَنَّ هَذَا الْقُمْرِيَّ لا يَهْدَأُ مِنْ صِيَاحٍ فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: طَلَقَتِ امْرَأَتُكَ، وَمَالِكٌ قَالَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لا بُدَّ أَنْ يَهْدَأَ مِنَ الصِّيَاحِ بَعْضَ الْوَقْتِ، ثُمَّ عَرَفَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ مَالِكًا أَفْتَى هَذَا الإِنْسَانَ بِطَلاقِ زَوْجَتِهِ فَقَالَ لَهُ:لَمْ تَطْلُقْ زَوْجَتُكَ، الشَّافِعِيُّ نَظَرَ فَقَالَ هَذَا الرَّجُلُ لَمَّا حَلَفَ بِطَلاقِ زَوْجَتِهِ أَنَّ هَذَا الْقُمْرِيَّ لا يَهْدَأُ مِنْ صِيَاحٍ مَا قَصَدَ أَنَّهُ كُلَّ سَاعَةٍ لا يَهْدَأُ، إِنَّمَا قَصْدُهُ أَنَّهُ كَثِيرُ الصِّيَاحِ، فَلَمْ تَنْكَسِرْ يَمِينُهُ فَلَمْ تَطْلُقِ الْمَرْأَةُ، ثُمَّ رَجَعَ الرَّجُلُ إِلَى مَالِكٍ فَقَالَ لَهُ: هُنَا فَتًى أَفْتَانِي بِأَنَّهُ لَمْ تَطْلُقْ زَوْجَتِي، قَالَ: مَنْ هُوَ، قَالَ: هَذَا، فَحَضَرَ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: كَيْفَ قُلْتَ لِلرَّجُلِ إِنَّ امْرَأَتَكَ لَمْ تَطْلُقْ، قَالَ: أَلَيْسَ أَنْتَ حَدَّثْتَنَا أَنَّ رَجُلَيْنِ خَطَبَا امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ أَحَدُهُمَا مُعَاوِيَةُ وَالآخَرُ أَبُو جَهْمٍ فَقَالَ الرَّسُولُ: «أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لا مَالَ لَهُ»، فَهَلْ أَرَادَ الرَّسُولُ لَمَّا قَالَ: «لا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ»، أَنَّهُ فِي حَالِ النَّوْمِ وَفِي حَالِ الأَكْلِ الْعَصَا تَظَلُّ عَلَى عَاتِقِهِ؟ أَمْ أَرَادَ أَنَّهُ كَثِيرُ الْحَمْلِ وَالْمُلازَمَةِ لِلْعَصَا لِأَنَّهُ يُحِبُّ الضَّرْبَ؟ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَخَذْتُ الْحُكْمَ، فَسَكَتَ مَالِكٌ وَلَمْ يُعَارِضْهُ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَمَّا الْمُقَلِّدُ فَهُوَ الَّذِي لَمْ يَصِلْ إِلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ.

الشَّرْحُ الْمُقَلِّدُ لَهُ رُخْصَةٌ بِأَنْ يَعْمَلَ بِأَيِّ مَذْهَبٍ يُرِيدُ إِنْ شَاءَ يُقَلِّدُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ أَوْ مَالِكٍ أَوْ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْ أَحْمَدَ أَوْ غَيْرِهِمْ، وَإِنْ شَاءَ مَرَّةً يُقَلِّدُ هَذَا وَمَرَّةً هَذَا وَمَرَّةً هَذَا، أَمَّا الْمُجْتَهِدُ فَلا يَعْمَلُ بِغَيْرِ اجْتِهَادِهِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى هَاتَيْنِ الْمَرْتَبَتَيْنِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا، فَرُبَّ مُبَلِّغٍ لا فِقْهَ عِنْدَهُ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ.

الشَّرْحُ الرَّسُولُ دَعَا فِي حَدِيثِهِ هَذَا لِمَنْ حَفِظَ حَدِيثَهُ فَأَدَّاهُ كَمَا سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ بِنَضْرَةِ الْوَجْهِ أَيْ بِحُسْنِ وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَبِالسَّلامَةِ مِنَ الْكَآبَةِ الَّتِي تَحْصُلُ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوْمُ الأَهْوَالِ الْعِظَامِ وَالشَّدَائِدِ الْجِسَامِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الشَّاهِدُ فِي الْحَدِيثِ قَوْلُهُ: «فَرُبَّ مُبَلِّغٍ لا فِقْهَ عِنْدَهُ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «وَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ»، فَإِنَّهُ يُفْهِمُنَا أَنَّ مِمَّنْ يَسْمَعُونَ الْحَدِيثَ مِنَ الرَّسُولِ مَنْ حَظُّهُ أَنْ يَرْوِيَ مَا سَمِعَهُ لِغَيْرِهِ وَيَكُونُ هُوَ فَهْمُهُ أَقَلَّ مِنْ فَهْمِ مَنْ يُبَلِّغُهُ بِحَيْثُ إِنَّ مَنْ يُبَلِّغُهُ هَذَا السَّامِعُ يَسْتَطِيعُ مِنْ قُوَّةِ قَرِيحَتِهِ أَنْ يَسْتَخْرِجَ مِنْهُ أَحْكَامًا وَمَسَائِلَ - وَيُسَمَّى هَذَا الِاسْتِنْبَاطَ - وَالَّذِي سَمِعَ لَيْسَ عِنْدَهُ هَذِهِ الْقَرِيحَةُ الْقَوِيَّةُ إِنَّمَا يَفْهَمُ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ قَرِيبٌ مِنَ اللَّفْظِ. مِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ يَكُونُ أَقَلَّ فَهْمًا مِمَّنْ يَسْمَعُ مِنْهُمْ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ. وَفِي لَفْظٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ: «فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ»، وَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ فِي التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ.

وَهَذَا الْمُجْتَهِدُ هُوَ مَوْرِدُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَإِنَّمَا خَصَّ رَسُولُ اللَّهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْحَاكِمَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَحْوَجُ إِلَى الِاجْتِهَادِ مِنْ غَيْرِهِ فَقَدْ مَضَى مُجْتَهِدُونَ فِي السَّلَفِ مَعَ كَوْنِهِمْ حَاكِمِينَ كَالْخُلَفَاءِ السِّتَّةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَالْحَسَنِ بنِ عَلِيٍّ وَعُمَرَ بنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَشُرَيْحٍ الْقَاضِي.

الشَّرْحُ أَفْهَمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَحَادِيثِهِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْهُ أَنَّ النَّاسَ قِسْمَانِ قِسْمٌ يَرْوِي الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرِفَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ مِنَ الأَحْكَامِ وَهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَقِسْمٌ يَعْرِفُونَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ مِنَ الأَحْكَامِ وَهُمُ الأَقَلُّ وَهَذَا الْقِسْمُ هُمُ الْمُجْتَهِدُونَ، وَلَيْسَ شَرْطًا أَنْ تَكُونَ اجْتِهَادَاتُهُمْ مُتَّفِقَةً فِي كُلِّ الْمَسَائِلِ بَلْ تَخْتَلِفُ اجْتِهَادَاتُهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِلِ وَفِي ذَلِكَ رَحْمَةٌ لِلْعِبَادِ وَتَسْهِيلٌ لَهُمْ، وَأَمَّا دَعْوَةُ الأَلْبَانِيِّ أَيَّ إِنْسَانٍ أَنْ يَعْمَلَ بِحَدِيثِ: «اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ» فِيهِ تَشْجِيعُ الْعَوَامِّ عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِمَا عَلَيْهِ أَهْلُ الِاجْتِهَادِ وَالْعَمَلِ بِمَا يَمِيلُ إِلَيْهِ قَلْبُهُ، وَلا يَخْفَى أَنَّ الْعَامِيَّ قَدْ يَمِيلُ قَلْبُهُ إِلَى مَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ، فَكَيْفَ يَتْرُكُ فَتْوَى الْمُجْتَهِدِينَ الْمُعْتَبَرِينَ وَيَعْمَلُ بِمَا تَمِيلُ إِلَيْهِ نَفْسُهُ، وَهَذَا الْحَدِيثُ كَانَ الْخِطَابُ فِيهِ لِوَابِصَةَ بنِ مَعْبَدٍ وَهُوَ مِنْ مُجْتَهِدِي الصَّحَابَةِ، فَوَابِصَةُ وَمَنْ كَانَ مِثْلَهُ مُجْتَهِدًا فَهُوَ الَّذِي يَأْخُذُ بِمَا يَنْشَرِحُ بِهِ قَلْبُهُ وَلَيْسَ أَيُّ إِنْسَانٍ، وَإِلَّا لَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى الْفَوْضَى قَالَ الأَفْوَهُ الأَوْدِيُّ:

لا يَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضَى لا سَرَاةَ لَهُمْ *** وَلا سَرَاةَ إِذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا

وَالسَّرَاةُ هُمُ الأَشْرَافُ أَهْلُ الْفَهْمِ الَّذِينَ يَصْلُحُونَ لِلْقِيَادَةِ.

وَيُعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ لِكُلِّ مَنْ سَمِعَ حَدِيثًا أَهْلِيَّةُ الِاجْتِهَادِ أَيِ اسْتِنْبَاطِ الأَحْكَامِ مِنْ حَدِيثِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» وَقَدْ أَفْهَمَنَا الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَسْمَعُ مِنْهُ الشَّخْصُ الْحَدِيثَ الْمُتَضَمِّنَ أَحْكَامًا وَلا يَكُونُ عِنْدَهُ أَهْلِيَّةُ الِاسْتِنْبَاطِ وَيَحْمِلُهُ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ أَيْ إِلَى مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الِاسْتِنْبَاطِ. وَفِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: «وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ لا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَسْتَخْرِجُوا الْفِقْهَ مِنَ الْحَدِيثِ أَكْثَرُ مِنَ الَّذِينَ يَسْتَطِيعُونَ، فَمَنْ ثَمَّ كَانَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ مُقَلِّدِينَ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِ النَّحْوِيِّينَ: «رُبَّ لِلتَّكْثِيرِ كَثِيرًا». وَيَكْفِي شَاهِدًا لِذَلِكَ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْحُفَّاظِ مِنْهُمْ مُقَلِّدُونَ لِلشَّافِعِيِّ أَوْ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْ مَالِكٍ أَوْ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ وَمَا أَكْثَرَ مَنْ يَكُونُ مُقَلِّدًا لِلشَّافِعِيِّ مِنَ الْحُفَّاظِ فَإِنَّ الْحُفَّاظَ الَّذِينَ يُقَلِّدُونَ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ أَكْثَرُ الْحُفَّاظِ فَمِنْ أَيْنَ لِمِثْلِ الأَلْبَانِيِّ دَعْوَى الِاجْتِهَادِ وَالِاكْتِفَاءِ بِفَهْمِهِ عَنْ تَقْلِيدِ الأَئِمَّةِ وَهُوَ لا يَحْفَظُ عَشْرَةَ أَحَادِيثَ بِأَسَانِيدِهَا فَإِذَا كَانَ الْحَافِظُ الْوَاحِدُ يَحْفَظُ مِائَةَ أَلْفِ حَدِيثٍ بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ أَسَانِيدِ الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ لِأَنَّ الْحَدِيثَ الْوَاحِدَ أَحْيَانًا يَبْلُغُ إِسْنَادُهُ نَحْوَ عَشَرَةٍ وَقَدْ يَبْلُغُ عَدَدُ الإِسْنَادِ إِلَى عِشْرِينَ وَإِلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَبِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ هَذِهِ الطُّرُقِ وَالأَسَانِيدِ يُقَالُ إِنَّ فُلانًا مِنَ الْحُفَّاظِ حَفِظَ مِائَةَ أَلْفٍ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا الأَلْبَانِيُّ لَمْ يَبْلُغْ مَرْتَبَةَ الْمُحَدِّثِ، وَقَدْ شَهَرَهُ مَنْ لا يَعْرِفُ حَقِيقَتَهُ بِاسْمِ الْمُحَدِّثِ وَهُوَ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَافِظٍ قَالَ أَنَا مُحَدِّثُ كِتَابٍ لَسْتُ مُحَدِّثَ حِفْظٍ.

وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كُلِّ زَمَانٍ مُجْتَهِدًا لا تَخْلُو الأَرْضُ مِنْهُ، فَقَدْ رَوَى كَمِيلُ بنُ زِيَادٍ عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «لا تَخْلُو الأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَجِهِ» أَيْ لا تَخْلُو مِنْ مُجْتَهِدٍ، وَصَحَّحَ الْفَقِيهُ الأُصُولِيُّ الزَّرْكَشِيُّ أَنَّهُ لا يَخْلُو الْعَصْرُ مِنْ مُجْتَهِدٍ خِلافُ مَا اشْتُهِرَ عِنْدَ النَّاسِ أَنَّ بَعْدَ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ انْقَطَعَ الِاجْتِهَادُ.

وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُجَدِّدِ أَنْ يَكُونَ حَيًّا عِنْدَ تَمَامِ الْقَرْنِ مَعَ كَوْنِهِ بِصِفَةِ الْعِلْمِ وَالتَّقْوَى، ذَابًّا عَنِ السُّنَّةِ، قَامِعًا لِلْبِدْعَةِ، يَنْفَعُ النَّاسَ بِبَيَانِهِ، يُبَيِّنُ الضَّلالاتِ وَيُحَذِّرُ مِنْهَا، وَيُبَيِّنُ السُّنَنَ وَيَحُثُّ عَلَيْهَا، وَالسُّنَنُ هِيَ الأُمُورُ الَّتِي شَرَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ مِنْ فَرَائِضَ وَغَيْرِ فَرَائِضَ. وَأَوَّلُ مُجَدِّدٍ كَانَ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ هُوَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الَّذِي كَانَ حَاكِمًا عَدْلًا، وَلَمْ يَجْتَمِعْ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُ مِنَ الْمُجَدِّدِينَ أَنْ جَمَعَ بَيْنَ صِفَةِ الْمُجَدِّدِيَّةِ وَالْحُكْمِ، ثُمَّ بَعْدَهُ الإِمَامُ مُحَمَّدُ بنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ، وَقَدْ تُوُفِّيَ بَعْدَ تَمَامِ الْقَرْنِ الثَّانِي بِأَرْبَعَةِ أَعْوَامٍ، ثُمَّ بَعْدَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ الَّذِي هُوَ أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ، ثُمَّ بَعْدَهُ أَبُو الطَّيِّبِ سَهْلُ بنُ مُحَمَّدٍ الصُّعْلُوكِيُّ، ذَكَرَ هَذَا التَّرْتِيبَ الْحَافِظُ الْحَاكِمُ صَاحِبُ كِتَابِ الْمُسْتَدْرَكِ، وَقَالَ فِي هَذَا الأَخِيرِ:

وَالرَّابِعُ الْمَشْهُورُ سَهْلُ مُحَمَّدٍ *** أَضْحَى إِمَامًا عِنْدَ كُلِّ مُوَحِّدِ

وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الإِمَامِ أَبِي الْحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَجَزَاهُمُ اللَّهُ عَنِ الإِسْلامِ خَيْرًا.

ثُمَّ إِنَّ مِمَّا يَنْبَغِي بَيَانُهُ أَنَّ الأَئِمَّةَ تَكُونُ اجْتِهَادَاتُهُمْ فِي الْفُرُوعِ وَلَيْسَ فِي أُصُولِ الْعَقِيدَةِ كَمَعْرِفَةِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ لا يَحِلُّ الِاخْتِلافُ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ كَالصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ وَتَحْرِيمِ الزِّنَى وَاللِّوَاطِ.

وَأَمَّا الِاخْتِلافُ فِي غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ فَيَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ كَاخْتِلافِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ اجْتِهَادُ أَبِي بَكْرٍ عَنِ اجْتِهَادِ عَلِيٍّ وَزَيْدِ بنِ ثَابِتٍ فِي مَسْئَلَةِ تَوْرِيثِ الإِخْوَةِ مَعَ الْجَدِّ.

وَكَذَلِكَ اخْتِلافُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ فِي مَسْئَلَةِ نَقْضِ مَسِّ الْمَرْأَةِ الأَجْنَبِيَّةِ بِلا حَائِلٍ الْوُضُوءَ.

وَأَمَّا الَّذِي يَدَّعِي الِاجْتِهَادَ فِي عَصْرِنَا هَذَا وَيَخْرُجُ عَمَّا أَجْمَعَ الْمُتَقَدِّمُونَ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ فَيَجْعَلُهُ غَيْرَ جَائِزٍ أَوْ يَأْتِي إِلَى مَسْئَلَةٍ أَجْمَعَ الَّذِينَ مَضَوْا عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ فَيَجْعَلُهَا جَائِزَةً صَحِيحَةً فَهَذَا لا يُقْبَلُ مِنْهُ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مُجْتَهِدًا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُجْتَهِدًا لَاجْتَهَدَ فِي حَادِثَةٍ لَمْ تَسْبِقْ فِيمَا مَضَى فَأَعْطَى فِيهَا الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ بِاجْتِهَادِهِ لِأَنَّ أُولَئِكَ مَا تَكَلَّمُوا فِيهَا بِالْمَرَّةِ لِأَنَّهَا مَا حَدَثَتْ فِي عُصُورِهِمْ، فَفِي هَذِهِ الْحَالِ يُقْبَلُ اجْتِهَادُ هَذَا الْمُجْتَهِدِ الْمُتَأَخِّرِ الَّذِي ظَهَرَ بَعْدَ الأَرْبَعِمِائَةِ فِي أَيِّ قَرْنٍ كَانَ وَكَذَلِكَ إِنِ اجْتَهَدَ بِتَرْجِيحِ قَوْلٍ قَالَ بِهِ بَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ الْمَاضِينَ قَبْلَهُ، وَهَذَا الْمَهْدِيُّ الْمُنْتَظَرُ مُجْتَهِدٌ لَكِنَّهُ لا يَنْقُضُ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ مَنْ قَبْلَهُ، إِنَّمَا يُرَجِّحُ رَأْيًا مِنْ تِلْكَ الآرَاءِ أَوْ يُحْدِثُ حُكْمًا بِاجْتِهَادِهِ فِي حَوَادِثَ لَمْ تَسْبِقْ أَيَّامَ الأَوَّلِينَ، هُنَا مَجَالُ الِاجْتِهَادِ، أَمَّا أَنْ يَدَّعِيَ الِاجْتِهَادَ فَيَنْقُضَ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الأَئِمَّةُ وَهُمْ نَحْوُ أَرْبَعِينَ أَيِ الْمَعْرُوفِينَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ لَهُمْ ذِكْرٌ فِي مُؤَلَّفَاتِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ، وَلَيْسَ الْمُجْتَهِدُونَ الأَئِمَّةُ هَؤُلاءِ الأَرْبَعَةَ فَقَطْ، هُنَاكَ مُجْتَهِدُونَ أَخْفِيَاءُ.

وَقَدْ يَتَوَهَّمُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَنْقُضَ جَمِيعَ أَقْوَالِ مَنْ مَضَوْا قَبْلَهُ، وَهَذَا غَلَطٌ.

وَأَمَّا حَدِيثُ: «إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ» فَالْمُرَادُ بِهِ الْمُجْتَهِدُ وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: «قَالَ الْعُلَمَاءُ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي حَاكِمٍ عَالِمٍ أَهْلٍ لِلْحُكْمِ فَإِنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ أَجْرٌ بِاجْتِهَادِهِ وَأَجْرٌ بِإِصَابَتِهِ وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ بِاجْتِهَادِهِ»، ثُمَّ قَالَ: «قَالُوا: فَأَمَّا مَنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْحُكْمِ فَلا يَحِلُّ لَهُ الْحُكْمُ فَإِنْ حَكَمَ فَلا أَجْرَ لَهُ، بَلْ هُوَ ءَاثِمٌ وَلا يُنَفَّذُ حُكْمُهُ سَوَاءٌ وَافَقَ الْحَقَّ أَمْ لا، لِأَنَّ قَوْلَهُ وَإِنْ وَافَقَ الْحَقَّ فَلَيْسَ صَادِرًا عَنْ أَصْلٍ شَرْعِيٍّ فَهُوَ عَاصٍ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ سَوَاءٌ وَافَقَ الصَّوَابَ أَمْ لا، وَلا يُعْذَرُ فِي شَىْءٍ مِنْ ذَلِكَ».

وَلْيُعْلَمْ أَنَّ مَوْرِدَ الِاجْتِهَادِ فِيمَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ صَرِيحٌ لا يَحْتَمِلُ إِلَّا وَجْهًا وَاحِدًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ مَعَ حَدِيثِ: «مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلامِ مِنْ عُنُقِهِ حَتَّى يُرَاجِعَهُ» أَيْ حَتَّى يَتُوبَ. شَبَّهَهُ الرَّسُولُ بِالْبَقَرَةِ أَوِ الشَّاةِ الَّتِي أُدْخِلَتْ عَلَيْهَا عُرْوَةُ الْحَبْلِ ثُمَّ هِيَ انْفَلَتَتْ مِنْ هَذَا فَعَرَّضَتْ نَفْسَهَا لِلْهَلاكِ. وَحَدِيثِ: «مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» أَيْ مِيتَتُهُ تُشْبِهُ مِيتَةَ عُبَّادِ الأَوْثَانِ. رَوَى الأَوَّلَ ابْنُ حِبَّانَ وَالثَّانِي مُسْلِمٌ، فَإِنَّهُ لا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَلَى وَلِيِّ الأَمْرِ مَا لَمْ يَكْفُرْ، فَلا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَلَى وَلِيِّ الأَمْرِ لِمُجَرَّدِ مُخَالَفَتِهِ لِمَا يَرَاهُ بَعْضُ النَّاسِ، فَلا عُذْرَ لِمَنْ خَرَجَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْوَقَائِعِ الثَّلاثِ وَقْعَةِ الْجَمَلِ وَوَقْعَةِ صِفِّينَ وَوَقْعَةِ النَّهْرَوَانِ، وَلَيْسَ خُرُوجُ هَؤُلاءِ اجْتِهَادًا شَرْعِيًّا دَاخِلًا تَحْتَ حَدِيثِ: «إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» وَمِنْ هُنَا قَالَ الإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الأَشْعَرِيُّ إِنَّ الَّذِينَ قَاتَلُوا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيًّا ءَاثِمُونَ بِمَنْ فِيهِمْ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعَائِشَةُ وَقَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَّا طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ فَذَنْبُهُمَا مَغْفُورٌ لِلْبِشَارَةِ النَّبَوِيَّةِ لَهُمَا بِالْجَنَّةِ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي عَائِشَةَ مَغْفُورٌ لَهَا لِأَجْلِ الْبِشَارَةِ قَالَ الأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَمَّا مَنْ لَمْ تَسْبِقْ لَهُ الْبِشَارَةُ مِنْ مُقَاتِلِي عَلِيٍّ فَذَنْبُهُمْ مُجَوَّزٌ غُفْرَانُهُ وَالْعَفْوُ عَنْهُ، نَقَلَ ذَلِكَ تِلْمِيذُ تِلْمِيذِهِ الإِمَامُ الْمُقَدَّمُ مُحَمَّدُ بنُ فُورَك. فَإِذَا كَانَ قَوْلُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «إِنَّكَ لَتُقَاتِلَنَّ عَلِيًّا وَأَنْتَ ظَالِمٌ لَهُ» يَشْهَدُ بِإِثْمِ الزُّبَيْرِ فِي قِتَالِهِ لِعَلِيٍّ أَيْ وُقُوفِهِ مَعَ الْمُقَاتِلِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْتُلَ أَحَدًا ثُمَّ انْصَرَفَ لَمَّا ذَكَّرَهُ عَلِيٌّ بِهَذَا الْحَدِيثِ تَرَكَ الْمُعَسْكَرَ مَاتَ تَائِبًا وَطَلْحَةُ كَذَلِكَ انْصَرَفَ فَقَتَلَهُ مَرْوَانُ غَضَبًا مِنْهُ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْمُعَسْكَرَ، فَكَيْفَ بِالَّذِينَ قَاتَلُوا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ثَلاثَةَ أَشْهُرٍ وَقَتَلُوا مِنْ جَيْشِهِ عِشْرِينَ أَلْفَ نَفْسٍ فِيهِمْ أَهْلُ بَدْرٍ وَفِيهِمْ أَهْلُ أُحُدٍ وَفِيهِمْ أَهْلُ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ وَهُمْ خِيَارُ الصَّحَابَةِ. فَمَا أَبْعَدَ قَوْلَ مَنْ قَالُوا إِنَّ مُقَاتِلِي عَلِيٍّ مِنَ الصَّحَابَةِ لَيْسُوا ءَاثِمِينَ عَنِ الصَّوَابِ وَالْحَقِّ.

فَمَنْ قَالَ إِنَّ مُعَاوِيَةَ اجْتَهَدَ فِي قِتَالِهِ لِعَلِيٍّ فَأَخْطَأَ فَهُوَ مَعْذُورٌ فَهُوَ غَلَطٌ لَمْ يَكُنْ قِتَالُهُ لِعَلِيٍّ عَنِ اجْتِهَادٍ شَرْعِيٍّ لِأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «إِنَّ بَنِي أُمَيَّةَ يُقَاتِلُونَنِي يَزْعُمُونَ أَنِّي قَتَلْتُ عُثْمَانَ وَكَذَبُوا إِنَّمَا يُرِيدُونَ الْمُلْكَ وَلَوْ أَنَّنِي أَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَرُدُّهُمْ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ أَنْ أَحْلِفَ عِنْدَ الْمَقَامِ وَاللَّهِ مَا قَتَلْتُ عُثْمَانَ وَلا أَمَرْتُ بِقَتْلِهِ لَفَعَلْتُ وَلَكِنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْمُلْكَ» رَوَاهُ الْحَافِظُ مُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ، وَرَوَاهُ الْحَافِظُ سَعِيدُ بنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ، وَسَيِّدُنَا عَلِيٌّ أَعْلَمُ بِحَالِ مُعَاوِيَةَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ بَعْضِ الْمُؤَلِّفِينَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّهُ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَهُوَ مَعْذُورٌ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ عَدَّ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ الَّذِينَ أَلَّفُوا فِي كُتُبِ مُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ الْمُفْتِينَ فِي الصَّحَابَةِ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ [كَمَا فِي كُتُبِ الْمُصْطَلَحِ كَتَدْرِيبِ الرَّاوِي لِلسُّيُوطِيِّ] قِيلَ: نَحْوُ سِتَّةٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: نَحْوُ مِائَتَيْنِ مِنْهُمْ بَلَغَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الأَصَحُّ.

فَإِذَا كَانَ الأَمْرُ فِي الصَّحَابَةِ هَكَذَا فَمِنْ أَيْنَ يَصِحُّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْءَانَ وَيُطَالِعَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَنْ يَقُولَ أُولَئِكَ رِجَالٌ وَنَحْنُ رِجَالٌ فَلَيْسَ عَلَيْنَا أَنْ نُقَلِّدَهُمْ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ أَكْثَرَ السَّلَفِ كَانُوا غَيْرَ مُجْتَهِدِينَ بَلْ كَانُوا مُقَلِّدِينَ لِلْمُجْتَهِدِينَ فِيهِمْ، فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ رَجُلًا كَانَ أَجِيرًا لِرَجُلٍ فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ فَسَأَلَ أَبُوهُ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ عَلَى ابْنِكَ مِائَةَ شَاةٍ وَأَمَةٍ، ثُمَّ سَأَلَ أَهْلَ الْعِلْمِ فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ عَلَى ابْنِكَ جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ، فَجَاءَ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ زَوْجِ الْمَرْأَةِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ عَسِيفًا - أَيْ أَجِيرًا - عَلَى هَذَا وَزَنَى بِامْرَأَتِهِ فَقَالَ لِي نَاسٌ: عَلَى ابْنِكَ الرَّجْمُ فَفَدَيْتُ ابْنِي مِنْهُ بِمِائَةٍ مِنَ الْغَنَمِ وَوَلِيدَةٍ، ثُمَّ سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَقَالُوا: إِنَّمَا عَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، أَمَّا الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ فَرَدٌّ عَلَيْهِ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ».

فَهَذَا الرَّجُلُ مَعَ كَوْنِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ سَأَلَ أُنَاسًا مِنَ الصَّحَابَةِ فَأَخْطَأُوا الصَّوَابَ ثُمَّ سَأَلَ عُلَمَاءَ مِنْهُمْ ثُمَّ أَفْتَاهُ الرَّسُولُ بِمَا يُوَافِقُ مَا قَالَهُ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءُ، فَإِذَا كَانَ الرَّسُولُ أَفْهَمَنَا أَنَّ بَعْضَ مَنْ كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْهُ الْحَدِيثَ لَيْسَ لَهُمْ فِقْهٌ أَيْ مَقْدِرَةٌ عَلَى اسْتِخْرَاجِ الأَحْكَامِ مِنْ حَدِيثِهِ وَإِنَّمَا حَظُّهُمْ أَنْ يَرْوُوا عَنْهُ مَا سَمِعُوهُ مَعَ كَوْنِهِمْ يَفْهَمُونَ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ الْفُصْحَى فَمَا بَالُ هَؤُلاءِ الْغَوْغَاءِ الَّذِينَ يَتَجَرَّءُونَ عَلَى قَوْلِ: «أُولَئِكَ رِجَالٌ وَنَحْنُ رِجَالٌ»، أُولَئِكَ رِجَالٌ يَعْنُونَ الْمُجْتَهِدِينَ كَالأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ.

وَفِي هَذَا الْمَعْنَى مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ قِصَّةِ الرَّجُلِ الَّذِي كَانَتْ بِرَأْسِهِ شَجَّةٌ فَأَجْنَبَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فَاسْتَفْتَى مَنْ مَعَهُ فَقَالُوا لَهُ: اغْتَسِلْ، فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ، أَلا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا، فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ» أَيْ شِفَاءُ الْجَهْلِ السُّؤَالُ أَيْ سُؤَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: «إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً ثُمَّ يَمْسَحُ عَلَيْهَا وَيَغْسِلُ سَائِرَ جَسَدِهِ» الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الِاجْتِهَادُ يَصِحُّ مِنْ مُطْلَقِ الْمُسْلِمِينَ لَمَا ذَمَّ رَسُولُ اللَّهِ هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَفْتَوْهُ وَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْفَتْوَى.



ثُمَّ وَظِيفَةُ الْمُجْتَهِدِ الَّتِي هِيَ خَاصَّةٌ لَهُ الْقِيَاسُ، أَيْ أَنْ يَعْتَبِرَ مَا لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ بِمَا وَرَدَ فِيهِ نَصٌّ لِشَبَهٍ بَيْنَهُمَا.

الشَّرْحُ الْقِيَاسُ هُوَ إِلْحَاقُ الْفَرْعِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ بِالأَصْلِ الَّذِي هُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، وَمِثَالُ ذَلِكَ وَرَدَ فِي الْقُرْءَانِ تَحْرِيمُ التَّأْفِيفِ بِالأَبَوَيْنِ نَصًّا لَكِنْ لَمْ يَرِدْ لا تَضْرِبْهُمَا لا تَجْرَحْهُمَا بِحَدِيدَةٍ إِلَى ءَاخِرِ مَا هُنَالِكَ مِنْ هَذِهِ التَّفَاصِيلِ، فَهَذِهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ تُلْحَقُ بِالأَصْلِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَهُوَ تَحْرِيمُ التَّأْفِيفِ لِأَنَّ التَّأْفِيفَ أَذًى خَفِيفٌ بِالنِّسْبَةِ لِلضَّرْبِ وَنَحْوِهِ.

وَيُقَالُ: الْقِيَاسُ هُوَ رَدُّ الْفَرْعِ إِلَى الأَصْلِ بِعِلَّةٍ تَجْمَعُهُمَا فِي الْحُكْمِ، وَهُوَ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلاثَةِ أَقْسَامٍ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنَ الَّذِينَ يَحُثُّونَ أَتْبَاعَهُمْ عَلَى الِاجْتِهَادِ مَعَ كَوْنِهِمْ وَكَوْنِ مَتْبُوعِيهِمْ بَعِيدِينَ عَنْ هَذِهِ الرُّتْبَةِ فَهَؤُلاءِ يُخَرِّبُونَ وَيَدْعُونَ أَتْبَاعَهُمْ إِلَى التَّخْرِيبِ فِي أُمُورِ الدِّينِ. وَشَبِيهٌ بِهَؤُلاءِ أُنَاسٌ تَعَوَّدُوا فِي مَجَالِسِهِمْ أَنْ يُوَزِّعُوا عَلَى الْحَاضِرِينَ تَفْسِيرَ ءَايَةٍ أَوْ حَدِيثٍ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ لَهُمْ تَلَقٍّ مُعْتَبَرٌ مِنْ أَفْوَاهِ الْعُلَمَاءِ. فَهَؤُلاءِ الْمُدَّعُونَ شَذُّوا عَنْ عُلَمَاءِ الأُصُولِ لِأَنَّ عُلَمَاءَ الأُصُولِ قَالُوا: «الْقِيَاسُ وَظِيفَةُ الْمُجْتَهِدِ» وَخَالَفُوا عُلَمَاءَ الْحَدِيثِ أَيْضًا.

الشَّرْحُ كَمْ مِنْ حُفَّاظٍ يَحْفَظُونَ الآلافَ الْمُؤَلَّفَةَ مِنَ الْمُتُونِ وَالأَسَانِيدِ وَأَحْوَالِ الرُّوَاةِ وَمَوَالِيدِهِمْ وَرِوَايَتِهِمْ مُقَلِّدِينَ لا يَرَوْنَ لِأَنْفُسِهِمْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ لِعَدَمِ فِقْهِ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ شَرْطٌ فِي الِاجْتِهَادِ. هَذَا الْبَيْهَقِيُّ الَّذِي هُوَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُحَدِّثِينَ الْحُفَّاظِ مُقَلِّدٌ لِلإِمَامِ الشَّافِعِيِّ وَكَذَلِكَ كُلُّ الْمُحَدِّثِينَ إِلَّا النَّادِرُ مِنْهُمْ بَلَغَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ كَمُحَمَّدِ بنِ إِبْرَاهِيمَ بنِ الْمُنْذِرِ كَانَ دَرَسَ فِقْهَ الشَّافِعِيِّ عَلَى تِلْمِيذِ الشَّافِعِيِّ الرَّبِيعِ الْمُرَادِيِّ ثُمَّ تَمَكَّنَ فِي الْحَدِيثِ وَرُزِقَ الْفَهْمَ بِمَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَاجْتَهَدَ فَصَارَ اجْتِهَادُهُ يُوَافِقُ فِي بَعْضِ الأَشْيَاءِ الشَّافِعِيَّ وَفِي بَعْضٍ غَيْرَ مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ.



خَاتِمَةٌ

خُلاصَةُ مَا مَضَى مِنَ الأَبْحَاثِ أَنَّ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَنَطَقَ بِالشَّهَادَةِ وَلَوْ مَرَّةً فِي الْعُمُرِ وَرَضِيَ بِذَلِكَ اعْتِقَادًا فَهُوَ مُسْلِمٌ مُؤْمِنٌ.

الشَّرْحُ مَنْ عَرَفَ وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ لا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَادِقٌ فِي كُلِّ مَا جَاءَ بِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ مُسْلِمٌ، أَمَّا مَنْ أَتَى بِمَا يُنَافِي ذَلِكَ وَقَالَ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَهَذَا اعْتِقَادُهُ يُخَالِفُ الشَّهَادَتَيْنِ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ عِنْدَ اللَّهِ وَلَوْ نَطَقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ بِلِسَانِهِ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: «مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ»، أَيْ سَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَنْ يُخَلَّدَ وَيُؤَبَّدَ فِي النَّارِ، فَإِنْ دَخَلَ النَّارَ بِذُنُوبِهِ فَلا بُدَّ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا ثُمَّ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمَنْ عَرَفَ وَنَطَقَ وَلَمْ يَعْتَقِدْ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ وَلا بِمُؤْمِنٍ عِنْدَ اللَّهِ، وَأَمَّا عِنْدَنَا فَهُوَ مُسْلِمٌ لِخَفَاءِ بَاطِنِهِ عَلَيْنَا، وَإِنْ كَانَ يَتَظَاهَرُ بِالإِسْلامِ وَيَكْرَهُ الإِسْلامَ بَاطِنًا أَوْ يَتَرَدَّدُ فِي قَلْبِهِ هَلِ الإِسْلامُ صَحِيحٌ أَمْ لا فَهُوَ مُنَافِقٌ كَافِرٌ وَهُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ [سُورَةَ النِّسَاء/145]، فَهُوَ وَالْكَافِرُ الْمُعْلِنُ خَالِدَانِ فِي النَّارِ خُلُودًا أَبَدِيًّا.

الشَّرْحُ نَحْنُ إِذَا أَظْهَرَ لَنَا إِنْسَانٌ أَنَّهُ مُسْلِمٌ وَتَشَهَّدَ وَصَلَّى وَلَمْ نَعْلَمْ مِنْهُ كُفْرًا نُجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامَ الإِسْلامِ، ثُمَّ نَقُولُ اللَّهُ أَعْلَمُ بِبَاطِنِهِ. وَأَمَّا الَّذِي يُظْهِرُ الإِسْلامَ وَيُخْفِي الْكُفْرَ فِي قَلْبِهِ كَأَن يَكُونَ عِنْدَهُ شَكٌّ بِصِحَّةِ الإِسْلامِ فَهَذَا مُنَافِقٌ وَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِ اللَّهِ: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَوْلُ الْبَعْضِ: يَصِحُّ إِيـمَانُ الْكَافِرِ بِلا نُطْقٍ مَعَ التَّمَكُّنِ قَوْلٌ بَاطِلٌ.

الشَّرْحُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَالُوا لا يُشْتَرَطُ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ لِصِحَّةِ الإِسْلامِ فَلَوْ صَدَّقَ الإِنْسَانُ بِقَلْبِهِ بِمَعْنَى الشَّهَادَتَيْنِ وَجَزَمَ لَكِنَّهُ لَمْ يَنْطِقْ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ إِلَّا أَنْ عُرِضَتْ عَلَيْهِ الشَّهَادَةُ فَأَبَى النُّطْقَ بِهَا، وَهَذَا الْقَوْلُ خِلافُ عَقِيدَةِ الْجُمْهُورِ، فَقَدْ نَقَلَ الإِمَامُ الْمُجْتَهِدُ ابْنُ الْمُنْذِرِ الإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الدُّخُولَ فِي الإِسْلامِ لا يَكُونُ إِلَّا بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، أَيْ أَنَّ دُخُولَ الْكَافِرِ فِي الإِسْلامِ لا يَكُونُ إِلَّا بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، لَكِنْ لا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَنْ وُلِدَ بَيْنَ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ فَإِنَّهُ يُجْرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الإِسْلامِ لَوْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِالشَّهَادَةِ فِي صِغَرِهِ وَلا بَعْدَ كِبَرِهِ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: «مَنْ نَشَأَ بَيْنَ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ يَكْفِيهِ الْمَعْرِفَةُ وَالِاعْتِقَادُ بِصِحَّةِ إِسْلامِهِ وَإِيـمَانِهِ لَوْ لَمْ يَنْطِقْ بِالْمَرَّةِ».

الشَّرْحُ أَنَّ مَنْ نَشَأَ بَيْنَ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ عَلَى الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ فَهُوَ مُسْلِمٌ مُؤْمِنٌ وَلَوْ لَمْ يَنْطِقْ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ مَنْ نَشَأَ عَلَى عَقِيدَةِ الإِسْلامِ بَيْنَ أَبَوَيْنِ كَافِرَيْنِ فَهُوَ مُسْلِمٌ مُؤْمِنٌ طَالَمَا لَمْ يَعْتَقِدْ اعْتِقَادًا كُفْرِيًّا وَلَمْ يَنْطِقْ بِكَلامٍ كُفْرِيٍّ وَلَمْ يَفْعَلْ فِعْلًا كُفْرِيًّا.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: ثُمَّ مَنْ صَحَّ لَهُ أَصْلُ الإِيـمَانِ وَالإِسْلامِ وَلَوْ لَمْ يَقُمْ بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ الْعَمَلِيَّةِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصِيَامِ رَمَضَانَ وَلَمْ يَجْتَنِبِ الْمُحَرَّمَاتِ إِلَى أَنْ مَاتَ وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ قَبْلَ أَنْ يَتُوبَ فَقَدْ نَجَا مِنَ الْخُلُودِ الأَبَدِيِّ فِي النَّارِ، ثُمَّ قِسْمٌ مِنْهُمْ يُسَامِحُهُمُ اللَّهُ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ بِلا عَذَابٍ وَقِسْمٌ مِنْهُمْ يُعَذِّبُهُمْ ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُسَامِحُهُ وَمَنْ لا يُسَامِحُهُ.

وَأَمَّا مَنْ مَاتَ بَعْدَ أَنْ تَابَ فَأَدَّى جَمِيعَ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَاجْتَنَبَ الْمُحَرَّمَاتِ فَهُوَ كَأَنَّهُ لَمْ يُذْنِبْ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لا ذَنْبَ لَهُ» حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.

الشَّرْحُ مَهْمَا أَذْنَبَ الشَّخْصُ وَتَابَ وَأَذْنَبَ وَتَابَ وَلَوْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ مِائَةَ مَرَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ، فَبَابُ التَّوْبَةِ مَا زَالَ مَفْتُوحًا لَمْ يُغْلَقْ بَعْدُ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُسْلِمُ أَوْ أُقَاتِلُ؟ قَالَ: أَسْلِمْ ثُمَّ قَاتِلْ، فَأَسْلَمَ فَقَاتَلَ فَقُتِلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَمِلَ قَلِيلًا وَأُجِرَ كَثِيرًا»، أَيْ لِأَنَّهُ نَالَ الشَّهَادَةَ بَعْدَ أَنْ هَدَمَ الإِسْلامُ كُلَّ ذَنْبٍ قَدَّمَهُ فَالْفَضْلُ لِلإِسْلامِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُسْلِمْ لَمْ يَنْفَعْهُ أَيُّ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ. وَهَذَا الرَّجُلُ كَانَ الْتَحَقَ بِالْمُجَاهِدِينَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ قَوْمَهُ الَّذِينَ هُمْ مُسْلِمُونَ خَرَجُوا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْلِمَ ثُمَّ أَلْهَمَهُ اللَّهُ أَنْ يَسْأَلَ الرَّسُولَ فَسَأَلَ فَأَرْشَدَهُ الرَّسُولُ إِلَى أَنْ يُسْلِمَ ثُمَّ يُقَاتِل.

الشَّرْحُ إِنَّ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ مَنْ مَاتَ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّهَادَاتِ يُغْفَرُ لَهُ وَلا يُعَذَّبُ وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ ذُنُوبٌ مِثْلُ الْجِبَالِ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ مَوْتُهُ بِأَفْضَلِ أَنْوَاعِ الشَّهَادَةِ وَهُوَ مَنْ مَاتَ وَهُوَ يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ لا رِيَاءَ فِيهَا، فَالشَّهِيدُ مَهْمَا كَانَ عَلَيْهِ ذُنُوبٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخَيَّرُ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ أَنْ يَدْخُلَ، ثُمَّ الشَّهِيدُ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ يَحْمِلُونَ رُوحَهُ بِكَفَنٍ بِخِرْقَةِ حَرِيرٍ مِنَ الْجَنَّةِ، يَأْخُذُونَ هَذِهِ الرُّوحَ مِنْ عَزْرَائِيلَ وَلا يَتْرُكُونَهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ.

وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ الشَّهِيدَ يُغْفَرُ لَهُ إِلَّا الدَّيْن فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُعَذَّبُ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ اللَّهُ يُعْطِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ وَفَتْ حَسَنَاتُهُ وَإِلَّا فَمِنْ خَزَائِنِ اللَّهِ يُؤَدَّى عَنْهُ.

وَمِمَّا خُصَّ بِهِ الشَّهِيدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ جُرْحَهُ يَكُونُ لَوْنُهُ لَوْنَ الدَّمِ وَرِيحُهُ رِيحَ الْمِسْكِ أَيْ عَلامَةً عَلَى أَنَّهُ فَائِزٌ عِنْدَ اللَّهِ فِي الآخِرَةِ.



خَاتِمَةُ الْخَاتِمَةِ

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لِيُفَكِّرِ الْعَاقِلُ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿مَّا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [سُورَةَ ق/18].

فَإِنَّ مَنْ فكَّرَ فِي ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّ كُلَّ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ فِي الْجِدِّ أَوِ الْهَزْلِ أَوْ فِي حَالِ الرِّضَا أَوِ الْغَضَبِ يُسَجِّلُهُ الْمَلَكَانِ، فَهَلْ يَسُرُّ الْعَاقِلَ أَنْ يَرَى فِي كِتَابِهِ حِينَ يُعْرَضُ عَلَيْهِ فِي الْقِيَامَةِ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ الْخَبِيثَةُ؟ بَلْ يَسُوؤُهُ ذَلِكَ وَيُحْزِنُهُ حِينَ لا يَنْفَعُ النَّدَمُ، فَلْيَعْتَنِ بِحِفْظِ لِسَانِهِ مِنَ الْكَلامِ بِمَا يَسُوؤُهُ إِذَا عُرِضَ عَلَيْهِ فِي الآخِرَةِ.

الشَّرْحُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مَّا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [سُورَةَ ق/18] مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَلائِكَةَ الْمُوَكَّلِينَ بِكِتَابَةِ عَمَلِ الْعَبْدِ يَكْتُبُونَ مَا يَلْفِظُ بِهِ هَذَا الإِنْسَانُ مِنْ حَسَنَاتٍ أَوْ سَيِّئَاتٍ مِنَ الْقَوْلِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُبَاحَاتِ أَيْضًا، وَلَمْ يَرِدْ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الَّذِي يَكْتُبُ الْحَسَنَاتِ يَكُونُ عَلَى الْكَتِفِ الأَيْمَنِ وَالآخَرَ عَلَى الْكَتِفِ الأَيْسَرِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ أَنَّ أَحَدَهُمَا يَكُونُ فِي جِهَةِ يَمِينِهِ وَالآخَرَ فِي جِهَةِ شِمَالِهِ.

وَفِي هَذِهِ الآيَةِ التَّحْذِيرُ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ الإِنْسَانُ بِمَا لا خَيْرَ فِيهِ، فَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ الإِنْسَانَ لا يُعْفَى مِنْ كِتَابَةِ أَقْوَالهِ كُلِّهَا مَا كَانَ مِنْهَا حَسَنَةً مِنَ الْحَسَنَاتِ كَأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمَا كَانَ مِنْهَا مِنَ السَّيِّئَاتِ مِنْ كُفْرٍ وَمَا دُونَهُ، وَيَكْتُبُونَ أَيْضًا الْمُبَاحَاتِ أَيِ الْكَلامَ الَّذِي لَيْسَ بِحَسَنَةٍ وَلا سَيِّئَةٍ كَأَنْ يَقُولَ اعْمَلُوا لِي شَايًا أَوِ اعْمَلُوا لِي طَبِيخًا وَكَقَوْلِهِ كُلْ أَوِ اقْعُدْ أَوِ اذْهَبْ. فَإِذَا كَانَ الأَمْرُ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لِلإِنْسَانِ أَنْ لا يَتَكَلَّمَ بِالشَّرِّ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَخْزِنَ لِسَانَهُ هَذَا الَّذِي هُوَ نِعْمَةٌ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ مَعْصِيَةً مِنَ الْمَعَاصِي سَوَاءٌ كَانَ فِي حَالِ الْجِدِّ أَوِ الْمَزْحِ أَوْ حَالِ الرِّضَا أَوْ حَالِ الْغَضَبِ، لِأَنَّهُ يُعْرَضُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِذَا رَأَى فِي كِتَابِهِ الَّذِي يَتَنَاوَلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَيْدِي الْمَلائِكَةِ الْقَبَائِحَ مِنْ كُفْرٍ أَوْ مِنْ مَعَاصٍ فَإِنَّهُ يَسُوؤُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلا يُوجَدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ اسْتِغْفَارٌ تُمْحَى بِهِ الْمَعْصِيَةُ إِنَّمَا الِاسْتِغْفَارُ يَنْفَعُ فِي الدُّنْيَا. ثُمَّ أَيْضًا إِذَا تَابَ الإِنْسَانُ مِنْ كَلامٍ هُوَ مِنَ السَّيِّئَاتِ يُمْحَى ذَلِكَ الْكَلامُ مِنْ صَحِيفَتِهِ أَيْ يَمْحُوهُ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِذَلِكَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَبَّاسٍ: «مَا كَانَ مِنَ الْمُبَاحَاتِ مِنْ كَلامِ الْعَبْدِ يُمْحَى وَتُثْبَتُ الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ».

وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ثَلاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: الطَّلاقُ وَالنِّكَاحُ وَالرَّجْعَةُ» فَإِذَا كَانَ الطَّلاقُ وَالنِّكَاحُ وَالرَّجْعَةُ جِدُّهُنَّ جِدًّا وَهَزْلُهُنَّ جِدًّا فَبِالأَوْلَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْكُفْرِ جِدًّا إِنْ كَانَ فِي حَالِ الْمَزْحِ وَإِنْ كَانَ فِي حَالِ الْغَضَبِ وَإِنْ كَانَ فِي حَالِ الرِّضَا. فَلا يُغْتَرَّ بِقَوْلِ بَعْضِ الْجُهَّالِ السُّقَّاطِ عَنِ الْكُفْرِ الَّذِي يَتَفَوَّهُونَ بِهِ بِلا اعْتِقَادٍ إِنَّهُ مِنْ لَغْوِ الْيَمِينِ وَيَسْتَدِلُّونَ بِالآيَةِ: ﴿لَّا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/225] يَزْعُمُونَ أَنَّ الأَيْمَانَ الْمَذْكُورَةَ فِي الآيَةِ الْكَلامُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ النَّاسُ بِلا اعْتِقَادٍ، وَمَا دَرَوْا أَنَّ الأَيْمَانَ هِيَ الْحَلِفُ، وَأَنَّ لَغْوَ الْيَمِينِ هُوَ الْحَلِفُ بِاللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ بِلا قَصْدٍ وَلا إِرَادَةٍ، فَإِنَّهُ لا كَفَّارَةَ فِي ذَلِكَ الْحَلِفِ الَّذِي يَجْرِي فِيهِ قَوْلُ وَاللَّهِ، فَهَؤُلاءِ جَمَعُوا بَيْنَ كُفْرَيْنِ الْكُفْرِ الَّذِي خَرَجَ مِنْ أَلْسِنَتِهِمْ عَمْدًا بِلا اعْتِقَادٍ، وَالْكُفْرِ الَّذِي هُوَ تَبْرِيرُ كُفْرِهِمْ مُسْتَدِلِّينَ بِالآيَةِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا، لِأَنَّهُمْ بِهَذَا نَسَبُوا تَحْلِيلَ الْكُفْرِ إِلَى الآيَةِ، وَالآيَةُ بَرِيئَةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ وَمِنَ اسْتِدْلالِهِمْ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَصْلَتَانِ مَا إِنْ تَجَمَّلَ الْخَلائِقُ بِمِثْلِهِمَا حُسْنُ الْخُلُقِ وَطُولُ الصَّمْتِ»، رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بنُ مُحَمَّدٍ أَبُو بَكْرِ بنُ أَبِي الدُّنْيَا الْقُرَشِيُّ فِي كِتَابِ الصَّمْتِ.

الشَّرْحُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْعَمَ عَلَى عِبَادِهِ بِنِعَمٍ لا يُحْصِيهَا إِلَّا هُوَ فَكَانَ مِنْ تِلْكَ النِّعَمِ اللِّسَانُ فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ اللِّسَانَ لِلإِنْسَانِ لِيُعَبِّرَ بِهِ عَنْ حَاجَاتِهِ الَّتِي تَهُمُّهُ لِتَحْصِيلِ مَنَافِعِ وَمَصَالِحِ دِينهِ وَدُنْيَاهُ، هَذَا اللِّسَانُ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ لِيُحَصِّلُوا بِهِ مَصَالِحَ دِينِهِمْ وَمَصَالِحَ ءَاخِرَتِهِمْ أَيْ لِيَسْتَعْمِلُوهُ فِيمَا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ، فَمَنِ اسْتَعْمَلَ هَذَا اللِّسَانَ فِيمَا يَنْفَعُهُ وَلا يَضُرُّهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ حَرَجٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِ مُؤَاخَذَةٌ فِي الآخِرَةِ، وَأَمَّا مَنِ اسْتَعْمَلَهُ فِيمَا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ أَهْلَكَ نَفْسَهُ وَلَمْ يَشْكُرْ رَبَّهُ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ.

وَأَمَّا «حُسْنُ الْخُلُقِ» الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ ثَلاثَةِ أُمُورٍ: كَفُّ الأَذَى عَنِ النَّاسِ، وَتَحَمُّلُ أَذَى النَّاسِ، وَأَنْ يَعْمَلَ الْمَعْرُوفَ مَعَ الَّذِي يَعْرِفُ لَهُ إِحْسَانَهُ وَمَعَ الَّذِي لا يَعْرِفُ لَهُ. وَمَنْ نَالَ حُسْنَ الْخُلُقِ فَقَدْ نَالَ مَقَامًا عَالِيًا، فَقَدْ يَبْلُغُ الرَّجُلُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الْقَائِمِ الصَّائِمِ، أَيِ الَّذِي لا يَتْرُكُ الْقِيَامَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ وَلا يَتْرُكُ صِيَامَ النَّفْلِ. وَمَعْنَى: «طُولُ الصَّمْتِ» فِي الْحَدِيثِ الَّذِي مَرَّ ذِكْرُهُ تَقْلِيلُ الْكَلامِ، فَإِنَّ طُولَ الصَّمْتِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ وَسَائِرِ الْحَسَنَاتِ يَكُونُ مَطْلُوبًا مَحْبُوبًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، أَمَّا مِنْ ذِكْرِهِ وَسَائِرِ الْحَسَنَاتِ فَإِكْثَارُ اسْتِعْمَالِ اللِّسَانِ مَطْلُوبٌ وَلا سِيَّمَا التَّهْلِيلُ، فَالْمَعْنَى أَنَّ الإِنْسَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لا يَتَكَلَّمَ إِلَّا بِكَلامٍ لَيْسَ عَلَيْهِ فِيهِ مُؤَاخَذَةٌ عِنْدَ اللَّهِ، ثُمَّ الأَشْيَاءُ الَّتِي يَنْبَغِي حِفْظُ اللِّسَانِ عَنْهَا مِنَ الْكَلِمَاتِ كَثِيرَةٌ وَمِنْ أَكْثَرِهَا وُقُوعًا مِنَ النَّاسِ الْغِيبَةُ، نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلامَةَ وَأَنْ يَحْفَظَ لَنَا أَلْسِنَتَنَا مِنَ الْمَهَالِكِ. وَنَخْتِمُ هَذَا الْكِتَابَ بِالتَّذْكِيرِ بِهَذِهِ الْوَصَايَا النَّافِعَةِ الْعَظِيمَةِ وَهِيَ: تَقْلِيلُ الْكَلامِ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ، وَتَرْكُ الْغَضَبِ، وَتَقْلِيلُ التَّنَعُّمِ، وَالْقَنَاعَةُ بِالْقَلِيلِ مِنَ الرِّزْقِ، وَالتَّطَاوُعُ وَالتَّوَاضُعُ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّكُمْ لَتَغْفُلُونَ عَنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَةِ التَّوَاضُعِ» رَوَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الأَمَالِيِّ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ كَالْجَمَلِ الأَنِفِ إِنْ قِيدَ انْقَادَ وَإِنِ اسْتُنِيخَ عَلَى صَخْرَةٍ اسْتَنَاخَ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَالتَّطَاوُعُ هُوَ أَنْ يُوَافِقَ كُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ وَلا يَتَرَفَّعَ عَلَيْهِ وَلا يُسِيءَ الظَّنَّ بِهِ، وَإِذَا خَالَفَ رَأْيُهُ رَأْيَ أَخِيهِ يَتَّهِمُ رَأْيَ نَفْسِهِ وَيَقُولُ لَعَلَّ رَأْيَ أَخِي هَذَا أَحْسَنُ فَيَنْظُرُ فِيهِ فَإِنْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ خَطَأٌ يُنَبِّهُهُ.

وَبِحَدِيثٍ مِنَ الْفَضَائِلِ وَهُوَ أَنَّ صَحَابِيًّا اسْمُهُ الْمُنَيْذِرُ رَوَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ: رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا فَأَنَا الزَّعِيمُ لَآخُذَنَّ بِيَدِهِ حَتَّى أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ»، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَمَعْنَى أَنَا الزَّعِيمُ أَيْ أَنَا ضَامِنٌ وَكَافِلٌ لَهُ. فَمَنْ قَالَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ كُلَّ صَبَاحٍ وَلَوْ مَرَّةً يَنَالُ هَذَا الثَّوَابَ الْعَظِيمَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ الْخَفِيفَةِ عَلَى اللِّسَانِ بِلا تَعَبٍ، وَالصَّبَاحُ مِنَ الْفَجْرِ إِلَى نَحْوِ ثَلاثِ سَاعَاتٍ وَنِصْفٍ تَقْرِيبًا.

 

إنتهى الكتاب

وسبحان الله والحمد لله رب العالمين 

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد الأمين

وءاله وأصحابه الطيبين


بين [ ] باللون الأحمر لم يُقرأ على أحد
TohaKepriben

Previous Post Next Post