كتاب الدرة البهية في حا ألفاظ العقيدة الطحاوية


الدُّرَّةُ الْبَهِيَّةُ فِي حَلِّ أَلْفَاظِ الْعَقِيدَةِ الطَّحَاوِيَّةِ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: [الْمُؤَلِّفُ: هُوَ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بنُ سَلامَةَ الْمَعْرُوفُ بِأَبِي جَعْفَرٍ الْوَرَّاقُ الطَّحَاوِيُّ وُلِدَ سَنَةَ مِائَتَيْنِ وَتِسْعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ وَمَاتَ سَنَةَ ثَلاثِمِائَةٍ وَوَاحِدٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ. هُوَ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ الْكِبَارِ وَالْفُقَهَاءِ الْمُعْتَمَدِينَ كَانَ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَانِ بنِ ثَابِتٍ وَكِتَابُهُ هَذَا مِنْ أَنْفَسِ الرَّسَائِلِ الَّتِي أُلِّفَتْ فِي بَيَانِ الْعَقِيدَةِ الإِسْلامِيَّةِ حَيْثُ أُوضِحَ فِيهَا عَقِيدَةُ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِ عَلَى طَرِيقَةِ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ. قَالَ النَّسَفِيُّ: إِنَّ أَبَا جَعْفَرٍ مِمَّنِ احْتَوَى عَلَى عُلُومِ سَلَفِ الأُمَّةِ عَلَى الْعُمُومِ وَعَلَى عُلُومِ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ عَلَى الْخُصُوصِ] هَذَا ذِكْرُ بَيَانِ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ [أَهْلُ السُّنَّةِ: الَّذِينَ وَافَقُوا سُنَّةَ النَّبِيِّ أَيْ شَرِيعَةَ النَّبِيِّ أَيِ الْقُرْءَانَ وَالْحَدِيثَ، وَالْجَمَاعَةُ: الَّذِينَ وَافَقُوا جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ] عَلَى مَذْهَبِ فُقَهَاءِ الْمِلَّةِ: [أَيْ فُقَهَاءِ الأُمَّةِ وَالْمِلَّةُ هِيَ مِلَّةُ الإِسْلامِ وَهِيَ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ] أَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَانِ بنِ ثَابِتٍ الْكُوفِيِّ [أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ الإِمَامُ الْمُجْتَهِدُ فَقِيهُ الْمِلَّةِ وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ وُتُوُفِّيَ سَنَةَ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ وَدُفِنَ فِي بَغْدَادَ وَهُوَ صَاحِبُ الْمَذْهَبِ]، وَأَبِي يُوسُفَ يَعْقُوبَ بنِ إِبْرَاهِيمَ الأَنْصَارِيِّ [أَبُو يُوسُفَ: وُلِدَ سَنَةَ مِائَةٍ وَثَلاَثةَ عَشَرَ مِنَ الْهِجْرَةِ وَتُوُفِّيَ سَنَةَ مِائَةٍ وَاثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ، أَخَذَ الْعِلْمَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ثُمَّ صَارَ مُجْتَهِدًا. كَانَ قَاضِيًا أَيَّامَ هَارُونَ الرَّشِيدِ. فِي الْمَاضِي أَبْرَزُ عَالِمٍ كَانَ يُعَيَّنُ قَاضِيًا]، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ [مُحَمَّدُ بنُ الْحَسَنِ: وُلِدَ بِوَاسِط سَنَةَ مِائَةٍ وَخَمْسٍ وَثَلاَثِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ وَتُوُفِّيَ سَنَةَ مِائَةٍ وَتِسْعٍ وَثَمَانِينَ. كَانَ تِلْمِيذَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ طَلَعَ فِي الْعِلْمِ بَحْرًا]، رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَمَا يَعْتَقِدُونَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَيَدِينُونَ بِهِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ.

الشَّرْحُ: [الشَّارِحُ: هُوَ الْعَالِمُ الْجَلِيلُ الإِمَامُ الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّهِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ يُوسُفَ بنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ جَامِعٍ الْهَرَرِيُّ الشَّيْبِيُّ الْعَبْدَرِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ أَلْفٍ وَثَلاثِمِائَةٍ وَثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ (1910ر)، كُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمٰنِ] يَقُولُ الطَّحَاوِيُّ إِنَّ هَذِهِ الرِّسَالَةَ هِيَ ذِكْرُ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى حَسَبِ مَا قَرَّرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ يَعْقُوبُ بنُ إِبْرَاهِيمَ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ، أَيْ مِنْ حَيْثُ سَبْكُ الْعِبَارَاتِ أَضَعُ هَذِهِ الرِّسَالَةَ عَلَى أُسْلُوبِ هَؤُلاءِ الأَئِمَّةِ الثَّلاثَةِ، أَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ كُلِّهِمْ بِلا اسْتِثْنَاءٍ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ هُمُ الصَّحَابَةُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ فِي الْمُعْتَقَدِ وَلَوْ كَانَ مِنْ حَيْثُ الأَعْمَالُ مُقَصِّرًا إِلَى حَدٍّ كَبِيرٍ [وَالصَّحَابِيُّ هُوَ مَنْ لَقِيَ النَّبِيَّ بِطَرِيقِ الْعَادَةِ وَءَامَنَ بِهِ وَمَاتَ عَلَى الإِيْمَانِ].

وَنَصَّ الطَّحَاوِيُّ عَلَى ذِكْرِ هَؤُلاءِ الْفُقَهَاءِ لأِنَّهُ كَانَ فِي الْفُرُوعِ عَلَى مَذْهَبِ الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْعَقِيدَةُ خَاصَّةً بِهَؤُلاءِ بَلْ هِيَ مُعْتَقَدُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ [الْجَمَاعَةُ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ لأَنَّ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الصَّحَابَةِ ثَبَتُوا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ مِنْ حَيْثُ الْمُعْتَقَدُ وَلَمْ يَخْرُجُوا عَنْهُ لَكِنِ اخْتَلَفَ بَعْضُ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الإِسْلامِ فِي بَعْضِ الأُصُولِ الإِعْتِقَادِيَّةِ كَمَا سَيَأْتِي ذَلِكَ].

وَقَوْلُهُ فِي افْتِتَاحِ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ: «هَذَا ذِكْرُ بَيَانِ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ» إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ [سُورَةَ يُوسُف/108]، فَالسُّنَّةُ عِبَارَةٌ عَنِ الطَّرِيقَةِ، وَمَعْنَى «عَلَى بَصِيرَةٍ» أَيْ أَنَّ كُلَّ مَا جَاءَ بِهِ الإِسْلامُ لا يَرُدُّهُ الْعَقْلُ الصَّحِيحُ، وَأَمَّا الْجَمَاعَةُ فَهُمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ عَلَى مِلَّتِهِ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ مُعْتَقِدِينَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لا شَرِيكَ لَهُ [قَالَ سَيِّدُ الطَّائِفَةِ الصُّوفِيَّةِ الْجُنَيْدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «التَّوْحِيدُ إِفْرَادُ الْقَدِيْمِ مِنَ الْمُحْدَثِ» أَيْ لا تَشَابُهَ بَيْنَ الْقَدِيْمِ وَهُوَ اللَّهُ وَالْمُحْدَثِ وَهُوَ الْمَخْلُوقُ].

الشَّرْحُ: قَوْلُهُ: «نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ» ابْتَدَأَ بِالتَّوْحِيدِ لأِنَّهُ أَوَّلُ خِطَابٍ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ، وَإِلَيْهِ دَعَتِ الأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ، وَبِهِ نَزَلَتِ الْكُتُبُ السَّمَاوِيَّةُ، أَمَّا الرُّسُلُ وَالأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ قَامَتْ عَلَى أَيْدِيهِمُ الْمُعْجِزَاتُ الْخَارِجَةُ عَنْ وُسْعِ الْخَلائِقِ كَصَيْرُورَةِ النَّارِ بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَانْقِلابِ عَصَا مُوسَى ثُعْبَانًا يَسْعَى، وَتَسْخِيرِ الرِّيحِ وَالْجِنِّ وَالطَّيْرِ لِسُلَيْمَانَ، وَتَسْبِيحِ الْجِبَالِ وَتَلْيِينِ الْحَدِيدِ لِدَاوُدَ، وَخُرُوجِ النَّاقَةِ مِنَ الصَّخْرَةِ لِصَالِحٍ، وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى لِعِيسَى، وَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ وَنَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ الأَصَابِعِ وَكَلامِ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ وَشَهَادَةِ الضَبِّ وَالذِّئْبِ، وَتَسْبِيحِ الْحَصَى فِي الْكَفِّ لِسِيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى جَمِيعِ إِخْوَانِهِ الأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، كُلُّهُمْ دَعَوْا إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [سُورَةَ الأَنْبِيَاء/25].

وَقَوْلُهُ: «مُعْتَقِدِينَ» فِيهِ نَفْيٌ لِلنِّفَاقِ وَتَحْقِيقٌ لِلإِيْمَانِ، لأِنَّ النِّفَاقَ يَجْتَمِعُ مَعَ الاِعْتِرَافِ اللَّفْظِيِّ لَكِنْ لا يَكُونُ مُقْتَرِنًا بِالاِعْتِرَافِ الْقَلْبِيِّ عَلَى وَجْهِ الْجَزْمِ [النِّفَاقُ نَوْعَانِ نِفَاقٌ فِي الإِيْمَانِ كَالَّذِي يُظْهِرُ الإِسْلامَ وَيُخْفِي الْكُفْرَ فِي قَلْبِهِ كَأَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ شَكٌّ بِصِحَّةِ الإِسْلامِ فَهَذَا مُنَافِقٌ وَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾. وَنِفَاقٌ فِي الأَعْمَالِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا اِئْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ وَفِي رِوَايَةٍ «وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ»، وَالإِيْمَانُ لُغَةً التَّصْدِيقُ وَشَرْعًا تَصْدِيقٌ مَخْصُوصٌ لِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم]، فَالإِيْمَانُ وَالتَّصْدِيقُ وَالاِعْتِقَادُ يَكُونُ كُلُّ ذَلِكَ بِالْقَلْبِ، قَالَ تَعَالَى فِيمَنْ أَقَرَّ بِاللِّسَانِ دُونَ الْقَلْبِ: ﴿قَالُوا ءَامَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ﴾ [سُورَةَ الْمَائِدَة/41] وَفِي قَوْلِهِ «مُعْتَقِدِينَ» بَيَانُ أَنَّ الْقَوْلَ وَحْدَهُ لا يَكْفِي عِنْدَ اللَّهِ بِدُونِ اعْتِقَادٍ [الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ لِبُرَيْدَةَ حِينَ أَرْسَلَهُ إِلَى الْيَمَنِ وَكَانُوا عَلَى غَيْرِ الإِسْلامِ: «اُدْعُهُم إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ فَإِذَا عَرَفُوهُ»، مَعْنَاهُ هُمْ مَا عَرَفُوا اللَّهَ إِنَّمَا بِأَلْسِنَتِهِمْ يَعْتَرِفُونَ لَفْظًا بِوُجُودِ اللَّهِ، هَذَا مَعْنَاهُ الْمَعْرِفَةُ بِلاَ إِذْعَانٍ لاَ تَنْفَعُ. الإِذْعَانُ رِضَى النَّفْسِ]، فَمَنْ نَطَقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَلَمْ يُذْعِنْ فِي نَفْسِهِ بِمَعْنَاهُمَا فَهُوَ عِنْدَنَا مُسْلِمٌ أَمَّا عِنْدَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ.

وَقَوْلُهُ: «بِتَوْفِيقِ اللَّهِ» لأِنَّ الْوُصُولَ إِلَى تَوْفِيقِ اللَّهِ يَكُونُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَهِدَايَتِهِ [التَّوْفِيقُ: خَلْقُ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّاعَةِ وَيُقَابِلُهُ الْخِذْلانُ فَمَنْ خَلَقَ اللَّهُ فِيهِ الْقُدْرَةَ عَلَى الطَّاعَةِ فَفَعَلَهَا يُقَالُ فِيهِ مُوَفَّقٌ، وَمَنْ خَلَقَ اللَّهُ فِيهِ الْقُدْرَةَ عَلَى الْمَعْصِيَّةِ فَفَعَلَهَا يُقَالُ فِيهِ مَخْذُولٌ. وَلَيْسَ مَعْنَى التَّوْفِيقِ مُرَادِفًا لِلإِعَانَةِ لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعِينُ الْعِبَادَ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِ] وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى مَا قَالَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [سُورَةَ الْعَنْكَبُوت/69] أَيْ إِلَى تَوْفِيقِنَا وَهِدَايَتِنَا.

وَمَعْنَى: «الْوَاحِدِ» فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فُسِّرَ بِأَنَّهُ الَّذِي لا شَرِيكَ لَهُ فِي ذَاتِهِ وَلا فِي صِفَاتِهِ وَلا فِي أَفْعَالِهِ [اللَّهُ لَيْسَ لَهُ ثَانٍ وَلَيْسَ مُرَّكَبًا مُؤَلَّفًا مِنْ أَجْزَاءٍ كَالأَجْسَامِ، فَالْعَرْشُ وَمَا دُونَهُ مِنَ الأَجْرَامِ مُؤَلَّفٌ مِنْ أَجْزَاءٍ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ مُنَاسَبَةٌ وَمُشَابَهَةٌ، فَلاَ نَظِيرَ لَهُ تَعَالَى فِي ذَاتِهِ وَلاَ فِي صِفَاتِهِ وَلاَ فِي أَفْعَالِهِ].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلا شَىْءَ مِثْلُهُ.

الشَّرْحُ: أَيْ لا يُوجَدُ شَىْءٌ يُمَاثِلُهُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ أَوْ بَعْضِ الْوُجُوهِ. لأِنَّ الْمُمَاثَلَةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَهِيَ الْمُرَادَةُ عِنْدَ الإِطْلاقِ، وَإِمَّا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَهِيَ الْمُرَادَةُ بِبَعْضِ الْعِبَارَاتِ، وَهِيَ أَنْ يُقَالَ فُلانٌ مِثْلُ فُلانٍ إِذَا أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ يُمَاثِلُهُ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ وَهَذِهِ مُمَاثَلَةٌ جُزْئِيَّةٌ، أَمَّا الإِطْلاقُ الْوَارِدُ بِحَيْثُ يَسُدُّ مَسَدَّهُ يُقَالُ فُلانٌ مِثْلُ فُلانٍ وَهَذِهِ مُمَاثَلَةٌ مُطْلَقَةٌ. وَقَدْ تُطْلَقُ الْمُمَاثَلَةُ عَلَى مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْمَخْلُوقِ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْخَالِقِ فَلا يُقَالُ اللَّهُ يُمَاثِلُ كَذَا فِي كَذَا. أَمَّا الاِتِّفَاقُ بِاللَّفْظِ فَلَيْسَ ذَلِكَ مُمَاثَلَةً، فَلَيْسَ مِنَ الْمُمَاثَلَةِ أَنْ يُقَالَ عَنِ اللَّهِ حَيٌّ وَعَنِ الْمَخْلُوقِ حَيٌّ، أَوِ اللَّهُ مَوْجُودٌ وَفُلانٌ مَوْجُودٌ، فَاللَّهُ تَعَالَى وُجُودُهُ لَيْسَ كَوُجُودِنَا الْحَادِثِ، وُجُودُهُ بِذَاتِهِ لا يَحْتَاجُ إِلَى شَىْءٍ، وَكُلُّ شَىْءٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ. فَالْمِثْلِيَّةُ الْمَنْفِيَّةُ عَنِ اللَّهِ الْمِثْلِيَّةُ فِي الْمَعْنَى، فَبَطَلَ قَوْلُ الْفَلاسِفَةِ إِنَّهُ لا يُقَالُ عَنِ اللَّهِ حَيٌّ وَلا دَائِمٌ وَلا قَادِرٌ وَلا سَمِيعٌ وَلا بَصِيرٌ وَلا مُتَكَلِّمٌ، وَإِنْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي الْمُمَاثَلَةَ لأِنَّ هَذَا لَيْسَ مُمَاثَلَةً بَلْ اتِّفَاقٌ بِاللَّفْظِ [قَالَ الشَّيْخُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا قُلْنَا اللَّهُ عَالِمٌ وَفُلاَنٌ عَالِمٌ هَذَا يُقَالُ فِيهِ تَوَافُقٌ فِي اللَّفْظِ وَلاَ يُقَالُ فِيهِ اشْتِرَاكٌ. قَبِيحٌ أَنْ يُقَالَ عَنْ هَذَا اشْتِرَاكٌ]، فَاللَّهُ تَعَالَى يُطْلَقُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْعِبَارَةُ: مَوْجُودٌ، حَيٌّ، سَمِيعٌ، بَصِيرٌ، مُتَكَلِّمٌ، مُرِيدٌ، عَالِمٌ، وَيُطْلَقُ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى غَيْرِهِ لأِنَّ هَذَا اتِّفَاقٌ فِي اللَّفْظِ لا فِي الْمَعْنَى فَلا يَقْتَضِي الْمُمَاثَلَةَ وَالْمُشَارَكَةَ.

تَنْبِيهٌ: الْمِثْلانِ هُمَا الأَمْرَانِ الَّذِي يَسُدُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَسَدَّ الآخَرِ، وَهَذَا فِي الإِطْلاقِ الْغَالِبِ، إِذَا كَانَ هُنَاكَ عَالِمَانِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَقُومُ مَقَامَ الآخَرِ يُقَالُ عَنْهُمَا مِثْلانِ.

فَائِدَةٌ: عِلْمُ التَّوْحِيدِ يُقَالُ لَهُ عِلْمُ الْكَلامِ وَذَلِكَ لأِنَّ أَكْثَرَ مَا يُبْحَثُ فِيهِ فِي الْمَاضِي مَسْئَلَةُ الْكَلامِ لأِنَّهُ صَارَتْ مَعَارِكُ كَبِيرَةٌ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَ الْخُلَفَاءِ الْعَبَّاسِيِّينَ أَخَذَ بِكَلامِهِمْ فَصَارَ يَقُولُ الْقُرْءَانُ مَخْلُوقٌ وَمَنْ لَمْ يَقُلِ الْقُرْءَانُ مَخْلُوقٌ يُعَذِّبُهُ وَذَلِكَ مِمَّا أَخَذَهُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَلَمْ يَأْخُذْ عَنْهُمْ غَيْرَهَا كَالْقَوْلِ بِخَلْقِ الأَفْعَالِ.

الْمُعْتَزِلَةُ كَانُوا يَقُولُونَ بِنَفْيِ الْكَلامِ الذَّاتِيِّ [الْمُعْتَزِلَةُ يَقُولُونَ اللَّهُ لَيْسَ مُتَكَلِّمًا بِكَلامٍ قَائِمٍ بِذَاتِهِ إِنَّمَا هُوَ مُتَكَلِّمٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ خَالِقُ الْكَلامِ فِي غَيْرِهِ كَالشَّجَرَةِ الَّتِي كَانَ مُوسَى عِنْدَهَا فَسَمِعَ ذَلِكَ الْكَلاَمَ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ فِي الشَّجَرَةِ وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ مُتَكَلِّمًا بِكَلامٍ قَائِمٍ بِذَاتِهِ فَلا]، وَالْحَشَوِيَّةُ وَهُمُ الْمُجْسِمَّة كَابْنِ تَيْمِيَةَ وَأَسْلافِهِ وَمَنْ تَبِعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، هَؤُلاءِ يَقُولُونَ اللَّهُ لَهُ كَلامٌ وَكَلامُهُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ تَحْدُثُ ثُمَّ تَنْقَضِي وَلا يَزَالُ عَلَى هَذَا الْحَالِ، فَبِزَعْمِهِمْ هَذَا جَعَلُوهُ مِثْلَ الْبَشَرِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ [الْحَشَوِيَّةُ هُمُ الْمُشَبِّهَةُ الْقُدَمَاءُ، الْمُشَبِّهَةُ يَقُولُونَ اللَّهُ مُتَكَلِّمٌ بِكَلامٍ هُوَ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ يَحْدُثُ فِي ذَاتِهِ ثُمَّ يَنْقَطِعُ ثُمَّ يَحْدُثُ ثُمَّ يَنْقَطِعُ وَمِنْهُمُ ابْنُ تَيْمِيَةَ لَعَنَهُ اللَّهُ. أَمَّا أَهْلُ الْحَقِّ فَقَالُوا الْحَادِثُ هُوَ الَّذِي تَقُومُ بِهِ صِفَاتٌ تَحْدُثُ ثُمَّ تَنْقَضِي ثُمَّ تَحْدُثُ ثُمَّ تَنْقَضِي وَهَكَذَا وَالَّذِي يَقُومُ بِهِ ذَلِكَ الْحَادِثُ لاَ يَكُونُ أَزَلِيًّا خَالِقًا لِغَيْرِهِ وَهَذَا وَجْهُ فَسَادِ رَأْيِ ابْنِ تَيْمِيَةَ لَعَنَهُ اللَّهُ وَزَادَ بَعْضُهُمُ الْقَوْلَ بِأَنَّ كَلامَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ صِفَتُهُ حَالٌّ فِي الْمَصَاحِفِ وَمَعَ ذَلِكَ هُوَ قَدِيْمٌ لأَنَّ كَلامَ اللَّهِ تَعَالَى مَسْمُوعٌ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ﴾ وَلَيْسَ احْتِجَاجُهُمْ هَذَا صَوَابًا لأَنَّ اللَّهَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ ﴿حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ﴾ أَيْ الدَّالَّ عَلَى كَلامِ اللَّهِ وَهُوَ الْقُرْءَانُ بِمَعْنَى اللَّفْظِ الْمُنَزَّلِ أَمَّا الْكَلامُ الذَّاتِيُّ فَمِنْ أَيْنَ يَسْمَعُونَهُ وَلَوْ كَانُوا يَسْمَعُونَ الْكَلامَ الذَّاتِيَّ لَكَانُوا مِثْلَ مُوسَى الْكَلِيمِ عَلَيْهِ السَّلامُ وَلَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ مُوسَى وَبَيْنَ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُسْمِعُهُمُ الرَّسُولُ وَيَتْلُو عَلَيْهِمُ الْقُرْءَانَ لِغَرَضِ أَنْ يُؤْمِنُوا وَيُصَدِّقُوا].

وَأَهْلُ الْحَقِّ ثَبَتُوا عَلَى مُعْتَقَدِهِمْ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ بِكَلامٍ هُوَ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلا صَوْتٍ، وَأَنْزَلَ كُتُبًا عَلَى بَعْضِ أَنْبِيَائِهِ تُقْرَأُ بِحُرُوفٍ هِيَ عِبَارَاتٌ عَنْ كَلامِهِ الذَّاتِيِّ الَّذِي لَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا، لأِنَّهُ لَوْلا هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْكَلامِ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ هَذَا اللَّفْظِ الْمُنَزَّلِ وَالْكَلامِ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ الْقَائِمِ بِذَاتِ اللَّهِ لَكَانَ مَنْ سَمِعَ هَذَا اللَّفْظَ كَلِيمَ اللَّهِ كَمَا أَنَّ مُوسَى كَلِيمُ اللَّهِ وَهَذَا لا يَجُوزُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ﴾ [سُورَةَ التَّوْبَة/6] أَيْ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهَ بِأَنَّهُ إِنِ اسْتَجَارَهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِيَسْمَعَ الْقُرْءَانَ أَنْ يُؤَمِّنَهُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يُسْلِمْ يُبَلِّغْهُ مَأْمَنَهُ أَيْ نَاحِيَتَهُ.

ثُمَّ عِلْمُ الْكَلامِ عِلْمٌ يُقَرِّرُهُ أَهْلُ الْحَقِّ، وَلَيْسَ مَذْمُومًا كَمَا تَظُنُّ الْمُجَسِّمَةُ [قَدْ يَقُولُ قَائِلٌ فِي النَّهْيِ عَنِ الاِشْتِغَالِ بِعِلْمِ الْكَلامِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «تَفَكَّرُوا فِي الْخَلْقِ وَلاَ تَفَكَّرُوا فِي الْخَالِقِ» مُعْتَبِرًا أَنَّ مُرَادَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنْ يَنْهَى عَنِ الاِشْتِغَالِ بِعِلْمِ الْكَلامِ، الرَّدُّ هُوَ أَنْ نَقُولَ إِنَّهُ وَرَدَ النَّهْيُّ عَنِ التَّفَكُّرِ فِي الْخَالِقِ مَعَ الأَمْرِ بِالتَّفَكُّرِ فِي الْخَلْقِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ النَّظَرَ وَالتَّأَمُّلَ فِي مَلَكُوتِ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ لِيُسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ صَانِعَ الْعَالَمِ لا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ خَلْقِهِ فَمَنْ لَمْ يَعْرِفِ الْخَالِقَ مِنَ الْمَخْلُوقِ كَيْفَ يَعْمَلُ بِهَذَا الأَثَرِ]، فَإِنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ [وَهُمْ أَهْلُ الْقُرُونِ الثَّلاَثَةِ الأُولَى] مِنْهُمْ مَنِ اشْتَغَلَ بِهِ، تَأْلِيفًا وَتَعْلِيمًا وَتَفْهِيمًا، وَمِنْهُمْ مَنْ عَرَفَهُ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِهِ تَأْلِيفًا وَتَفْهِيمًا، لأِنَّ الْحَاجَةَ لِلتَّأْلِيفِ فِي أَيَّامِهِ كَانَتْ أَقَلَّ، ثُمَّ اشْتَدَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى الاِشْتِغَالِ بِهِ تَأْلِيفًا وَتَفْهِيمًا، وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ مَا يُخَالِفُ شَرْعَ اللَّهِ بَلْ هُوَ مَحْضُ الدِّينِ [وَمَوْضُوعُ عِلْمِ التَّوْحِيدِ النَّظَرُ فِي الْخَلْقِ لِمَعْرِفَةِ الْخَالِقِ]، وَهُوَ أَشْرَفُ عُلُومِ الدِّينِ، لأِنَّهُ يُعْرَفُ بِهِ مَا يَجِبُ لِلَّهِ مِنَ الصِّفَاتِ الأَزَلِيَّةِ الَّتِي افْتَرَضَ اللَّهُ مَعْرِفَتَهَا عَلَى عِبَادِهِ، وَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَى اللَّهِ مِنَ النَّقَائِصِ، وَمَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ مَعَ مَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ النُّبُوَّةِ وَأُمُورِ الآخِرَةِ. وَقَدْ أَلَّفَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي عِلْمِ الْكَلامِ خَمْسَ رَسَائِلَ [وَهِيَ الْفِقْهُ الأَكْبَرُ وَالْفِقْهُ الأَبْسَطُ وَالْوَصِيَّةُ وَالْعَالِمُ وَالْمُتَعَلِّمُ وَرِسَالَةُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ الَّتِي أَثْبَتَهَا الْحَافِظُ الزَّبِيدِيُّ فِي شَرْحِ الإِحْيَاءِ]، وَكَانَ يَذْهَبُ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى الْبَصْرَةِ لِمُنَاظَرَةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْمُشَبِّهَةِ وَالْمَلاحِدَةِ حَتَّى إِنَّهُ تَرَدَّدَ إِلَيْهِمْ نَيِّفًا وَعِشْرِينَ مَرَّةً، وَكَذَا الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُتْقِنُ هَذَا الْعِلْمَ، وَالَّذِي ذَمَّهُ لَيْسَ هَذَا الْعِلْمَ بَلْ كَلامَ أَهْلِ الأَهْوَاءِ وَهُمْ مَنْ خَرَجَ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ كالْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ وَمَا أَشْبَهَهُمْ [الْمُعْتَزِلَةُ عِشْرُونَ فِرْقَةً وَالْخَوَارِجُ عِشْرُونَ وَالرَّوَافِضُ اثْنَتَانِ وَعِشْرونَ وَالْمُرْجِئَةُ خَمْسُ فِرَقٍ وَالنَّجَّارِيَّةُ ثَلاَثُ فِرَقٍ وَالْمُشَبِّهَةُ وَالْجَبْرِيَّةُ] فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «لأَنْ يَلْقَى اللَّهَ الْعَبْدُ بِكُلِّ ذَنْبٍ مَا سِوَى الشِّرْكِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَلْقَاهُ بِشَىْءٍ مِنَ الأَهْوَاءِ».

وَالأَهْوَاءُ جَمْعُ هَوًى وَهُوَ مَا مَالَتْ إِلَيْهِ نُفُوسُ الْمُبْتَدِعَةِ الْخَارِجِينَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ، وَلَيْسَ مُرَادُ الشَّافِعِيِّ بِالأَهْوَاءِ هَذَا الْعِلْمَ الَّذِي هُوَ فَرْضٌ تَعَلُّمُهُ. كَذَلِكَ اشْتَغَلَ بِهَذَا الْعِلْمِ عُمَرُ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ وَعَمِلَ رِسَالَةً [فِي الرَّدِّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ] يُبَيِّنُ فِيهَا مَذْهَبَ أَهْلِ الْحَقِّ وَيَدْحَضُ بِهَا رَأْيَ الْمُعْتَزِلَةِ، كَذَلِكَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ الَّذِي هُوَ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ الإِمَامُ مَالِكٌ [لَهُ رِسَالَةٌ مَخْطُوطَةٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ] وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ. فَلا يَلْحَقُ شَىْءٌ مِنْ ذَمِّ هَذَا الْعِلْمِ الَّذِي يَشْتَغِلُ بِهِ أَهْلُ السُّنَّةِ، وَقَدْ أَحْسَنَ فِي ذَلِكَ مَنْ قَالَ:

عَابَ الْكَلامَ أُنَاسٌ لا عُقُولَ لَهُمْ وَمَا عَلَيْهِ إِذَا عَابُوهُ مِنْ ضَرَرِر

مَا ضَرَّ شَمْسَ الضُّحَى فِي الأُفْقِ طَالِعَةً أَنْ لا يَرَى ضَوْءَهَا مَنْ لَيْسَ ذَا بَصَرِ

وَالإِمَامُ أَحْمَدُ لَيْسَ كَمَا يَظُنُّ الْمُشَبِّهَةُ عَنْهُ حَيْثُ قَالُوا: إِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ كَلامَ اللَّهِ حَرْفٌ وَصَوْتٌ مَذْهَبُ أَحْمَدَ، بَلْ هُوَ لَمْ يَكُنْ يَرَى أَنْ يُطْلَقَ هَذَا اللَّفْظُ «الْقُرْءَانُ مَخْلُوقٌ» وَلا أَنْ يُقَالَ «لَفْظِي بِالْقُرْءَانِ مَخْلُوقٌ» لأِنَّهُ قَدْ يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ أَنَّ الْقُرْءَانَ مَخْلُوقٌ أَيِ الْكَلامَ الذَّاتِيَ مَخْلُوقٌ، أَيْ وَصْفَ الْكَلامِ الذَّاتِيِّ بِالْمَخْلُوقِيَّةِ، أَمَّا أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَتَكَلَّمُ بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ قَائِمٍ بِذَاتِهِ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَحَذَرًا مِنْ ذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ الأَمْرَيْنِ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلا شَىْءَ يُعْجِزُهُ.

الشَّرْحُ: هَذَا فِيهِ رَدٌّ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُقَ مَقْدُورَ الْعَبْدِ لأِنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُ الْقُدْرَةَ عَلَيْهِ فَصَارَ عَاجِزًا أَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَكَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا لا يَجُوزُ الاِخْتِلافُ فِي تَكْفِيرِهِمْ. وَقَدِ الْتَبَسَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ هَذَا فَيَقُولُونَ الْمُعْتَزِلَةُ لا يُكَفَّرُونَ عَلَى الْقَوْلِ الأَصَحِّ [الْمُعْتَزِلَةُ يَعْتَقِدُونَ جُمْلَةً مِنَ الْعَقَائِدِ شَذُّوا فِيهَا عَنْ مُعْتَقَدِ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْهَا قَوْلُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ مَا شَاءَ حُصُولَ الْمَعَاصِي وَالشُّرُورِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي بِغَيْرِ مَشِيئَةِ اللَّهِ وَمِنْهَا قَوْلُهُمْ بِأَنَّ الإِنْسَانَ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ الاِخْتِيَارِيَّةَ بِقُدْرَةٍ أَعْطَاهَا اللَّهُ إِيَّاهَا وَلَيْسَ اللَّهُ يَخْلُقُهَا وَمِنْهَا قَوْلُهُمْ بِنَفْيِ صِفَاتِ اللَّهِ فَهُمْ يَقُولُونَ عَالِمٌ بِذَاتِهِ لاَ بِعِلْمٍ قَادِرٌ بِذَاتِهِ لاَ بِقُدْرَةٍ وَهَكَذَا وَهَذِهِ الأَقْوَالُ الثَّلاثَةُ يَجِبُ تَكْفِيرُهُمْ بِهَا وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ لاَ يُكَفَّرُونَ بِهَا فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ أَنْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قَالَ: «صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي لَيْسَ لَهُمَا نَصِيبٌ فِي الإِسْلامِ الْقَدَرِيَّةُ وَالْمُرْجِئَةُ»]، فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِتَرْكِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ تَكْفِيرَ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ هَؤُلاءِ وَمَنْ كَانَ عَلَى شَاكِلَتِهِمْ [وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يُكَفِّرُوهُمْ فَقَلِيلٌ لا يُؤْخَذُ بِقَوْلِهِمْ وَالصَّوَابُ الَّذِي لا مَحِيدَ عَنْهُ مَا قَالَهُ الإِمَامُ الْحَافِظُ الْبُلْقِينِيُّ «إِنَّ مَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ قَضِيَّةٌ تَقْتَضِي تَكْفِيرَهُ فَلا تَصِحُّ الصَّلاةُ خَلْفَهُ» وَغَلِطَ مَنْ عَمَّمَ عَدَمَ تَكْفِيرِ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَطْلَقَهُ بِلا تَفْصِيلٍ فَقَالُوا: تَصِحُّ الصَّلاَةُ خَلْفَ الْمُعْتَزِلِيِّ وَلَيْسَ هَذَا اعْتِقَادُ الشَّافِعِيِّ لأَنَّهُ كَفَّرَ حَفْصًا الْفَرْدَ وَهُوَ مُعْتَزِلِيٌّ ثَبَتَ عَلَيْهِ قَضِيَّةٌ مُعَيَّنَةٌ تَقْتَضِي تَكْفِيرَهُ].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلا إِلَهَ غَيْرُهُ.

الشَّرْحُ: الإِلَهُ مَنْ لَهُ الإِلَهِيَّةُ وَهِيَ قُدْرَةُ الإِبْدَاعِ وَالاِخْتِرَاعِ [وَهِيَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْخَلْقِ وَهَذَا التَّفْسِيرُ فِيهِ رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ الاِخْتِيَارِيَّةَ]، فَلا يُطْلَقُ لَفْظُ الإِلَهِ بِحَسَبِ الأَصْلِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ اسْتَعَارُوا هَذَا اللَّفْظَ وَأَطْلَقُوا عَلَى مَعْبُودَاتِهِمْ كَلِمَةَ الإِلَهِ. هَكَذَا ذَكَرَ الْفَيُّومِيُّ اللُّغَوِيُّ [وَهُوَ فَقِيهٌ] فِي كِتَابِهِ «الْمِصْبَاحُ الْمُنِيرُ» حَيْثُ قَالَ: «الإِلَهُ الْمَعْبُودُ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثُمَّ اسْتَعَارَهُ الْمُشْرِكُونَ لِمَا عَبَدُوهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى» اهـ، وَأَمَّا الْمُبَرِّدُ فَقَالَ: «الإِلَهُ مَنْ لَهُ الإِلَهِيَّةُ، وَالإِلَهِيَّةُ قُدْرَةُ الإِبْدَاعِ وَالاِخْتِرَاعِ» اهـ. فَلا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الإِلَهُ هُوَ مَنْ يُعْبَدُ بِحَقٍّ أَوْ بِبَاطِلٍ. وَقَدْ عَدَّ الإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ الإِلَهَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ. وَكُلُّ هَذَا حُجَّةٌ عَلَى هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الإِلَهَ مَعْنَاهُ الْمَعْبُودُ إِنْ كَانَ بِحَقٍّ أَوْ بِبَاطِلٍ. أَمَّا إِذَا قُيِّدَ فَلا إِشْكَالَ، فَإِذَا قِيلَ لِلْكُفَّارِ هَذَا إِلَهُهُمْ بِمَعْنَى هَذَا مَعْبُودُهُمْ لا بِمَعْنَى الْمُوَافَقَةِ لَهُمْ بَلْ بِمَعْنَى الذَّمِّ لَهُمْ [كُفَّارُ قُرَيْشٍ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم كَانُوا يَعْبُدُونَ الأَحْجَارَ ثُمَّ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ إِذَا وَجَدَ حَجَرًا ءَاخَرَ أَحْلَى مَنْظَرًا يَرْمِي ذَاكَ وَيَعْبُدُ هَذَا، فِي هَذَا نَزَلَتِ الآيَةُ «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ» كَمَا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَدِيْمٌ بِلا ابْتِدَاءٍ [مِنَ النَّاسِ مَنْ يُنْكِرُ إِطْلاقَ الْقَدِيْمِ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ مَرْدُودٌ إِجْمَاعًا وَبِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ إِذَا أَرَادَ دُخُولَ الْمَسْجِدِ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيْمِ وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيْمِ» فَإِذَا جَازَ إِطْلاقُ الْقَدِيْمِ عَلَى سُلْطَانِ اللَّهِ جَازَ إِطْلاَقُهُ عَلَى الذَّاتِ].

الشَّرْحُ: الْقَدِيْمُ مَعْنَاهُ الَّذِي لَيْسَ لِوُجُودِهِ ابْتِدَاءٌ هَذَا مَعْنَى الْقَدِيْمِ إِذَا أُطْلِقَ عَلَى اللَّهِ وَيُرَادِفُهُ الأَزَلِيُّ ، أَمَّا إِذَا أُطْلِقَ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ فَهُوَ مَا تَوَالَتْ عَلَيْهِ السِّنُونَ الطِّوَالُ، وَقَدْ يُقَالُ مَا تَقَادَمَ عَهْدُهُ فَيُقَالُ بِنَاءٌ قَدِيْمٌ [يَجُوزُ إِطْلاقُ الأَزَلِيِّ لُغَةً عَلَى مَا تَقَادَمَ عَهْدُهُ، يَقُولُ صَاحِبُ الْقَامُوسِ الْفَيْرُوزءَابَادِي: «وَالْهَرَمَانِ بِنَاءَانِ أَزَلِيَّانِ بِمِصْرَ»، وَيَقُولُ شَارِحُ الْقَامُوسِ مُرْتَضَى الزَّبِيدِيُّ حِينَ ذَكَرَ قَرْيَةً صَغِيرَةً «بُلَيْدَةٌ أَزَلِيَّةٌ»].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: دَائِمٌ بِلا انْتِهَاءٌ [وَإِنَّمَا قَالَ دَائِمٌ بِلا انْتِهَاءٍ لِيُعْلَمَ أَنَّ دَوَامَهُ تَعَالَى لَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِالزَّمَانِ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّه لَوْ لَمْ يَكُنْ قَدِيْمًا لَكَانَ حَادِثًا وَلَوْ كَانَ حَادِثًا لاَفْتَقَرَ إِلَى مُحْدِثٍ وَالْحُدُوثُ عَلَيْهِ مُحَالٌ].

الشَّرْحُ: هَذِهِ عِبَارَةٌ عَنْ بَقَائِهِ تَعَالَى وَهُوَ بَقَاءٌ لِذَاتِهِ لَيْسَ بَقَاءً بِغَيْرِهِ كَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَلا يَلْحَقُهُ عَدَمٌ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لا يَفْنَى وَلا يَبِيدُ [لأَنَّ الْبَارِئَ جَلَّ وَعَلا وَاجِبُ الْوُجُودِ وَالْبَقَاءِ فَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْعَدَمُ وَالْفَنَاءُ، وَالْبَقَاءُ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَزَلْ بَاقِيًا وَلا يَزَالُ كَذَلِكَ. قَالَ بَعْضُهُمْ: جَمَعُوا بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ تَأْكِيدًا لِدَوَامِ بَقَاءِهِ تَعَالَى].

الشَّرْحُ: هَذَا تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ بَاقٍ، فَلا يَلْحَقُ الْقَدِيْمَ فَنَاءٌ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلا يَكُونُ إِلاَّ مَا يُرِيدُ.

الشَّرْحُ: أَيْ لا يَدْخُلُ فِي الْوُجُودِ مِنَ الأَعْيَانِ مَهْمَا صَغُرَتْ وَالْحَرَكَاتِ وَالسُّكُونِ وَالْخَوَاطِرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سِوَى اللَّهِ إِلاَّ بِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ [إِنْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ مُرِيدًا كَيْفَ يُخَصِّصُ غَيْرَهُ بِالْوُجُودِ بَدَلَ الْعَدَمِ وَبِصِفَةٍ دُونَ أُخْرَى فَوُجُودُ الْعَالَمِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُودِ مُخَصِّصٍ لَهُ خَصَّصَهُ بِالْوُجُودِ بَدَلَ الْعَدَمِ وَهُوَ اللَّهُ فَتَخْصِيصُ اللَّهِ لِلْعَالَمِ بِالْوُجُودِ بَدَلَ الْعَدَمِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِالإِرَادَةِ، وَلِيُعْلَمْ أَنَّ الإِرَادَةَ وَهِيَ الْمَشِيئَةُ وَاجِبَةٌ للَِّهِ تَعَالَى وَهِيَ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ يُخَصِّصُ اللَّهُ بِهَا الْجَائِزَ الْعَقْلِيَّ بِالْوُجُودِ بَدَلَ الْعَدَمِ وَبِصَفَةٍ دُونَ أُخْرَى وَبِوَقْتٍ دُونَ ءَاخَرَ]، فَلا فَرْقَ بَيْنَ مَا كَانَ خَيْرًا مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادِ وَمَا كَانَ مِنْهَا شَرًّا لأِنَّ الْكُلَّ دَاخِلٌ فِي الإِمْكَانِ [وَشُمُولُ الْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ لائِقٌ بِجَلالِ اللَّهِ لأَنَّهُ لَوْ كَانَ يَقَعُ فِي مِلْكِهِ مَا لا يَشَاءُ لَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلُ الْعَجْزِ وَالْعَجْزُ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ]، وَلَوْ كَانَتْ إِرَادَةُ اللَّهِ خَاصَّةً بِالْخَيْرِ مِنْهَا لاقْتَضَى ذَلِكَ مُخَصِّصًا خَصَّصَ إِرَادَتَهُ بِالْخَيْرِ، وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْمُخَصِّصِ لأِنَّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ مُسْتَوِيَانِ فِي الإِمْكَانِ.

وَالإِرَادَةُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَشِيئَةِ لَيْسَ بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ، فَإِرَادَةُ الْمَحَبَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/185] أَيْ يُحِبُّ لَكُمُ الْيُسْرَ لأِنَّهُ مَا جَعَلَ فِي دِينِكُمْ مِنْ حَرَجٍ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لا تَبْلُغُهُ الأَوْهَامُ [مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى اللَّطِيفُ أَيِ الَّذِي احْتَجَبَ عَنِ الأَوْهَامِ فَلا تُدْرِكُهُ فَاللَّهُ تَعَالَى لا تَبْلُغُهُ تَصَوُّرَاتُ الْعِبَادِ. كَذَلِكَ الْبَاطِنُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَمَعْنَاهُ عَلَى مَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الَّذِي يَعْلَمُ حَقَائِقَ الأُمُورِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ الَّذِي لا تُدْرِكُهُ الأَوْهَامُ أَيْ لا تَبْلُغُهُ تَصَوُّرَاتُ الْعِبَادِ فَحَقِيقَةُ اللَّهِ لا يَصِلُ إِلَيْهِ أَحَدٌ مَهْمَا شَغَلَ فِكْرَهُ لِذَلِكَ نُهِينَا عَنِ التَّفَكُّرِ فِي ذَاتِ اللَّهِ وَأُمِرْنَا بِالتَّفَكُّرِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ].

الشَّرْحُ: الأَوْهَامُ جَمْعُ وَهْمٍ، أَيْ لا تَتَصَوَّرُهُ أَوْهَامُ الْخَلائِقِ أَيْ تَصَوُّرَاتُهُمْ، فَالإِنْسَانُ وَهْمُهُ يَدُورُ حَوْلَ مَا أَلِفَهُ مِنَ الشَّىْءِ الْمَحْسُوسِ الَّذِي لَهُ حَدٌّ وَشَكْلٌ وَلَوْنٌ وَاللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ كَذَلِكَ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلا تُدْرِكُهُ الأَفْهَامُ [قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾ قَالَ أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ: إِلَيْهِ يَنْتَهِي الْفِكْرُ أَيِ الأَفْكَارُ عَاجِزَةٌ عَنِ الإِحَاطَةِ بِهِ مَعْنَاهُ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ الأَفْكَارُ].

الشَّرْحُ: أَيْ لا تُدْرِكُهُ الْعُقُولُ أَيْ لا تُحِيطُ بِهِ لأِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي الْحُدُوثَ وَالْحُدُوثُ مُحَالٌ عَلَيْهِ وَهُوَ كَمَا قَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ: «مَهْمَا تَصَوَّرْتَ بِبَالِكَ فَاللَّهُ بِخِلافِ ذَلِكَ» [إِنْ تَصَوَّرْتَهُ جِسْمًا كَثِيفًا فَهُوَ بِخِلافِ ذَلِكَ وَإِنْ تَصَوَّرْتَهُ جِسْمًا لَطِيفًا فَهُوَ بِخِلافِ ذَلِكَ وَإِنْ تَصَوَّرْتَهُ مِنَ الأَجْرَامِ الْعُلْوِيَّةِ فَهُوَ بِخِلافِ ذَلِكَ وَإِنْ تَصَوَّرْتَهُ مِنَ الأَجْرَامِ السُّفْلِيَّةِ فَهُوَ بِخِلافِ ذَلِكَ]، رَوَى ذَلِكَ عَنْهُ الْحَافِظُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي تَارِيخِ بَغْدَادَ بِالإِسْنَادِ، وَرَوَى ذَلِكَ أَيْضًا أَبُو الْفَضْلِ عَبْدُ الْوَاحِدِ بنُ عَبْدِ الْغَنِيِّ التَّمِيمِيُّ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ، وَكَانَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ وَأَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ مُتَعَاصِرَيْنِ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلا يُشْبِهُ الأَنَامَ [وَالْبُرْهَانُ النَّقْلِيُّ لِوُجُوبِ مُخَالَفَتِهِ لِلْحَوَادِثِ ءَايَاتٌ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ وَهُوَ أَوْضَحُ دَلِيلٍ نَقْلِيٍّ جَاءَ فِي الْقُرْءَانِ لأَنَّ هَذِهِ الآيَةَ تُفْهِمُ التَّنْزِيهَ الْكُلِّيَّ لأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَكَرَ لَفْظَ شَىْءٍ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَالنَّكِرَةُ إِذَا أُورِدَتْ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَهُوَ لِلشُّمُولِ، فَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى نَفَى بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ عَنْ نَفْسِهِ مُشَابَهَةَ الأَجْرَامِ وَالأَجْسَامِ وَالأَعْرَاضِ، فَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يُقَيِّدْ نَفْيَ الشَّبَهِ عَنْهُ فِي هَذِهِ الآيَةِ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَوَادِثِ بَلْ شَمَلَ نَفْيَ مُشَابَهَتِهِ لِكُلِّ أَفْرَادِ الْحَادِثَاتِ].

الشَّرْحُ: الأَنَامُ الْخَلْقُ، وَالشَّبِيهُ مَا يُشَارِكُ غَيْرَهُ وَلَوْ فِي وَجْهٍ وَاحِدٍ، فَنَفْيُ الْمِثْلِ عَنْهُ يَقْتَضِي نَفْيَ الشَّبِيهِ فَقَوْلُنَا اللَّهُ لا مِثْلَ لَهُ أَبْلَغُ فِي التَّنْزِيهِ مِنْ قَوْلِنَا اللَّهُ لا شَبِيهَ لَهُ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَيٌّ لا يَمُوتُ قَيُّومٌ لا يَنَامُ.

الشَّرْحُ: الْحَيُّ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى يُفَسَّرُ بِأَنَّهُ الْمُتَّصِفُ بِالْحَيَاةِ الَّتِي هِيَ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَالْقَيُّومُ مَعْنَاهُ الدَّائِمُ الَّذِي لا يَزُولُ [قاَلَ النَّسَفِيُّ: الْقَيُّومُ الَّذِي لا يَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ وَيَحْتَاجُ إِلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ]، وَقِيلَ الْقَائِمُ بِتَدْبِيرِ خَلْقِهِ لأِنَّ تَدْبِيرَ جَمِيعِ الأَشْيَاءِ لا يَكُونُ إِلاَّ لِلَّهِ [تَدْبِيرُ اللَّهِ: إِيْجَادُ اللَّهِ الأَشْيَاءَ عَلَى حَسَبِ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ وَمَشِيئَةِ اللَّهِ]، أَمَّا الْمَلائِكَةُ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾ [سُورَةَ النَّازِعَات/5] فَإِنَّمَا يُدَبِّرُونَ فِي أُمُورٍ خَاصَّةٍ كَالْمَطَرِ وَالرِّيحِ وَالْنَبَاتِ وَأَشْيَاءَ أُخْرَى وَلَيْسَ فِي كُلِّ شَىْءٍ [فَالتَّدْبِيرُ نَوْعَانِ تَدْبِيرٌ أَزَلِيٌّ مُطْلَقٌ وَهُوَ خَاصٌّ بِاللَّهِ تَعَالَى وَتَدْبِيرٌ مَخْصُوصٌ كَتَدْبِيرِ بَعْضِ الْمَلائِكَةِ بِمَا أَوْكَلَهُمُ اللَّهُ بِهِ. تَدْبِيرُ اللَّهِ: خَلْقُهَ وَفْقَ عِلْمِهِ، لاَ يُكْتَفَى بِالْقَوْلِ خَلْقُهُ]، وَالتَّسْمِيَّةُ بِالْقَيُّومِ لا تَجُوزُ إِلاَّ لِلَّهِ [قَالَ الشَّيْخُ: أَسْمَاءُ اللَّهِ قِسْمَانِ قِسْمٌ لا يُطْلَقُ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَقِسْمٌ يَجُوزُ إِطْلاقُهُ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى غَيْرِ اللَّهِ].

وَلْيُحْذَرْ مِنْ طَائِفَةٍ تَنْتَسِبُ لِلتَّصَوُّفِ تُسَمَّى الشَّاذِلِيَّةَ الْيَشْرُطِيَّةَ تَقُولُ: الْقَيُّومُ مَعْنَاهُ الْقَائِمُ فِينَا، فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ لِلآخَرِ أَنْتَ اللَّهُ وَهَذَا الْجِدَارُ اللَّهُ، فَكُفْرُهُمْ هَذَا مِنْ أَشْنَعِ الْكُفْرِ [قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْغَنِيِّ النَّابُلْسِيُّ: مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ نُورٌ يَتَصَوَّرُهُ الْعَقْلُ فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ مَلأَ السَّموَاتِ وَالأَرْضَ فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ انْحَلَّ مِنْ شَىْءٍ أَوْ هُوَ حَلَّ فِي شَىْءٍ فَهُوَ كَافِرٌ]، وَأَمَّا الشَّيْخُ عَلِيُّ نُورُ الدِّينِ الْيَشْرُطِيُّ الَّذِينَ يَنْتَسِبُونَ إِلَيْهِ فَهُوَ بَرِيءٌ مِمَّا يَقُولُونَ بَلْ هُوَ كَانَ عَلَى التَّنْزِيهِ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: خَالِقٌ بِلا حَاجَةٍ.

الشَّرْحُ: أَيْ خَلَقَ الْعَالَمَ وَأَحْدَثَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ احْتِيَاجٌ إِلَيْهِ لِجَلْبِ مَنْفَعَةٍ لِنَفْسِهِ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ عَنْ نَفْسِهِ، إِنَّمَا خَلَقَهُ إِظْهَارًا لِقُدْرَتِهِ [سُمِّيَ الْعَالَمُ عَالَمًا لأَنَّهُ عَلامَةٌ عَلَى وُجُودِ صَانِعِهِ وَمُكَوِّنِهِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مِنَ السَّموَاتِ وَمَا فِيهَا وَالأَرْضِ وَمَا عَلَيْهَا، وَدَلِيلُ أَنَّ الْعَالَمَ مَخْلُوقٌ التَّغَيُّرُ، السَّمَاءُ حَالُهَا يَتَغَيَّرُ وَالأَرْضُ حَالُهَا يَتَغَيَّرُ وَالإِنْسَانُ حَالُهُ يَتَغَيَّرُ، يَتَطَوَّرُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَالنُّورُ أَيْضًا يَتَغَيَّرُ وَالظَّلامُ يَتَغَيَّرُ، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَالَمَ مَخْلُوقٌ. الْعَالَمُ مُتَغَيِّرٌ وَكُلُّ مُتَغَيِّرٍ حَادِثٌ، فَالْعَالَمُ حَادِثٌ، هَذِهِ قَاعِدَةٌ عَقْلِيَّةٌ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: رَازِقٌ بِلا مُؤْنَةٍ [فَاللَّهُ هُوَ الرَّازِقُ عَلَى الْحَقِيقَةِ لأَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ الإِعْطَاءِ وَالشَّخْصِ الْمُعْطَى].

الشَّرْحُ: أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى يُوصِلُ إِلَى الْعِبَادِ أَرْزَاقَهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَلْحَقَهُ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ [وَالْحَرَامُ رِزْقٌ، يَعْنِي أَنَّ الرِّزْقَ لَيْسَ مَقْصُورًا عَلَى الْحَلالِ بَلْ يَشْمَلُ الْحَلالَ وَالْحَرَامَ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ مِنْ حَيْثُ الْعَافِيَةُ، فَإِنَّ الرِّزْقَ الْحَلالَ لَيْسَ فِيهِ وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ وَأَمَّا الْحَرَامُ فَوَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ. قَالَ سَيِّدِنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «الدُّنْيَا حَلالُهَا حِسَابٌ وَحَرَامُهَا عِقَابٌ»]، فَاللَّهُ لا يَفْعَلُ شَيْئًا بِالْمُبَاشَرَةِ وَالْحَرَكَةِ [الْحَرَكَةُ: هُوَ انْتِقَالُ الْحَجْمِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَالسُّكُونُ هُوَ ثُبُوتُ الْحَجْمِ فِي مَكَانٍ، الْمَكَانُ هُوَ مَا يَأْخُذُهُ الْحَجْمُ مِنَ الْفَرَاغِ] بَلْ بِمُجَرَّدِ تَعَلُّقِ إِرَادَتِهِ الأَزَلِيَّةِ وَتَكْوِينِهِ الأَزَلِيِّ يُوجِدُ الشَّىْءَ [فِعْلُهُ تَعَالَى صِفَةٌ لَهُ فِي الأَزَلِ وَالْمَفْعُولُ حَادِثٌ، كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: مُمِيتٌ بِلا مَخَافَةٍ.

الشَّرْحُ: أَيْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُمِيتُ الأَحْيَاءَ مِنْ عِبَادِهِ بِلا مَخَافَةٍ أَيْ لا لِخَوْفٍ مِنْ أَنْ يَلْحَقَهُ ضَرَرٌ إِنَّما يُمِيتُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ بِمُقْتَضَى حِكْمَتِهِ وَإِظْهَارًا لِكَمَالِ قُدْرَتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾ [سُورَةَ الشَّمْس/15]، [وَالْمَقْتُولُ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ وَالأَجَلُ هُوَ الْوَقْتُ الْمُقَدَّرُ لِمَوْتِهِ فَكُلُّ مَيِّتٍ بِأَجَلِهِ يَمُوتُ سَوَاءٌ مَاتَ مَقْتُولاً أَوْ غَيْرَ مَقْتُولٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ﴾].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: بَاعِثٌ بِلا مَشَقَّةٍ.

الشَّرْحُ: أَيْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَبْعَثُ الأَمْوَاتَ بِلا مَشَقَّةٍ تَلْحَقُهُ بَلْ بِمُجَرَّدِ تَعَلُّقِ إِرَادَتِهِ، كَمَا أَنَّ تَكْوِينَهُمْ كَذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى تَنْبِيهًا لِذَلِكَ: ﴿مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ [سُورَةَ لُقْمَان/28]، [بَعْثُ اللَّهِ الْمَوْتَى مِنَ الْقُبُورِ بِأَنْ يَجْمَعَ أَجْزَاءَهُمُ الأَصْلِيَّةَ وَيُعِيدَ الأَرْوَاحَ إِلَيْهَا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْبَعْثَ حَقٌّ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ﴾ وَقَوْلُهُ ﴿قُلْ يُحْيِهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ وَقَوْلُهُ ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ﴾].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَا زَالَ بِصِفَاتِهِ قَدِيْمًا قَبْلَ خَلْقِهِ لَمْ يَزْدَدْ بِكَوْنِهِمْ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُمْ مِنْ صِفَتِهِ وَكَمَا كَانَ بِصِفَاتِهِ أَزَلِيًّا كَذَلِكَ لا يَزَالُ عَلَيْهَا أَبَدِيًّا.

الشَّرْحُ: يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى الْقِدَمُ وَوَجُوبُهُ بِالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ، أَيْ لَوْ لَمْ يَكُنْ قَدِيْمًا أَيْ أَزَلِيًّا لَكَانَ حَادِثًا وَلَوْ كَانَ حَادِثًا لاحْتَاجَ إِلَى مُحْدِثٍ وَذَلِكَ يُنَافِي الأُلُوهِيَّةَ، ثُمَّ الْحُدُوثُ مُسْتَحِيلٌ عَلَيْهِ شَرْعًا أَيْضًا لأِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: ﴿هُوَ الأَوَّلُ﴾ [سُورَةَ الْحَدِيد/3] أَيِ الْمَوْجُودُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ ابْتِدَاءٌ [فِي عِلْمِ الْبَيَانِ مِمَّا يُفِيدُ الْحَصْرَ كَوْنُ الْمُبْتَدَإِ وَالْخَبَرِ مَعْرِفَةٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿هُوَ الأَوَّلُ﴾ هُوَ ضَمِيرٌ وَالضَّمَائِرُ مَعْرِفَةٌ، الأَوَّلُ هَذَا اللَّفْظُ مُعَرَّفٌ بِأَلِ التَّعْرِيفِ فَيَكُونُ هُنَا الْمُبْتَدَأُ وَالْخَبَرُ كِلاَهُمَا مَعْرِفَةٌ فَيُفِيدُ ذَلِكَ الْحَصْرَ. ﴿هُوَ الأَوَّلُ﴾ أَيِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْمَوْجُودُ بِلا بِدَايَةٍ وَهَذَا الأَمْرُ مَحْصُورٌ أَيْ لا شَىْءَ لا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ إِلاَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى]، فَالأَوَّلُ فِي هَذِهِ الآيَةِ الْمَوْجُودُ الَّذِي لَيْسَ لِوُجُودِهِ ابْتِدَاءٌ لأِنَّ الأَوَلِيَّةَ النِّسْبِيَّةَ يَقْتَرِنُ بِهَا الْحُدُوثُ الَّذِي هُوَ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ، فَلا مَعْنَى لِلأَوَّلِيَّةِ فِي حَقِّ اللَّهِ إِلاَّ الأَوَّلِيَّةَ الْمُطْلَقَةَ. وَيَجِبُ الْقِدَمُ أَيْضًا لِصِفَاتِهِ لأِنَّهُ لَوْ لَمْ تَكُنْ صِفَاتُهُ أَزَلِيَّةً بَلْ كَانَتْ تَحْدُثُ فِي الذَّاتِ لَكَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِحُدُوثِ الذَّاتِ، فَتَغَيُّرُ الأَحْوَالِ عَلَى الذَّاتِ هُوَ أَكْبَرُ أَدِلَّةِ الْحُدُوثِ، فَصِفَاتُهُ أَزَلِيَّةٌ بِأَزَلِيَّةِ الذَّاتِ أَيْ لا يَجُوزُ أَنْ تَخْتَلِفَ الصِّفَاتُ عَنِ الذَّاتِ الْقَدِيْمِ الأَزَلِيِّ. فَنَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لا يَطْرَأُ عَلَى اللَّهِ صِفَةٌ لَمْ تَكُنْ فِي الأَزَلِ، وَلا يَتَجَدَّدُ لِلَّهِ عِلْمٌ وَلا إِرَادَةٌ وَلا قُدْرَةٌ وَلا حَيَاةٌ وَلا سَمْعٌ وَلا بَصَرٌ.

ثُمَّ الصِّفَاتُ الَّتِي يَجِبُ لَهَا الْقِدَمُ اخْتَلَفَ فِيهَا طَائِفَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ [فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الثَّالِثِ ظَهَرَ إِمَامَانِ مِنْ بَيْنِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَحَدُهُمَا يُقَالُ لَهُ أَبُو الْحَسَنِ الأَشْعَرِيُّ وَالآخَرُ يُقَالُ لَهُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ، هَذَانِ اعْتَنَيَا بِتَقْرِيرِ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ مَعَ بَيَانِ الأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ فَصَارَ أَهْلُ السُّنَّةِ يُنْسَبُونَ إِلَى هَذَيْنِ الإِمَامَيْنِ يُقَالُ هَذَا أَشْعَرِيٌّ وَهَذَا مَاتُرِيدِيٌّ وَالأَشْعَرِيَّةُ أَكْثَرُ، قَالَ الزَّبِيدِيُّ: إِنَّ جُمْهُورَ الأُمَّةِ الأَشَاعِرَةُ وَالْمَاتُرِيدِيَّةُ] فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ صِفَاتٌ أَزَلِيَّةٌ أَيْ صِفَاتُ الذَّاتِ [الأَشَاعِرَةُ يَقُولُونَ الصِّفَاتُ الأَزَلِيَّةُ الأَبَدِيَّةُ تِلْكَ الثَّمَانِيَةُ الْحَيَاةُ وَالْقُدْرَةُ وَالإِرَادَةُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْعِلْمُ وَالْكَلامُ وَالْبَقَاءُ وَبَعْضُ الأَشَاعِرَةِ قَالُوا سَبْعَةٌ مَا أَدْخَلُوا الْبَقَاءَ فِي صِفَاتِ الْمَعَانِي] فَعِنْدَ هَؤُلاءِ صِفَاتُ الأَفْعَالِ حَادِثَةٌ لأِنَّهَا لا تَقُومُ بِالذَّاتِ إِنَّمَا هِيَ ءَاثَارُ الْقُدْرَةِ الأَزَلِيَّةِ، هَؤُلاءِ هُمُ الأَشَاعِرَةُ، أَيِ الطَّائِفَةُ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى الإِمَامِ أَبِي الْحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ قَوْلُ جَمِيعِ الأَشَاعِرَةِ بَلْ هُوَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ، وَغَلَبَ ذَلِكَ عَلَى أَكْثَرِ الأَشَاعِرَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ، أَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ فَكَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَقُولُ بِأَزَلِيَّةِ صِفَاتِ الأَفْعَالِ أَيْضًا، وَصِفَاتُ الأَفْعَالِ هِيَ إِحْيَاؤُهُ لِمَنْ شَاءَ حَيَاتَهُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ وَإِمَاتَتُهُ لِمَنْ يُمِيتُهُ، وَالإِسْعَادُ وَالإِشْقَاءُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لا يُحْصَى، وَيُعَبَّرُ عَنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَاتُرِيدِيَّةِ بِالتَّكْوِينِ، فَالتَّكْوِينُ عِنْدَهُمْ صِفَةٌ مِنَ الصِّفَاتِ الْقَدِيْمَةِ الأَزَلِيَّةِ. وَلا يَلْزَمُ مِنْ قِدَمِ التَّكْوِينِ قِدَمُ الْمُكَوَّنِ، قَالُوا كَمَا لا يَلْزَمُ مِنْ قِدَمِ الْقُدْرَةِ الإِلَهِيَّةِ قِدَمُ الْمَقْدُورَاتِ فَهَذَا الْعَالَمُ مَقْدُورَاتُ اللَّهِ أَحْدَثَهُ اللَّهُ بِقُدْرَتِهِ الأَزَلِيَّةِ، فَالْقُدْرَةُ أَزَلِيَّةٌ وَمُتَعَلَّقُهَا وَهُوَ الْعَالَمُ حَادِثٌ قَالُوا كَذَلِكَ التَّكْوِينُ أَزَلِيٌّ وَالْمُكَوَّنَاتُ حَادِثَةٌ، وَيُعَبَّرُ عَنْ ذَلِكَ أَيْضًا بِالْفِعْلِ، فَيُقَالُ فِعْلُ اللَّهِ أَزَلِيٌّ وَمَفْعُولُهُ حَادِثٌ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَبَيَّنَ وَظَهَرَ أَنَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يَزْدَدْ بِإِحْدَاثِهِ الْخَلْقَ صِفَةً حَادِثَةً.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَيْسَ بَعْدَ خَلْقِ الْخَلْقِ اسْتَفَادَ اسْمَ الْخَالِقِ، وَلا بِإِحْدَاثِهِ الْبَرِيَّةَ اسْتَفَادَ اسْمَ الْبَارِئِ [فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ ذَلِكَ يُقَالُ لَهُمْ كَمَا يَصِحُّ وَصْفُهُ بِالْقَادِرِ قَبْلَ حُدُوثِ هَذِهِ الْمَقْدُورَاتِ أَيِ الْعَالَمِ كَذَلِكَ يَصِحُّ وَصْفُهُ بِالْخَالِقِ قَبْلَ حُدُوثِ الْمَخْلُوقَاتِ].

الشَّرْحُ: أَيْ أَنَّهُ لَمْ يَتَجَدَّدْ لِلَّهِ تَعَالَى صِفَةٌ بِإِحْدَاثِهِ الْبَرِيَّةَ، وَالْبَرِيَّةُ الْخَلْقُ [الْخَلْقُ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْمُحْدَثَاتُ وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الإِنْسَانُ، فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾ لِلْكُفَّارِ بِالْمَعْنَى الأَعَمِّ أَيْ شَرِّ الْمَخْلُوقَاتِ، فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الْحَشَرَاتِ وَالْبَهَائِمَ خَيْرٌ مِنَ الْكُفَّارِ عِنْدَ اللَّهِ لأَنَّهَا لَيْسَتْ مُكَلَّفَةً فَتَعْصِي رَبَّهَا، أَمَّا هَؤُلاءِ الْكُفَّارُ مُكَلَّفُونَ فَعَصَوْا رَبَّهُمْ، لِذَلِكَ هَؤُلاَءِ صَارُوا شَرَّ الْبَرِيَّةِ أَيْ شَرَّ الْخَلْقِ]، فَهُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَالِقٌ قَبْلَ حُدُوثِ الْخَلْقِ، وَبَارِئٌ قَبْلَ حُدُوثِ الْبَرِيَّةِ كَمَا أَنَّهُ قَادِرٌ قَبْلَ وُجُودِ الْمَقْدُورَاتِ أَيِ الْعَالَمِ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَهُ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ وَلا مَرْبُوبَ، وَمَعْنَى الْخَالِقِ وَلا مَخْلُوقَ [وَإِنَّمَا قَالَ «لَهُ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ» «وَمَعْنَى الْخَالِقِ» لأِنَّ الْخَالِقَ هُوَ الْمُخْرِجُ لِلشَّىْءِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ لا غَيْر].

الشَّرْحُ: يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ مُتَّصِفًا بِالْخَالِقِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ قَبْلَ وُجُودِ الْمَخْلُوقِينَ وَالْمَرْبُوبِينَ، نَحْنُ الْعَالَمُ مَرْبُوبُونَ لِلَّهِ أَيْ مَخْلُوقُونَ لَهُ، فَقَبْلَ وُجُودِنَا كَانَ تَعَالَى مُتَّصِفًا بِالرُّبُوبِيَّةِ وَبِصِفَةِ الْخَالِقِيَّةِ، لَمْ تَحْدُثْ لَهُ صِفَةُ الرُّبُوبِيَّةِ بِوُجُودِنَا وَلا الْخَالِقِيَّةِ بِوُجُودِ الْمَخْلُوقِينَ [فَاللَّهُ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ مَوْجُودًا].

صِفَاتُ الأَفْعَالِ [وَهِيَ مَا يُوصَفُ اللَّهُ بِهَا وَبِمُقَابِلِهَا كَالإِحْيَاءِ وَالإِمَاتَةِ وَالإِسْعَادِ وَالإِشْقَاءِ] عِنْدَ الْمَاتُرِيدِيَّةِ كَصِفَاتِ الذَّاتِ فِي الأَزَلِيَّةِ [وَصِفَاتُ الذَّاتِ هِيَ مَا يُوصَفُ اللَّهُ بِهَا وَلاَ يُوصَفُ بِمُقَابِلِهَا كَكَوْنِهِ حَيًّا قَادِرًا عَالِمًا مُرِيدًا]، وَحُجَّتُهُمْ ظَاهِرَةٌ مَا فِيهَا إِشْكَالٌ، فَإِذَا قِيلَ أَحْيَا اللَّهُ كَذَا أَوْ أَمَاتَ كَذَا الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ عِنْدَهُمْ أَنَّ اللَّهَ أَحْيَا هَذَا الْمَخْلُوقَ الْجَائِزَ الْعَقْلِيَ بِصِفَتِهِ الَّتِي هِيَ أَزَلِيَّةٌ وَهِيَ صِفَةُ الإِحْيَاءِ، فَالْمُحْيَا حَادِثٌ أَمَّا إِحْيَاءُ اللَّهِ لَهُ فَهُوَ أَزَلِيٌّ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ عِنْدَهُمْ فِي إِمَاتَةِ اللَّهِ لِمَنْ يُمِيتُ مِنْ خَلْقِهِ: إِمَاتَةُ اللَّهِ لِهَذِهِ الأَشْيَاءِ الَّتِي يُمِيتُهَا صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ لَهُ، لَكِنْ هَذِهِ الأَشْيَاءُ الَّتِي تَتَّصِفُ بِالْمَوْتِ هِيَ الْمُحْدَثَةُ. وَهَذَا لا إِشْكَالَ فِيهِ لِمَنْ فَهِمَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودَ وَهَذَا الأَمْرُ يَضْطَرِدُ [أَيْ يَتَكَرَّرُ] فِيمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَإِذَا قِيلَ اللَّهُ تَعَالَى أَسْعَدَ السُّعَدَاءَ مِنْ خَلْقِهِ أَوْ أَشْقَى الأَشْقِيَاءَ مِنْ خَلْقِهِ فَالإِسْعَادُ وَالإِشْقَاءُ اللَّذَانِ هُمَا صِفَتَانِ أَزَلِيَتَانِ لِلَّهِ مِنْ غَيْرِ لُزُومِ أَزَلِيَّةِ الْمُشْقَى أَوِ الْمُسْعَدِ، فَالْعِبَادُ الَّذِينَ يُشْقِيهُمُ اللَّهُ مُحْدَثُونَ وَشَقَاوَتُهُمْ حَادِثَةٌ، وَكَذَلِكَ الْعِبَادُ الَّذِينَ أَسْعَدَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى هُمْ مُحْدَثُونَ وَسَعَادَتُهُمْ حَادِثَةٌ، أَمَّا إِشْقَاءُ اللَّهِ لِلَّذِينَ أَشْقَاهُمْ وَإِسْعَادُ الَّذِينَ أَسْعَدَهُمْ أَزَلِيٌّ.

وَهَذَا الاِعْتِقَادُ كَانَ هُوَ اعْتِقَادُ السَّلَفِ وَلَوْ لَمْ يُشْهَرْ هَذَا التَّعْبِيرُ عَنْهُمْ لَكِنَّ الْمَعْنَى كَانَ مَوْجُودًا، وَقَدْ صَرَّحَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي بَعْضِ رَسَائِلِهِ بِأَنَّ فِعْلَ اللَّهِ صِفَةٌ لَهُ فِي الأَزَلِ وَمَفْعُولَهُ حَادِثٌ، وَهُوَ فِي النِّصْفِ الأَوَّلِ مِنْ عَصْرِ السَّلَفِ [السَّلَفُ يَنْتَهِي عَصْرُهُ بِالثَّلاثِمِائَةِ سَنَةٍ، أَبُو حَنِيفَةَ كَانَتْ وَفَاتُهُ سَنَةَ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ هِجْرِيَّةً]، فَلا يُقَالُ لَوْ كَانَ هَذَا مُعْتَقَدُ السَّلَفِ كَانَ يُسْمَعُ مِنْ فُلانٍ وَفُلانٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمِنَ التَّابِعِينَ وَمِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ. فَلا يَضُرُّ مُثْبِتَ الْقِدَمِ لِصِفَاتِ الأَفْعَالِ عَدَمُ ظُهُورِ هَذَا التَّعْبِيرِ عَنْهُمْ أَيِ الْقَوْلِ بِأَنَّ صِفَاتِ الأَفْعَالَ قَدِيْمَةٌ، فَاشْتِهَارُ هَذَا لَيْسَ شَرْطًا فِي ثُبُوتِ اعْتِقَادِ السَّلَفِ لِذَلِكَ.

أَمَّا الأَشَاعِرَةُ أَكْثَرُهُمْ يَقُولُونَ يُحْيِي مَنْ شَاءَ أَيْ يُحْدِثُ فِيهِ الْحَيَاةَ بِقُدْرَتِهِ، فَالإِحْيَاءُ عِنْدَهُمْ أَثَرُ الْقُدْرَةِ لَيْسَ قَائِمًا بِذَاتِ اللَّهِ لِذَلِكَ تَجَرَّأُوا عَلَى قَوْلِهِمُ الإِحْيَاءُ صِفَةُ فِعْلٍ حَادِثَةٌ [صِفَاتُ الأَفْعَالِ - الأَثَرُ الَّذِي يَحْصُلُ بِتَأْثِيرِ الْقُدْرَةِ - عِنْدَ الأَشَاعِرَةِ حَادِثَةٌ، لَيْسَتْ حَادِثَةً فِي ذَاتِهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا هِيَ حَادِثَةٌ فِي الْعَالَمِ، عِنْدَهُمْ مَعْنَى خَلَقَ اللَّهُ الْعَالَمَ أَنَّهُ أَظْهَرَ بِقُدْرَتِهِ وُجُودَ الْعَالَمِ. فَالْخَلْقُ أَيِ التَّخْلِيقُ لَيْسَ أَمْرًا قَائِمًا بِذَاتِهِ عِنْدَ الأَشَاعِرَةِ أَمَّا عِنْدَ الْمَاتُرِيدِيَّةِ الْمَخْلُوقُ حَادِثٌ أَمَّا خَلْقُهُ تَعَالَى لِلْمَخْلُوقَاتِ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لَهُ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ لَيْسَتْ حَادِثَةً فِي ذَاتِهِ]، عِنْدَهُمْ هَكَذَا لَيْسَ قَائِمًا بِذَاتِ اللَّهِ، أَمَّا أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّ إِحْيَاءَهُ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِهِ وَحَادِثٌ فَلَيْسَ مِنْ مُعْتَقَدِهِمْ، فَلا يَلْزَمُهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونُوا وَصَفُوا اللَّهَ بِالْحُدُوثِ وَلا أَنْ يَكُونُوا نَسَبُوا إِلَيْهِ صِفَةً حَادِثَةً قَائِمَةً بِذَاتِهِ، وَكَذَلِكَ فِي الإِمَاتَةِ وَكَذَلِكَ فِي الإِسْعَادِ وَالإِشْقَاءِ، وَقَدْ نَاقَشَ كَثِيرٌ مِنَ الأَشَاعِرَةِ الْمَاتُرِيدِيَّةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالُوا: بِأَنَّهُ يَلْزَمُكُمْ عَلَى مَا ذَهَبْتُمْ إِلَيْهِ جَعْلَ الْمُكَوَّنِ أَزَلِيًّا قَدِيْمًا.

فَبَعْدَ اتِّفَاقِ الْفَرِيقَيْنِ أَنَّهُ لا يَقُومُ بِذَاتِ اللَّهِ صِفَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُ فِي الأَزَلِ لَيْسَ فِي اخْتِلافِهِمْ هَذَا مَا يَضُرُّ فِي أَصْلِ الاِعْتِقَادِ بَلْ هَذَا اخْتِلافٌ لَفْظِيٌّ، اخْتِلافٌ فِي التَّعْبِيرِ، وَكِلا الْفَرِيقَيْنِ عَلَى هُدًى، إِنَّمَا الضَّرَرُ الأَعْظَمُ وَالْكُفْرُ وَالإِلْحَادُ هُوَ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ: اللَّهُ تَعَالَى يَقُومُ بِهِ صِفَةٌ حَادِثَةٌ كَابْنِ تَيْمِيَةَ.


قَالَ الْمُؤْلِفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكَمَا أَنَّهُ مُحْيِي الْمَوْتَى بَعْدَمَا أَحْيَا اسْتَحَقَّ هَذَا الاِسْمَ قَبْلَ إِحْيَائِهِمْ.

الشَّرْحُ: الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَانَ مُتَّصِفًا بِالإِحْيَاءِ قَبْلَ حُدُوثِ الْخَلْقِ ثُمَّ أَجْرَى عَلَيْهِمُ الْحَيَاةَ الَّتِي هِيَ حَادِثَةٌ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي كَوْنِهِ تَعَالَى مُمِيتًا أَيْ أَنَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَانَ مُحْيِي الْمَوْتَى فِي الأَزَلِ قَبْلَ حُدُوثِ الْمَوْتَى، وَحُدُوثُ الْمَوْتَى لا يُنَافِي قِدَمَ إِمَاتَتِهِ لَهُمْ، وَكَذَلِكَ إِحْيَاءُ الْعِبَادِ الَّذِينَ أَجْرَى عَلَيْهِمْ صِفَةَ الْحَيَاةِ الْحَادِثَةِ لا يَقْتَضِي حُدُوثَ كَوْنِهِ مُحْيِيًا لَهُمْ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: كَذَلِكَ اسْتَحَقَّ اسْمَ الْخَالِقِ قَبْلَ إِنْشَائِهِمْ.

الشَّرْحُ: أَيْ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلاِتِّصَافِ بِمَعْنَى الْخَالِقِ قَبْلَ إِنْشَاءِ الْخَلْقِ، وَالْمُرَادُ بِالإِنْشَاءِ هُنَا أَثَرُهُ، لأِنَّ الإِنْشَاءَ إِذَا أُرِيدَ بِهِ صِفَةُ اللَّهِ فَهُوَ مِنَ الصِّفَاتِ الأَزَلِيَّةِ.

وَأَزَلِيَّةُ خَالِقِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ يَسْتَلْزِمُ بِأَنْ لا يَحْدُثَ لَهُ بِإِنْشَاءِ الْخَلْقِ صِفَةٌ حَادِثَةٌ وَهُوَ بِصِفَتِهِ الأَزَلِيَّةِ أَنْشَأَ مَا أَنْشَأَ مِنَ الْمُحْدَثَاتِ، فَثُبُوتُ قُدْرَتِهِ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ يُفْهَمُ مِنْهُ حُدُوثُ مُنْشَآتِهِ وَمَخْلُوقَاتِهِ وَأَزَلِيَّةُ إِحْيَائِهِ وَإِمَاتَتِهِ لِمَا أَحْيَاهُ وَأَمَاتَهُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، هَذَا الْحُكْمُ يَنْطَبِقُ عَلَى الإِجْمَالِ وَعَلَى التَّفْصِيلِ، فَإِذَا قُلْنَا أَنْشَأَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُحْدَثَاتِ الَّتِي شَاءَ لَهَا الْحَيَاةَ بِإِحْدَاثِهِ الأَزَلِيِّ وَإِحْيَائِهِ الأَزَلِيِّ فَهُوَ كَقَوْلِنَا عِنْدَ التَّفْصِيلِ: أَحْيَا اللَّهُ تَعَالَى فُلانًا بِصِفَةِ الإِحْيَاءِ الَّتِي هِيَ ثَابِتَةٌ لَهُ فِي الأَزَلِ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ الَّذِي قَرَّرْنَا وَالَّذِي هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ أَنْسَبُ وَأَقْوَى لإِبْطَالِ الْقَوْلِ بِحَوَادِثَ لا أَوَّلَ لَهَا، لأِنَّهُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ لِلْحَوَادِثِ أَزَلِيٌّ فَلا يَحْتَاجُ إِلَى فِعْلٍ ءَاخَرَ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: ذَلِكَ بِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ، وَكُلُّ شَىْءٍ إِلَيْهِ فَقِيرٌ، وَكُلُّ أَمْرٍ عَلَيْهِ يَسِيرٌ، لا يَحْتَاجُ إِلَى شَىْءٍ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.

الشَّرْحُ: قَوْلُهُ: «ذَلِكَ» إِشَارَةٌ إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا ذُكِرَ مِنْ صِفَاتِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى قُدْرَتُهُ مُؤَثِّرَةٌ فِي كُلِّ شَىْءٍ [لا يَدْخُلُ فِي مَعْنَى الشَّىْءِ هُنَا ذَاتُهُ وَصِفَاتُهُ، فَلَيْسَ ذَلِكَ مُرَادُ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾ لأَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، فَلا يُقَالُ إِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى ذَاتِهِ لأَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ لا تَتَعَلَّقُ بِالْوَاجِبِ الْعَقْلِيِّ لأَنَّهُ لا يَقْبَلُ الْعَدَمَ، وَلا تَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَحِيلِ الْعَقْلِيِّ لأَنَّهُ لا يَقْبَلُ الدُّخُولَ فِي الْوُجُودِ، بَلْ قُدْرَةُ اللَّهِ تَتَعَلَّقُ بِالْمُمْكِنَاتِ الْعَقْلِيَّةِ] أَيْ فِي كُلِّ مَا يَقْبَلُ الدُّخُولَ فِي الْوُجُودِ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ فَقِيرٌ إِلَيْهِ، أَيْ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ عَلَيْهِ يَسِيرٌ، وَالْمُرَادُ بِنَفْيِ الْمُمَاثَلَةِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُمَاثَلَةُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَالْمُمَاثَلَةُ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، فَكُلُّ ذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: خَلَقَ الْخَلْقَ بِعِلْمِهِ وَقَدَّرَ لَهُمْ أَقْدَارًا وَضَرَبَ لَهُمْ ءَاجَالاً، وَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ شَىْءٌ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ، وَعَلِمَ مَا هُمْ عَامِلُونَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ.

الشَّرْحُ: الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ الأَزَلِيِّ وَتَقْدِيرِهِ الأَزَلِيِّ [تَقْدِيرُ اللَّهِ أَيْ تَدْبِيرُهُ]، وَقَدَّرَ سُبْحَانَهُ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالرِّزْقِ وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَدَّرَ ءَاجَالَ الْخَلائِقِ، وَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ شَىْءٌ مِمَّا حَدَثَ وَمِمَّا يَحْدُثُ إِلَى مَا لا نِهَايَةَ لَهُ [قَالَ بَعْضُهُمْ: اللَّهُ عَالِمٌ فِي الأَزَلِ بِكُلِّ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا سَيَكُونُ وَمَا لا يَكُونُ أَنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ]، فَالْمَخْلُوقَاتُ الَّتِي خَلَقَهَا فَدَخَلَتْ فِي الْوُجُودِ وَالَّتِي سَتُخْلَقُ وَلَمْ تَدْخُلْ فِي الْوُجُودِ بَعْدُ كُلٌّ بِعِلْمِهِ الأَزَلِيِّ الَّذِي هُوَ عِلْمٌ وَاحِدٌ شَامِلٌ يَتَعَلَّقُ بِسَائِرِ الْمُمْكِنَاتِ الْعَقْلِيَّةِ [الْمُمْكِنُ الْعَقْلِيُّ: مَا يُتَصَوَّرُ فِي الْعَقْلِ وُجُودُهُ تَارَةً وَعَدَمُهُ تَارَةً أُخْرَى] وَبِالْوَاجِبِ الْعَقْلِيِّ [الْوَاجِبُ الْعَقْلِيُّ: مَا لا يُتَصَوَّرُ فِي الْعَقْلِ عَدَمُهُ] وَبِالْمُسْتَحِيلِ الْعَقْلِيِّ [الْمُسْتَحِيلُ الْعَقْلِيُّ: مَا لا يُتَصَوَّرُ فِي الْعَقْلِ وُجُودُهُ]، بِهِ هُوَ عَالِمٌ كُلَّ مَا حَدَثَ وَكُلَّ مَا سَيَحْدُثُ إِجْمَالاً وَتَفْصِيلاً، وَلا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَغَيُّرُ الْعِلْمِ [عِلْمُ اللَّهِ يَعْلَمُ بِهِ الأَزَلِيَّ وَالْحَادِثَ، بِعِلْمِهِ يَعْلَمُ ذَاتَهُ الأَزَلِيَّ وَيَعْلَمُ الْخَلْقَ بِعِلْمٍ وَاحِدٍ أَزَلِيٍّ].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَمَرَهُمْ بِطَاعَتِهِ وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ.

الشَّرْحُ: أَيْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْعِبَادَ بِالطَّاعَةِ وَنَهَاهُمْ عَنِ الْمَعْصِيَةِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الاِبْتِلاءِ [تَحْقِيقًا: مَعْنَاهُ يَحْصُلُ]، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [سُورَةَ الذَّارِيَات/56] أَيْ لآِمُرَهُمْ بِعِبَادَتِي وَأَنْهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِي.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكُلُّ شَىْءٍ يَجْرِي بِتَقْدِيرِهِ وَمَشِيئَتِهِ.

الشَّرْحُ: شَرَعَ الْمُؤَلِّفُ هُنَا بِشَرْحِ الْمَشِيئَةِ الَّتِي هِيَ إِحْدَى الصِّفَاتِ الأَزَلِيَّةِ الَّتِي مَعْرِفَتُهَا لَهَا أَهَمِيَّةٌ كَبِيرَةٌ فِي أُصُولِ الدِّينِ، وَتَفْسِيرُهَا تَخْصِيصُ الْمُمْكِنِ الْعَقْلِيِّ بِبَعْضِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ دُونَ بَعْضٍ، فَالشَّرُّ الَّذِي دَخَلَ فِي الْوُجُودِ بِتَخْصِيصِ اللَّهِ تَعَالَى دَخَلَ، وَفِي الْعَقْلِ كَانَ جَائِزًا أَنْ يَبْقَى فِي الْعَدَمِ وَإِنَّمَا اللَّهُ تَعَالَى أَخْرَجَهُ مِنَ الْعَدَمِ لِتَعَلُّقِ مَشِيئَتِهِ الأَزَلِيَّةِ فِي وُجُودِهِ فَدَخَلَ فِي الْوُجُودِ [لا يَكُونُ مِنَ الْعِبَادِ إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ، اللَّهُ شَاءَ أَنْ يَكْفُرَ بَعْضُهُمْ فَخَلَقَ فِيهِمُ الْكُفْرَ وَشَاءَ أَنْ يُؤْمِنَ بَعْضُهُمْ فَخَلَقَ فِيهِمُ الإِيْمَانَ، اللَّهُ أَكْرَمَ هَؤُلاءِ بِأَنْ خَلَقَ فِيهِمُ الإِيْمَانَ وَخَذَلَ هَؤُلاءِ بِخَلْقِ الْكُفْرِ فِيهِمْ، ثُمَّ الَّذِي خَلَقَ اللَّهُ فِيهِ الإِيْمَانَ فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ لأَنَّ اللَّهَ تَفَضَّلَ عَلَيْهِ بِالإِيْمَانِ لَيْسَ وَاجِبًا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَخْلُقَ فِي أَحَدٍ الإِيْمَانَ، وَمَنْ خَلَقَ اللَّهُ فِيهِ الْكُفْرَ فَكَفَرَ بِاخْتِيَارِهِ فَلا يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ لَيْسَ عَلَى اللَّهِ فَرْضًا أَنْ يَجْعَلَهُ مُؤْمِنًا، هَذَا رَزَقَهُ الإِيْمَانَ خَلَقَ فِيهِ الإِيْمَانَ فَضْلاً مِنْهُ وَذَاكَ خَلَقَ الْكُفْرَ فِيهِ عَدْلاً مِنْهُ].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمَشِيئَتُهُ تَنْفُذُ لا مَشِيئَةَ لِلْعِبَادِ إِلاَّ مَا شَاءَ لَهُمْ، فَمَا شَاءَ لَهُمْ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.

الشَّرْحُ: يُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لا مَشِيئَةَ لِلْعِبَادِ إِلاَّ مَا شَاءَ لَهُمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَشِيئَةَ الْعِبَادِ مِنْ جُمْلَةِ الْحَادِثَاتِ، أَيْ لا تَحْدُثُ إِلاَّ بِمَشِيئَتِهِ، فَلا مَشِيئَةَ لِلْعِبَادِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ دُخُولَهَا فِي الْوُجُودِ، فَمَشِيئَتُنَا حَادِثَةٌ لَمْ تَحْدُثْ إِلاَّ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الأَزَلِ حُدُوثَهَا، وَقَبْلَ أَنْ تَحْدُثَ مَشِيئَتُنَا شَاءَ اللَّهُ فِي الأَزَلِ حُدُوثَهَا. أَمَّا أَنْ يَشَاءَ الْعِبَادُ شَيْئًا لَمْ يَشَإِ اللَّهُ تَعَالَى فِي الأَزَلِ حُدُوثَهُ فَلا يَكُونُ ذَلِكَ بَلْ هُوَ مُسْتَحِيلٌ، وَالدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [سُورَةَ التَّكْوِير/29].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [أَيْ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِلَى طَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ] وَيَعْصِمُ [أَيْ يَحْفَظُهُ وَيَمْنَعُهُ عَنْ مَعَاصِيهِ] وَيُعَافِي [أَيْ يُعَافِيهِ فِي نَفْسِهِ وَدِينِهِ] فَضْلاً [مِنْهُ تَعَالَى لا لاِسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ عَلَيْهِ]، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ [مِنْ عِبَادِهِ] وَيَخْذُلُ [أَيْ يَتْرُكُ عَوْنَهُ وَنُصْرَتَهُ] وَيَبْتَلِي [أَيْ عَبْدَهُ فِي نَفْسِهِ وَدِينِهِ] عَدْلاً [مِنْهُ لا ظُلْمًا وَجَوْرًا].

الشَّرْحُ: أَيْ أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ الاِهْتِدَاءَ فِيمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ [خِلاَفًا لِمَا قَالَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ، هُمْ يَقُولُونَ يَهْدِي اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ بِمَعْنَى يَدُلُّ وَيُبَيِّنُ لا بِمَعْنَى أَنَّهُ يَخْلُقُ الاِهْتِدَاءَ فِي الْعَبْدِ]، هُوَ هَدَاهُمْ فَضْلاً مِنْهُ وَكَرَمًا، فَلَوْ لَمْ يَخْلُقْ فِيهِمُ الاِهْتِدَاءَ لَمْ يَكُنْ هُوَ ظَالِمًا لأِنَّهُ لا يَجِبُ عَلَيْهِ شَىْءٌ [تَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْعِبَادَ لاَ يَسْتَحِقُّونَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وُجُوبَ مُرَاعَاةِ الأَصْلَحِ بَلْ يَتَصَرَّفُ فِيهِمْ كَيْفَمَا يَشَاءُ، لأَِنَّ الْعَالَمَ مِلْكُهُ وَلِلْمَالِكِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَمْلُوكِهِ كَيْفَمَا يُرِيدُ، فَإِنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ وَاللَّهُ هُوَ الْمَالِكُ الْمُطْلَقُ لا غَيْرُ، فَإِنَّ مَنْ سِوَاهُ يَمْلِكُ مِلْكًا بِتَمْلِيكِ غَيْرِهِ لَهُ. نَحْنُ نَمْلِكُ أَشْيَاءَ مَلَّكَنَا اللَّهُ إِيَّاهَا فَإِذَا تَصَرَّفْنَا عَلَى خِلافِ إِذْنِهِ نَكُونُ عُصَاةً ظَالِمِينَ، أَمَّا هُوَ فَلا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الظُّلْمُ] فَلا حَاكِمَ لَهُ وَلَيْسَ لَهُ ءَامِرٌ وَلا نَاهٍ، لَمْ يَخْلُقْ سُبْحَانَهُ فِي الْكُفَّارِ الاِهْتِدَاءَ، خَذَلَهُمْ عَدْلاً مِنْهُ أَيْ لَيْسَ ظُلْمًا مِنْهُ لأِنَّ الظُّلْمَ لا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ لأِنَّهُ لا يَتَصَرَّفُ إِلاَّ فِيمَا هُوَ مِلْكٌ لَهُ حَقِيقَةً لَيْسَ مِلْكُهُ مَجَازِيًا عَقْلاً كَمِلْكِنَا، وَأَمَّا مِلْكُنَا فَهُوَ مِلْكٌ مَجَازِيٌّ عَقْلاً، لأِنَّ الْعِبَادَ وَمَا يَمْلِكُونَ كُلٌّ مِلْكٌ لِلَّهِ تَعَالَى، لا فَرْقَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَا تَمْلِكُهُ بِالنَّظَرِ إِلَى كَوْنِ كُلٍّ مِلْكًا لِلَّهِ تَعَالَى، أَنْتَ خَلَقَكَ وَأَحْدَثَكَ مِنَ الْعَدَمِ وَكَذَلِكَ مَا تَمْلِكُهُ هُوَ خَلَقَهُ وَأَحْدَثَهُ مِنَ الْعَدَمِ، لَهُ سُبْحَانَهُ الْحَاكِمِيَّةُ عَلَى الْعِبَادِ، فَمَا مَنَعَهُمْ وَنَهَاهُمْ عَنْهُ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَنْتَهُوا عَنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا تَوَجَّهَ اللَّوْمُ عَلَيْهِمْ وَاسْتَحَقُّوا الْعُقُوبَةَ وَالْعَذَابَ [جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ عَذَّبَ أَهْلَ أَرْضِهِ وَسَموَاتِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ» رَوَاهُ زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ مَرْفُوعًا].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكُلُّهُمْ يَتَقَلَّبُونَ فِي مَشِيئَتِهِ بَيْنَ فَضْلِهِ وَعَدْلِهِ.

الشَّرْحُ: يَعْنِي أَنَّ الْعِبَادَ يَتَصَرَّفُونَ بِمَشِيئِةِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَإِنْ تَصَرَّفُوا بِالْخَيْرِ فَبِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ تَصَرَّفُوا فِي الْمَعَاصِي وَالشُّرُورِ فَبِعَدْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَهَذَا فِيهِ إِبْطَالُ مَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ الْمُعْتَزَلِةُ مِنْ أَنَّ الْعِبَادَ تَصَرُّفُهُمْ فِي الشَّرِّ لَيْسَ بِإِرَادَةِ اللَّهِ أَمَّا تَصَرُّفُهُمْ فِي الْخَيْرِ فَبِإِرَادَةِ اللَّهِ، فَهَذِهِ التَّفْرِقَةُ بَاطِلَةٌ، وَالْحَقُّ خِلافُ ذَلِكَ فَالْعِبَادُ مَهْمَا فَعَلُوا مِنْ فِعْلٍ خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا فَبِمَشِيئَةِ اللَّهِ [اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ. الإِيْمَانُ وَالْكُفْرُ وَالأَلَمُ وَالَّلذَّةُ وَالْفَرَحُ وَالسُّرُورُ وَالْهَمُّ وَالْحُزْنُ كُلُّ هَذَا هُوَ الَّذِي يَخْلُقُهُ، لا أَحَدَ يَخْلُقُ شَيْئًا إِلاَّ هُوَ، كَذَلِكَ حَرَكَاتُ الْقُلُوبِ هُوَ يَخْلُقُهَا، بَعْدَ هَذَا الاِعْتِقَادِ يُقَالُ أَفْعَالُ الإِنْسَانِ الْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي قَبِيحٌ مِنَ الإِنْسَانِ أَمَّا خَلْقُ اللَّهِ الْكُفْرَ وَالْمَعْصِيَةَ فِي بَعْضِ عِبَادِهِ لَيْسَ قَبِيحًا مِنْهُ، اللَّهُ لا يُقَاسُ بِخَلْقِهِ كَذَلِكَ مَشِيئَتُهُ لِلْكُفْرِ الَّذِي يَحْصُلُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْمَعَاصِي الَّتِي تَحْصُلُ مِنْ عِبَادِهِ لَيْسَتْ قَبِيحَةً أَمَّا مَشِيئَةُ الْعَبْدِ لِلْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي فَهِيَ قَبِيحَةٌ مِنْهُ]، وَفِي ذَلِكَ بَيَانُ أَنَّهُ لَيْسَ وَاجِبًا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَفْعَلَ لِعِبَادِهِ مَا فِيهِ صَلاحُهُمْ أَوْ مَا هُوَ أَصْلَحُ لَهُمْ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهُوَ مُتَعَالٍ عَنِ الأَضْدَادِ وَالأَنْدَادِ.

الشَّرْحُ: يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَنْدَادٌ أَيْ أَمْثَالٌ وَأَضْدَادٌ أَيْ مُضَادُّونَ لَهُ، وَمَعْنَى الْمُضَادِّ: مَنْ يَتَصَرَّفُ تَصَرُّفًا يُرِيدُ أَنْ يَغْلِبَ اللَّهَ بِهِ عَلَى زَعْمِهِ، وَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَيْسَ لَهُ مُغَالِبٌ [قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾ أَيْ لا أَحَدَ يَمْنَعُ نَفَاذَ مَشِيئَتِهِ] لأِنَّ كُلَّ شَىْءٍ فِي قَبْضَتِهِ، وَكُلُّ شَىْءٍ مِلْكُهُ، فَلا يَكُونُ لَهُ أَضْدَادٌ أَيْ يَتَصَرَّفُونَ عَلَى خِلافِ إِرَادَتِهِ، وَالأَنْدَادُ جَمْعُ نِدٍّ وَهُوَ الْمِثْلُ [رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الذَّنْبِ أَشَدُّ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ»]، وَالأَضْدَادُ جَمْعُ ضِدٍّ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لا رَادَّ لِقَضَائِهِ [قاَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لا يُرَدُّ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَهَذَا الْحَدِيثُ الْقُدْسِيُّ يُسْتَفَادُ مِنْهُ أَمْرَانِ: الأَوَّلُ أَنَّهُ لا أَحَدَ يَمْنَعُ نَفَاذَ مَشِيئَةِ اللَّهِ، وَالثَّانِي أَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ لاَ تَتَغَيَّرُ].

الشَّرْحُ: أَيْ لا أَحَدَ يَرُدُّ قَضَاءَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَالْقَضَاءُ هُوَ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ: إِرَادَةُ اللَّهِ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْحَادِثَاتِ، وَهُوَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ: قَضَاءُ اللَّهِ أَيْ خَلْقُ اللَّهِ لِلأَشْيَاءِ أَيْ إِبْرَازُهُ إِيَّاهَا مِنَ الْعَدَمِ [قَالَ ابنُ عَسَاكِرَ: الْقَضَاءُ هُوَ الْخَلْقُ، وَيَأْتِي الْقَضَاءُ بِمَعْنَى الأَمْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ أَيْ أَمَرَ رَبُّكَ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَعَلَى مِثْلِ ذَلِكَ يُحْمَلُ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونَ﴾ أَيْ لآمُرَهُمْ بِعِبَادَتِي وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ شَاءَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمْ لأَنَّهُ لَوْ شَاءَ أَنْ يَعْبُدَهُ كُلُّهُمْ وَلاَ يَعْبُدُوا غَيْرَهُ لَمَا وُجِدَ مُشْرِكٌ] قَالَ تَعَالَى: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ [سُورَةَ فُصِّلَت/12]، فَالتَّفْسِيرُ الأَوَّلُ لِلْقَضَاءِ هُوَ مَشْهُورٌ عِنْدَ الأَشَاعِرَةِ قَالَ قَائِلُهُمْ:

إِرَادَةُ اللَّهِ مَعَ التَّعَلُّقِ فِي أَزَلٍ قَضَاؤُهُ فَحَقِّقِ [قَضَاءُ اللَّهِ مَعْنَاهُ إِرَادَةُ اللَّهِ الْمُتَعَلِّقَةُ بِحُصُولِ الْفِعْلِ]


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلا غَالِبَ لأِمْرِهِ.

الشَّرْحُ: أَيْ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أَيْ لا يَجْعَلُهُ بَاطِلاً، فَإِنْ أُرِيدَ بِالْحُكْمِ الْخِطَابُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْعِبَادِ كَانَ هَذَا تَفْسِيرَهُ [قَالَ تَعَالَى: ﴿وَيَحْكُمُ فِي خَلْقِهِ مَا يَشَاءُ﴾ أَيْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُحَرِّمُ الأَشْيَاءَ ويَفْرِضُ مَا يَشَاءُ]، وَإِنْ أُرِيدَ بِالْحُكْمِ الْحُكْمُ التَّكْوِينِيُّ وَهُوَ بِمَعْنَى أَنْ لا أَحَدَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْنَعَ نَفَاذَ إِرَادَةِ اللَّهِ [قَالَ الشَّيْخُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اللَّهُ خَلَقَ الْعَالَمَ بِالْقُدْرَةِ وَالْحُكْمِ كَمَا أَنَّ الْعَالَمَ بِقُدْرَتِهِ أَوْجَدَهُ، بِحُكْمِهِ أَيْضًا أَوْجَدَهُ، هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون﴾ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ بِالْكَافِ وَالنُّونِ فَمَنْ نَسَبَ لَهُ ذَلِكَ كَافِرٌ. بَعْضُ النَّاسِ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ فَقَالَ: «سُبْحَانَ مَنْ أَمْرُهُ بَيْنَ الْكَافِ وَالنُّونِ» هَذَا كَلاَمُ إِنْسَانٍ خَبِيثٍ، مَا وَرَدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وَلا عَنْ أَيِّ صَحَابِيٍّ. أَمَّا فِي الْقُرْءَانِ «كُنْ» مَعْنَاهُ بِالْحُكْمِ الأَزَلِيِّ، تَكَلَّمَ فِي الأَزَلِ فَوُجِدَ الْعَالَمُ هَذَا مَعْنَاهُ. اللَّهُ حَكَمَ وَالْحُكْمُ كَلاَمُهُ حَكَمَ بِوُجُودِ الْعَالَمِ فَوُجِدَ الْعَالَمُ]، فَمَا أَرَادَهُ تَمَّ لا مَحَالَةَ أَيْ نَفَذَ [وَذَلِكَ لأَنَّ فِي رَدِّ قَضَاءِهِ إِثْبَاتُ عَجْزِهِ وَالْعَجْزُ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ فَلاَ يَرُدُّ قَضَاءَ اللَّهِ رَادٌّ].

وَقَوْلُهُ: «وَلا غَالِبَ لأِمْرِهِ» أَيْ لا يَغْلِبُ أَمْرَ اللَّهِ غَالِبٌ [أَيْ لاَ أَحَدَ يَمْنَعُ نَفَاذَ مَشِيئَةِ اللَّهِ وَالأَمْرُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ وَالْمُقَدَّرِ الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ وُجُودَهُ].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: ءَامَنَّا بِذَلِكَ كُلِّهِ وَأَيْقَنَّا أَنَّ كُلاًّ مِنْ عِنْدِهِ.

الشَّرْحُ: الْمَعْنَى أَنَّنَا صَدَّقْنَا [أَيْ تَصْدِيقًا جَازِمًا] وَأَيْقَنَّا [إِيْمَانًا لا تَرَدُّدَ فِيهِ] أَنَّ كُلاًّ مِنْ عِنْدِهِ [فِيهِ بَيَانُ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ]، أَيْ أَنَّ كُلَّ شَىْءٍ دَخَلَ فِي الْوُجُودِ فَإِنَّمَا حَصَلَ بِعِلْمِ اللَّهِ الأَزَلِيِّ وَتَقْدِيرِهِ وَقَضَائِهِ [فَمَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ فَقَدْ رَدَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ﴾ أَيْ لا خَالِقَ إِلاَّ اللَّهُ، الاِسْتِفْهَامُ فِي ذَلِكَ مِثْلُ النَّفْيِّ فَأَفَادَتِ الآيَةُ الْعُمُومَ].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدُهُ الْمُصْطَفَى وَنَبِيُّهُ الْمُجْتَبَى وَرَسُولُهُ الْمُرْتَضَى وَإِنَّهُ خَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ وَإِمَامُ الأَتْقِيَاءِ [أَيْ أَنَّهُ يَكُونُ مُقَدَّمَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ] وَسَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ [أَيْ أَفْضَلُهُمْ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾، فَلَّمَا كَانَتْ أُمَّتُهُ خَيْرَ الأُمَمِ كَانَ هُوَ أَفْضَلَ الأَنْبِيَاءِ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم «أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ] وَحَبِيبُ رَبِّ الْعَالَمِينَ [أَيْ مَحْبُوبُهُ وَذَلِكَ لأِخْبَارٍ ثَابِتَةٍ مِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم «وَأَنَا حَبِيبُ اللَّهِ وَلاَ فَخْر»].

الشَّرْحُ: الْمُصْطَفَى [اصْطَفَاهُ أَيِ اخْتَارَهُ] وَالْمُجْتَبَى [اجْتَبَاهُ أَيِ اخْتَارَهُ] مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَفِيهِمَا زِيَادَةُ مَدْحٍ عَلَى الْمُرْتَضَى [وَالْمُرْتَضَى مُتَّحِدٌ فِي الْمَعْنَى مَعَهُمَا]، فَيَجِبُ الإِيْمَانُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّهُ ءَاخِرُ الأَنْبِيَاءِ وَأَفْضَلُهُمْ.

وَقَوْلُهُ: «خَاتَمُ» يُقَالُ بِالْفَتْحِ وَيُقَالُ بِالْكَسْرِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ أَيْ ءَاخِرُ النَّبِيِّينَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَكِنْ رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ [سُورَةَ الأَحْزَاب/40]، وَقَدْ تَأَوَّلَ الْقَادِيَانِيَّةُ الْخَاتَمَ بِمَعْنَى الزِّينَةِ، وَذَلِكَ لأِنَّ رَئِيسَهُمْ غُلام أَحْمَد ادَّعَى أَنَّهُ نَبِيٌّ رَسُولٌ، وَهَذَا كُفْرٌ وَضَلالٌ [قَالَ الشَّيْخُ: وَتَأْوِيلُهُمْ لِلْخَاتَمِ بِمَعْنَى الزِّينَةِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ وَهُوَ كُفْرٌ، ثُمَّ الْمُسْلِمُونَ قَامُوا عَلَيْهِ لِيَقْتُلُوهُ أَوَّلَ مَا دَعَا لِلإِيْمَانِ بِأَنَّهُ نَبِيٌّ، فَاحْتَمَى بِالاِنْكِلِيز، فَشَرَطُوا عَلَيْهِ أَنْ يُعَطِّلَ حَرَكَةَ الْجِهَادِ فِي الْهِنْدِ كُلِّهَا، فَقَالَ فِيمَا ادَّعَى أَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ: «يَجِبُ عَلَيْنَا شُكْرُ الدَّوْلَةِ الْبَرِيطَانِيَّةِ لأَنَّهُمْ أَحْسَنُوا إِلَيْنَا بِأَنْوَاعِ الإِحْسَانِ وَهَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ وَحَرَامٌ عَلَيْنَا وَعَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ قِتَالُ الاِنْكِلِيز»].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكُلُّ دَعْوَى نُبُوَّةٍ بَعْدَ نُبُوَّتِهِ فَغَيٌّ وَهَوًى.

الشَّرْحُ: أَيْ أَنَّ مَنِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعْوَاهُ بَاطِلَةٌ [وَضَلالٌ وَخَيْبَةٌ وَهَوًى مَذْمُومٌ أَيْ مَيْلٌ نَفْسَانِيٌّ مَذْمُومٌ لأِنَّ الْهَوَى عِبَارَةٌ عَنْ شَهْوَةِ النَّفْسِ وَمَيْلُهَا إِلَى الْبَاطِلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى﴾، فَتَكُونُ تِلْكَ الدَّعْوَى بَاطِلَةٌ لِسَبَبِ هَوَى النَّفْسِ لا عَنْ دَلِيلٍ، وَقَدْ يُعَبَّرُ بِالْهَوَى عَنِ الْحُبِّ. الْحُبُّ الَّذِي هُوَ بِحَقٍّ]، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا نَبِيَّ بَعْدِي» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَهَذَا حَدِيثٌ ثَابِتٌ [يَقُولُ هَؤُلاءِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ مَعْنَى الْحَدِيثِ «لاَ نَبِيَّ مَعِي ءَاخَرَ فِي حَالِ حَيَاتِي»، وَهَذَا تَحْرِيفٌ]، فَالْقَادِيَانِيَّةُ يَقُولُونَ: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ﴾ [سُورَةَ الْحَج/75]، ﴿يَصْطَفِي﴾ فِعْلٌ مُضَارِعٌ، فَيُقَالُ لَهُمْ يَصْطَفِي فِعْلٌ مُضَارِعٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الْمَاضِي بِالنِّسْبَةِ لِلْمُصْطَفِينَ أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلَّهِ تَعَالَى الْفِعْلُ يَتَجَرَّدُ عَنِ الزَّمَانِ الْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ وَالْحَالِ لأِنَّ فِعْلَهُ أَزَلِيٌّ لا مَحَالَةَ، لا يُقَالُ عَنِ الأَزَلِيِّ مَضَى وَانْقَطَعَ، وَيُقَالُ لَهُمْ وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْءَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/87] تَقْتُلُونَ أَيْ قَتَلْتُمْ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهُوَ الْمَبْعُوثُ إِلَى عَامَّةِ الْجِنِّ وَكَافَّةِ الْوَرَى بِالْحَقِّ وَالْهُدَى وَبِالنُّورِ وَالضِّيَاءِ [أَيْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم مَبْعُوثٌ إِلَى عَامَّةِ الْجِنِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ﴾ حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ الْجِنِّ، بِدَلِيلِ سِيَاقِ الآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءَانَ﴾ الآيَةَ، وَالأَقْرَبُ أَنَّ الدَّاعِيَ هُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى الْجِنِّ كَمَا كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى الإِنْسِ. قَالَ مُقَاتِل: «وَلَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَى الإِنْسِ وَالْجِنِّ قَبْلاً». وَمُقَاتِل هَذَا مِنَ التَّابِعِينَ].

الشَّرْحُ: يَعْنِي أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلٌ إِلَى الإِنْسِ وَالْجِنِّ وَلَيْسَ إِلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ مِنْ مَلائِكَةٍ وَبَهَائِمَ وَجِنٍّ وَإِنْسٍ [قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ مَعَ كَوْنِ النَّبِيِّ أُمِيًّا اللَّهُ أَعْطَاهُ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ مَا لَمْ يُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ. وَالأُمِّيُّ الَّذِي لاَ يَكْتُبُ وَلاَ يَقْرَأُ الْمَكْتُوبَ، الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم كَانَ هَكَذَا. أَمَّا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ تَعَلَّمَ الْكِتَابَةَ، فِي مِصْرَ تَعَلَّمَ، أَلَيْسَ أُمُّهُ أَخَذَتْهُ إِلَى مِصْرَ، مَكَثَ هُنَاكَ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَالنَّبِيُّ مَا كَانَ يَقْرَأُ الْمَكْتُوبَ، وَلاَ كَانَ يَكْتُبُ، حَتَّى بَعْدَ أَنْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ. أَغْلَبُ الْعَرَبِ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ الْكِتَابَةَ، وَالنَّبِيُّ مِنْهُمْ، أَغْلَبُ الصَّحَابَةِ لا يَعْرِفُونَ الْخَطَّ، إِنَّمَا الْعِلْمُ أَخَذُوهُ مِنْ فَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم]، وَبَعْضُهُمْ [تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ وَغَيْرُهُ] يَقُولُونَ: مُرْسَلٌ إِلَى الْمَلائِكَةِ رِسَالَةَ تَشْرِيفٍ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِنَّ الْقُرْءَانَ كَلامُ اللَّهِ مِنْهُ بَدَا بِلا كَيْفِيَّةٍ قَوْلاً.

الشَّرْحُ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْقُرْءَانَ مِنَ اللَّهِ بَدَا، أَيْ ظَهَرَ، أَيْ إِنْزَالاً عَلَى نَبِيِّهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ كَلِمَةِ «بَدَا» أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهُ تَلَفُّظًا كَمَا يَخْرُجُ كَلامُ أَحَدِنَا مِنْ لِسَانِهِ تَلَفُّظًا كَمَا تَقُولُ الْمُشَبِّهَةُ، وَلَيْسَ مَعْنَى «مِنْهُ بَدَا» أَنَّهُ نَطَقَ بِهِ كَمَا يَنْطِقُ الْوَاحِدُ مِنَّا بِكَلامِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ سَاكِتًا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: «بِلا كَيْفِيَّةٍ» أَيْ لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلا صَوْتٍ لأِنَّ الْحَرْفَ وَالصَّوْتَ كَيْفِيَّةٌ مِنَ الْكَيْفِيَّاتِ [قَالَ الشَّيْخُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَمَا أَنَّ بَصَرَهُ لَيْسَ بِآلَةٍ أَيْ حَدَقَةٍ وَأَجْفَانٍ، وَكَمَا أَنَّ سَمْعَهُ لَيْسَ بِآلَةٍ، لَيْسَ بِأَصْمِخَةٍ وَءَاذَانٍ، كَذَلِكَ كَلاَمُهُ أَزَلِيٌّ أَبَدِيٌّ لَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا، لأَنَّهُ لَوْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى يَتَكَلَّمُ بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ لَكَانَ مِثْلَنَا، لأِنَّ كَلاَمَنَا بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ لَهُ مُبْتَدَأٌ وَلَهُ مُخْتَتَمٌ، هَذَا صِفَةُ الْحَادِثِ. فَلا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَلامُهُ تَعَالَى مُتَجَزِّئًا. قَالَ عُلَمَاءُ التَّوْحِيدِ: حَيَاتُهُ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ، وَعِلْمُهُ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ، وَمَشِيئَتُهُ مَشِيئَةٌ وَاحِدَةٌ، وَقُدْرَتُهُ قُدْرَةٌ وَاحِدَةٌ، وَكَلامُهُ كَلامٌ وَاحِدٌ، هَذَا الْكَلامُ الْوَاحِدُ أَمْرٌ وَنَهْيٌّ وَوَعْدٌ وَوَعِيدٌ وَخَبَرٌ وَاسْتِخْبَارٌ أَيْ سُؤَالٌ].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَحَيًا، وَصَدَّقَهُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى ذَلِكَ حَقًّا، وَأَيْقَنُوا أَنَّهُ كَلامُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ كَكَلامِ الْبَرِيَّةِ، فَمَنْ سَمِعَهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ كَلامُ الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ، وَقَدْ ذَمَّهُ اللَّهُ وَعَابَهُ وَأَوْعَدَهُ بِسَقَرَ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾ [سُورَةَ الْمُدَّثِر/26].

الشَّرْحُ: أَنْزَلَهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَحْيًا، وَالْوَحْيُ يُطْلَقُ عَلَى مَا يَأْتِي بِهِ الْمَلَكُ مِنَ الْخَبَرِ عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى النَّبِيِّ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَا يُنْزِلُهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى قَلْبِ النَّبِيِّ بِلا وَاسِطَةِ مَلَكٍ وَهُوَ الْكَلامُ الذَّاتِيُّ كَمَا سَمِعَ مُوسَى، وَكَمَا سَمِعَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ بَعْدَ أَنْ وَصَلَ إِلَى الْمُسْتَوَى الَّذِي كَانَ يَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الأَقْلامِ، كُلُّ ذَلِكَ يُقَالُ لَهُ وَحْيٌ [هَذَا الْكَلامُ فِي الآخِرَةِ يَسْمَعُهُ كُلُّ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يَسْمَعُونَ كَلامًا لَيْسَ حَرْفًا لَيْسَ صَوْتًا، اللَّهُ يُفْهِمُهُمْ. فِي الدُّنْيَا جِبْرِيلُ يَسْمَعُ هَذَا الْكَلامَ وَسَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ سَمِعَ مَرَّتَيْنِ عِنْدَ الشَّجَرَةِ وَبِالطُّورِ، لَيْسَتِ الشَّجَرَةُ قَالَتْ لَهُ «إِنِّي أَنَّا رَبُّكَ»، إِنَّمَا سَمِعَ كَلامَ اللَّهِ. «إِنِّي أَنَا رَبُّكَ» أَلِفٌ وَنُونٌ وَيَاءٌ لَيْسَ هَذَا الَّذِي سَمِعَهُ إِنَّمَا سَمِعَ ذَاكَ الْكَلامَ الأَزَلِيَّ الَّذِي لَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا، اللَّهُ تَعَالَى أَعْطَاهُ الْقُدْرَةَ عَلَى سَمَاعِ ذَاكَ الْكَلامِ].

وَأَمَّا قَوْلُهُ: «وَإِنَّ الْقُرْءَانَ كَلامُ اللَّهِ» إِلَى قَوْلِهِ: «أَنَّهُ كَلامُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ كَكَلامِ الْبَرِيَّةِ» ظَاهِرُهُ يُوهِمُ أَنَّ كَلامَ اللَّهِ تَعَالَى حَادِثٌ لأِنَّ كَلِمَةَ: «مِنْهُ بَدَا» تُوهِمُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ عَقِيدَةَ الصَّوْتِيِّينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ كَلامُ اللَّهِ بِصَوْتٍ وَحَرْفٍ وَلا يَعْتَقِدُونَ لِلَّهِ كَلامًا غَيْرَ ذَلِكَ، هَؤُلاءِ مُشَبِّهَةٌ ، لَكِنَّ الطَّحَاوِيَّ نَفَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: «بِلا كَيْفِيَّةٍ قَوْلاً»، فَنَفَى أَنْ يَكُونَ كَلامُ اللَّهِ الذَّاتِيُّ حَرْفًا وَصَوْتًا لأِنَّ الْحَرْفَ وَالصَّوْتَ كَيْفِيَّةٌ مِنَ الْكَيْفِيَّاتِ [قَالَ الشَّيْخُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْحَنَابِلَةُ الْمُتَأَخِّرُونَ دَخَلَ فِيهِمُ التَّشْبِيهُ. ابنُ تَيْمِيَةَ فِي الأَصْلِ حَنْبَلِيٌّ وَابْنُ قَيِّم الْجَوْزِيَّة مِنَ الْحَنَابِلَةِ عِنْدَهُمَا كَلامُ اللَّهِ بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ، هَؤُلاءِ شَبَّهُوا اللَّهَ بِخَلْقِهِ. الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ الْجَيْلانِيُّ حَنْبَلِيٌّ، وَبَغْدَادُ كَانَ فِيهَا حَنَابِلَةٌ مُشَبِّهَةٌ، هَؤُلاءِ دَسُّوا فِي كِتَابِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ أَنَّ اللَّهَ فِي جِهَةِ فَوْق، وَأَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ الأَلِفَ وَالْبَاءَ وَالْفَاءَ وَالزَّايَ وَبَاقِي الْحُرُوفِ قَدِيْمَةٌ لأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَقُولُوا: اللَّهُ يَتَكَلَّمُ بِالْحَرْفِ وَالصَّوْتِ، كِتَابُهُ اسْمُهُ الْغُنْيَةُ، هَؤُلاءِ أَدْخَلُوا فِيهِ الْكُفْرَ حَتَّى تُصَدِّقَهُمُ النَّاسُ فِي عَقِيدَتِهِمْ].

فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: «مِنْهُ بَدَا»؟ قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ أَظْهَرَهُ لِمَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ بِأَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْكَلامُ حَادِثًا، وَإِنَّمَا الْحُدُوثُ لِسَمَاعِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ، فَسَمَاعُ أُولَئِكَ حَادِثٌ أَمَّا مَسْمُوعُهُمْ لَيْسَ حَادِثًا، كَمَا أَنَّهُ يُرِي الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ذَاتَهُ الأَزَلِيَّ الأَبَدِيَّ، وَرُؤْيَتُهُمْ لَهُ حَادِثَةٌ، أَمَّا الْوَهَّابِيَّةُ حِينَ يَقْرَءُونَ هَذَا الْكِتَابَ يُعْجِبُهُمْ مِنْهُ قَوْلُهُ: «مِنْهُ بَدَا»، وَلا يَفْهَمُونَ مَعْنَى «بِلا كَيْفِيَّةٍ» عَلَى حَسَبِ مُرَادِ الْمُؤَلِّفِ، وَيُعْجِبُهُمْ أَيْضًا قَوْلُهُ: «بِالْحَقِيقَةِ»، فَيُقَالُ لَهُمْ: مُرَادُهُ بِالْحَقِيقَةِ أَنَّ الْقُرْءَانَ يُطْلَقُ عَلَى الْكَلامِ الذَّاتِيِّ وَعَلَى اللَّفْظِ الْمُنَزَّلِ، لأِنَّ قَوْلَ اللَّهِ يُطْلَقُ عَلَى هَذَا وَعَلَى هَذَا إِطْلاقًا مِنْ بَابِ الْحَقِيقَةِ لأِنَّ كِلا الإِطْلاقَيْنِ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُنَزَّلَ قَائِمٌ بِذَاتِ اللَّهِ، لأِنَّ ذَلِكَ يُنَافِي قَوْلَهُ السَّابِقَ: «بِلا كَيْفِيَّةٍ»، فَهَذِهِ الْعِبَارَةُ فِيهَا غُمُوضٌ، الْوَهَّابِيُّ يَتَعَلَّقُ بِهَا لِجِهَتِهِ، وَالسُّنِّيُّ يَتَعَلَّقُ بِهَا لِجِهَتِهِ، الْوَهَّابِيُّ يَقُولُ: «مِنْهُ بَدَا بِلا كَيْفِيَّةٍ قَوْلاً» هَذَا هُوَ اللَّفْظُ، وَيَقُولُ: الإِنْزَالُ لا نَعْرِفُ كَيْفِيَّتَهُ لَكِنْ هُوَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَتَكَلَّمُ بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ، أَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَيَقُولُونَ: «بِلا كَيْفِيَّةٍ قَوْلاً» يَعْنِي تَكَلُّمُهُ بِهِ بِلا حَرْفٍ وَصَوْتٍ، لأِنَّ الْحَرْفَ وَالصَّوْتَ كَيْفِيَّةٌ، وَهُوَ مُرَادُ الْمُؤَلِّفِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ، لأِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ ذَكَرَ فِي بَعْضِ رَسَائِلِهِ أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ لا كَتَكَلُّمِنَا، يَتَكَلَّمُ بِلا حَرْفٍ وَلا صَوْتٍ، وَالطَّحَاوِيُّ مِنْ أَهْلِ مَذْهَبِهِ، أَلَيْسَ قَالَ فِي ابْتِدَاءِ الْكِتَابِ: «عَلَى مَذْهَبِ فُقَهَاءِ الْمِلَّةِ أَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَانِ… ». [يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «نَحْنُ نَتَكَلَّمُ بِآلَةٍ وَحَرْفٍ وَاللَّهُ يَتَكَلَّمُ بِلا ءَالَةٍ وَلا حَرْفٍ» مَا هِيَ الآلاتُ؟ الشَّفَتَانِ وَاللِّسَانُ وَالْحَلْقُ. بَعْضُ الْحُرُوفِ تَطْلَعُ مِنَ الشَّفَتَيْنِ، لا تَخْرُجُ إِلاَّ مِنَ الشَّفَتَيْنِ، كَالْفَاءِ وَالْبَاءِ وَالْمِيمِ، أَمَّا الْحَاءُ وَالْخَاءُ لا تَطْلَعُ إِلاَّ مِنَ الْحَلْقِ، ثُمَّ نَحْنُ كَلامُنَا حَرْفٌ سِينٌ وَشِينٌ وَحَاءٌ وَخَاءٌ وَبَقِيَّةُ الْحُرُوفِ، وَكَلامُنَا صَوْتٌ، أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَيَقُولُ: وَاللَّهُ يَتَكَلَّمُ بِلا ءَالَةٍ وَلا حَرْفٍ، وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ الْمُنَزَّلَ الْمُتَأَلِّفَ لا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَلامَ اللَّهِ الأَزَلِيَّ الْقَائِمَ بِذَاتِهِ مَا ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ يُكَلِّمُ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْعِبَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلَوْ كَانَ اللَّهُ يُكَلِّمُهُمْ بِصَوْتٍ وَحَرْفٍ لَمْ يَكُنْ حِسَابُهُ لِعِبَادِهِ سَرِيعًا، وَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ، فَلَوْ أَنَّ كَلامَ اللَّهِ بِحُرُوفٍ وَأَصْوَاتٍ لَكَانَ أَبْطَأَ الْحَاسِبِينَ، وَهَذَا ضِدُّ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمْ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾، فَلا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى ﴿أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾ إِلاَّ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ بِكَلامٍ أَزَلِيٍّ أَبَدِيٍّ بِغَيْرِ حَرْفٍ وَلا صَوْتٍ، وَذَلِكَ لأَنَّ عَدَدَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ كَثِيرٌ لا يُحْصِيهِمْ إِلاَّ اللَّهُ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ الْمُشَبِّهَةِ يَسْتَغْرِقُ حِسَابُهُمْ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَعَلَى قَوْلِهِمْ هَذَا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ بِأَسْرَعِ الْحَاسِبِينَ. فَقَوْلُ الْمُشَبِّهَةِ يُؤَدِّي إِلَى خِلافِ الْقُرْءَانِ وَذَلِكَ مُحَالٌ وَمَا أَدَّى إِلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَلَمَّا أَوْعَدَ اللَّهُ بِسَقَرَ لِمَنْ قَالَ: ﴿إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ﴾ [سُورَةَ الْمُدَّثِر/25]، عَلِمْنَا وَأَيْقَنَّا أَنَّهُ قَوْلُ خَالِقِ الْبَشَرِ وَلا يُشْبِهُ قَوْلَ الْبَشَرِ.

الشَّرْحُ: يَقُولُ الْمُؤَلِّفُ إِنَّ مَنْ سَمِعَ الْقُرْءَانَ وَقَالَ إِنَّهُ مِنْ تَأْلِيفِ بَشَرٍ فَقَدْ كَفَرَ، وَاللَّهُ أَوْعَدَ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ بِسَقَرَ [الْقُرْءَانُ الَّذِي نَقْرَأُهُ عِبَارَةٌ عَنْ ذَلِكَ الْكَلامِ الأَزَلِيِّ الأَبَدِيِّ لَيْسَ عَيْنَهُ، هَذِهِ الْحُرُوفُ لَيْسَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمِلَهَا وَلا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ، اللَّهُ خَلَقَ صَوْتًا بِحُرُوفِ الْقُرْءَانِ أَسْمَعَهُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ نَزَلَ بِهَا بِأَمْرِ اللَّهِ لَيْسَ اللَّهُ قَرَأَهُ عَلَى جِبْرِيلَ كَمَا يَقْرَأُ الأُسْتَاذُ عَلَى الطَّالِبِ]. فَاللَّفْظُ لا يَسْتَطِيعُ الإِنْسَانُ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ، وَأَمَّا الْكَلامُ الذَّاتِيُّ فَهُوَ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لِلَّهِ كَسَائِرِ صِفَاتِهِ لا يَجُوزُ عَقْلاً أَنْ يَكُونَ لَهُ شَبِيهٌ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ، فَمَنْ أَبْصَرَ هَذَا اعْتَبَرَ [أَيِ اعْتَبَرَ بِالْكُفَّارِ الْقَائِلِينَ بِالْمُمَاثَلَةِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِسَقَر، لِيَكُفَّ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ الْقَوْلِ لِئَلاَّ يَلْزَمُهُ مَا لَزِمَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ]، وَعَنْ مِثْلِ قَوْلِ الْكُفَّارِ انْزَجَرَ، وَعَلِمَ أَنَّهُ بِصِفَاتِهِ لَيْسَ كَالْبَشَرِ.

الشَّرْحُ: أَيْ أَنَّ مَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِوَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِ الْبَشَرِ الْمُحْدَثَةِ، بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْبَشَرِ قَوْلاً أَوِ اعْتِقَادًا، فَهُوَ كَافِرٌ لأِنَّهُ كَذَّبَ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/11]، فَمِنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ الْحُدُوثُ وَالتَّطَوُّرُ وَالاِنْفِعَالُ وَالتَّأَثُّرُ وَاللَّوْنُ وَالْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ وَالتَّحَيُّزُ بِالْمَكَانِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، كُلُّ هَذَا مِنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ، فَمَنِ اعْتَقَدَ هَذَا أَوْ قَالَهُ بِلِسَانِهِ فَقَدْ كَفَرَ. فَصِفَاتُ اللَّهِ لا تُشْبِهُ صِفَاتِ الْبَشَرِ، لأِنَّ صِفَاتِهِ قَدِيْمَةٌ وَصِفَاتِهِمْ مُحْدَثَةٌ، وَلا مُشَابَهَةَ بَيْنَ الْقَدِيْمِ وَالْحَادِثِ.

وَقَوْلُهُ: «أَبْصَرَ» كَأَنَّهُ أَرَادَ بَصَرَ الْقَلْبِ لا بَصَرَ الْعَيْنِ إِذِ الْمَعَانِي لا تُبْصَرُ بِالْعَيْنِ عَادَةً.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالرُّؤْيَةُ حَقٌّ لأِهْلِ الْجَنَّةِ بِغَيْرِ إِحَاطَةٍ وَلا كَيْفِيَّةٍ [قَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْفِقْهِ الأَكْبَرِ: «وَاللَّهُ تَعَالَى يُرَى فِي الآخِرَةِ وَيَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ فِي الْجَنَّةِ بِأَعْيُنِ رُؤُوسِهِمْ بِلا تَشْبِيهٍ وَلا كَيْفِيَّةٍ وَلا كَمِيَّةٍ وَلا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ مَسَافَةٌ»].

الشَّرْحُ: أَيْ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ سُبْحَانَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحِيطُوا بِهِ، لأِنَّ الإِحَاطَةَ بِهِ مُسْتَحِيلَةٌ [الْمُؤْمِنُونَ يَرَوْنَهُ مِنْ دُونِ أَنْ يَحِدُّوهُ، مِنْ دُونِ أَنْ يُحِيطُوا بِهِ، مِنْ دُونِ أَنْ يُدْرِكُوا لَهُ شَكْلاً وَلاَ هَيْئَةً، لأَنَّهُ مَوْجُودٌ لاَ يُشْبِهُ شَيْئًا مِنَ الْمَوْجُودَاتِ، لا شَكْلَ لَهُ وَلا هَيْئَةَ]، وَهَذَا حَقٌّ يَجِبُ الإِيْمَانُ بِهِ. أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ وَالْفَلاسِفَةُ فَقَدْ خَالَفُوا أَهْلَ السُّنَّةِ حَيْثُ إِنَّهُمْ نَفَوْا رُؤْيَةَ اللَّهِ فِي الآخِرَةِ، وَاحْتَجُّوا أَنَّهُ يَلْزَمُ الْقَوْلَ بِالرُّؤْيَةِ تَشْبِيهُهُ بِالْخَلْقِ، فَقَالُوا لأِنَّ الَّذِي يُرَى لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي جِهَةٍ، أَمَّا نَحْنُ مَعَاشِرَ أَهْلِ السُّنَّةِ فَنَقُولُ: هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْمَخْلُوقِ مُسَلَّمٌ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلَّهِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ [أَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: الْمُؤْمِنُونَ بَعْدَ أَنْ يَسْتَقِرُّوا فِي الْجَنَّةِ يَرَوْنَ اللَّهَ، لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ يَكُونُ مُسْتَقِرًّا حَالاًّ فِي الْجَنَّةِ، لاَ يَرَوْنَ اللَّهَ حَالاًّ فِي الْجَنَّةِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ ذَاتًا قَرِيبًا مِنْهُمْ، وَلا أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ ذَاتًا بَعِيدًا مِنْهُمْ، بَلْ بِلا مَسَافَةٍ يَرَوْنَهُ، بِلا مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ أَوْ بَعِيدَةٍ، يَرَوْنَهُ بِلا كَيْفٍ وَلا جِهَةٍ، وَلا يَرَوْنَهُ مُتَحَيِّزًا عَنْ يَمِينِهِمْ، وَلا يَرَوْنَهُ مُتَحَيِّزًا عَنْ يَسَارِهِمْ، وَلا يَرَوْنَهُ مُتَحَيِّزًا فِي جِهَةٍ تَحْت، وَلاَ يَرَوْنَهُ مُتَحَيِّزًا فِي جِهَةِ فَوْق، بَلْ بِلا جِهَةٍ وَلا كَيْفِيَّةٍ، يَرَوْنَ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِنْدَما يَكُونُونَ فِي الْجَنَّةِ، هَذَا مَعْنَاهُ، لَيْسَ كَمَا يُرَى الْخَلْقُ]، كَمَا صَحَّ عِلْمُهُمْ [أَيِ الْمَخْلُوقِينَ] بِهِ [أَيْ بِاللَّهِ تَعَالَى] مِنْ غَيْرِ جِهَةٍ، صَحَّ أَنْ يُرَى بِلا جِهَةٍ، وَلَيْسَ وَاجِبًا عَقْلاً أَنْ تَكُونَ رُؤْيَةُ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ كَرُؤْيَتِهِمْ لِلْمَخْلُوقِ فِي اسْتِلْزَامِ الْجِهَةِ [كَمَا صَحَّتْ مَعْرِفَتُنَا بِرَبِّنَا عَقْلاً وَهُوَ لا يُشْبِهُ الأَشْيَاءَ يَصِحُّ عَقْلاً أَنْ يَرَى الْمُؤْمِنُونَ رَبَّهُمْ وَهُوَ لا يُشْبِهُ الأَشْيَاءَ].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: كَمَا نَطَقَ بِهِ كِتَابُ رَبِّنَا: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [سُورَةَ الْقِيَامَة].

الشَّرْحُ: قَالَ أَهْلُ الْحَقِّ: رُؤْيَةُ اللَّهِ بِالأَبْصَارِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الآخِرَةِ بَعْدَ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ جَائِزَةٌ عَقْلاً وَسَمْعًا وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [سُورَةَ الْقِيَامَة]، [وَاسْتَدَلَّ أَهْلُ الْحَقِّ عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ لَيْسَتْ أَمْرًا مُسْتَحِيلاً لِوُجُوهٍ مِنْهَا: أَنَّ مُوسَى سَأَلَ رَبَّهُ الرُّؤْيَةَ بِقَوْلِهِ «رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» فَلَوْ كَانَتْ رُؤْيَةُ اللَّهِ لا تَجُوزُ عَقْلاً أَوْ شَرْعًا، أَيْ لَوْ كَانَتْ مُسْتَحِيلَةً، لَمْ يَسْأَلْ مُوسَى رَبَّهُ أَنْ يَرَاهُ، لأَنَّ مُوسَى نَبِيٌّ رَسُولٌ فَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْهَلَ مَا يَلِيقُ بِاللَّهِ وَمَا لا يَلِيقُ بِاللَّهِ، وَالْمُخَالِفُونَ لأَهْلِ الْحَقِّ قَالُوا: إِنَّمَا كَانَ سُؤَالُ مُوسَى لِيُعْلِمَ قَوْمَهُ أَمَّا هُوَ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لا يَجُوزُ أَنْ يُرَى اللَّهُ، وَهَؤُلاءِ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يُقَالَ: لَوْ كَانَ السُّؤَالُ مِنْ قَوْمِهِ مُحَالاً لَكَانَ مِنْ مُوسَى مُحَالاً أَيْضًا. فَلا يَجُوزُ مِنَ الرَّسُولِ أَنْ يُبَاشِرَ الْحَرَامَ لإِعْلامِ غَيْرِهِ، ثُمَّ أَيْضًا لَوْ كَانَ سُؤَالُهُ لأَجْلِ قَوْمِهِ لَسَأَلَ بِحُضُورِهِمْ، لِيُشَاهِدُوا وَلِيَعْرِفُوا الْحَقِيقَةَ، «أَيْ أَنَّهُ مُمْتَنَعٌ رُؤْيَةُ اللَّهِ عَقْلاً» وَلَقَدْ سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ ذَاتَهُ فِي مَقَامِ الْخَلْوَةِ]، وَقَوْلُهُ: ﴿نَاظِرَةٌ﴾ مَعْنَاهُ تَرَى رَبَّهَا ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَهَذِهِ الْوُجُوهُ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالأَحَادِيثُ الثَّابِتَةُ لَيْسَ فِيهَا تَحْدِيدُ أَوْقَاتِ الرُّؤْيَةِ وَتَفْصِيلُهَا، لَكِنْ وَرَدَ حَدِيثٌ فِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ بِأَنَّ الْمُقَرَّبِّينَ يَرَوْنَهُ غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَفِي الْجُمُعَةِ مَرَّةً.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَتَفْسِيرُهُ عَلَى مَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَلِمَهُ.

الشَّرْحُ: يَعْنِي أَنَّ تَفْسِيرَ هَذِهِ الآيَةِ ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [سُورَةَ الْقِيَامَة] أَيْ عَلَى حَسَبِ مَا عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَرَادَهُ مَعْنًى بِكَلامِهِ هَذَا.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكُلُّ مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَمَا قَالَ وَمَعْنَاهُ عَلَى مَا أَرَادَ.

الشَّرْحُ: أَيْ أَنَّ كُلَّ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ عَلَى حَسَبِ مَا أَرَادَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا الْمُشَبِّهَةُ مِنْ وَهَّابِيَّةٍ وَأَسْلافِهِمْ، فَالرُّؤْيَةُ عِنْدَهُمْ تَكُونُ بِالْكَيْفِيَّةِ وَالْجِهَةِ، وَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ لَفْظًا بِلا كَيْفِيَّةٍ، لَكِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ الْكَيْفِيَّةَ لأِنَّهُمْ يُثْبِتُونَ الْجِهَةَ لِلَّهِ، فَالرُّؤْيَةُ عِنْدَهُمْ لا بُدَّ أَنْ تَكُونَ بِكَيْفِيَّةٍ، بِالْمُقَابَلَةِ، لأِنَّهُمْ يُفَسِّرُونَ الْحَدِيثَ: «أَمَا إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لا تُضَامُّونَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، مَعْنَاهُ، عِنْدَهُمْ، تَرَوْنَهُ مُوَاجَهَةً كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ مُوَاجَهَةً، وَأَجَابَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِمْ: التَّشْبِيهُ هُنَا وَارِدٌ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي تَدَّعُونَ، أَيْ أَنَّ الْعِبَادَ يَرَوْنَهُ رُؤْيَةً لا شَكَّ فِيهَا، كَمَا أَنَّ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ إِذَا لَمْ يَكُنْ سَحَابٌ يُرَى رُؤْيَةً لا شَكَّ فِيهَا [سُئِلَ الشَّيْخُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا التَّوْفِيقُ بَيْنَ الْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَبَيْنَ قَوْلِنَا الْمُؤْمِنُونَ يَرَوْنَ اللَّهَ وَهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَالَّذِي تَعَلَّمْنَاهُ أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَنْتَهِي بِاسْتِقْرَارِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ؟

قَالَ الشَّيْخُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَدْ يُطْلَقُ «يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَيُرَادُ بِهِ الآخِرَةُ، الْمُؤْمِنُونَ يَرَوْنَهُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِمْ فِي الْجَنَّةِ، أَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ تَظْهَرُ صُورَةٌ - أَيْ قَبْلَ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ - فَيُقَالُ أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ أَعُوذُ بِاللَّهِ نَحْنُ إِذَا رَأَيْنَا رَبَّنَا عَرَفْنَاهُ، فَيَتَجَلَّى اللَّهُ فَيَرَوْنَهُ وَيَعْرِفُونَهُ. هَذَا الْحَدِيثُ أَنْكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ حَدِيثٌ رَكِيكٌ يُنَاقِضُ بَعْضُهُ بَعْضًا، هَذَا فِيهِ أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ قَبْلَ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لا نَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مُتَأَوِّلِينَ بِآرَائِنَا وَلا مُتَوَهِّمِينَ بِأَهْوَائِنَا.

الشَّرْحُ: يَعْنِي أَنَّهُ لا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مُتَأَوِّلاً بِرَأْيِهِ تَأَوُّلاً بِلا دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ قَطْعِيٍّ وَلا دَلِيلٍ سَمْعِيٍّ ثَابِتٍ كَتَأْوِيلِ الْمُعْتَزِلَةِ لِلآيَةِ الْمَذْكُورَةِ [قَالَ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمَحْصُولِ: «وَلاَ يَسُوغُ تَأْوِيلُ النَّصِّ إِلاَّ لِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ قَاطِعٍ أَوْ سَمْعِيٍّ ثَابِتٍ»]، وَأَنَّهُ لا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مُتَصَوِّرًا بِوَهْمِهِ، يَعْنِي لا كَمَا ذَهَبَتِ الْمُعْتَزِلَةُ فِي نَفْيِهِمْ لِلرُّؤْيَةِ وَتَحْرِيفِهِمْ لِلآيَةِ، وَلا كَمَا ذَهَبَتِ الْمُشَبِّهَةُ فِي جَعْلِهِمُ الرُّؤْيَةَ بِكَيْفِيَّةٍ حَيْثُ أَثْبَتُوا لِلَّهِ تَعَالَى الْجِهَةَ، فَهُمْ حَيْثُ أَثْبَتُوا لِلذَّاتِ الْمُقَدَّسِ الْجِهَةَ فَلا بُدَّ أَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ الرُّؤْيَةَ فِي جِهَةٍ، أَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَبَعِيدُونَ مِنْ ذَلِكَ، يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ يُرَى بِلا مُقَابَلَةٍ وَلا مُدَابَرَةٍ مِنْ دُونِ أَنْ يَكُونَ الرَّائِي فِي جِهَةٍ مِنَ اللَّهِ لا يَمْنَةً وَلا يَسْرَةً وَلا فَوْقَ وَلا أَسْفَلَ وَلا قُدَّامَ وَلا خَلْفَ.

وَلا يَعْنِي كَلامُ الطَّحَاوِيِّ رَدَّ تَأْوِيلِ أَهْلِ السُّنَّةِ الإِجْمَالِيِّ وَالتَّفْصِيلِيِّ لآِيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا الْمُتَشَابِهَةِ ، فَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنَ السَّلَفِ، فَإِنَّ تَرْكَ التَّأْوِيلَيْنِ عَيْنُ التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ الْمَنْفِيَيْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/11]، [بَعْضُ شُرَّاحِ الْعَقِيدَةِ الطَّحَاوِيَّةِ حَمَلَ عِبَارَةَ الطَّحَاوِيِّ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَمَحْمِلُ كَلامِ هَذَا الْبَعْضِ التَّأْوِيلُ التَّفْصِيلِيُّ لا التَّأْوِيل الإِجْمَالِيّ، وَهُوَ اعْتِقَادُ أَنَّ تِلْكَ الظَّوَاهِرَ لِلْمُتَشَابِهَاتِ مِنَ الآيَاتِ وَالأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الصِّفَاتِ الْمُوهِمَةِ لِلْجِسْمِيَّةِ وَصِفَاتِ الْجِسْمِيَّةِ كَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، الْمُرَادُ بِهَا غَيْرُ هَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي تَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنَّهُ مَا سَلِمَ فِي دِينِهِ إِلاَّ مَنْ سَلَّمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَدَّ عِلْمَ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إِلَى عَالِمِهِ.

الشَّرْحُ: يَعْنِي أَنَّ السَّلامَةَ فِي التَّسْلِيمِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، أَيِ اعْتِقَادِ أَنَّ مَا جَاءَ فِي الشَّرْعِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ فَهُوَ عَلَى حَسَبِ مَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ، لَيْسَ مَبْنِيًّا عَلَى التَّوَهُّمِ وَالتَّصَوُّرِ الْمُعْتَمَدِ عَلَى الرَّأْيِ أَوْ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ بَيْنَ الْمَخْلُوقَاتِ.

فَالْمُعْتَزِلَةُ رَجَعُوا إِلَى الرَّأْيِ الَّذِي هُمُ اتَّخَذُوهُ أَصْلاً، وَالْمُشَبِّهَةُ رَجَعُوا إِلَى مَا هُوَ مَأْلُوفٌ بَيْنَ الْمَخْلُوقِ، وَفَتَنَهُمْ أَنَّهُمْ قَاسُوا اللَّهَ عَلَى الْخَلْقِ، فَقَالُوا كَمَا أَنَّهُ لا يُرَى الشَّىْءُ إِلاَّ فِي جِهَةٍ مِنَ الرَّائِي فَاللَّهُ يُرَى فِي جِهَةٍ، وَكِلا الْمَذْهَبَيْنِ بَاطِلٌ.

وَقَوْلُهُ: «عَالِمِهِ» الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّ الَّذِي اشْتَبَهَ عَلَيْهِ فَهْمُ شَىْءٍ مِنَ الأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالآخِرَةِ وَغَيْرِهَا يَرْجِعُ بِهِ إِلَى أَهْلِ الْعِلْمِ الرَّاسِخِينَ [أَيْ إِلَى الْعُلَمَاءِ الْكُمَّلِ الْمُتَمَكِّنِينَ فِي الْعِلْمِ كَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَدْ قَالَ: وَأَنَا مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ]، فَإِمَّا أَنْ يَسْتَفِيدَ مِنْهُمُ السَّائِلُ التَّأْوِيلَ التَّفْصِيلِيَّ أَوِ التَّأْوِيلَ الإِجْمَالِيَّ، وَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ الإِنْسَانُ أَنَّ مَا يُضَافُ إِلَى اللَّهِ مِنَ الصِّفَاتِ هِيَ مُنَزَّهَةٌ عَنِ الْهَيْئَةِ وَالشَّكْلِ وَءَاثَارِ الْحُدُوثِ [قَالَ الشَّيْخُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَوَّلُ مَعَانِي الْبَشَرِ هُوَ الْحُدُوثُ].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلا تَثْبُتُ قَدَمٌ فِي الإِسْلامِ إِلاَّ عَلَى ظَهْرِ التَّسْلِيمِ وَالاِسْتِسْلامِ [هَذَا مِنْ بَابِ الْمَجَازِ بِالاِسْتِعَارَةِ، لأَنَّ الْقَدَمَ الْحِسِّيَّ هُوَ مَا يُوضَعُ عَلَى ظَهْرِ الشَّىْءِ وَكَذَلِكَ قَدَمُ الإِسْلامِ لا يَثْبُتُ إِلاَّ عَلَى ظَهْرِ تَسْلِيمِ الأَمْرِ الْمُشْتَبَهِ عِلْمُهُ إِلَى عَالِمِهِ، وَأَمَّا الاِسْتِسْلاَمُ فَهُوَ الاِنْقِيَادُ لأَوَامِرِ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الثَّبَاتُ عَلَى الإِسْلامِ إِلاَّ لِمَنْ سَلَّمَ للَِّهِ تَعَالَى وَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِ].

الشَّرْحُ: التَّسْلِيمُ هُوَ الرِّضَى بِمَا جَاءَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا الاِسْتِسْلامُ فَهُوَ الاِنْقِيَادُ لِلشَّرْعِ أَيْ قَبُولُ مَا جَاءَ فِيهِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالأَحْكَامِ، فَلا يَصِحُّ الثَّبَاتُ عَلَى الإِسْلامِ إِلاَّ لِمَنْ سَلَّمَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَصِفْهُ بِمَا لا يَلِيقُ بِهِ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَمَنْ رَامَ عِلْمَ مَا حُظِرَ عَنْهُ عِلْمُهُ وَلَمْ يَقْنَعْ بِالتَّسْلِيمِ فَهْمُهُ حَجَبَهُ مَرَامُهُ [أَيْ مَطْلُوبُهُ] عَنْ خَالِصِ التَّوْحِيدِ [إِذْ خُلُوصُهُ مَشْرُوطٌ بِتَسْلِيمِ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ] وَصَافِي الْمَعْرِفَةِ [أَيْ مَا لا يَشُوبُهُ وَلاَ يُكَدِّرُهُ، فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمِ الأَمْرَ بِذَلِكَ إِلَى اللَّهِ لَمْ يَتَهَيَّأْ لَهُ صَفَاءُ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ] وَصَحِيحِ الإِيْمَانِ فَيَتَذَبْذَبُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالإِيْمَانِ وَالتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ وَالإِقْرَارِ وَالإِنْكَارِ مُوَسْوِسًا [هَذَا تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلُ، أَيْ فَيَكُونُ مُوَسْوِسًا تَائِهًا عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ شَاكًّا زَائِغًا مَائِلاً عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ] تَائِهًا شَاكًّا لا مُؤْمِنًا مُصَدِّقًا وَلا جَاحِدًا مُكَذِّبًا [لأَنَّ الإِيْمَانَ لا يَكُونُ مَقْبُولاً إِلاَّ بِالإِيْمَانِ التَّامِّ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ تَجْزِئَةٌ مِنْ حَيْثُ التَّصْدِيقُ، أَمَّا أَنْ يُصَدِّقَ بِبَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَيُكَذِّبَ بِبَعْضٍ فَلا يَكُونُ إِيْمَانًا مَقْبُولاً، إِنَّمَا ذَلِكَ إِيْمَانٌ جُزْئِيٌّ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ].

الشَّرْحُ: مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ طَلَبَ أَنْ يَعْلَمَ مَا مُنِعَ عَنْهُ عِلْمُهُ وَلَمْ يَقْنَعْ بِتَسْلِيمِهِ إِلَى عَالِمِهِ حَجَبَهُ مَطْلُوبُهُ عَنْ خَالِصِ التَّوْحِيدِ، فَيَكُونُ مُضْطَرِبًا مُؤْمِنًا بِبَعْضٍ وَكَافِرًا بِبَعْضٍ، لا كَالْكَافِرِ الْمُعْلِنِ كُفْرَهُ، وَلا كَالْمُؤْمِنِ الَّذِي صَدَقَ فِي الإِيْمَانِ وَءَامَنَ عَنْ حَقِيقَةٍ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلا يَصِحُّ الإِيْمَانُ بِالرُّؤْيَةِ لأِهْلِ دَارِ السَّلامِ لِمَنِ اعْتَبَرَهَا مِنْهُمْ بِوَهْمٍ أَوْ تَأَوَّلَهَا بِفَهْمٍ.

الشَّرْحُ: أَنَّهُ مَنِ اعْتَبَرَ الرُّؤْيَةَ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمَشْرُوحِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ، الَّذِي هُوَ مُعْتَقَدُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَهُوَ غَيْرُ مُصَدِّقٍ بِهِ كَمَا أُمِرَ، فَالْمُشَبِّهَةُ ظَاهِرًا يَقُولُونَ: ءَامَنَّا بِالرُّؤْيَةِ، أَمَّا فِي الْحَقِيقَةِ فَلَمْ يُؤْمِنُوا، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدْ نَفَوْا نَفْيًا صَرِيْحًا حَيْثُ إِنَّهُمْ قَالُوا لا يُرَى [الْمُعْتَزِلَةُ خَالَفُوا أَهْلَ السُّنَّةِ حَيْثُ إِنَّهُمْ نَفَوْا رُؤْيَةَ اللَّهِ فِي الآخِرَةِ، بِدْعَتُهُمْ هَذِهِ لا تُكَفِّرُهُمْ، أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ الَّذِينَ زَادُوا عَلَى هَذَا أَشْيَاءَ بَعِيدَةً فِي الضَّلالِ فَأُولَئِكَ يُحْكَمُ عَلَيْهِمْ عَلَى حَسَبِ مَا أَحْدَثُوا مِنَ الضَّلالاتِ، كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ بِأَنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ فِعْلَهُ فَإِنَّ هَذَا كُفْرٌ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ. الْمُعْتَزِلَةُ يَقُولُونَ: إِنْ قُلْنَا نَرَاهُ جَعَلْنَا لَهُ مَكَانًا جَعَلْنَا لَهُ جِهَةً فَلا يَجُوزُ أَنْ يُرَى، هَذَا كَلامُ الْمُعْتَزِلَةِ. نَحْنُ نَقُولُ: نَرَاهُ بِلا كَيْفٍ وَلا مَكَانٍ وَلا جِهَةٍ. ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ لا يَصِحُّ تَفْسِيرُهَا بِأَنَّهُمْ يَنْتَظِرُونَ نِعْمَةَ رَبِّهِمْ، لأَنَّهُمْ حَلُّوا بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَيْفَ يُقَالُ يَنْتَظِرُونَ نِعْمَةَ رَبِّهِمْ؟ لَمَّا دَخَلُوا الْجَنَّةَ أَلَيْسَ نَالُوا نِعْمَةً عَظِيمَةً؟ كَيْفَ يُقَالُ يَنْتَظِرُونَ نِعْمَةَ رَبِّهِمْ وَهُمْ قَدْ حَلُّوا بِهَا؟]، وَهُمْ يُفَسِّرُونَ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [سُورَةَ الْقِيَامَة/23] يَقُولُونَ نِعْمَةَ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ أَيْ مُنْتَظِرَةٌ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ، فَالْمُعْتَزِلَةُ وَالْمُشَبِّهَةُ عَلَى طَرَفَيْ نَقِيضٍ.

وَقَوْلُهُ: «دَارِ السَّلامِ» اسْمٌ لِلْجَنَّةِ [لأَنَّ فِيهَا السَّلامَةُ مِنْ كُلِّ ءَافَةٍ، مِنْ كُلِّ نَكَدٍ، مِنْ كُلِّ مَا يُزْعِجُ]، وَجَمِيعُ طَبَقَاتِهَا يَشْمَلُهُ هَذَا الاِسْمُ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِذْ كَانَ تَأْوِيلُ الرُّؤْيَةِ وَتَأْوِيلُ كُلِّ مَعْنًى يُضَافُ إِلَى الرُّبُوبِيَّةِ بِتَرْكِ التَّأْوِيلِ وَلُزُومِ التَّسْلِيمِ وَعَلَيْهِ دِينُ الْمُسْلِمِينَ.

الشَّرْحُ: يُرِيدُ الطَّحَاوِيُّ بِتَرْكِ التَّأْوِيلِ التَّأْوِيلَ الَّذِي هُوَ بَعِيدٌ عَنِ الْحَقِّ وَالإِصَابَةِ، وَلا يَعْنِي التَّأْوِيلَ الَّذِي يَفْعَلُهُ أَهْلُ السُّنَّةِ إِنْ كَانَ إِجْمَالِيًّا أَوْ كَانَ تَفْصِيلِيًّا، وَهَذَا الَّذِي يَنْبَغِي حَمْلُ كَلامِ الْمُؤَلِّفِ عَلَيْهِ، أَمَّا ظَاهِرُهُ فَمَنْعُ الذَّهَابِ إِلَى التَّأْوِيلِ أَيِ التَّفْصِيلِيِّ، أَمَّا التَّأْوِيلُ الإِجْمَالِيُّ فَلا يَنْفِيهِ لأِنَّ مَنْ نَفَى التَّأْوِيلَ الإِجْمَالِيَّ وَقَعَ فِي التَّشْبِيهِ لا مَحَالَةَ.

وَيُقَوِّي كَوْنَ مُرَادِ الطَّحَاوِيِّ بِنَفْيِ التَّأْوِيلِ لَيْسَ مُطْلَقَ التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلامِ: «مِنْهُ بَدَا بِلا كَيْفِيَّةٍ قَوْلاً»، لأِنَّ هَذَا تَأْوِيلٌ [قَالَ الشَّيْخُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَلَوْلا أَنَّهُ يَرَى التَّأْوِيلَ فِي الْجُمْلَةِ لَمْ يَقُلْ بِلا كَيْفِيَّةٍ قَوْلاً، وَكَيْفَ يُظَنُّ بِالطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يَنْفِي التَّأْوِيلَ مُطْلَقًا وَقَدْ قَالَ: «وَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ»، إِنَّمَا أَرَادَ الطَّحَاوِيُّ أَنْ يَتَوَجَّهَ بِكَلامِهِ إِلَى أَهْلِ الأَهْوَاءِ، فَإِنَّهُمْ يُؤَوِّلُونَ بِآرَائِهِمُ الَّتِي لا تَسْتَنِدُ إِلَى نَظَرٍ عَقْلِيٍّ صَحِيحٍ وَلا إِلَى الْمَنْقُولِ الصَّحِيحِ عَلَى وَجْهِهِ، وَكَيْفَ يُظَنُّ بِالطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يَمْنَعُ وَيُقَبِّحُ التَّأْوِيلَ وَقَدْ فَعَلَهُ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ كَمُجَاهِدٍ تِلْمِيذِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الَّذِي أَوَّلَ ﴿فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ بِقِبْلَةِ اللَّهِ. أَوْرَدَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ وَالتَّشْبِيهَ زَلَّ وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ.

الشَّرْحُ: يُرِيدُ بِالنَّفْيِ التَّعْطِيلَ، وَيُرِيدُ بِالتَّشْبِيهِ إِثْبَاتَ الْجِهَةِ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ شَىْءٍ مِنْ أَمَارَاتِ الْحُدُوثِ كَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَكَالاِنْتِقَالِ مِنْ عُلْوٍ إِلَى سُفْلٍ أَوْ مِنْ سُفْلٍ إِلَى عُلْوٍ، وَهَذَانِ الْفَرِيقَانِ «زَلَّ» أَيْ ضَلَّ عَنِ الطَّرِيقِ «وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ» أَيْ فَقَدَ وَحُرِمَ التَّنْزِيهَ، أَيْ تَنْزِيهَ اللَّهِ عَنْ مُشَابَهَةِ خَلْقِهِ، وَيَصِحُّ أَنْ يُفَسَّرَ قَوْلُهُ «زَلَّ وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ» بِأَنْ يُقَالَ: زَلَّ رَاجِعٌ إِلَى النَّافِي أَيِ الْمُعَطِّلِ، وَقَوْلُهُ: «وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ» رَاجِعٌ إِلَى مَنْ شَبَّهَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ الْمُعَطِّلَ الَّذِي نَفَى مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ تَعَالَى زَلَّ أَيْ حَادَ عَنِ الْحَقِّ وَضَلَّ، وَأَنَّ الَّذِي أَثْبَتَ لَفْظًا وَلَمْ يُنَزِّهْ مَعْنًى بَلْ شَبَّهَ لَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ أَيْ لَمْ يُنَزِّهِ اللَّهَ عَمَّا يَجِبُ تَنْزِيهُهُ عَنْهُ فَيَكُونُ هَذَا التَّفْسِيرُ مُطَابِقًا لِمَا عَلَيْهِ الْفَرِيقَانِ فَرِيقُ التَّعْطِيلِ وَفَرِيقُ التَّشْبِيهِ، كَالْوَهَّابِيَّةِ فَإِنَّ إِثْبَاتَ أَصْلِ الْجُلُوسِ عِنْدَهُمْ لَيْسَ تَشْبِيهًا، وَيُرَادُ بِالْمُعَطِّلَةِ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْفَلاسِفَةُ [تَنْزِيهُ اللَّهِ هُوَ تَعْظِيمُهُ وَتَقْدِيسُهُ عَنْ مُشَابَهَةِ خَلْقِهِ، الْمُعْتَزِلَةُ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ لَهُ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ أَيْ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ هُوَ مُتَّصِفٌ بِهِ وَلا قُدْرَةٌ هُوَ مُتَّصِفٌ بِهَا وَلا إِرَادَةٌ هُوَ مُتَّصِفٌ بِهَا وَلا سَمْعٌ وَلا بَصَرٌ وَلا كَلامٌ هُوَ مُتَّصِفٌ بِهِ إِنَّمَا هُوَ عَالِمٌ لِذَاتِهِ حَيٌّ لِذَاتِهِ وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الصِّفَاتِ هُمْ لا يَرَوْنَ أَنَّهَا صِفَاتٌ ثَابِتَةٌ لِلذَّاتِ الْمُقَدَّسِ أَزَلاً وَأَبَدًا وَكَذَلِكَ الْفَلاسِفَةُ كَانُوا يَقُولُونَ بِمِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ وَهَذَا غُلُوٌّ فِي الْفَسَادِ وَالضَّلالِ].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنَّ رَبَّنَا جَلَّ وَعَلا مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ.

الشَّرْحُ: أَيْ مَوْصُوفٌ بِالصِّفَاتِ الَّتِي تَنْفِي عَنِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُشَابَهَةَ لِغَيْرِهِ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَنْعُوتٌ بِنُعُوتِ الْفَرْدَانِيَّةِ.

الشَّرْحُ: هَذَا بِمَعْنَى مَا قَبْلَهُ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالْعِبَارَةِ الثَّانِيَةِ لِتَأْكِيدِ الْعِبَارَةِ الأُولَى، وَالنَّعْتُ وَالصِّفَةُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالْوَحْدَانِيَّةُ وَالْفَرْدَانِيَّةُ مُتَرَادِفَانِ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ أَحَدٌ مِنَ الْبَرِيَّةِ.

الشَّرْحُ: أَيْ لَيْسَ فِي صِفَاتِهِ تَعَالَى أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ، أَيْ لا يَصِحُّ عَقْلاً وَلا شَرْعًا أَنْ يَتَّصِفَ الْعَبْدُ أَوْ أَيُّ شَىْءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ الْحَادِثَةِ بِشَىْءٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَقَدْ أَسَاءَ التَّعْبِيرَ مَنْ قَالَ فِي تَفْسِيرِ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ ءَادَمَ عَلَى صُورَتِهِ»: إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ ءَادَمَ مُتَّصِفًا بِصِفَاتِهِ مِنْ سَمْعٍ وَبَصَرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا التَّعْبِيرُ فَاسِدٌ.
وَمَعْنَى: «عَلَى صُورَتِهِ» أَيْ عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ وَشَرَّفَهَا كَمَا هُوَ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّ عِيسَى: ﴿فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُّوحِنَا﴾ [سُورَةَ التَّحْرِيْم/12].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَتَعَالَى عَنِ الْحُدُودِ وَالْغَايَاتِ وَالأَعْضَاءِ وَالأَرْكَانِ وَالأَدَوَاتِ، لا تَحْوِيهِ الْجِهَاتُ السِّتُّ كَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَاتِ.

الشَّرْحُ: أَيْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ لَهُ حَدٌّ [الْمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ بِالْمَرَّةِ، فَلا يُقَالُ إِنَّ لَهُ حَدًّا يَعْلَمُهُ هُوَ، وَلا يُقَالُ إِنَّ لَهُ حَدًّا يَعْلَمُهُ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ خَلْقِهِ، كَالْمَلاَئِكَةِ الْحَافِّينَ حَوْلَ الْعَرْشِ وَحَمْلَةِ الْعَرْشِ. النَّاسُ الَّذِينَ مَا دَخَلَ التَّنْزِيهُ قُلُوبَهُمْ مَا عَرَفُوا تَنْزِيهَ اللَّهِ، يَظُنُّونَ عِندَما يَسْمَعُونَ بِحَمَلَةِ الْعَرْشِ وَالْمَلاَئِكَةِ الْحَافِّينَ حَوْلَ الْعَرْشِ، أَنَّ هَؤُلاءِ قَرِيبُونَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى قُرْبًا مَكَانِيًّا قُرْبًا ذَاتِيًا، وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ. لَوْ كَانَ يَصِحُّ أَنَّ يَكُونَ شَىْءٌ مِنْ خَلْقِهِ قَرِيبًا مِنْهُ قُرْبًا ذَاتِيًّا، قُرْبًا مَكَانِيًّا، لَمْ يَقُلْ ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾، أَيْ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَى الْعَبْدِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ أَيِ الْعِرْقِ الَّذِي بِجَانِبَيِ الْعُنُقِ، وَقَدْ قَالَ ذَلِكَ لِيُفْهِمَنَا أَنَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْقُرْبُ الْمَسَافِيُّ وَلا الْبُعْدُ الْمَسَافِيُّ، لَيْسَ شَىْءٌ مِنْ خَلْقِهِ لا حَمَلَةُ الْعَرْشِ وَلا غَيْرُهُمْ قَرِيبًا مِنَ اللَّهِ قُرْبًا ذَاتِيًّا مَسَافِيًّا، وَلا شَىْءٌ مِنْ خَلْقِهِ بَعِيدًا عَنْهُ بُعْدًا ذَاتِيًّا مَسَافِيًّا] وَالْحَدُّ مَعْنَاهُ نِهَايَةُ الشَّىْءِ، فَلا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْحُدُودُ وَالْمِسَاحَةُ وَالْمِقْدَارُ، فَنَفْيُ الْحَدِّ عَنْهُ عِبَارَةٌ عَنْ نَفْيِ الْحَجْمِ [لَيْسَ مَعْنَى نَفْيِ الْحَدِّ عَنِ اللَّهِ أَنَّهُ مُمْتَّدٌ إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ، الْحَدُّ مَعْنَاهُ نِهَايَةُ الشَّىْءِ، وَالأَجْرَامُ كُلُّهَا لَهَا حَدٌّ، الْعَرْشُ لَهُ حَدٌّ يَعْلَمُهُ اللَّهُ، وَلَكِنْ نَحْنُ الْبَشَرُ لا نَعْلَمُ مِسَاحَةَ الْعَرْشِ كَمْ هِيَ، وَلا الْكُرْسِيِّ وَلا السَّموَاتِ السَّبْعِ وَلا الْجَنَّةِ وَلا جَهَنَّمَ]. وَمَعْنَى «الْغَايَاتِ» النِّهَايَاتُ وَهَذَا مِنْ صِفَاتِ الأَجْسَامِ. وَمَعْنَى «الأَرْكَانِ» الْجَوَانِبُ، وَمَعْنَى «الأَعْضَاءِ» جَمْعُ عُضْوٍ وَذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ الأَجْسَامِ، وَمَعْنَى «الأَدَوَاتِ» الأَجْزَاءُ الصَّغِيرَةُ كَاللَّهَاةِ.

وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «لا تَحْوِيهِ الْجِهَاتُ السِّتُّ»، أَيْ لا تُحِيطُ بِهِ الْجِهَاتُ السِّتُّ وَهِيَ فَوْقُ وَتَحْتُ وَيَمِينُ وَشِمَالُ وَقُدَّامُ وَخَلْفُ، لأِنَّ هَذِهِ لا تَصِحُّ إِلاَّ لِمَنْ هُوَ جِرْمٌ [قَالَ الشَّيْخُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْمَخْلُوقَاتُ لا تَخْلُو عَنِ التَّحَيُّزِ فِي إِحْدَى الْجِهَاتِ السِّت، لأَنَّ الْحَادِثَ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِمَكَانٍ]، وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى ابْنِ تَيْمِيَةَ حَيْثُ قَالَ إِنَّ لِلَّهِ حَدًّا يَعْلَمُهُ هُوَ [اللَّهُ تَعَالَى تَنَزَّهَ عَنِ الْحُدُودِ أَيِ الْحَدُّ مَنْفِيٌّ عَنْهُ، لأَنَّ الْمَحْدُودَ يَحْتَاجُ إِلَى حَادٍّ وَاللَّهُ تَعَالَى لَوْ كَانَ لَهُ حُدُودٌ لاحْتَاجَ إِلَى مَنْ حَدَّهُ بِهَذَا الْحَدِّ، وَالْمُحْتَاجُ إِلَى غَيْرِهِ حَادِثٌ مَخْلُوقٌ لا يَكُونُ إِلَهًا، لأَنَّ الإِلَهَ مِنْ شَأْنِهِ أَنَّهُ لا يَحْتَاجَ إِلَى غَيْرِهِ وَيَحْتَاجُ إِلَيْهِ كُلُّ شَىْءٍ، لأَنَّ وُجُودَهُ لا يَحْتَاجُ إِلَى سَبَبٍ، أَمَّا وُجُودُ غَيْرِهِ فَمُتَوَقِّفٌ عَلَيْهِ]، وَأَمَّا إِثْبَاتُ الْحَدِّ لِلَّهِ فَلَمْ يَصِحَّ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ كَمَا أَوْهَمَ ذَلِكَ ابْنُ تَيْمِيَةَ، بَلْ نَقْلُ الطَّحَاوِيِّ هَذَا فِيهِ أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنِ الْحَدِّ [فَاللَّهُ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ بِالْمَرَّةِ أَيْ لَيْسَ ذَا مِقْدَارٍ وَمِسَاحَةٍ قَصِيرَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ، هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، لِذَلِكَ أَهْلُ الْحَقِّ قَالُوا عَنْهُ مَوْجُودٌ لا كَالْمَوْجُودَاتِ. إِذَا سُئِلَ هَذَا السُّؤَالُ: مَا اللَّهُ؟ فَيُقَالُ مَوْجُودٌ لا كَالْمَوْجُودَاتِ، هَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْجَوَابِ، فِي هَذَا تَنْزِيهٌ تَامٌّ، لأِنَّكَ لَمَّا قُلْتَ مَوْجُودٌ أَثْبَتَّ وُجُودَهُ، ثُمَّ إِذَا قُلْتَ لا كَالْمَوْجُودَاتِ نَفَيْتَ عَنْهُ أَنْ يُشْبِهَ غَيْرَهُ، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ التَّوْحِيدِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ عِبَارَةً أُخْرَى بِهَذَا الْمَعْنَى: «التَّوْحِيدُ إِثْبَاتُ ذَاتٍ غَيْرِ مُشْبِهٍ لِلذَّوَاتِ وَلاَ مُعَطَّلٍ عَنِ الصِّفَاتِ»].

وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَيْسَ دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَيْسَ خَارِجَهُ وَلَيْسَ مُتَّصِلاً بِهِ أَوْ مُنْفَصِلاً عَنْهُ، لأِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ لَهُ أَمْثَالٌ لا تُحْصَى، وَهُوَ سُبْحَانَهُ نَفَى عَنْ نَفْسِهِ الْمُمَاثَلَةَ لِشَىْءٍ بِقَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/11]. وَقَدْ نَصَّ عَلَى نَفْيِ التَّحَيُّزِ فِي الْمَكَانِ وَالاِتِّصَالِ وَالاِنْفِصَالِ وَالاِجْتِمَاعِ وَالاِفْتِرَاقِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ مَشَاهِيرِ عُلَمَاءِ الْمَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ، فَلْتُرَاجَعْ نُصُوصُهُمْ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْمِعْرَاجُ حَقٌّ.

الشَّرْحُ: الْمِعْرَاجُ هُوَ الصُّعُودُ إِلَى السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَمَا شَاءَ اللَّهُ مِنَ الْعُلَى، وَهَذَا حَقٌّ يَجِبُ الإِيْمَانُ بِهِ فِي حَقِّ رَسُولِ اللَّهِ، وَمَنْ نَفَاهُ فَهُوَ فَاسِقٌ. وَالْمِعْرَاجُ حَصَلَ بَعْدَ الإِسْرَاءِ، أَيْ بَعْدَ وُصُولِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [سُمِّيَ بِهَذَا الاسْمِ لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ] خَارِجًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [سُمِّيَّ بِهَذَا الاسْمِ لِحُرْمَتِهِ أَيْ شَرَفِهِ عَلَى سَائِرِ الْمَسَاجِدِ] عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَوَاتِ وَمَا فَوْقَهَا إِلَى حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ [وَالْعُرُوجُ هُوَ الصُّعُودَ وَالْمِعْرَاجُ بِالْكَسْرِ شِبْهُ السُّلَّمِ]، فَالإِسْرَاءُ [هُوَ السَّفَرُ لَيْلاً] مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْقُرْءَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَاتِنَا﴾ [سُورَةَ الإِسْرَاء/1] فَلِذَلِكَ يَكْفُرُ مُنْكِرُهُ [قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ «الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ» أَيْ بِالثِّمَارِ وَالأَشْجَارِ وَالأَنْهَارِِ، وَقِيلَ لأِنَّهُ مَقَرُّ الأَنْبِيَاءِ وَمَهْبِطُ الْمَلائِكَةِ]، وَالْمِعْرَاجُ يَكَادُ يَكُونُ نَصًّا صَرِيْحًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى﴾ [سُورَةَ النَّجْم]، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ صَرِيْحًا لأِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ بِنَصٍّ قَطْعِيٍّ كَوْنُ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى فَوْقَ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

الشَّرْحُ: أَيْ ذُهِبَ بِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى كَمَا تَقَدَّمَ [الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ الْبُرَاقَ فِي ذَهَابِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى أَمَّا فِي الرُّجُوعِ رَجَعَ بِطَرِيقِ خَرْقِ الْعَادَةِ بِدُونِ الْبُرَاقِ. أَمَّا الْبُرَاقُ بَعْدَمَا رَكِبَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم عَادَ إِلَى الْجَنَّةِ].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَعُرِجَ بِشَخْصِهِ فِي الْيَقَظَةِ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ إِلَى حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الْعُلَى.

الشَّرْحُ: أَيْ عُرِجَ بِهِ عَقِيبَ الإِسْرَاءِ، فَالإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ كَانَا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ مُتَعَاقِبَيْنِ، وَهُمَا عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ فِي الْيَقَظَةِ بِشَخْصِهِ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَكْرَمَهُ اللَّهُ بِمَا شَاءَ وَأَوْحَى إِلَيْهِ مَا أَوْحَى ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾ [سُورَةَ النَّجْم/11]، فَصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الآخِرَةِ وَالأُولَى.

الشَّرْحُ: اسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾ [سُورَةَ النَّجْم/11] عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ رَأَى رَبَّهُ بِقَلْبِهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ لا بِعَيْنِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْفُؤَادِ فَؤُادُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ جِبْرِيلَ [ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ. رَوَاهُ مُسْلِمٍ. أَمَّا نَفْيُّ عَائِشَةَ فَيُحْمَلُ عَلَى رُؤْيَةِ الْبَصَرِ، وَعَلَى هَذَا فَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ إِثْبَاتِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَنَفْيِّ عَائِشَةَ بِأَنْ يُحْمَلَ نَفْيُهَا عَلَى رُؤْيَةِ الْبَصَرِ وَإِثْبَاتُهُ عَلَى رُؤْيَةِ الْقَلْبِ. لاَ يُقَالُ رَأَى مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي فُؤَادِهِ إِنَّمَا يُقَالُ بِفُؤَادِهِ].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْحَوْضُ الَّذِي أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ غِيَاثًا لأُمَّتِهِ حَقٌّ [أَيْ مَغُوثَةً لَهُمْ، حَقٌّ أَي ثَابِتٌ لِمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أُنْزِلَتْ عَلَيَّ ءَانِفًا سُورَةٌ وَقَرَأَ «إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر، ثُمَّ قَالَ إِنَّهُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ وَعَدَنِيهْ رَبِّي عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ وَهُوَ حَوْضِي تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ءَانِيَتُهُ عَدَدَ نُجُومِ السَّمَاءِ» هَذَا الْحَوْضُ الْمَاءُ الَّذِي يَنْصَبُّ فِيهِ مِنَ الْجَنَّةِ، مِيزَابَانِ مِنَ الْجَنَّةِ يَصُبَّانِ فِي هَذَا الْحَوْضِ، ثُمَّ الَّذِينَ شَرِبُوا مِنْهُ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ، لا يَعْطَشُونَ بَعْدَ ذَلِكَ، لا يَجِدُ أَهْلُ الْجَنَّةِ عَطَشًا يُزْعِجُهُمْ إِنَّمَا يَشْرَبُونَ تَلَذُّذًا. وَرَدَ فِي وَصْفِ الْحَوْضِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ مَاءُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ وَرِيْحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ وَكِيزَانُهُ - ءَانِيَتُهُ - كَنُجُومِ السَّمَاءِ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلا يَظْمَأُ أَبَدًا»، وَإِنَّمَا قَالَ غِيَاثًا لأُمَّتِهِ لأَنَّ النَّاسَ عِنْدَما يَشْتَدُّ عَطَشُهُمْ، عِنْدَما تَدْنُو الشَّمْسُ مِنْهُمْ وَيَعْظُمُ كَرْبُهُمْ، فَيَمُرُّونَ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ غِيَاثًا عِنْدَ مَسَاسِ الْحَاجَةِ فِي كُرُبَاتِ الْمَوْقِفِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. كُلُّ أُمَّةٍ لَهُمْ حَوْضٌ، كُلُّ نَبِيٍّ لَهُ حَوْضٌ تَرِدُهُ أُمَّتُهُ، لا تَرِدُهُ غَيْرُ أُمَّتِهِ، يَشْرَبُ مِنْهُ أَتْبَاعُهُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ فِي أَيَّامِهِ وَمَنْ كَانُوا عَلَى شَرِيعَتِهِ].

الشَّرْحُ: يَجِبُ الإِيْمَانُ بِالْحَوْضِ الَّذِي يَشْرَبُ مِنْهُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَعَدَّ الْحَوْضَ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْقَاذًا لِمَنْ كَانَ عَطِشًا مِنْ أُمَّتِهِ فِي الْقِيَامَةِ، فَإِنَّ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لا يَظْمَأُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ أَصَابَهُ عَطَشٌ وَهُمُ الأَتْقِيَاءُ فَإِنَّمَا يَشْرَبُونَ تَلَذُّذًا.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالشَّفَاعَةُ الَّتِي ادَّخَرَهَا لَهُمْ حَقٌّ كَمَا رُوِيَ فِي الأَخْبَارِ.

الشَّرْحُ: يَجِبُ الإِيْمَانُ بِالشَّفَاعَةِ الَّتِي ادَّخَرَهَا النَّبِيُّ لأُمَّتِهِ [قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ «شَفَاعَتِي لأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُمَا، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمُحْتَاجِينَ لِلشَّفَاعَةِ هُمْ أَهْلُ الْكَبَائِرِ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَالشَّفَاعَةُ يَجِبُ الإِيْمَانُ بِهَا لِثُبُوتِهَا بِنَصِّ الْقُرْءَانِ وَالأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ أَيِ الْمُسْتَفِيضَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾، وَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى﴾]، وَمَعْنَى الشَّفَاعَةِ سُؤَالُ الْخَيْرِ مِنَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلأُمَّةِ، أَيْ أَنَّ الرَّسُولَ يَطْلُبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رَبِّهِ إِنْقَاذَ خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنْ أُمَّتِهِ مِنَ النَّارِ [قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُيِّرْتُ بَيْنَ الشَّفَاعَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَدْخُلَ نِصْفُ أُمَّتِي الْجَنَّةَ فَاخْتَرْتُ الشَّفَاعَةَ لأَنَّهَا أَعَمُّ وَأَكْفَى»] بَعْدَ أَنْ دَخَلُوهَا لِبَعْضِهِمْ وَبِعَدَمِ دُخُولِهَا لِبَعْضٍ ءَاخَرَ [فَالشَّفَاعَةُ إِمَّا تَكُونُ شَفَاعَةَ إِنْقَاذٍ مِنْ عَذَابٍ وَإِمَّا تَكُونُ بَعْدَ نَيْلِ شَىْءٍ مِنَ الْعَذَابِ]. وَالَّذِي خُصَّ بِهِ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الشَّفَاعَةِ هُوَ الْكَثْرَةُ الَّتِي لا تَحْصُلُ لِغَيْرِهِ مِنَ الأَنْبِيَاءِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ مَنْ سِوَاهُ مِنَ الأَنْبِيَاءِ لا يَشْفَعُونَ بَلِ الشَّفَاعَةُ لَهُمْ ثَابِتَةٌ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْمِيثَاقُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ءَادَمَ وَذُرِّيَّتِهِ حَقٌّ.

الشَّرْحُ: الْمِيثَاقُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى ءَادَمَ هُوَ الْمِيثَاقُ الَّذِي شَمَلَ الأَنْبِيَاءَ. قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [سُورَةَ الأَحْزَاب/7]، [أَيْ مِيثَاقاً قَوِيًّا، أَخَذَ اللَّهُ مِنَ الْجَمِيعِ عَهْدًا عَلَى الدِّينِ، عَلَى الإِسْلامِ].

أَمَّا الْمِيثَاقُ الَّذِي أُخِذَ مِنْ ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ فَهُوَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي ءَادَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف/172]. وَهَذَا الْمِيثَاقُ – أَيِ الْعَهْدُ – هُوَ اعْتِرَافُهُمْ بَعْدَ أَنِ اسْتَخْرَجَهُمْ مِنْ ظَهْرِ ءَادَمَ، بَعْدَمَا نَزَلَ إِلَى الأَرْضِ، فَصَوَّرَهُمْ وَخَلَقَ فِيهِمُ الْمَعْرِفَةَ وَالإِدْرَاكَ، بِأَنَّهُ لا إِلَهَ لَهُمْ إِلاَّ اللَّهُ، فَجَمِيعُ ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ اعْتَرَفُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ [الْمَعْنَى إِنَّ اللَّهَ أَخَذَ الْعَهْدَ مِنْ ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ، أَخْرَجَهُمْ مِنْ صُلْبِ ءَادَم وَصَوَّرَهُمْ، أَيْ أَرْوَاحُهُمْ مُصَوَّرَةٌ بِشَكْلٍ وَرَكَّبَ فِيهِمُ الْعَقْلَ. قَالَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ الْمَلاَئِكَةِ «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ» قَالُوا: «بَلا، لا إِلَهَ لَنَا غَيْرُكَ» فَعَرَفُوا خَالِقَهُمْ. وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ وَيُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ» مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُسْتَعِدٌّ لِقَبُولِ الإِسْلامِ، لأِنَّهُ يَوْمَ أَخْرَجَ اللَّهُ أَرْوَاحَ ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ مِنْ ظَهْرِ ءَادَمَ فَصَوَّرَهُمْ صُوَرًا وَاسْتَنْطَقَهُمْ فَنَطَقُوا «لا إِلَهَ لَنَا غَيْرُكَ». كُلُّ مَوْلُودٍ عَلَى مُوجَبِ ذَلِكَ يُولَدُ، عِنْدما يُولَدُ لا يَذْكُرُ ذَلِكَ لَكِنْ هُوَ مُسْتَعِدٌّ أَنْ يَبْقَى عَلَى ذَلِكَ الاعْتِقَادِ، إِلاَّ أَنْ يُعَلِّمَهُ أَهْلُهُ الْمَجُوسِيَّةَ أَوْ غَيْرَهَا فَيَعْتَقِدُ عَقِيدَتَهُمْ، هَذَا مَعْنَاهُ. لَمَّا رُكِّبَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ نَسُوا ذَلِكَ الْعَهْدَ ثُمَّ أَخْرَجَهُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا ثُمَّ هَذَا الإِنْسَانُ يُكَلِّمُهُ أَبُوهُ بِالْمَجُوسِيَّةِ، وَيُكَلِّمُ الآخَرَ أَبُوهُ الْمُسْلِمُ عَنِ الإِسْلامِ فَيَقْبَلُ لأِنَّهُ يَكُونُ مُهَيَّأً لِقَبُولِ مَا يُلْقَى إِلَيْهِ، فَالْفِطْرَةُ هِيَ مُقْتَضَى ذَاكَ التَّوْحِيدِ الَّذِي عَرَفَ حِينَ أُخْرِجَتْ رُوحُهُ مِنْ ظَهْرِ ءَادَم وَصُوِّرَتْ بِصُوَرٍ صَغِيرَةٍ. اللَّهُ تَعَالَى أَخْرَجَ أَرْوَاحَ بَنِي ءَادَمَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ أَجْسَادَهُمْ، رَكَّبَ فِيهِمُ الْعَقْلَ وَالْمَعْرِفَةَ، فَعَرَفُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ بِلا مَكَانٍ وَأَنَّهُ لَيْسَ جِسْمًا وَأَنَّهُ لا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ أَنْ يُعْبَدَ غَيْرُهُ وَقَالُوا: «لا إِلَهَ لَنَا غَيْرُكَ» وَالأَجْسَادُ خُلِقَتْ شَيْئًا بَعْدَ شَىْءٍ مَا خُلِقَتْ أَيَّامَ ءَادَمَ، أَيَّامَ ءَادَمَ الأَرْوَاحُ كَانَتْ مَخْلُوقَةً كُلُّ الأَرْوَاحِ وَلَهَا مُسْتَقَّرٌ ثُمَّ كُلَّمَا حَمَلَتِ امْرَأَةٌ وَصَارَ وَقْتُ دُخُولِ الرُّوحِ فِي الْجَنِينِ مَلَكُ الرَّحِمِ الْمُوَكَّلُ يَحْمِلُ الرُّوحَ يُدْخِلُهَا فِي جَوْفِ الأُمِّ فَيَدْخُلُ إِلَى هَذَا الْجَنِينِ].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى، فِيمَا لَمْ يَزَلْ، عَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَعَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَلا يُزَادُ فِي ذَلِكَ الْعَدَدِ وَلا يُنْقَصُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ أَفْعَالُهُمْ فِيمَا عَلِمَ مِنْهُمْ أَنْ يَفْعَلُوهُ، وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ.

الشَّرْحُ: الْجُمْلَةُ الأُولَى الَّتِي فِيهَا بَيَانُ إِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ بِمَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ تَفْصِيلاً، وَبِعَدَدِ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ تَفْصِيلاً [عِلْمُ اللَّهِ أَزَلِيٌّ أَبَدِيٌّ وَقُدْرَتُهُ وَمَشِيئَتُهُ وَكَلامُهُ لا يَزِيدُ وَلا يَنْقُصُ، لَوْ كَانَ اللَّهُ عِلْمُهُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ لَكَانَ مِثْلَ خَلْقِهِ، وَالْمَخُلُوقُ مُتَغَيِّرٌ وَالتَّغَيُّرُ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ. بِعِلْمٍ وَاحِدٍ عَلِمَ كُلَّ شَىْءٍ حَصَلَ وَيَحْصُلُ فِي الآخِرَةِ. وَالآخِرَةُ لا نِهَايَةَ لَهَا، هَذَا الَّذِي لا نِهَايَةَ لَهُ يَعْلَمُهُ بِعِلْمٍ أَزَلِيٍّ. أَهْلُ الْجَنَّةِ لا يَمُوتُونَ وَأَنْفَاسُهُمْ دَائِمَةٌ، كَذَلِكَ أَهْلُ النَّارِ الْكُفَّارُ لا يَمُوتُونَ وَأَنْفَاسُهُمْ دَائِمَةٌ لا نِهَايَةَ لَهَا، اللَّهُ عَلِمَ كُلَّ هَذَا فِي الأَزَلِ، بِعِلْمٍ وَاحِدٍ عَلِمَ جَمِيعَ مَا كَانَ وَمَا سَيَكُونُ، بِعِلْمٍ أَزَلِيٍّ لَيْسَ بِعِلْمٍ يَعْقُبُهُ عِلْمٌ، لا، بِعِلْمٍ وَاحِدٍ يَعْلَمُ هَذَا كُلَّهُ]، وَأَرَادَ الْمُؤَلِّفُ بِهَا أَنْ يُبَيِّنَ مَا قُرِّرَ مِنْ أَزَلِيَّةِ صِفَاتِ اللَّهِ الذَّاتِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ كَمَا قَالَ فِيمَا تَقَدَّمَ: «مَا زَالَ بِصِفَاتِهِ قَدِيْمًا قَبْلَ خَلْقِهِ» بَيَانًا لِسَعَةِ عِلْمِ اللَّهِ وَأَنَّ عِلْمَهُ لا يُقَدَّرُ بِمَعْلُومِ الْخَلائِقِ، وَحَسْمًا لِمَادَّةِ الشَّكِّ فِي الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ مِنَ الضَّعْفَةِ أَيْ ضَعْفَةِ الأَفْهَامِ، وَدَفْعًا لِتَلْبِيسِ أَوْهَامِ الْقَدَرِيَّةِ أَيِ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى الْعَوَامِّ، حَيْثُ زَعَمُوا: «كَيْفَ يُعَذِّبُ اللَّهُ عَلَى مَا قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ» [الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَ أَصْحَابَهُ «اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ»، أَيْ أَطْلُبُ مِنْكَ أَنْ تُعِيذَنِي مِنْ شَرِّ مَا خَلَقْتَهُ أَنْتَ، هَذَا دَلِيلٌ لأِهْلِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ خَالِقُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَكُلِّ مَا يَحْصُلُ مِنَ الْعِبَادِ. اللَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ الإِيْمَانَ فِي الْمُؤْمِنِ وَهُوَ خَلَقَ الْكُفْرَ فِي الْكَافِرِينَ، لَيْسَ الْمُؤْمِنُونَ خَلَقُوا الإِيْمَانَ فِي نُفُوسِهِمْ وَلا الْكُفَّارُ خَلَقُوا الْكُفْرَ فِي نُفُوسِهِمْ، ثُمَّ لَوْ أَعْطَى الإِيْمَانَ الْعِبَادَ كُلَّهُمْ لَكَانَ كُلُّ الْبَشَرِ وَكُلُّ الْجِنِّ مُسْلِمِينَ مُؤْمِنيِنَ كَالْمَلائِكَةِ، لَكِنْ مَا فَعَلَ. اللَّهُ تَعَالَى لِحِكْمَةٍ خَلَقَ الإِيْمَانَ وَالطَّاعَةَ فِي بَعْضِ خَلْقِهِ وَفِي بَعْضِهِمُ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِي. فَعِنْدَما نَرَى أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ الأَضْدَادَ - الإِيْمَانُ ضِدُّ الْكُفْرِ، الْكُفْرُ ضِدُّ الإِيْمَانِ، الطَّاعَةُ ضِدُّ الْمَعْصِيَةِ - نَزْدَادُ عِلْمًا بِكَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ، كَمَا أَنَّنَا عِنْدَما نَرَى بَعْضَ الأَشْجَارِ فِيهَا ثَمَرٌ حُلْوٌ وَبَعْضَ الأَشْجَارِ لَيْسَ لَهَا ثَمَرٌ حُلْوٌ وَبَعْضَ الأَشْجَارِ لَهَا سُمٌّ تَقْتُلُ وَبَعْضَ الأَشْجَارِ دَوَاءٌ، عِنْدما نَرَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ هَذِهِ الأَشْيَاءَ نَزْدَادُ عِلْمًا بِكَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ، لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ مَا خَلَقَ الْخَيْرَ فَقَطْ، خَلَقَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ]، فَبَيَّنَ الطَّحَاوِيُّ مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ عَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ وَيُطِيعُونَ عَنِ اخْتِيَارٍ وَإِيثَارٍ، وَعَلِمَ عَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ أَنَّهُمْ يَكْفُرُونَ وَيُخَالِفُونَ أَوَامِرَهُ عَنِ اخْتِيَارٍ مِنْهُمْ عِنْدَ وُجُودِهِمْ وَكَوْنِهِمْ بِصِفَةِ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ لا عَنْ جَبْرٍ وَاضْطِرَارٍ يَسْتَوْجِبُونَ النَّارَ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ لا يَعْلَمَ مَا يَكُونُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ قَبْلَ وُجُودِهِمْ إِذْ ذَاكَ جَهْلٌ وَالْجَهْلُ فِي حَقِّ الْقَدِيْمِ مُحَالٌ، فَثَبَتَ سَبْقُ عِلْمِهِ فِي الأَزَلِ بِمَا يَكُونُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ.

أَمَّا قَوْلُ الْمُؤَلِّفِ: «وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» هَذَا لَفْظُ حَدِيثٍ مَشْهُورٍ صَحِيحِ الإِسْنَادِ رَوَاهُ أَصْحَابُ الْكُتُبِ السِّتَّةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مَنْ قُدِّرَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ قُدِّرَ لَهُ مَا يُقَرِّبُهُ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ وَوُفِّقَ لِذَلِكَ، وَمَنْ قُدِّرَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ قُدِّرَ لَهُ خِلافُ ذَلِكَ فَأَتَى بِأَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ وَأَصَرَّ عَلَيْهَا حَتَّى طَوَى عَلَيْهِ صَحِيفَةَ عُمْرِهِ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ [قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَم: «إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا». رَوَاهُ مُسْلِمٌ. الْمَعْنَى أَنَّهُ لا يَكُونُ الْعَبْدُ سَعِيدًا إِلاَّ عَلَى حَسَبِ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ، فَمَنْ عَلِمَ اللَّهُ فِي الأَزَلِ أَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى الإِيْمَانِ فَهُوَ سَعِيدٌ، وَلَوْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى خِلافِ مَا خُتِمَ لَهُ بِهِ، وَكَذَلِكَ الشَّقِيُّ هُوَ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى الشَّقَاوَةِ].

الشَّرْحُ: مَعْنَى «الأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ» أَيْ أَنَّ الْجَزَاءَ يَكُونُ عَلَى مَا يُخْتَمُ بِهِ لِلْعَبْدِ مِنَ الْعَمَلِ، فَمَنْ خُتِمَ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَهُوَ سَعِيدٌ، وَمَنْ خُتِمَ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَهُوَ شَقِيٌّ، وَلَيْسَ بِمَا يَجْرِي عَلَى الإِنْسَانِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَمَنْ عَاشَ كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمَ وَمَاتَ عَلَى عَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَهُوَ يُجَازَى بِمَا خُتِمَ لَهُ بِهِ، وَمَنْ كَانَ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ فَيُجَازَى بِحَسَبِ مَا خُتِمَ لَهُ بِهِ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالسَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَالشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى.

الشَّرْحُ: أَيْ أَنَّ السَّعِيدَ مَنْ خَلَقَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيهِ الإِيْمَانَ وَالطَّاعَةَ، فَجَرَى ذَلِكَ عَلَى يَدِهِ وَمَاتَ عَلَيْهِ، وَالشَّقِيُّ مَنْ خَلَقَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيهِ الشَّرَّ، فَأَجْرَاهُ عَلَى يَدِهِ وَمَاتَ عَلَيْهِ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَصْلُ الْقَدَرِ سِرُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ [قَالَ الشَّيْخُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَمْرٌ أَخْفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ] لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ [لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ: ﴿قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّموَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ﴾. الْغَيْبُ فِي الآيَةِ أُرِيدَ بِهِ جَمِيعُ الْغَيْبِ، وَالْغَيْبُ هُوَ مَا غَابَ عَنْ حِسِّ الْخَلْقِ، فَمَا غَابَ عَنْ حِسِّ الْخَلْقِ لا يَعْلَمُ جَمِيعَهُ إِلاَّ اللَّهُ، وَلا يُطْلِعُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ نَبِيًّا وَلا مَلَكًا، إِنَّمَا يُطْلِعُ عَلَى بَعْضِ الْغَيْبِ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ مِنْ مَلائِكَةٍ وَأَنْبِيَاءَ وَأَوْلِيَاءَ. فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لا أَحَدَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يُحِيطُ بِالْغَيْبِ عِلْمًا، بَلِ اللَّهُ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالإِحَاطَةِ بِالْغَيْبِ عِلْمًا، وَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ أَحَدًا غَيْرَ اللَّهِ يُحِيطُ بِالْغَيْبِ عِلْمًا فَقَدْ كَذَّبَ الْقُرْءَانَ].

الشَّرْحُ: أَيْ أَنَّ ذَلِكَ مَسْتُورٌ عَنِ الْعِبَادِ، فَلِذَلِكَ نُهِينَا عَنِ الْخَوْضِ فِيهِ، وَإِنَّمَا الأَمْرُ الَّذِي يَنْبَغِي فِي أَمْرِ الْقَدَرِ مَعْرِفَةُ مَعْنَاهُ وَتَفْسِيرِهِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا ذُكِرَ الْقَدَرُ فَأَمْسِكُوا» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، هَذَا الْقَدْرُ هُوَ الَّذِي صَحَّ، أَمَّا زِيَادَةُ ذِكْرِ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يَثْبُتْ [وَمَعْنَاهُ لا تَخُوضُوا لا تَتَوَغَّلُوا فِي الْبَحْثِ وَالْخَوْضِ فِيهِ لِلْوُصُولِ إِلَى سِرِّهِ، هَذَا مُنِعْنَا عَنْهُ لأَنَّهُ بَحْرٌ لَيْسَ لَهُ سَفِينَةٌ. أَمَّا تَفْسِيرُ الْقَدَرِ الَّذِي مَرَّ وَهُوَ تَدْبِيرُ الأَشْيَاءِ عَلَى وَجْهٍ مُطَابِقٍ لِعِلْمِ اللَّهِ الأَزَلِيِّ وَمَشِيئَتِهِ الأَزَلِيَّةِ فَيُوجِدُهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي شَاءَ أَنْ تَكُونَ فِيهِ، هَذَا يَجِبُ مَعْرِفَتُهُ].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالتَّعَمُّقُ وَالنَّظَرُ فِي ذَلِكَ ذَرِيعَةُ الْخِذْلانِ وَسُلَّمُ الْحِرْمَانِ وَدَرَجَةُ الطُّغْيَانِ، فَالْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ ذَلِكَ نَظَرًا وَفِكْرًا وَوَسْوَسَةً.

الشَّرْحُ: أَيِ احْذَرُوا مِنْ حَيْثُ التَّفْكِيرُ وَالْوَسْوَسَةُ فِي ذَلِكَ، وَادْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ مُحَاوَلَةَ الاِطِّلاعِ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى مِنْ طَرِيقِ الْوَسْوَسَةِ، فَلْيَشْغَلِ الإِنْسَانُ قَلْبَهُ بِمَا يَحْجُزُهُ عَنْ ذَلِكَ. وَالْخِذْلانُ ضِدُّ التَّوْفِيقِ، لأِنَّ مَنْ يَتَتَبَّعُ ذَلِكَ فَهُوَ عَلامَةُ أَنَّهُ مَخْذُولٌ أَيْ مَحْرُومٌ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَوَى عِلْمَ الْقَدَرِ عَنْ أَنَامِهِ وَنَهَاهُمْ عَنْ مَرَامِهِ [قَالَ الشَّيْخُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَهْمَا تَكَلَّفَ بَعْضُهُمُ الْخَوْضَ فِي ذَلِكَ لِلْوُصُولِ إِلَى سِرِّ الْقَدَرِ فَلَنْ يَسْتَطِيعُوا، لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْفَى عَنَّا ذَلِكَ وَنَهَانَا عَنْ طَلَبِهِ. وَقَوْلُ عَلِيٍّ: «لا جَبْرٌ وَلا تَفْوِيضٌ»، أَيْ أَنَّ الْعَبْدَ لَهُ اخْتِيَارٌ مَمْزُوجٌ بِجَبْرٍ، وَأَنَّ الْعَبْدَ مُخْتَارٌ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ، وَأَنَّنَا لا نَقُولُ بِمَقَالَةِ الْجَبْرِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْعَبْدَ لا فِعْلَ لَهُ بِالْمَرَّةِ، إِنَّمَا هُوَ كَالرِّيشَةِ الْمُعَلَّقَةِ فِي الْهَوَاءِ تَأْخُذُهَا الرِّيَاحُ يَمْنَةً وَيَسْرَةً، وَلا نَقُولُ بِمَقَالَةِ الْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ اللَّهَ بَعْدَ أَنْ خَلَقَ الْعَبْدَ صَارَ عَاجِزًا عَنْ خَلْقِ أَعْمَالِهِمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْعَبْدُ خَالِقٌ لِجَمِيعِ فِعْلِهِ الاخْتِيَارِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْعَبْدُ خَالِقُ الشَّرِّ دُونَ الْخَيْرِ، وَكِلا الْفَرِيقَيْنِ الْجَبْرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ كُفَّارٌ.

كَمَا لا تُقَالُ هَذِهِ الْعِبَارَةُ «الإِنْسَانُ مُسَيَّرٌ أَمْ مُخَيَّرٌ» هَذِهِ الْكَلِمَةُ غَلَطٌ لُغَةً وَشَرْعًا، فَالنَّاسُ مُسَيَّرُونَ بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ يُمَكِّنُهُمْ مِنَ السَّيْرِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَالْعَبْدُ مُخْتَارٌ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ. الْمُخْتَارُ مِنَ الاِخْتِيَارِ، أَمَّا مُخَيَّرٌ فَمِنَ التَّخَيُّرِ أَيْ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَالتَّخَيُّرُ هُنَا لا مَعْنَى لَهُ].

الشَّرْحُ: أَيْ نَهَاهُمْ عَنْ طَلَبِهِ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [سُورَةَ الأَنْبِيَاء/23]، فَمَنْ سَأَلَ لِمَ فَعَلَ فَقَدْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ، وَمَنْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ.

الشَّرْحُ: هَذَا مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ: وَرَدُّ النُّصُوصِ كُفْرٌ [كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ النَّسَفِيُّ فِي كِتَابِهِ الْعَقِيدَةِ النَّسَفِيَّةِ]، فَمَنْ عَرَفَ نَصًّا مِنَ النُّصُوصِ الْقُرْءَانِيَّةِ أَوِ الْحَدِيثِيَّةِ فَرَدَّهُ فَهُوَ كَافِرٌ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالنَّصِّ فَرَدَّ مَعْنَاهُ فَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ: فَإِنْ كَانَ شَيْئًا مَعْلُومًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا فَإِنْكَارُ ذَلِكَ كُفْرٌ، وَكَذَلِكَ الشَّكُّ فِيهِ، أَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَإِنْكَارُهُ لَيْسَ كُفْرًا.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَهَذِهِ جُمْلَةُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَنْ هُوَ مُنَوَّرٌ قَلْبُهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى [فِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ وَإِلَى أَنَّ مَنْ حَوَى ذَلِكَ وَعَمِلَ بِهِ فَقَدْ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ وَانْتَظَمَ فِي سِلْكِ الأَوْلِيَاءِ].

الشَّرْحُ: أَيْ أَنَّ عَقْدَ الْقَلْبِ عَلَى تَصْدِيقِ مَا جَاءَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ رَسُولِهِ هُوَ أَصْلٌ يَتَمَسَّكُ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهِيَ دَرَجَةُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ [يُقَالُ رَسَخَ أَيِ اسْتَحْكَمَ وَثَبَتَ].

الشَّرْحُ: أَيِ الْمُتَمَكِّنِينَ فِي الْعِلْمِ، وَهُمُ الَّذِينَ ثَبَتُوا فِيهِ وَتَمَكَّنُوا.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لأِنَّ الْعِلْمَ عِلْمَانِ: عِلْمٌ فِي الْخَلْقِ مَوْجُودٌ وَعِلْمٌ فِي الْخَلْقِ مَفْقُودٌ.

الشَّرْحُ: الْعِلْمُ الْمَوْجُودُ فِي الْخَلْقِ هُوَ مَا جَعَلَ اللَّهُ سَبِيلاً لِلْعِبَادِ إِلَيْهِ، وَأَمَّا الْعِلْمُ الْمَفْقُودُ بِالنِّسْبَةِ لَهُمْ فَهُوَ مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِهِ وَلَمْ يَجْعَلْ لِلْخَلْقِ سَبِيلاً إِلَيْهِ. فَعِلْمُ الْعَقَائِدِ وَالأَحْكَامِ وَعِلْمُ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْمَعِيشَةِ هُوَ مِمَّا جَعَلَ اللَّهُ لِلْخَلْقِ سَبِيلاً إِلَيْهِ، وَأَمَّا مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِهِ كَعِلْمِ وَجْبَةِ الْقِيَامَةِ فَذَلِكَ هُوَ الْعِلْمُ الْمَفْقُودُ لِلْعِبَادِ، فَاكْتِسَابُ الْعِلْمِ الأَوَّلِ مَطْلُوبٌ وَمَحْمُودٌ، وَأَمَّا مُحَاوَلَةُ اكْتِسَابِ الْعِلْمِ الثَّانِي فَهُوَ ضَلالٌ [فَالْعِلْمُ الْمَفْقُودُ هُوَ مَا اخْتَصَّ اللَّهُ بِهِ، فَدَعْوَاهُ كُفْرٌ كَالَّذِي يَدَّعِي عِلْمَ وَجْبَةِ الْقِيَامَةِ، فَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ يَعْرِفُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ كَفَرَ. جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لَمَّا أَتَى النَّبِيَّ يَوْمًا فَسَأَلَهُ: «يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ»، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: «مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ»، مَعْنَاهُ أَنَا وَأَنْتَ سَوَاءٌ فِي عَدَمِ الْعِلْمِ بِهَا]


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْكَارُ الْعِلْمِ الْمَوْجُودِ كُفْرٌ وَادِّعَاءُ الْعِلْمِ الْمَفْقُودِ كُفْرٌ، وَلا يَثْبُتُ الإِيْمَانُ إِلاَّ بِقَبُولِ الْعِلْمِ الْمَوْجُودِ وَتَرْكِ طَلَبِ الْعِلْمِ الْمَفْقُودِ.

الشَّرْحُ: مِنْ هُنَا يُعْلَمُ كُفْرُ مَنْ يُنْكِرُ الْعِلْمَ الْمَوْجُودَ، كَإِنْكَارِ السُّوفِسْطَائِيَّةِ وُجُودَ الأَشْيَاءِ [قَالَ الشَّيْخُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «وَمِنْهُ عُلُومٌ ضَرُورِيَّةٌ يَعْرِفُونَهَا الْعِبَادُ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلالٍ وَنَظَرٍ كَإِدْرَاكِ وُجُودِ الإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانَاتِ بِالْمُشَاهَدَةِ وَإِدْرَاكِ أَعْمَالِهِمُ الظَّاهِرَةِ، وَجَعَلَ فِيهِمْ إِدْرَاكَاتٍ يُتَوَصَّلُ إِلَيْهَا بِالنَّظَرِ بِإِعْمَالِ الْفِكْرِ فِي خَلْقِهِ»]، وَيُعْلَمُ كُفْرُ مَنْ يَدَّعِي مِنَ الْخَلْقِ الإِحَاطَةَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْمًا، فَمَنِ ادَّعَى ذَلِكَ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادِ فَقَدْ كَفَرَ، لأِنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالإِحَاطَةِ بِالْغَيْبِ عِلْمًا، لا أَحَدَ مِنْ خَلْقِهِ يُحِيطُ عِلْمًا بِالْغَيْبِ، وَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ أَحَدًا غَيْرَ اللَّهِ يُحِيطُ بِالْغَيْبِ عِلْمًا فَقَدْ كَذَّبَ الْقُرْءَانَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ لاَّ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ﴾ [سُورَةَ النَّمْل/65]. وَقَدْ أَلَّفَ بَعْضُ الْغُلاةِ رِسَالَةً ذَكَرَ فِيهَا أَنَّ اللَّهَ أَطْلَعَ الرَّسُولَ عَلَى كُلِّ مَا يَعْلَمُهُ بِلا اسْتِثْنَاءٍ، وَهَذَا غُلُوٌّ قَبِيحٌ [يَكْفِي لِرَدِّ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إِنَّ الرَّسُولَ يَعْلَمُ الْغَيْبَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾، مَعْنَاهُ أَنَا مَا أَدْرِي تَفَاصِيلَ مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ، إِنَّمَا أَعْرِفُ الشَّىْءَ الَّذِي يُوحَى بِهِ إِلَيَّ، فَمَنِ ادَّعَى أَنَّ الرَّسُولَ يَعْلَمُ كُلَّ الْغَيْبِ يَكُونُ تَكْذِيبًا لِلْقُرْءَانِ. كَذَلِكَ الَّذِي يَقُولُ «الرَّسُولُ يَعْلَمُ كُلَّ شَىْءٍ يَعْلَمُهُ اللَّهُ» هَذَا جَعَلَ الرَّسُولَ مُسَاوِيًا لِلَّهِ، هَذَا مِنْ أَكْبَرِ الشِّرْكِ مِنْ أَكْبَرِ الْكُفْرِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَّسُولٍ﴾، ﴿إِلاَّ﴾ هُنَا بِمَعْنَى لَكِنْ، الْمَعْنَى لَكِنْ مَنِ ارْتَضَى اللَّهُ تَعَالَى يَجْعَلُ لَهُ مَنْ يَحْفَظُهُ مِنَ الْمَلائِكَةِ مِنْ أَمَامٍ وَمِنْ خَلْفٍ، لَيْسَ مَعْنَاهُ هَؤُلاءِ يُطْلِعُهُمُ اللَّهُ عَلَى الْغَيْبِ].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَنُؤْمِنُ بِاللَّوْحِ وَالْقَلَمِ وَبِجَمِيعِ مَا فِيهِ قَدْ رُقِمَ [قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْرُهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَىْءٍ ثُمَّ خَلَقَ السَّموَاتِ وَالأَرْضَ» فَقَوْلُهُ «وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَىْءٍ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَلَمَ الأَعْلَى هُوَ ثَالِثُ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى].

الشَّرْحُ: يَجِبُ عَلَى كُلِّ الْمُكَلَّفِينَ الإِيْمَانُ بِاللَّوْحِ وَالْقَلَمِ، وَاللَّوْحُ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ جِرْمٍ عُلْوِيٍّ [لَيْسَ كَأَلْوَاحِنَا]، قِيلَ هُوَ تَحْتَ الْعَرْشِ وَقِيلَ فَوْقَهُ [قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ فَوْقَ بَعْضِ الْعَرْشِ مُنْفَصِلاً عَنْهُ لَيْسَ مُتَّصِلاً بِهِ]، وَأَمَّا الْقَلَمُ فَهُوَ جِرْمٌ عُلْوِيٌّ [لَيْسَ كَأَقْلامِنَا]، خُلِقَ قَبْلَ اللَّوْحِ ثُمَّ خُلِقَ اللَّوْحُ فَأُمِرَ بِأَنْ يَجْرِيَ عَلَى اللَّوْحِ، فَجَرَى بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَتَبَ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [رَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أَنَّهُ قَالَ: «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَم، ثُمَّ قَالَ اكْتُبْ، فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»، ثُمَّ هَذَا الْحَدِيثُ جُمِعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ بِأَنَّ أَوْلَوِيَّةَ الْقَلَمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا عَدَا الْمَاءِ وَالْعَرْشِ]، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ﴾ [سُورَةَ يَس/12]، فَعِلْمُ اللَّهِ غَيْرُ مُتَنَاهٍ، أَمَّا الْمَكْتُوبُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ شَىْءٌ مُتَنَاهٍ، وَاللَّوْحُ لَيْسَ فِيهِ تَفَاصِيلُ مَا يَقَعُ فِي الآخِرَةِ لأِنَّ هَذَا الشَّىْءَ لا نِهَايَةَ لَهُ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَلَوِ اجْتَمَعَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَلَى شَىْءٍ كَتَبَهُ اللَّهُ فِيهِ أَنَّهُ كَائِنٌ لِيَجْعَلُوهُ غَيْرَ كَائِنٍ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ عَلَى شَىْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ لِيَجْعَلُوهُ كَائِنًا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ.

الشَّرْحُ: الأَلْفَاظُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُؤَلِّفُ هُنَا وَرَدَتْ فِيمَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَحَادِيثِهِ، بَعْضُهَا بِعَيْنِ اللَّفْظِ الْمَرْوِيِّ، وَبَعْضُهَا بِمَا هُوَ مَعْنَى اللَّفْظِ الْمَرْوِيِّ، وَذَلِكَ مِمَّا يَشْهَدُ الْعَقْلُ بِصِحَّتِهِ لأِنَّهُ قَامَتِ الْبَرَاهِينُ الْعَقْلِيَّةُ عَلَى أَزَلِيَّةِ عِلْمِ اللَّهِ بِمَا يَكُونُ أَبَدًا فَوَجَبَ الاِعْتِقَادُ بِمَضْمُونِ مَا ذُكِرَ.



قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

الشَّرْحُ: أَيْ أَنَّ الْقَلَمَ قَدْ فَرَغَ مِنْ كِتَابَةِ ذَلِكَ. وَهُنَاكَ أَقْلامٌ أُخْرَى غَيْرُ ذَلِكَ الْقَلَمِ تَسْتَنْسِخُ بِهَا الْمَلائِكَةُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَا أُمِرُوا بِهِ، بِدَلِيلِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «حَتَّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوًى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الأَقْلامِ» [أَيْ أَقْلامِ الْمَلائِكَةِ الَّتِي تَسْتَنْسِخُ بِهَا مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ] رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمَا أَخْطَأَ الْعَبْدَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ وَمَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ.

الشَّرْحُ: أَيْ مَا أَصَابَ الْعَبْدَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، لأِنَّ عِلْمَ اللَّهِ سَبَقَ بِذَلِكَ وَلا يَتَغَيَّرُ عِلْمُ اللَّهِ، لأِنَّ تَغَيُّرَ الْعِلْمِ جَهْلٌ وَالْجَهْلُ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ، وَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ لا يُصِيبُ الْعَبْدَ فَمُحَالٌ أَنْ يُصِيبَهُ ذَلِكَ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ سَبَقَ عِلْمُهُ فِي كُلِّ كَائِنٍ مِنْ خَلْقِهِ فَقَدَّرَ ذَلِكَ تَقْدِيرًا مُحْكَمًا مُبْرَمًا، لَيْسَ فِيهِ نَاقِضٌ وَلا مُعَقِّبٌ وَلا مُزِيلٌ وَلا مُغَيِّرٌ وَلا مُحَوِّلٌ وَلا نَاقِصٌ وَلا زَائِدٌ مِنْ خَلْقِهِ فِي سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ.

الشَّرْحُ: يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يَكُونُ فَقَدْ شَاءَ أَنْ يَكُونَ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا أَنَّهُ لا يَحْصُلُ شَىْءٌ إِلاَّ بِعِلْمِ اللَّهِ الأَزَلِيِّ، وَكُلُّ مَا جَرَى وَيَجْرِي لِلْعَالَمِ السُّفْلِيِّ وَالْعُلْوِيِّ فَهُوَ مِمَّا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ الأَزَلِيِّ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَذَلِكَ مِنْ عَقْدِ الإِيْمَانِ وَأُصُولِ الْمَعْرِفَةِ وَالاِعْتِرَافِ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَرُبُوبِيَّتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [سُورَةَ الْفُرْقَان/2]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا﴾ [سُورَةَ الأَحْزَاب/38]، [الْمُرَادُ بِالأَمْرِ هُنَا الْمَفْعُولُ أَيْ أَنَّ الْكَائِنَاتِ وَالْحَادِثَاتِ كُلَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ الأَزَلِيِّ].

الشَّرْحُ: هَذَا زِيَادَةُ بَيَانِ لِمَا قَبْلُ، وَالْمُرَادُ بِالْعَقْدِ الاِعْتِقَادُ، وَالْمُرَادُ بِالأَمْرِ هُنَا لَيْسَ الأَمْرَ التَّكْلِيفِيَّ إِنَّمَا مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى حُصُولَهُ وَوُقُوعَهُ فِي الْوُجُودِ مِنْ أَعْيَانِ الْمَخْلُوقَاتِ أَوْ مِنْ صِفَاتِهِمْ وَحَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الأَمْرَ التَّكْلِيفِيَّ كَالصَّلاةِ وَالصِّيَامِ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَوَيْلٌ لِمَنْ صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْقَدَرِ خَصِيمًا، وَأَحْضَرَ لِلنَّظَرِ فِيهِ قَلْبًا سَقِيمًا، لَقَدِ الْتَمَسَ بِوَهْمِهِ فِي فَحْصِ الْغَيْبِ سِرًّا كَتِيمًا وَعَادَ بِمَا قَالَ فِيهِ أَفَّاكًا أَثِيمًا.

الشَّرْحُ: هَذَا تَصْرِيحٌ بِذَمِّ مَنْ أَنْكَرَ الْقَدَرَ [قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ»، وَفِي رِوَايَةٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ «لِكُلِّ أُمَّةٍ مَجُوسٌ وَمَجُوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا قَدَر»، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ حُذَيْفَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]، هَؤُلاءِ الْمُعْتَزِلَةُ يَقُولُونَ: مَا شِئْتَ لَمْ يَكُنْ وَكَانَ مَا لَمْ تَشَأْ، فَيَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَاءَ مِنَ الْكُفَّارِ أَنْ يُؤْمِنُوا، لَكِنْ مَا كَانَ وَمَا وُجِدَ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ «فَكَانَ مَا لَمْ تَشَأْ» فَهُوَ الشَّرُّ مِنَ الْعِبَادِ هَذَا عِنْدَهُمْ لَمْ يَشَأْهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَيَقُولُونَ وَمَعَ ذَلِكَ وُجِدَ بِخَلْقِ الْعِبَادِ، وَاللَّهُ مَا شَاءَهُ وَمَا خَلَقَهُ، فَهَؤُلاءِ خُصَمَاءُ اللَّهِ.

وَالأَفَّاكُ هُوَ الْكَذَّابُ، وَالأَثِيمُ هُوَ الْفَاجِرُ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ حَقٌّ.

الشَّرْحُ: يَجِبُ الإِيْمَانُ بِوُجُودِ الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ لأِنَّ اللَّهَ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي الْقُرْءَانِ، وَالْعَرْشُ هُوَ أَعْظَمُ الأَجْسَامِ مِنْ حَيْثُ الْمِسَاحَةُ [الْعَرْشُ عَلَى شَكْلِ مُرَبَّعٍ لَهُ قَوَائِمُ، شَكْلُهُ شَكْلُ سَرِيرٍ لَهُ قَوَائِمُ، لَهُ أَرْجُل]، وَأَمَّا الْكُرْسِيُّ فَهُوَ تَحْتَهُ، وَهُوَ بِمَثَابَةِ مَا يَضَعُ رَاكِبُ السَّرِيرِ قَدَمَهُ، وَهُوَ صَغِيرٌ جِدًّا بِالنِّسْبَةِ لِلسَّرِيرِ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْعَرْشِ وَمَا دُونَهُ.

الشَّرْحُ: أَيْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُسْتَغْنٍ عَنِ الْعَرْشِ وَمَا سِوَاهُ [قَالَ الإِمَامُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْعَرْشَ إِظْهَارًا لِقُدْرَتِهِ وَلَمْ يَتَّخِذْهُ مَكَانًا لِذَاتِهِ»، رَِوَاهُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ] فَاللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ مَحْمُولاً بِالْعَرْشِ، لأِنَّ اللَّهَ لا يَمَسُّ وَلا يُمَسُّ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، لِمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنَ الْبَرَاهِينِ الْقَطْعِيَّةِ الْمُحْكَمَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ فِي إِثْبَاتِ تَعَالِيهِ عَنِ الْحَاجَاتِ وَعَنْ مُشَابَهَةِ الْخَلْقِ كَقَوْلِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [سُورَةَ فَاطِر/15]، فَقَدْ أَثْبَتَ الْفَقْرَ وَالْحَاجَةَ لِعِبَادِهِ وَنَفَى ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ﴾.

وَقَوْلُ الْمُؤَلِّفِ: «وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْعَرْشِ» رَدٌّ عَلَى الْيَهُودِ وَمُجَسِّمَةِ هَذِهِ الأُمَّةِ حَيْثُ وَصَفُوهُ بِالْجِسْمِ وَالاِسْتِقْرَارِ عَلَى الْعَرْشِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [سُورَةَ طَه/5] الْعَرْشُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ السَّرِيرُ الْمَحْفُوفُ بِالْمَلائِكَةِ [فِي الدُّنْيَا يَحْمِلُهُ أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمَلائِكَةِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ ثَمَانِيَةٌ مِنَ الْمَلائِكَةِ]، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الشَّرِيعَةِ، وَيُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْمُلْكُ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

إِذَا مَا بَنُو مَرْوَانَ ثُلَّتْ عُرُوشُهُمْ

أَيْ ذَهَبَ مُلْكُهُمْ وَزَالَ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ لَيْسَ حُجَّةً لإِثْبَاتِ الاِسْتِقْرَارِ لِلَّهِ عَلَى الْعَرْشِ كَمَا تَقُولُ الْمُشَبِّهَةُ الْمُجَسِّمَةُ، بَلِ التَّرْجِيحُ لِمَعْنَى الاِسْتِيلاءِ، لأِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى تَمَدَّحَ بِقَوْلِهِ: ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾، وَلَوِ اسْتُعْمِلَ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى سَبِيلِ الْمَدْحِ فِي حَقِّ مَنْ جَازَ عَلَيْهِ الاِسْتِقْرَارُ، فَلا يُحْمَلُ عَلَى الاِسْتِقْرَارِ وَلا يُفْهَمُ مِنْهُ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ فِي بِشْرِ بنِ مَرْوَانَ:

قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ # مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقِ

فَلَيْسَ مَدْحُ بِشْرِ بنِ مَرْوَانَ فِي هَذَا الْبَيْتِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ جَالِسٌ فِي هَذَا الْبَلَدِ، إِنَّمَا الْمَدْحُ لَهُ لأِنَّهُ اسْتَوَى أَيْ قَهَرَ وَهَيْمَنَ وَسَيْطَرَ عَلَى الْعِرَاقِ، لأِنَّ الْجُلُوسَ فِي الْعِرَاقِ يَشْتَرِكُ فِيهِ الإِنْسَانُ الشَّرِيفُ وَالْقَوِيُّ وَالإِنْسَانُ الدَّنِيْءُ وَالضَّعِيفُ. فَالْمَدْحُ إِنَّمَا يَكُونُ بِصِفَةٍ يَمْتَازُ بِهَا الْمَمْدُوحُ عَمَّا لا يَكَادُ يُدَانِيهِ وَلا يُسَاوِيهِ وَلا يُكَافِئُهُ غَيْرُهُ، فَلا بُدَّ أَنْ يُفْهَمَ مِنَ الاِسْتِوَاءِ الْقَهْرُ وَالاِسْتِيلاءُ إِذْ هُوَ أَشْرَفُ مَعَانِي الاِسْتِوَاءِ وَهُوَ مِمَّا يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعَالَى، لأِنَّهُ وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ قَهَّارٌ، فَلا يَجُوزُ أَنْ يُتْرَكَ مَا هُوَ لائِقٌ بِاللَّهِ تَعَالَى إِلَى مَا هُوَ غَيْرُ لائِقٍ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ الْجُلُوسُ وَالاِتِّصَالُ وَالاِسْتِقْرَارُ [لُغَةُ الْعَرَبِ وَاسِعَةٌ، الْكَلِمَةُ الْوَاحِدَةُ تَأْتِي لِعِشْرِينَ مَعْنًى وَلِسَبْعَةَ عَشَرَ مَعْنًى وَلِعَشْرِ مَعَانٍ وَلِخَمْسَةَ عَشَرَ مَعْنًى. الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْءَانُ بِلُغَتِهِمْ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يَعْرِفُونَ الْمَجَازَ وَالْحَقِيقَةَ. الاِسْتِوَاءُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الاسْتِقْرَارُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِي﴾، وَيُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الاسْتِقَامَةُ الَّتِي هِيَ مِنَ الاعْوِجَاجِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ﴾ أَيِ الزَّرْعُ وَيُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ التَّمَامُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى﴾ أَيْ تَمَّتْ قُوَّتُهُ الْجَسَدِيَّةُ وَيُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الاسْتِيلاَءُ أَيِ الْقَهْرُ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ فِي بِشْرِ بنِ مَرْوَانَ وَيُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الاِرْتِفَاعُ وَالْعُلُوُّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ﴾ وَهَذَا النَّوْعُ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْعُلُوُّ مِنْ حَيْثُ الرُّتْبَةُ كَمَا يُطْلَقُ الاِسْتِوَاءُ عَلَى الْعُلُوِّ الْمَكَانِيِّ فَلا بُدَّ أَنْ يُفْهَمَ مِنَ الاِسْتِوَاءِ الْوَارِدِ فِي الآيَةِ ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ الْقَهْرُ وَالاِسْتِيلاءُ إِذْ هُوَ أَشْرَفُ مَعَانِي الاسْتِوَاء وَهُوَ مِمَّا يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ قَهَّارٌ فَلا يَجُوزُ أَنْ يُتْرَكَ مَا هُوَ لائِقٌ بِاللَّهِ تَعَالَى إِلَى مَا هُوَ غَيْرُ لائِقٍ بِاللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْجُلُوسُ وَالاِتِّصَالُ وَالاِسْتِقْرَارُ، وَتَخْصِيصُ الْعَرْشِ بِالذِّكْرِ لِتَشْرِيفِهِ إِذْ إِضَافَةُ الأَشْيَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تَكُونُ لِتَعْظِيمِ ذَلِكَ الشَّىْءِ].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: مُحِيطٌ بِكُلِّ شَىْءٍ.

الشَّرْحُ: مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَىْءٍ بِالْعِلْمِ وَالْغَلَبَةِ وَالسُّلْطَانِ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفَوْقَهُ.

الشَّرْحُ: الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ شَىْءٍ تَحْتَ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام/18] [﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ مَعْنَاهُ اللَّهُ قَاهِرُ كُلِّ شَىْءٍ ﴿فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ أَيْ بِالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ ﴿فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ أَعْلَى مِنْ عِبَادِهِ بِالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ. هُوَ أَقْدَرُ مِنْ كُلِّ قَادِرٍ وَأَعْلَمُ مِنْ كُلِّ عَالِمٍ هَذَا مَعْنَى فَوْقَ عِبَادِهِ، لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ فِي الْجِهَةِ. الْفَوْقِيَّةُ نَوْعَانِ فَوْقِيَّةٌ بِالْجِهَةِ وَفَوْقِيَّةٌ بِالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ مَعْنَاهُ اللَّهُ قَاهِرُ كُلِّ شَىْءٍ لا يُعْجِزُهُ شَىْءٌ، كُلُّ شَىْءٍ يَتَقَلَّبُ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ]، وَهَذَا مَعْنَى الْعُلُوِّ الَّذِي وَصَفَ اللَّهُ نَفْسَهُ بِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى﴾ [سُورَةَ الأَعْلَى/1] وَبِقَوْلِهِ: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/255]، لأِنَّ عُلُوَّ الْجِهَةِ مُسْتَحِيلٌ عَلَيْهِ لأِنَّهُ مِنْ صِفَاتِ الْخَلْقِ، وَكَيْفَ يَصِحُّ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ وَهُوَ الْقَدِيْمُ الْمُتَعَالِي عَنِ التَّنَاهِي وَالْحُدُوثِ، فَالْعَالَمُ لا بُدَّ لَهُ مِنْ مَكَانٍ.

وَأَمَّا دَعْوَى بَعْضِ الْجُهَّالِ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ حَيْثُ لا مَكَانَ فَهَذِهِ دَعْوَى بِلا دَلِيلٍ لأِنَّ فَوْقَ الْعَرْشِ مَكَانٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: «لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابٍ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي». فَلا يَمْتَنِعُ شَرْعًا وَلا عَقْلاً أَنْ يَكُونَ فَوْقَ الْعَرْشِ مَكَانٌ، فَلَوْلا أَنَّ فَوْقَ الْعَرْشِ مَكَانًا لَمْ يَقُلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ: «فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ». وَالْمَقْصُودُ بِعِنْدَ هُنَا عِنْدِيَّةُ التَّشْرِيفِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ ءَاسْيَةَ: ﴿رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ﴾ [سُورَةَ التَّحْرِيْم/11]، [كَيْفَ يَكُونُ اللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ الْجِهَاتِ جِهَةُ فَوْقٍ مَا كَانَتْ وَلا جِهَةُ تَحْتٍ وَلا غَيْرُهُمَا مِنَ الْجِهَاتِ، جَعَلُوا اللَّهَ يَنْتَقِلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ جَعَلُوا اللَّهَ يَتَحَيَّزُ جِهَةً. كُلُّ شَىْءٍ يَتَحَيَّزُ جِهَةً فَهُوَ جِسْمٌ إِمَّا لَطِيفٌ وَإِمَّا كَثِيفٌ كُلُّ شَىْءٍ يَتَحَيَّزُ جِهَِةً فَهُوَ مَخْلُوقٌ وَالْخَالِقُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ. الْعَرْشُ كَانَ مَعْدُومًا ثُمَّ أَوْجَدَهُ اللَّهُ وَأَثْبَتَهُ فِي تِلْكَ الْجِهَةِ لَيْسَ هُوَ اخْتَارَ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ بَدَلَ أَنْ يَكُونَ هُنَا. اللَّهُ خَلَقَهُ أَخْرَجَهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ ثُمَّ أَثْبَتَهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَلَوْلا أَنْ اللَّهَ أَثْبَتَهُ لَكَانَ هَوَى مَا ثَبَتَ لَحْظَةً. كَيْفَ يُقَالُ اللَّهُ قَاعِدٌ عَلَيْهِ وَاللَّهُ كَانَ قَبْلَ الْجِهَاتِ وَالْمَكَانِ هَذَا شَتْمٌ لِلَّهِ، عَلَى زَعْمِهِمْ عَظَّمُوا اللَّهَ هَذَا لَيْسَ تَعْظِيمًا جَعَلُوهُ كَخَلْقِهِ خَلْقُهُ يَجْلِسُونَ الْبَقَرُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ وَالْبَشَرُ وَالْجِنُّ وَالْمَلائِكَةُ يَجْلِسُونَ جَعَلُوهُ كَخَلْقِهِ مَا مَدَحُوهُ].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ أَعْجَزَ عَنِ الإِحَاطَةِ خَلْقَهُ.

الشَّرْحُ: الْخَلْقُ لا يُحِيطُ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِكُلِّ شَىْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُو﴾ [سُورَةَ الْمُدَّثِّر/31] فَالْمَلائِكَةُ لا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلاَّ اللَّهُ حَتَّى رُؤُسَاءُ الْمَلائِكَةِ لا يُحِيطُونَ بِعَدَدِ الْمَلائِكَةِ، فَإِذَا كَانَ الْمَلائِكَةُ لا يُحْصِيهِمْ عَدَدًا إِلاَّ اللَّهُ فَكَيْفَ بِجَمِيعِ الْخَلائِقِ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَنَقُولُ إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً، وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا إِيْمَانًا وَتَصْدِيقًا وَتَسْلِيمًا.

الشَّرْحُ: مَعْنَاهُ نُؤْمِنُ بِذَلِكَ وَنُصَدِّقُ وَنُسَلِّمُ، وَلَيْسَتِ الْخِلَّةُ كَالْوِلادَةِ لأِنَّ الْوِلادَةَ تُوجِبُ الْبَعْضِيَّةَ وَالْجُزْئِيَّةَ وَهَذَا مُحَالٌ فِي حَقِّ الْقَدِيْمِ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَنُؤْمِنُ بِالْمَلائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَنَشْهَدُ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ.

الشَّرْحُ: يَجِبُ الإِيْمَانُ بِوُجُودِ الْمَلائِكَةِ وَهُمْ عِبَادٌ لِلَّهِ تَعَالَى لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ كَمَا أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ.

وَأَمَّا الإِيْمَانُ بِالنَّبِيِّينَ فَهُوَ أَنْ يُؤْمِنَ بِأَنَّ اللَّهَ ارْتَضَاهُمْ لِلنُّبُوَّةِ [فَاللَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَ الأَنْبِيَاءَ لِيَتْبَعَهُمُ النَّاسُ وَمَنْ أَدْرَكَ زَمَانَ نَبِيٍّ فَسَمِعَ دَعْوَتَهُ وَلَمْ يَتْبَعْهُ حِصَّتُهُ جَهَنَّمُ كَذَلِكَ إِنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ ذَلِكَ النَّبِيِّ بَعْدَ مَوْتِ ذَلِكَ النَّبِيِّ فَلَمْ يَتَّبِعْ فَهُوَ أَيْضًا لِلنَّارِ، الآنَ فِي هَذَا الزَّمَنِ كُلُّ إِنْسَانٍ سَمِعَ أَنَّهُ وُجِدَ رَجُلٌ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ وَدَعَا النَّاسَ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ الْوَاحِدِ الَّذِي لا شَرِيكَ لَهُ وَالإِيْمَانِ بِهِ وَاتِّبَاعِ شَرِيعَتِهِ بَعْدَمَا سَمِعَ هَذَا إِنْ لَمْ يَتْبَعْ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ هَذَا يَكُونُ كَالَّذِي أَدْرَكَ مُحَمَّدًا وَكَفَرَ بِهِ لأَنَّهُ سَمِعَ مِمَّنْ سَمِعُوا مِمَّنْ سَمِعُوا مِنْهُ بِوَسَائِطَ عَدِيدَةٍ كَأَنَّهُ سَمِعَ مِنَ الرَّسُولِ بِلَفْظِهِ. وَالَّذِي يَكُونُ عَلَى شَرِيعَةِ نَبِيٍّ ثُمَّ جَاءَ نَبِيٌّ ءَاخَرُ فَقَالَ أَنَا لا أَتْبَعُ النَّبِيَّ الْجَدِيدَ يَكُونُ كَافِرًا أَيْضًا] وَاصْطَفَاهُمْ [﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَاهِيمَ وَءَالَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾] وَأَكْرَمَهُمْ بِالسِّفَارَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ بِمَا يُوحَى إِلَيْهِمْ.

وَأَمَّا الإِيْمَانُ بِالْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ فَهُوَ أَنْ يُؤْمِنَ بِأَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَدُلُّ كَلامُ الْمُؤَلِّفِ عَلَى أَنَّ الْكُتُبَ لا تُنْزَلُ إِلاَّ عَلَى الرَّسُولِ وَمَنْ كَانَ مِنَ الأَنْبِيَاءِ غَيْرِ الْمُرْسَلِينَ يَتْبَعُ كِتَابًا أُنْزِلَ عَلَى الرَّسُولِ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَنُسَمِّي أَهْلَ قِبْلَتِنَا مُسْلِمِينَ مُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْتَرِفِينَ وَلَهُ بِكُلِّ مَا قَالَهُ وَأَخْبَرَ مُصَدِّقِينَ غَيْرَ مُنْكِرِينَ [وَنَشْهَدُ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ الَّذِي لا شَكَّ فِيهِ].

الشَّرْحُ: أَيْ نُطْلِقُ عَلَيْهِمُ اسْمَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَلا نَقُولُ كَمَا تَقُولُ الْخَوَارِجُ: «مَنِ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً فَهُوَ كَافِرٌ» حَتَّى الصَّغَائِرَ عِنْدَهُمْ، وَلا نَقُولُ كَمَا تَقُولُ الْمُعْتَزِلَةُ: «مَنِ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً لا يُسَمَّى مُسْلِمًا وَلا كَافِرًا» [وَلا نَقُولُ بِقَوْلِ الْمُرْجِئَةِ «لا يَضُرُّ مَعَ الإِيْمَانِ ذَنْبٌ»].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلا نَخُوضُ فِي اللَّهِ.

الشَّرْحُ: أَيْ لا نُفَكِّرُ فِي ذَاتِ اللَّهِ، لأِنَّ التَّفَكُّرَ فِي ذَاتِ اللَّهِ يُؤَدِّي إِلَى الْحَيْرَةِ وَالضَّلالِ وَيُؤَدِّي إِلَى تَشْبِيهِ اللَّهِ بِخَلْقِهِ وَلِذَلِكَ مُنِعْنَا مِنَ التَّفَكُّرِ فِي ذَاتِ اللَّهِ، وَلَيْسَ مِنَ التَّفَكُّرِ فِي ذَاتِ اللّهِ وَالْخَوْضِ فِيهِ تَنْزِيهُهُ عَنْ مُشَابَهَةِ الْخَلْقِ بِقَوْلِ: إِنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ أَزَلِيٌّ أَبَدِيٌّ، كَانَ قَبْلَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، لا يَتَّصِفُ بِشَىْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ، وَإِنَّهُ يَرَى بِلا حَدَقَةٍ، وَيَسْمَعُ بِلا صِمَاخٍ وَأُذُنٍ، وَيَتَكَلَّمُ كَلامًا ذَاتِيًّا لَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَقَالاتِ عُلَمَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، إِنَّمَا هَذَا تَنْزِيهٌ لِلَّهِ عَمَلاً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/11]، إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ هَلَكَ فِي تَشْبِيهِ اللَّهِ تَعَالَى بِخَلْقِهِ كَقَوْلِهِمْ: بِأَنَّهُ مُسْتَقِّرٌ عَلَى الْعَرْشِ، وَأَنَّهُ يَنْزِلُ بِذَاتِهِ مِنْ فَوْقٍ إِلَى أَسْفَلَ وَيَصْعَدُ بِذَاتِهِ مِنْ أَسْفَلَ إِلَى أَعْلَى لأِنَّهُمْ قَاسُوا الْخَالِقَ عَلَى الْمَخْلُوقِ فَكَذَّبُوا بِذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/11].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلا نُمَارِي فِي دِينِ اللَّهِ.

الشَّرْحُ: أَيْ لا نُجَادِلُ فِي دِينِ اللَّهِ جِدَالاً نَهَى اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ وَهُوَ الْجِدَالُ فِيمَا لا يُعْلَمُ، فَمَنْ عَرَفَ الْحَقَّ يُجِادِلُ لإِحْقَاقِ الْحَقِّ أَمَّا مَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ فَلا يُمَارِي.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلا نُجَادِلُ فِي الْقُرْءَانِ.

الشَّرْحُ: الْمَعْنَى أَنَّهُ لا نَحْكُمُ فِي الْقُرْءَانِ بِنَفْيِ شَىْءٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ وَلا بِإِثْبَاتِ شَىْءٍ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ أَنَّهُ مِنْهُ فَنَقْرَأُ مَا عَلِمْنَا أَنَّهُ مِنْهُ وَلا نَنْفِي شَيْئًا وَلا نُثْبِتُ شَيْئًا أَنَّهُ مِنْهُ بِدُونِ عِلْمٍ لأِنَّ الْقُرْءَانَ نَزَلَ عَلَى عِدَّةِ وُجُوهٍ، فَقَدْ يُنْكِرُ الشَّخْصُ قِرَاءَةً هِيَ ثَابِتَةً عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَهُوَ لَمْ يَعْرِفْهَا.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَنَشْهَدُ أَنَّهُ كَلامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ فَعَلَّمَهُ سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ كَلامُ اللَّهِ تَعَالَى لا يُسَاوِيهِ شَىْءٌ مِنْ كَلامِ الْمَخْلُوقِينَ وَلا نَقُولُ بِخَلْقِهِ.

الشَّرْحُ: أَيْ لا نَقُولُ الْقُرْءَانُ مَخْلُوقٌ، فَإِنَّ الْقُرْءَانَ إِذَا أُرِيدَ بِهِ الصِّفَةُ الذَّاتِيَّةُ الَّتِي لَيْسَتْ حَرْفًا وَلا صَوْتًا فَظَاهِرٌ أَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، أَمَّا إِنْ أُرِيدَ بِهِ اللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ فَيَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى، لَكِنْ لَفْظًا لا يُقَالُ إِلاَّ لِحَاجَةِ التَّعْلِيمِ.

وَالرُّوحُ الأَمِينُ هُوَ جِبْرِيلُ قَالَ تَعَالَى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ﴾ [سُورَةَ الشُّعَرَاء].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلا نُخَالِفُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ.

الشَّرْحُ: الْمُرَادُ بِالْجَمَاعَةِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَهُمْ مَنْ كَانَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةُ مِنَ الْعَقَائِدِ. وَمَعْنَى كَلامِهِ لا نُخَالِفُ إِجْمَاعَ الْمُجْتَهِدِينَ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «لا يَجْمَعُ اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَى ضَلالَةٍ» رَوَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي أَمَالِيِّهِ وَصَحَّحَهُ [وَالإِجْمَاعُ هُوَ اتِّفَاقُ مُجْتَهِدِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَى أَمْرٍ دِينِيٍّ فِي زَمَنٍ مِنَ الأَزْمَانِ وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَمَنْ يُشَاقِقُ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ.

الشَّرْحُ: الْمُرَادُ بِأَهْلِ الْقِبْلَةِ الْمُؤْمِنُونَ، فَمَنْ كَانَ عَلَى الإِيْمَانِ لا يَجُوزُ تَكْفِيرُهُ مِنْ أَجْلِ الذَّنْبِ إِلاَّ إِذَا اسْتَحَلَّ الذَّنْبَ وَكَانَ ذَلِكَ الذَّنْبُ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ ذَنْبٌ فَهَذَا الَّذِي يُكَفَّرُ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلا نَقُولُ لا يَضُرُّ مَعَ الإِيْمَانِ ذَنْبٌ لِمَنْ عَمِلَهُ.

الشَّرْحُ: هَذَا فِيهِ رَدٌّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ فِي قَوْلِهِمْ: لا يَضُرُّ مَعَ الإِيْمَانِ ذَنْبٌ كَمَا لا تَنْفَعُ الطَّاعَةُ مَعَ الْكُفْرِ، عِنْدَهُمْ مَهْمَا عَمِلَ الْمُؤْمِنُ مِنَ الْمَعَاصِي لا يُعَاقَبُ، وَهَذَا خِلافُ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَفِيهِ رَدٌّ لِلنُّصُوصِ وَهُوَ كُفْرٌ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: نَرْجُو لِلْمُحْسِنِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَيُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ وَلا نَأْمَنُ عَلَيْهِمْ.

الشَّرْحُ: أَيْ أَنَّ مَنْ رَأَيْنَاهُ ظَاهِرًا مُحْسِنًا أَيْ طَائِعًا نَقُولُ نَرْجُو اللَّهَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ وَيُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ بِلا عَذَابٍ، وَلا نَقْطَعُ بِالْحُكْمِ عَلَى الْوَاحِدِ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ لا يُصِيبُهُ الْعَذَابُ فِي الآخِرَةِ الْبَتَّةَ، لَكِنْ نَقُولُ إِنْ كَانَ هَذَا الإِنْسَانُ تَقِيًّا فَإِنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ عَذَابٍ [الْمُحْسِنُونَ هُمُ الْمُتَّقُونَ الَّذِينَ تَحَقَّقُوا بِالإِحْسَانِ الَّذِي وَرَدَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم «الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ» لَمَّا سَأَلَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنِ الإِحْسَانِ، وَمَنْ وَصَلَ إِلَى هَذِهِ الْحَالَةِ فَهُوَ مِنَ الآمِنِينَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ فِي الآخِرَةِ وَمَعَ ذَلِكَ لا نَقُولُ بِالتَّعْيِينِ لأَحَدِهِمْ فُلانٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لأَنَّنَا لَمْ نَطَّلِعْ عَلَى بَاطِنِ حَالِهِ نَحْنُ نَعْلَمُ مِنْهُ ظَاهِرَ حَالِهِ لَكِنْ نَعْتَقِدُ أَنَّهُ إِنْ تَحَقَّقَتْ صِفَةُ الإِحْسَانِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ءَامِنٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِهِ أَمَّا مِنْ حَيْثُ الاعْتِقَادُ فَنَحْنُ نَجْزِمُ بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي وَصَلَ إِلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ فَهُوَ مَقْطُوعٌ لَهُ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ بِلا عَذَابٍ].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلا نَشْهَدُ لَهُمُ بِالْجَنَّةِ.

الشَّرْحُ: مَعْنَاهُ لا نَشْهَدُ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِنَا أَنَّ فُلانًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، أَمَّا مَنْ وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَنَشْهَدُ لَهُ كَأَهْلِ بَدْرٍ وَأَهْلِ أُحُدٍ وَأُنَاسٍ ءَاخَرِينَ بَشَّرَهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ [الْعَشَرَةُ الْمُبَشَّرُونَ بِالْجَنَّةِ هُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ وَعَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ وَطَلْحَةُ بنُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَالزُّبَيْرُ بنُ الْعَوَّامِ وَسَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَسَعِيدُ بنُ زَيْدٍ وَعَبْدُ الرَّحْمٰنِ بنُ عَوْفٍ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بنُ الْجَرَّاحِ].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَنَسْتَغْفِرُ لِمُسِيئِهِمْ وَنَخَافُ عَلَيْهِمْ وَلا نُقَنِّطُهُمْ.

الشَّرْحُ: نَسْتَغْفِرُ لِلْمُسِيءِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء﴾] وَنَخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يُعَذَّبَ بِذُنُوبِهِ إِذَا لَمْ يَتُبْ مِنْهَا، أَمَّا مَنْ تَابَ مِنْهَا عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ تَوْبَتَهُ عِنْدَ اللَّهِ ثَابِتَةٌ كَمَا هِيَ فِي ظَاهِرِ الأَمْرِ عِنْدَنَا نَقُولُ إِنَّهُ ءَامِنٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ [قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لا ذَنْبَ لَهُ» مَعْنَاهُ كَأَنَّهُ لَمْ يُذْنِبْ] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ [سُورَةَ الزُّمَر/53].

وَمَعْنَى: «وَلا نُقَنِّطُهُمْ» أَيِ الْمُذْنِبِينَ الْعُصَاةَ لا نَجْعَلُهُمْ ءَايِسِينَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، فَنَقُولُ يَجُوزُ أَنْ يُسَامِحَهُمُ اللَّهُ وَيَجُوزُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالأَمْنُ وَالإِيَاسُ يَنْقُلانِ عَنْ مِلَّةِ الإِسْلامِ وَسَبِيلُ الْحَقِّ بَيْنَهُمَا لأِهْلِ الْقِبْلَةِ.

الشَّرْحُ: الأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ وَالإِيَاسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ كُلٌّ مِنْهُمَا يُخْرِجُ الإِنْسَانَ مِنْ دِينِ اللَّهِ، هَذَا عَلَى تَفْسِيرِ الْحَنَفِيَّةِ فَعِنْدَهُمْ يَعْتَبِرُونَهُمَا كُفْرًا، أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَإِنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ هَذَيْنِ مِنَ الْكَبَائِرِ وَلا يَعْتَبِرُونَهُمَا مِنَ الْكُفْرِيَّاتِ، وَسَبِيلُ الْحَقِّ بَيْنَ الأَمْنِ وَالإِيَاسِ، نَقُولُ إِنَّ مِتْنَا وَنَحْنُ بِحَالَةِ التَّوْبَةِ نَجَوْنَا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ فِي الْقَبْرِ وَفِي الآخِرَةِ، وَإِلاَّ فَيَجُوزُ أَنْ يُسَامِحَنَا اللَّهُ وَلا يُعَذِّبَنَا بِذُنُوبِنَا، وَيَجُوزُ أَنْ يُعَذِّبَنَا بِهَا. وَتَفْسِيرُ الأَمْنِ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ أَنَّ الَّذِي نَفَى عَذَابَ اللَّهِ لِلْعُصَاةِ فَهَذَا أَمِنَ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ، وَكَذَلِكَ الآيِسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ أَيِ الَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ الذَّنْبَ لِلْمُسْلِمِ التَّائِبِ فَهُوَ كَافِرٌ، هَذَا تَفْسِيرُهُمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَمَّا الأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْمَعْدُودُ مِنَ الْكَبَائِرِ فَهُوَ أَنْ يَسْتَرْسِلَ فِي الْمَعَاصِي اتِّكَالاً عَلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْيَأْسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ عِنْدَهُمْ فَهُوَ أَنْ يَجْزِمَ الشَّخْصُ أَنَّ اللَّهَ لا يَرْحَمُهُ لِذُنُوبِهِ بَلْ يُعَذِّبُهُ فَهُوَ أَيْضًا عِنْدَهُمْ كَبِيرَةٌ وَلَيْسَا عِنْدَهُمْ مِنْ نَوْعِ الرِّدَّةِ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى عَدَّهُمَا كَثِيرٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ فِي كِتَابِ الشَّهَادَةِ مِنَ الْكَبَائِرِ الَّتِي تَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ [تَفْسِيرُ الْمَاتُرِيدِيَّةِ لِلأَمْنِ وَالْيَأْسِ غَيْرُ تَفْسِيرِ الأَشَاعِرَةِ فَعِنْدَ الْمَاتُرِيدِيَّةِ كُفْرٌ وَعِنْدَ الأَشَاعِرَةِ ذَنْبٌ كَبِيرٌ. وَطَرِيقُ النَّجَاةِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُ أَنْ يَكُونَ خَائِفًا رَاجِيًا يَخَافُ عِقَابَ اللَّهِ عَلَى ذُنُوبِهِ وَيَرْجُو رَحْمَةَ اللَّهِ كَمَا قَالَ الْمُؤَلِّفُ وَسَبِيلُ الْحَقِّ بَيْنَهُمَا لأَهْلِ الْقِبْلَةِ وَذَلِكَ هُوَ الْوُقُوفُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلا يَخْرُجُ الْعَبْدُ مِنَ الإِيْمَانِ إِلاَّ بِجُحُودِ مَا أَدْخَلَهُ فِيهِ [الإِيْمَانُ لُغَةً التَّصْدِيقُ وَشَرْعًا تَصْدِيقٌ مَخْصُوصٌ وَهُوَ التَّصْدِيقُ بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ فَمَنْ ءَامَنَ بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ وَصَدَّقَ ذَلِكَ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَهُوَ مُسْلِمٌ مُؤْمِنٌ وَإِنْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ لا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَالتَّصْدِيقُ الْقَلْبِيُّ لاَ يُقْبَلُ عِنْدَ اللَّهِ بِدُونِ النُّطْقِ وَالنُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ لا يُقْبَلُ عِنْدَ اللَّهِ بِدُونِ التَّصْدِيقِ الْقَلْبِيِّ].

الشَّرْحُ: الْعَبْدُ لا يَخْرُجُ مِنَ الإِيْمَانِ بِالذَّنْبِ إِلاَّ أَنْ يُنْكِرَ مَا أَدْخَلَهُ فِي الإِيْمَانِ وَهُوَ التَّكْذِيبُ بِدِينِ اللَّهِ صَرِيْحًا أَوْ ضِمْنًا، فَإِذَا قَالَ قَوْلاً يَكُونُ تَكْذِيبًا لِشَرْعِ اللَّهِ بِعِبَارَةٍ صَرِيْحَةٍ هَذَا نَعْتَبِرُهُ خَارِجًا مِنْ دِينِ اللَّهِ، أَوْ فَعَلَ فِعْلاً هُوَ فِي مَعْنَى التَّكْذِيبِ هَذَا أَيْضًا نَعْتَبِرُهُ خَارِجًا مِنَ الإِيْمَانِ، وَكَذَا إِنِ اعْتَقَدَ اعْتِقَادًا يُخَالِفُ عَقِيدَةَ الإِسْلامِ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالإِيْمَانُ هُوَ الإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ.

الشَّرْحُ: الإِيْمَانُ هُوَ الإِقْرَارُ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ التَّصْدِيقِ الْقَلْبِيِّ، قَالَ النَّوَوِيُّ: «مَنْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَنْطِقْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ كَافِرٌ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ بِالإِجْمَاعِ».


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَجَمِيعُ مَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الشَّرْعِ وَالْبَيَانِ كُلُّهُ حَقٌّ.

الشَّرْحُ: قَالَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْمَرْزُوقِيُّ [فِي عَقِيدَتِهِ الَّتِي تُعْرَفُ بِاسْمِ عَقِيدَةِ الْعَوَامِّ]:

وَكُلُّ مَا أَتَى بِهِ الرَّسُولُ # فَحَقُّهُ التَّسْلِيمُ وَالْقَبُولُ


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالإِيْمَانُ وَاحِدٌ وَأَهْلُهُ فِي أَصْلِهِ سَوَاءٌ وَالتَّفَاضُلُ بَيْنَهُمْ بِالْخَشْيَةِ وَالتُّقَى وَمُخَالَفَةِ الْهَوَى وَمُلازَمَةِ الأَوْلَى [هِيَ فَاطِمَةُ وَإِنْ كَانَتْ أَصْغَرَ بَنَاتِ الرَّسُولِ سِنًّا لَكِنْ كَانَتْ أَتْقَى وَأَخْشَعَ وَأَخْشَى لِلَّهِ تَعَالَى كَانَتْ رُوحُهَا أَقْوَى تَعَلُّقًا بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَخَوَاتِهَا الثَّلاَثِ زَيْنَبَ وَرُقَيَّةَ وَأُمِّ كُلْثُومٍ ثُمَّ هِيَ عَاشَتْ بَعْدَ أَخَوَاتِهَا الثَّلاَثِ، أَخَوَاتُهَا مِتْنَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أَمَّا فَاطِمَةُ تُوُفِّيَتْ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ].

الشَّرْحُ: أَيْ أَنَّ الإِيْمَانَ بِاعْتِبَارِ أَصْلِهِ شَىْءٌ وَاحِدٌ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ كُلِّهِمْ لا يَفْضُلُ هَذَا عَلَى هَذَا، لَكِنْ بِاعْتِبَارِ صِفَتِهِ يَكُونُ التَّفَاضُلُ، فَمَنْ كَانَ خَاشِيًا لِلَّهِ تَعَالَى تَقِيًّا مُخَالِفًا لِهَوَاهُ مُلازِمًا لِلأَوْلَى أَيْ سَالِكًا مَسْلَكَ الْوَرَعِ هَذَا يَزِيدُ عَلَى غَيْرِهِ أَيْ يَزِيدُ إِيْمَانُهُ عَلَى إِيْمَانِ غَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ، أَمَّا مِنْ حَيْثُ الأَصْلُ فَلا يَزِيدُ إِيْمَانٌ عَلَى إِيْمَانٍ [مَنْ قَالَ إِنَّ الإِيْمَانَ لا يَزِيدُ وَلا يَنْقُصُ فَمُرَادُهُ أَنَّ أَصْلَ الإِيْمَانِ الَّذِي لا يَتَحَقَّقُ مَعْنَاُه بِدُونِهِ لا يَزِيدُ وَلا يَنْقُصُ وَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هَذَا وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ تَبِعَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الإِيْمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَهَذَا اخْتِلافٌ لَفْظِيٌّ].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ أَوْلِيَاءُ الرَّحْمٰنِ [وَلَيْسَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ هَذَا أَنَّ أَفْرَادَ الْمُؤْمِنِينَ مُتَسَاوُونَ فِي نَيْلِ الدَّرَجَةِ الْعُلْيَا الَّتِي هِيَ لِبَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَط وَهُمُ الأَوْلِيَاءُ بِمَعْنَى الأَتْقِيَاءِ الَّذِينَ قَامُوا بِحُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ الْعِبَادِ وَأَكْثَرُوا مِنَ النَّوَافِلِ فَهَؤُلاءِ يَكُونُونَ ءَامِنِينَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ النَّكَدِ وَالْمَشَقَّةِ فِي الآخِرَةِ].

الشَّرْحُ: الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ يَدْخُلُونَ فِي الْوِلايَةِ الْعَامَّةِ أَمَّا الْوِلايَةُ الْخَاصَّةُ فَهِيَ لأِهْلِ الاِسْتِقَامَةِ فَقَطْ [قَالَ تَعَالَى: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ فَقَوْلُهُ الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ أَوْلِيَاءُ الرَّحْمٰنِ يَعْنِي بِهِ «الْمُؤْمِنُونَ الْكَامِلُونَ» وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ مَا ذَكَرْنَا].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَطْوَعُهُمْ وَأَتْبَعُهُمْ لِلْقُرْءَانِ.

الشَّرْحُ: أَيْ أَشَدُّهُمْ طَاعَةً هُوَ أَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ أَتْبَعُهُمْ لِلْقُرْءَانِ أَيْ أَشَدُّهُمْ عَمَلاً بِالْقُرْءَانِ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالإِيْمَانُ هُوَ الإِيْمَانُ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.

الشَّرْحُ: أَيْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتُ أَهَمُّ الأُمُورِ وَأَعْظَمُهَا فَيَجِبُ الإِيْمَانُ بِهَا، وَالْقَدَرُ هُنَا مَعْنَاهُ الْمَقْدُورُ أَيْ أَنْ تُؤْمِنَ بِالْمَقْدُورِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ أَيْ أَنَّهُ حَصَلَ مِنَ اللَّهِ بِمَشِيئَتِهِ وَعِلْمِهِ، أَمَّا صِفَةُ اللَّهِ التَّقْدِيرُ فَلا تُوصَفُ بِذَلِكَ، فَلا يُقَالُ هَذَا مِنْهُ خَيْرٌ أَوْ مِنْهُ شَرٌّ لأِنَّ صِفَاتِ اللَّهِ كُلَّهَا كَمَالٌ لَيْسَ فِيهَا نَقْصٌ، وَالْقَدَرُ إِذَا أُرِيدَ بِهِ تَقْدِيرُ اللَّهِ الَّذِي هُوَ صِفَتُهُ لا يُقَالُ شَرُّ الْقَدَرِ [أَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ مَشِيئَةُ الْقَبِيحِ وَخَلْقُ الْقَبِيحِ لَيْسَ قَبِيحًا مِنَ اللَّهِ أَمَّا مَشِيئَةُ الْعَبْدِ الْكُفْرَ وَالْمَعْصِيَةَ قَبِيحٌ مِنَ الْعَبْدِ أَمَّا مِنَ اللَّهِ فَلَيْسَ قَبِيحًا، هَذِهِ خُلاصَةُ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَهَذَا مَعْنَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «الإِيْمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» هَذَا مَعْنَى «وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» مَعْنَاهُ كُلُّ مَا يُقَدِّرُهُ اللَّهُ تَعَالَى إِنْ كَانَ خَيْرًا وَإِنْ كَانَ شَرًّا فَتَقْدِيرُ اللَّهِ حَسَنٌ، فَتَقْدِيرُ اللَّهِ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ حَسَنٌ أَمَّا فِعْلُ الْعِبَادِ لِلْخَيْرِ حَسَنٌ وَفِعْلُهُمْ لِلشَّرِّ قَبِيحٌ]، وَالْحُلْوُ مَا يُلائِمُ الطَّبْعَ، وَالْمُرُّ مَا لا يُلائِمُ الطَّبْعَ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَنَحْنُ مُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ كُلِّهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَنُصَدِّقُهُمْ كُلَّهُمْ عَلَى مَا جَاءُوا بِهِ.

الشَّرْحُ: مَعْنَاهُ نُؤْمِنُ بِجَمِيعِ رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَنُصَدِّقُهُمْ جَمِيعَهُمْ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَهْلُ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّارِ لا يَخْلُدُونَ إِذَا مَاتُوا وَهُمْ مُوَحِّدُونَ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا تَائِبِينَ [قَالَ الشَّيْخُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْكَبَائِرُ هِيَ قَرِيبٌ مِنْ أَرْبَعِينَ مَعْصِيَةً عَدَّ مِنْهَا بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ خَمْسَةً وَثَلاثِينَ وَهُوَ تَاجُ الدِّينِ السُّبْكِيُّ وَقَدْ نَظَمَهَا السُّيُوطِيُّ فِي ثَمَانِيَةِ أَبْيَاتٍ وَأَمَّا مَا فَعَلَهُ ابنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ مِنْ عَدِّهَا أَرْبَعمِائَةٍ وَزِيَادَة فَبَعْضُ مَا ذَكَرَهُ لَيْسَ مِنْهَا لا يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ حَدُّ الْكَبِيرَةِ].

الشَّرْحُ: أَهْلُ الْكَبَائِرِ إِنْ مَاتُوا مُؤْمِنِينَ لَكِنَّهُمْ لَمْ يَتُوبُوا لا يَخْلُدُونَ فِي النَّارِ، لِذَلِكَ قَالَ: «وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا تَائِبِينَ» أَيْ لَوْ لَمْ يَتُوبُوا لا يَخْلُدُونَ خِلافَ مَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: بَعْدَ أَنْ لَقُوا اللَّهَ عَارِفِينَ مُؤْمِنِينَ [وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلامُ «أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ لا يَلْقَى اللَّهَ بِهِمَا عَبْدٌ غَيْرَ شَاكٍّ فَيُحْجَبَ عَنِ الْجَنَّةِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ حِبَّانَ وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ «مَنْ كَانَ ءَاخِرَ كَلامِهِ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ عِنْدَ الْمَوْتِ دَخَلَ الْجَنَّةَ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ وَإِنْ أَصَابَهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَا أَصَابَهُ» رَوَاهُ ابنُ حِبَّانَ].

الشَّرْحُ: مَعْنَى قَوْلِهِ: «لَقُوا اللَّهَ عَارِفِينَ» أَيْ مَاتُوا عَارِفِينَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَقَوْلِهِ: «مُؤْمِنِينَ» أَيْ مُذْعِنِينَ فِي قُلُوبِهِمْ بِذَلِكَ، هَؤُلاءِ لَوْ مَاتُوا بِلا تَوْبَةٍ لا يَخْلُدُونَ فِي النَّارِ، وَمَنْ عُذِّبَ مِنْهُمْ لا بُدَّ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ النَّارِ وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهُمْ فِي مَشِيئَتِهِ وَحُكْمِهِ إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ وَعَفَا عَنْهُمْ بِفَضْلِهِ كَمَا ذَكَرَ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [سُورَةَ النِّسَاء/48]، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ فِي النَّارِ بِعَدْلِهِ ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا بِرَحْمَتِهِ وَشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ مِنْ أَهْلِ طَاعَتِهِ ثُمَّ يَبْعَثُهُمْ إِلَى جَنَّتِهِ وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى أَهْلَ مَعْرِفَتِهِ وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ فِي الدَّارَيْنِ كَأَهْلِ نُكْرَتِهِ الَّذِينَ خَابُوا مِنْ هِدَايَتِهِ وَلَمْ يَنَالُوا مِنْ وِلايَتِهِ اللَّهُمَّ يَا وَلِيَّ الإِسْلامِ وَأَهْلِهِ ثَبِّتْنَا عَلَى الإِسْلامِ حَتَّى نَلْقَاكَ بِهِ [قَالَ الشَّيْخُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَجِبُ الْقَطْعُ وَالْجَزْمُ بِأَنَّ بَعْضَ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ لا بُدَّ أَنْ يَدْخُلُوا جَهَنَّمَ وَمِنْ ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنْهَا وَمَنْ قَالَ لا أَحَدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَدْخُلُ جَهَنَّمَ عَلَى الإِطْلاقِ فَقَدْ كَذَّبَ الْقُرْءَانَ وَالْحَدِيثَ].

الشَّرْحُ: مَعْنَى: «ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا بِرَحْمَتِهِ وَشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ» أَيْ أَنَّهُ مِنْ عَقَائِدِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ عُصَاةَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ مَاتُوا بِلا تَوْبَةٍ وَكَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ إِذَا عَذَّبَهُمُ اللَّهُ أَيْ عَذَّبَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ لا بُدَّ أَنْ يُخْرِجَهُمْ مِنَ النَّارِ بِرَحْمَتِهِ وَشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ مِنْ أَهْلِ طَاعَتِهِ، وَهَؤُلاءِ الشَّافِعُونَ إِمَّا أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا عُلَمَاءَ أَتْقِيَاءَ، أَوْ يَكُونُونَ بِصِفَةٍ أُخْرَى كَالشُّهَدَاءِ [وَرَدَ فِي مَا رَوَاهُ ابنُ حِبَّانَ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي سُنَنِهِ أَنَّ الشَّهِيدَ يَشْفَعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَقَدْ يَكُونُ الْخُرُوجُ مِنَ النَّارِ بِدُونِ شَفَاعَةِ أَحَدٍ].

وَقَوْلُهُ: «وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَوَلَّى أَهْلَ مَعْرِفَتِهِ»، مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ حَافِظُ أَهْلِ مَعْرِفَتِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ.

وَمَعْنَى: «نُكْرَتِهِ» أَيْ كَذَّبُوا بِهِ إِمَّا بِنَفْيِ وُجُودِ اللَّهِ كَالدَّهْرِيَّةِ وَإِمَّا بِعِبَادِةِ غَيْرِهِ وَإِمَّا بِتَكْذِيبِ رَسُولِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.

وَمَعْنَى: «وَلَمْ يَنَالُوا مِنْ وِلايَتِهِ» أَيْ مَا صَارَ لَهُمْ حَظٌّ مِنْ وِلايَةِ اللَّهِ تَعَالَى يَعْنِي الْوِلايَةَ الْعَامَّةَ وَهُوَ الإِسْلامُ.

وَقَوْلُهُ: «ثَبِّتْنَا عَلَى الإِسْلامِ حَتَّى نَلْقَاكَ بِهِ» أَيْ ثَبِّتْنَا عَلَى الإِيْمَانِ حَتَّى نَمُوتَ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِلِقَاءِ اللَّهِ [لِقَاءُ اللَّهِ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْمَوْتِ وَعَنِ الْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ لِلْحِسَابِ فِي الآخِرَةِ وَالْمَعْنَى الأَوَّلُ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. فَلِقَاءُ اللَّهِ الْوَارِدُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ هُوَ الْمَوْتُ لأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا مَاتَ صَارَ مُهَيَّئًا لأِنْ يَلْقَى جَزَاءَهُ].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَنَرَى الصَّلاةَ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ.

الشَّرْحُ: الْمَعْنَى أَنَّهُ يَجُوزُ الصَّلاةُ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مَعَ الْكَرَاهَةِ خَلْفَ الْفَاجِرِ [الْمُسْلِمُ الْفَاجِرُ مَا دَامَ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الإِسْلامِ بِكُفْرٍ يَقْطَعُ الإِسْلامَ فَإِنَّ الصَّلاةَ خَلْفَهُ تَصِحُّ كَمَا تَصِحُّ خَلْفَ التَّقِيِّ وَهُوَ الْبَرُّ]، وَالْمَعْرُوفُ فِي مَذْهَبِ الإِمَامِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ لا تَصِحُّ الْجَمَاعَةُ خَلْفَ الْفَاجِرِ إِلاَّ فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ.

وَقَوْلُهُ: «نَرَى» أَيْ نَعْتَقِدُ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَعَلَى مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ.

الشَّرْحُ: أَيْ نَعْتَقِدُ وُجُوبَ الصَّلاةِ عَلَى مَنْ مَاتَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَرِّهِمْ وَفَاجِرِهِمْ، وَالْبَرُّ هُوَ التَّقِيُّ، وَالْفَاجِرُ هُوَ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلا نُنَزِّلُ أَحَدًا مِنْهُمْ جَنَّةً وَلا نَارًا.

الشَّرْحُ: أَيْ لا نَحْكُمُ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِنَا بِأَنَّ فُلانًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَنَّ فُلانًا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَلَوْ كَانَ مُنْغَمِسًا فِي الذُّنُوبِ فَمَا يُدْرِينَا إِنْ كَانَ اللَّهُ كَتَبَ لَهُ الْمَوْتَ عَلَى التَّوْبَةِ، وَكَذَلِكَ لا نَدْرِي إِنْ كَانَ هَذَا الإِنْسَانُ الَّذِي ظَاهِرُهُ الآنَ الْخَيْرُ مِمَّنْ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الشَّقَاوَةُ فَإِنَّهُ لا بُدَّ أَنْ يُخْتَمَ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ [قَالَ بَعْضُ أَئِمَّةِ التَّحْقِيقِ إِذَا سُئِلَ (الشَّخْصُ) عَنِ الْمُؤْمِنِ الْمُحْسِنِ بِعَيْنِهِ أَيْنَ هُوَ فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ إِنْ مَاتَ عَلَى الإِيْمَانِ وَأَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ تَائِبًا مِنَ الْكَبَائِرِ مُسْتَغْفِرًا مِنَ الصَّغَائِرِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ وَإِذَا سُئِلَ عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ أَيْنَ هُمْ فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ هُمْ فِي الْجَنَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾ وَإِذَا سُئِلَ عَنْ كَافِرٍ مُشَارٍ إِلَيْهِ أَيْ مُعَيَّنٍ يَقُولُ إِنْ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ فَهُوَ فِي النَّارِ وَلا يَقُولُ هَذَا فِي النَّارِ لأَنَّهُ قَدْ يَتُوبُ وَيَمُوتُ مُؤْمِنًا وَإِذَا سُئِلَ عَنْ جَمَاعَةِ الْكَافِرِينَ فَالْجَوَابُ أَنْ يَقُولَ هُمْ فِي النَّارِ لأَنَّ اللَّهَ قَالَ: ﴿وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ الْفُجَّارُ هُنَا بِمَعْنَى الْكُفَّارِ]، لِذَلِكَ لا نَقُولُ فُلانٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَوْ فُلانٌ مِنْ أَهْلِ النَّارِ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِنَا إِلاَّ مَنْ شَهِدَ لَهُ الشَّرْعُ [قَالَ الشَّيْخُ: مَنْ أَخْبَرَ عَنْهُ الرَّسُولُ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَنُنَزِّلُهُ الْجَنَّةَ أَيْ نَحْكُمُ لَهُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَالْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرِينَ وَأَهْلِ بَدْرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ]. أَبُو لَهَبٍ نَقُولُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لأِنَّ الْقُرْءَانَ شَهِدَ عَلَيْهِ، أَمَّا أَهْلُ الرِّضْوَانِ وَأَشْبَاهُهُمْ نَشْهَدُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ لأِنَّ الشَّرْعَ شَهِدَ لَهُمْ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلا نَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِكُفْرٍ وَلا بِشِرْكٍ وَلا بِنِفَاقٍ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ شَىْءٌ مِنْ ذَلِكَ.

الشَّرْحُ: أَيْ لا نُكَفِّرُ أَحَدًا بِدُونِ دَلِيلٍ، وَلا نَحْكُمُ عَلَى أَحَدٍ بِالشِّرْكِ بِدُونِ دَلِيلٍ، وَلا بِالنِّفَاقِ بِدُونِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، أَمَّا النِّفَاقُ فَهُوَ اعْتِقَادُ خِلافِ مَا يُظْهِرُهُ الشَّخْصُ مِنْ نَفْسِهِ [عَبْدُ اللَّهِ بنُ أُبَيِّ بنِ أََبِي سَلُول ظَهَرَ مِنْهُ النِّفَاقُ حَتَّى عَرَفَهُ الْمُؤْمِنُونَ لَكِنْ بِمَا أَنَّهُ كَانَ بَعْدَمَا ظَهَرَ مِنْهُ يُنْكِرُ وَيُخَالِطُ الْمُسْلِمِينَ فَيُصَلِّي مَعَهُمْ ثُمَّ لَمَّا مَرِضَ مَرَضَ وَفَاتِهِ طَلَبَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَكَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الثَّابِتِينَ مَعَ الرَّسُولِ أَنْ يُكَفَّنَ بِثَوْبٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطاَهُ الرَّسُولُ ثَوْبًا فَكُفِّنَ بِهِ ثُمَّ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فَصَلَّى عَلَيْهِ لأِنَّهُ كَانَ تِلْكَ السَّاعَةَ ظَنُّ الرَّسُولِ أَنَّهُ أَخْلَصَ الإِيْمَانَ مَعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ ظَاهِرِ الإِسْلامِ وَاللَّهُ مَا أَطْلَعَهُ هَلْ هُوَ بَعْدُ عَلَى الشَّكِّ أَمْ تَرَكَ الشَّكَّ وَأَيْقَنَ بِالإِسْلامِ وَالإِيْمَانِ ثُمَّ نَزَلَتِ الآيَةُ ﴿وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ﴾ فَعَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ كَافِرًا بِنِفَاقِهِ فَإِذَا كَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا حَالُهُ فَكَيْفَ غَيْرُهُ].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَنَذَرُ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.

الشَّرْحُ: أَيْ أَنْ نَقُولَ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ، لأِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُطَّلِعُ عَلَيْهَا دُونَ الْعِبَادِ فَوَجَبَ تَفْوِيضُ ذَلِكَ إِلَيْهِ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلا نَرَى السَّيْفَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلاَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ السَّيْفُ.

الشَّرْحُ: أَيْ لا يَجُوزُ قَتْلُ الْمُسْلِمِ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ إِلاَّ مَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ، النَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، كَذَلِكَ يَجُوزُ قِتَالُ الْبُغَاةِ حَتَّى يَرْجِعُوا إِلَى طَاعَةِ الْخَلِيفَةِ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلا نَرَى الْخُرُوجَ عَلَى أَئِمَّتِنَا وَوُلاةِ أُمُورِنَا وَإِنْ جَارُوا.

الشَّرْحُ: أَيْ يَحْرُمُ الْخُرُوجُ عَلَى السُّلْطَانِ الَّذِي انْعَقَدَتْ بَيْعَتُهُ الشَّرْعِيَّةُ [وَهُوَ مَنْ تَحْتَ الْخَلِيفَةِ]، وَلا نُحَارِبُهُمْ وَلا نَخْلَعُهُمْ مِنَ الْخِلافَةِ وَإِنْ ظَلَمُوا، وَإِنَّمَا يُخْرَجُ عَلَيْهِمْ إِنْ كَفَرُوا.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلا نَدْعُو عَلَيْهِمْ وَلا نَنْزَعُ يَدًا مِنْ طَاعَتِهِمْ.

الشَّرْحُ: يَعْنِي أَنَّهُ لا نَدْعُو عَلَيْهِمْ دُعَاءً يُؤَدِّي إِلَى تَحْرِيكِ فِتْنَةٍ، أَمَّا قَوْلُهُ «وَلا نَنْزَعُ يَدًا مِنْ طَاعَتِهِمْ» فَمَعْنَاهُ نُطِيعُهُمْ وَإِنْ كَانُوا جَائِرِينَ فِيمَا لا مَعْصِيَةَ فِيهِ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَنَرَى طَاعَتَهُمْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَرِيضَةً مَا لَمْ يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَةٍ.

الشَّرْحُ: أَيِ الطَّاعَةَ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا الْمُؤْمِنِينَ لأُولِي الأَمْرِ هِيَ الطَّاعَةُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، نَعْتَبِرُ فَرْضًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى طَاعَةَ أُولِي الأَمْرِ [وَرَوَى مُسْلِمٌ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمٰنِ بنَ عَبْدِ رَبِّ الْكَعْبَةِ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بنِ عَمْرِو بنِ الْعَاص: «إِنَّ ابْنَ عَمِّكَ مُعَاوِيَةَ يَأْمُرُنَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ وَنَقْتُلَ أَنْفُسَنَا وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾» فَسَكَتَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَمْرٍو سَاعَةً ثُمَّ قَالَ أَطِعْهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَاعْصِهِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَنَدْعُو لَهُمْ بِالصَّلاحِ وَالْمُعَافَاةِ.

الشَّرْحُ: أَيْ نَدْعُو لَهُمْ أَنْ يُصْلِحَهُمُ اللَّهُ، وَقَوْلُهُ: «الْمُعَافَاةِ» أَيْ أَنْ يُزِيلَ عَنْهُمْ مَا بِهِمْ مِنَ الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ بِأَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [نَدْعُوا أَنْ يُصْلِحَهُمُ اللَّهُ وَيُعَافِيَهُمْ مِنْ مُخَالَفَةِ أَوَامِرِهِ].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَنَتْبَعُ السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ وَنَجْتَنِبُ الشُّذُوذَ وَالْخِلافَ وَالْفُرْقَةَ.

الشَّرْحُ: قَوْلُهُ: «السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ» هُمُ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ عَقِيدَةَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَإِنَّمَا سُمُّوا أَهْلَ السُّنَّةِ لأِنَّهُمْ عَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ [عَلَى شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ]، لأِنَّ الرَّسُولَ أَمَرَ بِاتِّبَاعِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ، وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُمْ بِالْجَمَاعَةِ فَلأِنَّهُمْ لَمْ يَخْرُجُوا عَنْ جُمْهُورِ الأُمَّةِ فِي الاِعْتِقَادِ الْحَقِّ، أَمَّا الشَّرَاذِمُ الْمُفْتَرِقَةُ عَنْهُمْ إِلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً هَذِهِ خَالَفَتِ اعْتِقَادَ الصَّحَابَةِ [فَقَوْلُ الرَّسُولِ «كُلُّهُمْ فِي النَّارِ» مَعْنَاهُ يَسْتَحَقُّونَ دُخُولَ النَّارِ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّهُمْ كُفَّارٌ]. وَيَعْنِي بِالشُّذُوذِ الْخُرُوجَ عَنِ الإِجْمَاعِ فِي الْمَسَائِلِ الاِجْتِهَادِيَّةِ الَّتِي اجْتَهَدَ فِيهَا أَهْلُ الاِجْتِهَادِ، وَبِالْخِلافِ مُخَالَفَةَ مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ بِفِرَاقِهِمْ [فَيَحْرُمُ الْخُرُوجُ عَنْ إِجْمَاعِ الْمُجْتَهِدِينَ وَلا يَنْعَقِدُ إِجْمَاعٌ عَلَى خِلافِ إِجْمَاعٍ فَإِذَا انْعَقَدَ الإِجْمَاعُ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ عَلَى حُكْمٍ مِنَ الأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ حَرُمَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ أَنْ يُخَالِفُوهُمْ بِالاِجْتِهَادِ، وَأَهْلُ الاِجْتِهَادِ هُمُ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ لَهُمْ أَهْلِيَّةٌ فِي اسْتِخْرَاجِ الأَحْكَامِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَنُحِبُّ أَهْلَ الْعَدْلِ وَالأَمَانَةِ وَنُبْغِضُ أَهْلَ الْجَوْرِ وَالْخِيَانَةِ.

الشَّرْحُ: هَذَا يُؤَكِّدُ تَضَمُّنَ حُرْمَةِ الْخُرُوجِ عَنِ الإِجْمَاعِ، وَأَرَادَ الْمُؤَلِّفُ بِأَهْلِ الْعَدْلِ وَالأَمَانَةِ أَهْلَ السُّنَّةِ الْمُتَمِّسِكِينَ بِالْعَدْلِ مِنْ وُلاةِ الأُمُورِ، وَأَرَادَ بِأَهْلِ الْجَوْرِ وَالْخِيَانَةِ أَهْلَ الْخِلافِ وَالْعِصْيَانِ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَنَقُولُ اللَّهُ أَعْلَمُ فِيمَا اشْتَبَهَ عَلَيْنَا عِلْمُهُ.

الشَّرْحُ: أَيِ الشَّىْءُ الَّذِي لا نَعْلَمُهُ نَقُولُ نُفَوِّضُ فِيهِ الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الإِنْسَانَ قَدْ يَتَشَكَّكُ عِنْدَمَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ الأَمْرُ، فَعِنْدَئِذٍ يَلْجَأُ إِلَى التَّفْوِيضِ إِلَى اللَّهِ وَيَعْتَقِدُ الْحَقِّيَّةَ فِي كُلِّ مَا ثَبَتَ عَنِ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ، وَيَعْرِفُ يَقِينًا أَنَّ عُقُولَ الْخَلْقِ قَاصِرَةٌ عن الحِكَمِ الْبَشَرِيَّةِ فَكَيْفُ تُدْرِكُ جَمِيعَ الْحِكَمِ الرُّبُوبِيَّةِ، كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا ءَارَاءَكُمْ، وَأَحْسِنُوا الظَّنَّ بِرَسُولِ اللَّهِ فِيمَا يُرْوَى لَكُمْ عَنْهُ».


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَنَرَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ كَمَا جَاءَ فِي الأَثَرِ.

الشَّرْحُ: لا مُخَالِفَ فِي هَذِهِ الْمَسْئَلَةِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَلا مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ، فَحَدِيثُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ مُتَوَاتِرٌ رَوَاهُ عَدَدٌ لا يُحْصَى مِنَ الْمُحَدِّثِينَ فِي مُؤَلَّفَاتِهِمْ عَنْ سَبْعِينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [وَمِنْهُمْ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْحَجُّ وَالْجِهَادُ مَاضِيَانِ مَعَ أُولِي الأَمْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَرِّهِمْ وَفَاجِرِهِمْ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ لا يُبْطِلُهُمَا شَىْءٌ وَلا يَنْقُضُهُمَا.

الشَّرْحُ: يَعْنِي أَنَّهُ يَجِبُ الْجِهَادُ مَعَ الإِمَامِ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، فَإِذَا اسْتَنْفَرَ الإِمَامُ الْمُسْلِمِينَ لِلْجِهَادِ وَجَبَ عَلَيْهِمْ طَاعَتُهُ إِنْ كَانَ بَرًّا وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا وَالْمُرَادُ جِهَادُ الْكُفَّارِ، وَكَذَلِكَ يُطَاعُ لِلْحَجِّ أَنْ يُقْتَدَى بِهِ وَلا يُتَمَرَّدَ عَلَيْهِ لأِنَّهُ أَدْرَى بِمَصْلَحَةِ الْعِبَادَاتِ كَمَا هُوَ أَدْرَى بِمَصْلَحَةِ الْجِهَادِ أَيْ قِتَالِ الْكُفَّارِ [أَمَّا لَوْ أَمَرَ بِقِتَالِ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلاَ يُطَاعُ].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَنُؤْمِنُ بِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَهُمْ عَلَيْنَا حَافِظِينَ.

الشَّرْحُ: الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ هُمُ الْمَلائِكَةُ الَّذِينَ أَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِكِتَابَةِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَهُمْ عَلَيْنَا حَافِظِينَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [سُورَةَ الاِنْفِطَار]، [ثَبَتَ فِي النَّقْلِ أَنَّ الْحَفَظَةَ إِذَا صَعَدُوا يُقَابِلُونَ مَا كَتَبُوا بِمَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَلا يُزَادُ وَلا يَنْقُصُ عَمَّا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ ءَايَاتِ عِلْمِهِ الأَزَلِيِّ عَلَيْهِمْ ثُمَّ يُثْبَتُ مَا فِيهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَيُمْحَى مَا لَيْسَ فِيهِ ثَوَابٌ وَلا عِقَابٌ وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ إِلَى تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتْ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَاب﴾ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَحْوُ مَا كُتِبَ مِنْ أَعْمَالِ بَنِي ءَادَمَ مَا سِوَى الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَفِي الآيَةِ تَفْسِيرٌ غَيْرُ هَذَا رَجَّحَهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ وَهُوَ أَنَّهَا النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَنُؤْمِنُ بِمَلَكِ الْمَوْتِ الْمُوَكَّلِ بِقَبْضِ أَرْوَاحِ الْعَالَمِينَ [مَعْنَاهُ أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ وَكَّلَهُ اللَّهُ بِقَبْضِ أَرْوَاحِ الْعَالَمِينَ. قَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾].

الشَّرْحُ: الْعَالَمُونَ هُمُ الإِنْسُ وَالْجِنُّ، وَمَلَكُ الْمَوْتِ الْمُرَادُ بِهِ عَزْرَائِيلُ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ عَزْرَائِيلُ وَأَعْوَانُهُ [تَسْمِيَةُ مَلَكِ الْمَوْتِ عَزْرَائِيل وَرَدَ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْبَعْثِ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الطِّوَالاتِ]، وَقَدْ جَاءَ الإِسْنَادُ إِسْنَادُ التَّوَفِّي إِلَى الْمَلائِكَةِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَجَاءَ بِلَفْظِ الإِفْرَادِ، فَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي جَاءَ اللَّفْظُ بِالإِفْرَادِ يَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي يَقْبِضُ الأَرْوَاحَ مُبَاشَرَةً هُوَ عَزْرَائِيلُ ثُمَّ يَسْتَلِمُ مِنْهُ الأَرْوَاحَ غَيْرُهُ مِنَ الْمَلائِكَةِ الَّذِينَ يَكُونُونَ مَعَهُ وَهُمْ قِسْمَانِ مَلائِكَةُ رَحْمَةٍ وَمَلائِكَةُ عَذَابٍ، وَحَيْثُ جَاءَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فَالْمُرَادُ عَزْرَائِيلُ وَأَعْوَانُهُ لأِنَّ كُلاًّ مِنْهُمْ لَهُ دَخَلٌ فِي قَبْضِ الرُّوحِ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَبِعَذَابِ الْقَبْرِ لِمَنْ كَانَ لَهُ أَهْلاً.

الشَّرْحُ: يَجِبُ الإِيْمَانُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ لِلْكُفَّارِ وَأَهْلِ الْكَبَائِرِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُمْ – أَيْ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ -، وَمِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِهِ تَرْكُ الاِسْتِنْزَاهِ مِنَ الْبَوْلِ وَالْغِيبَةُ وَالنَّمِيمَةُ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُودِ عَذَابِ الْقَبْرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [سُورَةَ غَافِر/46]، وَأَحَادِيثُ مِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: «اسْتَنْزِهُوا مِنَ الْبَوْلِ فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَسُؤَالِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ فِي قَبْرِهِ عَنْ رَبِّهِ وَدِينِهِ وَنَبِيِّهِ عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.

الشَّرْحُ: أَيْ وَنُؤْمِنُ بِذَلِكَ أَيْضًا [أَيْ يَجِبُ الايِمَانُ بِسُؤَالِهِمَا لِلْمَيِّتِ تَصْدِيقًا]. وَالسُّؤَالُ لِلْبَالِغِينَ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ فَقَطْ [وَهَذَا سُؤَالٌ لأُمَّةِ مُحَمَّدٍ فَقَطْ لأُمَّةِ الإِجَابَةِ وَأُمَّةِ الدَّعْوَةِ، أُمَّةُ الإِجَابَةِ هُمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ أَمَّا أُمَّةُ الدَّعْوَةِ فَيَشْمَلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَالَّذِينَ لَمْ يَتَّبِعُوهُ]، وَيُسْتَثْنَى الأَنْبِيَاءُ وَشُهَدَاءُ الْمَعْرَكَةِ وَالأَطْفَالُ فَإِنَّهُمْ لا يُسْأَلُونَ، وَلا يَجِبُ مَعْرِفَةُ كَيْفِيَّةِ السُّؤَالِ، وَلَكِنْ يَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّ الْمَيِّتَ يَعُودُ إِلَيْهِ عَقْلُهُ وَإِحْسَاسُهُ بِعَوْدِ الرُّوحِ إِلَى الْجِسْمِ [قَالَ بَعْضُهُمْ: اللَّهُ يَجْعَلُ الشُّعُورَ فِي هَذِهِ الأَرْضِ وَالأَجْزَاءُ الَّتِي خَالَطَتْ بُطُونَ الأَسْمَاكِ أَوِ السِّبَاعِ يَعُودُ إِلَيْهَا الشُّعُورُ فَيَسْأَلُهُ الْمَلَكَانِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّمَا يُسْأَلُ الْمَقْبُورُ أَمَّا مَنْ أَكَلَتْهُ السِّبَاعُ فَلا يُسْأَلُ أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْعَذَابِ فَالرُّوحُ تَتَعَذَّبُ وَيَصِلُ الإِحْسَاسُ إِلَى ذَرَّاتِ الْجَسَدِ إِلَى أَنْ يَبْقَى ذَلِكَ الْعَظْمُ الصَّغِيرُ الَّذِي هُوَ كَحَبَّةِ الْخَرْدَلِ. أَوَّلُ مَا يُخْلَقُ مِنْ عَظْمِ الإِنْسَانِ ذَلِكَ الْعَظْمُ الصَّغِيرُ الَّذِي هُوَ كَحَبَّةِ الْخَرْدَلِ عَلَيْهَا يُرَكَّبُ سَائِرُ الْعِظَامِ ثُمَّ هَذِهِ الْعِظَامُ تُكْسَى لَحْمًا. فِي الْقَبْرِ لَمَّا يَبْلَى مِنْهُ كُلُّ شَىْءٍ وَلا يَبْقَى مِنْهُ إِلاَّ ذَلِكَ الْعَظْمُ الرُّوحُ بَعْدَ ذَلِكَ لا عَلاَقَةَ لَهُ بِالْقَبْرِ. رُوحُ التَّقِيِّ تَنْتَقِلُ كَذَلِكَ رُوحُ غَيْرِهِ. ثُمَّ يَوْمَ النَّفْخَةِ تَعُودُ إِلَى جَسَدِهَا الْجَدِيدِ فَيَحْشُرُهَا].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النِّيرَانِ.

الشَّرْحُ: قَوْلُهُ: «رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ» لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ الْقَبْرَ يَصِيرُ مِثْلَ الْجَنَّةِ سَوَاءً، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النِّيرَانِ» مَعْنَاهُ أَنَّ فِيهِ نَكَدًا، وَالنَّكَدُ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ، وَهَذَا تَشْبِيهٌ مَجَازِيٌّ، وَالتَّقْدِيرُ الْقَبْرُ كَرَوْضَةٍ مِنْ رِيَاضٍ الْجَنَّةِ أَوْ كَحُفْرَةٍ مِنْ حُفَرِ النِّيرَانِ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَنُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ وَجَزَاءِ الأَعْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْعَرْضِ وَالْحِسَابِ وَقِرَاءَةِ الْكِتَابِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ.

الشَّرْحُ: أَيْ يَجِبُ الإِيْمَانُ بِمَا ذُكِرَ لأِنَّ كُلاًّ وَرَدَ بِهِ النَّصُّ الشَّرْعِيُّ [هَذِهِ الْمَذْكُورَاتُ مِنَ الْعَقَائِدِ السَّمْعِيَّةِ لا يَسْتَقِلُّ الْعَقْلُ بِمَعْرِفَتِهَا]، وَالْبَعْثُ هُوَ بَعْثُ اللَّهِ تَعَالَى الْمَوْتَى مِنَ الْقُبُورِ، وَقَوْلُهُ: «وَجَزَاءِ الأَعْمَالِ» دَلَّتِ الدَّلائِلُ أَنْ يَكُونَ الإِيْمَانُ وَاجِبًا عَلَى التَّأْبِيدِ وَالْكُفْرُ حَرَامًا عَلَى التَّأْبِيدِ، وَدَلَّتِ الدَّلائِلُ عَلَى أَنْ يَكُونَ جَزَاؤُهُمَا عَلَى التَّأْبِيدِ، وَجُعِلَتِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لِلْعَمَلِ إِلَى الْمَوْتِ، وَجُعِلَ الْمَوْتُ لِلنَّقْلِ إِلَى الآخِرَةِ الَّتِي فِيهَا يُبْعَثُونَ جَمِيعًا لِلْجَزَاءِ الْوِفَاقِ، وَلَوْ كَانَ وُقُوعُ ابْتِدَاءِ الْجَزَاءِ الْمُؤَبَّدِ فِي الدُّنْيَا لَبَطَلَتِ الْمِحْنَةُ عَنِ اخْتِيَارٍ وَكَانَ الإِيْمَانُ اضْطِرَارِيًّا بِالْمُعَايَنَةِ لِلْعَذَابِ، وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ الْقَطْعِيُّ عَلَى أَنَّ الإِيْمَانَ لا يَنْفَعُ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْبَأْسِ، وَجُعِلَ الْجَزَاءُ فِي دَارِ الْبَقَاءِ قَالَ تَعَالَى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [سُورَةَ الْفَاتِحَة/4] أَيْ يَوْمِ الْجَزَاءِ.

وَقَوْلُهُ: «يَوْمَ الْقِيَامَةِ» لأِنَّ الدُّنْيَا لا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ دَارَ الْجَزَاءِ الْعَامِّ لأِنَّهَا جُعِلَتْ دَارَ الْعَمَلِ وَالآخِرَةَ جُعِلَتْ دَارَ الْجَزَاءِ.

وَقَوْلُهُ: «وَالْعَرْضِ» أَيِ الْعَرْضِ عَلَى أَسْرَعِ الْحَاسِبِينَ [قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِين﴾].

وَقَوْلُهُ: «وَقِرَاءَةِ الْكِتَابِ» أَيْ يُعْرَضُ كِتَابُ الْمَرْءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِي كَتَبَتْهُ الْمَلائِكَةُ فَيُقَالُ لَهُ اقْرَأْ كِتَابَكَ، فَيَرَى فِيهِ أَعْمَالَهُ [قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾].

وَقَوْلُهُ: «وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ» فَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ قَوْلَهُ: «وَجَزَاءِ الأَعْمَالِ» وَأُعِيدَ تَأْكِيدًا وَمُبَالَغَةً.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: «وَالصِّرَاطِ» فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ مِّنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا﴾ [سُورَةَ مَرْيَم/71]، وَلَمَّا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ يُضْرَبُ الصِّرَاطُ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الْوُرُودِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْوُرُودَ عَلَى وَجْهَيْنِ: وُرُودُ دُخُولٍ وَوُرُودُ عُبُورٍ، فَوُرُودُ الدُّخُولِ لِلْكُفَّارِ وَلِبَعْضِ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ، وَوُرُودُ الْعُبُورِ لِلأَتْقِيَاءِ.

وَأَمَّا الإِيْمَانُ بِالْمِيزَانِ وَالْوَزْنِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [سُورَةَ الأَنْبِيَاء/47] وَلِلأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ [بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْوَزْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ تَعَرَّضَ لِذَلِكَ بِأَنَّ الْمُوزَنَ الْعَمَلُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْمُوزَنُ الصَّحَائِفُ وَيَكْفِي لِلإِيْمَانِ بِذَلِكَ الاِعْتِقَادُ بِحَقِيَّةِ الْمُرَادِ بِهِ بِدُونِ مَعْرِفَةِ التَّفَاصِيلِ].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ مَخْلُوقَتَانِ لا تَفْنَيَانِ أَبَدًا وَلا تَبِيدَانِ.

الشَّرْحُ: يُفْهَمُ مِنْ كَلامِهِ هَذَا ضَلالُ مَنْ قَالَ بِفَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَهُمُ الْجَهْمِيَّةُ وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ بِفَنَاءِ جَهَنَّمَ وَهُوَ ابْنُ تَيْمِيَةَ وَكِلا الْفَرِيقَيْنِ كَافِرٌ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ قَبْلَ الْخَلْقِ.

الشَّرْحُ: أَيْ يَجِبُ أَنْ نُؤْمِنَ بِأَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ خُلِقَتَا قَبْلَ الْبَشَرِ وَهُمُ الْمُرَادُونَ بِقَوْلِهِ: «قَبْلَ الْخَلْقِ» أَيْ قَبْلَ الْبَشَرِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ قَبْلَ كُلِّ شَىْءٍ خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَخَلَقَ لَهُمَا أَهْلاً فَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ فَضْلاً مِنْهُ وَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِلَى النَّارِ عَدْلاً مِنْهُ وَكُلٌّ يَعْمَلُ لِمَا قَدْ فُرِغَ لَهُ وَصَائِرٌ إِلَى مَا خُلِقَ لَهُ.

الشَّرْحُ: يَجِبُ الإِيْمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ لِلْجَنَّةِ وَالنَّارِ أَهْلاً [جَهَنَّمُ اللَّهُ تَعَالَى جَعَلَهَا دَارَ أَعْدَائِهِ دَارَ الْكُفَّارِ خَبِيثَةٌ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ جَهَنَّمُ خَبِيثَةٌ إِنَّمَا الَّذِي لا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ عَذَابُ جَهَنَّمَ هَيِّنٌ لَيْسَ صَعْبًا هَذَا كَافِرٌ كَيْفَ يَسْتَقِلُّ بِأَمْرِهَا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ عَذَابِهَا ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾]، فَمَنْ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ فَبِفَضْلِهِ وَمَنْ أَدْخَلَهُ النَّارَ فَبِعَدْلِهِ.

وَقَوْلُهُ: «وَكُلٌّ يَعْمَلُ لِمَا قَدْ فُرِغَ لَهُ وَصَائِرٌ إِلَى مَا خُلِقَ لَهُ» أَيْ أَنَّ كُلاًّ مِنَ الْعِبَادِ يَعْمَلُ لِمَا قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُ فِي اللَّوْحِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الثَّوَابَ فِي الْجَنَّةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يُنْجِي أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ»، قَالُوا: وَلا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «وَلا أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ» رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ [وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ «إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ مِنْهُ بِرَحْمَتِهِ»].

وَقَوْلُهُ: «عَدْلاً» ذَلِكَ لأِنَّ الظُّلْمَ وَضْعُ الشَّىْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَهُوَ تَعَالَى يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِهِ وَلَمْ يَتَصَرَّفْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، فَيُعَذِّبُ عَلَى تَرْكِ الأَوَامِرِ وَارْتِكَابِ النَّوَاهِي فَكَانَ تَعْذِيبُهُ لَهُمْ عَدْلاً وَحِكْمَةً، وَهَذَا مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ [مَعْنَاهُ لَوْ عَذَّبَ اللَّهُ الْمَلائِكَةَ وَالأَنْبِيَاءَ لَوْ رَمَاهُمْ فِي النَّارِ لا يَكُونُ ظَالِمًا لأِنَّهُ تَصَرَّفَ بِمِلْكِهِ هُوَ خَلَقَهُمْ وَخَلَقَ فِيهِمُ الأَعْمَالَ، اللَّهُ لَهُ الْفَضْلُ فِي خَلْقِهِمْ وَخَلْقِ الإِيْمَانِ وَالتَّقْوَى فِي الأَنْبِيَاءِ وَالْمَلائِكَةِ فَلَوْ عَذَّبَهُمْ فِي جَهَنَّمَ لا يَكُونُ ظَالِمًا وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ مَعْنَاهُ رَحْمَتُهُ لِلأَنْبِيَاءِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ وَالسَّموَاتِ رَحْمَتُهُ لَهُمْ بِأَنْ نَجَّاهُمْ مِنَ الْعَذَابِ وَأَكْرَمَهُمْ وَأَعْلَى مَقَامَهُمْ فَرَحْمَتُهُ لَهُمْ أَفْضَلُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ مَعْنَاهُ فَضْلاً مِنْهُ وَكَرَمًا يَكُونُ أَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ وَلَوْ لَمْ يُدْخِلْهُمُ الْجَنَّةَ وَأَدْخَلَهُمْ جَهَنَّمَ لا يَكُونُ ظَالِمًا لأِنَّهُ هُوَ خَلَقَ فِيهِمُ الإِيْمَانَ وَالصَّلاحَ هُوَ لَهُ الْفَضْلُ عَلَيْهِمْ لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُكْرِمَهُمْ فِي الآخِرَةِ فَلا يُخْلِفُ فِي وَعْدِهِ ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَاد﴾ فَضْلاً مِنْهُ لَيْسَ فَرْضًا عَلَيْهِ. اللَّهُ وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ وَيُكْرِمَهُمْ وَيُحْيِيَهُمْ حَيَاةً لا نِهَايَةَ لَهَا وَلا نَكَدَ فِيهَا وَلا مَشَقَّةَ فَلا بُدَّ أَنْ يَحْصُلَ ذَلِكَ لأَنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَاد]، فَطَاعَةُ الطَّائِعِ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ فَالْعَبْدُ وَعَمَلُهُ مِلْكٌ لِلَّهِ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا﴾ [سُورَةَ النُّور/21].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ مُقَدَّرَانِ عَلَى الْعِبَادِ [قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ الْمُؤْمِنُ اللَّهُ هَدَاهُ دَلَّهُ عَلَى الإِيْمَانِ وَالْكَافِرُ اللَّهُ أَلْهَمَهُ الْكُفْرَ، هَذَا أَلْهَمَهُ الإِيْمَانَ فَآمَنَ وَهَذَا أَلْهَمَهُ الْكُفْرَ فَكَفَرَ وَهَذَا الَّذِي كَفَرَ بِإِلْهَامٍ مِنَ اللَّهِ كَفَرَ هُوَ أَعْطَاهُ الْقُدْرَةَ عَلَى ذَلِكَ فَكَفَرَ لَيْسَ عَلَى اللَّهِ عَلَيْهِ حُجَّةٌ، مِنَ اللَّهِ عَدْلٌ، أَمَّا مِنَ الْعَبْدِ كُفْرٌ وَظُلْمٌ وَحَرَامٌ، الْعَبْدُ ظَلَمَ نَفْسَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ خَالِقُ الأَشْخَاصِ هُوَ خَالِقُ النَّظَرِ وَالنُّطْقِ وَحَرَكَةِ الْقَلْبِ وَحَرَكَةِ الرِّجْلِ وَقُوَّةِ الرِّجْلِ وَقُوَّةِ الْيَدِ، كُلُّ هَذَا اللَّهُ خَلَقَهُ فِيهِ ثُمَّ اللَّهُ تَعَالَى يُلْهِمُ بَعْضَ عِبَادِهِ أَنْ يَسْتَعْمِلُوا قِوَاهُمْ هَذِهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَبَعْضَ الْعِبَادِ اللَّهُ أَلْهَمَهُمْ أَنْ يَسْتَعْمِلُوا هَذِهِ الْقُوَّةَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَقُلُوبُهُمْ، لا يُقَالُ اللَّهُ تَعَالَى لِمَ أَعْطَى هَؤُلاَءِ الْقُوَّةَ ثُمَّ هُوَ أَلْهَمَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِي ثُمَّ يُعَاقِبُهُمْ فِي الآخِرَةِ، يُقَالُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ مَالِكُ كُلِّ شَىْءٍ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِهِ الْحَقِيقِيِّ لا يَكُونُ ظُلْمًا مِنْهُ، لا يَكُونُ قَبِيحًا مِنْهُ لَكِنْ مِنَ الْعَبْدِ قَبِيحٌ، الإِنْسَانُ إِذَا كَفَرَ هَذَا الْكُفْرُ اللَّهُ خَلَقَهُ فِيهِ وَالْمُسْلِمُ الَّذِي يَعْصِي اللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ هَذِهِ الْمَعْصِيَةَ فِيهِ وَمَعَ هَذَا يُعَذَّبُ الْكَافِرُ عَلَى كُفْرِهِ الَّذِي هُوَ خَلَقَهُ فِيهِ وَالْمُسْلِمُ الْعَاصِي عَلَى مَعْصِيَتِهِ الَّتِي هُوَ خَلَقَهَا فِيهِ، لا يَكُونُ مِنَ اللَّهِ قَبِيحًا لا يَكُونُ مِنَ اللَّهِ ظُلْمًا].

الشَّرْحُ: أَيْ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ عَلَى الْعِبَادِ أَيْ قَدَّرَ بِعِلْمِهِ وَمَشِيئَتِهِ مَعَ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ فِي الْعَبْدِ مِنَ الاِخْتِيَارِ هَذَا مَعْنَاهُ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [سُورَةَ الْفُرْقَان/2].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالاِسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْفِعْلُ مِنْ نَحْوِ التَّوْفِيقِ الَّذِي لا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ الْمَخْلُوقُ بِهِ فَهِيَ مَعَ الْفِعْلِ، وَأَمَّا الاِسْتِطَاعَةُ مِنْ جِهَةِ الصِّحَّةِ وَالْوُسْعِ وَالتَّمَكُّنِ وَسَلامَةِ الآلاتِ فَهِيَ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَبِهَا يَتَعَلَّقُ الْخِطَابُ، وَهِيَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/286]، [الاِسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا التَّكْلِيفُ سَابِقَةٌ لِلْفِعْلِ وَالاِسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا التَّمْكِينُ مُقَارِنَةٌ لِلْفِعْلِ، الاِسْتِطَاعَةُ الَّتِي يُوصَفُ بِهَا الْعَبْدُ تَكُونُ مُقْتَرِنَةً بِالْفِعْلِ وَهِيَ صِفَةٌ يَخْلُقُهَا اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ سَلاَمَةِ الأَسْبَابِ وَالآلاتِ أَيْ بَعْدَ أَنْ تَحْصُلَ الأَسْبَابُ الَّتِي تَحْصُلُ بِهَا هَذِهِ الصِّفَةُ وَهِيَ سَلامَةُ الأَسْبَابِ وَالآلاتِ، فَإِنْ كَانَ نُطْقًا فَسَلامَةُ اللِّسَانِ وَإِنْ كَانَ مُبَاشَرَةً فَسَلامَةُ الْيَدِ وَهَكَذَا لِكُلِّ فِعْلٍ].

الشَّرْحُ: الاِسْتِطَاعَةُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ نَوْعَانِ: اسْتِطَاعَةٌ تَكُونُ مَعَ الْفِعْلِ تُقَارِنُهُ [وَهِيَ صِفَةٌ يَخْلُقُهَا اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ سَلامَةِ الأَسْبَابِ وَالآلاتِ أَيْ بَعْدَ أَنْ تَحْصُلَ الأَسْبَابُ الَّتِي تَحْصُلُ بِهَا هَذِهِ الصِّفَةُ وَهِيَ سَلامَةُ الأَسْبَابِ وَالآلاتِ]، وَاسْتِطَاعَةٌ تَكُونُ مِنْ شَأْنِهَا سَابِقَةٌ لِلْفِعْلِ حَتَّى يَحْصُلَ الْفِعْلُ بِهَا [وَإِنَّمَا قُسِّمَتِ الاِسْتِطَاعَةُ قِسْمَيْنِ لأَنَّ الأَمْرَ بِالْفِعْلِ لا بُدَّ لَهُ مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْفِعْلِ. وَالاِسْتِطَاعَةُ وَالْقُدْرَةُ فِي وَصْفِ الْعَبْدِ شَىْءٌ وَاحِدٌ. نَقُولُ يَسْتَطِيعُ وَيَقْدِرُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. ثُمَّ الْقُدْرَةُ بَاطِنَةٌ وَظَاهِرَةٌ فَالاِسْتِطَاعَةُ الْبَاطِنَةُ هِيَ الَّتِي يُوجَدُ بِهَا الْفِعْلُ يُحْدِثُهَا اللَّهُ مَقْرُونَةً بِالْفِعْلِ فَفِي الطَّاعَاتِ تُسَمَّى تَوْفِيقًا وَفِي الْمَعَاصِي تُسَمَّى خِذْلانًا فَهَذِهِ الاِسْتِطَاعَةُ تَكُونُ مَعَ الْفِعْلِ، يَكُونُ الْعَبْدُ مُفْتَقِرًا إِلَى تَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ وَتَأْيِيدِهِ فِي كُلِّ لَمْحَةٍ وَلَحْظَةٍ وَهِيَ حَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ وَقَالَ: ذ﴿إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ أَمَّا الاِسْتِطَاعَةُ الثَّانِيَةُ فَهِيَ الْقُدْرَةُ الظَّاهِرَةُ وَهِيَ مِنْ جِهَةِ الْوُسْعِ وَالتَّمْكِينِ وَسَلامَةِ الأَسْبَابِ وَالآلاتِ وَهِيَ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى الْفِعْلِ]، فَالاِسْتِطَاعَةُ الَّتِي تَكُونُ مَعَ الْفِعْلِ هِيَ الَّتِي يَتَحَقَّقُ بِهَا مِنَ الْعَبْدِ الْفِعْلُ يُحْدِثُهَا اللَّهُ مَقْرُونَةً بِالْفِعْلِ فَفِي الطَّاعَاتِ تُسَمَّى تَوْفِيقًا وَفِي الْمَعَاصِي تُسَمَّى خِذْلانًا [قَالَ الشَّيْخُ: فَإِنْ قَصَدَ الْعَبْدُ فِعْلَ الْخَيْرِ خَلَقَ اللَّهُ قُدْرَةَ فِعْلِ الْخَيْرِ فِي الْعَبْدِ وَإِنْ قَصَدَ فِعْلَ الشَّرِّ خَلَقَ اللَّهُ قُدْرَةَ فِعْلِ الشَّرِّ فِي الْعَبْدِ وَتَكُونُ مُقْتَرِنَةً بِفِعْلِ الْعَبْدِ بِالزَّمَانِ لا سَابِقَةً عَلَيْهِ]، هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ، وَأَمَّا الْبِدْعِيُّونَ فَيَقُولُونَ تِلْكَ الاِسْتِطَاعَةُ الَّتِي هِيَ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ مُقَارِنَةٌ لِلْفِعْلِ مُتَقَدِّمَةٌ لِلْفِعْلِ عِنْدَهُمْ، وَهَذَا خِلافُ الصَّحِيحِ، وَأَمَّا الاِسْتِطَاعَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ سَلامَةُ الأَسْبَابِ وَالآلاتِ أَيْ كَوْنُ الْحَوَاسِّ الَّتِي يَتَأَدَّى بِهَا الْفِعْلُ سَالِمَةً، هَذِهِ قَبْلَ الْفِعْلِ لَيْسَ فِيهَا خِلافٌ، وَهَذِهِ الاِسْتِطَاعَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الْخِطَابُ يَعْنِي الْخِطَابَ التَّكْلِيفِيَّ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ عِبَادَهُ بِأَدَاءِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ هَذَا هُوَ الْخِطَابُ الَّذِي يَعْنِيهِ الْمُؤَلِّفُ [كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ فُسِّرَتِ اسْتِطَاعَةُ السَّبِيلِ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ لأَنَّ هَذِهِ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى الْفِعْلِ].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَفْعَالُ الْعِبَادِ خَلْقُ اللَّهِ وَكَسْبٌ مِنَ الْعِبَادِ.

الشَّرْحُ: يَعْنِي أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ كُلَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ وَهِيَ بِالنِّسْبَةِ لِلْعِبَادِ كَسْبٌ، فَالأَفْعَالُ الاِخْتِيَارِيَّةُ تَقَعُ كَسْبًا لِلْعَبْدِ وَخَلْقًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَخْلُقُهَا وَالْعَبْدُ لا يَخْلُقُهَا وَإِنَّمَا يَكْتَسِبُهَا، وَيُقَالُ يَعْمَلُهَا، كُلُّ هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ أَمْرٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ الْحَقُّ وَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْجَبْرِ، وَعَنْ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ الْفَاسِدِينَ [قَالَ سَيِّدُنا عَلِيٌّ لَمَّا سُئِلَ عَنِ الْقَدَرِ قَالَ لِلسَّائِلِ: «سِرُّ اللَّهِ فَلا تَتَكَلَّفْ» فَلَمَّا أَلَحَّ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ: «أَمَّا إِذْ أَبَيْتَ فَإِنَّهُ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ لا جَبْرٌ وَلا تَفْوِيضٌ». قَالَ الأَشْعَرِيُّ: «لا فَاعِلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ إِلاَّ اللَّهُ» مَعْنَاهُ فِعْلُ الْعَبْدِ لا يُوصِلُهُ إِلَى إِخْرَاجِ الشَّىْءِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ].


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَمْ يُكَلِّفْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلاَّ مَا يُطِيقُونَ، وَلا يُطَيَّقُونَ إِلاَّ مَا كَلَّفَهُمْ.

الشَّرْحُ: الْجُمْلَةُ الأُولَى مَعْنَاهَا ظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ فَمَعْنَاهَا لا يُلْزَمُونَ، أَيْ لَيْسَ لِلْعِبَادِ أَنْ يُلْزِمُوهُمْ إِلاَّ مَا كَلَّفَهُمُ اللَّهُ بِهِ، فَيُطِيقُونَ فِي الْجُمْلَةِ الأُولَى بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الطَّاءِ وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَيَتَعَيَّنُ قِرَاءَتُهَا بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الطَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ الَّتِي بَعْدَهَا، وَلا يَصِحُّ مَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ إِلاَّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِظُهُورِ فَسَادِهِ، لأِنَّ الْمَعْنَى عَلَى ذَلِكَ يَنْحَلُّ إِلَى أَنَّ الْعِبَادَ لا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَفْعَلُوا سِوَى مَا كَلَّفَهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَالْوَاقِعُ أَنَّ الْعِبَادَ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ يُخَالِفُوا مَا كَلَّفَهُمُ اللَّهُ بِهِ وَذَلِكَ حَالُ أَكْثَرِ الْبَشَرِ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهُوَ تَفْسِيرُ لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ نَقُولُ: لا حِيلَةَ لأِحَدٍ وَلا حَرَكَةَ لأِحَدٍ وَلا تَحَوُّلَ لأِحَدٍ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلاَّ بِمَعُونَةِ اللَّهِ.

الشَّرْحُ: قَوْلُهُ: «إِلاَّ بِمَعُونَةِ اللَّهِ» أَيْ إِلاَّ بِعِصْمَتِهِ، هُنَا عَبَّرَ الْمُؤَلِّفُ بِالْمَعُونَةِ، أَمَّا فِي التَّفْسِيرِ الَّذِي رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بنُ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَفْظُهُ: «إِلاَّ بِعِصْمَةِ اللَّهِ»، وَلَوْ عَبَّرَ بِذَلِكَ كَانَ أَحْسَنَ، وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مُفْتَقِرًا إِلَى اللَّهِ فِي الْعِصْمَةِ عَنِ الْمَعَاصِي وَالتَّوْفِيقِ لِلطَّاعَاتِ، فَالْعَبْدُ مُحْتَاجٌ إِلَى اللَّهِ فِي الأَمْرَيْنِ فِي التَّحَفُّظِ عَنِ الْمَعَاصِي وَالْقُدْرَةِ وَالتَّمَكُّنِ عَلَى الطَّاعَاتِ، فَلِذَلِكَ سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ فِي الْخَبَرِ الصَّحِيحِ هَذِهِ الْكَلِمَةَ كَنْزًا مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ فَإِنَّهُ قَالَ لأِبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ: «أَلا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ» قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: «لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ» رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَاجْتَمَعَتِ الأُمَّةُ عَلَى كَوْنِهَا مِنْ أُصُولِ الْعَقَائِدِ وَهِيَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [سُورَةَ التَّكْوِير/29]، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْعِبَادَ لا تَكُونُ لَهُمْ مَشِيئَةٌ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ أَنْ يَشَاءُوا، فَمَا شَاءَ اللَّهُ فِي الأَزَلِ أَنْ يَشَاءَ الْعِبَادُ تَحْصُلُ مَشِيئَتُهُمْ وَإِلاَّ فَلا تَحْصُلُ مَشِيئَتُهُمْ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلا قُوَّةَ لأِحَدٍ عَلَى إِقَامَةِ طَاعَةِ اللَّهِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهَا إِلاَّ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ.

الشَّرْحُ: أَيْ لا يَقْوَى أَحَدٌ عَلَى عَمَلِ الْخَيْرَاتِ إِلاَّ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ، كَمَا أَنَّهُ لا يَعْتَصِمُ عَنِ السُّوءِ مِنَ الْمَعَاصِي إِلاَّ بِعِصْمَةِ اللَّهِ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكُلُّ شَىْءٍ يَجْرِي بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ.

الشَّرْحُ: أَيْ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ ابْنُ ءَادَمَ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلُ فِي الْوُجُودِ مِنْ أَعْيَانٍ وَأَعْرَاضٍ لا يَدْخُلُ فِي الْوُجُودِ إِلاَّ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَعِلْمِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، فَلا يَحْصُلُ شَىْءٌ مِنَ الْعَالَمِ إِلاَّ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الأَرْبَعِ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: غَلَبَتْ مَشِيئَتُهُ الْمَشِيئَاتِ كُلَّهَا وَغَلَبَ قَضَاؤُهُ الْحِيَلَ كُلَّهَا.

الشَّرْحُ: أَيْ لا يَتَنَفَّذُ شَىْءٌ مِنْ مَشِيئَاتِ الْعِبَادِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نُفُوذَهَا، فَهُمْ يَشَاءُونَ لَكِنْ لا تَتَنَفَّذُ مَشِيئَاتُهُمْ إِلاَّ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ فَمَا شَاءَ اللَّهُ نُفُوذَهَا مِنْهَا نَفَذَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ نُفُوذَهُ لَمْ يَنْفُذْ، وَذَكَرَ الْمُؤَلِّفُ أَنَّ حِيَلَ الْعِبَادِ لا تُوصِلُ إِلاَّ إِلَى مَا قَضَى اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَمَا لَمْ يَقْضِ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أَيْ مَا لَمْ يَخْلُقْهُ لا تَنْفُذُ الْحِيَلُ فِيهِ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ أَبَدًا تَقَدَّسَ عَنْ كُلِّ سُوءٍ وَحَيْنٍ.

الشَّرْحُ: وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ [سُورَةَ هُود/107] وَقَوْلُهُ: «تَقَدَّسَ» أَيِ اللَّهُ «عَنْ كُلِّ سُوءٍ وَحَيْنٍ» أَيْ ظُلْمٍ، فَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ السُّوءِ وَالظُّلْمِ لأِنَّ الْخَالِقَ لا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الاِتِّصَافُ بِالظُّلْمِ وَالْجَوْرِ، فَالظُّلْمُ يُتَصَوَّرُ مِنَ الْكَاسِبِ وَهُوَ الْعَبْدُ أَمَّا الْخَالِقُ فَلا يَتَّصِفُ بِالظُّلْمِ، لأِنَّ الْخَالِقَ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِهِ الَّذِي هُوَ مَالِكُهُ الْحَقِيقِيُّ، أَمَّا الْعَبْدُ فَيَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، فَمَا تَصَرَّفَهُ بِإِذْنِ خَالِقِهِ لا يَكُونُ ذَلِكَ ظُلْمًا وَمَا تَصَرَّفَهُ بِخِلافِ إِذْنِ خَالِقِهِ أَيِ الإِذْنِ الشَّرْعِيِّ كَانَ ذَلِكَ ظُلْمًا مِنْهُ أَيْ مِنَ الْعَبْدِ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَتَنَزَّهَ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ وَشَيْنٍ.

الشَّرْحُ: أَيْ تَنَزَّهَ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: «لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ» [سُورَةَ الأَنْبِيَاء/23].

الشَّرْحُ: أَيْ أَنَّ الْعِبَادَ هُمْ يُسْأَلُونَ عَمَّا يَفْعَلُونَ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِي دُعَاءِ الأَحْيَاءِ وَصَدَقَاتِهِمْ مَنْفَعَةٌ لِلأَمْوَاتِ.

الشَّرْحُ: الدُّعَاءُ يَنْفَعُ أَمْوَاتَ الْمُسْلِمِينَ بِالإِجْمَاعِ وَالصَّدَقَةُ كَذَلِكَ تَنْفَعُ بِالإِجْمَاعِ، وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ الْقُرْءَانِ عَلَى الْقَبْرِ تَنْفَعُ الْمَيِّتَ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْءَانِ عَلَى الْقَبْرِ بِحَدِيثِ الْعَسِيبِ الرَّطْبِ الَّذِي شَقَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثْنَيْنِ ثُمَّ غَرَسَ عَلَى قَبْرٍ نِصْفًا وَعَلَى قَبْرٍ نِصْفًا وَقَالَ: «لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ. وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا غَرْسُ الأَشْجَارِ وَقِرَاءَةُ الْقُرْءَانِ عَلَى الْقُبُورِ، وَإِذَا خُفِّفَ عَنْهُمْ بِالأَشْجَارِ فَكَيْفَ بِقِرَاءَةِ الرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ الْقُرْءَانَ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: «اسْتَحَبَّ الْعُلَمَاءُ قِرَاءَةَ الْقُرْءَانِ عِنْدَ الْقَبْرِ، وَاسْتَأْنَسُوا لِذَلِكَ بِحَدِيثِ الْجَرِيدَتَيْنِ وَقَالُوا: إِذَا وَصَلَ النَّفْعُ إِلَى الْمَيِّتِ بِتَسْبِيحِهِمَا حَالَ رُطُوبَتِهِمَا فَانْتِفَاعُ الْمَيِّتِ بِقِرَاءَةِ الْقُرْءَانِ عِنْدَ قَبْرِهِ أَوْلَى» اهـ، فَإِنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْءَانِ مِنْ إِنْسَانٍ أَعْظَمُ وَأَنْفَعُ مِنَ التَّسْبِيحِ مِنْ عُودٍ، وَقَدْ نَفَعَ الْقُرْءَانُ بَعْضَ مَنْ حَصَلَ لَهُ ضَرَرٌ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، فَالْمَيِّتُ كَذَلِكَ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَاللَّهُ تَعَالَى يَسْتَجِيبُ الدَّعَوَاتِ وَيَقْضِي الْحَاجَاتِ [وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ» مَعْنَاهُ الَّذِي يَدْعُو اللَّهَ فَهَذَا عِبَادَةٌ كَبِيرَةٌ لَيْسَ كَمَا تَقُولُ الْوَهَّابِيَّةُ الَّذِينَ عِنْدَهُمْ مَنْ يَقُولُ يَا مُحَمَّدُ أَوْ يَا عَلِيُّ أَوْ يَا عَبْدَ الْقَادِرِ فَهُوَ كَافِرٌ يَحْتَجُّونَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَلَيْسَ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ، الْحَدِيثُ مَدْحٌ لِلدُّعَاءِ بِمَعْنَى أَنَّهُ فِي الْعِبَادَةِ لَهُ مَرْتَبَةٌ عَالِيَةٌ، الْعِبَادَةُ مَرَاتِبُ الصَّلاةُ عِبَادَةٌ وَالزَّكَاةُ عِبَادَةٌ وَالصَّوْمُ عِبَادَةٌ وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ عِبَادَةٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ فَمَعْنَى الْحَدِيثِ الطَّلَبُ مِنَ اللَّهِ عِبَادَةٌ عَظِيمَةٌ].

الشَّرْحُ: اللَّهُ تَعَالَى يَسْتَجِيبُ الدَّعَوَاتِ وَيَقْضِي الْحَاجَاتِ فَضْلاً مِنْهُ وَكَرَمًا لا وُجُوبًا، فَلَوْ لَمْ يَسْتَجِبْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ظُلْمًا، لَكِنَّهُ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ يَسْتَجِيبُ فَلا يَتَخَلَّفُ كَلامُهُ، لَكِنَّهُ يَسْتَجِيبُ مَا شَاءَ أَنْ يُعْطِيَهُ لِلْعِبَادِ وَلَيْسَ كُلُّ مَا يَطْلُبُونَ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَمْلِكُ كُلَّ شَىْءٍ وَلا يَمْلِكُهُ شَىْءٌ، وَلا غِنَى عَنِ اللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَمَنْ [زَعَمَ أَنَّهُ] اسْتَغْنَى عَنِ اللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ فَقَدْ كَفَرَ وَصَارَ مِنْ أَهْلِ الْحَيْنِ.

الشَّرْحُ: يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ مَالِكُ كُلِّ شَىْءٍ، وَأَنَّ كُلَّ شَىْءٍ يَحْتَاجُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لأِنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْجَدَهُ، وَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَسْتَغْنِي عَنِ اللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ فَهُوَ كَافِرٌ وَصَارَ مِنْ أَهْلِ «الْحَيْنِ» وَهُوَ الْهَلاكُ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَاللَّهُ يَغْضَبُ وَيَرْضَى لا كَأَحَدٍ مِنَ الْوَرَى.

الشَّرْحُ: يَعْنِي أَنَّهُ يَجِبُ إِثْبَاتُ صِفَةِ الْغَضَبِ وَصِفَةِ الرِّضَى لِلَّهِ مَعَ تَنْزِيهِهِ تَعَالَى مِنْ أَنْ يَكُونَ غَضَبُهُ وَرِضَاهُ تَأَثُّرًا، بَلْ هُمَا صِفَتَانِ أَزَلِيَّتَانِ قَدِيْمَتَانِ أَبَدِيَتَانِ [اللَّهُ تَعَالَى يَغْضَبُ وَيَرْضَى لا كَأَحَدٍ مِنَ الْوَرَى كَمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْءَانُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ﴾ وَفِي حَقِّ الْكُفَّارِ ﴿وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ﴾ وَالأَصْلُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُوصَفُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ وَبِمَا صَحَّ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وَصَفَهُ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لأِحَدٍ شِرْكَةٌ مَعَ اللَّهِ لا فِي ذَاتِهِ وَلا فِي صِفَاتِهِ ثُمَّ الْغَضَبُ بِالنِّسْبَةِ لِلْخَلْقِ تَغَيُّرٌ يَحْصُلُ عِنْدَ غَلَيَانِ الدَّمِ فِي الْقَلْبِ بِإِرَادَةِ إِيصَالِ الضَّرَرِ إِلَى الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ. وَالْغَضَبُ إِذَا وُصِفَ اللَّهُ بِهِ يَكُونُ بِمَعْنَى الْغَايَةِ أَيْ إِرَادَةِ الاِنْتِقَامِ وَإِرَادَةُ الاِنْتِقَامِ أَزَلِيَّةٌ]، أَمَّا مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ أَنَّ ءَادَمَ وَغَيْرَهُ يَقُولُونَ: «إِنَّ اللَّهَ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلا يَغْضَبْ بَعْدَهُ مِثْلَهُ»، فَالْمُرَادُ بِذَلِكَ ءَاثَارُ الْغَضَبِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ الصِّفَةَ، لأِنَّ الصِّفَةَ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ لَيْسَتْ طَارِئَةً فِي ذَاتِ اللَّهِ، مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعَدَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ ءَاثَارِ الْغَضَبِ مَا لَمْ يَسْبِقْ قَبْلَ ذَلِكَ وَلا يَفْعَلْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ لأِنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَاءَ أَنْ يَكُونَ أَنْ يَحْصُلَ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنْ ءَاثَارِ الْغَضَبِ مُنْتَهَى الآثَارِ، لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ لَكِنَّهُ لا يَفْعَلُ، فَالْعَذَابُ الَّذِي أَعَدَّهُ لأِعْدَائِهِ شَاءَ فِي الأَزَلِ أَنْ يُصِيبَهُمْ فِي الآخِرَةِ لا يَتَجَاوَزُ ذَلِكَ الْحَدَّ الَّذِي شَاءَ، هَذَا مَعْنَى مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَأَثَّرَ ذَلِكَ الْوَقْتَ لأِنَّ التَّأَثُّرَ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ لأِنَّ الَّذِي يَتَأَثَّرُ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَنُحِبُّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا نُفْرِطُ فِي حُبِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَلا نَتَبَرَّأُ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنُبْغِضُ مَنْ يُبْغِضُهُمْ وَبِغَيْرِ الْخَيْرِ يَذْكُرُهُمْ وَلا نَذْكُرُهُمْ إِلاَّ بِخَيْرٍ وَحُبُّهُمْ دِينٌ وَإِيْمَانٌ وَإِحْسَانٌ.

الشَّرْحُ: أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمْ مَنْ لَقُوُهُ مُؤْمِنِينَ بِهِ فِي حَيَاتِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَعَارَفِ، لَيْسَ مَا يَكُونُ بِطَرِيقِ خَرْقِ الْعَادَةِ، فَالأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ اجْتَمَعُوا بِهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ فِي الْمَسْجِدِ الأَقْصَى لا يُعَدُّونَ صَحَابَةً لأِنَّ ذَلِكَ الاِجْتِمَاعَ لَيْسَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَعَارَفِ، أَمَّا قَوْلُهُ: «وَلا نُفْرِطُ فِي حُبِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ» أَيْ لا نَتَجَاوَزُ الْحَدَّ فِي مَحَبَّةِ أَحَدٍ كَمَا تَجَاوَزَ بَعْضُ الْمُبْتَدِعَةِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ «وَلا نَتَبَرَّأُ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ» أَيْ لا نُكَفِّرُ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَمَعْنَى «وَلا نَذْكُرُهُمْ إِلاَّ بِخَيْرٍ» هَذَا مِنْ حَيْثُ الإِجْمَالُ أَمَّا مِنْ حَيْثُ التَّفْصِيلُ فَنَمْدَحُ وَنَذُمُّ عَلَى حَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ الشَّرْعُ. أَمَّا قَوْلُهُ «وَلا نَتَبَرَّأُ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ» إِلَى قَوْلِهِ «وَإِحْسَانٌ» لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُسَاوَى بَيْنَ كُلِّ مَنْ ثَبَتَتْ لَهُ الصُّحْبَةُ فِي الْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ وَالإِجْلالِ فَذَلِكَ غَيْرُ الْمُرَادِ إِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّنَا لا نَنْبِذُ أَحَدًا مِمَّنْ ثَبَتَتْ لَهُ الصُّحْبَةُ وَثَبَتَ عَلَى مُقْتَضَاهَا إِلَى ءَاخِرِ حَيَاتِهِ أَيْ لا نُخْرِجُ أَحَدًا مِنْهُمْ مِنْ حُكْمِ الصُّحْبَةِ، هَذَا الْمَقْصُودُ، لأِنَّ الصُّحْبَةَ إِذَا أُخِذَتْ عَلَى مَعْنَى مُطْلَقِ الاِجْتِمَاعِ مَعَ الإِيْمَانِ بِهِ تَشْمَلُ مَنْ قَالَ عَنْهُ الرَّسُولُ فُلانٌ فِي النَّارِ، قَالَ عَنْ شَخْصٍ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ وُجِدَ مَعَهُ دِينَارٌ أَوْ دِينَارَانِ: «كَيَّةٌ أَوْ كَيَّتَانِ بِالنَّارِ» فَقَدْ كَانَ يَتَظَاهَرُ بِالْفَقْرِ وَيُخْفِي مَالاً، وَقَالَ عَنْ ءَاخَرَ كَانَ مَعَ الرَّسُولِ فِي الْغَزْوِ فَغَلَّ شَمْلَةً أَيْ أَخَذَهَا سَرِقَةً قَبْلَ أَنْ تُقَسَّمَ الْمَغَانِمُ: «رَأَيْتُ شَمْلَتَهُ تَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا»، وَقَالَ عَنْ شَخْصٍ ءَاخَرَ كَانَ يُقَاتِلُ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ الْكُفَّارَ قِتَالاً شَدِيدًا فَأَعْجَبَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ لِمَا رَأَوْا مِنْ نَشَاطِهِ ثُمَّ قَالَ الرَّسُولُ عَنْهُ: «إِنَّهُ فِي النَّارِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلَعَلَّ سَبَبَ تِلْكَ الْمَقَالَةِ أَنَّهُ كَانَ يُرَائِي، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْهُمْ كَانَ تَقِيًّا صَالِحًا، ثُمَّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْلِ صِفِّينَ الَّذِينَ قَاتَلُوا عَلِيًّا «إِنَّهُمْ دُعَاةٌ إِلَى النَّارِ» فَهَؤُلاءِ الَّذِينَ قَاتَلُوا فِي صِفِّينَ قِسْمٌ قَلِيلٌ مِنْهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالْقِسْمُ الأَكْبَرُ لَمْ يَكُونُوا مِنَ الصَّحَابَةِ إِنَّمَا مِنَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ مِنَ الَّذِينَ مَوَّهَ عَلَيْهِمْ مُعَاوِيَةُ وَأَوْهَمَهُمْ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ لَهُ يَدٌ فِي قَتْلِ عُثْمَانَ وَعَلِيٌّ بَرِيءٌ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ هُوَ – أَيْ مُعَاوِيَةُ – بَعْدَ أَنْ حَصَلَ عَلَى مَطْلُوبِهِ كَفَّ يَدَهُ عَنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَتَلُوا عُثْمَانَ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَطْلُبُ الدُّنْيَا كَمَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ مُسَدَّدُ فِي مُسْنَدِهِ، فَهَؤُلاءِ الَّذِينَ نَزَلَتْ مَرْتَبَتُهُمْ عَنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ نُحِبُّهُمْ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ لاِسْمِ الصُّحْبَةِ، نُحِبُّهُمْ بِاعْتِبَارِ هَذِهِ النَّاحِيَةِ وَنُحِبُّهُمْ لأِنَّهُمْ خَدَمُوا الدِّينَ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وبُغْضُهُمْ كُفْرٌ وَنِفَاقٌ وَطُغْيَانٌ.

الشَّرْحُ: الْمُرَادُ بِهَذَا بُغْضُ جَمِيعِهِمْ، فَمَنْ أَبْغَضَ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَلا يَعْنِي مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَبْغَضَ وَاحِدًا يَكُونُ كَافِرًا وَلا سِيَّمَا إِنْ كَانَ بُغْضُهُ لِبَعْضٍ لِسَبَبٍ شَرْعِيٍّ


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَنُثْبِتُ الْخِلافَةَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلاً لأِبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَفْضِيلاً لَهُ وَتَقْدِيْمًا عَلَى جَمِيعِ الأُمَّةِ ثُمَّ لِعُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ لِعَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُمُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَالأَئِمَّةُ الْمُهْتَدُونَ.

الشَّرْحُ: يُعْلَمُ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَنَّ أَفْضَلَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ عِنْدَ اللَّهِ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ ثُمَّ عَلِيٌّ، أَمَّا تَفْضِيلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمَا فَبِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْحَقِّ، وَأَمَّا تَفْضِيلُ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ فَهُوَ عَلَى مَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَقَدْ خَالَفَ بَعْضُ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ لا نُفَضِّلُ هَذَا عَلَى هَذَا وَلا هَذَا عَلَى هَذَا. وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ لَيْسَ مَعْنَاهُ حَصْرُ الْخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ فِي الأَرْبَعَةِ بَلِ الْحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ دَاخِلٌ فِي الْخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ وَكَذَلِكَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يُسَمَّى خَلِيفَةً رَاشِدًا.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِنَّ الْعَشَرَةَ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَشَّرَهُمْ بِالْجَنَّةِ نَشْهَدُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ عَلَى مَا شَهِدَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ وَهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدٌ وَسَعِيدٌ وَعَبْدُ الرَّحْمٰنِ بنُ عَوْفٍ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بنُ الْجَرَّاحِ وَهُوَ أَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.

الشَّرْحُ: أَيْ أَنَّهُ نَشْهَدُ بِالْجَنَّةِ لِلْعَشَرَةِ الَّذِينَ بَشَّرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ كَمَا جَاءَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ. وَسَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ اسْمُهُ مَالِكٌ، وَأَمَّا سَعِيدٌ فَهُوَ سَعِيدُ بنُ زَيْدٍ، وَأَمَّا أَبُو عُبَيْدَةَ فَاسْمُهُ عَامِرٌ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمَنْ أَحْسَنَ الْقَوْلَ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَزْوَاجِهِ الطَّاهِرَاتِ مِنْ كُلِّ دَنَسٍ وَذُرِّيَّاتِهِ الْمُقَدَّسِينَ مِنْ كُلِّ رِجْسٍ فَقَدْ بَرِىءَ مِنَ النِّفَاقِ.

الشَّرْحُ: يَعْنِي أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللاَّتِي فُزْنَ بِعِشْرَتِهِ يَجِبُ تَعْظِيمُهُنَّ وَمَحَبَّتَهُنَّ كَمَا يَجِبُ مَحَبَّةُ الصَّحَابَةِ، وَالرِّجْسُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ [سُورَةَ الأَحْزَاب/33] هُوَ الشِّرْكُ، وَالتَّقْدِيسُ التَّطْهِيرُ، وَهَذَا الْفَضْلُ شَامِلٌ لأِهْلِ بَيْتِهِ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَالْعَبَّاسِ وَنَحْوِهِمْ، وَلا يُتَوَهَّمُ أَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ خَاصٌّ بِالذُّكُورِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ [سُورَةَ هُود/73] وَالْخِطَابُ فِي هَذِهِ الآيَةِ إِلَى زَوْجَةِ إِبْرَاهِيمَ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَعُلَمَاءُ السَّلَفِ مِنَ السَّابِقِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ أَهْلُ الْخَيْرِ وَالأَثَرِ وَأَهْلُ الْفِقْهِ وَالنَّظَرِ لا يُذْكَرُونَ إِلاَّ بِالْجَمِيلِ وَمَنْ ذَكَرَهُمْ بِسُوءٍ فَهُوَ عَلَى غَيْرِ السَّبِيلِ.

الشَّرْحُ: ذَلِكَ لأِنَّ تَعْظِيمَ هَؤُلاءِ وَتَوْقِيرَهُمْ مِنْ تَعْظِيمِ دِينِ اللَّهِ، وَهُمْ خُلَفَاءُ الرَّسُولِ فِي تَبْلِيغِ الشَّرِيعَةِ إِلَى النَّاسِ فَوَجَبَ تَوْقِيرُهُمْ وَتَعْظِيمُهُمْ وَاتِّبَاعُهُمْ، وَلأِنَّ اللَّهَ نَدَبَنَا إِلَى الدُّعَاءِ وَالاِسْتِغْفَارِ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيْمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا﴾ [سُورَةَ الْحَشْر/10] الآيَةَ، فَهَذَا هُوَ سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُوَالِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِحَقِّ الإِيْمَانِ الَّذِي جَمَعَهُمْ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [سُورَةَ التَّوْبَة/71]، فَمَنْ ذَكَرَهُمْ بِسُوءٍ فَقَدْ عَدَلَ عَنْ سَبِيلِ الْمُوَالاةِ الدِّينِيَّةِ، وَذَلِكَ مِنْ عَلامَاتِ النِّفَاقِ وَالْخِذْلانِ، وَذَلِكَ لأِنَّهُمْ بِصَلاحِهِمْ صَارُوا أَحْبَابَ اللَّهِ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلا نُفَضِّلُ أَحَدًا مِنَ الأَوْلِيَاءِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ وَنَقُولُ نَبِيٌّ وَاحِدٌ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الأَوْلِيَاءِ.

الشَّرْحُ: وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام/86]، أَيْ كُلاًّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ ذُكِرُوا فَضَّلْنَاهُ عَلَى الْعَالَمِينَ وَذَلِكَ مِنْ مَرْتَبَةِ النُّبُوَّةِ، وَيُشَارِكُهُمْ فِي ذَلِكَ غَيْرُ الْمَذْكُورِينَ لأِنَّ الصِّفَةَ الَّتِي فُضِّلُوا مِنْ أَجْلِهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْجَمِيعِ وَهِيَ النُّبُوَّةُ. وَلا يَجُوزُ تَأْوِيلُ الآيَةِ بِأَنَّ الْمُرَادَ عَالِمُو زَمَانِ أُولَئِكَ الْمَذْكُورِينَ، لأِنَّ هَذَا تَأْوِيلٌ بِلا دَلِيلٍ وَهُوَ مَمْنُوعٌ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَنُؤْمِنُ بِمَا جَاءَ مِنْ كَرَامَاتِهِمْ وَصَحَّ عَنِ الثِّقَاتِ مِنْ رِوَايَاتِهِمْ.

الشَّرْحُ: يَجِبُ الإِيْمَانُ بِكَرَامَاتِ الأَوْلِيَاءِ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْمُسْتَقِيمُونَ بِطَاعَةِ اللَّهِ، ثُمَّ الْكَرَامَةُ هِيَ أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ تَظْهَرُ عَلَى يَدِ الْمُؤْمِنِ الْمُسْتَقِيمِ بِطَاعَةِ اللَّهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْمُؤَلِّفِ بِقَوْلِهِ: «كَرَامَاتِهِمْ» مَا يَشْمَلُ مُعْجِزَاتِ الأَنْبِيَاءِ لأِنَّهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ كَرَامَةٌ وَإِنْ كَانَ يُخَصُّ بِاسْمِ الْمُعْجِزَةِ مَا يَحْصُلُ لِلأَنْبِيَاءِ مِمَّا يَتَحَدَّوْنَ بِهِ أُمَمَهُمْ الْكَافِرِينَ، فَلا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ إِطْلاقِ مِثْلِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِالْمَعْنَى الشَّامِلِ لِلأَمْرَيْنِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: «كَرَامَاتِهِمْ» الأَوْلِيَاءَ دُونَ الأَنْبِيَاءِ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَنُؤْمِنُ بِأَشْرَاطِ السَّاعَةِ مِنْ خُرُوجِ الدَّجَّالِ وَنُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ السَّمَاءِ.

الشَّرْحُ: الأَشْرَاطُ جَمْعُ شَرْطٍ بِمَعْنَى الْعَلامَةِ، وَأَوَّلُ هَذِهِ الأَشْرَاطِ عَلَى ظَاهِرِ مَا وَرَدَ فِي مُسْلِمٍ خُرُوجُ الدَّجَّالِ، ثُمَّ الأَشْرَاطُ قِسْمَانِ: كُبْرَى وَهِيَ عَشَرَةٌ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ يُقَالُ لَهَا الأَشْرَاطُ الصُّغْرَى، وَنُزُولُ عِيسَى مِنَ السَّمَاءِ مِنَ الأَشْرَاطِ الْكُبْرَى، أَمَّا مَا ذَكَرَ بَعْضُ كُتَّابِ الْقَادِيَانِيَّةِ فِي مَنْشُورٍ لَهُ أَنَّ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ نُزُولِ عِيسَى لَمْ يَرِدْ أَنَّ نُزُولَهُ مِنَ السَّمَاءِ فَهَذَا جَهْلٌ مِنْهُ بِالْحَدِيثِ فَقَدْ وَرَدَتْ رِوَايَةٌ فِي الْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِ: «مِنَ السَّمَاءِ»، هَذَا غَرَّهُ أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَنُؤْمِنُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَخُرُوجِ دَابَّةِ الأَرْضِ مِنْ مَوْضِعِهَا.

الشَّرْحُ: أَيْ يَجِبُ الإِيْمَانُ بِذَلِكَ، أَمَّا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا فَقَدْ جَاءَ ذِكْرُهُ فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَأَمَّا مَوْضِعُ خُرُوجِ الدَّابَّةِ عَلَى مَا جَاءَ فِي الأَثَرِ الصَّفَا وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ بِطَرِيقٍ صَحِيحٍ فَلَيْسَ فَرْضًا عَلَيْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِأَنَّ خُرُوجَهَا مِنْ هُنَاكَ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ أَنْ نُؤْمِنَ أَنَّهَا سَتَخْرُجُ مِنْ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلا نُصَدِّقُ كَاهِنًا وَلا عَرَّافًا وَلا مَنْ يَدَّعِي شَيْئًا يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الأُمَّةِ.

الشَّرْحُ: الْكَاهِنُ هُوَ الَّذِي يَتَعَاطَى الإِخْبَارَ عَمَّا يَحْدُثُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ اعْتِمَادًا عَلَى صَاحِبٍ لَهُ مِنَ الْجِنِّ أَوِ اعْتِمَادًا عَلَى النَّجْمِ أَوْ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ وَأَسْبَابٍ اصْطَلَحُوا عَلَيْهَا، أَمَّا الْعَرَّافُ فَهُوَ الَّذِي يَتَحَدَّثُ عَنِ الأُمُورِ الْخَفِيَّةِ مِمَّا حَصَلَ كَالسَّرِقَةِ وَالضَّائِعَاتِ فَلا يَجُوزُ تَصْدِيقُ هَذَا وَلا هَذَا. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «وَإِجْمَاعَ الأُمَّةِ» هُوَ اتِّفَاقُ الْمُجْتَهِدِينَ، فَمَنْ خَالَفَ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُجْتَهِدُونَ فَقَوْلُهُ مَرْدُودٌ، أَمَّا اتِّفَاقُ مَشَايِخِ أَهْلِ بَلَدٍ أَوْ بَلَدَيْنِ أَوْ ثَلاثَةٍ عَلَى أَمْرٍ شَرْعِيٍّ فَلا يُسَمَّى إِجْمَاعًا.

وَالدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيْمِ إِتْيَانِ الْعَرَّافِ وَالْكَاهِنِ أَحَادِيثُ مِنْهَا حَدِيثُ مُسْلِمٍ: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَىْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً»، وَحَدِيثُ الْحَاكِمِ فِي الْمُسْتَدْرَكِ: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» أَيْ إِنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَطَّلِعُ عَلَى الْغَيْبِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ يُوَافِقُ الْوَاقِعَ وَقَدْ لا يُوَافِقُ الْوَاقِعَ فَإِنَّهُ لا يَكْفُرُ بَلْ يَكُونُ عَاصِيًا لِسُؤَالِهِ إِيَّاهُمْ، وَمِمَّنْ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَنْ يَعْتَمِدُ فِي إِخْبَارِهِ عَلَى الضَّرْبِ بِالْمِنْدَلِ وَالنَّظَرِ فِي فِنْجَانِ قَهْوَةِ الْبُنِّ، وَالَّذِي يَعْتَمِدُ عَلَى كِتَابِ قُرْعَةِ الأَنْبِيَاءِ، وَكِتَابِ قُرْعَةِ الطُّيُورِ، وَكِتَابِ أَبِي مَعْشَرٍ الْفَلَكِيِّ الَّذِي يَدَّعِي أَنَّ الْبَشَرَ كُلَّهُمْ أَحْوَالُهُمْ مُرْتَبِطَةٌ بِالْبُرُوجِ الاِثْنَيْ عَشَرَ وَأَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يَرْجِعُ أَمْرُهُ إِلَى أَحَدِ هَذِهِ الأَبْرَاجِ، وَكَذَلِكَ الَّذِينَ يَعْتَمِدُونَ عَلَى الرَّمْلِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَالضَّرْبِ بِالْحَصَى أَوِ الْحُبُوبِ لِذَلِكَ، وَمِنَ الْكُهَّانِ مَنْ يُسَمِّيهِمْ بَعْضُ النَّاسِ الرُّوحَانِيِّينَ يَقُولُونَ: فُلانٌ رُوحَانِيٌّ، يَعْتَمِدُونَ عَلَى كَلامِهِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ لَهُ اتِّصَالاً بِالْمَلائِكَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُعْتَمِدٌ عَلَى فُسَّاقِ الْجِنِّ مِنْ كُفَّارِهِمْ وَغَيْرِهِمْ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَنَرَى الْجَمَاعَةَ حَقًّا وَصَوَابًا وَالْفُرْقَةَ زَيْغًا وَعَذَابًا.

الشَّرْحُ: مُرَادُهُ بِالْجَمَاعَةِ إِجْمَاعُ أَهْلِ الْحَقِّ فِي مَسْئَلَةٍ دِينِيَّةٍ فِي الاِعْتِقَادِ أَوِ الْفُرُوعِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِالْجَمَاعَةِ طَاعَةَ الإِمَامِ الَّذِي بَايَعَهُ الْمُسْلِمُونَ، لأِنَّ الْخُرُوجَ عَلَى الإِمَامِ الَّذِي صَحَّتْ بَيْعَتُهُ مِنَ الْكَبَائِرِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ لا حُجَّةَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، وَيَنْطَبِقُ ذَلِكَ عَلَى الَّذِينَ خَرَجُوا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَاتَلُوهُ، وَلا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمُ اجْتَهَدُوا فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مَبْنِيًّا عَلَى اجْتِهَادٍ شَرْعِيٍّ بِدَلِيلِ قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «إِنَّ بَنِي أُمَيَّةَ يُقَاتِلُونَنِي يَزْعُمُونَ أَنَّنِي قَتَلْتُ عُثْمَانَ وَكَذَبُوا إِنَّمَا يُرِيدُونَ الْمُلْكَ» رَوَاهُ الْحَافِظُ مُسَدَّدُ بنُ مُسَرْهَدٍ فِي مُسْنَدِهِ، وَكَذَلِكَ قَالَ عَمَّارُ بنُ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِيمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَهَذَانِ أَدْرَى بِحَالِ مُعَاوِيَةَ مِمَّنْ قَالَ: إِنَّهُ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ، وَقَدْ نَقَلَ الْفَقِيهُ الْمُتَكَلِّمُ ابْنُ فُورَك فِي كِتَابِ مَقَالاتِ الأَشْعَرِيِّ كَلامَ الإِمَامِ أَبِي الْحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ فِي أَمْرِ الْمُخَالِفِينَ لِعَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ مَا نَصُّهُ: «وَكَانَ – أَيِ الأَشْعَرِيُّ – يَقُولُ فِي أَمْرِ الْخَارِجِينَ عَلَيْهِ وَالْمُنْكِرِينَ لإِمَامَتِهِ إِنَّهُمْ كُلَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْخَطَأِ فِيمَا فَعَلُوا وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا مَا فَعَلُوا مِنْ إِنْكَارِ إِمَامَتِهِ وَالْخُرُوجِ عَلَيْهِ، وَكَانَ يَقُولُ فِي أَمْرِ عَائِشَةَ إِنَّهَا إِنَّمَا قَصَدَتِ الْخُرُوجَ طَلَبًا لِلإِصْلاحِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ بِهَا لِلتَّوَسُّطِ فِي أَمْرِهِمَا، فَأَمَّا طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ فَإِنَّهُمَا خَرَجَا عَلَيْهِ وَكَانَا فِي ذَلِكَ مُتَأَوِّلَيْنِ مُجْتَهِدَيْنِ يَرَيَانِ ذَلِكَ صَوَابًا بِنَوْعٍ مِنَ الاِجْتِهَادِ، وَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُمَا خَطَأً وَأَنَّهُمَا رَجِعَا عَنْ ذَلِكَ وَنَدِمَا وَأَظْهَرَا التَّوْبَةَ وَمَاتَا تَائِبَيْنِ مِمَّا عَمِلا، وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ فِي حَرْبِ مُعَاوِيَةَ إِنَّهُ كَانَ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُ وَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ خَطَأً وَبَاطِلاً وَمُنْكَرًا وَبَغْيًا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ خُرُوجٌ عَنْ إِمَامٍ عَادِلٍ، فَأَمَّا خَطَأُ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ فَكَانَ يَقُولُ إِنَّهُ وُقِعَ مَغْفُورًا لِلْخَبَرِ الثَّابِتِ عَنِ النَّبِيِّ أَنَّهُ حَكَمَ لَهُمَا بِالْجَنَّةِ فِيمَا رُوِيَ فِي خَبَرِ بِشَارَةِ عَشَرَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ بِالْجَنَّةِ فَذَكَرَ فِيهِمْ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ، وَأَمَّا خَطَأُ مَنْ لَمْ يُبَشِّرْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ فِي أَمْرِهِ فَإِنَّهُ مُجَوَّزٌ غُفْرَانُهُ وَالْعَفْوُ عَنْهُ» اهـ.

فَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ مِنْ إِمَامِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَبِي الْحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ بِأَنَّ كُلَّ مُقَاتِلِيهِ عَصَوْا وَأَنَّ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ تَابَا مِنْ ذَلِكَ جَزْمًا وَأَنَّ الآخِرِينَ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ يَجُوزُ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ. فَبَعْدَ هَذَا لا يَسُوغُ لأِشْعَرِيٍّ أَنْ يُخَالِفَ كَلامَ الإِمَامِ فَيَقُولَ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ وَجَيْشَهُ غَيْرُ ءَاثِمِينَ مَعَ الاِعْتِرَافِ بِأَنَّهُمْ بُغَاةٌ، وَأَمَّا مَنْ يَقُولُ إِنَّهُمْ مَأْجُورُونَ فَأَبْعَدُ مِنَ الْحَقِّ.

وَعَنَى الْمُؤَلِّفُ بِالْفُرْقَةِ مُخَالَفَةَ الإِجْمَاعِ، وَالزَّيْغُ هُوَ الْمَيْلُ، وَقَوْلُهُ: «وَعَذَابًا» أَيْ أَنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الْجَمَاعَةِ سَبَبُ الْعَذَابِ أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَدِينُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ وَاحِدٌ وَهُوَ دِينُ الإِسْلامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان/19] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾ [سُورَةَ الْمَائِدَة/3] وَهُوَ بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالتَّقْصِيرِ وَبَيْنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ.

الشَّرْحُ: أَيْ أَنَّ الْمَلائِكَةَ يَدِينُونَ بِالإِسْلامِ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ مِنْ إِنْسٍ وَجِنٍّ يَدِينُونَ بِالإِسْلامِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان/19] أَيْ أَنَّ الدِّينَ الصَّحِيحَ الْمَقْبُولَ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ الإِسْلامُ وَمَا سِوَاهُ مِنَ الأَدْيَانِ بَاطِلٌ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ الْبَشَرِ كَانَ عَلَى الإِسْلامِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ دِينٌ غَيْرُهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/213]، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «كُلُّهُمْ عَلَى الإِسْلامِ» رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ وَغَيْرُهُ.

أَمَّا الْغُلُوُّ فَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ الْمَجْعُولِ لِلْعِبَادِ فِي الدِّينِ، أَمَّا التَّقْصِيرُ فَهُوَ تَرْكُ الْوُصُولِ إِلَى حَدِّ الْمَأْمُورِ، وَأَمَّا التَّشْبِيهُ فَهُوَ تَشْبِيهُ اللَّهِ بِخَلْقِهِ، وَأَمَّا التَّعْطِيلُ فَهُوَ نَفْيُ وُجُودِ اللَّهِ أَوْ صِفَاتِهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَذْكُورَاتِ مَذْمُومٌ وَبَاطِلٌ لِخُرُوجِهِ عَنِ الْعَدْلِ وَالْحَقِّ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَبَيْنَ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ.

الشَّرْحُ: يَعْنِي أَنَّ دِينَ اللَّهِ بَيْنَ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ، وَالْجَبْرُ هُوَ اعْتِقَادُ أَنَّ الإِنْسَانَ لا فِعْلَ لَهُ، وَأَمَّا الْقَدَرُ فَهُوَ اعْتِقَادُ أَنَّ الإِنْسَانَ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ الاِخْتِيَارِيَّةَ بِقُدْرَةٍ خَلَقَهَا اللَّهُ فِيهِ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَبَيْنَ الأَمْنِ وَالإِيَاسِ.

الشَّرْحُ: أَفَادَ الْمُؤَلِّفُ بِهَذَا أَنَّ الْمُشَبِّهَةَ كُفَّارٌ لَيْسُوا مُسْلِمِينَ، وَأَنَّ الْمُعَطِّلَةَ كُفَّارٌ، وَأَنَّ الْجَبْرِيَّةَ كُفَّارٌ، وَأَنَّ الْقَدَرِيَّةَ كُفَّارٌ وَهُمُ الْمُعْتَزِلَةُ، وَإِنَّمَا أَعَادَهُ لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ كَفَرُوا بِسَبَبِ الأَمْرَيْنِ أَمْرِ التَّعْطِيلِ أَيْ تَعْطِيلِ اللَّهِ عَنِ الصِّفَاتِ وَبِسَبَبِ الْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ يَخْلُقُونَ أَفْعَالَهُمْ .

وَمَعْنَى قَوْلِ الْمُؤَلِّفِ: «وَبَيْنَ الأَمْنِ وَالإِيَاسِ»: أَنَّ الإِسْلامَ الَّذِي هُوَ دِينُ اللَّهِ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، فَهُوَ حَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ إِذْ فِي الأَمْنِ عَمَّا أَوْعَدَ ظَنُّ الْعَجْزِ عَنِ الْعِقَابِ، وَفِي الإِيَاسِ مِنْ رَحْمَتِهِ ظَنُّ الْعَجْزِ عَنِ الْعَفْوِ، وَهُمَا يَنْقُلانِ عَنِ الْمِلَّةِ، أَيْ أَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ، هَذَا ظَاهِرٌ عَلَى تَفْسِيرِ الْمَاتُرِيدِيَّةِ لِلأَمْنِ وَالْيَأْسِ، وَقَدِ اشْتُهِرَ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ عَدُّهُمَا مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ غَيْرِ الْمُثْبِتَةِ لِلرِّدَّةِ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَهَذَا دِينُنَا وَاعْتِقَادُنَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَنَحْنُ بُرَءَاءُ إِلَى اللَّهِ مِنْ كُلِّ مَنْ خَالَفَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَبَيَّنَّاهُ.

الشَّرْحُ: أَيْ أَنَّنَا بُرَءَاءُ مِنْ هَؤُلاءِ كُلِّهِمْ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى الإِيْمَانِ وَيَخْتِمَ لَنَا بِهِ وَيعْصِمَنَا مِنَ الأَهْوَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالآرَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ وَالْمَذَاهِبِ الرَّدِيَّةِ مِثْلِ الْمُشَبِّهَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الَّذِينَ خَالَفُوا السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ وَحَالَفُوا الضَّلالَةَ.

الشَّرْحُ: إِنَّمَا سَأَلَ الْمُؤَلِّفُ الثَّبَاتَ عَلَى الدِّينِ لأِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَهَمِّ أُمُورِ الدِّينِ، قَالَ تَعَالَى خَبَرًا عَنْ يُوسُفَ: ﴿رَبِّ قَدْ ءَاتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ [سُورَةَ يُوسُف/101]. وَالأَهْوَاءُ جَمْعُ هَوًى وَهُوَ الأَمْرُ الْبَاطِلُ الَّذِي تَمِيلُ إِلَيْهِ النُّفُوسُ، وَقَدْ يُطْلَقُ الْهَوَى بِمَعْنَى الْحُبِّ، لَكِنَّهُ لَيْسَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودَ هُنَا.

وَقَدْ ذَكَرَ الْمُؤَلِّفُ الْمُشَبِّهَةَ وَالْجَهْمِيَّةَ وَالْقَدَرِيَّةَ تَأْكِيدًا لِمَا ذَكَرَهُ قَبْلَ هَذَا لأِنَّ التَّحْذِيرَ مِنْ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مِمَّا افْتَرَضَ اللَّهُ. ثُمَّ الْمُشَبِّهَةُ قَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهَا، أَمَّا الْجَهْمِيَّةُ فَهِيَ طَائِفَةٌ مَنْسُوبَةٌ إِلَى جَهْمِ بنِ صَفْوَانَ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ هَذَا الْهَوَاءُ مَعَ كُلِّ شَىْءٍ وَعَلَى كُلِّ شَىْءٍ، وَهُوَ يَقُولُ بِفَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَتَبِعَهُ ابْنُ تَيْمِيَةَ الْحَرَّانِيُّ فِي الْقَوْلِ بِفَنَاءِ النَّارِ، وَمَعْنَى قَوْلِ الْمُؤَلِّفِ: «وَحَالَفُوا الضَّلالَةَ» أَيْ لَزِمُوا.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَنَحْنُ مِنْهُمْ بَرَاءٌ.

الشَّرْحُ: هَذَا زِيَادَةُ تَأْكِيدٍ لِمَا تَقَدَّمَ.


قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهُمْ عِنْدَنَا ضُلاَّلٌ وَأَرْدِيَاءٌ وَبِاللَّهِ الْعِصْمَةُ وَالتَّوْفِيقُ.

الشَّرْحُ: وَهَذَا أَيْضًا فِيهِ زِيَادَةُ تَأْكِيدٍ لِمَزِيدِ التَّنْفِيرِ مِنْ هَؤُلاءِ كُلِّهِمْ.

تَمَّ هَذَا الشَّرْحُ بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَرَمِهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَاتَمِ الأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَعَلَى صَحَابَتِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ الطَّاهِرِينَ الطَّيِّبِينَ.


TohaKepriben

Previous Post Next Post