كتاب الرسائل الإيمانية في الرد على القدرية



الرسائل الإيمانية في الرد على القدرية

تحقيق ربيع شاتيلا

* رسالة الخليفة عمر بن عبد العزيز
* رسالة الحسن بن محمد بن الحنفية
* رسالة الأوزاعي في الردّ على غيلان الدمشقي

ملتزم الطبع
شركة دار المشاريع للطباعة والنشر والتوزيع ش.م.م
الطبعة الأولى
1427هـ/2006ر

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين، أما بعد:

فإن الإيمان بالقضاء والقدر وأن الله خالق لأفعال العباد من أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، فلا يجري في ملك الله تعالى خير أو شر، نفع أو ضر، حياة أو موت، غنى أو فقر، حلو أو مر، سر أو جهر، نصح أو مكر، حركة أو سكون، قيام أو قعود، إيمان أو كفر، إلا بعلمه وإرادته وخلقه وقدرته كما قال الله تعالى: {قُلِ اللهُ خالقُ كلِّ شئٍ} [سورة الرعد/16]، وقال: {ولوْ شاءَ اللهُ لجعلهم أمةً واحدةً ولكن يُدخلُ من يشاءُ في رحمتِهِ والظالمونَ ما لهم من وليٍّ ولا نصير} [سورة الشورى/8].

فلله الأمر والتدبير والتيسير والتعسير، قال تعالى: {ومَن كفرَ فأمَتِّعُهُ قليلاً ثمَّ أضطَرُّهُ إلى عذابِ النارِ وبئسَ المصير} [سورة البقرة/126].

وهو المنفرد بخلق جميع الأجسام والأعيان والأعراض كلها وخالق أفعال خلقه كما قال: {وأسِرُّوا قولكم أوِ اجهروا بهِ إنهُ عليمٌ بذاتِ الصدور* ألا يعلمُ مَنْ خلقَ وهوَ اللطيفُ الخبيرُ} [سورة الملك/13-14].

وعلى هذه العقيدة كان الصحابة رضي الله عنهم حتى ظهر في أواخر عهدهم أناس سمّوا بالقدرية وبالمعتزلة شذوا عن هذا المعتقد فنفوا القدر وزعموا أن الله لم يقدّر الشر وأن المشيئة لهم دون خالقهم وأنهم خالقون لأفعالهم، فأسرع الصحابة والتابعون في الرد عليهم والتبرئ منهم، فمن التابعين الذي ردوا عليهم الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز بالمناظرة تارة وتأليف الرسائل تارة أخرى والحسن بن محمد بن الحنفية ومن أتباع التابعين الإمام الأوزاعي وذلك حرصًا منهم وحفاظًا على عقيدة أهل الحق من أن يدخل إليها ما ليس منها فيلتبس الحق بالباطل فيظن بعض من لا علم عنده أن الباطل حقّ والحق باطل، فجزاهم الله عن المسلمين خيرًا.

فأحببنا أن ننشر ردّ الأئمة على القدرية لتعم الفائدة سائلين المولى عزّ وجل التوفيق والسداد، قال الله تعالى: {اللهُ نزَّلَ أحسنَ الحديثِ كِتابًا مُتشابهًا مَّثَانِيَ تقشعرُّ منهُ جلودُ الذينَ يخشونَ ربهم ثمَّ تلينُ جلودهم وقلوبهم إلى ذكرِ الله ذلكَ هُدَى اللهِ يهدي بهِ من يشاءُ ومَن يُضللِ اللهُ فما لهُ من هادٍ} [سورة الزمر/23].


الإيمان بالقضاء والقدر



- معنى القدر لغة:

قال ابن منظور في "لسان العرب" [1] نقلاً عن صاحب "التهذيب" عن الليث: "القدَر القضاءُ المُوَفَق، يقال: قدَّر الإله كذا تقديرًا، وإذا وافق الشئُ الشئَ قلت: جاءه قدره، ابن سيده: القدْر والقدَر القضاء والحكم وهو ما يقدّره الله عز وجل من القضاء ويحكم به من الأمور.

والقَدَر كالقدْر وجمعهما جميعًا أقدار، وقال اللحياني: القدَر الاسم، والقدْر المصدر.

وقدَر الله عليه ذلك يقدُرُه ويَقْدِرُه قدْرًا وقَدَرًا وقدَّره عليه وله" انتهى باختصار.

وفي "القاموس" [2] للفيروزابادي: "القدر محرَّكة: القضاء والحكم، ومبلغُ الشئ ويُضم كالمِقدار والطاقة كالقَدْر فيهما، جمع: أقدار، والقدرية جاحدو القدر، وقَدَر الله تعالى ذلك عليه يقْدُرُه ويَقْدِرُه قدْرًا وقدَرًا وقدَّره عليه وله".

- معنى القضاء لغة:

قال ابن منظور في "لسان العرب" [3]: "القضاء: الحُكم. وقد تكرر في الحديث ذكر القضاء وأصله القطع والفصل، يقال: قَضَى يَقضي قضاء فهو قاضٍ إذا حَكَم وفَصَل، وقضاءُ الشئ إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه فيكون بمعنى الخلق. وقال الزُّهري: القضاء في اللغة على وجوه مرجعها إلى انقطاع الشئ وقيامه، وكل ما أحكِمَ عمله أو أُتِمَّ أو خُتِمَ أو أُمْضِيَ فقد قُضِيَ. قال: وقد جاءت هذه الوجوه كلها في الحديث، ومنه القضاء المقرون بالقَدَر والمراد بالقَدَر التقدير وبالقضاء الخلق كقوله تعالى: {فَقَضاهُنَّ سبعَ سمواتٍ} [سورة فصلت/12] أي خلقهن، فالقضاء والقدر أمران متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر" اهـ.

وفي "القاموس" [4]: "القضاءُ ويُقْصر: الحُكم، قضى عليه يَقضي قضيًا وقضاءً وقضيَّةً وهي الاسم أيضًا، والصُّنع والحتمُ والبيان" اهـ.

- معنى القضاء والقدر شرعًا:

قال العلامة الهرري [5]: "القدر هو تدبير الأشياء على وجه مطابق لعلم الله الأزلي ومشيئته الأزلية فيوجدها في الوقت الذي علم أنها تكون فيه، أي إيجاد الله الأشياء على حسب ما سبق في علمه الأزلي وإبرازُها في الوجود على حسب مشيئته الأزلية يسمّى قدَرًا، ويقال بعبارة أخرى: القدَر هو جعل كل شئ على ما هو عليه.

وليُعلم أن القدر يُطلق ويراد به صفة الله أي التدبير ويُطلق ويراد به المقدور أي المخلوق، وهذا هو المقصود بحديث جبريل "وبالقدر خيره وشرّه" لأن المقدور هو الذي يوصف بالخير والشر" اهـ.

وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" ما نصه [6]: "القدر مصدر تقول قدرت الشئ بتخفيف الدال وفتحها أقدره بالكسر والفتح قدرًا وقدرا إذا أحطت بمقداره والمراد أن الله تعالى علم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها ثم أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد، فكل حادث صادر عن علمه وقدرته وإرادته، هذا هو المعلوم من الدين بالبراهين القطعية وعليه كان السلف من الصحابة وخيار التابعين" اهـ.

وقال الخطابي [7]: "قد يحسب كثير من الناس أن معنى القدر من الله والقضاء منه الإجبار والقهر للعبد على ما قضاه وقدّره، وليس الأمر في ذلك على ما يتوهمونه وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله سبحانه بما يكون من أفعال العباد وأكسابهم وصدورها عن تقدير منه وخلقٍ لها خيرها وشرّها" اهـ.

ثم قال: "والقضاء في هذا معناه الخلق كقوله عز وجل: {فقضاهُنَّ سبعَ سموات} [سورة فصلت/12] أي خلقهن، وإذا كان الأمر كذلك فقد بقي عليهم من وراء علم الله فيهم أفعالهم وأكسابهم ومباشرتهم تلك الأمور وملابستهم إياها عن قصد وتعمد وتقديم إرادة واختيار، فالحجة إنما تلزمهم بها [8] واللائمة تلحقهم عليها [9].

وجماع القول في هذا الباب أنهما أمران لا ينفك أحدهما عن الآخر، لأن أحدهما بمنزلة الأساس والآخر بمنزلة البناء فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه، وإنما كان موضع الحجة لآدم على موسى صلوات الله عليهما أن الله سبحانه إذ كان قد علم من ءادم أنه يتناول الشجرة ويأكل منها فكيف يمكنه أن يرد علم الله فيه وأن يبطله بعد ذلك" اهـ.

- معنى الإرادة والمشيئة:

قال الفقيه الشيخ عبد الله الهرري في كتابه "الدليل القويم" ما نصه [10]: "اعلم أن الإرادة وهي المشيئة واجبة لله تعالى، وهي صفة أزلية أبدية يخصص الله بها الجائز العقلي بالوجود بدل العدم وبصفة دون صفة وبوقت دون وقت. وبرهان وجوب الإرادة لله أنه لو لم يكن مريدًا لم يوجد شئ من هذا العالم، لأن العالم ممكن الوجود، فوجوده ليس واجبًا عقلاً، والعالم موجود، فعلمنا أنه ما وُجد إلا بتخصيص لوجوده وترجيح له على عدمه، فثبت أن الله تعالى مريد شاءٍ، ولا يجوز عقلاً عدم شمول إرادة الله لبعض الممكنات. ثم الإرادة تابعة للعلم، فما علم الله وقوعه فقد أراد وقوعه، وكل ما علم الله عدم وقوعه لم يرد وقوعه أي لم يشأ.

ثم الإرادة بمعنى المشيئة عند أهل الحق شاملة لأعمال العباد جميعها الخير منها والشر، فكل ما دخل في الوجود من أعمال الشر من كفر أو معاصٍ فبمشيئة الله وقع وحصل، وهذا كمالٌ في حق الله تعالى، لأن شمول القدرة والمشيئة لائق بجلال الله، فلو كان يقع في ملكه ما لا يشاء لكان ذلك دليل العجز والعجز مستحيل على الله، وليست المشيئة تابعة للأمر بدليل أن الله تعالى أمرَ إبراهيم بذلح ولده إسماعيل ولكنه لم يشأ ذبحه" اهـ.

الهوامش:



[1] لسان العرب: مادة ق د ر [5/74].
[2] القاموس: مادة ق د ر [ص/591].
[3] لسان العرب: مادة ق ض ى [15/186].
[4] القاموس: مادة ق ض ى [ص/1708].
[5] انظر كتابه "الشرح القويم" [ص/227-228]، ط4.
[6] فتح الباري [1/118].
[7] معالم السنن [4/297].
[8] أي بأفعالهم.
[9] على اختيارهم.
[10] الدليل القويم [ص/57-58].


معتقد أهل الحق في مسئلة
القضاء والقدر وخلق الأفعال وغيرها
وبيان مخالفة المعتزلة



1- مذهب أهل الحق أن أعمال العبد كلها مخلوقة لله تعالى، فيجب الاعتقاد بأن العبد لا يخلق شيئًا من أعماله أي لا يحدثها من العدم بل يكسبها، فأفعاله مخلوقة لله بمشيئته وعلمه وتقديره، فلا يجري في المُلك والملكوت طرفةُ عين ولا فلتة خاطرٍ ولا لفتة ناظرٍ إلا بقضاء الله وقدره وقدرته وإرادته ومشيئته، لا فرق بين ما كان خيرًا أو شرًا نفعًا أو ضرًّا، إيمانًا أو كفرًا، فوزًا أو خسرانًا، غَواية أو رشدًا، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، لأن الممكنات العقلية بما فيها من الأجسام والأعمال لا توجد إلا بفعل الصانع الحكيم، ولا يصح عقلاً أن يكون وجود قسم منها بفعل الله ووجود قسم ءاخر بفعل غيره.

هذا مذهب أهل الحق الذي دلّت عليه نصوص الكتاب والسنة مع إجماع الأمة قبل ظهور البدعة.

والقراءن مشحون بالآيات الدالة على ما ذكرناه والتي منها قوله تعالى إخبارًا عن موسى عليه السلام: {إنْ هيَ إلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَن تشاءُ وتهدي مَن تشاء} [سورة الأعراف/155]، فهذه الآية فيها تصريح ظاهر بأن الله هو الذي يخلق الاهتداء في قلوب من شاء أن يهديهم، ويخلق الضلالة في قلوب من شاء أن يضلهم، والضمير في قوله: {تُضلُّ} وقوله: {تشاء} لا مرجع له إلا إلى الله ولا يحتمل إرجاعه إلى العبد، وقوله تعالى: {ونُقَلِّبُ أفْئِدَتَهُمْ وأبْصارهُم} [سورة الأنعام/110] فقد أخبر الله في هذه الآية بأن عمل العبد القلبي وعمله الذي يعمله بجوارحه من فعل الله تعالى، وقوله تعالى: {ولوْ شِئنا لأَتَيْنا كلَّ نفسٍ هُداها} [سورة السجدة/13]، وقوله تعالى: {ولا ينفَعُكُمْ نُصْحي إنْ أرَدْتُ أنْ أنْصَحَ لَكُمْ إن كانَ اللهُ يريدُ أن يُغْوِيكم} [سورة هود/34]، وقوله تعالى: {قُلْ إنَّ صلاتي ونُسُكي ومَحيايَ ومماتي للهِ ربِّ العالمينَ* لا شريكَ لهُ وبِذلكَ أُمِرْتُ وأناْ أوَّلُ المُسلمين} [سورة الأنعام/162-163]، أخبر الله عزَّ وجلّ بأن صلاة العبد ونسكه ومحياه ومماته مِلْكٌ له وخلق له لا يَشْركُه فيه غيره، فأعلمنا أنه لا فرق في ذلك بين الأفعال الاختيارية كالصلاة والنسك وبين ما يتصف به العبد مما ليس باختياره كالحياة الموت، فساق الله تعالى الأربعة مساقًا واحدًا للمبالغة في بيان أنه لا فرق من حيث استناد وجود كلّ من الأعمال الاختيارية والأعمال الاضطرارية إلى الله خلقًا وتكوينًا، وغيرها من الآيات كثير في هذا المعنى.

وأما الأحاديث فمنها قوله عليه الصلاة والسلام: "كل شئ بقدر حتى العجز والكيس" رواه مسلم [1]، والعجز: البلادة، والكيس الذكاء، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله صانع كل صانع وصنعته" رواه الحاكم [2] وصححه ووافقه الذهبي على تصحيحه والبيهقي [3]، ومنها أن رجلين من مُزينةَ أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشئ قُضيَ عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق أو فيما يُستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم؟ فقال: "لا بل شئ قُضيَ عليهم ومضى فيهم وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: {ونفسٍ وما سوَّاها* فألهَمَها فُجورَها وتقواها} [سورة الشمس/7-8]" رواه مسلم [4]، وغيرها من الأحاديث الدالة على أن كل ما يجري في ملك الله بمشيئته وقضائه وقدره.

وأما أقوال أهل السنة فمنها قول طاوس: أدركتُ ناسًا من أصحاب رسول الله يقولون كل شئ بقدر [5].

وقال الإمام علي رضي الله عنه: "إن أحدكم لن يخلص الإيمان إلى قلبه حتى يستيقن يقينًا غير ظن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه ويقر بالقدر كله"، وقال أيضًا: "ليس منا من لم يؤمن بالقدر خيره وشره" رواهما البيهقي في كتابه "القضاء والقدر" [6].

وقال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "لا يؤمن العبد حتى يؤمن بالقدر ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه ولأن أعضّ على جمرة حتى تطفأ أحب إليّ من أن أقول لأمر قضاه الله ليته لم يكن" رواه البيهقي [7] في كتابه "القضاء والقدر" وصحح إسناده. وعلى هذا إجماع الصحابة رضي الله عنهم ومن جاء بعدهم.

وثبت عن الإمام الشافعي أنه قال [8]:

ما شئتَ كان وإن لم أشأ *** وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن
خلقتَ العباد على ما علمتَ *** ففي العلم يجري الفتى والمُسنّ
على ذا مننتَ وهذا خذلتَ *** وهذا أعنتَ وذا لم تُعن
فمنهم شقيٌّ ومنهم سعيد *** ومنهم قبيحٌ ومنهم حسن

وقال الإمام أبو حنيفة في "الفقه الأكبر" [9]: "وجميع أفعال العباد من الحركة والسكون كسبهم على الحقيقة والله خالقها، وهي كلها بمشيئته وعلمه وقضائه وقدره" اهـ.

وقال الإمام أبو جعفر الطحاوي السلفي في رسالته المشهورة بالعقيدة الطحاوية: "خَلَقَ الخلقَ بعلمه وقدَّر لهم أقدارًا وضرب لهم ءاجالاً ولم يخف عليه شئ قبل أن يخلقهم وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم، وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته، وكل شئ يجري بتقديره ومشيئته، ومشيئتهُ تنفُذ لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان وما لم يشأ لم يكن. يهدي من يشاء ويعصم ويُعافي فضلاً، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلاً، وكلهم يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله وهو متعال عن الأضداد والأنداد لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ولا غالب لأمره، ءامنَّا بذلك كله وأيقنّا أن كلاًّ من عنده" اهـ.

وقال الإمام الشافعي: "القدرية إذا سلَّموا العلم خُصموا" [10] أي غُلبوا وانقطعوا في المناظرة.

قال الحافظ في "فتح الباري" ما نصه [11]: "القدرية مخصومون بما قال الشافعي: "إن سلّم القدري العلم خصم"، يعني يقال له: أيجوز أن يقع في الوجود خلاف ما تضمنه العلم؟ فإن منع وافق قول أهل السنة، وإن أجاز لزمه نسبة الجهل، تعالى الله عن ذلك" اهـ.

وذكر شيخنا العلامة عبد الله الهرري في كتابه "الدليل القويم" جملة وافرة من الأدلة من القرءان والحديث على أن العبد لا يخلق أفعاله، وذكر أيضًا أدلة من العقل فقال [12]: "لو كان العبد بخلقه لكان عالمًا به على وجه الإحاطة ضرورة أنه مختار والاختيار فرع العلم لكنه لا يحيط علمًا بفعله لِما يَجد كل عاقل عدم علمه حال قطعه لمسافة معينة بالأجزاء والأحيان والحركات التي بين المبدإ والمنتهى، وكذا حالة نُطقه بالحروف يجد كل عاقل من نفسه عدم العلمِ بالأعضاء التي هي ءالتها والمحالِّ التي فيها مواقعها وعدم العلم بهيئاتها وأوضاعها وكل ذلك ظاهر، هكذا قرره الماتريدي.

2- ومن معتقد أهل الحق أن الظلم مستحيل على الله تعالى، وخالفت المعتزلة فقالوا بخلاف قول أهل السنة فزعموا أن الله يصح منه الظلم لكن لا يظلم لكونه قبيحًا وتابع المعتزلة في هذا الانحراف ابن تيمية المبتدع المجسم وتبعه الوهابية المبتدعة نفاة التوسل.

ورد أهل السنة على المعتزلة وابن تيمية والوهابية بقول الله تعالى: {وأنَّ اللهَ ليسَ بظلَّامٍ للعبيد} [سورة ءال عمران/ 182]، وبقول الله تعالى: {وما ربُّكَ بظلَّامٍ للعبيدِ} [سورة فصلت/46]، وبقول الله عز وجل: {وما أناْ بظلَّامٍ للعبيد} [سورة ق/29].

واستدلوا أيضًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: "إني حرَّمت الظلم على نفسي" رواه مسلم [13]، فهذا الحديث دليل على أنّ وصف الله بالظلم لا يليق به تبارك وتعالى لأن الحديث معناه كما قال أهل العلم: تقدست عن الظلم وتعاليت.

وأما أقوال أهل السنة فكثيرة منها قول العلامة الهرري في كتابه "الدليل القويم" [14]: "ولا يُتَصَوَّرُ في فعلهِ تعالى ما هو منهي عنه إذ لا يُتصورُ له ناهٍ وليس له ءامرٌ ولأن العالم خلقه ومِلكه والمتصرف في ملكه الذي هو خلقه يستحيل وصفه بالظلم وأيضًا فلا يُتصورُ الظلم إلا ممن يُتصور في حقه الجهل لأنه وضع الشئ في غير موضعه. وأما من أحاط علمه بالأشياء ومواقعها فلا، والمخالف في هذه المسألة القدرية" اهـ.

3- ومن معتقد أهل الحق إثبات صفات الله تعالى، وخالفت المعتزلة فقالت بنفي صفاته عزّ وجل من علم وقدرة وحياة وبقاء وسمع وبصر وكلام، ومنهم من يقول: الله عالم بذاته لا بعلم، قادر بذاته لا بقدرة، حي بذاته لا بحياة، وهكذا في سائر الصفات، وبدعة المعتزلة هذه من البدع الكفرية لأنه يلزم منها نفي صفات الله، وهذا من اللازم البيّن.

4- ومن معتقد أهل الحق من الصحابة والتابعين وجميع أهل السنة أن المرتكب للمعصية الكبيرة هو من الفساق، وبذلك جاء في القرءان والحديث ولم يرد أنه في منزلة بين المنزلتين لا هو مؤمن ولا هو كافر، وبيان ذلك في قوله عز وجل: {والذينَ يَرْمونَ المحَصَّناتِ ثمَّ لمْ يأتوا بأربعةِ شُهداءَ فاجْلِدوهُمْ ثمانينَ جلدةً ولا تقبلوا لهُمْ شهادةً أبدًا وأولئكَ هُمُ الفاسقون* إلا الذينَ تابوا من بعدِ ذلكَ} [سورة النور/4-5]، وقال تعالى: {هوَ الذي خلقَكُمْ فمِنكُم كافرٌ ومنكم مؤمنٌ} [سورة التغابن/2]، وقال سبحانه وتعالى: {وإن طائفتانِ منَ المؤمنينَ اقتَتلوا فأصلِحُوا بينهما} [سورة الحجرات/9] فسماهم الله "المؤمنين"، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوق" رواه البخاري [15] وغيره، وخالفت المعتزلة فزعمت أن الفاسق لا هو مؤمن ولا هو كافر وأنه في منزلة بين الكفر والإيمان.

5- واتفق أهل السنة على أن من مات فاسقًا من عصاة المسلمين قبل التوبة لا بد أن يدخل الجنة إن عفا الله عنه أو بعد عذاب إن لم يعف الله عنه بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان" رواه البخاري [16] وغيره، وخالفت المعتزلة فزعموا أن من خرج من الدنيا قبل أن يتوب يكون خالدًا مخلدًا في النار مع جملة الكفار، وقال الحافظ في "فتح الباري" [17] عند شرحه لهذا الحديث: "وفيه الرد على المعتزلة في أن المعاصي موجبة للخلود" اهـ.

6- واتفق أهل السنة أيضًا على أن الله عز وجل يُرى في الآخرة بلا كيف ولا مكان ولا جهة مستدلين بقول الله تعالى: {وجوهٌ يومئذٍٍ ناضرةٌ* إلى ربِّها ناظرةٌ} [سورة القيامة/22-23]، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنكم سترون ربكم" أي في الآخرة، رواه البخاري [18]، ومسلم [19]، وخالفت المعتزلة هذا المعتقد وزعموا أن الله لا يرى في الآخرة.

7- واتفقوا أيضًا على أن الله موصوف بالكلام وأن كلامه ليس بحرف ولا صوت بدليل قوله عز وجل: {وكلَّمَ اللهُ موسى تكليمًا} [سورة النساء/164]، وزعم المعتزلة أن الله لا يوصف بالكلام وأن كلام الله لموسى خلقه الكلام في الشجرة فسمع موسى الكلام من الشجرة، وهذا ظاهر الفساد لمصادمته القرءان وإجماع الأمة.

8- واتفقوا على أن الشفاعة حق لأهل الكبائر من المسلمين ثابتة بنص القرءان والحديث والإجماع، قال الله تبارك وتعالى: {مَن ذا الذي يشفعُ عندهُ إلا بإذنهِ} [سورة البقرة/255]، وقال تعالى: {ولا يشفعونَ إلا لِمَنِ ارتضى} [سورة الأنبياء/28]، وأما من الحديث فقوله صلى الله عليه وسلم: "لكل نبي دعوة مستجابة فتعجَّلَ كل نبي دعوته، وإني اختبأتُ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئًا" رواه مسلم [20]، وبقوله صلى الله عليه وسلم: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" رواه أبو داود [21] والترمذي [22] وغيرهما.



الهوامش:



[1] أخرجه مسلم في صحيحه كتاب القدر: باب كل شئ بقدر.
[2] المستدر للحاكم [1/31 و32].
[3] انظر "الأسماء والصفات" [ص/260 و388] للبيهقي.
[4] أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب القدر: باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه [2650].
[5] رواه مسلم في صحيحه: كتاب القدر: باب كل شئ بقدر [2655].
[6] انظر "المنتقى من كتاب القضاء والقدر" [ص/236].
[7] انظر "المنتقى من كتاب القضاء والقدر" [ص/134].
[8] انظر "مناقب الشافعي" [1/412-413] للبيهقي.
[9] انظر "شرح الفقه الأكبر" [ص/89] لعلي القاري.
[10] انظر "طبقات الشافعية الكبرى" [3/357] لتاج الدين السبكي.
[11] فتح الباري [1/119].
[12] انظر "الدليل القويم [ص/86].
[13] أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب البر والصلة والآداب: باب تحريم الظلم [2577].
[14] الدليل القويم [ص/94].
[15] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الإيمان: باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر [48].
[16] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الإيمان: باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال [22].
[17] فتح الباري [1/73].
[18] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب مواقيت الصلاة: باب فضل صلاة العصر [554].
[19] أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب المساجد ومواضع الصلاة: باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما [633].
[20] أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الإيمان: باب اختباء النبي صلى الله عليه وسلم دعوة الشفاعة لأمته [199].
[21] أخرجه أبو داود في سننه: كتاب السنة: باب في الشفاعة [4739].
[22] أخرجه الترمذي في سننه: كتاب صفة القيامة والرقائق والورع: بعد باب ما جاء في الشفاعة [2435].


سبب تسمية المخالفين في القدر
القدرية والمعتزلة [1]



قال السمعاني: "القدري: بفتح القاف والدال المهملة وفي ءاخرها الراء: هذه النسبة إلى الطائفة المشهورة بالقدرية وهم جماعة يزعمون أن الله لا يُقدِّر الشر، ويقولون: إن الخير من الله والشر من إبليس، ويزعمون أن الله قد يريد الشئ فلا يكون ويكره كَوْن الشئ فيكون، وأنه قد يريد من العبد شيئًا ويريد الشيطان من ذلك العبد شيئًا خلاف مراد الله عز وجل فيتمُّ مُرادُ الشيطان ولا يتم مراد الله فيه، تعالى الله عما يقول الجاحدون عُلوًّا كبيرًا، ويزعمون أن الله خلق الخلقَ لإبقاء الحكمة على نفسه وأنه لو لم يخلق الخلقَ لم يكن حكيمًا" اهـ.

قلنا: ولا شك في تكفير القدري القائل بأن الله لا يقدر الشر وأن مراد الشيطان يتم ولا يتم ما شاءه الله إذ في ذلك جعل الله مقهورًا مغلوبًا، تعالى الله عن قولهم وتنزّه عما وصفوه به.

حدث في أيام الحسن البصري [2] خلاف واصل بن عطاء الغزّال في المنزلة بين المنزلتين، فقال أهل السنة إن مرتكبي الكبائر من المسلمين هم مؤمنون لم يخرجوا من الدين بارتكابهم ما يقضي تفسيقهم وخالفت الخوارج جماعة المسلمين فقالوا بتكفير مرتكب الكبيرة وخالف واصل قول الفريقين فزعم أن الفاسق من هذه الأمة لا مؤمن ولا كافر وأنّ فسقه بين المنزلتين الإيمان والكفر، فطرده الحسن البصري من مجلسه واعتزل عند سارية من سواري مسجد البصرة، وانضمّ إليه عمرو بن عُبيد بن باب في بدعته، فقيل لهما ولأتباعهما "معتزلة" لاعتزالهم قول الأمة في دعواهم أن الفاسق من أمة الإسلام لا مؤمن ولا كافر بل هو في المنزلة بين المنزلتين.

وقال ابن منظور في "لسان العرب" ما نصه [3]: "والقدرية: قومٌ يجحدون القَدَر، مُولَّدة. التهذيب: والقدرية قوم ينسبون إلى التكذيب بما قدَّر الله من الأشياء. وقال بعض متكلميهم –يعني القدرية-: لا يلزمنا هذا اللقب لأنا ننفي القَدر عن الله عز وجل ومن أثبته فهو أولى به، قال: وهذا تمويه منهم لأنهم يثبتون القدر لأنفسهم ولذلك سمّوا. وقول أهل السنة: إنَّ علم الله سبقَ في البشر فعلم كُفرَ من كفرَ منهم كما عَلِمَ إيمان مَن ءامن، فأثبت علمه السابق في الخلق وكتبه، وكلٌّ ميسَّر لما خلق له وكتب له" اهـ.

- أول من قال بالقدر وابتداء أمر القدرية:

روى الإمام مسلم في صحيحه [4] عن يحيى بن يعمر قال: "كان أول من قال في القدر بالبصرة معبدٌ الجُهني، فانطلقتُ أنا وحُمَيدُ بن عبد الرحمن الحميري حاجَّينِ أو مُعتمرَين، فقلنا: لو لقينا أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عمّا يقول هؤلاء في القدر، فوفَّقَ [5] لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلاً المسجد، فاكتنفته [6] أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننتُ أنَّ صاحبي سَيَكِلُ الكلام إليَّ، فقلتُ: أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قِبَلنا ناسٌ يقرؤونَ القرءان ويتقفَّرون [7] العلم، وذكر من شأنهم، وأنهم يزعمون أن لا قَدَر وأن الأمر أُنُف، قال: فإذا لقيتَ أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم بُرَداءُ مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر: لو أنَّ لأحدهم مثلَ أُحُدٍ ذهبًا فأنفقهُ ما قَبِلَ الله منه حتى يؤمن بالقدر".

ومعنى قوله: "أول من قال في القدر" أي أول من قال بنفي القدر فابتدع وخالف أهل الحق فزعم أن الأمر أُنُف أي مستأنف أي لم يسبق به قدر ولا علم من الله تعالى وإنما يعلمه الله بعد وقوعه، فكذبوا على الله سبحانه، تعالى الله وجلَّ عن أقوالهم الباطلة علوًّا كبيرًا، قال القاضي عياض [8]: "والقائل بهذا كافر بلا خلاف" اهـ.

ويؤخذ من هذا الأثر أن حدوث بدعة القدرية بنفيهم القدر كان في أواخر زمن الصحابة كما ذكر الحافظ ابن حجر [9] وغيره، فإن معبدًا الجُهنيّ توفي بين الثمانين والتسعين من الهجرة.

قال أبو منصور البغدادي في "الفرق بين الفرق" [10]: "ثم حدث في زمان المتأخرين من الصحابة خلاف القدرية في القدر والاستطاعة من معبد الجهني [11] وغيلان الدمشقي [12] والجعد بن درهم [13]" اهـ.





الهوامش:



[1] انظر: الفرق بين الفرق [ص/20 و118]، التبصير في الدين [ص/21-22 و68]، الملل والنحل [ص/48]، الأنساب [4/460، و5/338-339]، اللباب [3/19 و231].
[2] هو الإمام المشهور المجمع على جلالته أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن يسار التابعي مولى زيد بن ثابت الانصاري، ولد لسنتين بقيتا من خلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وحضر الجمعة مع سيدنا عثمان رضي الله عنه وسمعه يخطب وشهد يوم الدار، وكان يقول: من كذب بالقدر فقد كفر، توفي في رجب سنة 110هـ قبل وفاة محمد بن سيرين بمائة يوم. انظر: سير أعلام النبلاء [4/563]، تهذيب الأسماء واللغات [1/161]، تهذيب التهذيب [2/231].
[3] لسان العرب: مادة ق د ر [5/75].
[4] أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الإيمان: باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله سبحانه وتعالى [8].
[5] قال صاحب "التحرير": معناه جعل وفقًا لنا وهو من الموافقة التي هي كالالتحام يقال: أتانا لتيفاق الهلال وميفاقه أي حين أهل لا قبله ولا بعده وهي لفظة تدل على صدق الاجتماع والالتئام، وفي مسند أبي يعلى الموصلي: "فوافق لنا" بزيادة ألف، والموافقة: المصادفة. [انظر: شرح صحيح مسلم، 1/155].
[6] يعني صرنا في ناحيته ثم فسره فقال: "أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله".
[7] يطلبونه ويتبعونه.
[8] ذكره النووي في "شرح صحيح مسلم" [1/156].
[9] انظر: "فتح الباري" [1/118].
[10] الفرق بين الفرق [ص/18-19].
[11] هو معبد الجُهني البصري أول من تكلم في القدر بالبصرة، قدم المدينة فأفسد بها أناسًا. وعن محمد بن شعيب قال: سمعت الأوزاعي يقول: "أول من نطلق في القدر رجل من أهل العراق يقال له "سوسن" كان نصرانيًا فأسلم ثم تنصّر فأخذ عنه معبد الجهني وأخذ غيلان عن معبد"، وكان الحسن ينهى عن مجالسة معبد ويقول: إياكم ومعبدًا فإنه ضالٌّ مضلٌّ. واختلفوا في موته فقيل صلبه عبد الملك بن مروان بدمشق وقيل قتله الحجاج، قال حاجي خليفة: مات بعد الثمانين وقبل التسعين، وقال غيره سنة ثمانين. انظر تاريخ مدينة دمشق [59/312]، السير [4/185]، تهذيب التهذيب [10/203]، الأنساب [2/135].
[12] هو أبو مروان غيلان بن مسلم القدري الدمشقي، أخذ القول في القدر عن معبد بن خالد الجهني، ناظره الإمام المجتهد الأوزاعي بحضرة هشام بن عبد الملك فانقطع ولم يتب وقال أي الاوزاعي: "كافرٌ وربّ الكعبة يا أمير المؤمنين"، وكان أظهر القدر في خلافة الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز فاستتابه وقتله هشام بن عبد الملك بن مروان فقطع يديه ورجليه وصلبه. انظر تاريخ مدينة دمشق [48/189]، تاريخ الإسلام، حوادث سنة 101-120 [ص/441]، لسان الميزان [4/492].
[13] هو الذي ينسب إليه مروان الجعدي وهو مروان بن محمد الملقب بالحمار ءاخر خلفاء بني أمية. قال فيه الذهبي: مبتدع ضال، زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى. وقال الحافظ ابن حجر: وللجعد أخبار كثيرة في الزندقة. ذكره ابن كثير في وفيات سنة 124هـ. وانظر ميزان الاعتدال [1/399]، لسان الميزان [2/133]، البداية والنهاية [9/124].


بعض المناظرات مع المعتزلة



جرت مناظرة بين أبي الحسن الأشعري شيخ طريقة أهل السنة والجماعة في زمانه وبين أبي علي الجُبَّائي رأس المعتزلة ذكرها الشيخ تاج الدين السبكي في طبقاته [1] عند ترجمة الأشعري وهذه نصها: "مناظرة بين الشيخ أبي الحسن وأبي علي الجُبّائي في الأصلح والتعليل سأل الشيخ رضي الله عنه أبا علي فقال: أيها الشيخ ما قولك في ثلاثة: مؤمن وكافر وصبي؟

فقال: المؤمن من أهل الدرجات، والكافر من أهل التهلكات، والصبي من أهل النجاة.

فقال الشيخ: فإن أراد الصبي أن يرقَى إلى أهل الدرجات هل يمكن؟ قال الجُبائي: لا، يقال له: إن المؤمن إنما نال هذه الدرجة بالطاعة وليس لك مثلها.

قال الشيخ: فإن قال: التقصير ليس مني، فلو أحييتني كنتُ عملتُ في الطاعات كعمل المؤمن.

قال الجُبائي: يقول له الله كنتُ أعلم أنك لو بقيتَ لعَصَيت ولَعُوقِبتَ فراعيتُ مصلحتك وأمتُّك قبل أن تنتهي إلى سن التكليف.

قال الشيخ: فلو قال الكافر: يا رب علمتَ حاله كما علمتَ حالي فهلّا راعيتَ مصلحتي.

فانقطع الجُبائي.

وحُكيَ أن القاضي عبد الجبار أحد شيوخ المعتزلة دخل على الصاحب بن عباد [2] المعتزلي وعنده الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني أحد أئمة أهل السنة، فلما رأى أبا إسحاق قال: سبحان من تنزه عن الفحشاء.

فقال أبو إسحاق فورًا: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء.

فقال عبد الجبار: أيشاء ربنا أن يُعصى؟

فقال أبو إسحاق: أيُعصى ربُّنا قهرًا؟

فقال عبد الجبار: أرأيت إن منعني الهدى وقضى عليَّ بالردى أحسن إليَّ أم أساء؟

فقال أبو إسحاق: إن مَنَعَكَ ما هو لك فقد أساء، وإن منعكَ ما هو له فيختص برحمته من يشاء.

فبُهتَ المعتزلي وسكت وانقطع. ذكر ذلك الزبيدي في "الإتحاف" [3] يعني الإمام أبو إسحاق أنه لا يكون ظلمًا على الله ولا قبيحًا منه أن يعاقب العبد الكافر على كفره الذي انساق إليه باختياره لأن الله تعالى شاء في الأزل أن ينساق هذا العبد باختياره إلى الكفر وقد أمره بالإيمان.

وذكر الشيخ شيث بن إبراهيم المالكي [4] مناظرة بين معتزلي ومجوسي فقال: قال القدري للمجوسي: ما لك لا تسلم؟

فقال المجوسي: حتى يريد الله.

فقال القدري: قد أراد الله ولكن إبليس اللعين لا يدعك.

فقال المجوسي: إن كان الله يريد إسلامي ولم يرده إبليس فكان الذي أراده إبليس دون ما أراده الله فأنا مع أقواهما.

فبهت القدري.



الهوامش:



[1] طبقات الشافعية الكبرى [3/357].
[2] ستأتي ترجمته.
[3] إتحاف السادة المتقين [2/177]، وذكرها شيث بن إبراهيم المالكي في كتابه "حزُّ الغلاصم" [ص/18] بين معتزلي والإمام جعفر الصادق.
[4] انظر كتابه "حَزّ الغلاصم" [ص/31].


حديث افتراق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة



روى هذا الحديث جماعة من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأثبته غير واحد من الحفاظ، وممن رواه من الصحابة: أبو أمامة وأنس بن مالك وعبد الله بن عمرو وعمرو بن عوف وعون بن مالك ومعاوية بن أبي سفيان وأبو هريرة وغيرهم من الصحابة.

- معنى حديث افتراق هذه الامة إلى ثلاث وسبعين فرقة:

قال أبو منصور البغدادي في "الفرق بين الفرق" [1]: "إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُرد بالفرق المذمومة التي هي من أهل النار فِرَق الفقهاء الذين اختلفوا في فروع الفقه مع اتفاقهم على أصول الدين... وإنما فصل النبي عليه الصلاة والسلام بذكر الفرق المذمومة فرق أصحاب الأهواء الضالة الذين خالفوا الفرقة الناجية" اهـ.

وقال العلامة المحدث الشيخ عبد الله في كتابه "الدليل القويم" ما نصه [2]: "فقوله صلى الله عليه وسلم: "كلهم في النار إلا واحدة" أي أنهم يستحقون النار لمخالفتهم في الاعتقاد، لكن من لم يكن منهم غاليًا إلى الكفر يدخل الجنة بعد العذاب" اهـ أي إن لم يعف الله عنه.

- بعض طرق حديث افتراق الأمة:

رواية أبي أمامة: أخرجها الطبراني في "المعجم الكبير" و"المعجم الأوسط" [3] بلفظ: "تفرقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت النصاري على اثنتين وسبعين فرقة، وأمتي تزيد عليهم فرقة كلها في النار إلا السواد الأعظم".

قال الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد" [4]: "رواه الطبراني في الأوسط والكبير بنحوه وفيه أبو غالب وثقه ابن معين وغيره وبقية رجال الأوسط ثقات وكذلك أحد إسنادي الكبير" اهـ.

رواية أنس بن مالك أخرجها ابن ماجه [5] بلفظ: "إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة وإن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة".

قال الحافظ البوصيري [6]: "هذا إسناد صحيح رجاله صقات، رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس أيضًا ورواه أبو يعلى" اهـ.

وأخرجها الطبراني في "المعجم الأوسط" و"المعجم الصغير" [7] من طريق ءاخر بنحوه وقال الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد" [8]: "رواه الطبراني في "الصغير" وفيه عبد الله بن سفيان، قال العقيلي: لا يتابع على حديثه هذا، وقد ذكره ابن حبان في الثقات" اهـ، وأحمد في مسنده [9]، وأبو يعلى في مسنده [10] من طريق مبارك بن سحيم، قال الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد" [11] عن حديث ءاخر فيه ابن سحيم: "فيه مبارك بن سحيم وهو متروك" اهـ.

- رواية عبد الله بن عمرو:

أخرجها الترمذي في سننه [12] بلفظ: "ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إن كان فيهم من أتى أمه علانية كان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة"، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: "ما أنا عليه اليوم وأصحابي"، قال الترمذي: هذا حديث مفسَّر غريب".

وأخرجها الحاكم في "المستدرك" [13] وضعف إسناده وأقره الذهبي على تضعيفه.

- رواية عمرو بن عوف:

أخرجها الحاكم في "المستدرك" [14] ولفظه: "لتسلكن سنن من قبلكم حذو النعل بالنعل، ولتأخذن مثل أخذهم إن شبرًا فشبر وإن ذراعًا فذراع وإن باعًا فباع حتى لو دخلوا جحر ضبّ دخلتم فيه ألا ان بني إسرائيل افترقت على موسى على إحدى وسبعين فرقة كلها ضالة إلا فرقة واحدة الإسلام وجماعتهم، وإنها افترقت على عيسى ابن مريم على إحدى وسبعين فرقة كلها ضالة إلا فرقة واحدة الإسلام وجماعتهم، ثم إنهم يكونون على اثنتين وسبعين فرقة كلها ضالة إلا فرقة واحدة الإسلام وجماعتهم". وضعّف إسناده ووافقه الذهبي على تضعيفه.

- رواية عوف بن مالك:

أخرجها ابن ماجه [15] بلفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وسبعون في النار، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة، والذي نفس محمد بيده لتفترقنَّ أمتي على ثلاث وسبعين فرقة واحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار" قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: "الجماعة".

قال الحافظ البوصيري في "مصباح الزجاجة" ما نصه [16]: "هذا إسناد فيه مقال، راشد بن سعد قال فيه أبو حاتم: صدوق، وعبّاد بن يوسف لم يخرج له أحد سوى ابن ماجه وليس عنده سوى هذا الحديث، قال ابن عدي: روى أحاديث تفرد بها، وذكره ابن حبان في الثقات وباقي رجال الإسناد ثقات، وله شاهد من حديث أبي هريرة رواه أبو داود في سننه والترمذي في الجامع وقال: حسن صحيح" اهـ.

وأخرجه الطبراني [17] في "المعجم الكبير" و"مسند الشاميين" [18] عن عباد أيضًا، واخرجه [19] أيضًا من طريق ءاخر بلفظ: "كيف أنت يا عوف إذا افترقت هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة واحدة في الجنة وسائرهن في النار".

قال الحافظ الهيثمي [20]: "رواه الطبراني وفيه عبد الحميد بن إبراهيم، وثقه ابن حبان وهو ضعيف، وفيه جماعة لم أعرفهم" اهـ.

وأخرجه [21] أيضًا في "المعجم الكبير" و"مسند الشاميين" من طريق نعيم بن حماد عن عيسى بن يونس بلفظ: "تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال".

قال الحافظ الهيثمي [22]: "رواه الطبراني في الكبير والبزار ورجاله رجال الصحيح" اهـ.

وأخرجه أبو نعيم أيضًا الحاكم في "المستدرك" [23] عن نعيم وصححه ولم يتعرض له الذهبي في "تلخيص المستدرك".

والبيهقي في "المدخل" [24] وقال: "تفرد به نعيم بن حماد وسرقه عنه جماعة من الضعفاء، وهو منكر، وفي غيره من أحاديث الصحاح الواردة في معناه كفاية، وبالله التوفيق" اهـ.

والخطيب البغدادي في تاريخه [25]، وذكر عن غير واحد من أهل الحديث إنكار لهذه الرواية.

- رواية معاوية بن أبي سفيان:

أخرجها أبو داود [26] بلفظ: ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا فقال: "ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين: ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة".

قال أبو داود: "زاد يحيى وعمرو في حديثهما: "وإنه سيخرج من أمتي أقوام تَجَارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب [27] بصاحبه" وقال عمرو: "الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله".

وأخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" و"مسند الشاميين" [28]، وأحمد في مسنده [29]، والدارمي في سننه [30]، والحاكم في "المستدرك" [31] وقال عن هذه الرواية ورواية أبي هريرة: "هذه أسانيد تقام بها الحجة في تصحيح هذا الحديث" ووافقه الذهبي.

- رواية أبي هريرة:

أخرجها أبو داود [32] بلفظ: "افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة".

وأخرجه الترمذي في سننه [33] وقال: "حديث حسن وصحيح"، وابن ماجه [34] بلفظ: "تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة".

ورواه أحمد في مسنده [35]، والحاكم في "المستدرك" [36] مثل رواية أبي داود وصححه ووافقه الذهبي على تصحيحه، ورواه بلفظ ءاخر نحو رواية ابن ماجه، وأخرجه ابن حبان في صحيحه [37]، وأبو يعلى في مسنده [38]، وأبو هريرة في "السنن الكبرى" [39].

ولهذا الحديث طريق أخرى مذكورة في كتب الحديث.



الهوامش:



[1] الفرق بين الفرق [ص/9-10].
[2] الدليل القويم [ص/178].
[3] المعجم الكبير [8/274]، المعجم الأوسط [7/219].
[4] مجمع الزوائد [7/258-259].
[5] أخرجه ابن ماجه في سننه: كتاب الفتن: باب افتراق الأمم [3993].
[6] مصباح الزجاجة [2/296].
[7] المعجم الأوسط [5/247 و8/56] المعجم الصغير [1/267].
[8] مجمع الزوائد [1/189].
[9] مسند أحمد [3/120 و145].
[10] مسند أبي يعلى [7/32 و36].
[11] مجمع الزوائد [8/10].
[12] أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الإيمان: باب ما جاء في افتراق هذه الامة [2641].
[13] مستدرك الحاكم [1/128-129].
[14] المستدرك للحاكم [1/129].
[15] أخرجه ابن ماجه في سننه: كتاب الفتن: باب افتراق الأمم [3992].
[16] مصباح الزجاجة [2/296].
[17] المعجم الكبير [18/70].
[18] مسند الشاميين [2/100-101].
[19] المعجم الكبير [18/51].
[20] مجمع الزوائد [7/323].
[21] المعجم الكبير [18/50-51]، مسند الشاميين [2/143].
[22] مجمع الزوائد [1/179].
[23] المستدرك [4/430].
[24] المدخل [1/191-192].
[25] تاريخ بغداد [13/307 وما بعدها].
[26] أخرجه أبو داود في سننه: كتاب السنة: باب شرح السنة [4597].
[27] الكلب: داء يعرض للإنسان من عضة الكلب الكَلِبِ وهو داء يصيب الكلب كالجنون.
[28] المعجم الكبير [19/376-377]، مسند الشاميين [2/108-109].
[29] مسند أحمد [4/102].
[30] سنن الدارمي [2/241].
[31] مستدرك الحاكم [1/128].
[32] أخرجه أبو داود في سننه: كتاب السنة: باب شرح السنة [3496].
[33] أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الإيمان: باب ما جاء في افتراق هذه الأمة [2640].
[34] أخرجه ابن ماجه في سننه: كتاب الفتن: باب افتراق الأمم [3991].
[35] مسند أحمد [2/332].
[36] مستدرك الحاكم [1/128].
[37] انظر "الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان" [8/48 و258] لابن بلبان.
[38] مسند أبي يعلى [10/317].
[39] السنن الكبرى [10/208].


أحاديث في ذم القدرية



- معنى حديث: "القدرية مجوس هذه الأمة":

قال الخطابي في كتابه "معالم السنن" ما نصه [1]: "إنما جعلهم صلى الله عليه وسلم مجوسًا لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس في قولهم بالأصلين وهما النور والظلمة، يزعمون أن الخير من فعل النور والشر من فعل الظلمة فصاروا ثنوية، وكذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله عز وجل والشر إلى غيره، والله سبحانه خالق الخير والشر لا يكون شئ منهما إلا بمشيئته، فالأمران معًا مضافان إليه –سبحانه- خلقًا وإيجادًا وإلى الفاعلين لهما من عباده فعلاً واكتسابًا" اهـ.

وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في ذم القدرية والتحذير منهم ولعنهم وتكفيرهم، نذكر بعضًا منها:

- الحديث الأول:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكل أمة مجوس ومجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر، من مات منهم فلا تشهدوا جنازته، ومن مرض منهم فلا تعودوه وهم شيعة الدجال، وحقّ على الله أن يلحقهم بالدجال". رواه أبو داود في سننه [2] واللفظ به، وأحمد في مسنده [3]، والبيهقي في "السنن الكبرى" [4]، كلهم عن عمر مولى عَفرة عن رجل من الأنصار عن حذيفة، وأحمد في مسنده [5] وابن عدي في "الكامل" [6] كلاهما عن عمر مولى عفرة عن ابن عمر، وابن عدي في "الكامل" [7] عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة.

- الحديث الثاني:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن مجوس هذه الأمة المكذبون بأقدار الله، إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم، وإن لقيتموهم فلا تسلموا عليهم".

رواه ابن ماجه في سننه [8] واللفظ له، والطبراني في "المعجم الصغير" [9] كلاهما عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر، وأحمد في مسنده [10] عن عمر مولى عفرة عن نافع عن ابن عمر.

- الحديث الثالث:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم".

رواه أبو داود في سننه [11] واللفظ له، والبيهقي في سننه [12]، والحاكم في "المستدرك" [13] كلاهما من طريق أبي داود صاحب السنن من رواية ابن أبي حازم عن أبيه حازم عن ابن عمر.

قال الحافظ السيوطي في كتاب "اللآلئ المصنوعة" ما نصه [14]: "قال الحافظ صلاح الدين العلائي في أجوبته عن الأحاديث التي انتقدها السراج القزويني على "المصابيح" وزعم أنها موضوعة: أمّا حديث ابن عمر فرجال إسناده على شرط الشيخين لكنه منقطع لأن أبا حازم سلمة بن دينار لم يسمع من ابن عمر بل ذكر أنه لم يسمع من أحد من الصحابة غير سهل بن سعد، ولكنه رواه جعفر الفريابي في كتاب "القدر": حدثنا نصر بن عاصم الأنطاكي حدثنا زكريا بن منظور حدثني أبو حازم عن نافع عن ابن عمر، فذكر الحديث، وزكريا بن منظور ضعفوه كثيرًا.

وروى ابن عباس الدوري عن ابن معين أنه قال: ليس به بأس إنما كان فيه شئ زعموا أنه طفيلي، وقال ابن عدي: هو ضعيف يكتب حديثه، فالذي يغلب على الظن أن زيادة نافع في روايته معتبرة ويتبين به الساقط في رواية أبي داود. وقد أخرجه ابن الجوزي في كتاب "العلل المتناهية" من طريق حجين بن المثنى أحد رجال الصحيحين عن يحيى بن سابق عن أبي حازم عن سهل بن سعد به ثم عله بأن يحيى بن سابق واه ولم أجد أحدًا قال فيه هذه العبارة بل قال فيه أو حاتم الرازي: ليس بالقوي، وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الثقات، ثم إنه لم يتفرد بهذا المتن حتى يعل به هذا الطريق عن سهل بن سعد، أما بقية الطرق فلا، كما أن إخراجه الحديث المتقدم في كتاب "الموضوعات" ليس بجيد لأن له طرقًا أخرى لا يحكم عليها بالوضع، فلا فائدة إذن في إخراجه في "الموضوعات" لأنه يوهم أن الحديث من أصله موضوع وليس كذلك وهكذا إخراجه هذا الحديث في كتاب الأحاديث الواهية لأنه ليس كذلك بل ينتهي بمجموع طرقه إلى درجة الحسن الجيد المحتج به إن شاء الله" اهـ ثم ذكر طرق هذا الحديث.

- الحديث الرابع:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أمتي ليس لهما نصيب في الإسلام: المرجئة والقدرية".

أخرجه الترمذي في سننه [15] عن ابن عباس واللفظ له وحسّنه. وأورده أبو حنيفة في بعض رسائله محتجًا به وأبو حنيفة حافظ كبير. ورواه الإمام الكبير الحافظ المجتهد محمد بن جرير الطبري.

- الحديث الخامس:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ستة لعنتهم ولعنهم الله وكل نبي مجاب: الزائد في كتاب الله والمكذب بقدر الله والتارك لسنتي [16] والمتسلط بالجبروت ليذل من أعزَّ الله ويعزّ من أذل الله والمستحل لحرم الله، والمستحل من عترتي ما حرَّم الله".

أخرجه الترمذي في سننه [17]، والحاكم في "المستدرك" [18] وصححه ووافقه الذهبي على تصحيحه في موضع وضعفه في موضع ءاخر، والطبراني في "المعجم الكبير"، و"المعجم الأوسط" [19] وابن حبان في صحيحه [20]، والبيهقي في "شعب الإيمان" [21]، قال الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد" [22] بعد أن ساقه من رواية عائشة: "رواه الطبراني في "الكبير" وفيه عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب، قال يعقوب بن شيبة: فيه ضعف، وضعفه يحيى بن معين في رواية ووثقه في أخرى، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، ووثقه ابن حبان وبقية رجاله رجال الصحيح" اهـ.

ورواه الطبراني في "المعجم الكبير" [23] عن عمرو بن سغوي، قال الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد" [24]: "رواه الطبراني في الكبير وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف، وأبو معشر الحميري لم أر من ذكره" اهـ.

- الحديث السادس:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القدرية والمرجئة مجوس هذه الأمة فإن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم".

رواه الطبراني في "المعجم الأوسط [25] عن أنس بن مالك، قال الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد" [26]: "رواه الطبراني في "الأوسط" ورجاله رجال الصحيح غير هارون بن موسى الفروي وهو ثقة" اهـ.

وغيرها من الاحاديث.



الهوامش:



[1] معالم السنن [4/293]، و"شرح صحيح مسلم" [1/154] للنووي.
[2] أخرجه أبو داود في سننه: كتاب السنة: باب في القدر [4692].
[3] مسند أحمد [5/406-407].
[4] السنن الكبرى [10/203].
[5] مسند أحمد [2/86].
[6] الكامل في ضعفاء الرجال [5/37].
[7] أخرجه ابن ماجه في سننه: المقدمة: باب في القدر [92].
[8] المعجم الصغير [1/235].
[9] مسند أحمد [2/125].
[10] أخرجه أبو داود في سننه: كتاب السنة: باب في القدر [4691].
[11] السنن الكبرى [10/203].
[12] المستدرك [1/85].
[13] اللآلئ المصنوعة [1/258-259].
[14]
[15] أخرجه الترمذي في سننه: كتاب القدر: باب ما جاء في القدرية [2149] وقال الترمذي: "حديث غريب حسن" اهـ.
[16] السنة في كلام الرسول معناها الشريعة وهي العقيدة والأحكام.
[17] أخرجه الترمذي في سننه: كتاب القدر: باب [17] حديث [2154].
[18] المستدرك [1/36 و2/525 و4/90].
[19] المعجم الكبير [3/126-127] المعجم الأوسط [2/213]، وانظر "مجمع الزوائد" [1/176 و7/205].
[20] انظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان [7/501].
[21] شعب الإيمان [3/443].
[22] مجمع الزوائد [1/176].
[23] المعجم الكبير [17/43].
[24] مجمع الزوائد [1/176].
[25] أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط [4/464 رقم 4205].
[26] مجمع الزوائد [7/205].


بعض ما جاء عن الصحابة والتابعين والأئمة
في ذم القدرية وتكفيرهم



سبق أن ذكرنا بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في تضليل القدرية والتي منها: "صنفان من أمتي ليس لهما نصيب في الإسلام القدرية والمرجئة"، فنفى النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام عن القدرية لأنهم جعلوا الله والعبد سواسية" وذلك بنفيهم القدرة عنه عزّ وجل على ما يقدر عليه عبده، فكأنهم يثبتون خالقَين في الحقيقة كما أثبت المجوس خالقَين خالقًا للخير وهو عندهم النور وخالقًا للشر هو عندهم الظلام ولذلك شبههم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمجوس فقال فيهم: "القدرية مجوس هذه الأمة".

فالحديث الأول فيه دليل على أن كلاً من هذين الفريقين أي القدرية والمرجئة كفار، فالقدرية وهم المعتزلة منهم من وصل إلى حدّ الكفر كمن يقول منهم بنفي صفات الله تعالى من علم وقدرة وسمع وبصر أو من يقول إن الله شاء أن يكون كل العباد طائعين ولكنّ قسمًا منهم كفروا وعصوا بغير مشيئته أو من يقول بأن الله غير قادر على خلق أفعال العباد بعد أن أعطاهم القدرة عليها أو من يقول بأن الله لا يعلم الشئ إلا بعد وقوعه ونحو ذلك، ومنهم من لم يصل إلى حدّ الكفر بل اقتصروا على قول إن الله لا يرى في الآخرة كما لا يُرى في الدنيا وقولهم إن مرتكب الكبيرة إن مات قبل أن يتوب لا هو مؤمن ولا هو كافر لكن يخلَّد في النار بلا خروج ونحو ذلك.

فمن قال من المعتزلة بمسئلة من المسائل السابقة نعني نفيهم للقدر ونسبة العجز إلى الله ونفيهم لصفات الله ونفيهم لعلم الله بالأشياء قبل وقوعها يجب تكفيره ولا يجوز أن يقال إنهم لا يكفَّرون، وهذا هو القول الصحيح المعتمد وهو قول سلف الأمة من الصحابة ومن بعدهم وعليه المحققون من الخلق، وإليك بعض ما جاء عنهم.

قال الشيخ أبو منصور البغدادي في كتابه "أصول الدين" ما نصه [1]: "أجمع أصحابنا على أنه لا يحل أكل ذبائحهم –أي المعتزلة- وكيف نُبيح ذبائح من لا يستبيح ذبائحنا، وأكثر المعتزلة مع الأزارقة من الخوارج يحرمون ذبائحنا، وقولنا فيهم أشد من قولهم فينا" اهـ.

كتب الحسن البصري إلى الحسن بن علي رضي الله عنهما يسأله عن القضاء والقدر، فكتب فيه الحسن بن عليّ رضي الله عنهما: "من لم يؤمن بقضاء الله وقدره خيره وشره فقد كفر" ذكره البياضي في كتابه "إشارات المرام" [2].

وقال الفقيه الحنفي ابن أمير الحاج في كتابه "التقرير والتحبير" ما نصه [3]: "هذا والمراد بالمبتدع الذي لم يكفر ببدعته وقد يعبَّر عنه بالمذنب من أهل القِبلة كما أشار إليه المصنف سابقًا بقوله: وللنهي عن تكفير أهل القبلة هو الموافق على ما هو من ضروريات الإسلام كحدوث العلم وحشر الأجساد من غير أن يصدر عنه شئ من موجبات الكفر قطعًا من اعتقاد راجع إلى وجود ءالهة غير الله تعالى أو إلى حلول [الله] في بعض أشخاص الناس أو إنكاره نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو ذمّه أو استخفافه به ونحو ذلك المخالف في أصول سواها مما لا نزاع أن الحق فيه واحد كمسألة الصفات وخلق الأعمال وعموم الإرادة وقِدم الكلام" اهـ.

وقال الحافظ محمد مرتضى الزبيدي في "إتحاف السادة المتقين" ما نصه [4]: "ولذلك لم يتوقف علماء ما وراء النهر في تكفير المعتزلة" اهـ.

وقال الإمام أبو منصور البغداد في كتابه "الفرق بين الفرق" ما نصه [5]: "فمن زعم أن العباد خالقون لأكسابهم فهو قَدري مُشرك بربه لدعواه أنَّ العباد يخلقون مثل خلق الله من الأعراض التي هي الحركات والسكون والعلوم والإرادات والأقوال والأصوات وقد قال الله عز وجل في ذمّ أصحاب هذا القول: {أمْ جعلوا للهِ شُرَكاءَ خلقوا كخلقِهِ فتَشَابَهَ الخلقُ عليهم قُلِ اللهُ خالقُ كلِّ شئٍ وهوَ الواحدُ القهارُ} [سورة الرعد/16]" اهـ.

وقال أيضًا في كتابه "أصول الدين" [6]: "إن الزُّهدي أفتى عبد الملك بن مروان بدماء القدرية".

وقال أيضًا [7]: "إن أبا يوسف صاحب أبي حنيفة قال في المعتزلة إنهم زنادقة".

وقال [8]: "اعلم أنَّ تكفير كل زعيم من زعماء المعتزلة واجب".

وقال [9]: "وأنواع كفرهم لا يحصيها إلا الله تعالى، وقد اختلف أصحابنا فيهم، فمنهم من قال حكمهم حكم المجوس لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "القدرية مجوس هذه الأمة"، ومنهم من قال حكمهم حكم المرتدين".

وقال الإمام المجتهد أبو حنيفة في "الفقه الأبسط" [10] في الرد على القدري: "يقال له: هل خلق الله الشر [11]؟ فإن قال: نعم خرج من قوله، وإن قال: لا، كفر لقوله تعالى: {قُلْ أعوذُ بربِّ الفلق* من شرِّ ما خلق} [سورة الفلق/1-2].

وقال أيضًا [12]: "فإن قال –يعني القدري-: إن الرجل إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل وإن شاء أكل وإن شاء لم يأكل وإن شاء شرب وإن شاء لم يشرب. قال: فقل له: هل حكم الله على بني إسرائيل أن يعبروا البحر وقدَّر على فرعون الغرق؟ فإن قال: نعم، قل له: فهل يقع من فرعون أن لا يسير في طلب موسى وأن لا يغرق هو وأصحابه؟ فإن قال: نعم فقد كفر، وإن قال: لا، نقض قوله السابق" اهـ.

وقال إبراهيم بن طهمان: الجهمية والقدرية كفار [13].

وعن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: خطبنا عمر بن الخطاب بالجابية فحمد الله وأثنى عليه فلما أتى على: يعده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وكان عده كافر من كفار العجم من أهل الذمة فقال بلغته: "إن الله لا يُضلُّ أحدًا" فقال عمر للترجمان: ماذا يقول؟ قال: يزعم أن الله يهدي ولا يُضل، قال: كذب عدو الله، بل الله خلقك وهو أضلك وهو يدخلك النار إن شاء، والله لولا وَلْثُ [14] عهدك لضربت عنقك [15].

وهذا يدل على كفر من قال بأن الضلال يقع بغير مشيئة الله.

وقال علي رضي الله عنه: "إن أحدكم لن يخلص الإيمان إلى قلبه حتى يستيقن يقينًا غير ظن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه ويقر بالقدر كله" [16].

وقال أيضًا: "ليس منا من لم يؤمن بالقدر خيره وشره" فنفى الإيمان عمن نفى القدر.

وكفّر [17] الإمام المجتهد الشافعي صاحب المذهب حفصًا الفرد لقوله بخلق القرءان أي لأنه كان ينفي صفة الكلام الذاتيّ لله عز وجل.

وقال سيدنا الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما: "والله ما قالت القدرية بقول الله ولا بقول الملائكة ولا بقول النبيين ولا بقول أهل الجنة ولا بقول أهل النار ولا بقول صاحبهم إبليس" رواه البيهقي [18] في كتابه "القضاء والقدر".

وكفّر الإمام المجتهد الأوزاعي غيلان القدري وقال لهشام بن عبد الملك: كافرٌ ورب الكعبة يا أمير المؤمنين، رواه ابن عساكر في تاريخه [19].

وقال الحافظ أبو سعد عبد الكريم السمعاني الشافعي في كتابه "الأنساب" [20] في ترجمة الكعبي المعتزلي: "وقد كفرت المعتزلة قبله بقولها: إن الشرور واقعة من العباد بخلاف إرادة الله عز وجل ومشيئته" اهـ، ثم قال: "فزاد أبو القاسم الكعبي في الكفر فزعم أنه ليس لله عز وجل إرادة ولا مشيئة على الحقيقة" اهـ.

ونقل الفقيه النووي الشافعي في "روضة الطالبين" [21] عن الحنفية تكفير من قال أنا أفعل بغير مشيئة الله وأقرهم عليه.

وعن عطاء بن أبي رباح قال: أتيت ابن عباس وهو ينزع في زمزم قد ابتلت أسافل ثيابه، فقلت له: قد تكلم في القدر، فقال: أو قد فعلوها؟ فقلت: نعم، قال: فوالله ما نزلت هذه الآية إلا فيهم: {ذوقوا مَسَّ سقر} [سورة القمر/48] أولئك شرار هذه الأمة لا تعودوا مرضاهم ولا تصلوا على موتاهم، إو أرَيتني أحدًا منهم فقأتُ عينيه بأصبعي هاتين [22].

وعن واثلة بن الأسقع قال لمن سأله عن الصلاة خلف القدري: لا تُصلّ خلف القدري، أما أنا لو صليت خلفه لأعدت صلاتي [23].

وعن عكرمة بن عمار قال: سمعت القاسم وسالمًا –يعني ابن عبد الله- يلعنان القدرية، قالوا لعكرمة من القدرية، قال: الذين يزعمون أن المعاصي ليست بقدر.

وعن الإمام مالك بن أنس عن عمه أبي سهيل قال: كنت أمشي مع عمر بن عبد العزيز فاستشارني في القدرية فقلت: أرى أن تستتيبهم فإن تابوا وإلا عرضتهم على السيف، فقال عمر بن عبد العزيز: وذلك رأيي، قال مالك: وذلك رأيي [24].

وعن الحكم بن سليمان الكندي قال: سمعتُ الأوزاعي وسئل عن القدرية فقال: لا تجالسوهم [25].

وعن إسحاق بن محمد الفروي قال: سئل مالك عن تزويج القدري فقال: {ولَعَبدٌ مؤمنٌ خيرٌ من مشركٍ} [سورة البقرة/221] [26].

وعن أشهب بن عبد العزيز قال: قال مالك بن أنس: القدرية لا تناكحوهم ولا تُصلوا خلفهم ولا تحملوا عنهم الحديث، وإن رأيتموهم في ثغر فأخرجوهم عنها [27].

وعن أحمد بن يونس قال: سمعت رجلاً يقول لسفيان الثوري: إن لنا إمامًا قدريًّا، قال: لا تقدموه، قال: ليس لنا إمام غيره، قال: لا تقدموه [28].

وقال عبد الله بن عمر ليحيى بن يعمر: إذا لقيتَ أولئك –يعني القدرية- فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برءاء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر: لو أنّ لأحدهم مثل أُحدٍ ذهبًا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر [29].

وقال الإمام أبو منصور الماتريدي [ت 333هـ] في كتابه "التوحيد" ما نصه [30]: "قالوا –يعني القدرية- يَقدِر الله جلَّ ثناؤه على حركات العباد وسكونهم، فلما أقدرهم على تلك الحركات والسكون زالت عنه القدرة عليها فيكون قادرًا في التحقيق بغيره إذ هو بذاته على ما كان عليه، فلو كانت تلك القدرة له بذاته لم تكن تزول عنه إذا أقدَرَ عليها غيره، ومما يبين ذلك أنه إذا كان عالمًا لذاته بكل شئ لم يذهب علمه لما أعلم غيره، فمثله القدرة" اهـ.

وقال أبو منصور البغدادي [ت 429هـ] هو شيخ الاشاعرة الشافعيين في كتابه "الفرق بين الفرق" [31]: "إن البصريين من القدرية قالت إن الله لا يقدر على مقدورات عباده ولا على مقدورات سائر الحيوانات" اهـ.

وقال في كتابه "أصول الدين" [32]: "إن أكثر المعتزلة قالوا إن الله غير قادر على مقدور غيره وإن كان هو الذي أقدر القادرين على مقدوراتهم" اهـ.

تنبيه: يرد في بعض المؤلفات ذكر الزمخشري احتجاجًا أو ثناءً فاغتر به من جهل حقيقته فجعله من أهل السنة مع أنه رأس من رءوس المعتزلة الذي جاهر بعدائه لأهل السنة وسبهم وأظهر عقيدته الاعتزالية في مؤلفاته لا سيما تفسيره المسمى بـ"الكشاف" بكل وقاحة، فحرصًا منا على إسداء النصيحة للمسلمين نقول: هو محمود بن عمر بن محمد الزمخشري الخُوارزمي [ت 538هـ] شيخ المعتزلة ورأسهم، والمعتزلة كما سبق وذكرنا هم القدرية بدأ ظهورهم في زمن المتأخرين من الصحابة واستمر إلى ما بعده واختلفوا فيما بينهم وتفرقوا حتى بلغوا عشرين فرقة، ولهم مقالات مستشنعة قبيحة تخالف القرءان وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة، فضللهم علماء الإسلام وردوا عليهم. ومن مقالاتهم الباطلة: نفي صفات الله تعالى، وأن الله لا يخلق أفعال العباد، وأن الشر ليس بتقدير الله، وأن الله لا يغفر لمرتكبي الكبائر بلا توبة، وغير ذلك من كفرهم وضلالهم. والمترجم له وهو الزمخشري كان داعيًا لمذهبهم ويصرح به في تفسيره المسمى بـ"الكشاف" ويناظر عليه ويسفّه أهل السنة ويذمهم ويشتمهم، فمن قبيح كلامه قوله عن أهل السنة "المجبرة" لأنهم يقولون في تفسير قول الله تعالى: {واللهُ خَلَقَكُم وما تعملون} [سورة الصافات/96] إن الله خالق أعمالنا، وعقيدة المعتزلة أن الله لا يخلق أفعال العبد [الكشاف 3/346]. ومن قبائحه أيضًا تعرضه لأهل السنة بالقدح والذم –عليه من الله ما يستحق- لأنهم يقولون بأن الله يراه المؤمنون في الآخرة بلا كيف، فقال عند تفسير الآية 143 من سورة الأعراف ما نصه [2/115]: "ثم تعجب من المتسمين بالإسلام المتسمين بأهل السنة والجماعة كيف اتخذوا هذه العظيمة مذهبًا، ولا يغرنّك تسترهم بالبَلكفة –ويقصد قول أهل السنة: بلا كيف- فإنه من منصوبات أشياخهم، والقول: ما قال بعض العدلية –يقصد بعض المعتزلة- فيهم:

لجماعة سموا هواهم سنة *** وجماعة هم لعمري مؤكفة
قد شبهوه بخلقه وتخوفوا *** شنع الورى فتستروا بالبلكفة" اهـ

كذا في المطبوع من تفسيره "هم لعمري" فلعلها من تغيير بعض النساخ أو تصحفت، فإنه أي الزمخشري سماهم بعبارة قبيحة قال عن أهل السنة بأنهم حمير، الذي ملأه بدسائس الاعتزال وعدائه لأهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين إلى يومنا هذا لما أوردنا هذا الكلام القبيح، وقد رد عليه ناصر الدين بن المُنير المالكي وغيره كما في "الوافي بالوفيات" [25/254] للصفدي، فقد قال الصفدي ما نصه: "ومن شعر الزمخشري: [من الكامل]

لجماعة سموا هواهم سنة *** وجماعة هم لعمري مؤكفة
قد شبهوه بخلقه وتخوفوا *** شنع الورى فتستروا بالبلكفة

فقال ناصر الدين بن المنير رادًّا عليه: [من الكامل]

عجبًا لقوم ظالمين تلقَّبوا *** بالعدل ما فيهم لعمري معرفة
قد جاءهم من حيث لا يدرونه *** تعطيل ذات الله في نفي الصفة

أنشده إجازة الإمام العلامة أثير الدين أبو حيان رحمه الله قال: أنشدنا الأستاذ العلامة أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير بغرناطة إجازة إن لم يكن سماعًا، ونقلته من خطه قال: أنشدنا القاضي الاديب العالم أبو الخطاب محمد بن أحمد بن خليل السكوني بقراءتي عليه عن أخيه القاضي أبي بكر من نظمه: [من الكامل]

شبهت جهلاً صدر أمة أحمد *** وذزي البصائر بالحمير المؤكفه
وزعمت أن قد شبهوا معبودهم *** وتخوفوا فتستروا بالبلكفه
رميتهم عن نبعة سويتها *** رمي الوليد غدا يمزق مصحفه
وجب الخسار عليك فانظر منصفًا *** في ءاية الأعراف فهي المنصفه
أترى الكليم أتى بجهل ما أتى *** وأتى سيوفك ما أتوا عن معرفه
من ليس يدرك كيف يحجب نفسه *** نهنه نهى أشياخك المتكلفه
وبآية الأنعام ويك خذلتم *** فوقفتم دون المراقي المزلفه
أوَتحب الحجب الدساتر كيفما *** أنت اللأى حجب اللأى بالمعلفه
ملك تهدد بالحجاب عباده *** وهو المنزه أن يرى ما أسخفه
لو كان كالمعدوم عندك لا يرى *** ذهب التمدح في هُذاء السفسفه
خلق الحجاب فمن وراء حجابه *** سمع الكليم كلامه إذ شرفه
لو صح في الإسلام عقدك لم تقل *** بالمذهب المهجور من نفي الصفه
لسَّيت يا مغرور أو عطلت إذ *** ضاهيت في الإلحاد أهل الفلسفه
إن الوجوه إليه ناظرة بذا *** جاء الكتاب فقلتم هذا السفه
نطق الكتاب وأنت تنطق بالهوى *** فهوى الهوى بك في المهاوي المتلفه
فالنفي مختص بدار بعدها *** لك لا أبا لك موعد لن تخلفه" اهـ

وقد ذكر المفسر اللغوي العلامة أبو حيان الأندلسي في تفسيره "البحر المحيط" [7/85] ما تضمنه تفسير الزمخشري من القبائح فقال ما نصه: "

ولكنه فيه مجال لناقد *** وزلات سوء قد أخذن المخانِقا
فيُثبت موضوع الأحاديث جاهلاً *** ويعزو إلى المعصوم ما ليس لائقا
ويشتم أعلام الأئمة ضَلَّةً *** ولا سيما أن أولجوه المضايقا
ويُسهب في المعنى الوجيز دلالة *** بتكثير ألفاظ تسمى الشقاشقا
يقول فيها الله ما ليس قائلاً *** وكان محبًا في الخطابة وامقا
ويخطئ في تركيبه لكلامه *** فليس لما قد ركبوه موافقا
وينسب إبداء المعاني لنفسه *** ليوهم أغمارًا وإن كان سارقا
ويخطئ في فهم القرءان لأنه *** يجوز إعرابًا أبى أن يطابقا
وكم بين من يؤتى البيان سليقة *** وءاخر عاناه فما هو لاحقا
ويحتال للألفاظ حتى يديرها *** لمذهب سوء فيه أصبح مارقا
فيا خُسره شيخًا تخرَّق صيته *** مغارب تخريق الصبا ومشارقا
لئن لم تداركه من الله رحمة *** لسوف يرى للكافرين مرافقا" اهـ

وقال الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان" [6/4] ما نصه: "قال الإمام أبو محمد بن أبي جمرة في شرح البخاري له، لما ذكر قومًا من العلماء يغلطون في أمور كثيرة. قال: ومنهم من يرى مطالعة كتاب الزمخشري، ويؤثره على غيره من السادة كابن عطية، ويسمي كتابه "الكشاف" تعظيمًا له. قال: والمناظر في الكشاف إن كان عارفًا بدسائسه، فلا يحل له أن ينظر فيه، لأنه لا يأمن الغفلة، فتسبق إليه تلك الدسائس وهو لا يشعر، أو يحمل الجهال بنظره فيه على تعظيم، وأيضًا فهو مقدم مرجوحًا على راجح المقالة أن المألف من أن يصير سواسيًا للمعتزلي، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا لمنافق سيدًا، فإن ذلك يسخط الله" وإن كان غير عارف بدسائسه، فلا يحل له النظر فيه، لأن تلك الدسائس تسبق إليه وهو لا يشعر، فيصير معتزليًا مرجئًا، والله الموفق" اهـ.

وللحافظ الفقيه اللغوي تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي الشافعي رسالة في الرد على الزمخشري واسمها "سبب الانكفاف عن إقراء الكشاف"، فهذا لا يستحق أن يذكر ولا أن يستدل بكلامه في إثبات مسئلة نحوية أو شرعية، فهو ضال مضل عقيدته تكذب القرءان والحديث فليتنبه لذلك.






الهوامش:



[1] أصول الدين [ص/340-341].
[2] إشارات المرام [ص/70-71].
[3] التقرير والتحبير [3/318].
[4] إتحاف السادة المتقين [2/135].
[5] الفرق بين الفرق [ص/339].
[6] و[7] أصول الدين [ص/307 و308].
[8] أصول الدين [ص/335].
[9] أصول الدين [ص/337].
[10] الفقه الأبسط [ص/42].
[11] هذا السؤال على معنى الإنكار عليه وتبكيته إذ لا يجوز استنطاق الكافر ليكفر.
[12] الفقه الأبسط [ص/42].
[13] انظر "المنتقى من كتاب القضاء والقدر [ص/262] للبيهقي.
[14] في القاموس: "الولثُ: القليل من المطر، والعهد الغير الأكيد" [ص/227].
[15] انظر المنتقى [ص/199] للبيهقي.
[16] انظر "المنتقى" [ص/236] للبيهقي.
[17] انظر مناقب الشافعي [ص/194-195] للرازي، مناقب الشافعي [1/47] للبيهقي، تبيين كذب المفتري [ص/339-340].
[18] انظر المنتقى من كتاب القضاء والقدر [ص/239-240].
[19] تاريخ مدينة دمشق [48/209].
[20] الأنساب [5/80].
[21] روضة الطالبين [10/66].
[22] أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره [10/3321]، والبيهقي في "السنن الكبرى" [10/205].
[23] أخرجه البيهقي في كتابه "القضاء والقدر"، انظر "المنتقى من كتاب القضاء والقدر" [ص/245].
[24] انظر المصدر السابق [ص/257].
[25] انظر المصدر السابق [ص/259].
[26] و[27] و[28] انظر المصدر السابق [ص/260].
[29] رواه مسلم، وقد تقدم تخريجه.
[30] التوحيد [ص/277].
[31] الفرق بين الفرق [ص/334].
[32] أصول الدين [ص/135].


تفصيل مقالات المعتزلة القدرية وبيان فضائحهم
وما اتفقوا عليه وما اختلفوا فيه



- فرق القدرية إجمالاً:

افترقت القدرية فيما بينها إلى نحو عشرين فرقة كل فرقة منها تكفر سائرها وهنَّ: الواصلية، والعَمْرَويَّة، والهُذلية، والنّظامية، والأسوارية، والمعمرية، والإسكافية، والجعفرية، والبِشرية، والمردارية، والهشامية، والثُّمامية، والجاحظية، والخابطية، والحمارية، والخياطية، وأصحاب صالح قبة، والمَريسية، والشحامية، والكعبية، والجُبائية، والبهشمية.

- بيان ما اتفقت عليه المعتزلة من البدع الضالة:

ذكرنا أن القدرية ينقسمون إلى فرق عديدة وأن كل فرقة تضلل الأخرى وتبدعها، واختلفوا في مسائل واتفقوا على أخرى كلها من البدع الضالة، ومن فضائحهم التي اتفقوا عليها:

- نفيهم صفات الله جلّ جلاله حتى زعموا أنه ليس لله سبحانه علم ولا سمع ولا بصر ولا صفة أزلية، وزادوا على هذا قولهم: إن الله لم يكن له في الأزل اسم ولا صفة، هذا قولهم في صانع العالم، وبديهة العقل تقتضي فساده لاستحالة كون من لا علم له ولا قدرة ولا سمع ولا بصر له صانعًا للعالم ومدبرًا للخليقة.

- ومنها زعمهم باستحالة رؤية الله عز وجل بالأبصار.

- ومنها زعمهم أنه ليس لله صفة الكلام وأن كلام الله مخلوق له يخلق لنفسه كلامًا في جسم من الأجسام فيكون فيه متكلمًا، وهذا خلاف قوله تعالى: {وكلَّمَ اللهُ موسى تكليمًا} [سورة النساء/164].

- ومنها زعمهم أن الله تعالى غير خالق لأفعال العباد ولا لشئ من أعمال الحيوانات كالبقة والبعوض والنملة والنحلة والدودة والسمكة، فزعموا أنّ العباد والحيوانات خالقون لأفعالهم، وكل هذا كفر مخالف لقوله عز وجل: {واللهُ خلقَكُم وما تعملون} [سورة الصافات/96]، وقوله: {قلِ اللهُ خالقُ كلِّ شئٍ} [سورة الرعد/16].

- ومنها اتفاقهم على دعواهم في الفاسق من أمة الإسلام بالمنزلة بين المنزلتين وهي أنه فاسق لا مؤمن ولا كافر، وهذا خلاف إجماع الأمة من السلف والخلف بأن الفاسق مؤمن ما لم يرتكب مكفّرًا مخرِجًا من الدين.

- ومنها زعمهم أن الهدى والضلال ليسا واقعين بمشيئة الله، وهذا منهم كفر مخرج من الدين، فقالوا إن الله تعالى لم يرد أن يكون الزنا والقتل ومعصية العصاة وكفر الكافرين، مكذبين قوله تعالى: {وما تشاءونَ إلا أن يشاءَ اللهُ ربُّ العالمين} [سورة التكوير/29]، ومكذبين قوله عز وجل: {إنْ هيَ إلا فِتنَتُكَ تُضِلُّ بها من تشاءُ وتهدي من تشاء} [سورة الأعراف/155] إخبارًا عن سيدنا موسى عند مناجاته لربه.

ولهم فضائح وبدع أخرى غير ما ذكرناه.


بيان فرق القدرية تفصيلاً
وما اختصت به كل طائفة من البدع



1- الفرقة الأولى: الواصلية [1]:

أتباع واصل بن عطاء [2] الغزَّال [3] رأس المعتزلة وداعيهم إلى بدعتهم بعد معبد الجهني وغيلان الدمشقي. من ضلاله زعمه أن الفاسق المرتكب للكبيرة من هذه الأمة لا مؤمن ولا كافر وأنه في منزلة بين منزلتي الكفر والإيمان وحكمه في الآخرة أنه مخلد في النار مع الكفار، فوافق الخوارج [4] في زعمهم في تأبيد عقاب مرتكب الكبيرة في النار ولهذا قيل للمعتزلة إنهم مخانيث الخوارج، ووافقه على هذه البدعة عمرو بن عبيد بن بابٍ.


2- الفرقة الثانية: العَمرَوِيَّة [5]:

أتباع عمرو بن عبيد بن بابٍ [6] مولى بني تميم، وكان يوافق واصل بن عطاء في بدعة القدر وبدعة المنزلة بين المنزلتين، وزعم أن كلا الفريقين من أصحاب حرب الجمل [7] خالدون مخلدون في النار.


3- الفرقة الثالثة: الهُذلية [8]:

أتباع أبي الهُذيل محمد بن الهذيل [9] المعروف بالعلاف، له فضائح كثيرة فيما أحدثه من البدع الكفرية، منها قوله بفناء مقدورات الله عز وجل حتى لا يكون بعد فناء مقدوراته قادرًا على شئ ولأجل هذا زعم أن نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار يفنيان ويبقى أهل الجنة وأهل النار خامدين لا يقدرون على شئ ولا يقدر الله عز وجل في تلك الحال على إحياء ميت ولا على إماتة حي ولا على تحريك ساكن ولا على تسكين متحرك ولا على إحداث شئ.


4- الفرقة الرابعة: النظامية [10]:

هؤلاء أتباع أبي إسحاق إبراهيم بن سَيَّار [11] المعروف بالنَّظَّام [12] طالع كثيرًا من كتب الفلاسفة وخلط كلامهم بكلام المعتزلة وأتى ببدع جديدة لم يسبق إليها أحد قبله كفَّره لأجلها أكثر شيوخ المعتزلة كأبي الهُذيل في كتابه المعروف بالرد على النَّظَّام والجُبائي والإسكافي وغيرهم فضلاً عن كتب أهل السنة التي تكفّره أيضًا، وللشيخ أبي الحسن الأشعري [13] إمام أهل السنة رحمه الله في تكفير النّظَّام ثلاثة كتب، وللقاضي أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني الأشعري [14] رحمه الله تعالى كتاب كبير في نقض أصول النظّام.

ومن كفره قوله بأن الله لا يقدر أن يفعل بعباده خلاف ما فيه صلاحهم ولا يقدر على أن ينقص من نعيم الجنة ذرة لأن نعيمهم صلاح لهم والنقصان مما فيه الصلاح عنده ظلم، وزعم أن الله لا يقدر على أن يُعمي بصيرًا، أو يُزْمِنَ صحيحًا أو يفقر غنيًا إذا علم أن البصر والصحة والغِنى أصلح لهم وكذلك لا يقدر على أن يفني فقيرًا أو يُصِحَّ زَمِنًا إذا علم أن المرض والزمانة والفقر أصلح لهم، وهذا بناه على زعمه الفاسد بأنه يجب على الله تعالى أن يفعل بالعبد ما فيه صلاح العبد.

ومن جملة ردود أهل السنة عليه من أن الوجوب على الله تعالى محال فلا يجب عليه شئ ما ذكره الأسفراييني في كتابه "التبصير في الدين" حيث قال [15]: "ويُصور ذلك في ثلاثة ولدوا دفعة واحدة بطنًا واحدًا، فأمات الله أحدهم في حال الطفولة وبلغ منهم اثنان فكفّر أحدهما وءامن ءاخر، فيدخل الله يوم القيامة في الجنة من مات في حال الطفولة ولا يبلغه منها الدرجة العظيمة ويدخل الذي ءامن الجنة ويعطيه الدرجة العظيمة ويدخل الذي كفر النار، فيقول الطفل الذي مات في صغره: لِمَ لم تبلغني درجة الذي ءامن بعد البلوغ؟ فيقول له: لأنه ءامن وأنت لم تؤمن، فيقول الذي مات طفلاً: هلّا بلغتني حال البلوغ حتى كنت أؤمن بك كما ءامن هو؟ فيقول الله تعالى له: لم أبلغك حال البلوغ لأني علمت أنك لو بقيت لكفرت فاخترمتك قبل البلوغ لأن صلاحك كان فيه حتى سَلِمْتَ من النار. فإذا سمع الذي في النار هذا الكلام يقول: فلِمَ لم تخترمني قبل البلوغ حتى كنت أسلم من النار وكان يكون فيه صلاحي. فنعوذ بالله من مذهب يؤدي إلى مثل هذه الرذيلة" اهـ.

ومن كفره زعمه في القرءان أنه لا معجزة في نظمه وأن العباد قادرون على مثله وعلى ما هو أحسن منه في النظم والتأليف، وكان ينكر سائر المعجزات مثل انشقاق القمر، وكذلك كان ينكر تسبيح الحصى في يد النبي صلى الله عليه وسلم ونبوع الماء من بين أصابعه.

وكان يقول إن الإجماع ليس بحجة والخبر المتواتر ليس بحجة، وأخذ من الفلاسفة قولهم بأن أجزاء الجزء لا تتناهى ولا يزال يمكن أن يفصل من الخردلة الواحدة شيئًا بعد شئ ما لا ينتهي إلى جزء واحد لا جزء له، وهذا ركوب منه لا يقبله عقل أصلاً إذ لو كان يمكن أن يفصل من الخردلة من الأجزاء ما لا يتناهى وكان ممكنًا ذلك في الجبل العظيم بطل الفرق بينهما. وزعم أن من ترك صلاة "مفروضة" عمدًا لم يصح قضاؤه لها ولم تجب عليه قضاؤها، وله فضائح كثيرة غير ما ذكرنا، نسأل الله السلامة.


5- الفرقة الخامسة: الأسْوارية [16]:

وهم أتباع علي الأسواري وكان من أتباع أبي الهذيل ثم انتقل إلى مذهب النظام موافقًا له في ضلالاته وفضائحه، وزاد عليه في الكفر قوله: إن ما علم الله أن لا يكون لم يكن مقدورًا لله تعالى والعياذ بالله.


6- الفرقة السادسة: المُعَمَّرية [17]:

وهم أتباع مُعَمَّر بن عبَّاد السُّلمي وكان رأسًا من رءوس الضلالة والإلحاد وفضائحه كثيرة، ومن كفره قوله: إن الله تعالى لم يخلق شيئًا من الأعراض وصفات الاجسام من لون أو طعم أو رائحة، ومن إلحاده أنه كان يقول: إن الله خلق الاجسام ثم إن الاجسام أحدثت الأعراض من لون وطعم ورائحة، وقد افتخر الكعبي في مقالاته بأن معمرًا من شيوخ المعتزلة، ومثله لا يفتخر به إلا مثله.


7- الفرقة السابعة: البِشْرية [19]:

وهم أتباع بشر بن المعتمر [20]، قال إخوانه من القدرية بتكفيره، ومن كفره قوله: إن الإنسان يخلق اللون والطعم والرائحة والسمع وجميع الإدراكات على سبيل التولد، ومن تكذيبه للشريعة زعمه أن الله إذا غفر ذنوب عبد من عباده ثم رجع العبد إلى ذنب عذبه على ما تقدم من ذنوبه التي غفرها له، وكان يزعم أن الله لم يخلق شيئًا من الأعراض كلها وإنما هي فعل الناس.


8- الفرقة الثامنة: الهِشامية [21]:

وهم أتباع هشام بن عمرو [22] الفوطي [23]، وكان من جملة القدرية وزاد عليهم في بدع كثيرة، منها قوله: لا يجوز لواحد من المسلمين أن يقول "حسبنا الله ونعمَ الوكيل" لأنه على زعمه لا يجوز أن يُسمّى الله وكيلاً، ومن بدعه منعه الناس من أن يقولوا: إن الله عز وجل ألَّف بين قلوب المؤمنين وأضلَّ الكاذبين، ووافقه صاحبه عباد بن سليمان الغمري [24] وزاد عليه بدعة فمنع الناس من أن يقولوا: إن الله خلق الكافر لأن الله الله غير خالق لكفره عنده، ومن فضائح الفوطي قوله: إن الجنة والنار ليستا بمخلوقتين الآن وإن كل من قال إنهما مخلوقتان الآن فهو كافر، وهذا القول منه زيادة منه على ضلالة المعتزلة، لأن المعتزلة لم يقولوا بتكفير من قال إنهما مخلوقتان وإن كانوا ينكرون وجودهما الآن.


9- الفرقة التاسعة: المَرْداريَّة [25]:

هم أتباع عيسى بن صبيح [26] المكنّى بأبي موسى والملقب بالمردار، وكان يقال له راهب المعتزلة، وكان من أنواع ما ارتكبه من كفره قوله: إن الناس قادرون على أن يأتوا بمثل هذا القرءان وبما هو أفصح منه، وكان يقول بتكفير كل من جالس السلاطين وبأنه لا يرث ولا يورث وكان أسلافه من المعتزلة يقولون: إن من جالس السلطان فهو فاسق لا مؤمن ولا كافر خالد مخلد في النار، وكان يقول: إن الله قادر على أن يظلم ويكذب ولو ظلم وكذب كان إلهًا ظالمًا كاذبًا، تعالى الله عمّا يقول الكافرون علوًَّا كبيرًا، وزعم المردار أيضًا أن من أجاز رؤية الله تعالى بالأبصار بلا كيف فهو كافر والشاك في كفره كافر، ومن شك في كفر من شك في كفره فهو كافر لا إلى غاية، وغير ذلك من فضائحه وكفره، ومن تلاميذه الجعفران حعفر بن مبشر وجعفر بن حرب وسيأتي الكلام عليهما إن شاء الله تعالى.

قال الذهبي في "السير": "تفرَّد بمسائل ممقوتة وزعم أن الرب يقدر على الظلم والكذب ولكن لا يفعله" اهـ.


10- الفرقة العاشرة: الجعفرية [27]:

وهم أتباع جعفر بن مبشر [28] وجعفر بن حرب [29]، وهما كانا للضلالة رأسًا وللجهالة أساسًا.

وكان جعفر بن مبشر يزعم أنّ فساق هذه الأمة شر من اليهود والنصارى والمجوس والزنادقة هذا مع قوله بأن الفاسق موحّد في منزلة بين المنزلتين لا مؤمن ولا كافر، وزعم أيضًا أن إجماع الصحابة على ضرب شارب الخمر الحدّ وقع خطأ لأنهم أجمعوا عليه برأيهم.

وأما جعفر بن حرب فكان على ضلالة أستاذه المردار وزاد عليه ضلالات أخرى.


11- الفرقة الحادية عشرة: الإسكافية [30]:

وهم أتباع محمد بن عبد الله [31] الإسكافي [32] الذي اقتدى في ضلالة القدرية بجعفر بن حرب وكان أستاذه ثم زاد عليه فزعم أن الله تعالى قادر على ظلم الأطفال والمجانين وليس بقادر على ظلم العقلاء البالغين، ومن بدعه زعمه أن الله كلم عبده ولا يجوز أن يقال متكلم.


12- الفرقة الثانية عشرة: الثُّماميّة [33]:

وهم أتباع ثُمامة بن أشرس النميري [34]، وكان من مواليهم لا من نسبهم، وكان زعيم القدرية في زمن المأمون والمعتصم والواثق ومن كفره قوله إن الأفعال المتولدة لا فاعل لها، وهذه الضلالة تؤدي إلى إنكار الخالق، لأنه لو صح وجود فعل بلا فاعل لجاز أن يكون كل فعل بلا فاعل ولم يكن حينئذ في الأفعال دلالة على فاعلها، وكان شديد العداوة لأهل السنة.


13- الفرقة الثالثة عشرة: الجاحظية [35]:

وهم أتباع عمرو بن بحر [36] الجاحظ [37]، وقد طالع كثيرًا من كتب الفلاسفة.

وخلط وروّج كثيرًا من مقالاتهم بعباراته البليغة وحسن براعته ومن بدعه زعمه أن المعارف كلها طباع وأن كل من عرف شيئًا فإما يعرفه بطبعه لا بأن يتعلمه ولا بأن يخلق الله تعالى له علمًا به. فقوله إن المعارف ضرورية أي طبعًا لا كسبًا فإنه يوجب أن لا يكون للإنسان ثواب ولا عقاب على أفعاله الموجودة منه وهذا خلاف قول المسلمين، وإنما صنف كتاب "طبائع الحيوان" لتمهيد هذه البدعة الشنعاء، أراد أن يغرز في نفوس من يطالعه هذه البدعة ويزينها في عينه فيغتر بحسن ألفاظه المبتذلة فيها ويظن أنه إنما جمعه لنشر نوع من العلم ولا يعلم أنه إنما قصد به التمهيد لبدعته حتى إذا ألِفَه واستأنس به واعتقد مقتضاه انسلخ به عن دينه، وقد ركّب الجاحظ على قوله هذا قولاً هو شر من هذا فقال: إن الله تعالى لا يدخل أحدًا النار ولكن النار بطبعها تجذب إلى نفسها أهلها ثم تمسكهم في جوفها خالدين خلدين، وله غير ذلك من الفضائح والمخازي وكتابه هذا أي "طبائع الحيوان" سلخ فيه معاني كتاب "الحيوان" لأرسطاطاليس وضمّ إليه ما ذكره المدائني من حكم العرب وأشعارهم في منافع الحيوان.


14- الفرقة الرابعة عشرة: الشحامية [38]:

هم أتباع أبي يعقوب بن الشَّحَّام [39] أستاذ الجُبّائي، وضلالاته كضلالات الجبائي، وإليه انتهت رئاسة المعتزلة في البصرة في وقته.


15- الفرقة الخامسة عشرة: الخيَّاطية [40]:

وهم أتباع أبي الحسين الخياط [41] أستاذ أبي القاسم الكعبي في ضلالته، وهما من معتزلة بغداد على مذهب واحد، وشارك الخياط سائر القدرية في أكثر ضلالاتها وانفرد عنهم بقول لن يسبق إليه وفارق سائر فرق الأمة فزعم أن الجسم في حال عدمه يكون جسمًا، وهذا القول منه يوجب كون الأجسام قديمة ويفضي إلى نفي الصانع وقد ضلّل الكعبيّ أستاذه بهذه المسألة، وكان الخياط مع ضلالته في القدر وفي المعدومات منكر الحجة في أخبار الآحاد، وما أراد بإنكاره إلا إنكار أكثر أحكام الشريعة فإن أكثر فروض الفقه مبنية على أخبار من أخبار الآحاد، وللكعبي كتاب في حجة أخبار الآحاد وقد ضلل فيه من أنكر الحجة فيها، ويكفي الكعبي من الخزي والعار انتسابه إلى أستاذ هو عنده مبتدع ضال.


16- الفرقة السادسة عشرة: الكعبية [42]:

وهم أتباع عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي [43] المعروف بالكعبي، كان حاطب ليل يدّعي في أنواع العلوم على الخصوص والعموم ولم يحظَ في شئ منها بأسراره ولم يُحِط بظاهره فضلاً عن باطنه، وقد وافق أبا الحسين الخيّاط في اعتقاداته وانفرد عنه بمسائل، وخالف قدرية البصرة من المعتزلة في أشياء كثيرة. فمنها: قوله إن الله لا يسمع وكان يزعم أن معنى وصفه بأنه سميع بصير عالم بالمسموع الذي يسمعه غيره وبالمرئي الذي يراه غيره، وقوله إن الله تعالى لا إرادة له على الحقيقة، قال أبو منصور البغدادي: وقد أكفرهم البصريون مع أصحابنا في نفيهم إرادة الله عز وجل، ومنها زعمه أن المقتول ليس بميت، وكان يقول بإيجاب الأصلح للعبد على الله تعاللا، وله غير ذلك من الفضائح.


17- الفرقة السابعة عشرة: الجُبَّائية [44]:

وهم أتباع أبي علي محمد [45] بن عبد الوهاب الجُبّائي [46]، وابنه أبي هاشم عبد السلام، وهما من معتزلة البصرة انفردا عن أصحابهما بمسائل وانفرد أحدهما عن صاحبه بمسائل، وكانت المعتزلة البصرية في زمانه على مذهبه ثم انتقلوا بعده إلى مذهب ابنه أبي هاشم، وهو أي أبو علي الجبائي الذي أضلَّ أهل خوزستان، وله كثير من البدع الفاحشة، فمن ضلالاته أنه سمّى الله عز وجل مُطيعًا لعبده إذا أعطاه مراده، وزعم أنه يجوز أن يشتق اسم الله من أفعاله لم يرد به السمع ولم يأذن فيه الشرع حتى قيل له يجوز أن يسمّى بمُحْبل النساء على مقتضى كلامك لأنه خالق الحبل فيهن، فقال: نعم، وهذه بدعة شنيعة فضيحة، وزعم أن الله تعالى ليس بقادر على أن يفني شيئًا من أجسام العالم بانفراده مع بقاء بعضها وقد خلقها تفاريق ولا يقدر على إفنائها تفاريق على زعمه.


18- الفرقة الثامنة عشرة: البَهْشَمية [47]:

وهم أتباع أبي هاشم عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب [48] الجُبّائي وهو ابن أبي علي الجبائي السابق ذكره، قال أبو منصور البغدادي [ت429هـ]: وأكثر معتزلة عصرنا على مذهبه لأن الصاحب ابن عبّاد [49] وزير ءال بويه كان يدعو إليه، ويقال لهم "الذّمية" لقولهم بتجويز كون العبد مستحقًا للعقاب لا على فعل فعله، وقد شاركوا المعتزلة في أكثر ضلالاتها وانفردوا عنهم بفضائح لم يسبقوا إليها منها زعمهم باستحقاق الذم والعقاب لا على فعل، وأن من تاب عن ذنب مع إصراره على ذنب ءاخر لا تصح توبته عما تاب، وزعمهم أن الطهارة ليست بواجبة وأن الوقوف والطواف والسعي غير واجب في الحج.


19- الفرقة التاسعة عشرة: الخابطية [50]:

وهم أتباع أحمد بن خابط، طالع كتب الفلاسفة وكان من أصحاب النّظّام ومنه أخذ ضلاله وكفره كقوله: إن قدرة الله تعالى تنقطع حتى لا يقدر على أن يزيد في نعيم أهل الجنة شيئًا ولا أن يزيد في عذاب أهل النار شيئًا، وكان ينفي الجزء الذي لا يتجزأ، وزاد على النظام زعمه أن للخلق إلهين أحدهما قديم والآخر مُحدّث وهو عيسى ابن مريم وأنه هو يحاسب الخلق يوم القيامة، وغير ذلك من كفره.


20- الفرقة العشرون: الحَدَثية [51]:

وهم أتباع فضل الحدثي، طالع كتب الفلاسفة وكان من أصحاب النّظّام وموافقًا له في كفره وكان يقول كما قالت الخابطية التي مرّ ذكرها، وكانوا أيضًا يطعنون في النبي صلى الله عليه وسلم في نكاحه والعياذ بالله تعالى من الكفر.


21- الفرقة الحادية والعشرون: الحمارية [52]:

وهم قوم من المعتزلة يسكنون عسكر مكرم، اختاروا من بدع أصناف القدرية ضلالات مخصوصة، فأخذوا من عباد بن سليمان الضمري قوله بأن الذين مسخهم الله قردة وخنازير كانوا ناسًا بعد النسخ معتقدين للكفر، وزعموا أن الخمر ليست من فعل الله أي من خلق الله وإنما هي من فعل الخمّار، وزعموا أن الإنسان قد يخلق أنواعًا من الحيوانات كاللحم إذا وضعه إنسان حتى يدود زعموا أن تلك الديدان من خلق الإنسان، وكذلك العقارب التي تظهر من دفن التبن تحت الآجر زعموا أنها من اختراع من جَمَع بين الآجرُ والتبن.


الهوامش:



[1] انظر الفرق بين الفرق [ص/117]، التبصير في الدين [ص/67]، الملل والنحل [ص/46].
[2] كنيته أبو حذيفة ولد سنة ثمانين للهجرة بالمدينة المنورة، وكان يلثغ بالراء فيجعلها غينًا، وكان طويل العنق جدًا بحيث كان يعاب به، توفي سنة إحدى وثلاثين ومائة. انظر وفيات الأعيان [6/7]، لسان الميزان [6/261].
[3] كان يلقب بالغزال لأنه كان يلازم الغزّالين [وفيات الأعيان، 6/11].
[4] الخوارج هم الذين خرجوا عن طاعة الخليفة سيدنا علي وقاتلوه، وكانوا أولاً يقاتلون معه معاوية بن أبي سفيان ثم كفّروا سيدنا عليًا وقالوا: لا حكم إلا لله، وعسكروا بحَرَوْراء فبذلك سمّوا الحَرورية، فبعث إليهم علي عبد الله بن عباس وغيره فخاصمهم وحاجَّهم فرجع منهم قومٌ كثير وثبت قوم على رأيهم، وساروا إلى النهروان فعرضوا للسبيل وقتلوا عبد الله بن خباب بن الأرَتّ فسار إليهم علي فقتلهم بالنهروان وقُتل منهم ذو الثُّديَّة سنة ثمان وثلاثين من الهجرة.
[5] انظر الفرق بين الفرق [ص/120]، التبصير في الدين [ص/69].
[6] هو أبو عثمان عمرو بن عبيد بن بابٍ البصري كبير المعتزلة وشيخهم في وقته سكن البصرة وجالس الحسن البصري وحفظ عنه واشتهر بصحبته ثم أزاله واصل بن عطاء عن مذهب أهل السنة فقال بالقدر ودعا إليه واعتزل أصحاب الحسن، وكان له سمعة وإظهار زهد. مات في طريق مكة سنة أربع وأربعين ومائة، وقيل غير ذلك. انظر الأنساب [5/338]، تاريخ بغداد [12/166]، وفيات الأعيان [3/460]، سير أعلام النبلاء [6/104]، تهذيب التهذيب [8/62].
[7] كانت معركة الجمل بين سيدنا علي رضي الله عنه ومَن معه وجماعة تحمّسوا للمطالبة بدم سيدنا عثمان رضي الله عنه فيهم طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام رضي الله عنهما وعائشة رضي الله عنها زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت السيدة عائشة قد خرجت من المدينة بعدما بويع سيدنا علي رضي الله عنه بالخلافة إلى مكة للحج، ثم التقت بأناس متحمسين للمطالبة بدم عثمان فحمّسوها فخرجت معهم، ثم وصلت إلى أرض سمعت فيها نباح كلاب فقالت: ما اسم هذه الأرض، فقيل لها: الحوأب، فقالت: ما أظنني إلا راجعة، فقيل لها: تذهبين معنا، الله يصلح بك بين المسلمين، فقالت: ما أظنني إلا راجعة فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أيَّتُكُنَّ صاحبة الجمل الأدبب تنبح عليها كلاب الحوأب، انظري يا عائشة أن لا تكوني أنت" فأصرّوا عليها فذهبت معهم للإصلاح ولم تذهب للقتال، فوصلت إلى البصرة حيث معسكر سيدنا علي، ثم حصل ما حصل من القتال فكسرهم سيدنا علي وقُتل جمل عائشة وكان أعطاها إياه شخص من المطالبين بدم عثمان اشتراه بأربعمائة دينار، ثم أعادها سيدنا علي معزّزة مكرّمة إلى المدينة، وكان معصيتها وقوفها في معسكر الذين تمردوا على علي الخليفة الراشد، وكانت وقعة الجمل سنة ستة وثلاثين من الهجرة في جمادى الآخرة.
[8] انظر الفرق بين الفرق [ص/121]، التبصير في الدين [ص/69]، الملل والنحل [ص/49]، سير أعلام النبلاء [10/542].
[9] هو أبو الهذيل محمد بن الهذيل البصري العلاف، كان شيخ البصريين في الاعتزال ومن أكبر علمائهم وهو صاحب المقالات والتصانيف في مذهبهم، أخذ الاعتزال عن عثمان بن خالد الطويل تلميذ واصل بن عطاء الغزال، طال عمره وجاوز التسعين، ومات في سنة 226هـ وقيل 227هـ. انظر: تاريخ بغداد [3/366]، وفيات الأعيان [4/265]، سير أعلام النبلاء [10/542].
[10] انظر الفرق بين الفرق [ص/131]، التبصير في الدين [ص/71]، الملل والنحل [1/53]، وفيات الأعيان [6/14]، سير أعلام النبلاء [10/541].
[11] هو أبو إسحاق إبراهيم بن سيار البصري المعروف بالنّظام، وهو ابن أخت أبي الهُذيل العلاف شيخ المعتزلة السابق ذكره، وهو شيخ أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ المعتزلي. وكان مع ذلك مدمنًا على شرب الخمر فمات وهو سكران في سنة 230هـ تقريبًا كما في "الوافي"، وفي "السير" سنة بضع وعشرين ومائتين. انظر تاريخ بغداد [6/97]، لسان الميزان [1/59]، الوافي بالوفيات [6/14]، سير أعلام النبلاء [10/541].
[12] سُمي بذلك لأنه كان ينظم الخرز في سوق البصرة ويبيعها وليس كما تقول المعتزلة لأنه كان حسن الكلام في النظم والنثر. الفرق بين الفرق [ص/131] التبصير في الدين [ص/71].
[13] هو أبو الحسن علي بن إسماعيل الاشعري البصري شيخ طريقة أهل السنة والجماعة وإمام المتكلمين وناصر سنة سيد المرسلين والذّاب عن الدين والساعي في حفظ عقائد المسلمين، ولد سنة 260هـ وقيل غير ذلك، وله تصانيف عديدة في الرد على المبتدعة من المجسمة والمعتزلة والجهمية وغيرهم، مات رحمه الله ببغداد، وصحح تاج الدين السبكي وفاته بين العشرين والثلاثين بعد الثلاثمائة وقال إن الأقرب سنة 324هـ وهو ما صححه ابن عساكر الحافظ وذكره أبو بكر بن فورك وقيل سنة 330هـ وقيل سنة 333هـ انظر طبقات الشافعية الكبرى [3/222]، وفيات الأعيان لابن خلكان [3/284]، سير أعلام النبلاء [15/85]، تاريخ بغداد [11/346]، تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام الحسن الأشعري.
[14] هو القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني البصري المتكلم المشهور، كان على مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري ومؤيدًا اعتقاده وناصرًا طريقته، سكن بغداد وصنف التصانيف الكثيرة المشهورة في الرد على المبتدعة من الخوارج والمعتزلة والجهمية وغيرهم، وهو الملقب بسيف السنة ولسان الأمة، وكان موصوفًا بجودة الاستنباط وسرعة الجواب، توفي سنة 403هـ. انظر وفيات الأعيان [4/269]، تاريخ بغداد [5/379]، الوافي بالوفيات [3/177]، تبيين كذب المفتري [ص/217].
[15] التبصير في الدين [ص/72].
[16] انظر الفرق بين الفرق [ص/151]، التبصير في الدين [ص/73]، الملل والنحل [ص/58]، الأنساب [1/157]، اللباب [1/60]، الوافي بالوفيات [9/250].
[17] انظر الفرق بين الفرق [ص/151]، التبصير في الدين [ص/73-74]، الملل والنحل [ص/65]، سير أعلام النبلاء [10/546].
[18] هو أبو المعتمر وفي بعض المصادر أبو عمرو مُعمَّر بن عبّاد وقال بعضهم معمر بن عمرة البصري السلمي مولاهم العطار، وكان بينه وبين النّظام مناظرات ومنازعات وله تصانيف في الكلام، وهلك فيما ورَّخَه محمد بن إسحاق النديم سنة 215هـ. انظر سير أعلام النبلاء [10/546].
[19] انظر الفرق بين الفرق [ص/156]، التبصير في الدين [ص/74-75]، الملل والنحل [ص/64]، الأنساب [1/360]، الوافي بالوفيات [10/155]، لسان الميزان [2/41].
[20] هو أبو سهل بشر بن المُعتمر الكوفي ثم البغدادي انتهت إليه رئاسة معتزلة بغداد، كان شاعرًا وله قصيدة في ثلاثمائة ورقة احتج فيها لمذهبه الفاسد، وكان أبرص وطال عمره مما ارعوى وكان يقع في أبي الهُذيل العلاف وينسبه إلى النفاق، وله عدة تصانيف، توفي سنة 216هـ. انظر سير أعلام النبلاء [10/203]، لسان الميزان [2/41]، ميزال الاعتدال [2/41]، الوافي بالوفيات [10/155].
[21] انظر الفرق بين الفرق [ص/159]، التبصير في الدين [ص/75]، الملل والنحل [ص/72]، سير أعلام النبلاء [10/547].
[22] هو أبو محمد هشام بن عمرو الفوطي المعتزلي الكوفي مولى بني شيبان صاحب جدال وبدعة ووبال، أخذ عنه عبّاد بن سليمان وغيره. انظر سير أعلام النبلاء [10/547].
[23] بضم الفاء وسكون الواو. انظر تبصير المنتبه [3/1115].
[24] هو أبو سهل عبّاد بن سليمان البصري المعتزلي من أصحاب هشام الفوطي، خالف المعتزلة في أشياء ابتدعها لنفسه، وله كتاب "إنكار أن يخلق الناس أفعالهم" وكتاب "إثبات الجزء الذي لا يتجزأ". انظر الفرق بين الفرق [ص/161]، سير أعلام النبلاء [10/551].
[25] انظر الفرق بين الفرق [ص/164]، التبصير في الدين [ص/77]، الملل والنحل [ص/68]، سير أعلام النبلاء [10/548].
[26] هو أبو موسى عيسى بن صبيح المردار البصري من كبار المعتزلة، أخذ عن بشر بن المعتمر وتفرّد بمسائل ممقوتة، ذكره قاضي حماة شهاب الدين إبراهيم في كتاب "الفِرَق" وأنه مات سنة 226هـ. انظر سير أعلام النبلاء [10/548].
[27] انظر الفرق بين الفرق [ص/167]، التبصير في الدين [ص/78]، الملل والنحل [ص/59].
[28] هو أبو محمد جعفر بن مبشر البغدادي، له تصانيف عديدة، ذكره محمد بن إسحاق بن النديم وأنه توفي سنة 234هـ. انظر سير أعلام النبلاء [10/549]، تاريخ بغداد [7/162].
[29] هو أبو الفضل جعفر بن حرب الهمذاني المعتزلي، من مؤلفاته كتاب "متشابه القرءان" وكتاب "الاستقصاء" وكتاب "الرد على أصحاب الطبائع" وغيرها، ومن تلاميذه أبو جعفر محمد بن عبد الله الإسكافي، قال ابن النديم: توفي سنة 236هـ عن نحو ستين سنة. انظر سير أعلام النبلاء [10/549]، تاريخ بغداد [7/162].
[30] انظر الفرق بين الفرق [ص/79]، التبصير في الدين [ص/79]، الملل والنحل [1/58]، الأنساب [1/170].
[31] هو أبو جعفر محمد بن عبد الله السمرقندي ثم الإسكافي من معتزلة البغداديين، له تصانيف عدة، وكان الحسين بن علي الكرابيسي يتكلم معه ويناظره، وكان في صباه خيّاطًا وضمّه إليه جعفر بن حرب ومنه أخذ ضلالاته. مات سنة 240هـ انظر الأنساب [1/150]، سير أعلام النبلاء [10/550].
[32] نسبة إلى إسكاف، وهي ناحية ببغداد على صوب النهروان وهي من سواد العراق. الانساب [1/149].
[33] انظر الفرق بين الفرق [ص/172]، التبصير في الدين [ص/79]، الملل والنحل [ص/70]، سير أعلام النبلاء [10/203]، لسان الميزان [2/106]، الوافي بالوفيات [11/20].
[34] هو أبو معن ثُمامة بن أشرس النميري البصري من كبار المعتزلة ومن رؤوس الضلالة كان له اتصال بالرشيد ثم بالمأمون، روى عنه تلميذه الجاحظ توفي سنة 213هـ. انظر سير أعلام النبلاء [10/203]، لسان الميزان [2/106]، ميزان الاعتدال [1/372]، الوافي بالوفيات [11/20].
[35] انظر الفرق بين الفرق [ص/175]، التبصير في الدين [ص/81]، الملل والنحل [ص/75].
[36] هو أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الجاحظ المعتزلي، ليس بثقة فقد كان من أئمة البدع، وصاحب التصانيف الكثيرة، وكان تلميذ أبي إسحاق النظام المعتزلي، روى عن الإمام المجتهد أبي يوسف القاضي وثمامة بن أشرس المعتزلي، كان أوتي بسطة في القول وبيانًا عذبًا في الخطاب كثير القراءة للكتب ذو معرفة واسعة، فأضله الله على علم، وعن الجاحظ: نسيتُ كُنيتي ثلاثة أيام حتى عرَّفني أهلي، قال الذهبي: كان ماجنًا قليل الدين. أصيب في أواخر عمره بالفالج، وكان يقول: أنا من جانبي الأيسر مفلوج فلو قرض بالمقاريض ما علمتُ به، ومن جانبي الأيمن مُنقَرَسٌ فلو مرَّ بي الذباب لألمتُ. توفي سنة 255هـ وقيل 256هـ بالبصرة وقد نيَّفَ على تسعين سنة. انظر: الأنساب [2/6]، وفيات الأعيان [3/470]، ميزان الاعتدال [3/247]، لسان الميزان [4/409]، تاريخ بغداد [12/212].
[37] سمي بالجاحظ لأن عينيه كانتا جاحظتين، والجحوظ: النتوّ. انظر الأنساب [2/6]، وفيات الأعيان [3/470].
[38] الفرق بين الفرق [ص/178]، التبصير في الدين [ص/83].
[39] هو أبو يعقوب يوسف بن عبد الله الشحام، ذكره المترجمون في ترجمة أبي علي الجبائي في عداد من أخذ الجبائي عنهم، انظر وفيات الأعيان [4/267]، سير أعلام النبلاء [14/183]، الوافي بالوفيات [4/74]، لسان الميزان [5/307].
[40] انظر الفرق بين الفرق [ص/179]، التبصير في الدين [ص/84]، الملل والنحل [ص/76]، الأنساب [2/427].
[41] هو أبو الحسين عبد الرحيم بن عثمان أحد متكلمي المعتزلة بل شيخ المعتزلة البغداديين، وكان قد طلب الحديث وكتب عن يوسف بن موسى القطان وطبقته وله مصنفات عديدة وذكر ابن النديم كتبًا، منها "الرد على من أثبت خبر الواحد". انظر تاريخ بغداد [11/87]، لسان الميزان [4/10]، سير أعلام النبلاء [14/220].
[42] انظر الفرق بين الفرق [ص/181]، التبصير في الدين [ص/84]، الملل والنحل [ص/76 و77].
[43] هو أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي الكعبي رأس المعتزلة ورئيسهم في زمانه وداعيتهم، من نظراء أبي علي الجُبّائي، قال الخطيب البغدادي: "من متكلمي معتزلة البغداديين، صنّف في الكلام كتبًا كثيرة وأقام ببغداد مدة طويلة وانتشرت بها كتبه ثم عاد إلى بلخ فأقام بها إلى حين وفاته" اهـ، وكان الكعبي لا يُخفي مذهبه وكان صلحاء أهل بلخ ينالون منه ويقدحون فيه ويرمونه بالزندقة، وكان الكعبي تلميذ أبي الحسين الخياط المعتزلي، وله تصنيف في الطعن على المحدثين والغض من أكابرهم، توفي ببلخ في أول شعبان سنة 319هـ. انظر تاريخ بغداد [9/384]، وفيات الأعيان [3/45]، لسان الميزان [3/318]، سير أعلام النبلاء [14/313]، الوافي بالوفيات [17/25]، شذرات الذهب [2/281].
[44] انظر الفرق بين الفرق [ص/183]، التبصير في الدين [ص/58]، الملل والنحل [ص/78].
[45] هو أبو علي محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجُبائي رأس المعتزلة ومن انتهت إليه رئاستهم وصاحب مقالاتهم، أخذ عن أبي يعقوب الشحام المعتزلي وغيره، وأخذ عنه ابنه أبو هاشم وقد خلف أباه بعد وفاته وأخذ عنه أيضًا علم الكلام الشيخ أبو الحسن الأشعري شيخ السنة ثم أعرض عنه الأشعري لما ظهر له فساد مذهبه ونابذه وتاب منه وصار يرد على الجبائي ضلالاته، وللجبائي مصنفات عديدة، وكانت ولادته في سنة 235هـ وتوفي في شعبان سنة 303هـ. انظر الأنساب [2/17]، وفيات الأعيان [4/267]، سير أعلام النبلاء [14/183]، لسان الميزان [5/307]، الوافي بالوفيات [4/74].
[46] نسبة إلى جُبَّى بالقصر قرية بالبصرة. انظر الأنساب [2/17]، اللباب [1/255]، لب اللباب [1/193].
[47] انظر الفرق بين الفرق [ص/184]، التبصير في الدين [ص/86]، الملل والنحل [ص/78].
[48] هو أبو هاشم عبد السلام بن أبي علي الجبائي المعتزلي ولد سنة 277هـ أخذ الاعتزال عن والده وصنّف الكتب على مذاهبهم، وكان من أفسق أهل زمانه، سكن بغداد إلى حين وفاته سنة 321هـ. انظر الأنساب [2/17]، تاريخ بغداد [11/55]، وفيات الأعيان [3/183]، لسان الميزان [4/20]، العبر [2/12]، شذرات الذهب [2/289]، ميزان الاعتدال [2/618]، سير أعلام النبلاء [15/63].
[49] هو الوزير أبو القاسم إسماعيل بن عباد بن عباس الطالقاني، ولد في ذي القعدة سنة 326هـ، وكان مشتهرًا بمذهب الاعتزال داعية إليه وهو أول من سمي من الوزراء بالصاحب لأنه كان يصحب أبا الفضل بن العميد فقيل له صاحب ابن العميد، كان وزير المِلك مؤيد الدولة أبي منصور بن بويه بن ركن الدولة، أخذ الأدب عن أبي الحسين أحمد بن فارس اللغوي صاحب كتاب "المجمل" في اللغة، وله عدة مصنفات منها: "المحيط" في اللغة وهو في سبع مجلدات رتبه على حروف المعجم وكتاب "الوزراء" و"الكشف عن مساوئ شعر المتنبي"، توفي في صفر سنة 385هـ بالري. انظر وفيات الأعيان [1/228]، سير أعلام النبلاء [16/511]، لسان الميزان [1/461].
[50] انظر التبصير في الدين [ص/136-138]، الفرق بين الفرق [ص/228-273-277]، الملل والنحل [ص/60]، الأنساب [2/302].
[51] انظر الفرق بين الفرق [ص/277]، التبصير في الدين [ص/138]، الملل والنحل [ص/60]، الأنساب [2/187].
[52] انظر الفرق بين الفرق [ص/278]، التبصير في الدين [ص/139].


باب
ما روي عن جماهير الصحابة وأعلام الدين وأئمته
رضي الله عنهم في إثبات القدر [1]



أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنا محمد بن أحمد بن سعيد الرازي، نا أبو حاتم محمد بن إدريس الحنظلي، نا الحاكم بن نافع الحمصي، نا عطاف بن خالد، عن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، عن أبيه قال: سمعت أبي يذكر أنه سمع أبا بكر الصديق يقول: قلت: يا رسول الله أنعمل على ما قد فرغ منه أم على أمر مؤتنف؟ فقال: "على أمر قد فرغ منه" قلت: ففيم العمل يا رسول الله؟ قال: "كل مُيسّر لما خلق له".

أخبرنا أبو بكر محمد بن إبراهيم الأرْدَسْتاني الحافظ، أنا أبو نصر العراقي، نا سفيان بن محمد الجوهري، نا علي بن الحسن، نا عبد الله بن الوليد، نا سفيان الثوري، عن [فطر] [2] بن خليفة، عن عبد الرحمن بن سابط، عن أبي بكر الصديق قال: "خلق الله الخلق فكانوا قبضته [3]، فقال لمن في يمينه ادخلوا الجنة بسلام وقال لمن في الآخرى ادخلوا النار ولا أبالي فذهبت إلى يوم القيامة".

أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ، أنا أبو بكر بن إسحاق الفقيه، أنا أبو المثنى، نا محمد بن المِنهال، نا يزيد بن زُريع، نا كَهْمَس، عن عبد الله بن بُريدة، عن يحيى بن يعمُر قال: خرجت أنا وحُميد بن عبد الرحمن حاجَّين أو معتمرين قال: فلقينا عبد الله بن عمر فقلنا: يا أبا عبد الرحمن قد ظهر فينا أناس يقرءون القرءان يزعمون أن لا قدر وإنما الأمر أُنف، قال: حدثني عمر بن الخطاب أنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فجاء رجل فقال له: أخبرني ما الإيمان؟ قال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالقدر خيره وشره وحلوه ومره وبالبعث بعد الموت" قال: صدقت [4].

فهذا رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه أيضًا مناظرة موسى مع ءادم عليه السلام وقد مضى ذكره [5]، وروي عنه أنه قال: موقوفًا عليه.

أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد [عن] [6] إبراهيم بن حميد الأسناني، أنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبدوس الطرائفي، نا عثمان بن سعيد الدارمي، نا سليمان بن حرب، نا حماد بن زيد، عن مطر الورّاق، عن عبد الله بن بُريدة، عن يحيى بن يعمر قال: لما تكلم معبد ها هنا فيما تكلم به من القدر فحججت أنا وحُميد بن عبد الرحمن فلما قضينا حجنا قلنا: لو ملنا فلقينا من بقي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما جاء به معبد من القدر، فذهبنا نؤم أبا سعيد وابن عمر فلما دخلنا المسجد إذا نحن بابن عمر فاكتنفناه فقدمني حميد وكنت أحرص [7] على المنطق منه، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، إن قومًا نشئوا قبلنا من أهل العراق وقرأوا القرءان وتفقهوا في الإسلام يقولون لا قدر، قال: فإن لقيتهم فأخبرهم أن عبد الله بن عمر منهم بريء وهم منه بَراء، والله لو أن لأحدهم جبال الأرض ذهبًا فأنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر، حدّثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن ءادم وموسى اختصما إلى الله في ذلك فقال موسى: أنت ءادم الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة، فقال ءادم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وكلامه وأنزل عليه التوراة فهل وجدته قدّر علي قبل أن يخلقني؟ قال: نعم، فحجّ ءادم موسى، فحج ءادم موسى ثلاثًا.

ثم ذكر عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث الإيمان [8].

وروينا عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسح ظهر ءادم وإخراج ذريته منه وقوله: "خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، وخلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون" [9].

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو أحمد بكر بن محمد بن حمدان، نا أبو قلابة، نا عبد الصمد، نا شعبة، عن سليمان بن أبي المغيرة، عن عمرو بن ميمون قال: سمعت عمر رضي الله عنه لما طعن قال: {وكانَ أمرُ اللهِ قدَرًا مقْدُورًا} [سورة الاحزاب/38].

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو بكر بن إسحاق، أنا الحسن بن علي بن زياد، نا ابن أبي أويس، نا محمد بن علية [10] الخزّاز، عن حماد بن عمرو الأسدي، عن حماد بن ثلج، عن ابن مسعود قال: كان عمر بن الخطاب كثيرًا ما يقول على المنبر:

خفَض عليك فإن الأمور *** بكفّ الإله مقاديرها
فليس يأتيك منهيُّها *** ولا قاصرٌ عنكَ مأمورها [11]

أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن عبيد الله الحُرفي، نا أحمد بن سلمان، نا محمد بن عبد الله بن سليمان، نا هناد، نا أبو الاحوص، عن عطاء بن السائب، عن ميسرة، عن علي رضي الله عنه أنه قال: "إن أحدكم لن يخلص الإيمان إلى قلبه حتى يستيقن يقينًا غير ظن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه ويقر بالقدر كله".

وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو بكر بن إسحاق الفقيه، أنا بشر بن موسى، نا أبو عبد الرحمن المقرئ، نا أبو حنيفة، عن الهيثم، عن الشعبي، عن علي أنه خطب الناس على منبر الكوفة فقال: "ليس منا من لم يؤمن بالقدر خيره وشره".

أخبرنا أبو القاسم الحرفي، نا أحمد بن سلمان، نا عبد الله بن أحمد بن حنبل الشيباني قال: حدثني أبي، نا هاشم بن القاسم، نا عبد العزيز يعني ابن أبي سلمة، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين قال: ذكر عده القدر يومًا فأدخل أصبعه السبابة والوسطى فيه فرقم بهما باطن يده فقال: "أشهد أن هاتين الوقمتين كانتا في أم الكتاب".

أخبرنا أبو الحسن محمد بن أبي المعروف الفقيه، أنا أبو سهل المهرجاني، أنا أبو جعفر الحذّاء، نا علي بن المديني، نا حماد بن أسامة، نا عبد الله بن محمد بن عمر بن علي، عن أبيه قال: قال علي: "والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لإزالة الجبال عن أماكنها أهون من إزالة ملك مؤجل".

وأخبرنا محمد بن أبي المعروف قال: نا أبو سهل الإسفرايني، نا أبو جعفر الحذاء، نا علي بن المديني، نا محمد بن خازم، نا الاعمش، عن شقيق قال: قال عبد الله هو ابن مسعود: "لأن أعالج جبلاً راسيًا أحبّ إليّ من أن أعالج ملكًا مؤجلاً".

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: سمعتُ أبا الحسن عبد الله بن محمد بن عليّ بن الحسن بن جعفر بن موسى بن جعفر المعروف بالموسوي بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الروضة يقول: سمعت أبي يذكر عن ءابائه أن عليّ بن موسى الرضا كان يقعد في الروضة وهو شاب ملتحف بمطرف خزّ فيسأله الناس ومشايخ العلماء في المسجد فسئل عن القدر فقال: قال الله عز من قائل: {إنَّ المُجرمينَ في ضلالٍ وسُعُرٍ* يومَ يُسحَبونَ في النارِ على وجوههم ذُوقوا مَسَّ سقرَ* إنَّا كُلَّ شئٍ خلقناهُ بقدر} [سورة القمر/47-48-49] ثم قال الرضا: كان أبي يذكر عن ءابائه أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كان يقول: إن الله خلق كل شئ بقدر حتى العجز والكيس وإليه المشيئة وبه الحول والقوة.

وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، نا أبو الطيب يوسف بن أحمد الدَيْرعَاقولي، نا أبو القاسم حمزة بن القاسم السمسار، نا الصلت بن الهيثم الضرير، نا الحسن بن علي الشعراني، نا أبي، نا أبو جعفر محمد بن علي الباقر، عن أبيه قال: قال أبي الحسينُ بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم: والله ما قالت القدرية بقول الله ولا بقول الملائكة ولا بقول النبيين ولا بقول أهل الجنة ولا بقول أهل النار ولا بقول صاحبهم إبليس، فقالوا له: تفسّره لنا يا ابن رسول الله؟ فقال: قال الله عز وجل: {واللهُ يدعوا إلى دارِ السلامِ ويهدي مَن يشاءُ} [سورة يونس/25] الآية، وقالت الملائكة: {سُبحانكَ لا عِلْمَ لنا إلا ما علَّمْتَنا} [سورة البقرة/32]، وقال نوح عليه السلام: {ولا ينفَعُكُمْ نُصحي إنْ أرَدتُّ أنْ أنصحَ لكُم إن كانَ اللهُ يريدُ أن يُغْويكُم} [سورة هود/34] الآية، فأما موسى عليه السلام فقال: {إنْ هيَ إلا فِتنَتُكَ تُضِلُّ بها من تشاءُ} [سورة الأعراف/155] الآية، وأما أهل الجنة فإنهم قالوا: {الحمدُ للهِ الذي هدانا لهذا} [سورة الأعراف/43] الآية، وأما أهل النار فإنهم قالوا: {لوْ هدانا اللهُ لهَدَيْناكُم} [سورة إبراهيم/21] الآية، وأما أخوهم إبليس قال: {فبِما أغْوَيتني لأقْعُدَنَّ لهُم صِراطَكَ المُستقيمَ} [سورة الأعراف/16] الآية. فزعمت القدرية بأن الله لا يغوي.

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، نا أبو العباس محمد بن يعقوب، نا محمد بن إسحاق الصغاني، نا أبو الجواب، نا عمار بن زُريق، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ثعلبة بن يزيد قال: قال علي: فذكر الحديث في تركه الاستخلاف فقال له عبد الله بن سبع فما تقول لربك إذا لقيته وقد تركتنا هملاً، قال: أقول: اللهم استخلفتني فيهم ما بدا لك ثم قبضتني وتركتك فيهم فإن شئت أصلحتهم وإن شئت أفسدتهم.

وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، نا أبو العباس، نا محمد، نا أبو الجواب، نا عمار، عن محمد بن علي السلمي قال: جاء رجل إلى علي فذكر الحديث إلى أن قال عليّ: أنا عبد الله: كتب الله عليّ أعمالاً لا بد أن أعملها.

أخبرنا أبو نصر بن قتادة، أنا أبو عمرو بن مطر، أنا جعفر بن محمد بن الليث الزيادي، نا الربيع بن يحيى الأشنائي أبو الفضل، نا سفيان الثوري، عن محمد بن جحادة، عن قتادة، عن أبي السوار العدوي قال: قال الحسن بن علي: قضي القضاء وجف القلم وأمور تُقضى في كتاب قد سبق.

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، نا أبو العباس محمد بن يعقوب، نا الحسن بن علي بن عفان، نا عبد الله بن نمير، عن الأعمش، عن خيثمة، عن أبي عطية قال: دخلتُ أنا ومسروق على عائشة فذكروا قول عبد الله: من أحيّ لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، قالت عائشة: رحمة الله على ابن أم عبد حدّثكم أول حديث لم تسألوه عن ءاخره، إن الله إذا أراد بعبد خيرًا قيض له ملكًا قبل موته بعام فسدده ويسره حتى يموت وهو خير ما كان ويقول الناس: مات فلان وهو خير ما كان، فإذا حضر أُري ثوابه من الجنة فجعل يتهوع بنفسه ودَّ لو خرجت فلذلك حيث أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإذا أراد بعبد شرًا قيّض الله له شيطانًا قبل موته بعام يفتنه ويصده ويضله حتى يموت حين يموت وهو شر ما كان ويقول الناس: مات فلان وهو شر ما كان فإذا حضره رأى ما أعدّ الله له في النار فجعل يبتلع نفسه كراهية للخروج فعند ذلك يبغض لقاء الله والله للقائه أبغض.

أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان، أنا أبو عمرو بن السماك، نا محمد بن الفرج، نا أبو همام الدلال، نا سفيان، عن إبراهيم بن ميسرة، عن عبيد بن سعد، عن عائشة أنه ذكر لها خروجها فقالت: كان بقدر.

أخبرنا أبو الحسين محمد بن عليّ بن خُشيش المقرئ بالكوفة، أنا إسحاق إبراهيم بن عبد الله الأزدي، أنا أحمد بن حازم، أخبرنا أبو نعيم، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن عبد الله بن ربيعة قال: كنّا جلوسًا عند عبد الله فذكر القوم رجلاً من خلفه فقال عبد الله: أرأيتم لو قطعتم رأسه أكنتم تستطيعون أن تعيدوه؟ قالوا: لا، قال: فيده؟ قالوا: لا، قال: فرجله، قالوا: لا، قال: فإنكم لا تستطيعون أن تغيّروا خَلْقه حتى تغيروا خُلقه، إن النطفة تستقر في الرحم أربعين ليلة ثم تنحدر دمًا ثم تكون علقة ثم تكون مضغة ثم يبعث إليه ملك فيكتب رزقه وخلقه وأجله وشقي أو سعيد.

أخبرنا أو عبد الله الحافظ وأبو بكر القاضي وأبو محمد بن أبي حامد المقرئ وأبو صادق بن أبي الفوارس الصيدلاني قالوا: نا أبو العباس محمد بن يعقوب، نا الحسن بن مكرم، نا سعيد بن عامر، عن ابن عون قال: دخلنا على أبي وائل فقلنا: حدثنا ما سمعت من عبد الله قال: سمعت عبد الله يعني ابن مسعود يقول: الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره، فقلنا: يا أبا وائل ما تقول في الحجاج؟ قال: سبحان الله نحن نحكم على الله [12].

أخبرنا أبو القاضي وأبو سعيد الصيرفي قالا: نا أبو العباس الأصم، نا العباس بن محمد الدوري، نا أبو الجواب، نا عمار بن رُزيق، عن أبي حصين، عن يحيى بن وَثَّاب، عن مسروق قال: قال عبد الله وهو ابن مسعود: "لا يؤمن العبد حتى يؤمن بالقدر [و] [13] يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ولأن أعضّ على جمة حتى تطفأ أحبّ إليّ من أن أقول لأمر قضاه الله ليته لم يكن".

أخبرنا أبو [الحسين] [14] بن بشران العدل ببغداد، أنا أبو علي إسماعيل بن محمد الصفار، نا الحسن بن مكرم، نا إسحاق بن سليمان، نا أو سنان سعيد بن سنان الشيباني قال: سمعت وهب بن خالد الحمصي، يحدثنا عن ابن الديلمي قال: وقع في نفسي شئ من القدر فأتيت أُبيّ بن كعب فقلت: يا أبا المنذر وقع في نفسي شئ من القدر خفت أن يكون فيه هلاك ديني أو أمري، فقال: يا ابن أخي إن الله عز وجل لو عذَّب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيرًا من أعمالهم، ولو أن لك مثل أحد ذهبًا أنفقته في سبيل الله ما قبِلَه الله منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وأنك إن مت على غير هذا دخلت النار، ولا عليك فلسألته فقال مثل ذلك. قال إسحاق: قصّ القصة كلها كما قال أُبيّ غير أني اختصرته وقال لي ولا عليك أن تأتي حذيفة بن اليمان فتسأله، فأتيت حذيفة بن اليمان فسألته فقال لي مثل ذلك. قال ابو يحيى: فقص أيضًا القصة كما قال أبيّ، وقال ائت زيد بن ثابت فسله، فأتيت زيد بن ثابت فسألته فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله عز وجل لو عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم كنت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم، ولو أن لك مثل أحد ذهبًا أنفقته في سبيل الله عز وجل ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وأنه إن مات على غير هذا دخل النار" [15].

وروينا قبل هذا عن كثير بن مرة عن ابن الديلمي عن سعد بن أبي وقاص مثل هذا [16].

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو بكر بن إسحاق الفقيه، أنا موسى بن الحسن بن عباد، أنا القعنبي، نا هشام بن سعد، عن سعيد بن أبي هلال، عن أبي الاسود الدئلي قال: قلت لعمران بن حصين: إني جلست مجلسًا ذكروا فيه القدر فقال عمران: يعلم الله الذي لا إله إلا هو، لو أن الله عذّب أهل السموات والأرض عذبهم وهو غير ظالم لهم حين يعذبهم ولو رحمهم كانت رحمته أوسع لهم، وستقدم المدينة فسل عبد الله بن مسعود وأُبيّ بن كعب عن ذلك. فقدمت المدينة فجلست مجلسًا فيه عبد الله بن مسعود وأبيّ بن كعب فسألت أبيّ بن كعب فقال أُبيّ: والله الذي لا إله إلا هو لو أن الله عذّب أهل السموات وأهل الأرض لعذبهم حين عذبهم وهو غير ظالم لهم، وحدّثني ابن مسعود بمثل ذلك.

أخبرنا أبو الحسن عليّ بن أحمد بن عليّ الإسفرايني الحاكم، نا محمد بن أحمد بن يوسف، نا بشر بن موسى، نا خلاد بن يحيى، نا [فطر] [17]، عن أبي إسحاق قال: سمعت أبا الحجاج الأزدي قال: لقيت سلمان الفارسي بأصبهان فقلت له: يا أبا عبد الله ألا تخبرني عن الإيمان بالقدر كيف هو؟ قال: أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ولا تقل لو كان كذا لكان كذا" [18].

وأخبرنا أبو القاسم الحُرفي ببغداد، نا أحمد بن سلمان، نا معاذ بن المثنى، نا عبد الله بن سوار، نا حماد بن ثابت أن أبا الدرداء ذهب مع سلمان الفارسي يخطب عليه امرأة من بني ليث فذكر فضل سلمان وسابقته وإسلامه وذكر بأنه يخطب إليهم فتاتهم فلانة فقالوا: أما سلمان فلا نُزوّجه ولكنّا نزوجك، ثم خرج فقال: يا أخي إنه قد كان شئ وإني لأستحي أن أذكره لك، قال: وما ذاك؟ قال: فأخبره أبو الدرداء بالخبر، فقال سلمان: أنا أحق أن أستحي منك أن أخطبها وكان الله تعالى قضاها لك.

أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، نا أحمد بن عُبيد [19]، نا أحمد بن علي الخزاز، نا علي بن الجعد الجوهري، نا عبد الواحد بن [سليم] [20] قال: سمعت عطاء بن أبي رباح يقول: سألت الوليد بن عبادة بن الصامت كيف كانت وصية أبيك حين حضره الموت؟ قال: دعاني فقال لي: يا بني اتق الله واعلم أنك لن تتقي الله ولن تبلغ العلم حتى تؤمن بالله وحده وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: كيف لي أن أؤمن بالقدر خيره وشره، قال: تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك على هذا القدر فإن مت على غير هذا دخلت النار، وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أوّل ما خلق الله خلق القلم [21] فقال له اكتب، فقال له ما أكتب يا ربّ؟ قال: القدر، قال: فجرى في تلك الساعة بما كان وبما هو كائن إلى الأبد" [22].

أخبرنا أبو القاسم زيد بن أبي هاشم العلوي بالكوفة، أنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم، أنا إبراهيم بن عبد الله العبسي، أنا وكيع، عن الأعمش، عن عبد الملك بن ميسرة، عن طاوس قال: ذكرت القدرية عند ابن عباس فقال: ها هنا منهم أحد، فقلت: لو كان ما كنتَ تصنع؟ قال: كنت ءاخذ برأسه ثم أقرأ عليه ءاية كذا وءاية كذا، قال طاوس: فتمنيت أن كل قدري كان عندنا.

أخبرنا أبو طاهر الفقيه، أنا أبو عثمان البصري، نا محمد بن عبد الوهاب، أنا يعلى بن عبيد، نا سفيان، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: "لو أخذت رجلاً من هؤلاء الذين يقولون لا قدر لأخذت برأسه ثم قلت لولا ولولا".

قال: ونا سفيان، عن أبي هاشم، عن مجاهد قال: قيل لابن عباس: إن أناسًا يقولون في القدر، قال: يكذبون بالكتاب، لئن أخذت بشعر أحدهم [لأنصونه] [23] إن الله كان على عرشه قبل أن يخلق شيئًا ثم خلق القلم فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه.

وأخبرنا أبو الحسين بن بشران، أنا أبو محمد دعلج بن أحمد، نا محمد بن إبراهيم الكناني قال: حدثني يحيى بن واقد الطائي، أنا هشيم بن بشير.

أنا أبو نصر بن قتادة، أنا أبو منصور النضروي، نا أحمد بن نجدة، أنا سعيد بن منصور، نا هشيم، نا منصور بن زاذان، عن الحكم بن عيينة، عن أبي ظبيان قال: سمعت ابن عباس قال: "إن أوّل ما خلق الله القلم وأمره أن يكتب ما هو كائن فكتب فيما كتب: {تبَّت يدا أبي لهبٍ} [سورة المسد/1] لفظ حديث سعيد.

أنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أحمد بن إسحاق بن أيوب، نا بشر بن موسى، نا معاوية بن عمرو، عن أبي إسحاق، عن الليث، عن شهر بن حوشب، قال: قال ابن عباس لعائشة: "ما سميت أم المؤمنين إلا لتسعدي وإنه لاسمك قبل أن تولدي".

أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق المزكي، أنا أبو الحسن الطرائفي، نا عثمان بن سعيد، نا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: {وَبَشِّرِ الذينَ ءامنوا أنَّ لهم قَدَمَ صِدْقٍ عندَ ربهم} [سورة يونس/2] يقول: "سبقت لهم السعادة في الذكر الأول" [24].

وفي قوله: {وهُمْ لها سابقون} [سورة المؤمنون/61] يقول: "سبقت لهم السعادة" [25].

وفي قوله: {ومَن يؤمن باللهِ يهدِ قلبه} [سورة التغابن/11]: "لليقين فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه" [26].

وفي قوله: {وهديناهُ النَّجدَين} [سورة البلد/10] قال: "الضلالة والهدى" [27].


أنا أبو عبد الله الحافظ قال: حدثني علي بن حمشاذ، نا إسماعيل بن إسحاق، نا سليمان بن حرب، نا حماد بن زيد، عن الزبير بن الخِرَيْت، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان الهدهد يدل سليمان على الماء، فقلت: وكيف ذلك والهدهد يُنْصَب له الفخ يلقى عليه التراب، فقال: اعضك [28] الله بهنِ أبيك ولم يُكْنِ [29]، إذا جاء القضاء ذهب البصر [30].

ورواه أيضًا سعيد بن جبير عن ابن عباس [31].

أخبرنا أبو أحمد عبد الله بن محمد بن الحسن المهرجان، أنا أبو بكر محمد بن جعفر المزكي، نا محمد بن إبراهيم البوشنجي، نا ابن بكير، نا مالك، عن زياد بن سعد، عن عمرو بن مسلم، عن طاوس اليماني قال: أدركت أناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: كل شئ بقدر، قال طاوس: وسمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل شئ بقدر حتى العجز والكيس" أو "الكيس والعجز" [32].

قال: ونا مالك، عن يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان عام حج وهو على المنبر يقول: "أيها الناس لا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع، ولا ينفع ذا الجَدّ منه الجد، ومن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين"، ثم قال: سمعت هؤلاء الكلمات من رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الأعواد [33].

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا: نا أبو العباس محمد بن يعقوب، نا الحسن بن علي [بن] [34] عفان، نا أبو داود، عن سفيان، عن زياد بن فياض، عن أبي حازم قال: دخلت أم الدرداء المسجد فرأت الشيخ يجئ فيصلي ويجيء الشباب فيجلس، فذكرت ذلك لأبي الدرداء فقال: كل يعمل في ثواب قد أعد له.

أخبرنا أبو الحسن عليّ بن أحمد بن الحمامي المقرئ رحمه الله ببغداد، أنا إسماعيل بن علي الخطبي، نا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، نا عبد الرحمن بن مهدي، نا منصور بن سعد، عن عمار مولى بني هاشم قال: سألت أبا هريرة عن القدر فقال: "كيف بآخر سورة القمر".

أخبرنا أبو الحسين بن بشران، أنا أبو الحسن المصري، نا مقدام بن داود، نا عمي موسى، نا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص: لقد عجبت لك في ذهنك وعقلك كيف لم تكن من المهاجرين الأولين؟ فقال له عمرو: وما أعجبك يا عمر من رجل قلبه بيد غيره لا يستيقن التخلص منه إلا إلى ما أراد الذي هو بيده، فقال عمر: صدقت.

أخبرنا أبو بكر بن الحارث الأصبهاني، أنا أبو الشيخ، نا محمد بن العباس بن أيوب، نا أحمد بن الفرج الكندي، نا بقية قال: حدثني حبيب بن عمر الأنصاري، عن أبيه قال: سألت واثلة بن الأسقع، عن الصلاة خلف القدري قال: لا تُصلّ خلف القدري أما أنا لو صليت خلفه لأعدت صلاتي.

أنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا: نا أبو العباس محمد بن يعقوب، نا هلال بن العلاء، نا أبي [35]، نا أبو الوليد، نا أبي، نا الوليد بن مسلم، عن الليث بن سعد، عن موسى بن علي، عن أبيه، عن عمرو بن العاص قال: عجبت من الرجل يفرّ من القدر وهو مواقعه، ومن الرجل يرى القذاة في عين أخيه ويدع الجذع في عينه، ومن الرجل يخرج الضغن من نفس أخيه ويدع الضغن في نفسه، وما تقدمت على أمر قط فلمت نفسي على تقدمي عليه وما وضعت سري عند أحد فلمته على أن أفشاه، وكيف ألومه وقد وضعت. وفي رواية أبي سعيد: وقد ضقت.

أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يحيى بن عبد الجبار السكري ببغداد، أنا إسماعيل بن محمد الصفار، نا أحمد بن منصور الرمادي، نا عبد الرزاق، أنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه والثوري، عن علي بن بذيمة، عن مجاهد في قوله عز وجل: {إني أعلمُ ما لا تعلمون} [سورة البقرة/30] قال: "علم من إبليس المعصية وخلقه لها" [36].

وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر القاضي قالا: نا أبو العباس هو الأصم، نا العباس بن محمد، نا محمد بن عبيد، نا العلاء بن عبد الكريم، عن مجاهد في قوله: {ولَهُمْ أعمالٌ مِنْ دونِ ذلكَ هُمْ لها عاملون} [سورة المؤمنون/63] قال: "أعمال لا بد لهم من أن يعملوها" [37].

أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، نا أبو العباس الأصم، نا يحيى بن أبي طالب، نا أبو منصور وهو الحارث بن منصور الواسطي، نا سفيان، عن ابن أبي نجيح وعلي بن بذيمة، عن مجاهد أنه كان يقرأ: غلبت علينا شقاوتنا.

أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان ببغداد، أنا عبد الله بن جعفر بن درستويه، نا يعقوب بن سفيان، نا الحجاج، نا حماد، عن حميد قال: قدم الحسن مكة، فكلمني فقهاء أهل مكة أن أكلمه فيجلس لهم يومًا، فكلمته، فقال: نعم، فاجتمعوا وهو على سرير فخطب يومئذ، فوالله ما رأيته قبل ذلك اليوم ولا بعد ذلك اليوم ما بلغ منه يومئذ، فقال له رجل: يا أبا سعيد من خلق الشيطان؟ قال: سبحان الله، وهل من خالق غير الله، خلق الشيطان وخلق الشر وخلق الخير، فقال الرجل: ما لهم قاتلهم الله كيف يكذبون على هذا الشيخ [38].

وأخبرنا أبو الحسين، أنا عبد الله، نا يعقوب، نا الحجاج، نا حماد بن زيد، عن خالد قال: قلت للحسن: يا أبا سعيد، ءادم خلق للأرض أن للسماء؟ قال: ما هذا يا أبا منازل قال: فقال: خلق للأرض، قال: فقلت: أرأيت لو أنه استعصم فلم يأكل من الشجرة؟ قال: لم يكن له بدّ من أن يأكل منها لأنه خلق للأرض [39].

أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن عبيد الله الحُرفي، نا أحمد بن سلمان الفقيه، نا محمد بن سليمان، نا الحجاج بن المنهال، نا حماد بن سلمة، عن حميد قال: قرأت القرءان كله على الحسن في بيت أبي خليفة ففسره على الاثبات، فسألته عن قوله: {كذلكَ سلكناهُ في قلوبِ المُجرمينَ} [سورة الشعراء/200] قال: "الشرك بالله، سلكه الله في قلوبهم" [40].

وسألته عن قوله عز وجل: {ولهُم أعمالٌ من دونِ ذلكَ هم لها عاملون} [سورة المؤمنون/63] قال: أعمال سيعملونها ولم يعملوها.

وسألته عن قوله عز وجل: {ما أنتم عليهِ بفاتنين* إلا مَن هوَ صالِ الجحيم} [سورة الصافات/162-163] قال: "ما أنتم عليه بمضلين إلا من هو صال الجحيم" [41].

[أخبرنا] [42] أبو [الحسين بن بشران] [43] العدل ببغداد، أنا أبو جعفر الرزاز، نا محمد بن عبد الله، نا يونس بن محمد، نا حماد هو ابن سلمة، عن خالد الحذاء، عن الحسن في قوله: {ولذلكَ خلقَهم} [سورة هود/119] قال: "خلق هؤلاء لهذه وهؤلاء لهذه" [44].

أخبرنا أبو الحسين بن [بشران] [45]، نا أحمد بن سلمان الفقيه، نا أبو داود سليمان بن الأشعث، عن الحسن في قوله: {كذلكَ نَسْلكه في قلوبِ المُجرمين} [سورة الحجر/12] قال: "الشرك بالله" [46].

أخبرنا أبو علي الروذباري، أنا أبو بكر بن داسة، نا أبو داود، نا ابن كثير، نا سفيان، عن رجل قد سماه غير ابن كثير، عن سفيان [عن] [47] عبيد الصيد، عن الحسن في قول الله عز وجل: {وَحيلَ بينهم وبينَ ما يشتهون} [سورة سبإ/54] قال: "بينهم وبين الإيمان" [48].

قال: ونا أبو داود، نا موسى بن إسماعيل، نا حماد، أخبرني حميد قال: كان الحسن [يقول] [49]: لأن يسقط من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يقول: الأمر بيدي [50].

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا: نا أبو العباس محمد بن يعقوب، نا الربيع بن سليمان، نا أسد بن موسى، نا سعيد بن سالم، عن رباح بن أبي معروف، عن مروان موسى، نا سعيد بن سالم، عن رباح بن أبي معروف، عن مروان مولى هند بنت المهلب قال: دعا معبد إلى القدر علانية فما كان أحد أشد عليه في التفسير والرواية والكلام من الحسن، فغبت في وجه خرجت فيه ثن قدمت فألقى معبدًا فقال لي: أما شعرت أن الشيخ قد وافقني فاصنعوا ما شئتم بعد يعني الحسن، فقلت في نفسي: أما والله على ذلك أبدأ بأول منه ءاتيه فذهبت حتى أتيته، فاستأذنت عليه فلما دخل قلت: يا أبا سعيد قول الله تبارك وتعالى: {تبَّت يدا أبي لهبٍ وتبّ* ما أغنى عنهُ مالهُ وما كسبَ* سيصلى نارًا ذاتَ لهب} [سورة المسد/1-2-3] كان في أم الكتاب قبل أن يخلق الله عز وجل أبا لهب؟ فقال: سبحان الله ما شأنك، نعم والله، وقبل أن يخلق أبا أبيه، قال: فقلت: فهل كان أبو لهب يستطيع أن يؤمن حتى لا يصلى هذه النار؟ قال: لا والله ما كان يستطيع، قال: أحمد الله هذا الذي كنت عهدتك عليه، إن الذي دعاني إلى ما سألتك أن معبدًا الجهني أخبرني أنك قد وافقته، قال: كذب لكع كذب لكع.

أخبرنا أبو الحسين بن الفضل، أنا عبد الله بن جعفر، نا يعقوب بن سفيان، نا سليمان بن حرب، نا حماد بن زيد، عن خالد الحذاء: أن رجلاً من أهل الكوفة كان يقدم البصرة فكان لا يأتي الحسن من أجل القدر، فلقيه يومًا في الطريق فسأله فقال: يا أبا سعيد: {ولا يزالونَ مُختلفينَ* إلا من رحِمَ ربُّكَ} [سورة هود/118-119] قال: نعم، أهل رحمته لا يختلفون، قال فقوله: {ولذلكَ خلقهم} [سورة هود/119] قال: خلق هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار، قال: فقال الرجل لا أسأل عن الحسن بعد اليوم.

وبإسناده قال: نا سليمان بن حرب، نا أبو هلال قال: دخلت أنا ونصر أبو خزيمة على الحسن وذاك يوم الجمعة ولم يكن جمع، فقلت: يا أبا سعيد أما جمعت؟ فقال: أردت ذاك ولكن منعني قضاء الله عز وجل.

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، نا أبو العباس محمد بن يعقوب، نا يحيى بن أبي طالب، نا عبد الوهاب بن عطاء، نا عوف، عن الحسن قال: خلق الله الخلق بقدر وخلق الآجال بقدر وخلق الأرزاق بقدر وخلق العافية بقدر وخلق البلاء بقدر، وأمر ونهى [51].

أخبرنا أبو الحسن محمد بن أبي المعروف المهرجاني، أنا بشر بن أحمد المهرجاني، نا أحمد بن بن الحسين بن نصر الحذاء، نا علي بن المديني، نا محمد بن [خازم] [52]، نا عاصم الأحول، عن الحسن قال: إن الله خلق خلقًا وقدّر رزقًا وقدّر المصيبة وقدّر عافية فمن كذّب بشئ من هذا فقد كذّب بالقرءان.

قال: وحدثنا علي، نا عبد الرزاق، عن معمر، عن الحسن: من كذب بالقدر كذب بالقرءان [53].

أخبرنا أبو علي الروذباري، أنا أبو بكر بن داسة، نا أبو داود، نا محمد بن عبيد، أنا [سليم] [54]، عن ابن عون قال: كنت أسير بالشام فناداني رجل من خلفي فالتفت فإذا رجاء بن حيوة فقال: يا أبا عون ما هذا الذي يذكرون عن الحسن؟ قال: قلت: إنهم يكذبون على الحسن كثيرًا [55].

أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان، أنا عبد الله بن جعفر، نا يعقوب بن سفيان، نا أبو النعمان، نا حماد بن زيد، عن أيوب قال: كذب على الحسن ضربان من الناس: قومٌ القدر رأيهم فينحلونه [56] الحسن لينفقوه في الناس، وقوم في صدورهم شنان [57] وبغض للحسن فيقولون: أليس يقول الحسن كذا أليس يقول كذا [58].

أخبرنا أبو القاسم الحُرفي، نا أحمد بن سلمان بن الحسن الفقيه، نا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثني أبي، نا إسماعيل، عن منصور بن عبد الرحمن [الغُداني] [59] قال: قلت للحسن: قوله عز وجل: {ما أصابَ من مصيبةٍ في الأرضِ ولا في أنفُسكم إلا في كتابٍ من قَبْلِ أن نبرأَها} [سورة الحديد/22] قال: سبحان الله ومن يشك في هذا، كل مصيبة من [60] السماء والأرض ففي كتاب الله: قبل أن نبرأ النسمة [61].

أخبرنا أبو علي الروذباري وأبو عبد الله [الحسين بن عمر] [62] بن برهان في ءاخرين قالوا: أنا إسماعيل بن محمد الصفار، نا الحسن بن عرفة، نا علي بن ثابت الجَزري، عن عكرمة بن عمار اليمامي قال: سمعت سالم بن عبد الله يلعن القدرية.

وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا: نا أبو العباس محمد بن يعقوب، نا محمد بن علي، نا عبد الله بن رجاء، نا عكرمة يعني ابن عمار قال: سمعت القاسم وسالمًا يلعنان القدرية، قالوا لعكرمة: من القدرية؟ قال: الذين يزعمون أن المعاصي ليست بقدر.

أخبرنا أبو طاهر الفقيه، أنا أبو بكر القطان، نا أحمد بن يوسف، نا محمد بن يوسف قال: ذكر سفيان عن عمر بن محمد قال: جاء رجل إلى سالم بن عبد الله قال: رأيت رجلاً زنى، فقال: يستغفر الله، قال: كتبه الله عليه؟ قال: نعم، قال: فيعذبه وقد كتبه عليه؟ فأخذ كفًّا من حصًا فحصبه.

أخبرنا أبو بكر القاضي، أنا أبو سهل بن زياد القطان، نا بشر بن موسى الأسدي، نا أبو عبد الرحمن المقرئ، عن ابن لهيعة قال: حدثني عمرو بن شعيب قال: كنت عند سعيد بن المسيّب إذ جاءه رجل فقال: يا أبا محمد إن أناسًا يقولون قدّر الله كل شئ ما خلا الأعمال، فغضب سعيد غضبًا لم أره غضب مثله قط حتى همّ بالقيام ثم قال: فعلوها فعلوها ويحهم لو يعلمون، أما إني قد سمعت فيهم حديثًا كفاهم به شرًّا، فقلت: وما ذلك يا أبا محمد رحمك الله؟ فقال: حدّثني رافع بن خديج، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سيكون في أمتي أقوام يكفرون بالله وبالقرءان وهم لا يشعرون" فقلت: يا رسول الله كيف يقولون؟ قال: "يقرّون ببعض القدر ويكفرون ببعض، يقولون الخير من الله والشر من الشيطان" وذكر الحديث بطوله [63].

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو بكر بن إسحاق، أنا الحسن بن علي بن زياد، نا سعيد بن سليمان، نا عبد الواحد بن [سليم] [64] قال: سألت عطاء بن أبي رباح فقلت: إن أناسًا من أهل البصرة يقولون في القدر، قال: تقرأ القرءان؟ قلت: نعم، قال: إقرأ الزخرف فقرأت: {حم* والكتابِ المُبين} [سورة الزخرف/1-2] قال: أتدري ما القرءان العربي؟ قلت: نعم والحمد لله، قال: وما هو؟ قلت: الفرقان الذي أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، قال: صدقت، ثم قرأت: {وإنهُ في أُمِّ الكتابِ لدينا لَعَلِيٌّ حكيمٌ} [سورة الزخرف/4] قال: أتدري ما أم الكتاب؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: هو الكتاب الذي كتبه قبل أن يخلق السموات وقبل أن يخلق الأرض، فيه أن فرعون من أهل النار، و{تبَّت يدا أبي لهبٍ وتبَّ} [65] [سورة المسد/1].

أبو نصر بن قتادة، أنا أبو عمرو بن مطر، أنا جعفر بن محمد بن الليث، نا عثمان بن الهيثم، نا ابن جريج، عن عطاء قال: ما لقيت قدريًّا قط إلا لقيته منظومًا بحمقه.

أخبرنا أبو الحسين بن الفضل، أنا عبد الله بن جعفر، نا يعقوب بن سفيان، نا أبو النعمان، نا مهدي، نا غيلان قال: سمعت مطرفًا يقول: إني إنما وجدت ابن ءادم كالشئ الملقى بين الله وبين الشيطان فإن أراد الله أن ينعشه [66] اجترَّه [67] إليه وإن أراد به غير ذلك خلَّى بينه وبين عدوه.

أخبرنا أبو الحسين بن بشران، أنا أبو عمرو بن السماك، نا حنبل بن إسحاق، نا مسلم بن إبراهيم، نا حماد بن زيد قال: قلت لداود بن أبي هند: يا أبا بكر ما تقول في القدر؟ قال: أقول كما قال مطرف بن عبد الله: "لم توكلوا إلى القدر وإلى القدر تصيرون".

أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن [عبيد] [68] الله الحُرفي، ما أحمد بن سلمان، نا معاذ بن المثنى، نا عبد الله بن سوار وحوثرة قالا: أنا حماد، أنا ثابت، عن مطرف قال: لو كان الخير في كف أحد ما استطاع أن يفرغه في قلبه حتى يكون الله عز اسمه هو الذي يفرغه.

قال: ونا عبد الله بن سوار، نا حماد بن ثابت البناني أن عامر بن عبد الله قال لابني عم له: فوّضا أمركما إلى الله تستريحا.

وأخبرنا أبو القاسم الحُرفي، نا أحمد بن سلمان، نا عبد الله بن أحمد بن حنبل، نا أبي، نا عبد الله بن الوليد، نا سفيان، عن داود، عن ابن سيرين قال: إن لم يكن أهل القدر من الذين يخوضون في ءايات الله فلا أدري من هم.


أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو بكر بن إسحاق، أنا صالح بن محمد الرازي، نا محمود بن خداش، نا ابن القاسم يعني هاشم، نا صالح المري قال: جاء سلم بن قتيبة إلى محمد بن سيرين فسأله عن شئ من القدر فقال محمد: اختر إما أن تقوم عني وإما أن أقوم عنك.

أخبرنا أبو القاسم الحُرفي، نا أحمد بن سلمان، نا عبد الله بن أحمد، حدثني عفان، نا حماد، أنا أبو جعفر الخطمي، عن محمد بن كعب القرظي أن الفضل الرقاشي قعد إليه فذاكره شيئًا من القدر فقال له: تشهد. فلما بلغ: من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، رفع محمد عصًا معه فضرب بها رأسه وقال: قم، فلما قام قال: لا يرجع هذا عن رأيه أبدًا.

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر القاضي قالا: نا أبو العباس محمد بن يعقوب، نا أبو عتبة، نا بقية، نا ابن ثوبان، عن بكر بن أسيد، عن أبيه قال: حضرت محمد بن كعب وهو يقول: إذا رأيتموني أنطق في القدر فغلوني فإني مجنون فوالذي نفسي بيده ما أنزلت هؤلاء الآيات إلا فيهم، ثم قرأ: {إنَّ المجرمينَ في ضلالٍ وسُعُرٍ} [سورة القمر/47] إلى ءاخر الآية.

أخبرنا أبو نصر بن قتادة، أنا منصور النضروي، نا أحمد بن نجدة، نا سعيد بن منصور، نا عتاب بن بشير، عن خُصيف قال: انطلقت أنا ومجاهد وذر إلى محمد بن كعب القرظي فسأله ذر عن قوله: {كلا إنَّ كتابَ الفُجَّارِ لفي سجين} [سورة المطففين/7] قال: وقد رقم الله عليهم ما هم عالمون في سجين فهو أسفل، والفجار منتهون إلى ما قد رقم الله عليهم. وعن {كتابَ الأبرارِ لفي عليِّين} [سورة المطففين/18] قال: قد رقم عليهم ما هم عاملون في عليين وهو فوق، فهم منتهون إلى ما قد رقم الله عليهم في عليين [69].

وقال القرظي: وجدت في القرءان ءاية أُنزلت في أهل القدر: {يومَ يُسحَبُونَ في النارِ على وجوههم ذُوقوا مَسَّ سقرَ* إنَّا كُلَّ شئٍ خلقناهُ بقدرٍ} [سورة القمر/48-49].

أخبرنا أبو نصر بن قتادة، أنا عبد الله بن محمد بن عبد الله الرازي، أنا إبراهيم بن زهير [70] الحلواني، نا مكي بن إبراهيم، نا موسى بن عبيدة الربذي، عن محمد بن كعب القرظي في هذه الآية: {قيلَ يا نوحُ اهْبِطْ بسلامٍ مِنَّا وبركاتٍ عليكَ وعلى أممٍ مِمَّنْ معكَ وأممٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِنَّا عذابٌ أليمٌ} [سورة هود/48] قال: لم يبق مؤمن ولا مؤمنة في أصلاب الرجال وأرحام النساء إلا قد دخل في ذلك السلام والبركات إلى يوم القيامة، ولم يبق كافر ولا كافرة إلا قد دخل في ذلك المتاع والعذاب الأليم إلى يوم القيامة.

أخبرني أبو عبد الرحمن السلمي فيما قرأت عليه من أصله، أنا أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن رجال البُزاري، نا أبو الحسين محمد بن إبراهيم الغازي قال: سمعت عمرو بن علي أبا حفص يقول: سمعت ميمون بن زيد يقول: نا [حرب بن سريج] [71] البزار قال: قلت لمحمد بن علي: يا أبا جعفر، إن لنا إمامًا يقول في هذا القدر فقال: يا ابن الفارسي انظر كل صلاة صليتها خلفه فأعدها، إخوان اليهود والنصارى قاتلهم الله أنّى يُؤفكون.

فسألت أبو الوليد هشام بن عبد الملك عن حرب بن [سريج] [72] فقال: كان جارنا ولم يكن به بأس.

أخبرنا أبو علي الروذباري، أنا أبو بكر بن داسة، نا أبو داود، نا ابن كثير، نا سفيان قال: كتب رجل إلى عمر بن عبد العزيز يسأله عن القدر.

قال أبو داود: ونا الربيع بن سليمان المؤذن، نا أسد بن موسى، نا حماد بن دُليل قال: سمعت سفيان الثوري يحدثنا، عن النضر. ح. قال أبو داود: وحدّثنا هناد بن السري عن قَبيصة، نا أبو رجاء، عن أبي الصلت، وهذا لفظ حديث ابن كثير ومعناهم، قال: "كتب رجل إلى عمر بن عبد العزيز يسأله عن القدر فكتب: أما بعد أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره واتباع سنة رسوله وترك ما أحدث المحدثون بعدما جرت سنته وكفّوا مؤنته فعليك بلزوم السنة فإنها لك بإذن الله عصمة، ثم اعلم أنه لم يبتدع الناس بدعة إلا قد مضى قبلها ما هو دليل عليها أو عبرة فيها، فإن السنة إنما سنّها من قد علم ما في خلافها من الخطإ والزلل والحمق والتعمق، فارض لنفسك ما رضي به القوم لأنفسهم فإنهم عن علم وقفوا وببصر نافذ كفوا ولهم على كشف الأمور كانوا أقدر وبفضل ما فيه كانوا أولى، فإن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم: إن ما حدث بعدهم ما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلهم أو رغب بنفسه عنهم فإنهم هم السابقون وقد تكلموا فيه بما يكفي ووصفوا ما يشفي فما دونهم من مقصر وما فوقهم من مَحْسَرٍ [73]، قد قصر قوم دونهم فجفوا وطمح عنهم أقوام فغلوا وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم. كتبت تسأل عن الإقرار بالقدر فعلى الخبير بإذن الله وقعت، ما أعلم [ما] [74] أحدث الناس من مُحدثةٍ ولا ابتدعوا من بدعة هي أبين أثرًا ولا أثبت أمرًا من الإقرار بالقدر، لقد ذكره في الجاهلية الجهلاء يتكلمون به في كلامهم وفي شعرهم يُعزّون به أنفسهم على ما فاتهم ثم لم يزده الإسلام بعد إلا شدة، ولقد ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير حديث ولا حديثين قد سمعه منه المسلمون يتكلمون به في حياته وبعد وفاته يقينًا وتسليمًا لربهم عزّ وجلّ وتضعيفًا لأنفسهم أن يكون شئ لم يُحط به علمه ولم يُحصه كتابه بذلك ولم يمض فيه [قدره] [75] وإنه لمع ذلك في محكم كتابه لمنه اقتبسوه ولمنه تعلّموه ولئن قلتم: لم أنزل الله عز وجل ءاية كذا؟ ولم قال الله كذا؟ لقد قرءوا منه ما قرأتم وعلموا من تأويله ما جهلتم وقالوا بعد ذلك: كله بكتاب وقدر وما يقدّر يكن وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا نملك لأنفسنا ضرَّا ولا نفعًا، ثم رغبوا بعد ذلك ورهبوا". ولم يقل ابن كثير: من قد علم [76].

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرني أحمد بن سهل، نا إبراهيم بن معقل [77]، نا حرملة، نا ابن وهب قال: حدثني مالك أن عمر بن عبد العزيز كان حكيمًا يقول: لو أراد الله أن لا يعصى ما خلق إبليس، وكان يقول: إن في كتاب الله عز وجل لهؤلاء القدرية علمًا بينًا علمه من علمه وجهله من جهله قوله تعالى: {فإنَّكُم ومت تعبُدونَ* ما أنتُم عليهِ بفاتنينَ* إلا مَنْ هوَ صالِ الجحيم} [سورة الصافات/161-162-163] قال مالك: القدرية شر الناس وأرذلهم وقرأ قول نوح عليه السلام: {يُضِلُّوا عِبادَكَ ولا يَلِدوا إلا فاجِرًا كفَّارًا} [سورة نوح/27] قال مالك: والأنبياء لا يقولون إلا الحق.

وأخبرنا أبو نصر بن قتادة، أنا أبو منصور النضروي، نا أحمد بن نجدة، نا سعيد بن منصور، نا أبو معاوية، نا عمر بن ذر قال: خرجت وافدًا إلى عمر بن عبد العزيز في نفر من أهل الكوفة وكان معنا صاحب لنا نتكلم في القدر فسألنا عمر بن عبد العزيز عن حوائجنا ثم ذكرنا له القدر فقال: لو أراد الله أن لا يعصى ما خلق إبليس، ثم قال: قد بيّن الله ذلك في كتابه: {فإنَّكُم وما تعبدون* أنتم عليهِ بفاتنينَ* إلا مَنْ هوَ صالِ الجحيم} [سورة الصافات/161-162-163]. فرجع صاحبنا ذلك عن القدر.

وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو بكر بن أبي نصر الداربردي بمرو، نا أحمد بن محمد بن عيسى القاضي، نا القعنبي فيما قرأ على مالك عن عمه أبي سهيل قال: كنت أمشي مع عمر بن عبد العزيز فاستشارني في القدرية فقلت: أرى أن تستتيبهم فإن تابوا وإلا عرضتهم على السيف، فقال عمر بن عبد العزيز: وذلك رأيي، قال مالك: وذلك رأيي.

أخبرنا أبو علي الروذباري وأبو عبد الله بن برهان وغيرهما قالوا: أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار، نا الحسن بن عرفة، نا إسماعيل بن عُليَّة، عن مخزوم [78]، عن يسار قال: قال عمر بن عبد العزيز في أصحاب القدر يستتابون فإن تابوا وإلا نفوا من ديار المسلمين.

أخبرنا أبو نصر بن قتادة، أنا أبو منصور النضروي، نا أحمد بن نجدة، نا سعيد بن منصور قال: نا حماد بن زيد، عن أبي مخزوم النهشلي قال: قال عمر بن عبد العزيز: يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله فمن أحسن فليحمد الله ومن أساء فليستغفر الله فإن عاد فليسغفر الله، فإنه لا بد لأقوام أن يعملوا أعمالاً كتبها الله عليهم ووضعها في رقابهم [79].

أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، أنا أبو عبد الله الصفار، نا أحمد بن محمد البرتي، نا مسلم بن إبراهيم، نا الحارث بن عبيد أبو قدامة الإيادي، نا مطر الوراق، عن رجاء بن حيوة قال: قال عمر بن عبد العزيز لمكحول: إياك أن تقول في القدر ما يقول هؤلاء، يعني غيلان وأصحابه.

أخبرنا أبو طاهر الفقيه، أنا أبو بكر القطان، نا أحمد بن يوسف، نا محمد بن يوسف قال: ذكر سفيان عن ثور، عن خالد بن معدان قال: ما من عبد إلا له عينان في وجهه يبصر بهما أمر الدنيا وعينان في قلبه يبصر بهما أمر الآخرة، فإذا أراد الله بعبد خيرًا فتح عينيه اللذين في قلبه فأبصر بهما ما وُعد بالغيب فأمن الغيب بالغيب، وإذا أراد الله بعبد غير ذلك تركه على ما فيه ثم قرأ: {على قلوبٍ أقفالُها} [80] [سورة محمد/24].

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا: نا أبو العباس محمد بن يعقوب، نا الحسن بن علي بن عفان، نا حسين بن علي، عن سفيان بن عيينة، عن مِسعر، عن موسى بن أبي كثير أبي الصباح قال: الكلام في القدر [والإرجاء] [81]: الزندقة.

أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان، أنا عبد الله بن جعفر، نا يعقوب بن سفيان، نا العباس بن الوليد بن صبح، نا عبيد بن أبي السائب قال: حدثني أبي قال: قال لي رجاء بن حيوة إذا أتيت بلال بن سعد فقل له إن رجاء بعثني إليك وقد كره أن يقرأ عليك السلام ويقول: اللهم إنه بلغني أنك تكلم الكلام من كلام المكذبين بمقادير الله عز وجل فإن كان وقع ذلك في نفسك فقد وقع في نفسك شر، وإن يك ذلك زيغًا أو خطأ فراجع من قريب حتى يعلم المكذبون بمقادير الله أن قد فارقتهم وتركت ما هم عليه.

قال: وحدثنا العباس، نا مروان بن محمد قال: حدثني سعيد بن عبد العزيز قال: رمي بلال بن سعد بالقدر فأصبح فتكلم في قصصه فقال: رُبّ مسرور مغبون والويل لمن له الويل ولا يشعر بأكل وشرب وقد حق عليه في علم الله أنه من أهل النار أو نحوه.

أخبرنا أبو الحسين محمد بن الحسين بن الفضل القطان ببغداد، أنا أبو سهل بن زياد القطان، نا عبد الله بن روح، نا شبابة بن سوار، نا الحكم بن عمر الرُّعيني قال: أرسلني خالد بن عبد الله إلى قتادة وهو بالحيرة أسأله عن مسائل فكان فيما سألت قلت: أخبرني عن قول الله عز وجل: {إنَّ الذينَ ءامنوا والذينَ هادوا والصائبينَ والنصارى والمجوسَ والذينَ أشركوا} [سورة الحج/17] هم مشركو العرب؟ قال: لا ولكنهم الزنادقة المنانية الذين يجعلون لله شريكًا في خلقه، قالوا: إن اللخ يخلق الخير وإن الشيطان يخلق الشر وليس لله على الشيطان قدرة.

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو بكر بن إسحاق الفقيه، أنا محمد بن يونس، نا سعيد بن عامر، نا جويرية بن أسماء، عن سعيد بن أبي عروة قال: سألت قتادة عن القدر قال: تسألني عن رأي العرب والعجم، إن العرب في جاهليتها وإسلامها كانت تثبت القدر. وأنشدني في ذلك بيت شعر:

ما كان يطغى غول [82] كل تنوفة *** إلا في كتاب قد خلا مسطور

أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يحيى بن عبد الجبار السكري ببغداد، أنا إسماعيل بن محمد الصفار نا أحمد بن منصور، نا عبد الرزاق، أنا معمر قال: كان ابن طاوس جالسًا فجاء رجل من المعتزلة فجعل يتكلم قال: فأدخل ابن طاوس إصبعيه في أذنيه وقال لابنه: أي بني أدخل إصبعيك في أذنيك واشدد لا تسمع من كلامه شيئًا. قال معمر: يعني أن القلب ضعيف.

قال: ونا عبد الرزاق قال: قال لي إبراهيم بن أبي يحيى: إني أرى المعتزلة عندكم كثيرًا، قال: قلت: نعم وهم يزعمون أنك منهم قال: أفلا تدخل مهي هذا الحانوت حتى أكلمك؟ قلت: لا، قال: لم قلت لأن القلب ضعيف وإن الدين ليس لمن غلب.

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، نا أبو بكر بن أبي دارم الحافظ بالكوفة، نا أبو عبد الرحمن بن إبراهيم القماط، نا أبو سعيد الاشج، نا الحكم بن سليمان الكندي قال: سمعت الأوزاعي وسئل عن القدرية فقال: لا تجالسوهم، قيل: أرأيت إن كانوا معنا في قرية أو مدينة فدعونا إلى طعام؟ قال: أجبهم ولا تأكل.

أخبرنا أبو الحسين بن الفضل، أنا عبد الله بن جعفر، نا يعقوب بن سفيان قال: سمعت ابن بكير يحدث، عن الليث، عن عبيد الله بن عمر قال: تلا يحيى بن سعيد هذه الآية يومًا: {وإن مِن شئٍ إلا عندنا خزائِنُهُ وما نُنَزِّلهُ إلا بقدَرٍ معلومٍ} [سورة الحجر/21] فقال جميل بن نباتة العراقي: يا أبا سعيد أرأيت السحر من خزائن الله التي ينزل؟ فقال يحيى: مه ما هذا من مسائل المسلمين وأفحم القوم، فقال عبد الله بن أبي حبيبة: إن أبا سعيد ليس من أصحاب الخصومة إنما هو إمام من أئمة المسلمين ولكن عليَّ فأقبل، أما أنا فأقول: إن السحر لا يضر إلا بإذن الله، فتقول أنت غير ذلك؟ قال: فسكت ولم يقل شيئًا. قال عبد الله: فكأنما كان علينا جبل فوضع عنا.

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو جعفر أحد بن عبيد الأسدي بهمذان، نا إبراهيم بن الحسين، نا إسحاق بن محمد الفروي قال: سمعت مالكًا يقول: كان عدة من أهل الفضل والصلاح قد ضللهم غيلان بن عبد الله.

قال: وسئل مالك عن تزويج القدري فقال: {ولَعَبدٌ مؤمنٌ خيرٌ من مُشركٍ} [سورة البقرة/221].

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، نا أبو الحسن أحمد بن الخضر الشافعي، نا إبراهيم بن محمود بن حمزة قال: سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: سمعت أشهب بن عبد العزيز يقول: قال مالك بن أنس: القدرية لا تناكحوهم ولا تُصلوا خلفهم ولا تحملوا عنهم الحديث، وإن رأيتموهم في ثغر فأخرجوهم عناه.

أخبرنا أبو نصر بن قتادة، أنا أبو العباس الضبعي، نا الحسن بن علي بن زياد، نا عبد العزيز بن عبد الله، نا مالك قال: ما أضل من كذب بالقدر لو لم يكن عليهم حجة إلا قول نوح: {خلقكم فمِنكم كافرٌ ومنكم مؤمن} [سورة التغابن/2] لكفى بها حجة.

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرني أبو بكر بن إسحاق، أنا الحسن بن علي بن زياد، نا أحمد بن يونس قال: سمعت رجلاً يقول لسفيان الثوري: إن لنا إمامًا قدريًا قال: لا تُقدِّموه، قال: ليس لنا إمام غيره، قال: لا تقدموه.

وأخبرنا أبو عبد الله قال: حدثني أبو محمد الحسن بن إبراهيم الفارسي، نا الحسين بن مردويه الفارسي، نا هلال بن العلاء الرقي، نا إدريس بن موسى الينبغي [83]، نا أبي، عن جدي [قال] [84]: جاءت جارية برقعة مختومة دفعتها إلى سفيان يعني الثوري ففضها، وقرأها فإذا فيها: بسم الله الرحمن الرحيم من داود بن يزيد الأودي إلى سفيان بن سعيد الثوري ما تقول في رب قدير قدَّر عليّ وقدر على إرشادي وإصلاحي وعصمتي وتوفيقي فمنعني عن ذلك بقدرته وحجبني بقوته وقد عزم على أن يعذبني بالنار، جارَ عليّ أن عدل؟ فكتب سفيان: بسم الله الرحمن الرحيم السلام على من اتبع الهدى وأقرّ بأن محمدًا رسول رب العُلى، إن يكن الإيمان والإرشاد والإصلاح والعصمة والتوفيق حقًا لك على الله لازمًا ودَينًا واجبًا فمنعك بقدرته وحجبك بقوته ما هو لك عليه وقد عزم على أن يعذّبك بالنار، قلنا: إنه جار عليك ولم يعدل، ومن المحال أن يجوز الله على أحدٍ من خلقه أو لا يعدل عليه، وإن يكن ذلك كله فضلاً من الله فالله يؤتي فضله من يشاء والله ذو الفضل العظيم، فإن يكن ها هنا حجة أدحضناها بالحق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. قال: فكتب إليه داود تائبًا إلى الله مما كان عليه مقيمًا وأنه فوَّض الأمور كلها إلى رب العالمين.

حدثنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الأصبهاني، نا أبو الطيب المظفر بن سهل [85] الخليلي، نا إسحاق بن أيوب، عن أبيه أيوب بن حسان قال: سأل رجل ابن عيينة عن القدرية فقال: يا ابن أخي قالت القدرية ما لم يقل الله عز وجل ولا الملائكة ولا النبيون ولا أهل الجنة ولا أهل النار ولا ما قال أخوهم إبليس، قال الله عز وجل: {وما تشاءونَ إلا أن يشاءَ اللهُ ربُّ العالمين} [سورة التكوير/29]، وقالت الملائكة: {سُبحانكَ لا عِلمَ لنا إلا ما علَّمتَنا} [سورة البقرة/32]، وقال النبيون: {وما يكونُ لنا أن نعودَ فيها إلا أن يشاءَ} [86] [سورة الأعراف/89]، وقال أهل الجنة: {الحمدُ للهِ الذي هدانا لهذا} [سورة الأعراف/43]، وقال أهل النار: {ربنا غلبَتْ علينا شِقْوَتنا} [سورة المؤمنون/106]، وقال أخوهم إبليس: {ربِّ بِما أغوَيتني} [سورة الحجر/39].

أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أنا أبو بكر محمد بن أحمد بن محمويه العسكري، نا عبد الكبير بن محمد بن عبيد الله بن جعفر بن هشام بن زيد بن أنس بن مالك الأنصاري بحلب، نا أبو يوسف البغدادي قال: جاء رجل إلى سفيان بن عيينة فقال: إن ها هنا رجلاً يكذّب بالقدر، قال: كذب عدو الله وما يقول، لقد سمعت أعرابيًا بالموقف وهو أفقه: اللهم إليك خرجت وأنت أخرجتني وعليك قدمت وأنت أقدمتني أطيعك بأمرك ولك المنة عليّ، وأعصيك بعلمك ولك الحجة علي فأنا أسألك بواجب حجتك وانقطاع حجتي إلا رددتني بذنب مغفور.

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت أبا بكر محمد بن جعفر البستي يقول: نا أبو العباس أحمد بن سعيد بن مسعود المروزي بنيسابور، قدم عليهم حاجًا نا سعد بن معافى، نا إبراهيم بن رستم قال: سمعت أبا عصمة نوح بن أبي مريم يقول: سألت أبا حنيفة: من أهل الجماعة؟ قال: من فضل أبا بكر وعمر وأحبّ عليًا وعثمان وءامن بالقدر خيره وشره من الله ومسح على الخفين ولم يكفّر مؤمنًا بذنب ولم يتكلم في الله بشئ.

أخبرنا أبو القاسم الحُرفي، نا أحمد بن سلما، نا عبد الله بن أحمد، نا الوليد بن شجاع، نا علي بن الحسن بن شقيق قال: قلت لعبد الله بن المبارك: سمعت من عمرو بن عبيد؟ فقال هكذا بيده أي كثرة، قلت: فلم لا تسميه وأنت تسمي غيره من القدرية؟ قال: لأن هذا كان رأسًا.

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو بكر محمد بن عبد الله العدل بمرو قال: نا أبو رجاء محمد بن حمدويه السنجي، نا أحمد بن علي قال: سمعت أبا روح يقول: قال ابن المبارك: إن البصراء لا يأمنون من أربع خصال: ذنب قد مضى لا يدري ما يصنع الرب، وعمر قد بقي لا يدري ماذا فيه من الهلكات، وفضل قد أعطي لعله مكر واستدراج، وضلالة قد زينت له فيراها هدى، ومن زيغ القلب ساعة أسرع من طرفة عين قد يسلب دينه وهو لا يشعر.

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، نا أبو بكر محمد بن أحمد بن بالويه، نا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثني الحسن بن عيسى [نا حماد بن قيراط] [87] قال: سمعت إبراهيم بن طهمان يقول: الجهمية والقدرية كفار.

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنا عبد الله بن محمد بن حيان القاضي، نا محمد بن عبد الرحمن بن زياد، أنا أبو يحيى الساجي أو فيما أجاز لي مشافهة، نا الربيع قال: سمعت الشافعي رحمه الله يقول: "لأن يلقى الله العبدُ بكل ذنب ما خلا الشرك بالله عز وجل خير من أن يلقاه بشئ من هذه الاهواء [88]"، وذلك أنه رأى قومًا يتجادلون في القدر بين يديه فقال الشافعي: في كتاب الله المشيئة له دون خلقه، والمشيئة إرادة الله، يقول الله عز وجل: {وما تشاءونَ إلا أن يشاء الله} [سورة التكوير/29] فأعلم خلقه أن المشيئة له، وكان يثبت القدر [89].

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: حدثني الزبير بن عبد الواحد الحافظ، نا أبو أحمد حامد بن عبد الله المروزي، نا عمران بن فضالة، نا الربيع بن سليمان قال: سئل الشافعي عن القدر فأنشأ يقول:

ما شئتَ كان وإن لم أشأ *** وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن
خلقتَ العباد على ما علمتَ *** ففي العلم يجري الفتى والمُسِن
فمنهم ضقيٌّ ومنهم سعيد *** ومنهم قبيحٌ ومنهم حسن
على ذا مننتَ وهذا خذلتَ *** وهذا أعنتَ وذا لم تُعن

وفي رواية الربيع قدّم البيت الرابع على البيت الثالث.

ورويناه بإسناد ءاخر موصولاً عن الربيع عن الشافعي في كتاب "الأسماء والصفات" [90].

وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرني أبو الفضل بن أبي نصر قال: أنشدني محمد بن أحمد بن حاصر [91] قال: أنشدني أبو علي الهمذاني قال: أنشدنا أبو يعلى الموصلي قال: أنشدونا للشافعي:

قدر الله واقع حيث يقضي وروده *** قد قضى فيك حكمه وانقضى ما يريده
فأراد ما يكون إن لم يكن ما تريده [92].

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرني أبو الحسن محمد بن عبد الله الجوهري قال: سمعت أبا بكر محمد بن إسحاق يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن يحيى يقول: السنة عندنا أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص وهو قول أئمتنا مالك بن أنس وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي وسفيان بن سعيد الثوري وسفيان بن عيينة الهلالي، وأن الأعمال والفرائض وأعمال الجوارح في طاعة الله أجمع من الإيمان، وأن القدر خيره وشره من الله عز وجل وقد جف القلم بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، علم الله من العباد ما هم عاملون وإلى ما هم صائرون، وأمرهم ونهاهم فمن لزم أمر الله عز وجل وءاثر طاعته فبتوفيق الله، ومن ترك أمر الله وركب معاصيه فبخذلان الله إياه، ومن زعم أن الاستطاعة قبل العمل بالجوارح إليه إن شاء عمل وإن شاء لم يعمل فقد كذّب بالقدر وردّ كتاب الله نصًّا وزعم أنه مستطيع لما لم يُرده الله ونحن نبرأ إلى الله عز وجل من هذا القول، ولكن نقول: الاستطاعة في العبد مع الفعل، فإذا عمل عملاً بالجوارح من بر أو فجور علمنا أنه كان مستطيعًا للفعل الذي فعل، فأما قبل أن يفعله فإنا لا ندري لعله يريد أمرًا فيحال بينه وبين ذلك، والله تبارك وتعالى مريد لتكوين أعمال الخلق، ومن ادعى خلاف ما ذكرنا فقد وصف الله بالعجز وهلك في الدارين، وأن القرءان كلام الله غير مخلوق، وأن الله يُرى في الآخرة بالأبصار يراه أهل الجنة، بهذا نُدين لله بصدق نية، عليه نحيا وعليه نموت إن شاء الله، وأن خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمقدّم في التفضيل أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي.

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت أبا يعلى حمزة بن محمد العلوي النهدي يقول: سمعت أبا القاسم عبد الرحمن بن محمد بن القاسم الحسني وما رأيت علويًا أفضل منه زهدًا وعبادة يقول: "المعتزلة قعدة الخوارج عجزوا عن قتال الناس بالسيوف فقعدوا للناس يقاتلوهم بألسنتهم أو يجاهدونهم" أو كما قال" انتهى كلام البيهقي.


الهوامش:



[1] انظر المنتقى من كتاب القدر للحافظ البيهقي [ص/234-264].
[2] في الأصل "قطر" والصواب ما أثبتناه كما في ترجمته.
[3] أي في ملكه وقدرته.
[4] أخرجه المصنّف أيضًا في "شعب الإيمان" [1/202]، وعزاه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" [1/117] لابن منده.
[5] انظر الرقم التسلسلي [23] و[147].
[6] هنا انتهى النص من الوجه الأول من الورقة رقم 20، وابتدأ الوجه الثاني من الورقة رقم 80 بلفظ: "إبراهيم بن حميد" من غير ذكر لفظ الحديث أو عن.
[7] في الأصل "أحرص منه" فحذفنا كلمة "منه" لأنها وردت فيما بعد.
[8] انظر الرقم التسلسلي [147].
[9] انظر الرقم التسلسلي [50].
[10] كذا في الأصل، وفي "الأسماء والصفات" للمصنِف: عتبة.
[11] أخرجه المصنف في "الاسماء والصفات" [ص/332] وقال: "إنْ صحّ" اهـ، ثم قال: "قال أهل النظر: قوله: "بكف الإله" أي في ملك الإله وقدرته" اهـ.
[12] أخرج أوّله الطبراني في "المعجم الكبير" [9/100].
[13] سقطت من الأصل، انظر الرقم التسلسلي [164].
[14] في الأصل "الحسن" والصواب ما أثبتناه كما في ترجمته.
[15] وانظر الرقم التسلسلي [160] و[304].
[16] انظر الرقم التسلسلي [304].
[17] في الأصل "قطر" والصواب ما أثبتناه كما في ترجمته.
[18] أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" [6/220] وانظر الرقم التسلسلي [168].
[19] في الأصل: "عبيد الرحمن" مضروبًا على لفظ "الرحمن".
[20] في الأصل "سليمان" والصواب ما أثبتناه كما في ترجمته و"سنن الترمذي" و"مسند الطيالسي".
[21] معنى هذه الأولية الأولية أي بالنسبة لما بعده.
[22] أخرجه الترمذي في سننه: كتاب القدر: باب [18]، وأبو داود الطيالسي في مسنده [ص/79] عن عبد الواحد بن سليم، وانظر الرقم التسلسلي [169].
[23] في الأصل "لأنصرنه" ولا يستقيم المعنى بذلك، ولعل الصواب ما أثبتناه، قال ابن منظور في "لسان العرب" [مادة: ن ص1، 15/327] ما نصه: "وفي حديث ابن عباس: قال للحسين حين أراد العراق: لولا أني أكره لنصوتك أي أخذت بناصيتك ولم أدعك تخرج" اهـ.
[24] أخرجه ابن جرير في تفسيره [م7/ج11/ص82]، وابن أبي حاتم في تفسيره [6/1922-1923].
[25] أخرجه ابن جرير في تفسيره [م10/ج18/ص34].
[26] أخرجه ابن جرير في تفسيره [م14/ج28/ص123].
[27] أخرجه ابن جرير في تفسيره [م15/ج30/ص200].
[28] في المطبوع "عضك" وهو خلاف الأصل.
[29] كذا في الأصل، وقال المعلق في المطبوع: "في الأصل [ولم] وما أثبت من المستدرك للحاكم" اهـ، والذي أثبته في المتن "أوَ لَم". قلنا: لا حاجة إلى ما ذهب إليه فإن رواية الأصل سليمة موافقة لمعنى الحديث الذي أخرجه أحمد في مسنده [5/126] والبغوي في "شرح السنة" [13/120-121] واللفظ له: "سمع رجلاً قال: يال فلان، فقال له: اعضضْ بهَنِ أبيك، ولم يُكنِ، فقال له: يا أبا المنذر ما كنت فحاشًا، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من تعزّى بعزاء الجاهلية فأعِضّوه بهَنِ أبيه ولا تَكْنُوا".
[30] أخرجه الحاكم في "المستدرك" [2/405]، وابن أبي حاتم في تفسيره عن عكرمة بنحوه [9/2859-2860]، وانظر الرقم التسلسلي [224].
[31] أخرجه ابن جرير في تفسيره [م11/ج19/ص/144]، والمصنف أيضًا في "شعب الإيمان" [1/232-233].
[32] انظر الرقم التسلسلي [142].
[33] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير [19/338-339]، وأخرجه أحمد في طرق أخرى [4/92-93، 97، 98].
[34] سقطت من الأصل، وما أثبتناه من كتب الرجال.
[35] في الأصل تكررت كلمة أبي مرتين.
[36] أخرجه عبد الرزاق الصنعاني في تفسيره [1/65]، وابن جرير في تفسيره [م1/ج1/ص213].
[37] أخرجه ابن جرير في تفسيره [م10/ج18/ص/36].
[38] أخرجه أبو داود في سننه: كتاب السنة: باب لزوم السنة.
[39] أخرجه أبو داود في سننه: كتاب السنة: باب لزوم السنة.
[40] أخرجه ابن جرير في تفسيره [م11/ج19/ص115].
[41] أخرجه ابن جرير في تفسيره [م12/ج23/ص109]، وأخرجه أبو داود في سننه من طريق ءاخر: كتاب السنة: باب لزوم السنة.
[42] في الأصل "أخبر".
[43] في الاصل ما صورته "إسحاق بن سران"، وما أثبتناه من ترجمته، وقد روى عنه المصنف في كتابه هذا مرات عديدة.
[44] أخرجه أبو داود في سننه: كتاب السنة: باب لزوم السنة، وأخرجه ابن جرير في تفسيره [م7/ج12/ص143]، وابن أبي حاتم في تفسيره بنحوه [6/2095].
[45] في الأصل ما صورته: "سران".
[46] أخرجه أبو داود في سننه: كتاب السنة: باب لزوم السنة.
[47] في الأصل "و"، والصواب "عن" كما في سنن أبي داود، و"تحفة الأشراف" [13/167] للمزي.
[48] أخرجه أبو داود في سننه: كتاب السنة: باب لزوم السنة.
[49] كلمة "يقول" سقطت من الأصل وأثبتناها من السنن لأبي داود.
[50] أخرجه أبو داود في سننه: كتاب السنة: باب لزوم السنة.
[51] أخرجه الفَسَوي في "المعرفة والتاريخ" [2/47] عن أبي عامر الخزاز عن الحسن، وعن عوف عن الحسن.
[52] في الأصل "حازم" بالحاء المهملة والصواب بالخاء المعجمة كما في ترجمته، وكثيرًا ما يرد في الأصل أسماء مهملة من التنقيط فيلتبس الأمر على المعلق على المطبوع، وقد وقع هنا خطأ فاحش فحرف الأصل وأبدل الصواب بالخطإ، فقال ما نصه: "في الأصل [محمد] وما أثبت من مصادر ترجمته" اهـ، والذي أثبته المعلق [عمر بن حازم]، ولم يذكر المصادر التي زعم أنه رجع إليها، فتنبه.
[53] أخرجه عبد الرزاق في مصنفه [11/119]، وأخرجه يعقوب بن سفيان في "المعرفة والتاريخ" [2/44] من طريق ابن عون عن الحسن بلفظ: "من كذب بالقدر فقد كفر".
[54] في الأصل "سليمان" والصواب ما أثبتناه كما في "سنن أبي داود"، و"تحفة الأشراف" [13/192] للمزي.
[55] أخرجه أبو داود في سننه: كتاب السنة: باب لزوم السنة.
[56] نَحَلَهُ القول كمنَعه: نسبه إليه [انظر "القاموس" مادة ن ح ل، ص/1371].
[57] الشَّنان بالفتح البُغْضُ، لغةٌ في الشَّنآن [انظر "مختار الصحاح"/ مادة ش ن ن، ص/146].
[58] أخرجه أبو داود في سننه: كتاب السنة: باب لزوم السنة.
[59] في الأصل ما صورته "الغري"، والصواب ما أثبتناه كما في ترجمته.
[60] في الشعب: "بين".
[61] أخرجه المصنف في "شعب الإيمان" [7/140-141] عن منصور بن عبد الرحمن.
[62] في الأصل "الحسن بن عرفة عمر" والصواب ما أثبتناه كما في ترجمته من "السير" [17/265]، وتابع المعلق على المطبوع تصحيف الأصل وزاد في التحريف، فجاء عنده: "الحين بن عرفة وعمر بن برهان"، أما التحريف فزيادته حرف الواو قبل لفظ عمر، فجعله من مشايخ البيهقي. وانظر الرقم التسلسلي [472] فقد ورد على الصواب.
[63] أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" [4/245-246]، وانظر الرقم التسلسلي [161].
[64] في الأصل "سليمان" والصواب "سليم" كما في سنن الترمذي، وكتب الرجال.
[65] أخرجه الترمذي في سننه مع زيادة: كتاب القدر: باب [17].
[66] في لسان العرب: "ونعشَ الإنسان يَنعَشُه نعشًا: تداركه من هلكة. وقال ابن السكيت: نعشه الله أي رفعه". [مادة ن ع ش، 6/356].
[67] في لسان العرب: "الجرُّ الجذب، جرَّه يجرُّه جرًّا، واجترَّ واجدَرَّ، قلبوا التاء دالاً" اهـ [مادة: ج ر ر، 4/125].
[68] في الأصل "عبد" والصواب ما أثبتناه كما في ترجمته، وقد تصحف في المطبوع تبعًا للأصل.
[69] انظر "الدر المنثور" للسيوطي [8/444].
[70] تحرفت في المطبوع إلى "ذعير".
[71] في الأصل: "حارث بن شريح" والتصويب من كتب الرجال.
[72] في الأصل: "شريح" والتصويب من كتب الرجال.
[73] حَسَره يحسُرُه حَسْرًا: كشفه [انظر القاموس: مادة ح س ر، ص/479] وتحرفت في المطبوع إلى "محسن".
[74] الزيادة من "سنن أبي داود".
[75] في الأصل "قدرته" وما أثبتناه من "سنن أبي داود".
[76] أخرجه أبو داود في سننه: كتاب السنة: باب لزوم السنة.
[77] أو مغفل.
[78] كذا بالأصل.
[79] أخرجه الدولابي في "الكنى والأسماء" [2/108].
[80] أخرجه ابن جرير في تفسيره [م13/ج26/ص57]، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" [5/212-213].
[81] في الأصل "أبو جاد" والصواب ما أثبتناه كما في "تهذيب التهذيب" [10/327-328] للحافظ ابن حجر بعد البحث في تراجم رواة السند، وقد تصحفت في المطبوع تبعًا للأصل.
[82] كذا في الأصل، وفي "العقد الفريد" [2/380]: "قطعي هول".
[83] كذا بالأصل، ولعلها: الينبعي نسبة إلى ينبع وهي قرية بناحية المدينة.
[84] في الأصل "قالت".
[85] في شعب الإيمان [1/499] للمصنف: سهيل.
[86] في الأصل "ما كان لنا أن نعود في ملتكم إلا أن يشاء الله".
[87] في الأصل لا توجد هذه الزيادة، وقد أثبتناها من كتاب "السير" للذهبي [7/381].
[88] بيّن الحافظ البيهقي مراد الإمام الشافعي بهذا الكلام فقال ما نصه: "إنما أراد الشافعي رحمه الله بهذا الكلام حفصًا وأمثاله من أهل البدع، وهذا مراده بكل ما حكي عنه في ذم الكلام وذم أهله، غير أن بعض الرواة أطلقه وبعضهم قيده، وفي تقييد من قيده دليل على مراده" اهـ، [انظر مناقب الشافعي" 1/454].
[89] أخرجه المصنف في "مناقب الشافعي" [1/452-453].
[90] انظر "الأسماء والصفات" [ص/172-173]، ومناقب الشافعي [1/412-413].
[91] في "المناقب" المطبوع: حاضر.
[92] أخرجه المصنف في "مناقب الشافعي" [1/417-418].


الرسالة الأولى

رسالة الخليفة عمر بن عبد العزيز
رضي الله عنه المتوفى سنة 101هـ

ترجمة عمر بن عبد العزيز [1]



- اسمه ونسبه وكنيته وولادته:

هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أُميّة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قُصي بن كِلاب، أمير المؤمنين حقًّا، ويكنى أبا حفص، القُرشي الأموي المدني الزاهد العابد والخليفة الراشد أشجُّ بني أمية.

ولد بالمدينة المنورة سنة 61هـ أو 63هـ، وذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة من تابعي أهل المدينة.

- أمه أم عاصم:

هي أم عاصم ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأمها امرأة من بني هلال كان سيدنا عمر بن الخطاب اختارها زوجة لابنه عاصم لما رأى منها من التزام شرع الله تعالى، وتزوّج عبد العزيز بن مروان من أم عاصم فولدت له الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فجدُّه لأمه ليلى هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وولدت له أيضًا عاصمًا وأبا بكر ومحمدًا.

- زوجته وأولاده:

لما مات والده عبد العزيز بن مروان بعث إليه عمّه الخليفة عبد الملك بن مروان [2] وخلطه بأولاده وقدّمه على كثير منهم وزوّجه بابنته فاطمة التي قيل فيها:

بنتُ الخليفةِ والخليفةُ جدُّها *** أختُ الخلائفِ والخليفةُ زوجُها

وولدت له: إسحاق ويعقوب وموسى.

ولعمر بن عبد العزيز غير هؤلاء من الاولاد من أمهات غير فاطمة وهم كما ذكرهم ابن سعد في طبقاته:

عبد الله وقد ولي العراق وبكر وأم عمّار، وأمّهم: لميس بنت علي بن الحارث.

وإبراهيم وأمه: أم عثمان بنت شعيب بن زبّان.

وعبد الملك الذي توفي قبله والوليد وعاصم ويزيد وعبيه الله وعبد العزيز الذي ولي الحرمين وزبّان وأمينة وأم عبد الله، وأمهم: أم ولد. وزاد الذهبي في "السير" أربعة وهم: حفص وإسماعيل وإصبغ وءادم.

- صفته الخِلقية:

كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أبيض رقيق الوجه مليحًا جميلاً مهيبًا نحيف الجسم حسن اللحية غائر العينين قد خطّه الشيب بجبهته شجة، وكان سبب ذلك أنه دخل إلى إصطبل أبيه وهو غلام فضربه فرس فشجّه فجعل أبوه يمسح عنه الدم ويقول: إن كنتَ أشجّ بني أمية إنك إذًا لسعيد.

- بشارة عمر بن الخطاب بعمر بن عبد العزيز:

روى ابن سعد في "الطبقات" أن عمر بن الخطاب قال: "ليتَ شعري مَن ذو الشين من ولدي الذي يملؤها عدلاً كما ملئت جَورًا".

وروى أيضًا عن نافع قال: "كنتُ أسمع ابن عمر كثيرًا يقول: ليت شعري مَن هذا الذي مِن ولد عمر في وجهه علامة يملأ الأرض علامة".

وروى عن عبد الله بن دينار قال: "قال ابن عمر: إنّا كنّا نتحدث أن هذا الامر لا ينقضي حتى يلي هذه الأمة رجلٌ من ولد عمر يسير فيها بسيرة عمر بوجهه شامة، قال: فكنا نقول هو بلال بن عبد الله بن عمر وكانت بوجهه شامة قال: حتى جاء الله بعمر بن عبد العزيز وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب".

- نشأته:

كان من توفيق الله تعالى لعمر بن عبد العزيز أن حبب إليه العلم منذ الصغر وتطلّعت نفسه إلى منارات العلم ومجالس العلماء، فكان رضي الله عنه يقول: "لقد رأيتني وأنا بالمدينة فلام مع الغلمان، ثم تاقت نفسي إلى العلم، إلى العربية فالشعر، فأصبت منه حاجتي".

وكان يقعد مع مشايخ قريش ويتجنب شبابهم، وما زال ذلك دأبه حتى اشتهر بالعلم والعقل مع حداثة سنّه.

وكان من تعلقه بطلب العلم أن قال لوالده: "ترحّلني إلى المدينة فأقعد إلى فقهاء أهلها وأتأدب بآدابهم". فبعث به والده إلى المدينة يتأدب بها وكتب إلى صالح بن كيسان يتعاهده وكان يلزمه الصلوات، فأبطأ يومًا عن الصلاة فقال: ما حَبَسك؟ قال: كنت مُرَجَّلتي تُسَكِّن شعري، فقال: بلغ من تسكين شعرك أن تؤثره على الصلاة، وكتب بذلك إلى والده، فبعث عبد العزيز رسولاً إليه فما كلّمه حتى حلق شعره.

- مشايخه:

من أعيان مشايخ عمر بن عبد العزيز الذي تلقى عنهم العلم والاخلاق الحميدة واقتضى ءاثارهم وتأثّر بهم:

- الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنه الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاح فقال فيه: "عبد الله رجل صالح" رواه البخاري.

وقد تأثر بتقواه وصلاحه وتحرّيه للحق وظهر ذلك على شخصيته فقال عمر بن عبد العزيز يومًا لأمه: "أنا أحب أن أكون مثل خالي ابن عمر".

- الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

- العالم الثقة المأمون عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود رحمه الله تعالى، أحد فقهاء التابعين في المدينة المنورة، كان جامعًا للعلم كثير الحديث والعلم بالشعر، وقد أكثر عمر بن عبد العزيز الاخذ عنه حتى قال بعض العلماء عن عبيد الله: "هو معلّم عمر بن عبد العزيز".

- الإمام الزاهد سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رحمه الله تعالى، أحد فقهاء التابعين في المدينة المنورة الذين جمعوا بين العلم والعمل، كثير الرواية عن أبيه الصحابي الجليل عبد الله بن عمر.

- الإمام الثقة صالح بن كيسان رحمه الله تعالى، أحد فقهاء المدينة من التابعين الجامعين للحديث والفقه من ذوي الهيئة والمروءة.

وله مشايخ غير هؤلاء أخذ عنهم وتتلمذ على أيديهم.

- من روى عنه:

حدث عنه كثير منهم أبو سلمة وهو أحد شيوخه ورجاء بن حيوة وابن المنكدر والزهري وعنبسة بن سعيد وحميد الطويل وابناه عبد الله وعبد العزيز وأخوه زبّان بن عبد العزيز وكاتبه ليث بن أبي رُقية، وخلق سواهم.

- ثناء العلماء عليه:

أطبقت ءاراء الأئمة وشهاداتهم على أن عمر بن عبد العزيز أحد الأفراد من العلماء الراسخين، وهذه شذارت من أقوالهم: قال أستاذه عبيد الله بن عبد الله: "كانت العلماء عند عمر بن عبد العزيز تلامذة".

وقال مجاهد تلميذ ابن عباس: "أتينا عمر بن عبد العزيز ونحن نرى أنه سيحتاج إلينا، فما خرجنا من عنده حتى احتجنا إليه"، وقال أيضًا: "أتينا عمر نعلّمه فما برحنا حتى تعلمنا منه".

وقال الإمام مالك وابن عيينة: "عمر بن عبد العزيز إمام".

- نشره العلم في الأمصار:

لم يكن ليخفى على عمر بن عبد العزيزك أهمية نشر العلم بين المسلمين فلذلك قام بإرسال العلماء إلى مختلف البلدان والبوادي ليعلموا أهلها شرع الله ويفقهوهم فيه. فبعث إلى مصر نافعًا مولى ابن عمر وراويته إلى مصر يعلّمهم السنن.

وأرسل عشرة من فقهاء مصر من رجال التابعين إلى إفريقية ليفقهوا أهلها ويعلموا وينشروا بينهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم: أبو ثمامة بكر بن سوادة وعبد الرحمن بن رافع التنوخي وعبد الله بن يزيد المعافري وطلق بن جعبان وسعد بن مسعود وإسماعيل بن عبيد الله الأنصاري وإسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر وأبو سعيد جعثل بن هاعان الرعيني، بعثه إلى المغرب ليقرئهم القرءان وحبان بن أبي جبلة القرشي وموهب بن حي المعافري.

وأرسل الفقهاء إلى البدو ليعلموا الناس ويفقهوهم في دينهم.

وكذلك كان يرسل الرسائل إلى الأمصار الإسلامية في دولته الكبيرة يعلمهم فيها السنن والفقه ويأمرهم بإحياء ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته والالتزام بالشرع وترك ما خالفه.

وكان يأمر بإفشاء العلم وذم كتمانه وذلك واضح في كتابه إلى أبي بكر بن حزم: "ولتفشوا العلم ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرًا".

- زهده وعبادته:

كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه تقيًا ورعًا زاهدًا عادلاً متواضعًا لا يخاف في الله لومة لائم، يقوم الليل ويواظب على قراءة القرءان ويكثر من ذكر ربه وتسبيحه وتمجيده.

روى ابن الجوزي فقال: "لمّا رفع عمر بن عبد العزيز رأسه من السجود خلف المقام نظروا إلى موضع سجوده مبتلاً من دموعه".

وعن المغيرة بن حكيم قال: قالت لي فاطمة بنت عبد الملك امرأة عمر بن عبد العزيز: "يا مغيرة، إنه يكون في الناس مَن هو أكثر صلاة وصيامًا من عمر بن عبد العزيز، وما رأيت أحدًا قد أشد فَرَقًا من ربه من عمر، كان إذا صلى العشاء قعد في مسجده ثم يرفع يديه فلم يزل يبكي حتى تغلبه عينه ثم ينتبه فلا يزال يدعو رافعًا يديه يبكي حتى تغلبه عينه، يفعل ذلك ليله أجمع".

وروى كاتبه إسماعيل بن أبي حكيم فقال: "كان عمر بن عبد العزيز لا يدع النظر في المصحف كل يوم ولكنه لا يكثر".

وروى ابن الجوزي عن مقاتل بن حيان قال: "صليت خلف عمر بن عبد العزيز فقرأ: {وَقِفُوهُمْ إنَّهُم مسئولون} [سورة الصافات/24] فجعل يكررها لا يستطيع أن يجاوزها –يعني من البكاء-".

وكان يكثر أن يقول: اللهم سلِّم سلِّم.

وكان يصوم الاثنين والخميس والعشر وعاشوراء وعرفة.

وفي خلافته "كان يجمع كل ليلة الفقهاء فيتذاكرون الموت والقيامة والآخرة ثم يبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة".

- إمرته على الحرمين:

لما كثرت شكاوى أهل المدينة المنورة في عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك من ظلم وإليهم قام الوليد بعزله وولى عليهم ابن عمه وزوج أخته فاطمة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه الذي ساس أهلها بالعدل والرأفة والرحمة، فولى عمر المدينة سنة 87هـ [3]، فنزل دار جده مروان بن الحكم التي اتخذها مقرًا لإمارته وبقي أميرًا عليها حتى سنة 93هـ، وفرح أهل المدينة بهذا الخبر فأقبلوا عليه في داره يسلّمون عليه.

ولم يكد عمر يفرغ من تهنئة الناس له وترحيبهم به وسلامهم عليه حتى قام باختيار عشرة من فقهاء المدينة ليعاونوه بعد أن حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله: إني دعوتكم لأمر تؤجرون عليه وتكونون فيه أعوانًا على الحق، ما أريد أن أقطع أمرًا إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحدًا يتعدى أو بلغكم من عامل لي ظُلامة فأُجرِّج بالله على أحدٍ بلغه ذلك إلا أبلغني، وولى قضاء المدينة أبا بكر بن حزم أحد العلماء الثقات.

واستمر عمر بن عبد العزيز في نشر العدل بين الناس واتسعت رقعة سلطانه حيث ضم الخليفة إليه والطائف فأصبح واليًا على الحجاز كله، فانتشر العدل في الحجاز وحلّ الأمن والسكينة مما جعل عددًا من العلماء وبعض من وقع عليهم عَسف الحجاج وظلمه يفرون هاربين من العراق إلى المدينة لينعوا بعدل أميرها عمر بن عبد العزيز الذي أكرمهم وأحسن إليهم. ولم يكن الحجاج يرضى بذلك فكتب إلى الوليد يؤلبه على عمر وعزله، فاستجاب الوليد لذلك وعزل عمر عن إمرة الحجاز سنة 93هـ، وغادر المدينة النبوية بعد أن لبث في ولايتها زهاء سبع سنين، فقدم الشام ثم دمشق عاصمة الدولة الأموية، ولم يمنع ذلك عمر من استمراره في نشر الحق والعدل بل كان دأبه مناصحة الخلفاء وإرشادهم للخير.

- استخلافه:

كان الخليفة سليمان بن عبد الملك معجبًا بعمر بن عبد العزيز ومنهجه القويم المستقيم، وكانت تراوده فكرة وتطوف بمخيلته بين الحين والآخر أن يكون عمرُ هذا خليفة المسلمين من بعده، وكان عمر يشعر بهذا الهاجس من مواقف سليمان الذي كان يقول له: "يا عمر ما أهمني أمر قط إلا خطرتَ فيه على بالي"، وكما كان عمر يريد الابتعاد عن الخلافة فإنها أمانة يسأل عنها المرء يوم القيامة، فلذلك كان يقول لرجاء بن حيوة العالم الصالح ووزير سليمان: "يا رجاء، أُذَكِّرُكَ الله والإسلام أن تذكرني لأمير المؤمنين أو تشير بي، فوالله ما أقوى على هذا الأمر".

وفي الوقت نفسه كان سليمان يتخوّف من تولية عمر أن تقع فتنة بين عمر وأولاد عبد الملك كهشام ويزيد وغيرهما، ولما اجتمع سليمان في أيام مرضه برجاء سأله عن رأيه فيمن يكون أهلاً للخلافة فقال: رأيك يا أمير المؤمنين، وهو في قرارة نفسه يريد أن يستخلف عمر لهذا الأمر، فقال: كيف ترى في عمر بن عبد العزيز؟ فقال رجاء: أعلمه والله فاضلاً خيّارًا مسلمًا، فقال: هو على ذلك، والله لئن ولّيته ولم أُوَلّ أحدًا من ولد عبد الملك لتكوننَّ فتنة ولا يتركونه أبدًا يلي عليهم إلا أن أجعل أحدهم بعده، قال: فيزيد بن عبد الملك أجعله بعده فإن ذلك مما يسكنّهم ويرضون به، وكان يزيد يومئذ غائبًا على الموسم، فقال رجاء: رأيك. فكتب سليمان بيده: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز، إني وليته الخلافة من بعدي ومن بعده يزيد بن عبد الملك، فاسمعوا له وأطيعوا واتقوا الله ولا تختلفوا فيُطمَعَ فيكم، وختم الكتاب. وتوفي سليمان يوم الجمعة من شهر صفر سنة 99هـ عن خمس وأربعين سنة، وكانت خلافته سنتين وثمانية أشهر وصلى عليه عمر بن عبد العزيز واستخلف في ذلك اليوم وبايعه المسلمون بعد أن قُرئ عليهم كتاب سليمان الذي عهد فيه بالخلافة إلى عمر، ثم خطب فيهم عمر وحثهم على التقوى والتزام الكتاب والسنة وعلى التعاون معه فيما فيه مصلحة الأمة.

- عدله مع الرعية ومجمل سيرته:

لم يتوان عمر بن عبد العزيز منذ استلامه الخلافة عن التزام الحق وتطبيق الشرع واتباع السنة والاهتداء بهدي الخلفاء الراشدين والعمل بالشورى ونشر العدل والمساواة بين المسلمين. وأقام القضاة العلماء وحثهم على الحكم بين الناس بالقسط وعدم المحاباة. وصان الدماء وأقام الحدود، ودأب على رد المظالم ولم يخف في ذلك أحدًا واهتم بالتعليم وأصلح سياسة الدولة المالية فلا يدخل بيت المال إلا الحلال ولا ينفق منه إلا في وجه مشروع فيه مصلحة للأمة، وخرج في الطرقات مع مولاه مزاحم يتحسس أخبار الرعية ويسأل الركبان عن سيرة الولاة في الأمصار.

واعتنى بالتجارة والزراعة والاقتصاد والبناء والعمران، وألغى المكوس والضرائب، وناظر أرباب الطوائف والمذاهب الضالة كالقدرية والخوارج وأكثر من الرسائل إليهم في الرد عليهم ومقابلة وفودهم حتى رد كثيرًا منهم إلى الصواب ومن شذ منهم حاربه وأراح البلاد من شره.

وتابع الفتوحات وحركة الجهاد مع الرفق بالجيش وعدم إلقائه إلى المهالك، ودعا الملوك والزعماء والناس من غير المسلمين إلى الدخول في دين الله وأمر ولاته أن يهتموا بذلك، فدخل الناس في الإسلام أفواجًا في بلاد المغرب والهند والسند.

كل هذه الأعمال الكبيرة وغيرها حققها الخليفة الباهر في أيام خلافته القصيرة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

- محافظته على أموال المسلمين:

كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه حريصًا جدًا على أموال المسلمين، فيرى أنها أمانة ووديعة يجب الحفاظ عليها وعدم هدر أي فلس منها، والدولة مسؤولية عن ذلك وعلى رأسهم أمير المؤمنين، وكان يقول: "أنا حجيج المسلمين في أموالهم".

وكتب إليه أبو بكر بن حزم ثلاث حاجات في ثلاثة كتب، فردّ عليها أمير المؤمنين في صحيفة واحدة، جاء في ءاخرها: "أن أَدِقَّ قلمك وقارب بين سطورك واجمع حوائجك، فإني أكره أن أخرج من أموال المسلمين ما لا ينتفعون به، والسلام"، هنا بيت القصيد: "ما لا ينتفعون به"، فهو يكره أن يبدّد أي شئ من مال مهما قلّ شأنه لأنه ليس فيه نفع للمسلمين، فليست القضية قضية قرطاس يوفّر على الخزيمة أو ثمن قلم بل هي عدم صرف المال ولو قلّ فيما لا حاجة فيه.

وكتب إلى الآفاق في دولته العريضة: "أن لا يكتبن في طومار –أي الصحيفة- بقلم جليل ولا يمدّن فيه"، فكانت كتبه إنما هي شبر أو نحوه.

وقال لكاتبه: "أَدِقَّ القلم فإنه أبقى للقرطاس وأوجز للحروف".

ومما يدل على حفاظه على مال المسلمين أنه كان له سرجان: سراج من ماله يكتب عليه حوائجه وسراج لبيت المال يكتب عليه في مصالح المسلمين ولا يكتب على ضوئه لنفسه حرفًا واحدًا، فكان إذا فرغ من حاجات المسلمين أطفأ السراج ثم أسرج سراجه لقضاء حوائج نفسه.

ومرة أمر مولاه مزاحمًا أن يشتري به "رَحْلاً" لمصحفه، فأتاه برَحل فأعجبه فقال لمولاه: من أين أصبتَ هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين دخلتُ بعض الخزائن فوجدت هذه الخشبة فاتخذت منها رحلاً، قال: انطلقْ فقوّمه في السوق، فانطلق فقوَّموه نصف دينار، فرجع إلى عمر فأخبره قال: تُرانا إن وضعنا في بيت المال أنسلم منه؟ قال: إنما قوَّموه نصف دينار، قال: ضعْ في بيت المال دينارين.

تلك هي نظرة عمر رضي الله عنه لأموال الأمة ونهجه في المحافظة عليها مهما قلَّ مقدارها وتضاءلت قيمتها، قلّما كانت أو قرطاسًا أو شمعة أو خشبة، فأين هؤلاء الولاة اليوم من سيرة عمر بن عبد العزيز، فهل حافظوا على حقوق المسلمين وأموالهم؟

- رده الحقوق إلى أهلها:

كان الخلفاء من بني أمية من قبل عمر يعطون الأعطيات الجزيلة لأقاربهم وذويهم وغيرهم من الناس ولقد نال عمر من ذلك نصيبًا وافرًا، فلما صار عمر خليفة المسلمين أول عمل قام به هو ردّ هذه الأموال إلى بيت مال المسلمين فابتدأ بنفسه وثنَّى بأهله وعشيرته.

يقول سليمان بن موسى: "ما زال عمر بن عبد العزيز يردّ المظالم منذ يوم استخلف إلى يوم مات".

وأخذ يعمم ذلك في طول البلاد وعرضها ويأمر الولاة بذلك، وكان له في ذلك صولات وجولات مع أعيان عشيرته من بني أمية فما وجدوا منه إلا الصلابة في الحق ولم يخف في الله لومة لائم لأن همه كان مرضاة الله تعالى.

- وفاته رضي الله عنه:

توفي عمر بن عبد العزيز في شهر رجب سنة إحدى ومائة وله تسع وثلاثون سنة ونصف ودفن بدَيْر سِمعان وصلى عليه مسلمة بن عبد الملك، وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر، فملأ الأرض قسطًا وعدلاً وسن السنن الحسنة وأمات الطرائق السيئة.

وكان سبب وافته بسُمّ دسّ له في الطعام، فلقد تآمر عليه نفر من بني أمية لكونه شدد عليهم وانتزع كثيرًا مما في أيديهم مما قد غصبوه، وكان هو قد أهمل التحرُّز فأغروا به غلامًا له فدسّ السمّ في طعامه، وعندما جاءه الطبيب قال له: "هل أحسست بذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، قد عرفتُ حين وقع في بطني، ثم دعا غلامه فقال له: "ويحك ما حملك على أن سقيتني السم؟ قال: ألف دينار أعطيتُها، وعلى أن أُعتق، قال: هاتها فجاء بها فألقاها في بيت المال، وقال: اذهب حيت لا يراك أحد".

وعندما حان وقت أجله جاءته ملائكة الرحمة، قالت زوجته: فجعلت أسمعه يقول: مرحبًا بهذه الوجوه التي ليست بوجوه إنس ولا جان، ثم قرأ: {تلكَ الدارُ الآخرةُ نجعلُها للذينَ لا يُريدون عُلُوًّا في الأرضِ ولا فسادًا والعاقبةُ للمتقين} [سورة القصص/83] مرارًا ثم أطرق، فلبثتُ طويلاً لا يسمع له حس، فقلت لوصيف: ويحك انظر، فلما دخل –أي غرفة عمر- صاح فدخلتُ فوجدته ميتًا قد أقبل بوجهه على القبلة ووضع إحدى يديه على فيه والأخرى على عينه رضي الله عنه.


ثبوت هذه الرسالة عن عمر بن عبد العزيز



أثبت هذه الرسالة غير واحد من العلماء:

منهم من ساق هذه الرسالة كاملة بإسناده إلى عمر بن عبد العزيز كالحافظ أبي نعيم الأصبهاني الذي ذكرها في كتابه "الحلية" [4].

ومنهم من نقل منها بعض العبارات، كالحافظ ابن الجوزي الحنبلي في كتابه الذي ألفه في سيرة عمر بن عبد العزيز، وذكر سبب عدم نقلها بكاملها فقال [5]: "وهذه رسالة مروية عن عمر بن عبد العزيز، وجدت أكثر كلماتها لم تضبطها النقلة على الصحة، فنتقيت منها كلمات صالحة" اهـ.

ومنهم من أشار إليها كالشيخ أبي منصور البغدادي في كتابه "أصول الدين" [6] حيث قال: "أول متكلمي أهل السنة من التابعين عمر بن عبد العزيز، وله رسالة بليغة في الرد على القدرية" اهـ.

الهوامش:



[1] من مصادر ترجمته: "سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز" لابن الجوزي، "سير عمر بن عبد العزيز" لابن عبد الحكم، "الطبقات الكبرى" [5/253]، سير أعلام النبلاء [5/114]، "حلية الأولياء" [5/253].
[2] هو أبو الوليد عبد الملك بن مروان خامس خلفاء بني أمية، ولد سنة 26هـ وتوفي سنة 86هـ.
[3] وفي بعض المصادر سنة 86هـ.
[4] انظر "حلية الاولياء" [5/346].
[5] سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز [ص/85-86].
[6] أصول الدين [ص/307].


الرسالة



حدثنا [1] أبو حامد بن جبلة، ثنا محمد بن إسحاق السراج [2]، ثنا أبو الأشعث أحمد بن المقدام [3]، ثنا محمد بن بكر البُرساني [4]، ثنا سليم بن نُفَيع [5] القرشي عن خلف أبي الفضل القرشي عن كتاب عمر بن عبد العزيز.

إلى النفر الذين كتبوا إليّ بما لم يكن لهم بحقّ في ردّ كتاب الله وتكذيبهم بأقداره النافذة في علمه السابق الذي لا حدّ له إلا إليه، وليس لشئ مَخرج منه، وطَعْنهم في دين الله وسنة رسوله القائمة في أمته:

أما بعد، فإنكم كتبتم إليّ بما كنتم تستترون فيه قبل اليوم في رد علم الله والخروج منه إلى ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوّف على أمته من التكذيب بالقدر، وقد علمتم أنّ أهل السنة كانوا يقولون: "الاعتصام بالسنة نجاة، وسينقص العلم نقصًا سريعًا" [6]، وقول عمر بن الخطاب وهو يعظ الناس: "إنه لا عُذر لأحد عند الله بعد البيّنة بضلالة ركبها حسبها هدًى ولا في هدًى تركه حسبه ضلالة. قد تبيّنت الأمور وثبتت الحجة وانقطع العذر". فمن رغب عن أنباء النبوة وما جاء به الكتاب تقطعت من يديه أسباب الهدى ولم يجد له عصمة ينجو بها من الردى.

وإنكم ذكرتم أنه بلغكم أني أقول إن الله قد علم ما العباد عاملون وإلى ما هم صائرون، فأنكرتم ذلك عليّ وقلتم إنه ليس يكون ذلك من الله في علم حتى يكون ذلك من الخلق عملاً [7]، فكيف ذاك كما قلتم؟ والله يقول: {إنَّا كاشِفوا العذابِ قليلاً إنَّكُمْ عائِدونَ} [سورة الدخان/15] يعني العائدين في الكفر، وقال: {ولوْ رُدُّوا لَعَادوا لِما نُهُوا عنهُ وإنَّهُم لكاذبون} [سورة الأنعام/28].

فزعمتم بجهلكم في قول الله: {فمن شاءَ فليؤمن ومَن شاءَ فليَكفُر} [سورة الكهف/29] أنَّ المشيئة في أيّ ذلك أحببتم إليكم [8] من ضلالة أو هدى والله يقول: {وما تشاءونَ إلا أنْ يشاءَ اللهُ ربُّ العالمين} [سورة التكوير/29] فبمشيئة الله لهم شاؤا، ولو لم يشأ لم ينالوا بمشيئتهم من طاعته شيئًا، قولاً ولا عملاً، لأنّ الله لم يملّك العباد ما بيده ولم يفوّض إليهم ما يمنعه من رسله. فقد حرصت الرسل على هدى الناس جميعًا فما اهتدى منهم إلا من هداه الله، ولقد حرص إبليس على ضلالتهم جميعًا فما ضلّ منهم إلا من كان في علم الله ضالاً.

وزعمتم بجهلكم أنّ علم الله ليس بالذي يضطر العباد إلى ما عملوا من معصيته ولا بالذي يصدّهم عما تركوا من طاعته، ولكنه سيستطيعون تركها. فجعلتم علم الله لغوًا، تقولون: لو شاء العبد لعمل بطاعة الله وإن كان في علم الله أنه غير عامل بها، ولو شاء ترك معصيته وإن كان في علم الله أنه غير تارك لها. فأنتم إذا شئتم أصبتموه وكان علمًا، وإذا شئتم رددتموه وكان جهلاً، وإن شئتم أحدثتم من أنفسكم علمًا ليس في علم الله وقطعتم به علم الله عنكم. وهذا ما كان ابن عباس يعدّه للتوحيد نقصًا وكان يقول: "إن الله لم يجعل فضله ورحمته هَمَلاً بغير قَسم منه ولا احتظار ولم يبعث رُسُله بإبطال ما كان في سابق علمه". فأنتم تقرّون بالعلم في أمر وتنقضونه في ءاخر، والله يقول {يعلمُ ما بينَ أيديهم وما خلفهم ولا يُحيطونَ بشئٍ من علمهِ إلا بِما شاءَ} [سورة البقرة/255]. فالخلق صائرون إلى علم الله ونازلون عليه ليس لهم دونه مُعصر ولا لهم عنه محيص، وليس بين علم الله وبين شئ هو كائنٌ حجابٌ يحجبه عنه ولا يحول دونه، إنه عليم حكيم.

وقلتم: لو شاء لم يعذّب بعمل بغير ما أخبر الله في كتابه عن قوم: {ولَهُم أعمالٌ من دونِ ذلكَ هُمْ لها عاملون} [سورة المؤمنون/63] وأنه سيمتعهم قليلاً: {ثمَّ يَمَسُّهُم مِنَّا عذابٌ أليمٌ} [سورة هود/48]، فأخبر أنهم عالمون قبل أن يعملوا وأخبر أنه معذبهم قبل أن يُخلقوا.

وتقولون أنتم: إنهم لو شاؤا خرجوا من علم الله في عذابهم إلى ما لم يعلم من رحمته لهم، ومن زعم ذلك فقد عادى كتاب الله بالرد. ولقد سمّى الله رجالاً من الرسل بأسمائهم وأعمالهم في سابق علمه فما استطاع ءاباؤهم لتلك الأسماء تغييرًا وما استطاع إبليس بما سبق لهم في علمه من الفضل تبديلاً، فقال: {واذكر عندنا إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ أولي الأيدي والأبصار* إنَّا أخلصناهم بخالصةٍ ذكرى الدار} [سورة ص/45-46]. فالله أعزَّ في قدرته وأمنعُ من أن يملك أحدًا إبطال علمه في شئ من ذلك، فهو المسمى لهم بوحيه الذي: {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيمٍ حميدٍ} [سورة فصلت]، أو أن يُشرك في خلقه أحدًا أو أن يُدخل في رحمته من قد أخرجه منها أو أن يُخرج منها من قد أدخله فيها" [9].

وقد أعظم بالله الجهلَ من زعم أن العلم كان بعد الخلق، بل لم يزل الله وحده بكل شئ عليمًا وعلى كل شئ شهيدًا قبل أن يخلق شيئًا وبعدما خلق لم ينقص علمه في بدئهم ولم يزد بعد أعمالهم، ولا تغيّر بالحوائج [10] التي قطع بها دابر ظلمهم، ولم يملّك إبليس هدى نفسه ولا ضلالة غيره. وقد أردتم بقذف مقالتكم إبطال علم الله في خلقه وإهمال عبادته، وكتاب الله قائم بنقض بدعتكم وإفراط قذفكم. ولقد علمتم أن الله بعث رسوله والناسُ يومئذ أهل شرك، فمن أراد الله له الهدى لم تَحُلْ ضلالته التي كان فيها دون إرادة الله له، ومن لم يرد الله له الهدى تركه في الكفر ضالاً فكانت ضلالته أولى به من هداه.

فزعمتم أن الله أثبت في قلوبكم الطاعة والمعصية، فعلمتم بقدرتكم بطاعته وتركتم بقدرتكم معصيته، وأن الله خلوٌ من أن يكون يختص أحدًا برحمته أو يحجز أحدًا عن معصيته. وزعمتم أن الشئ الذي يقدّر إنما هو عندكم اليُسر والرخاء والنعمة، وأخرجتم منه الأعمال. وأنكرتم أن يكون سبق لأحد من الله ضلالة أو هدًى وأنكم الذي هديتم أنفسكم من دون الله وأنكم الذين حجزتموها عن المعصية بغير قوة من الله ولا إذن منه، فمن زعم ذلك فقد غلا في القول لأنه لو كان شئ لم يسبق في علم الله وقدره لكان لله في ملكه شريك يُنفذ مشيئته في الخلق من دون الله والله يقول: {حَبَّبَ إليكم الإيمانَ وزينَّاهُ في قلوبكم} [سورة الحجرات/7] وهم له قبل ذلك كارهون {وكرَّهَ إليكُم الكفرَ والفُسوقَ والعصيان} وهم له قبل ذلك محبّون وما كانوا على شئ من ذلك لأنفسهم بقادرين.

ثم أخبرنا بما سبق لمحمد صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه والمغفرة له [11] ولأصحابه فقال: {أشِدَّاءُ على الكفارِ رُحماءُ بينهم} [سورة الفتح/29]، وقال: {ليغفرَ لكَ ما تقدَّمَ من ذنبكَ وما تأخَّرَ} [سورة الفتح/2]، [فلولا علمه ما] [12] غفرها الله له قبل أن يعملها. ثم أخبرنا بما هم عالمون [ءامنون] [13] قبل أن يعملوا وقال: {تراهُم رُكَّعًا سُجَّدًا يبتغونَ فضلاً منَ اللهِ ورِضوانًا} [سورة الفتح/29]، فضلاً سبق لهم من الله قبل أن يُخلقوا ورضوانًا [13] عنهم قبل أن يؤمنوا. وتقولون أنتم أنهم قد كانوا ملكوا رد ما أخبر الله عنهم أنهم عاملون وأن إليهم أن يقيموا على كفرهم مع قوله، فيكون الذي أرادوا لأنفسهم من الكفر مفعولاً ولا يكون لوحي الله فيما اختار تصديقًا، بل "للهِ الحجة البالغة"، وفي قوله {لولا كتابٌ منَ اللهِ سبقَ لمسَّكم فيما أخذتم عذابٌ عظيمٌ} [سورة الأنفال/68] فسبق لهم العفو من الله فيما أخذوا قبل أن يؤذن لهم، وقلتم: لو شاءوا خرجوا من علم الله في عفوه عنهم إلى ما لم يعلم من تركهم لما أخذوا، فمن زعم ذلك فقد غلا وكذب.

ولقد ذكر الله بشرًا كثيرًا وهم يومئذ في أصلاب الرجال وأرحام النساء فقال: {وءاخرينَ منهم لمَّا يلحقوا بهم} [سورة الجمعة/3] وقال: {والذينَ جاءو من بعدهم يقولونَ ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذينَ سبقونا بالإيمان} [سورة الحشر/10]، فسبقت لهم الرحمة من الله قبل أن يُخلقوا والدعاء لهم بالمغفرة ممن لم يسبقهم بالإيمان من قبل أن يدعوا [لهم].

ولقد علم العالمون بالله أنّ الله لا يشاء أمرًا فتحول مشيئة غيره دون بلاغ ما شاء. ولقد شاء لقوم الهدى فلم يُضلهم أحد، وشاء إبليس لقوم الضلالة فاهتدوا. وقال لموسى وأخيه: {اذهبا إلى فرعونَ إنهُ طغى* فقولا لهُ قولاً ليِّنًا لعلهُ يتذكَّرُ أو يخشى} [سورة طه/43-44]، وموسى في سابق علمه أنه يكون لفرعون عدوًّا وحزنًا فقال: {ونُرِيَ فرعونَ وهامانَ وجُنودهما منهم ما كانوا يحذرون} [سورة القصص/6]. فتقولون أنتم: لو شاء فرعون كان لموسى وليًّا وناصرًا، والله يقول: {ليكونَ لهم عدوًّا وحَزَنًا} [14] [سورة القصص/8] وقلتم: لو شاء فرعون لامتنع من الغرق، والله يقول: {إنهم جُندٌ مغرَقون} [سورة الدخان/24]. مثبت ذلك عنده في وحيه في ذكر الأولين كما قال في سابق علمه لآدم قبل أن يخلقه: {إني جاعلٌ في الأرضِ خليفةٌ} [سورة البقرة/30] فصار إلى ذلك بالمعصية [15] التي ابتُلي بها، وكما كان إبليس في سابق علمه أنه سيكون: {مذمومًا مدحورًا} [سورة الإسراء/18] وصار إلى ذلك بما ابتلي به من السجود لآدم فأبى [16]. فتلقى ءادم بالتوبة فرُحم وتلقى إبليس باللعنة فغوى، ثم أهبط ءادم إلى ما خلق له من الأرض مرحومًا متوبًا عليه وأهبط إبليس مذمومًا مدحورًا مسخوطًا عليه.

وقلتم أنتم: إن إبليس وأولياءه من الجن قد كانوا ملكوا ردّ علم الله والخروج من قسمه الذي أقسم به إذ قال: {فالحقُّ والحقَّ أقولُ* لأملأنَّ جهنمَ منكَ وممن تبِعَكَ منهم أجمعين} [سورة ص/84-85] حتى لا ينفذ له علم إلا بعد مشيئتهم، فماذا تريدون بهلكة أنفسكم في ردّ علم الله؟ فإن الله جل وعلا لم يُشهدكم خلق أنفسكم، فكيف يحيط جهلكم بعلمه؟ وعلم الله ليس بمقصر عن شئ هو كائن، ولا يسبق علمه في شئ فيقدر أحد على رده. فلو كنتم تنتقلون في كل ساعة من شئ إلى شئ هو كائن لكانت مواقعكم عنده. ولقد علمت الملائكة قبل خلق ءادم ما هو كائن من العباد في الأرض من الفساد وسفك الدماء فيها، وما كان لهم في الغيب من علم، فكان في علم الله الفساد وسفك الدماء، وما قالوه تخرّصًا إلا بتعليم العليم الحكيم لهم فظن ذلك منهم [وقد] أنطقهم به.

فأنكرتم أن الله أزاغ قومًا قبل أن يزيغوا وأضلّ قومًا قبل أن يضلوا، وهذا مما لا يشك فيه المؤمنون بالله أن الله قد علم قبل أن يخلق العباد مؤمنهم من كافرهم وبرهم من فاجرهم. وكيف يستطيع عبد هو عند الله مؤمن أن يكون كافرًا أو هو عند الله كافر أن يكون مؤمنًا؟ والله يقول: {أوَ مَن كانَ مَيِّتًا فأحْيَيْناهُ وجعلنا لهُ نورًا يمشي بهِ في الناسِ كَمَن مثَلُهُ في الظُّلماتِ ليسَ بخارجٍ منها} [سورة الأنعام/122]، فهو في الضلالة ليس بخارج منها أبدًا إلا بإذن الله.

ثم ءاخرون {اتخذوا} [سورة المجادلة/16] من بعد الهدى {عِجلاً جَسَدًا} [سورة الأعراف/148] فضلّوا به فعفا عنهم لعلهم يشكرون، فصاروا من {قومِ موسى أمَّةٌ يَهدونَ بالحقِّ وبهِ يعدِلون} [سورة الأعراف/159] وصاروا إلى ما سبق لهم. ثم ضلّت ثمود بعد الهدى فلم يعف عنهم ولم يُرحموا فصاروا في علمه إلا {صَيحةً واحدةً فإذا هُمْ خامدون} [سورة يس/29]، فنفذوا إلى ما سبق لهم أنَّ صالحًا رسولهم وأن الناقة {فتنةً لهم} [سورة القمر/27] وأنه مميتهم كفارًا، {فعَقروها} [سورة هود/65]. وكان إبليس من التسبيح والعبادة فابتُلي فعصى فلم يُرحم، وابتلي ءادم فعصى فرُحم. فأين كانت الاستطاعة عند ذلك؟ هل كانت تُغني شيئًا فيما كان من ذلك حتى لا يكون، أو تُغني فيما لم يكن حتى يكون، فتعرف لكم بذلك حجة؟ بل الله أعزُّ مما تصفون وأقدر.

وأنكرتم أن يكون سبق لأحد من الله ضلالة أو هدى، وإنما علمه بزعمكم حافظ وأن المشيئة في الأعمال إليكم، إن شئتم أحببتم الإيمان فكنتم من أهل الجنة. ثم جعلتم بجهلكم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جاء به أهل السنة وهو مصدّق للكتاب المنزّل أنه عن ذنبٍ مضاهٍ دنبًا خبيثًا في قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله عمر: "أرأيتَ ما نعمل أشئٌ قد فُرغ منه أم شئ نأتنفه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "بل شئ قد فُرغ منه" [17] فطعنتم بالتكذيب له ونفرتم من الله في علمه إذ قلتم: إن كنا لا نستطيع الخروج منه فهو الجبر والجبر عندكم الحيف، فسميتم نفاذ علم الله في الخلق حيفًا [18].

وقد جاء الخبر أن الله خلق ءادم فنثر ذريته في يده فكتب أهل الجنة وما هم عاملون، وكتب أهل النار وما هم عاملون. وقال سهل بن حنيف يوم صفين [19]: "أيها الناس، اتهموا رأيكم على دينكم [20]، فوالذي نفسي بيده، لقد رأيتنا يوم أبي جندل ولو نستطيع رد أمر رسول الله لرددناه [21]، والله ما وضعنا سيوفنا على عواتقنا إلا أسهلن بنا على أمر نعرفه قبل أمركم هذا [22]" [23].

ثم أنتم بجهلكم قد أظهرتم دعوة حق على تأويل باطل تدعون الناس إلى ردّ علم الله فقلتم: "الحسنة من الله والسيئة من أنفسنا" وقال أئمتكم وهم أهل السنة: "الحسنة من الله في قدر قد سبق والسيئة من أنفسنا في علم قد سبق". فقلتم: لا يكون ذلك حتى يكون بدؤها من أنفسنا كما بدء السيئة من أنفسنا. وهذا رد الكتاب منكم ونقض الدين، وقد قال ابن عباس رضي الله عنه حين نجم القول في القدر: "هذا أوّل شرك هذه الأمة. والله، ما ينتهي بهم سوء رأيهم حتى يُخرجوا الله من أن يكون قدّر خيرًا كما أخرجوه من أن يكون قدّر شرًا".

فأنتم تزعمون بجهلكم أن من كان في علم الله ضالاً فاهتدى فهو بما ملَكَ ذلك حتى كان في هداه ما لم يكن الله علمه فيه، وأنّ من شُرح صدره للإسلام فهو مما فوّض إليه قبل أن يشرحه الله له، وأنه إن كان مؤمنًا فكفر فهو مما شء لنفسه وملكَ من ذلك لها، وكانت مشيئتهُ في كفره أنفذَ من مشيئة الله في إيمانه، بل أشهد أنه مَنْ عمل حسنةً فبغير معونة كانت من نفسه عليها، وأنّ من عمل سيئة فبغير حجة كانت له فيها، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء وأن الله لو أراد أن يهدي الناس جميعًا لنفذ أمره فيمن ضلّ حتى يكون مهتديًا [24].؟

فقلتم: بمشيئته شاء لكم تفويض الحسنة إليكم وتفويض السيئة، ألقى عنكم سابقَ علمه في أعمالكم وجعل مشيئته تبعًا لمشيئتكم. ويحكم! فوالله، ما أمضى لبني إسرائيل مشيئتهم حين أبوا أن يأخذوا ما ءاتاهم بقوةٍ حتى نتق: {الجبلَ فوقهم كأنهُ ظُلَّةٌ} [سورة الأعراف/171]، فهل رأيتموه أمضى مشيئته لمن كان قبلكم في ضلالته حين أراد هداه حتى صار إلى أن أدخله بالسيف في الإسلام كرهًا بموقع علمه بذلك فيه؟ أم هل أمضى لقوم يونس مشيئتهم حين أبو أن يؤمنوا حتى أظلّهم العذاب فآمنوا وقُبِل منهم، وردّ على غيرهم الإيمان فلم يقبل منهم. وقال: {فلمَّا رأوا بأسنا قالوا ءامنّا باللهِ وحدَهُ وكفرنا بما كُنَّا بهِ مشركينَ* فلمْ يَكُ ينفَعُهُم إيمانهم لمَّا رأوا بأسنا سُنَّتَ اللهِ التي قد خلَتْ في عبادهِ} [سورة غافر/84-85] أي علِم الله الذي قد خلا في خلقه: {وخَسِرَ هُنالِكَ الكافرون} [سورة غافر/85] وذلك كان موقعهم عنده أن يهلكوا بغير قبول منهم بل الهدى والضلالة والكفر والإيمان والخير والشر بيد الله يهدي من يشاء ويذر من يشاء {في طُغيانهم يعمهون} [سورة الأعراف/186]. كذلك قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {ربِّ اجعلْ هذا البلدَ ءامِنًا واجنُبْني وبنيَّ أن نعبدَ الأصنامَ} [سورة إبراهيم/35]، وقال: {ربَّنا واجعلنا مُسلِمَينِ لكَ ومن ذُرِّيَّتنا أمةً مسلمةً لكَ} [سورة البقرة/128]، أي أنّ الإيمان والإسلام بيدك وأن عبادة مَن عبدَ الأصنام بيدك، فأنكرتم ذلك وجعلتموه مُلكًا بأيديكم دون مشيئة الله عز وجل.

وقلتم في القتل إنه بغير أجل وقد سماه الله لكم في كتابه فقال ليحيى: {وسلامٌ عليهِ يومَ وُلِدَ ويومَ يموتُ ويومَ يُبعثُ حيًّا} [سورة مريم/15]، فلم يمت يحيى إلا بالقتل، وهو موت كما مات من قُتل شهيدًا أو قتل عمدًا أو قتل خطأ كمن مات بمرض أو بفجأة، كلّ ذلك موت بأجلٍ استوفاه ورزقٍ استكمله وأثرٍ بلغه ومضجع برز إليه، {وما كانَ لنفسٍ أن تموتَ إلا بإذنِ اللهِ كِتابًا مؤَجَّلاً} [سورة ءال عمران/145] ولا تموت نفس ولها في الدنيا عمر ساعةٍ إلا بلغته ولا موضعُ قدم إلا وطأته ولا مثقالُ حبةٍ من رزق إلا استكملته ولا مضجعٌ حيث كان إلا برزت إليه، يصدّق ذلك قول الله عز وجل: {قُل للذينَ كفروا ستغلبونَ وتُحشرونَ إلى جهنمَ وبِئسَ المِهاد} [سورة ءال عمران/12]، فأخبر الله بعذابهم بالقتل في الدنيا وفي الآخرة بالناس وهم أحياء بمكة. وتقولون أنتم: إنهم قد كانوا ملكوا ردّ علم الله في العذابَين اللذَين أخبر الله ورسوله أنهما نازلان بهم، فقال: {ثانيَ عِطْفِهِ ليُضِلَّ عن سبيلِ اللهِ لهُ في الدنيا خِزْيٌ} [سورة الحج/9] يعني القتل يوم بدر {ونُذيقهُ يومَ القيامةِ عذابَ الحريق} [سورة الحج/9]. فانظروا إلى ما أرداكم فيه رأيكم كتابًا سبق في علمه بشقائكم إن لم يرحمكم.


ثم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على ثلاثة أعمال: الجهاد ماضٍ منذ يوم بعث الله رسوله إلى يوم تقوم فيه عصابة من المؤمنين يقاتلون الدجال لا ينقض ذلك جور جائر ولا عدل عادل، والثانية: أهل التوحيد لا تكفروهم بذنب ولا تشهدوا عليهم بشرك ولا تخرجوهم من الإسلام بعمل، والثالثة: المقادير كلها خيرها وشرها من قدر الله" [25]. فنقضتم من الإسلام جهاده وجردتم شهادتكم على أمتكم بالكفر وبرئتم منهم ببدعتكم وكذبتم بالمقادير كلها والآجال والأعمال والأرزاق، فما بقيت في أيديكم خصلة بي الإسلام عليها إلا نقضتموها وخرجتم منها.



الهوامش:



[1] القائل "حدثنا" هو الحافظ أبو نعيم.
[2] هو الحافظ أبو العباس محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن مهران الخراساني النيسابوري، سمع من قتية بن سعيد وداود بن رشيد وأبي همّام السكوني وهناد بن السري وأحمد بن المقدام وخلق سواهم، روى عنه البخاري ومسلم بشئ يسير خارج الصحيحين، وأبوحاتم الرازي أحد شيوخه وأبو بكر بن أبي الدنيا والحافظ أبو علي النيسابوري وغيرهم، توفي سنة 313هـ. انظر سير أعلام النبلاء [14/388]، تاريخ بغداد [1/248].
[3] هو الحافظ أبو الأشعث أحمد بن المقدام بن سليمان بن أشعث العجلي البصري، سمع حماد بن زيد وفضيل بن عياض ومعتمر بن سليمان وجماعة، حدث عنه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه والبغوي وخلق كثير، توفي سنة 253هـ. [انظر سير أعلام النبلاء 12/219، تاريخ بغداد 5/162، تهذيب التهذيب 1/70].
[4] هو أبو عبد الله محمد بن بكر بن عثمان البرساني الأزدي البصري، حدّث عن ابن جريج وهشام بن حسان ويونس بن يزيد الأيلي وشعبة وغيرهم، وحدث عنه أحمد وبندار وهارون الحمال وعبد بن حميد وعدد كثير، قال الحافظ في "التقريب": "صدوق قد يخطئ" اهـ، ووثقه ابن معين وغيره، توفي سنة 204هـ. [انظر سير أعلام النبلاء [9/421]، تهذيب التهذيب 9/67].
[5] في "سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز" [ص/85] لابن الجوزي: "سليمان بن نفيع"، ولم نقف عليه.
[6] كذا في "سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز" [ص/58]، وفي "حلية الأولياء" [5/346]: "وسيقبض العلم قبضًا سريعًا".
[7] هذا كفرٌ بإجماع الأمة لأن فيه نسبة الجهل إلى رب العزة، سبحانه وتعالى عما يقول الكافرون علوًا كبيرًا.
[8] في "الحلية": فعلتم.
[9] هذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي في سننه وصححه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان، فقال: "أتدرون ما هذان الكتابان؟" فقلنا: لا يا رسول الله إلا أن تخبرنا، فقال للذي في يده اليمنى: "هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماءُ أهل الجنة وأسماء ءابائهم وقبائلهم ثم أُجملَ على ءاخرهم فلا يُزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدًا"، ثم قال للذي في شماله: "هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماءُ ءابائهم وقبائلهم ثم أُجمِلَ على ءاخرهم فلا يُزاد ولا ينقص منهم أبدًا" [سنن الترمذي: كتاب القدر: باب ما جاء أن الله كتب لأهل الجنة وأهل النار، 2141].
[10] في "لسان العرب": "والجَوْحة والجائحة: الشدة والنازلة العظيمة التي تجتاح المال من سنةٍ أو فتنة، وكل ما استأصله فقد جاحه واجتاحه، وجاحَ الله ماله وأجاحه بمعنًى أي أهلكه بالجائحة" اهـ [مادة ج و ح، 2/431].
[11] قال بعضهم: ليحفظك الله من ذنبك فيما مضى وما بقي من عمرك، ولكن القول المعتمد أن الأنبياء تجوز عليهم الصغائر التي ما فيها خسة.
[12] ما بين عاقفتين من "الحلية" [5/348]، والذي في نسخة "شتايز": "فكرمًا" وما أثبتناه مناسب لسياق الكلام.
[13] ليس المراد أن الكافر قبل أن يسلم يكون في حالة الرضا عند الله بل مراده أن الله عز وجل سبق علمه أن هذا الشخص سيسلم وتحسن حالته ويكون عند الله من المرضيين.
[14] ءال فرعون إنما التقطوا سيدنا موسى عليه السلام ليكون لهم قرّة عين ومعينًا وناصرًا، ولكن كانت عاقبته أن صار لهم عدوًا وحزَنًا.
[15] هذه المعصية ليست من الكبائر وليس فيها خسة ولا دناءة نفس لأن الأنبياء منزهون عن ذلك، بل كانت معصية صغيرة تاب منها وتقبّل الله توبته، والذي حصل من سيدنا ءادم عليه السلام أنه أكل من الشجرة التي نهاه الله عنها، فتنبّه.
[16] يُشير إلى قوله تعالى: {وإذْ قُلنا للملائكة اسجدوا لآدمَ فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكانَ من الكافرين} [سورة البقرة/34].
[17] أخرجه عن عمر: الترمذي في سننه: كتاب القدر: باب ما جاء في الشقاء والسعادة، وأحمد في مسنده [1/29، 2/52 و77]، وقد ورد هذا الحديث من طرق أخرى عن غير علي رضي الله عنه.
[18] حاف يحيف حيفًا جار وظلم. المصباح المنير [ص/61].
[19] هي مدينة قديمة على شاطئ الفرات بين الرقة ومنبج كانت بها الوقعة المشهورة بين عليّ ومعاوية. [الفتح، 8/588].
[20] قال الحافظ: "أي لا تعملوا في أمر الدين بالرأي المجرد الذي لا يستند إلى أصل الدين، وهو كنحو قول علي فيما أخرجه أبو داود بسند حسن: لو كان الدين بالرأي لكن مسح الخف أولى من أعلاه" اهـ [13/288-289].
وخطاب سهل بن حنيف هنا للذين أنكروا على سيدنا علي قبوله وقف القتال مع معاوية والاحتكام إلى القرءان، وهؤلاء المنكرين خرجوا عن طاعة سيدنا عليّ وقاتلوه فسُموا بالخوارج، فقال لهم سهل بن حنيف: "اتهموا رأيكم" قال الحافظ: "أي في هذا الرأي لأن كثيرًا منهم أنكروا التحكيم وقالوا لا حكم إلا لله، فقال علي: كلمة حق أريد بها باطل وأشار عليهم كبار الصحابة بمطاوعة علي وأن لا يخالفوا ما يشير به لكونه أعلم بالمصلحة، وذكر لهم سهل بن حنيف ما وقع لهم بالحديبية وأنهم رأوا يومئذ أن يستمروا على القتال ويخالفوا ما دعوا إليه من الصلح ثم ظهر أن الأصلح هو الذي كان شرع النبي صلى الله عليه وسلم فيه" اهـ [8/588-589].
[21] قال القسطلاني: "مراد سهل بن حنيف بما ذكره أنهم أرادوا يوم الحديبية أن يقاتلوا ويخالفوا ما دعوا إليه من الصلح ثم ظهر أن الأصلح ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم من الصلح ليقتدوا بذلك ويطيعوا عليًّا فيما أجاب إليه من التحكيم" [إرشاد الساري، 11/88-89].
[22] قال الحافظ: "مراد سهل أنهم كانوا إذا وقعوا في شدة يحتاجون فيها إلى القتال في المغازي والثبوت والفتوح العمرية عمدوا إلى سيوفهم فوضعوها على عواتقهم، وهو كناية عن الجد في الحرب، فإذا فعلوا ذلك انتصروا" اهـ.
[23] أخرجه البخاري في صحيحه في مواضع منها: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة: باب ما يُذكر من ذم الرأسي [7308].
[24] وأما قوله تعالى: {ما أصابكَ من حسنةٍ فمنَ اللهِ وما أصابكَ من سيئةٍ فمن نفسكَ} [سورة النساء/79] فالحسنة معناها هنا النعمة، والسيئة هنا معناها المصيبة والبلية، فمعنى الآية: {ما أصابك من حسنةٍ فمنَ الله} أي ما أصابكَ من نعمةٍ فمن فضل الله عليك {وما أصابكَ من سيئة فمن نفسك} أي وما أصابك من مصيبةٍ وبليةٍ فمن جزاء عملك، أعمالُ الشر التي عملتها نجازيكَ بها بهذه المصائب والبلايا، وليس المعنى أنكَ أنتَ أيها الإنسان تخلقُ الشر، فالعبد لا يخلقُ شيئًا لكن يكتسبُ الخيرَ ويكتسبُ الشر والله خالقهما في العبدِ. وهذا التقريرُ معروفٌ عندَ كثيرين، وهناكَ تقريرٌ ءاخر للآية ينبغي أن يؤخذ به ويُتركَ التقريرُ السابقُ وهو أن معنى قوله تعالى: {ما أصابكَ من حسنةٍ} محكيٌّ عن المشركينَ بتقدير محذوفٍ وهو: "يقولون أو قالوا" فيكون التقديرُ: يقولونَ أو قالوا لمحمد ما أصابكَ من حسنةٍ أي نعمةٍ فمنَ الله وما أصابك من سيئةٍ أي مصيبةٍ فمنك يا محمدُ أي من شؤمك، وهذا التقريرُ خالٍ عن الإشكالِ بخلافِ الأولِ فإن فيه إشكالاً، وقد قال هذا التقرير علماءُ منهم السيوطي الشافعي والقونوي الحنفي.
[25] أخرجه أبو نُعيم عن جابر رضي الله عنه في "الحلية" [3/73] وقال: "هذا حديث غريب من حديث الثوري والأوزاعي وابن جريج تفرد به إسماعيل بن يحيى وهو التيمي وعنه سعدان بن زكريا" اهـ، وأخرجه أبو داود بنحوه عن أنس بن مالك رضي الله عنه في سننه: كتاب الجهاد: باب في الغزو مع أئمة الجَوْر [2532]، وقال الحافظ المنذري في "مختصر سنن أبي داود" [3/380 رقم 2421]: "الراوي عن أنس بن أبي نُشبة وهو في معنى المجهول" اهـ، وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" [9/156].


الرسالة الثانية

رسالة الحسن بن محمد بن الحنفية
ابن الإمام علي رضي الله عنهم
المتوفى سنة 99هـ

ترجمة المؤلف



- اسمه وكنيته:

هو الإمام أبو محمد الحسن بن محمد بن علي رضي الله عنهم القرشي المدني التابعي، وأبوه محمد يُعرف بابن الحنفية، وهي أم محمد فهو الحسن بن محمد بن الحنفية.

- أمه:

هي جمال بنت قيس بن مَخْرمة بن المطلب بن عبد مناف.

- عمّن روى الرواة عنه:

روى عن جابر بن عبد الله وعبد الله بن عباس وأبيه محمد بن الحنفية وأبي سعيد الخدري وابي هريرة وسلمة بن الأكوع وعائشة أم المؤمنين وغيرهم.

روى عنه أبان بن صالح أبو سعد البقال سعيد بن المرزبان وعاصم بن عمر بن قتادة وعمرو بن دينار وقيس بن مسلم ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري ومنذر الثوري وموسى بن عبيدة وءاخرون.

- ماذا قيل فيه:

قال ابن سعد: كان من ظرفاء بني هاشم وأهل العقل منهم وكان يُقدَّم على أخيه أبي هاشم في الفضل والهيئة.

وقال النووي: اتفقوا على توثيقه.

وقال الذهبي: كان من علماء أهل البيت، وناهيك أن عمرو بن دينار يقول: ما رأيتُ أحدًا أعلم مما اختلف فيه الناس من الحسن بن محمد، ما كان زُهريُّكم إلا غلامًا من غلمانه.

- وفاته:

توفي سنة تسع وتسعين أو مائة في خلافة عمر بن عبد العزيز وليس له عقب، وقيل في وفاته غير ذلك.


الرسالة



فكان أوّل ما سأل عنه أن قال: أخبرونا عن قولكم فيما نسألكم عنه! نبّؤونا هل الأنبياء صلوات الله عليهم مستطيعون لعمل فعلين متضادين في حالين مختلفين؟

أخبرونا عن رسل الله من بني ءادم هل جعل الله لهم السبيل والاستطاعة إلى ترك البلاغ، ولو شاؤوا لغيّروا ما أمروا به من تبليغ الوحي والعمل بالسنن؟ أو ألزموا ذلك إلزامًا فلا يستطيعون تركه ولا الزيادة فيه ولا النقصان منه؟ فإن قالوا: "نعم، قد جعل الله لهم سبيلاً واستطاعة لترك البلاغ ولو شاؤوا لغيّروا ما نُزّل إليهم من كتابه وحكمته" فقد دخلوا في أعظم مما كرهوا حين زعموا أن الرسل لو شاؤوا لم يعبدوا الله بالتوحيد ولم يعملوا له بطاعة إذ زعموا أنهم قد كانوا يقدرون على كتمان الوحي والسنن، فيقال لهم: "فأنتم الآن لا تدرون هل بلّغت الرسل كلّ ما جاءهم من الوحي والسنن أم لا؟" فإن قالوا: "نعم، تقدر الرسل على كتمان الوحي والسنن إذا أرادت هكذا" احتُجَّ عليهم. وإن قالوا: "لم تكن الرسل تقدر على كتمان الوحي ولا إبدال الفرائض ولا ترك البلاغ لأن الله ألزمهم البلاغ إلزامًا فلا يقدرون على تركه ولا كتمانه" فقد أجابوا وفي ذلك نقض لقولهم.

أخبرونا عن إبليس من أخطر المعصية على باله أو من أوقع التكبُّر في نفسه؟ فإن قالوا: "نفسه أمرته بالمعصية وهواه حمله على التكبر" فقل: "من جعل نفسه أمَّارة بالمعصية وهواه حاملاً له على التكبر؟" فإن قالوا: "الله"، كان ذلك نقضًا لقولهم، ويقال لهم: "فمن أعطاه علم الخديعة والمكر" ءالله جعل ذلك في نفسه أو شئ جعله هو لنفسه؟ فإن قالوا: "الله جعل ذلك له" كان ذلك نقضًا لقولهم"، وإن قالوا: "إنّ ذلك لم يكن من الله عطاءً ولا قسمًا" فقد أدخل عليهم أعظم مما هربوا منه حين زعموا أن غير الله يجعل في خلقه ما لم يُرِد الله أن يكون فيهم، فما أعظم هذا القول.

وسَلْهم: "من أين علم إبليس أن ءادم تكون له ذرية وأنّ الموت يقضي عليهم وأنه يكون لله فيهم عباد مخلصون وأنه يحتنكهم [1] إلا قليلاً؟". فإن قالوا: "إن الله أعلمه ذلك" فقد نقض ذلك قولهم، وإن قالوا: "إن إبليس علمه من قبل نفسه" فقد زعموا أنّ إبليس يعلم الغيب، فسبحان الله العظيم!

أخبرونا عن ءادم وزوجته حين أسكنهما الله الجنة أكانت محبة الله ومشيئته في خلودهما فيها وإقامتهما أم في خروجهما منها؟ فإن زعموا أن محبة الله ومشيئته كانت في خلودهما فقد كذبوا لأنّ أهل الجنة لا يموتون ولا يتوالدون ولا يمرضون ولا يجوعون وقد قضى الله الموت على خلقه جميعًا وقضى على ءادم أن يكون له ذرية يكون منهم الأنبياء والرسل والصديقون والمؤمنون والشهداء والكافرون، ثم قال: {فيها تَحْيَونَ وفيها تموتونَ ومنها تُخرَجون} [سورة الأعراف/25]، ثم قال: {منها خلقناكم وفيها نُعيدكُم ومنها نُخرجكم تارةً أخرى} [سورة طه/55]، وكيف يكون ما قالوا وقد قضى الله القيامة والحساب والموازين والجنة والنار؟ سبحان الله، ما أعظم هذا من قولهم! وإن قالوا: "إن محبة الله ومشيئته كانت في خروج ءادم وزوجته من الجنة وهبوطهما إلى الأرض" فقد زعموا أنه لم يكن لخروجهما من الجنة إلا الخطيئة التي عملاها والأكل من الشجرة التي نُهيا عنها، فقد أقروا لله بقدرته ونفاذ علمه وفي ذلك نقض قولهم.

أخبرونا ءالخير أراده الله بهم فوضعها فيهم أم الشر أراد بهم؟ فإن قالوا: "الخير أراده بهم" فيقال لهم: "وكيف ذلك وقد جعلها وقد علم أنهم لا ينتفعون بها وأنها لا تكون إلا في مضرتهم". وإن زعموا أنه جعلها فيهم ليضرهم انتقض عليهم قولهم.

"هل يستطيعون أن يجهلوا ما جعلهم الله به عارفين أم لا يستطيعون؟" فإن قالوا: "لا" فقد انتقض قولهم عليهم. وإن قالوا: "نعم" فقُل: "هل يستطيعون أن يجهلوا معرفة الله فلا يعرفون أنه خالق كل شئ ومصور كل شئ؟" فإن قالوا: "هذه الفطرة، وليس يُثاب أحد عليها فالخلق كلهم يعرفون أنه الله"، فقل: "هل يستطيعون أن يجهلوا الليل والنهار والسماء والأرض والدنيا والآخرة والناس والخلق كلهم أن الله جعلهم كما شاء وكيف شاء؟". فإن قالوا: "نعم" فقد كذبوا والناس كلهم شهود على كذبهم، وإن قالوا: "لا" فقد تابعوك.

أخبرونا عن الناس مَن أنطقهم والكلام مَن خلقه؟ فإن قالوا: "الله" فانتقض قولهم وذلك لأنّ الكلام يكون فيه الصدق والكذب والتوحيد والإشراك وأعظم الكذب الشرك بالله والافتراء عليه، وإن أنكروا أن يكون الله خلق المنطق والكلام فذلك الكفر بالله والشرك والتكذيب بما جاء من عنده، فقل: "أخبرونا عن قول الله في كتابه إذ قال: {وقالوا لِجُلُودهم لمَ شَهِدتم علينا قالوا أنطَقَنا اللهُ الذي أنطقَ كلَّ شئ وهوَ خلقكم أولَ مرةٍ وإليهِ تُرجَعون} [سورة فصلت/21].

المسألة عن الحركات: من خلقها؟ فإن قالوا: "الله خلقها" كان ذلك نقضًا لقولهم، وذلك أنّ كل عمل من خير أو شرّ طاعةٍ أو معصية إنما يكون بالحركات. فإن قالوا: "إن الله لم يخلقها" فقد أشركوا بالله وذلك ابتلاء عمل لأنه لا يتمّ خلق الإنسان إلا بالحركة.

أخبرونا عن الأعمال التي عمل بها بنو ءادم أشئ هي أم ليست شيئًا؟ فإن قالوا: "بل هي شئ" فقل: "من خلق ذلك الشئ؟" فإن قالوا: "الله خلقه" انتقض عليهم قولهم، وإن قالوا: "ليس مخلوقًا" كان ذلك شركًا بالله وتكذيبًا لكتابه لأنّ الله سبحانه خالق كل شئ. فقل لهم: "ألم تعلموا أن أعمال بني ءادم شئ؟" فإن قالوا: "نعم" فقل: "والله خلقها"، وإن قالوا: "ليست بشئ" فقل لهم: "فقد زعمتم أن الله يصيب على غير شئ ويعذب على غير شئ ويغضب [2] من غير شئ ويرضى من غير شئ ويُدخل الجنة بغير شئ ويدخل النار بغير شئ".

أخبرونا عن الآجال مَن وقَّتها، أموقَّتة هي أم غير موقّتة؟ فإن قالوا: "الله وقّتها" فقد أجابوك، فقل: "هي يستطيع أحد أن يزيد فيها أو ينقص منها"، إن شاء عجّلها عن وقتها وإن شاء أخّرها؟" فإن قالوا: "لا" فقد انتقض عليهم قولهم، وإن قالوا: "نعم" فقل لهم: "فقد زعمتم أنّ الناس يستطيعون أن يقدّموا ما أخّر الله وأن يؤخروا ما قدّم الله، وهذا هو التكذيب لما جاء من عند الله وذلك قوله: {ولن يُؤَخِّرَ اللهُ نفسًا إذا جاءَ أجلُها واللهُ خبير بما تعملون} [سورة المنافقون/11].

أخبرونا عن الأرزاق مَن قدّرها، ومقدّرة هي أن غير مقدّرة ومقسومة هي أم غير مقسومة؟ فإن قالوا: "نعم، هي مقدرة ومقسومة" فقد انتقض قولهم، وإن قالوا: "لا" فقل لهم: "فهل يستطيع أحد أن يأخذ إلا رزقه أو يأخذ إلا ما قسم الله له؟" فإن قالوا: "لا" فقد انتقض قولهم، وإن قالوا: "نعم" فقل: "فكيف ذلك؟" فإن قالوا: "إن الله خلق الأموال والأطعمة والأشربة فذلك رزقه، وبيّن لهم مأخذها فإن أخذوها من باب الحلال كانت حلالاً وإن أخذوها من باب الحرام كانت حرامًا"، فقل لهم: "أفهم يأخذون لأنفسهم ما شاءوا، فأيّهم شاء أن يكون غنيًّا مكثرًا كان وأيّهم شاء أن يكون فقيرًا معدومًا كان؟". فإن قالوا: "نعم" فقد كذبوا لأن الناس كلهم حريص أن يكون غنيًا وكاره أن يكون فقيرًا، وقد قال الله سبحانه خلافًا لقولهم: {نحنُ قسَّمنا بينهم معيشتهم في الحياةِ الدنيا ورفعنا بعضهم فوقَ بعضٍ درجاتٍ لِيتخذَ بعضهم بعضًا سُخْرِيًا ورحمتُ ربكَ خيرٌ مما يجمعون} [سورة الزخرف/32]. وقال: {واللهُ فضَّلَ بعضكم على بعضٍ في الرزقِ فما الذينَ فُضِّلوا برادِّي رزقهم على ما ملكَتْ أيمانُهُم فهُمْ فيهِ سواءٌ أفبِنعمةِ اللهِ يجحدون} [سورة النحل/71] في ءاي كثيرة من كتاب الله سبحانه.

أخبرونا عن العقول أمخلوقة هي أم غير مخلوقة؟ فإن قالوا مخلوقة فقل: "أمقسومة بين العباد أم غير مقسومة؟" فإن قالوا: "بل هي مقسومة"، فقل: "فأخبرونا من أين عرف بعض الناس الهدى فأخذ به وجهله بعضهم فتركه، وكلهم حريص على الهدى كاره للضلالة راغب في العلم مبغض للجهالة، وقد زعمتم أن الله قد جعل سبيلهم واحدًا وعقولهم واستطاعتهم واحدةً وهي حجة الله عليهم؟". فإن قالوا: "بتوفيق من الله" فقد أجابوا، وإن قالوا: "أخذ هداه منهم من أحبّ وتركه منهم من اتبع هواه وأطاع إبليس إلى دعائه"، قيل لهم: "فما صيّر بعضهم تابعًا لهواه والعقول فيهم كاملة مستوية؟". فإن قالوا: "بتوفيق من الله، وفّق من شاء منهم" فقد أجابوا، وإن قالوا: "فضّل الله بعضهم على بعض" فقد صدقوا، وإن قالوا غير ذلك فقد كذبوا. ألا إنه لو كان الناس في العقول سواء ما كان في النار جاهل وعاقل وأحمق وحليم ولسمي الجاهل عاقلاً والعاقل جاهلاً، ولكن الأمر في هذا أبين من ذلك ولكنهم قوم يجهلون. وإن قالوا: "ذلك من قبل الادب والتعليم"، فقل: "لو كانت عقولهم مستوية ما احتاج بعضهم إلى بعض في أدب ولا تعليم".


أخبرونا عن الإرادة، إذا أراد الله شيئًا يكون أو لا يكون؟ فإنه قد قال: {فعَّالٌ لما يريد} [سورة هود/107]، فإن قالوا: "نعم" قيل لهم: "وهل أراد الله أن يدخل خلقه كلهم في الهدى؟" فإن قالوا: "نعم، قد أراد أن يدخلوا كلهم في الهدى على غير جبر منه ولا إكراه"، فيقال لهم: "فهل دخلوا في الهدى كما أراد على غير وجه الجبر منه لهم والإكراه؟".

أرأيتم من طبع الله على قلبه وختم على سمعه وبصره أهو ممن دُعي إلى الإيمان فيثاب على أخذه ويعاقب على تركه؟ فإن قالوا: "نعم" فقل: "وكيف يقبلون الإيمان وقد خُتم على قلوبهم والله يقول: {سواءٌ عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم} [سورة البقرة/6]. فهل ضرهم الطبع والختم أم نفعهم أم لم يضرهم ولم ينفعهم؟" فإن قالوا: "إنما ختم على قلوبهم بكفرهم"، فقل: "هل ضرهم الطبع حين فُعل بهم وحال بينهم وبين التوبة والدخول في الإيمان؟"، فإن قالوا: "لم يضرهم ولو شاؤوا ءامنوا" فالله قد كذبهم واجترأوا على الرد على الله قوله، فقل: "فتراهم حين طُبع على قلوبهم حين لم يقبلوا الإيمان". فإن قالوا: "فإنهم لا يقدرون على الإيمان حتى يفتح الله قلوبهم" فقد أقروا لله بقدرته وانتقض عليهم قولهم، إذ زعموا أن الختم قد ضرهم وأنهم يعذبون على ما كان من تركهم الإيمان وأخذهم بالكفر بعد الختم وعملهم بما لا يستطيعون تركه.

أخبرونا عن الزيادة، فإن الله يقول: {ومنَ الناسِ مَن يقولُ ءامنَّا باللهِ وباليومِ الآخرِ وما هُم بمؤمنينَ* يُخادعونَ اللهَ والذينَ ءامنوا وما يخدعونَ إلا أنفسهم وما يشعرون* في قلوبهم مرضٌ فزادهم اللهُ مرضًا ولهُم عذابٌ أليمٌ بِما كانوا يكذِبون} [سورة البقرة/8-9-10]، وقوله لقوم: {ومنهُم منْ عاهدَ اللهَ لئن ءاتانا من فضلهِ لنَصَّدَّقَنَّ ولنكوننَّ منَ الصالحينَ* فلمّا ءاتاهُم من فضلهِ بَخِلوا بهِ وتولَّوا وهم معرِضُون* فأعقَبهُم نِفاقًا في قلوبهم إلى يومِ يلقونه} [سورة التوبة/75-76-77]. ألستم تعلمون أن الله زادهم مرضًا ومدّ ءاخرين في طغيانهم يعمهون وأعقب قومًا نفاقًا في قلوبهم إلى يوم يلقونه؟ فإن قالوا: "نعم، ولكنه صنع ذلك بهم عقوبة بذنوبهم"، فيقال لهم: "فنعم، أفليسوا معذورين بما عملوا من معصيته حين فعل ذلك بهم؟". فإن قالوا: "لا" فقل: "فقد دخلتم فيما عبتم إذ زعمتم أنّ الله يعذب قومًا على ما لا يستطيعون تركه، لأنه فعل ذلك بهم".

أخبرونا عما صنع الله بالعباد، هل يعذبهم عليه؟ فإن قالوا: "لا" فقل: "فأخبرونا عمّن زاده الله كفرًا ومدّه في طغيانه وأعقبه النفاق في قلبه، هل يعذبه عليه؟". فإن قالوا "نعم" فقد دخلوا فيما كانوا يعيبون، وإن قالوا "لا" فقل: "فقد زعمتم أن الله لا يعذب من كان على الكفر ولا يضرّ من كان عليه وأنتم تزعمون أن الله إنما صنع ذلك عقوبةً لهم". وسَلهم: "هل استطاع هؤلاء الترك لما صنع الله بهم والخروج منه؟" فإن قالوا: "لا" فقد أجابوا، وإن قالوا "نعم" فقد كذبوا بكتاب الله وخالفوا قول الله إذ يقول: {فأعقَبهم نِفاقًا في قلوبهم إلى يومِ يلقونه} [سورة التوبة/77]، فإن كانوا يقدرون على أن يصرفوا من النفاق قلوبهم قبل أن يلقونه فقول الله بزعمهم باطل في قوله: {ختمَ اللهُ على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غِشاوةٌ ولهم عذابٌ عظيم} [سورة البقرة/7].

... المسألة عن قول الله سبحانه: {وإذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إحدى الطائفتينِ أنَّها لكم} [سورة الأنفال/7]، أليس إنما يريد الله العبر والغنيمة أو المشركين وغلبتهم والنصر؟

فإن قالوا "نعم" فقل: "هل كانوا يقدرون على أن لا يقاتلوا ولا يخرجوا إلى القتال؟" فإن قالوا "نعم" فقد زعموا أنهم كانوا يقدرون على أن يخلف الله وعده الذي وعد رسوله، وهذا قول عظيم يُدخلهم في أعظم مما كرهوا. وإن زعموا أنهم لم يكونوا يقدرون على أن لا يخرجوا إلى القتال لا المؤمنون ولا الكافرون أقروا بما كرهوا. فإن الله قد أراد ن يقاتل المؤمنون الكافرين وأن يقاتل الكافرون المؤمنين وأن الفريقين لم يكونوا يستطيعون التخلف ولا الترك للقتال حتى ينجز الله وعده ويُعز المؤمنين ويُذل الكافرين ويوهن كيدهم، وكذلك أراد بالفريقين جميعًا.

وقد كان فيما صنع الله بالفريقين يوم بدر بيّنة لنبيه وبرهان، وذلك أن الله سبحانه لم يكل المؤمنين إلى ما زعم الجهال المكذبون أن الله جعل في العباد استطاعةً ثم وكلهم [3] إليها. فلم يرض حتى أيدهم بنصره وأمدهم بملائكته، ثم ءاجرهم على صبرهم على البأس وهو صبّرهم وأجرهم على الثبات وهو ثبتهم وأجرهم على ائتلافهم وهو ألّف بينهم وءاجرهم على صرامتهم وهو ربط على قلوبهم وءاجرهم على ظفرهم وهو ألقى الرعب في قلوب عدوهم، وهذا كله خلاف لقولهم وردّ عليهم.

فجعل غلبة المؤمنين للكافرين نصرًا وعزًا وتأييدًا وجعل غلبة الكافرين دولة [4] بلاء وإملاء فأنزل في قتال المؤمنين الكافرين بأُحد حينئذ وفي المشركين من المؤمنين: {فأثابكم غمًّا بغمٍ} [سورة ءال عمران/153]، أما الغم الأول فالهزيمة والقتل، وأما الغم الآخر فإشراف خيول الكفار على الجبل حتى أشرفوا عليهم فظنوا أنها الهلكة. قال الله تعالى: {لِكيلا تَحزَنوا على ما فاتَكُم} من الغنيمة [ولا ما أصابكم] [سورة ءال عمران/153] يعني من قتل من قُتِل من إخوانكم. قال: {واللهُ خبيرٌ بما تعملون} [سورة ءال عمران/153].

فإن قالوا: "إنّ الله إنما فعل ذلك بذنوبهم ومعصيتهم"، قيل: "فإنه إنما عصى منهم نفرٌ يسير وهم الرماة نحو من خمسين رجلاً، فقد عمّ ذلك البلاء جميع المسلمين حتى وصل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فشُجّ [5] في وجهه وكُسرت رباعيته [6]، وقد كان المسلمون يوم أحد سبعمائة –أو يزيدون- فأخبر الله أنه صنع ذلك بهم فأثابهم غمًّا بغم. أفليس قد أراد الله أن يصيبهم ذلك بأيدي الكافرين ولأن ينهزموا وأن يُقتل من قتل منهم؟".

ثم أخبر أيضًا بما صنع بهم بعد الذي كان منه إليهم من الغمّ فقال: {ثُمَّ أنزلَ عليكم من بعدِ الغمِّ أمَنَةً نُعاسًا يغشى طائفةً منكم وطائفةٌ قد أهَمَّتهُم أنفسهم يظنونَ باللهِ غيرَ الحقِّ ظنَّ الجاهليةِ يقولونَ هل لنا من الأمرِ من شئ} [سورة ءال عمران/154]. قال الله لنبيه: {قُلْ إنَّ الأمرَ كلهُ للهِ يُخفونَ في أنفُسِهم ما لا يُبدونَ لكَ} [سورة ءال عمران/154]، فأخبر عما أخفوا في أنفسهم فقال: {يقولونَ لو كانَ لنا منَ الأمرِ شئٌ ما قُتِلنا هاهُنا} [سورة ءال عمران/154]، يقولون: لو كنّا في بيوتنا ما أصابنا القتل، قال الله تكذيبًا لهم: {قُلْ لو كنتم في بيوتكم لبرَزَ الذينَ كُتبَ عليهم القتلُ إلى مضاجعهم} [سورة ءال عمران/154] فأخبر أنه قد كتب القتل على قوم قبل أن يُقتلوا وجعل لهم مضاجع إليها يصيرون، ثم نهى المؤمنين أن يكونوا مثلهم وأن يظنوا بالله كظنهم فقال: {يا أيها الذينَ ءامنوا لا تكونوا كالذينَ كفروا وقالوا لإخوانِهم إذا ضربوا في الأرضِ أو كانوا غُزًّى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قُتِلوا ليجعل اللهُ ذلكَ حسرةً في قلوبهم واللهُ يُحيي ويُميتُ واللهُ بما تعملونَ بصيرٌ} [سورة ءال عمران/156]. قال في غلبة الكافرين للمؤمنين وهزيمة المؤمنين قال الله: {وتلكَ الأيامُ نُداوِلُها بينَ الناسِ وليعلمَ اللهُ الذينَ ءامنوا ويتخذَ منكم شُهداء واللهُ لا يُحبُّ الظالمين} [سورة ءال عمران/140]، وقال: {وما أصابكُم يومَ التقى الجمعانِ فبإذنِ اللهِ وليعلمَ المؤمنين* وليعلمَ الذينَ نافقوا} [سورة ءال عمران/166-167] في ءاي كثيرة يُخبر أن الأمر منه وهو يدبّر أمر خلقه ويصرفهم كيف يشاء.

وأخبر أن الذي أصاب المؤمنين يوم أحد إنما كان بإذن الله من قتل الكافرين إياهم وهزيمتهم لهم حتى قُتل منهم سبعون رجلاً، وأنتم تزعمون أنه لم يأذن في المعاصي وأنها لا تكون إلا بإذنه، ولكن الإذن قد يكون على معنيين: أما أحدهما فيكون أمرًا منه يأمر به والآخر يكون إذنًا على وجه الإرادة أنه أراد أن يكون لأنه: {فعَّالٌ لما يريد} [سورة هود/107].

ثم قد عيّر الذين قالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزًّى: "لو كانوا عندنا ما ماتوا ولا قُتلوا" فكذبهم الله وأخبر بما قد سبق منه لهم وما قد كتبه عليهم، وعيَّر الذين قالوا: "لو كان لنا ن الأمر شئ ما قُتلنا ها هنا"، فكذبهم الله بما قالوا من ذلك. فلو تدبرتم كتاب الله وءامنتم بما فيه ما عارضتم أمور الله تعالى ولا عبتم قضاءه تردّون عليه برأيكم وتعنّفون حكمه وتظلمون عدله تقولون: "فعل بخلقه شيئًا ثم عذبهم عليه بما صنع بهم فقد ظلمهم". فسبحان الله ما أعظم قولكم وأضعف رأيكم.

أخبرونا عن الإذن وإنكاركم أن يكون الله أذن في المعاصي. فقل: "الإذن من الله على وجهين: فإذن أذن فيه أمر يأمر به وإذن [أذن] فيه إرادةً منه أن يكون لما يشاء من أمره، وما كان من معصية فلا يكون إلا بإذنه وكذلك المنة وذلك إرادة منه"، فإن قالوا "نعم" فقد أقروا بنفاذ أمره وإرادته، وإن جحدوا وأنكروا فإن الله قد كذبهم في كتابه فقال للمؤمنين: {وما أصابكم يومَ التقى الجمعانِ فبإذنِ اللهِ} [سورة ءال عمران/166] يعني بذلك: ما أصابكم من القتل والهزيمة، وإنما كان ذلك تأييدًا للكافرين فقد أذن الله للكافرين أن ينالوهم بما أصابوهم من القتل والجراح والهزيمة. فإن زعموا أن إذن الله أمره فقد زعموا أنه أمر بالمعاصي وأمر المشركين أن يقتلوا المؤمنين، وكل مأمور إذا فعل ما أُمر به فهو مطيع وله عليه أجر والكتاب يكذبهم. وإن زعموا أن إذنه على وجهين، أحدهما على وجه الأمر والآخر على وجه الإرادة فقد أقروا بالحق، وفي ذلك نقض لقولهم ورد عليهم، فقد زعموا أن الله يريد أن يكون ما لا يأمر به ولا يرضاه.

أخبرونا عن التزيين بالإرادة دون الأمر، فإن أنكروا أن الله يزيّن لعباده دون أن يكون أمرًا منه فقد ردّ الله عليهم قولهم فقال في الأنعام: {ولا تسبُّوا الذينَ يدعونَ من دونِ اللهِ فيسُبُّوا اللهَ عدْوًّا بغيرِ علمٍ كذلكَ زيَّنَّا لكلِّ أمةٍ عملهم} وقال في حم السجدة [7]: {وقيَّضنا لهم قُرَنَاءَ فَزَيَّنوا لهم ما بينَ أيديهم}، وقال في النمل: {إنَّ الذينَ لا يُؤمنونَ بالآخرةِ زيَّنَّا لهم أعمالهم فهُمْ يعمَهون}، هذا كله تزيينٌ أراده أو ليس أراده؟

أخبرونا عن الجعل بالإرادة دون الأمر، فإن أنكروا فأخبرهم أن الله يقول: {ومَن أظلمُ ممَّنْ ذُكِّرَ بآياتِ ربهِ فأعرضَ عنها ونسيَ ما قدَّمَتْ يداهُ إنَّا جعلنا على قلوبهم أكِنَّةً أن يفقهوهُ وفي ءاذانهم وَقْرًا وإن تدعوهُم إلى الهُدى فلن يهتدوا إذًا أبدًا} [سورة الكهف/57]، وقال سبحانه: {عسى اللهُ أن يجعلَ بينَكُم وبينَ الذينَ عادَيتُمْ منهم مودةً واللهُ قديرٌ واللهُ غفورٌ رحيمٌ} [سورة الممتحنة/7] في ءايات كثيرة من الكتاب. فيقال لهم: "ما ذلك الذي جعل الله وهو كائن كما جعل؟"، فإن قالوا: "إنما ذلك الدعاء"، فقل: "إنّ الدعاء قبل ذلك، فقد دعا العبادَ جميعًا وهذا شئ قد خصّ به من شاء من خلقه ولم يعمّهم لأنه إنما يهتدي من جعل الله في قلبه الهدى ولم يعمّهم بالهدى". فإن قالوا: "قد نعلم أن الله قد جعل الناس كلهم مهتدين ولا نقول إن الله قد جعلهم كفارًا" فقل: إنّ الله يردّ عليكم قولكم في كتابه فإنه قد قال: {قُلْ هلْ أُنَبِّئُكُم بشَرٍّ من ذلكَ مَثُوبةً عندَ اللهِ مَن لعنهُ اللهُ وغضبَ اللهُ وغضبَ عليهِ وجعلَ منهُمُ القردةَ والخنازيرَ وعبَدَ الطاغوتَ أولئكَ شرٌّ مكانًا وأضلُّ عن سواءِ السبيل} [سورة المائدة/60]". ألا ترى أن الله قد جعل منهم القردة والخنازير؟ فإن زعموا أن الله إنما سماهم بذلك ونسبهم إليه فقل: "كذلك لم يجعلهم قردة وخنازير، وإنما سماهم بذلك ونسبهم إليه". وإن أقروا أن الله جعلهم عبدة الطاغوت فذلك نقضٌ لقولهم. وإن قالوا: "إنّ الله لم يجعلهم عبدة الطاغوت" كان ذلك تكذيبًا منهم، فقل: "فإنّ الله قد قال أيضًا: {وكذلكَ جعلنا في كلِّ قريةٍ أكابِرَ مُجرِميها ليمكروا فيها وما يمكرونَ إلا بأنفسهم وما يشعرونَ} [سورة الأنعام/123]. ألا ترون الله يخبر أنه قد جعل في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها؟". فإن قالوا: "إنه لم يجعلهم ليمكروا فيها" كان ذلك تكذيبًا منهم، وإن أقروا كان ذلك نقضًا لقولهم. وقد قال الله لقوم فرعون: {وجعلناهم أئمةً يَدْعونَ إلى النارِ ويومَ القيامةِ لا يُنصَرون} [سورة القصص/41]. فإن قالوا: "نعم" كان ذلك نقضًا لقولهم، وإن قالوا "لا" فقد كذبوا، والله يقول: {واللهُ جعلَ لكم ويومَ إقامَتِكُمْ ومن أصوافها وأوبارِها وأشعارها أثاثًا ومتاعًا إلى حين* واللهُ جعلَ لكم مما خلقَ ظلالاً وجعلَ لكم منَ الجبالِ أكْنانًا وجعلَ لكم سرابيلَ تقيكُمُ الحَرَّ وسرابيلَ تقيكم بأسَكم} [سورة النحل/81]. ألا ترى أن الناس هم غزلوا ونسجوا وعملوا الدروع واتخذوا المساكن والبيوت ثم نسب ذلك منّة إليه وأخبر أنه خلقه؟ فمنّ به عليهم وذلك أنه أراده، فكان ما أراد ولم يأمر به.

أخبرونا عن الإغراء بالإرادة دون الأمر، فإنّ الله يقول: {ومِنَ الذينَ قالوا إنَّا نصارى أخَذنا ميثاقهم فنسُوا حظًّا مما ذُكِّروا بهِ فأغْرينا بينهم العداوةَ والبغضاءَ إلى يومِ القيامةِ} [سورة المائدة/14]. فسلهم: "هل كان هؤلاء يستطيعون أن يخرجوا ممّا صنع الله بهم وأن يتركوا العداوة بينهم؟" فإن قالوا: "نعم" فقد كذبوا كتاب الله، وإن قالوا "لا" كان ذلك نقضًا لقولهم.

أخبرونا عن قول الله: {وهُوَ الذي كفَّ أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطنِ مكةَ من بعدِ أن أظفرَكم عليهم} [سورة الفتح/24] وذلك يوم الحُديبية، فسلهم: "هل كان واحد من الفريقين يستطيع أن يبسط يده إلى أخيه والله عز وجل يخبر أنه قد كفّ بعضهم عن بعض بإرادة لا بأمر؟ فإن قالوا: "نعم، قد كانوا يستطيعون أن يقاتل بعضهم بعضًا" كذبوا كتاب الله عز وجل، وإن قالوا "لا" فهذا نقض لقولهم.

... المسألة عمّا وعد الله جلّ ثناؤه رسوله والمؤمنين من الغنائم الكثيرة التي قال يأخذونها، هل كانت تلك الغنائم التي وعدهم إياها تكون إلا من الكافرين؟ فإن قالوا: "لا" فقل: "فهل كان أولئك الكافرون يستطيعون أن يؤمنوا حتى لا تحلّ غنائمهم ولا دماؤهم ولا أموالهم؟" فإن قالوا "نعم" فقد كذبوا قول الله عز وجل، وإن قالوا "لا" فذلك نقض لقولهم.

... المسألة عن قول الله عز وجل: {يا أيها الذينَ ءامنوا اذكروا نعمتَ اللهِ عليكم إذْ هَمَّ قومٌ أن يبسُطُوا إليكم أيديهم فكَفَّ أيديهم عنكم} [سورة المائدة/11]، وذلك أن ناسًا من اليهود كانوا أرادوا قتل رسول الله صلوات الله عليه ونفرٍ معه من أصحابه، فأخبر الله عز وجل رسوله وكفّ أيديهم عنه وعن أصحابه. فسلهم: "هل كانوا يستطيعون أن يبسطوا أيديهم عليهم وقد كفّها الله عنهم أن لا؟"، فإن قالوا: "نعم" فقد كذبوا قول الله جل ثناؤه، وإن قالوا: "لا" فذلك نقضٌ لقولهم.

... المسألة عن قول الله عز وجل لعيسى ابن مريم وهو يذكر نعمة الله عليه فقال: {وإذْ كفَفْتُ بني إسرائيلَ عنكَ إذْ جِئْتَهُم بالبيِّناتِ فقالَ الذينَ كفروا منهم إنْ هذا إلا سحرٌ مُبين} [سورة المائدة/110]. فهل كان لبني إسرائيل أن يبسطوا أيديهم على عيسى عليه السلام؟ فإن قالوا "نعم" فقد كذبوا قول الله، وإن قالوا "لا" فذلك نقض لقولهم.

... المسألة عن قول الله سبحانه: {سنُلقي في قلوبِ الذينَ كفروا الرُّعبَ بما أشركوا باللهِ ما لم يُنَزِّلْ بهِ سُلطانًا} [سورة ءال عمران/151]، وقال في سورة الحشر: {وظَنُّوا أنهم مانِعتُهُم حُصونُهُم منَ اللهِ فأتاهُمُ اللهُ من حيثُ لم يحتسبوا وقَذفَ في قلوبهم الرُّعبَ}، وقال: {وأنزلَ الذينَ ظاهروهم من أهلِ الكتابِ من صَياصيهم وقذفَ في قلوبهم الرعبَ فريقًا تقتلونَ وتأسرونَ فريقًا} [سورة الأحزاب/26]. فأخبرونا عن الرعب الذي قذف الله في قلوب الكافرين، هل كانوا يستطيعون أن يمتنعوا منه وأن يصرفوه عن قلوبهم؟ فإن قالوا "لا" كان ذلك نقضًا لقولهم، وإن قالوا "نعم" فقد كذبوا بكتاب الله وزعموا أنّ العباد يمتنعون من الله.


وإن قالوا: "إنما صنع الله ذلك بهم بكفرهم" فقل: "ألستم تعلمون أن الرعب شئ لطيف لا يراه الناس ولا يردّونه ولا يمتنعون منه حين يدخل قلوبهم فيوهن الله بذلك كيدهم؟" وينقض قولهم. فإن قالوا "نعم" فقل: "وكذلك أيضًا التوفيق شئ لطيف لا تراه العباد يُلقيه الله سبحانه في قلوب المؤمنين، وأمور الله كلها كذلك، من أراد به خيرًا وفّقه وسدده وأرشده وكان ذلك عونًا من الله لهم، ومن أراد به سوءًا ثبّطه وعوّقه وخذله وتركه وهواه ووكله إلى نفسه فوكله إلى الضعف والهون: {واللهُ غالبٌ على أمرهِ} [سورة يوسف/21].

أخبرونا عن الذرء بالإرادة، فإن الله يقول: {ولقدْ ذرأنا لجهنمَ كثيرًا منَ الجنِّ والإنسِ لهم قلوبٌ لا يفقهونَ بها ولهم أعينٌ لا يُبصِرون بها ولهم ءاذانٌ لا يسمعون بها أولئكَ كالأنعامِ بل هم أضلُّ أولئكَ همُ الغافلون} [سورة الأعراف/179]. فسلهم: "هل يستطيع هؤلاء أن ينقلبوا عما ذرأهم الله له؟" فإن قالوا: "نعم" فقد كذبوا وزعموا أنهم يستطيعون أن يبدّلوا خلقهم وإرادة الله فيهم، وإن قالوا "لا" كان نقضًا لقولهم.

... المسألة عم قول الله عز وجل: {ولو شاءَ ربُّكَ لجعلَ الناسَ أمةً واحدةً ولا يزالونَ مُختلفينَ* إلا من رحمَ ربكَ ولذلكَ خلقهم} [سورة هود/118-119]. فيقال لهم: "أخبرونا عن هؤلاء الذين قال الله: {ولا يزالون مُختلفين* إلا من رحمَ ربكَ ولذلك خلقهم}، هل يستطيعون أن يكونوا على غير ما وصفهم به وأن يتركوا ما خلقهم له؟" فإن قالوا "لا يستطيعون" فقد أجابوا وصدقوا، وإن قالوا "نعم، هم يستطيعون أن يكونوا على غير ما خلقهم" فقد كذبوا وخالفوا، وإن زعموا أن الله جلّ ثناؤه إنما خلق أهل الإيمان للرحمة فنحن نقبل منكم ونصدّقكم إن زعمتم أن الله جل ثناؤه خلق خلقًا من خلقه خصّهم بالرحمة ولا يستطيعون أن يكونوا على غير ما خلقهم لأنه قد استثنى لهم.

أخبرونا عن قول الله: {إنَّ الإنيانَ خُلقَ هلوعًا* إذا مسَّهُ الشرُّ جزوعًا* وإذا مسَّهُ الخيرُ منوعًا} [سورة المعراج/19-20-21]، ثم استثنى أيضًا فقال: {إلا المُصلينَ* الذينَ هم على صلاتهم دائِمون} [سورة المعراج/22-23]، فيقال لهم: "ألا ترون أن الله عز وجل قد صنفهم صنفين، فمنهم من خلقه هلوعًا جوزعًا منوعًا، ومنهم من لم يخلقه كذلك. فأخبرونا هل يستطيع هذا الذي خلقه هلوعًا جزوعًا منوعًا أن يكون على غير ما خلقه الله عليه؟ فإن قالوا "نعم" فقد زعموا أن الناس يقدرون على أن يبدلوا خلق الله الذي خلقهم عليه، وإن قالوا "لا" كان ذلك نقضًا لقولهم.

... المسألة عن قول الله سبحانه حين يقول للمؤمنين: {ولا تكونوا كالذينَ قالوا سمِعنا وهُم لا يسمعون* إنَّ شرَّ الدوابِّ عندَ اللهِ الصُّمُّ البُكمُ الذينَ لا يعقِلون} [سورة الأنفال/21-22]. هل كان هؤلاء الذين ذكر يستطيعون أن يقبلوا الهدى وأن يسمعوا المنفعة في دينهم؟ فإن قالوا "نعم" فقد كذبوا وجحدوا، وإن قالوا "لا" كان ذلك نقضًا لقولهم.

... المسألة عما ضرب الله عز وجل للمنافقين من المثل في قوله: {مَثَلُهُم كمثلِ الذي استوقَدَ نارًا فلمّا أضاءتْ ما حولهُ ذهبَ اللهُ بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يُبصِرون* صُمٌّ بُكمٌ عُميٌ فهم لا يرجعون} [سورة البقرة/17-18]. فتقول ألا ترون أن الله هو الذي ذهب بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون؟ فأخبرونا هل كان هؤلاء يستطيعون سماع الهدى وقد وصفهم الله سبحانه بالصمم؟ وهل كان لهم أن يقبلوا الهدى وقد وصفهم بالعمى؟ وهل كانوا ينتفعون بنور الهدى وقد ذهب الله به؟ فإن قالوا "نعم" فقد كذبوا بكتاب الله وجحدوا بآياته، وإن قالوا "لا" كان ذلك نقضًا لقولهم.

... أخبرونا عن قول الله: {ولا يَحْسَبنَّ الذينَ كفروا أنَّما نُملي لهم خيرٌ لأنفسهم إنما نُملي لهم ليزدادوا إثمًا ولهم عذابٌ مُهين} [سورة ءال عمران/178]. فقال: أخبرونا عن هؤلاء، ءالله أراد بهم في إملائه لهم ليزدادوا إثمًا كما قال؟ فإن قالوا "نعم" نقض ذلك قولهم، وإن قالوا "لا" كذبوا.

أخبرونا عن قول الله عز وجل في الإغفال: {ولا تُطِعْ مَن أغفلنا قلبهُ عن ذِكرنا واتَّبعَ هواهُ وكانَ أمرهُ فُرُطًا} [سورة الكهف/28]. فقال: أخبرونا عن هذا الذي أغفل الله قلبه عن ذكره، هل أراد الله أن يُطيعه؟ فإن قالوا "نعم" فقد كذبوا وجحدوا، وإن قالوا "لا" فقد نقض ذلك قولهم.

أخبرونا عن قول الله سبحانه: {ألَمْ ترَ أنَّا أرسنا الشياطينَ على الكافرينَ تَؤُزُّهُم أزًّا} [سورة مريم/83]، فيقال لهم: "هل أراد الله سبحانه أن يؤمن هؤلاء الذين أرسل الله عليهم الشياطين؟" فإن قالوا "نعم" فقد كذبوا وجحدوا، وإن قالوا: "لا" فقد نقض ذلك قولهم.

أخبرونا عن قول الله سبحانه: {وأوحَينا إلى أمِّ موسى أنْ أرضِعيهِ فإذا خِفْتِ عليهِ فألقيهِ في اليمِّ ولا تخافي ولا تَحزَني إنَّا رادُّوهُ إليكِ وجاعِلوهُ منَ المرسلين} [سورة القصص/7]، هل كان فرعون يستطيع أن يقتل موسى حتى لا يرده الله إلى امه ولا يجعله من المرسلين؟ فإن قالوا: "نعم" فقد كذّبوا وجحدوا، وإن قالوا: "لا" فقد نقض ذلك قولهم.

المسألة عن قول الله سبحانه: {وكذلكَ حقَّتْ كلمتُ ربِّكَ على الذينَ كفروا أنهُم أصحاب النارِ} [سورة غافر/6]، وقوله: {وتمَّتْ كلمةُ ربِّكَ لأملأنَّ جهنَّمَ منَ الجِنَّةِ والناسِ أجمعين} [سورة هود/119] وقوله: {ولو شِئنا لأتينا كلَّ نفسٍ هُداها ولكنْ حقَّ القولُ مني لأملأنَّ جهنَّمَ منَ الجِنَّةِ والناسِ أجمعين} [سورة السجدة/13]. فيقال: أخبرونا عن بني ءادم كلهم، هل كانوا يستطيعون أن يطيعوا الله جميعًا فلا يعصوه ويعبدوه كلهم حتى لا يعبدوا غيره فيوجب لهم الجنة ويحرّم عليهم النار فلا يدخلها أحد منهم؟ فإن قالوا: "نعم" فقد كذبوا كتاب الله وزعموا أنهم يقدرون على أن يبطلوا قول الله تبارك وتعالى عن ذلك، وإن قالوا "لا، لم يكونوا يستطيعون أن يطيعوه ولا يعبدوه" كان ذلك نقضًا لقولهم وإبطالاً لحجتهم.

المسألة عن قول الله سبحانه: {انظُرْ كيفَ فضَّلنا بعضهم على بعضٍ وللآخرةُ أكبرُ درجاتٍ وأكبرُ تفضيلاً} [سورة الإسراء/21]. فيقال لهم: "ألستم تقرّون أن الله سبحانه قد فضّل بعض خلقه على بعض في الدنيا والآخرة وخصّ بذلك بعض خلقه دون بعض؟". فإن قالوا نعم" انتقض قولهم، وإن الطاعة والإيمان مما فضّل الله به عباده وخصّهم به من رحمته، وإن قالوا "لا" فقد جحدوا بآيات الله وكذبوا كتابه.

أخبرونا عن قول الله تبارك وتعالى لإبليس: {إنَّ عبادي ليسَ لكَ عليهم سُلطانٌ إلا مَنِ اتَّبَعَكَ منَ الغاوين} [سورة الحجر/42]، وعن قوله: {فإذا قرأتَ القرءانَ فاسَعِذْ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيم* إنَّهُ ليسَ لهُ سلطانٌ على الذينَ ءامنوا وعلى ربِّهِم يتوكلونَ* إنَّما سُلطانُهُ على الذينَ يَتَوَلَّونهُ والذينَ هُم بهِ مُشرِكون} [سورة النحل/98-99-100]، وقال إبليس: {لأغْوِينَّهُم أجمعين* إلا عِبادكَ منهُم المُخلصين} [سورة ص/82-83]. فقال: أخبرونا عن هذا السلطان، ما هو؟ فإن قالوا "هو التخييل" فقل: "فما أكثر ما لقي منه المؤمنون وأطلفالهم" وإن قالوا "هو الدعاء" فقل: "فهذا ما يدعو به المؤمن والكافر والخلق كلهم حتى عرض للأنبياء فدعاهم والتمس فتنتهم فدعاهم كلهم إلى المعصية". وإن قالوا: "هو التضليل ولن يصل بذلك إلى عباد الله المؤمنين، لأن الله عصمهم وهو الوكيل عليهم" فقد أجابوا ونقض ذلك قولهم.

أخبرونا هل يخصّ الله برحمته من يشاء من خلقه أم ليست له خاصة وإنما هو أمر عام فمن شاء أخذ ومن شاء ترك؟ فإن قالوا ذلك فقد كذبوا والله سبحانه يخبر بخلاف قولهم إذ يقول لنبيه عليه السلام: {ألمْ نشرحْ لكَ صدركَ* ووضعنا عنكَ وِزرَكَ} [سورة الشرح/1-2]، وقال أيضًا لمن أراد أن يخصّه بالهدى من خلقه: {فمن يُرِدِ اللهُ أن يهديهُ يشرحْ صدرهُ للإسلامِ ومَن يُردْ أن يُضِلَّهُ يجعلْ صدرهُ ضيِّقًا حرَجًا كأنَّما يَصَّعَّدُ إلى السماءِ كذلكَ يجعلُ اللهُ الرِّجسَ على الذينَ لا يؤمنون} [سورة الأنعام/125]. وقال أيضًا: {أفَمن شرحَ اللهُ صدرهُ للإسلامِ فهوَ على نورٍ من ربهِ فويلٌ للقاسيةِ قلوبُهُم من ذكرِ الله أولئكَ في ضلالٍ مبين} [سورة الزمر/22]. فيقال: أخبرونا عن الشرح ما هو، أهو الهدى أم هو الدعاء؟ فإن قالوا "هو الدعاء" زعموا أن كل كافر مشروح الصدر بالإسلام وأن الخلق كلهم جميعًا قد شرحت صدورهم لأنهم قد دعوا كلهم، وإن قالوا "هو الهدى يمنّ به على من يشاء" فقد أجابوا.

... المسألة عن قول الله في التأييد وذلك قوله لعيسى ابن مريم: {وءاتينا عيسى ابنَ مريمَ البيِّناتِ وأيدناهُ بروحِ القُدس} [سورة البقرة/87] وقوله للمؤمنين: {فأيَّدنا الذينَ ءامنوا على عدوهم فأصبحوا ظهرين} [سورة الصف/14] في ءاي كثيرة فخصَّ الله به من يشاء من خلقه من الأنبياء والمؤمنين. ألا ترون أنّ الله عز وجل لم يَكِلهم إلى ما زعمتم أنه جعله فيهم من الاستطاعة وهي الحجة، زعمتم، على جميع خلقه حتى جاءهم سوى ذلك من أمره فأيدهم به فظهروا بتأييده ورعب عدوّهم فغلبوا برعبه ونصرهم فقهروا بنصره. ثم قال فيما منَّ به على المؤمنين ويعلمهم ما صنع بهم مما لم يصنعه بغيرهم فقال: {هوَ الذي أنزلَ السَّكينةَ في قلوبِ المؤمنينَ ليزدادوا إيمانًا معَ إيمانهم} [سورة الفتح/4]، وقال أيضًا: {فأنزلَ اللهُ سكينتهُ على رسولهِ وعلى المؤمنينَ وألزمهم كلمةَ التقوى وكانوا أحقَّ بها وأهلَها} [سورة الفتح/26] فلم يرضَ لهم ما زعمتم لما جعل من الاستطاعة حتى جاءهم من أمره وعونه سوى ذلك، وقوله لرسوله: {ولولا أن ثبَّتناكَ لقد كِدتَّ تَرْكَنُ إليهم شيئًا قليلاً* إذًا لأذقناكَ ضِعْفَ الحياوِ وضِعفَ المماتِ ثمَّ لا تجِدُ لكَ علينا نصيرًا} [سورة الإسراء/74-75]، وقوله لأصحاب الكهف: {إنَّهُم فِتيةٌ ءامنوا بربهم وردناهُم هُدًى* وربطنا على قلوبهم إذْ قاموا فقالوا ربُّنا ربُّ السمواتِ والأرضِ لن ندعواْ من دونهِ إلهًا لقدْ قُلنا إذًا شططًا} [سورة الكهف/13-14] فلم يرض لهؤلاء ما جعل فيهم من الاستطاعة التي زعمتم أنها حجة على خلقه وأنه يحتجّ عليهم بها بما أخذوا أمره وركبوا معصيته حتى أتاهم من أمره ما بلغوا به ما شاء من رحمته وهداه. وكذلك هو يفعل ما يشاء سبحانه وبحمده. يضل من يشاء {لا يُسئَلُ عما يفعل} والخلق {يُسئلون} [سورة الأنبياء/23].

وإن قالوا "أخبرونا عن الأعمال أمخلوقة هي أن غير مخلوقة؟ فأنتم تزعمون أن الله خلقها" فإن قالوا "كيف نسبها الله إلى خلقه وجعلهم الذي عملوا؟" وتكلموا فقالوا: "ألا ترون أن الله عز وجل قد قال: {واللهُ حعلَ لكم من بيوتكم سَكَنًا وجعلَ لكم من جلودِ الأنعامِ بيوتًا} [سورة النحل/80]، وقال: {وجعلَ لكم سرابيلَ تقيكُمُ الحرَّ وسرابيلَ تقيكم بأسكم} [سورة النحل/81] وأنتم تعلمون أن الناس هم الذين غزلوا ونسجوا السرابيل وعملوا الدروع وبنوا البيوت واتخذوا المظال وقد منّ علينا به وأخبرنا أنه جعله وذلك أنه ألهمنا بمنّته أن غزلنا وهو علّمنا ذلك ونسجنا وعلّما ما عملنا وأخبرنا أنه قد جعله فكذلك خلق ما عملنا من طاعة أو معصية ونحن عملناهما جميعًا، وكذلك قال أيضًا: {ألمْ ترَ كيفَ ضربَ اللهُ مثلاً كلمةً طيبةً كشرجةٍ طيبةٍ أصلُها ثابتٌ وفرعُها في السماءِ* تُؤتي أكُلَها كلَّ حينٍ بإذنِ ربها ويضربُ اللهُ الأمثالَ للناسِ لعلهم يتذكَّرون} [سورة إبراهيم/24-25]. ألا ترون أن الله سبحانه خلق الثمرة في الشجرة وأخرجها منها ثم نسب الخروج منها إليها وقال: {تُؤتي أُكُلها كلَّ حين بإذن ربها}، وكذلك أعمال العباد خلقها ثم نسبها إليهم وأخبر أنهم عملوها".

فإن قالوا: "أخبرونا عن العباد أمجبورون [8] على الأعمال من الإيمان والكفر والطاعة والمعصية أم لا؟" فقل: "منهم من هو مجبور على ذلك ومنهم من هو غير مجبور. فأما الذين جبروا على الطاعة فمنهم أهل مكة افتتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم قسرًا فأسلموا كرهًا ولو لم يسلموا قتلهم واستحلّ دماءهم وأموالهم فهذا وجه القسر والجبر. وأما الوجه الآخر فإن الله تبارك وتعالى قد قذف في قلوبهم الهدى وحبّب إليهم الإيمان وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان ثم قال: {أولئكَ همُ الراشدون} [سورة الحجرات/7]، وقد قال في كتابه: {ولهُ أسلمَ مَن في السمواتِ والأرضِ طَوعًا وكَرهًا} [سورة ءال عمران/83].

فإن قالوا: "فأخبرونا عن المشركين الذين لم يسلموا أجبروا على الشرك؟" فيقال لهم: "إنّ المشركين لم يريدوا الإسلام فيُجبروا على الشرك، ذلك أنهم لو أرادوا الإيمان فأكرهوا على الشرك، كما أراد المشركون الشرك ورضوا به وأراد الله أن يهديهم فجبرهم على الهدى وهم كارهون". فإن قالوا: "فإن لم يكونوا مجبورين ولا مكرهين فهل يستطيعون ترك الشرك وقبول الهدى؟" فقل: "لا، إلا أن يشاء الله" فإن قالوا: "فكيف لا يكونون مجبورين ولا يستطيعون أن يتركوا شركهم؟" فقل: "كذلك الله يفعل ما يشاء يهدي من يشاء ويُضل من يشاء، فلا مضلّ لمن هدى ولا هادي لمن يضل".

[تمت مسائل الحسن بن محمد كلها]


ملحق



أخبرونا عن الاستطاعة التي تزعمون أن الله جل ثناؤه جعلها في عباده حجةً عليهم وأنها مركبةٌ فيهم ليعملوا أو يتركوا هل جعلها في الملائكة المقربين أن لا؟ فإن قالوا: "نعم، قد جعلها فيهم وامتنّ بها عليهم"، فقولوا لهم: "فأنتم إذًا لا تدرون عن الملائكة هل بلّغت أن لا، وهل أدّت ما أُمِرت بأدائه أم قصّرت في شئ مما أمرت به، إذ تزعمون أنها قادرة على ما تهوى تاركةٌ لما تشاء".

وما يدريكم إن كان الملائكة مستطيعين ولما يشاؤون من الأعمال متخيّرين وعلى العمل والترك قادرين؟ لعلهم قد تركوا بعض ما به أمروا أو قصّروا في أداء بعض الوحي وفرّطوا في نصر النبي والمؤمنين وفي غير ذلك مما أمرهم به رب العالمين.

يُسأل من أثبتَ في الخلق الاستطاعة فيقال لهم: "هل يثيب الله خلقه على ما عملوا من الطاعة مما لم يجعل لهم السبيلَ إلى تركه، وهل يعاقبهم على ما عملوا به من معصيته؟".





الهوامش:



[1] قال تعالى حاكيًا عن إبليس: {لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيته} [سورة الإسراء/62] قال الفراء: لأستولين عليهم. انتهى من مختار الصحاح ص/67.
[2] غضبه ورضاهُ صفتان أزليتان أبديتان ليس كغضب ورضا المخلوقين ليس تأثّرًا وانفعالاً ليس إحساسًا أو شعورًا بل غضبه إرادة الانتقام ورضاهُ إرادةُ الإنعام.
[3] وكلتُ الأمرَ إليه وكلاً ووكولاً فوّضته إليه [المصباح، ص/257].
[4] تداول القوم الشئ تداولاً وهو حصوله في يد هذا تارةً وفي يد هذا أخرى، والاسم الدولة بفتح الدال وضمها [المصباح، ص/77].
[5] من أثر قذف الحجارة على رسول الله من قبل المشركين شجّ وجهه.
[6] والرباعيات أربعة أسنان تلي الثنايا وقد كسر واحد منها. والثنايا أربعة أسنان في مقدم الفم ثنتان من فوق وثنتان من تحت.
[7] المراد سورو فصلت.
[8] مراده هنا الإكراه على الفعل.


الرسالة الثالثة

مناظرة الإمام المجتهد عبد الرحمن الأوزاعي
لغيلان الدمشقي القدري
المتوفى سنة 157هـ

ترجمة الإمام الأوزاعي [1]
رضي الله عنه



- اسمه وكنيته:

هو الإمام المجتهد أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن يُحمد المعروف بالأوزاعي إمام أهل الشام في زمانه في الحديث والفقه.

والأوزاع بطن من ذي الكلاع من اليمن وقيل بطن من همدان واسمه مرثد بن زيد وقيل الاوزاع قرية بدمشق على طريق باب الفراديس، ولم يكن أبو عمر منهم وإنما نزل فيهم فنسب إليهم.

- مولده:

ولد رحمه الله تعالى سنة 88هـ، وكان مولده في حياة الصحابة، وسكن محلة الاوزاع وهي العقيبة الصغيرة ظاهر باب الفراديس بدمشق ثم تحول إلى بيروت مرابطًا إلى أن مات بها، وقال بعض من ترجم له بأنه ولد في بعلبك مدينة في لبنان ونشأ بالبقاع ثم نقلته أمه إلى بيروت.

- هيئته:

كان الاوزاعي فوق الرَّبعة خفيف اللحم به سمرة يخضب بالحناء.

حدث عنه: عطاء بن أبي رباح وأبي حعفر الباقر وعمرو بن شعيب ومكحول والزهري ويحيى بن أبي كثير وقتادة بن دعامة ونافع مولى ابن عمر والوليد بن هشام وابن المنكدر وسليمان الأعمش وخلق كثير من التابعين وغيرهم.

روى عنه الزهري ويحيى بن أبي كثير وهما من شيوخه وهذه من رواية الاكابر عن الأصاغر، وشعبة ويونس بن يزيد ومالك بن أنس وبقية بن الوليد والوليد بن مزيد وابن المبارك وأبو عاصم النيل ومحمد بن شعيب ومسلمة بن علي ومحمد بن كثير المصيصي وخلق كثير.

- زهده وورعه وعبدته:

قال الوليد بن مسلم: رأيتُ الأوزاعي يثبت في مصلاة يذكر الله حتى تطلع الشمس، ويخبرنا عن السلف أن ذلك كان هديهم، فإذا طلعت الشمس قام بعضهم إلى بعض فأفاضوا في ذكر الله والتفقه في دينه.

وقال الوليد بن مزيد: كان الأوزاعي من العبادة على شئ ما سمعنا بأحد قوي عليه ما أتى عليه زوالٌ قدّ إلا وهو قائم.

وقال الوليد أيضًا: ما رأيت أكثر اجتهادًا في العبادة من الأوزاعي.

وعن أبي مسهر قال: ما رُئي الأوزاعي ضاحكًا حتى تبدو نواجذه وإنما كان يبتسم أحيانًا كما روى في الحديث، وكان يُحيي الليل صلاة وقرءانًا وبكاءً، وأخبرني بعض إخواني في بيروت أن أمه كانت تدخل منزل الأوزاعي وتتفقد موضع مصلاه فتجده رطبًا من دموعه في الليل.

وعم عقبة بن علقمة البيروتي قال: أرادوا الاوزاعي على القضاء فامتنع وأبى فتركوه.

- ثناء العلماء عليه:

أثنى عليه الأئمة وأجمع المسلمون على عدالته وإمامته وجلالته ومرتبته وكمال فضيلته وزهده وورعه وعبادته وقيامه في الحق وكثرة صدقته وفقهه وفصاحته واتباعه السنة ومجانبته للبدعة، وإجلال الأئمة له في زمانه وكذا من كان بعده في سائر الأقطار واعترافهم بارتفاع مرتبته وعلو شأنه يدل على عظيم منزلته رحمه الله تعالى.

قال الإمام مالك بن أنس: الأوزاعي إمامٌ يُقتدى به.

وقال الإمام الشافعي: ما رأيت رجلاً أشبه فقهُه بحديثه من الاوزاعي.

وقال الحافظ ابن عساكر: الأوزاعي إمامُ أهل الشام في الحديث والفقه.

وقال ابن سعد صاحب الطبقات: كان الاوزاعي ثقةً مأمونًا صدوقًا فاضلاً خيّرًا كثير الحديث والعلم والفقه حجّة.

- مذهبه:

كان الإمام الأوزاعي مجتهدًا له مذهب مستقل مشهور يتبع الناس رأيه، وعمل به فقهاء الشام مدة وفقهاء الأندلس ثم فني وانقرض لأنه لم يدوّن كفقه المذاهب الأربعة: الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم.

- وفاته:

توفي الأوزاعي رحمه الله تعالى سنة 157هـ يوم الاحد بمدينة بيروت، ودفن قريبًا من شاطئ البحر في قرية على باب بيروت يقال لها حنتوس وتُعرف اليوم بمحلة الاوزاعي نسبة إليه رحمه الله تعالى.

الهوامش:



[1] من مصادر ترجمته: تاريخ مدينة دمشق [35/147] لابن عساكر، وفيات الأعيان [3/127] لابن خلكان، سير أعلام النبلاء [7/107] للذهبي، الطبقات الكبرى [7/339] لابن سعد، وغيرها كثير.


ترجمة غيلان بن أبي غيلان
أبو مروان القدري [1]



هو الضالّ أبو مروان غيلان الدمشقي المعتزلي صاحب معبد الجُهني وعنه أخذ بعض ضلالاته، ويُعد غيلان من بلغاء الكتاب المقتول في القدر أي لنفيه القدر وهو مولى عثمان بن عفان، وإليه تنسب فرقة "الغيلانية" من القدرية، وكان من أصحاب الحارث الكذاب وممن ءامن بنبوته فلما قتل الحارث قام غيلان إلى مقامه، وقال له خالد بن اللجلاج: ويلك ألم تك في شبيبتك ترامي النساء بالتفاح في شهر رمضان ثم صرت خادمًا تخدم امرأة الحارث [2] الكذاب المتنبي وتزعم أنها أم المؤمنين ثم تحولت فصرت قدريًا زنديقًا؟ ما أراك تخرج من هوى إلا إلى أشر منه.

وقال له العالم مكحول البيروتي لا تجالسني، وكان الإمام مالك ينهى عن مجالسته، ودعا عليه عمر بن عبد العزيز فقتل وصلب.

قال ابن السمعاني في "الأنساب" [3]: "وأما الغيلانية ففرقة من المرجئة [4] ينتمون إلى غيلان القدري، زعموا أن الإيمان هو المعرفة الثانية بالله عز وجل والخضوع له والإقرار بما جاء به الرسول وبما جاء من عند الله والمعرفة الأولى عندهم اضطرارية. فلذلك لم يجعلوها من الإيمان" اهـ، وذكر مثله البغدادي في "الفرق بين الفرق" [5] والشهرستاني في "الملل والنحل" [6] فمن مرجئة القدرية أي الذين جمعوا بين القدر والإرجاء ناظره الإمام الأوزاعي بحضرة هشام بن عبد الملك [7] فانقطع غيلان ولم يتب، وكان قد أظهر القدر في خلافة عمر بن عبد العزيز فاستتابه عمر فقال غيلان: لقد كنتُ ضالاً فهديتني، وقال عمر: اللهم إن كان صادقًا وإلا فاصلبه واقطع يديه ورجليه ثم قال: أمِّن يا غيلان، فأمَّن على دعائه.

فنفذت فيه دعوة الرجل الصالح عمر بن عبد العزيز فأخذ وقطعت أربعته وصُلب بدمشق في القدر نسأل الله السلامة وذلك في حياة عبادة بن نسي فإنه أحد من فرح بصلبه، وكان قتله بعد سنة 105هـ.

وعن ابن عون قال: مررت بغيلان فإذا هو مصلوب على باب الشام.

وعن حسان بن عطية أنه قال: يا غيلان والله لئن كنتَ أعطيتَ لسانًا لم نعطه، إنا لنعرف باطل ما جئت به.



الهوامش:



[1] من مصادر ترجمته: لسان الميزان [4/492] للحافظ ابن حجر، الاعلام للزركلي [5/124]، تاريخ مدينة دمشق [48/186]، تاريخ الإسلام [حوادث سنة 101-102هـ، ص/441]، الضعفاء الكبير [3/436] للعقيلي، التاريخ الكبير [7/102] للبخاري.
[2] هو حارث بن سعيد المتنبئ وقد ظهر في أيام عبد الملك بن مروان.
[3] الأنساب [4/326].
[4] كذا قال، وفي "اللباب" [2/398] لابن الأثير: "القدرية" بدل "المرجئة".
[5] الفرق بين الفرق [ص/205].
[6] الملل والنحل [ص/146].
[7] هو العاشر من خلفاء بني أمية استخلف بعهد من أخيه يزيد.


نص المناظرة [1]



أخبرنا أبو طالب علي بن عبد الرحمن، أنبأنا أبو الحسن علي بن الحسن الخِلعي، أنبأنا أبو محمد بن النحاس، أنبأنا أبو سعيد بن الأعرابي، حدثنا صالح بن علي النوفلي –بحلب- حدثنا الحمصي واسمه خالد بن عمرو السلفي، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن الاوزاعي قال:

أرسل هشام بن عبد الملك إلى غيلان فقال له: يا غيلان، ما هذه المقالة التي تبلغني عنك في القدر؟ فقال: يا أمير المؤمنين هو ما بلغك، وقال: أحضر من أحببت يحاجّني، فإنْ غلبني فاضرب رقبتي، فأحضر الأوزاعي فقال له الأوزاعي: يا غيلان إن شئتَ ألقيتُ عليك سبعًا وإن شئتَ خمسًا وإن شئت ثلاثًا، قال: ألقِ علي ثلاثًا، قال: فقال له: قضاء الله على ما نهى عنه، قال: ما أدري أيش تقول، قال: وأمر الله بأمرٍ حال دونه، فقال: هذه أشدّ علي من الأولى، قال: فحرّم الله حرامًا ثم أحلّه، قال: ما أدري أيش تقول، قال: فأمر به فضُربت رقبته.

قال: ثم قال هشام للأوزاعي: يا أبا عمرو فسّر لنا ما قلت، قال: قضى الله على ما نهى ءادم أن يأكل من الشجرة ثم قضى عليه فأكل منها، وأمر إبليس أن يسجد لآدم وحال بين إبليس وبين السجود، وقال: {حُرِّمَتْ عليكُم المَيتةُ والدَّمُ ولحمُ الخنزير} [سورة المائدة/3]، وقال: {فَمَنِ اضطُرَّ} [سورة المائدة/3] فأحله بعدما حرمه.

أخبرنا أبو الفتح نصر الله بن محمد، أنبأنا نصر بن إبراهيم، أنبأنا أبو محمد عبد الله بن الوليد الأنصاري الأندلسي –قراءة عليه في منزله-.

ح [2] أخبرنا خالي أبو المعالي محمد بن يحيى أنبأنا الحافظ أبو عبد الله الحُميدي –إجازة- أنبأنا الشيخ الصالح أبو الحسن عبد الباقي بن فارس بن أحمد المقرئ –إملاء في مسجد عمرو بن عبد الباقي بمصر- قالا: حدّثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن إدريس الرازي الشافعي بمصر سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، حدّثنا أبو الحسين –وفي حديث نصر الله: أبو الحسن- أحمد بن عبد الرحمن بن أحمد الأنماطي، حدثنا أبو إسحاق- زاد نصر الله: إبراهيم بن عبد الله بن ثمامة –حدثنا إبراهيم بن إسحاق- وقال المصيصي: حدثنا محمد بن كثير قال:

كان على عهد هشام بن عبد الملك رجل يقال له غيلان القدري، فشكاه الناس إلى هشام بن عبد الملك، فبعص هشام إليه –زاد نصر الله: وأحضره- فقال له: قد كثر كلام الناس فيك، قال: نعم يا أمير المؤمنين، ادعُ من شئتَ فيحاجّني –وقال نصر الله: فيجادلني- فإن أدركَ عليَّ سببٌ- وقال نصر الله: فإن أدركتَ عليّ شيئًا فقد أمكنتك من عِلاوتي –يعني رأسه- قال هشام: قد أنصفتَ، فبعص هشام إلى الأوزاعي، فلما حضر الأوزاعي قال له – زاد نصر الله: هشام، وقالا: -يا أبا عمرو ناظر لنا هذا القدري، فقال له الاوزاعي –وفي حديث خالي: فقال الأوزاعي للقدري: اخترْ إن شئت ثلاث كلمات، وإن شئتَ أربع كلمات، وإن شئت واحدة، فقال القدري: بل ثلاث كلمات.

فقال الأوزاعي للقدري: أخبرني عن الله عز وجل، هل تعلم أنه قضى على ما نهى؟ فقال القدري: ليس عندي في هذا شئ، فقال الاوزاعي: هذه واحدة.

ثم قال الأوزاعي: أخبرني عن الله عز وجل أنه حال دون ما أمر؟ فقال القدري: هذه أشد –زاد نصر الله: عليّ وقالا: -من الأولى، ما عندي من هذا شئ، فقال الأوزاعي: هذه اثنتان يا أمير المؤمنين.

فقال الاوزاعي للقدري: أُخبرني عن الله عز وجل أنه أعان على ما حرّم، فقال القدري: هذا –وقال نصر الله: هذه- أشدّ عليّ من الاولى والثانية، ما عندي في هذا شئ، فقال الأوزاعي: يا أمير المؤمنين هذه ثلاث –زاد نصر الله: كلمات-.

فأمر به هشام فضُربت عنقه.

فقال هشام بن عبد الملك للأوزاعي: فسّر لنا هذه الثلاث كلمات –وقال نصر الله: هذه الثلاثة- ما هي؟ قال الأوزاعي –وفي حديث نصر الله: قال: نعم، وقالا: -يا أمير المؤمنين أما تعلم أنّ الله قضى [3] على ما نهى؟ نهى ءادمَ عن أكل الشجرة ثم قضى عليه أكلها –وقال نصر الله: بأكلها- فأكلها.

ثم قال الأوزاعي: أما تعلمُ يا أمير المؤمنين أن الله حال دون ما أمر أمرَ إبليس بالسجود لآدم ثم حال بينه وبين السجود.

ثم قال الاوزاعي: أما تعلم يا أمير المؤمنين أن الله تعالى أعان على ما حرّم، حرّم الميتة –زاد نصر الله: والدمّ قالا: -ولحم الخنزير، ثم أعان عليه بالاضطرار إليه.

فقال هشام: فأخبرني عن الواحدة ما كنتَ تقول له؟ قال: أقول له –زاد نصر الله وقالا: -مشيئتك مع مشيئة الله، أو مشيئتك دون مشيئته –وقال نصر الله: مشيئة الله- فأيهما أجابني فيه حل فيه ضرب عنقه.

قال: فأخبرني عن الأربع ما هي؟ قال: كنت أقول له: أخبرني عن الله عز وجل، خلقك كما شاء أو كما شئتَ؟ فإنه كان يقول: كما شاء، ثم أقول له: أخبرني عن الله عز وجل يتوفاك إذا شاء أو إذا شئتَ؟ فإنه كان يقول إذا شاء، ثم أقول له: أخبرني عن الله يرزقك إذا شاء أو إذا شئتَ؟ فإنه كان يقول: إذا شاء، ثم كنتُ أقول له: أخبرني عن الله عز وجل إذا توفاك إلى أين تصير؟ حيث شئتَ أو حيث شاء؟ فإنه كان يقول: حيث شاء.

ثم قال الأوزاعي: يا أمير المؤمنين مَن لم يمكنه أن يُحسن خلقه، ولا يزيد في رزقه ولا يؤخر في أجله ولا يُصيّر نفسه حيث شاء –وقال نصر الله: حيث شاء- فأيّ شئ في يديه –وقال نصر الله: في يده – من المشيئة يا أمير المؤمنين؟ قال: صدقتَ يا أبا عمرو.

ثم قال الأوزاعي: يا أمير المؤمنين، إن القدرية ما رضوا بقول الله عز وجل ولا بقول الأنبياء ولا بقول أهل الجنة ولا بقول أهل النار ولا بقول الملائكة ولا بقول أخيهم إبليس، فأما قول الله عز وجل: {فاجتباهُ ربُّهُ فجعلهُ من الصالحينَ} [سورة القلم/50]، وأما قول الملائكة: {لا علمَ لنا إلا ما علَّمتنا} [سورة البقرة/32]، وأما قول الأنبياء، فما قال شعيب: {وما توفيقي إلا باللهِ عليهِ توكلتُ} [سورة هود/88]، وقال نصر الله: قال إبراهيم: {لئن لم يهدني ربي لأكوننَّ منَ القومِ الضالين} [سورة الأنعام/77]، وقول نوح: {ولا ينفعُكُم نُصحي إن أردتُ أن أنصحَ لكم إن كانَ اللهُ يريدُ أن يُغويكم} [سورة هود/34]، وأما قول أهل الجنة فإنهم قالوا: {الحمدُ للهِ الذي هدانا لهذا وما كُنَّا لنَهتديَ لولا أن هدانا اللهُ} [سورة الأعراف/43]، وأما قول أهل النار: {لوْ هدانا اللهُ لهديناكُم} [سورة إبراهيم/21]، وأما قول أخيهم إبليس: {ربِّ بما أغويتني} [سورة الحجر/39].

أخبرنا أبو الحرم مكي بن الحسن بن معافى، وأبو القاسم نصر بن أحمد بن مقاتل، قالا: أنبأنا أبو محمد مقاتل بن مطكود بن أبي نصر، أنبأنا أبو الحسن علي بن محمد بن شجاع، أنبأنا أبو الفتح محمد بن إبراهيم بن يزيد النصري بالقدس سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، حدثنا أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان بن بطة العُكبري، وأبو الحسن علي بن محمد بن ينال الشافعي –شك الشيخ أبو الفتح- أنبأنا أبو بكر القاسم بن إبراهيم الصفار، حدثنا حجر بن محمد السامري البصري، حدثنا عبد الرحمن بن عبيد الله البصري، حدثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل المنقري، حدثنا حماد أبي سلمة [4]، عن أبي جعفر الخطمي قال:

بلف عمر بن عبد العزيز كلامُ غيلان القدري في القدر، فأرسل إليه فدعاه، فقال له: ما الذي بلغني عنك؟ تكلم [5] في القدر؟ قال: يكذب علي يا أمير المؤمنين ويقال عليّ ما لم أقُل، قال: فما تقول في العلم؟ ويلك أنت مخصوم إن أقررت بالعلم خصمتَ وإن جحدت بالعلم كفرتَ، ويلك أقرّ بالعلم تخصم خير من أن تجحد فتُلعن، والله لو علمتُ أنك تقول الذي بلغني عنك لضربتُ عنقك، أتقرأ: {يس* والقرءانِ الحكيم} [سورة يس/1-2]؟ قال: نعم، قال، فقرأ: {بسم الله الرحمن الرحيم يس* والقرءانِ الحكيمِ* إنَّكَ لمنَ المُرسلين* على صراطٍ مستقيم} إلى أن بلغ: {لقدْ حقَّ القولُ على أكثرهم فهُم لا يؤمنون} قال له: قِفْ، كيف ترى؟ قال: كأني لم أقرأ هذه الآية قط، قال: زد: {إنَّا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهيَ إلى الأذقانِ فهُم مُقمحون} قِفْ، من جعل الأغلال في أعناقهم؟ قال: لا أدري، قال: ويلك، الله والله، قال زد: {وجعلنا من بينِ أيديهم سدًّا ومن خلفهم سدًّا} قال: قِفْ، قال: ويلك، من جعل السد بين أيديهم؟ قال: لا أدري، قال: ويلك، الله والله، زد ويلك: {وسواءٌ عليهم ءأنذرتهُم أم لم تُنذرهم لا يؤمنون* إنَّما تُنذرُ منِ اتبعَ الذكرَ وخشيَ الرحمنَ بالغيبِ فبشرهُ بمغفرةٍ وأجرٍ كريمٍ} [سورة يس/10-11]، قف، كيف ترى؟ قال: كأني والله لم أقرأ هذه السورة قط، فإني أعاهد الله أن لا أعود في شئ من كلامي أبدًا، فانطلق.

فلما ولى قال عمر بن عبد العزيز: اللهم إن كان أعطاني بلسانه ومحنته في قلبه فأذقهُ حرّ السيف.

فلم يتكلم في خلافة عمر بن عبد العزيز، وتكلم في خلافة يزيد بن عبد الملك، فما مات يزيد أرسل إليه هشام فقال: ألستَ كنت عاهدت الله لعمر بن عبد العزيز أنك لا تكلم في شئ من كلامك؟ قال: أقِلني يا أمير المؤمنين، قال: لا أقالني الله إن أنا أقلتك يا عدو الله، أتقرأ فاتحة الكتاب؟ قال: نعم فقرأ {بسم الله الرحمن الرحيم* الحمدُ لله رب العالمين* الرحمن الرحيم* مالكِ يوم الدين* إياكَ نعبدُ وإياك نستعين} [سورة الفاتحة/1-2-3-4-5] قال: قف يا عدو الله، على ما تستعين الله، على أمرٍ بيدك أم على أمرٍ بيده؟ من ههنا، انطلقوا به فاضربوا عنقه واصلبوه، قال: يا أمير المؤمنين أبرز لي رجلاً من خاصّتك أناظره، فإن أدرك عليّ أمكنته من علاوتي فليضربها، وإن أنا أدركت عليه فاتبعني به، قال هشام: من لهذا القدري؟ قالوا: الأوزاعي، فأرسل إليه وكان بالساحل، فلما قدم عليه، قال له الأوزاعي: أخبرني يا غيلان إن شئت ألقيتُ عليكَ ثلاثًا وإن شئتَ أربعًا وإن شئتَ واحدة، قال: ألقِ عليّ ثلاثًا.

قال: أخبرني عن الله، قضى على ما نهى؟ قال: لا أدري كيف هذا، قال الأوزاعي: واحدة يا أمير المؤمنين.

ثم قال: أخبرني عن الله، أمرَ بأمرٍ ثم حال دون ما أمر؟ قال القدري: هذه والله أشدّ من الأولى، قال الأوزاعي: هاتان اثنتان يا أمير المؤمنين.

ثم قال: أخبرني عن الله، حرّم حرامًا ثم أحلّه؟ قال: هذه والله أشدّ من الأولى والثانية، قال الأوزاعي: كافر [6]، وربّ الكعبة يا أمير المؤمنين.

فأمر به هشام فقُطعت يداه ورجلاه [7] وضُربت عنقه وصُلب، فقال حين أُمِرَ به: أدركتني دعوة العبد الصالح عمر بن عبد العزيز.

قال هشام: يا أبا عمرو فسّر لنا الثلاث التي ألقيتَ عليه، قال: قلت له: أخبرني عن الله، قضى على ما نهى، إن الله نهى ءادم عن أكل الشجرة، ثم قضى عليه أن يأكل منها، قلت له: أخبرني عن الله أمر بأمرٍ ثم حال دون ما أمر، إن الله عز وجل أمر إبليس بالسجود لآدم فحال بينه وبين أن يسجد له، وقلتُ له: أخبرني عن الله عز وجل، حرّم حرامًا ثم أحله، حرّم الميتة وأعان على أكلها للمضطر إليها.

قال له هشام: فأخبرني عن الأربع ما هي؟

قال: كنت أقول له: أخبرني عن الله عز وجل خلقك كما شاء أو كما شئت؟ فإنه يقول: كما شاء.

ثم كنت أقول له: أخبرني عن الله أرازقك إذا شاء أم إذا شئت؟ فإنه يقول: إذا شاء.

ثم كنت أقول له: أخبرني عن الله يتوفاك حيث شاء أم حيث شئتَ؟ فإنه يقول: حيث شاء.

ثم كنت أقول له: أخبرني عن الله يصيّرك حيث شاء أم حيث شئت؟ فإنه يقول: حيث شاء، فمن لا يقدر أن يزيد في رزقه ولا ينقص في عمره فما إليه من المشيئة شئ.

قال هشام: فأخبرنا عن الواحدة ما هي؟

قال: كنت أقول له: أخبرني عن مشيئتك، مع مشيئة الله أو دون مشيئة الله؟ فعلى أيهما أجابني حلّ قتله، إن قال: مع مشيئة الله صيَّر نفسه شريكًا لله، وإن قال: دون مشيئة الله انفرد بالربوبية.

فقال هشام: لا أحياني الله بعد العلماء ساعة واحدة.


الهوامش:



[1] ذكرها الحافظ ابن عساكر في كتابه "تاريخ مدينة دمشق" [48/204].
[2] الحاء إشارة وضعها المحدثون علامة للتحويل في السند.
[3] اعلم أن علماء التوحيد قد قسّموا الامور إلى أربعة:
الاولى: شئ شاءه الله وأمر به وهو إيمان المؤمنين وطاعة الطاعين.
والثاني: شئ شاءه ولم يأمر به وهو عصيان العصاة وكفر الكافرين، وعلى هذا القسم يحمل قضاؤه على ءادم بالأكل من الشجرة مع نهيه عن ذلك فقد نهاه الله عن الأكل منها وشاء له حصول الأكل.
والثالث: أمر لن يشأه وأمر به وهو الإيمان بالنسبة للكافرين الذين علم أنهم يموتون على الكفر. وعلى هذا يحمل أمره لإبليس بالسجود ولم يشأ حصول السجود منه.
والرابع: أمر لم يشأه ولم يأمر به وهو الكفر بالنسبة للأنبياء والملائكة.
[4] يعني حماد بن سلمة.
[5] أي تتكلم.
[6] هذا دليل لأهل السنة على جواز تكفير الشخص المعين الذي تكلم بلفظ صريح في الكفر وردّ على من منع ذلك من بعض أهل هذا العصر.
[7] في النسخة المطبوعة: "يديه ورجليه".


فهرس المصادر



-أ-

- الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان، لابن بلبان، دار الكتب العلمية، بيروت.
- الأسماء والصفات، للبيهقي، دار إحياء التراث العلمي، بيروت.
- إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، للقسطلاني، دار الفكر، بيروت.
- إشارات المرام من عبارات الإمام، للبياضي الحنفي، مصطفى البابي، القاهرة.
- أصول الدين، لأبي منصور البغدادي، دار الآفاق الجديدة، بيروت.
- الأنساب، للسمعاني، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت.

-ب-

- البداية والنهاية، لابن كثير، دار الكتب العلمية، بيروت.

-ت-

- تاريخ الإسلام: للذهبي، دار الكتاب العربي، بيروت.
- تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي، دار الكتب العلمية، بيروت.
- تاريخ مدينة دمشق، لابن عساكر، دار الفكر، بيروت.
- تبصير المنتبه وتحرير المشتبه، للحافظ ابن حجر، دار الكتب العلمية، بيروت.
- تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري، لابن عساكر، دار الكتاب العربي، بيروت.
- التقرير والتحبير شرح التحرير، لابن أمير الحاج، المطبعة الاميرية، بولاق.
- تهذيب التهذيب، للحافظ ابن حجر، دار الفكر، بيروت.
- التوحيد، لأبي منصور الماتريدي، دار المشرق، بيروت.

-ح-

- الحلية، لأبي نعيم الأصبهاني، دار الكتب العلمية، بيروت.

-ر-

- روضة الطالبين، للنووي، طبعة زهير الشاويش، بيروت.

-س-

- سنن ابن ماجه، لابن ماجه، المكتبة العلمية، بيروت.
- سنن أبي داود، لأبي داود، دار الجنان، بيروت.
- سنن الترمذي، للترمذي، دار الكتب العلمية، بيروت.
- سنن الدارمي، للدارمي، دار الكتب العلمية، بيروت.
- السنن الكبرى، للبيهقي، دار المعرفة، بيروت.
- سير اعلام النبلاء، للذهبي، مؤسسة الرسالة، بيروت.
- سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز، لابن الجوزي، دار الكتب العلمية، بيروت.

-ش-

- شذرات الذهب، لابن العماد، دار المسيرة، بيروت.
- شرح صحيح مسلم، للنووي، دار الفكر، بيروت.
- شرح الفقه الأكبر، لعلي القاري، دار الكتب العلمية، بيروت.
- الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم، للهرري، شركة دار المشاريع، بيروت.
- شعب الإيمان، للبيهقي، دار الكتب العلمية، بيروت.

-ط-

- طبقات الشافعية الكبرى، لتاج الدين السبكي، دار إحياء الكتب العربية، مصر.

-ف-

- فتح الباري شرح صحيح البخاري، للحافظ ابن حجر، دار المعرفة، بيروت.
- الفرق بين الفرق، لأبي منصور البغدادي، دار المعرفة، بيروت.
- الفقه الأبسط، لأبي حنيفة، مطبعة الأنوار، القاهرة.
- الفقه الأكبر، انظر: شرح الفقه الأكبر.

-ق-

- القاموس المحيط، للفيروزابادي، مؤسسة الرسالة، بيروت.

-ك-

- الكامل في ضعفاء الرجال، لابن عدي، دار الفكر، بيروت.

-ل-

- اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، للسيوطي، دار المعرفة، بيروت.
- لب اللباب في تحرير الأنساب، للسيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت.
- اللباب في تهذيب الأنساب، لعز الدين بن الأثير، دار صادر، بيروت.
- لسان العرب، لابن منظور، دار صادر، بيروت.
- لسان الميزان، للحافظ ابن حجر، دار الفكر، بيروت.

-م-

- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للهيثمي، دار الكتب العلمية، بيروت.
- مختصر سنن أبي داود، للمنذري، دار المعرفة، بيروت.
- المدخل، للبيهقي، مكتبة أضواء السلف، الرياض.
- المستدرك على الصحيحين، للحاكم، دار المعرفة، بيروت.
- مسند أبي يعلى، لأبي يعلى، دار المأمون للتراث، دمشق.
- مسند أحمد، للإمام أحمد، دار صادر، بيروت.
- مسند الشاميين، للطبراني، مؤسسة الرسالة، بيروت.
- مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه، للبوصيري، دار الجنان، بيروت.
- المصباح المنير، للفيومي، مكتبة لبنان، بيروت.
- معالم السنن شرح سنن أبي داود، للخطابي، دار الكتب العلمية، بيروت.
- المعجم الأسوط، للطبراني، دار الحديث، القاهرة.
- المعجم الصغير، للطبراني، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت.
- مناقب الشافعي، للبيهقي، مكتبة دار التراث، القاهرة.
- مناقب الشافعي، للرازي، دار الكتب العلمية، بيروت.
- المنتقى من كتاب القضاء والقدر، للبيهقي، شركة دار المشاريع، بيروت.
- ميزان الاعتدال، للذهبي، دار المعرفة، بيروت.

-و-

- الوافي بالوفيات، للصفدي، دار فرانز شتايز [طبع بمطابع دار صادر، بيروت].
- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، لابن خلكان، دار الثقافة، بيروت.
TohaKepriben

Previous Post Next Post