كتاب الجوهرُ الثمين


الجوهرُ الثمين
في بعض من اشتهرَ ذِكرهُ بينَ المسلمين

ملتزم الطبع
دار المشاريع للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة الأولى
2002-1423هـ

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي قيض للإسلام أفذاذًا من الرجال، يذودون عن حياضهِ كل مبتدع دجال، ويمتثلون أمر الله عز وجل أحسن امتثال، لهم البشرى في الحياة الدنيا ولهم العقبى وحسن مآل، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صاحب الإكرام والإجلال، وعلى من اتبعه بإحسان من صحب وءال، والتابعين لهم في الحال والمقال والافعال.

قال الله تعالى: {من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليهِ فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلاً} [سورة الأحزاب/23]. فإنه يسعدنا أن نضع بين يدي القارئ كتابًا يحتوي على جملة من أخبار أعلام، كان لهم الفضل في نشر هذا الدين الحنيف، فمنهم من نشره بالبيان والسنان، وهم رجال كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من نشره باللسان وإقامة الحجج والبراهين والرد على المبتدعة المارقين، وهم العلماء العاملون، ومنهم قادة خصهم الله تعالى بالحمية في المحافظة على الأمة المحمدية، بكل ما أعطوا من حكمة ورويَّة وهمة قوية، ومنهم أولياء عارفون ساهموا في تثبيت دعائم الدين، وفقهم الله عز وجل، وجعلهم من المناصرين المدافعين عن طريق أهل السنة الموصل إلى الجنة.

لذا فإن هذا الكتاب يشتمل على شيء من سيرة بعض هؤلاء الرجال الأكابر، ممن ذاع صيته في البلاد وكثر ذكره بين العباد فغدا الكتاب جوهرًا ثمينًا لمن اقتناه، وتمعّن في محتواه أسميناه: الجوهر الثمين فيمن اشتهر ذكره بين المسلمين". وقد عمدنا إلى تقسيم الكتاب إلى سبعة أبواب:

الأول: "المختار من سيرة العشرة الأخيار" وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد في مسنده "أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة..." الحديث.
الثاني: "الإعلام في مناقب بعض الصحابة الأعلام" وقد تميز هذا الباب في أخبار بعض الصحابة الكرام ممن كانت لهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أعمال جميلة ومواقف جليلة.
الثالث: "الأنباء فيما لبعض الصحابة من الأبناء" اقتصرنا فيه على ذكر ثلاثة من أبناء الصحابة لما لهم من شهرةٍ وميزة بين الخاص والعام.
الرابع: "الضياء في ذكر من اشتهر من العلماء" بدأناه بعلماء التابعين ومن تبعهم بإحسان وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" رواه الترمذي.
الخامس: "الدرر النادرة في أعيان الأشاعرة" وذلك لما لهم من الفضل والمنّة في المحافظة على عقيدة أهل السنة.
السادس: "الإرشاد في أحوال العارفين والزهاد". وفيه ذكر أحوال المشتهرين من الأولياء والعارفين والزهاد وذكر أحوالهم وكراماتهم.
السابع: "تعطير الأنام في أخبار بعض الخلفاء والحكام". نسلط فيه الضوء على أحوال بعض الخلفاء والحكام ممن كانت لهم سيرة صالحة وعدل بين الرعية وأحوال سنيّة.
راجين الله عز وجل أن يسدد خطانا لما فيه خير هذه الأمة إنه على ما يشاء قدير وبعباده لطيف خبير.

الناشر


المختار من سيرة العشرة الأخيار

أبو بكر الصديق
أول الخلفاء الراشدين


ترجمته:

هو أبو بكر الصديق واسمه عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر القرشي، وقيل كان اسمه في الجاهلية "عبد الكعبة" فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يلتقي مسبه هو ورسول الله في مرة بن كعب، وأمه أم الخير سلمى [وقيل ليلى] بنت صخر بن عامر وهي بنت عم أبي قحافة.

ولد بعد عام الفيل بنحو ثلاث سنين، كان أبيض اللون نحيف الجسم خفيف العارضين معروق الوجه [أي قليل اللحم] ناتئ الجبهة، وعن أنس أنه قال: "كان أبو بكر يخضب بالحناء والكتم [نبت يصبغ به]".

وكان من رؤساء قريش وعلمائهم، حليمًا وقورًا مقدامًا شجاعًا صابرًا كريمًا رؤوفًا، هو أجود الصحابة وأول من أسلم من الرجال وعمره سبع وثلاثون سنة عاش في الإسلام ستًا وعشرين سنة. وبويع له بالخلافة يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الحادية عشرة من الهجرة وأجمعت الصحابة كلهم على خلافته.

وقد أورد ابن الجوزي في كتاب "صفة الصفوة" في تسميته بعتيق ثلاثة أقوال: أحدها روي عن عائشة أنها سئلت لم سمي أبو بكر عتيقًا، فقالت نظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هذا عتيق الله من النار"، والثاني أنه اسم سمته به أمه قاله موسى بن طلحة، والثالث أنه سمي به لجمال وجهه قاله الليث بن سعد.

وسماه النبي صلى الله عليه وسلم صديقًا وقال: "يكون بعدي إثنا عشر خليفة أبو بكر الصديق لا يلبث إلا قليلاً"، وكان علي بن أبي طالب يحلف بالله أن الله أنزل اسم أبي بكر من السماء صديق. ا.هـ.

وأخرج الحاكم في المستدرك عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء المشركون إلى أبي بكر فقالوا هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس قال أو قال ذلك قالوا نعم فقال: صدق إني لأصدقه بأبعد من ذلك بخبر السماء غدوة وروحة، فلذلك سمي الصديق. [ذكره السيوطي في تاريخ الخلفاء].


قصة إسلامه:

وقد أورد الجوزي في كتاب "صفة الصفوة" قال حسان بن ثابت وابن عباس واسماء بنت أبي بكر وإبراهيم النخعي: أول من أسلم أبو بكر، وقال يوسف بن يعقوب بن الماجشون: أدركت أبي ومشيختنا محمد بن المنكدر وربيعة بن أبي عبد الرحمن وصالح بن كيسان وسعد بن إبراهيم وعثمان بن محمد الاخنسي وهم لا يشكون أن أول القوم إسلامًا أبو بكر.

وعن ابن عباس قال: أول من صلى أبو بكر رحمه الله ثم تمثل بأبيات حسان:

إذا تذكرت شجوًا من أخي ثقة ***** فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها وأعدلها ***** إلا النبي وأوفاها بما حملا
الثاني التالي المحمود مشهده ***** وأول الناس حقًا صدق الرسلا

وورد في قصة إسلامه رضي الله عنه أنه رأى يومًا في منامه وهو في الشام أن الشمس والقمر نزلا في حِجره فأخذهما بيده وضمهما إلى صدره وأسبل عليهما رداءه، ثم انتبه من نومه فذهب إلى راهب يسأله عن الرؤيا. فقال الراهب: من أين أنت. قال: من مكة. فقال: وما شأنك؟ قال: التجارة. فقال له الراهب: "يخرج في زمانك رجلٌ يقال له محمد الامين تتبعه ويكون من قبيلة بني هاشم وهو نبي ءاخر الزمان، وأنت تدخل في دينه وتكون وزيره وخليفته من بعده قد وجدتُ نعته وصفته في التوراة والزبور". فلما سمع سيدنا أبو بكر رضي الله عنه صفة النبي ونعته صلى الله عليه وسلم رقّ قلبه واشتاق إلى رؤيته.

وما لبث أبو بكر رضي الله عنه أن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم فكان أول من أسلم من الرجال.

مناقبه وفضائله:

عن أسماء بنت أبي بكر قالت: جاء الصريخ إلى أبي بكر فقيل له: أدرك صاحبك. فخرج من عندنا وإن له غدائر، فدخل المسجد وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جائكم بالبينات من ربكم، قال: فلهوا عن رسول الله وأقبلوا إلى أبي بكر فرجع إلينا أبو بكر فجعل لا يمس شيئًا من غدائره إلا جاء معه وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإكرام، أورده ابن الجوزي في صفة الصفوة.

ذكر أهل العلم والتواريخ والسير أن سيدنا أبا بكر رضي الله عنه شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرًا وجميع المشاهد، وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، ودفع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم رايته العظمى يوم تبوك، وأنه كان يملك يوم أسلم أربعين ألف درهم فكان يعتق منها ويقوي المسلمين ولم يشرب الخمرة لا في الجاهلية ولا في الإسلام وهو أول من جمع القرءان.

ذكر محمد بن إسحاق أنه أسلم على يده من العشرة المبشرين خمسة هم عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم.

وقد كان أبو بكر رضي الله عنه رجلاً بكّاءً لا يملك دمعه حين يقرأ القرءان، وكان أفضل الصحابة وأذكاهم.

ومن فضائله رضي الله عنه ما شهد به عمر بن الخطاب حيث قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق ووافق ذلك مالاً عندي فقلت اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يومًا، قال فجئت بنصف مالي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك قلت: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك. فقال: أبقيت لهم الله ورسوله، فقلت: "لا أسابقك إلى شيء أبدًا". أخرجه الترمذي. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر"، فبكى أبو بكر وقال: هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله.

وعن أنس قال: "لما كان ليلة الغار قال أبو بكر: يا رسول الله دعني أدخل قبلك فإن كان حية أو شيء كانت لي قبلك. قال: "ادخل". فدخل أبو بكر فجعل يلتمس بيديه كلما رأى جحرًا قال بثوبه [أخذ بثوبه] فشقه ثم ألقمه الجحر. حتى فعل ذلك بثوبه أجمع قال: فبقي جحر فوضع عقبه عليه، ثم أدخل رسول الله فلما أصبح قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "فأين ثوبك يا أبا بكر"؟ فأخبره بالذي صنع فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وقال: "اللهم اجعل أبا بكر معي في درجتي يوم القيامة". فأوحى الله إليه أن الله تبارك وتعالى قد استجاب لك. أخرجه أبو نعيم في الحلية [1/33].

وعن الزهري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان: هل قلت في أبي بكر شيئًا فقال نعم فقال: قل وأنا أسمع فقال:

وثاني اثنين في الغار المنيف وقد ***** طاف العدو به إذ أصعد الجبلا
وكان حب رسول الله قد علموا ***** من البرية لم يعدل به رجلا

فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال: "صدقت يا حسان هو كما قلت"، أورده ابن الجوزي في "صفة الصفوة".

وعن قيس قال: اشترى أبو بكر بلالاً وهو مدفون في الحجارة بخمس أواق ذهبًا فقالوا: لو أبيت إلا أوقية لبعناك، فقال: لو أبيتم إلا مائة أوقية لأخذته.


ورعه رضي الله عنه:

وقد أورد ابن الجوزي في "صفة الصفوة" قال: عن زيد بن أرقم قال: كان لأبي بكر الصديق مملوك فأتاه ليلة بطعام فتناول منه لقمة فقال له المملوك: ما لك كنت تسألني كل ليلة لم تسألني الليلة قال: حملني على ذلك الجوع، من أين جئت بهذا قال: مررت بقوم في الجاهلية فرقيت لهم فوعدوني فلما أن كان اليوم مررت بهم فإذا عرس لهم فاعطوني فقال: أف لك كدت تهلكني فأدخل يده في حلقه فجعل يتقيأ وجعلت لا تخرج فقيل له: إن هذه لا تخرج إلا بالماء فدعا بعس من ماء فجعل يشرب ويتقيأ حتى رمى بها فقيل له: يرحمك الله كل هذا من أجل هذه اللقمة، فقال: لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به" فخشيت أن ينبت شيء من جسدي من هذه اللقمة وهذا من ورعه رضي الله عنه.


توليه الخلافة:

بُويع رضي الله عنه في سقيفة بني ساعدة يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك حين ذهب هو وعمر وبعض الصحابة ليتشاوروا في أمر الخلافة حتى قال عمر لأبي بكر: أبسط يدك. فبسط يده فبايعه ثم بايعه المهاجرون ثم الأنصار ثم كانت البيعة العامة في اليوم التالي.

عن هشام بن عروة عن أبيه قال: لما وُلي أبو بكر الخلافة خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: "أما بعد أيها الناس قد وُليتُ أمركم ولستُ بخيركم، ولكن الله أنزل القرءان وسنَّ النبي صلى الله عليه وسلم السنن فعلمنا، اعلموا أن أكيس الكيس التقوى، وأن أحمق الحمق الفجور. إن أقواكم عندي الضعيف حتى ءاخذ له بحقه، وإن أضعفكم عندي القوي حتى ءاخذ منه الحق، أيها الناس إنما أنا متبع ولست بمبتدع فإن أحسنتُ فأعينوني وإن زغت فقوّموني".

والمعلوم أنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم عظمت مصيبة المسلمين حيث كثر النفاق وارتدت بعض القبائل والبعض امتنع عن أداء الزكاة، فأسرع أبو بكر الصديق رضي الله عنه لمداركة هذا الأمر العظيم فأمر بتجهيز الجيوش لقتال أهل الردة ومن منع الزكاة وقُتل مسيلمة الكذاب الذي ادّعى النبوة، وهرب طليحة بن خويلد إلى أرض الشام وكان ادعى النبوة أيضًا ثم أسلم في عهد عمر بن الخطاب، واستشهد من الصحابة نحو سبعمائة رجل أكثرهم من القراء، كما جهز رضي الله عنه الجيوش لفتح بلاد الشام.


إستخلافه عمر بن الخطاب رضي الله عنهما

أخرج ابن سعد والحاكم عن ابن مسعود قال: افرس الناس ثلاثة: أبو بكر حين استخلف عمر، وصاحبة موسى حين قالت: استأجره، والعزيز حين تفرس في يوسف فقال لامرأته: أكرمي مثواه.

وروي أن أبا بكر لما ثقل دعا عبد الرحمن بن عوف فقال: أخبرني عن عمر بن الخطاب فقال ما تسألني عن أمر وأنت أعلم به مني فقال أبو بكر: وإن، فقال عبد الرحمن بن عوف: هو والله أفضل من رأيك فيه، ثم دعا عثمان بن عفان فقال: أخبرني عن عمر فقال: أنت أخبرنا به فقال: على ذلك. فقال اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته وأنه ليس فينا مثله، وشاور معهما سعيد بن زيد وأسيد بن الحضير وغيرهما من المهاجرين والأنصار.

وأخرج ابن عساكر عن يسار بن حمزة قال: لما ثقل أبو بكر أشرف على الناس من كوة فقال: أيها الناس إني قد عهدت عهدًا، أفترضون به، فقال الناس: رضينا يا خليفة رسول الله، فقام عليٌ فقال: لا نرضى إلا أن يكون عمر، قال: فإنه عمر، ذكر ذلك السيوطي في "تاريخ الخلفاء".


وفاته:

مرض رضي الله عنه ثم توفي في السنة الثالثة عشرة عن ثلاث وستين سنة، وكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وثلاثة عشر يومًا. ودفن في بيت عائشة ورأسه عند كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أوصى بذلك، وارتجت المدينة بالبكاء ودهش القوم.

ولما توفي جاء علي بن أبي طالب كرم الله وجهه باكيًا مسرعًا مسترجعًا حتى وقف بالباب وقال: يرحمك اله أبا بكر لقد كنت والله أول القوم إسلامًا، صدّقت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كذّبه الناس، وواسيته حتى بخلوا، وقمت معه حين قعدوا، وسمّاك الله في كتابه صدّيقًا فقال: {والذي جاء بالصدق وصدّق به} [سورة الزمر/33].

قال أهل السير توفي أبو بكر ليلة الثلاثاء بين المغرب والعشاء لثمان ليالٍ بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشر من الهجرة وهو ابن ثلاث وستين سنة وأوصى أن تغسله زوجته وأن يدفن إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وصلى عليه عمر بين القبر والمنبر ونزل في حفرته ابنه عبد الرحمن وعمر وعثمان وطلحة بن عبيد الله.

توفي الصديق وله من الولد: عبد الله وأسماء ذات النطاقين وعبد الرحمن وعائشة ومحمد وأم كلثوم.

اللهم احشرنا مع زمرة الصديقين وثبتنا على اتباعهم وأمِتنا على محبتهم.




عمر بن الخطاب
ثاني الخلفاء الراشدين


ترجمته

هو أبو حفص عمر بن الخطاب بن نُفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي، الخليفة الراشد الفاروق الذي عدل في رعيته فنام قرير العين، أحد السابقين الأولين من المهاجرين وأحد العشرة الذين بشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة. وأحد أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد كبار علماء الصحابة، الذين لم تأخذهم في الله لومة لائم، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم مبينًا مزايا عمر الفاروق ومناقبه "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه".

وكان رضي الله عنه شديد البياض تعلوه حُمرة، طويلاً أصلع اجلح انحسر الشعر عن جانبي رأسه. وقال وهب بن منبه: جاءت صفته في التوراة: أنه قرن من حديد، أمير شديد.

وكان رضي الله عنه ابن ست وعشرين سنة حين أسلم، وذلك بعد أربعين رجلاً وعشر نسوة، وقيل: أسلم بعد خمسة وأربعين رجلاً وإحدى عشرة امرأة.


قصة إسلامه

ذكر ابن الجوزي في "صفة الصفوة" قصة إسلامه، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن عمر خرج متقلدًا بالسيف، فوجده رجل من بني زُهرة فقال: أين تعمد يا عمر؟ قال: أريد أن أقتل محمدًا، فقال: وكيف تأمن من بني هاشم وبني زهرة وقد قتلت محمدً؟ فقال له عمر: أراك قد تركت دينك الذي أنت عليه، فقال الرجل: أفلا أدلك على العجب إن أختك وخنتك [صهرك] قد تركا دينك، فأتاهما عمر وكانوا يقرؤون "طه" فقال لهما: لعلكما قد صبوتما، فقال له خنتهُ: أرأيت يا عمر إن كان الحق في غير دينك، فوثب عليه عمر وضربه ضربًا شديدًا، فجاءت أخته ودفعته عنه فضربها بيده فَدميَ وجهها، فقالت: أرأيت يا عمر إن كان الحق في غير دينك، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، فلما يئس عمر قال: أعطوني هذا الكتاب الذي عندكم فأقرأه، فقرأ "طه" حتى انتهى إلى قوله تعالى: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدوني وأقم الصلاة لذكري} [سورة طه/ءاية 14] فانشرح صدره للإسلام وقال: دلوني على محمد، ثم أتى دار الأرقم فإذا على بابه حمزة وطلحة وبعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بقدومه خرج فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل سيفه ثم هزّه هزةً فما تمالك عمر أن وقع على ركبته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أنت بمنتهٍ يا عمر؟" فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فكبّر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد الحرام. وكان إسلامه سنة ست من النبوة، وقيل سنة خمس.

مناقبه وفضائله:

اشتهر عن الفاروق رضي الله عنه عدله واهتمامه بأمور المسلمين قبل أن يبايع له بالخلافة وبعد ذلك، واخبار عدله أكثر من أن تجمع في كتاب واحد،

ومن أخبار رجمته وعطفه على المسلمين أنه في يوم من أيام الرمادة، وهي سنة كان فيها قحط شديد، نحروا جَزورًا وزعوها على الناس، وكانوا قد ادخروا له أطيب ما فيها دون أن يعلم، فلما قُدّمت له قال: أنَّى هذا؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين، من الجزور التي نحرنا اليوم، فقال: بئس الوالي أنا إن أكلت أطيبها وأطعمتُ الناس كراديسها، فأمر بخبز وزيت فجعل بيده يكسر الخبز ويثرده، ثم قال لخادمه، وكان اسمه يرفأ: ويحك يا يرفأ، ارفع هذه الجفنة حتى تأتي بها أهل بيت بثمغ [وهو موضع قرب المدينة] فإني لم ءاتهم منذ ثلاثة أيام، وأحسبهم مقفرين، فضعها بين أيديهم.

وروى أبو نُعيم في "حلية الأولياء" أن سيدنا عمر رضي الله عنه خرج في سواد الليل فرءاه طلحة، فدخل عمر بيتًا ثم دخل بيتًا ءاخر، فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت فإذا عجوز عمياء مقعدة، فقال لها: ما بال هذا الرجل يأتيك فقالت: إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يُصلحني ويُخرج عني الأذى، فقال طلحة: ثكلتك أمك يا طلحة، أتتبع عثرات عمر.

وأما أخبار زهده رضي الله عنه فكثيرة، منها ما ذكره ابن الجوزي "في صفة الصفوة" وهو أنه رضي الله عنه خطب الناس وهو خليفة وعليه إزار فيه اثنتا عشرة رقعة، وقال أنس: كان بين كتفيه ثلاث رقاع.

وأما تعبده لله تعالى فقد كان كثيرًا، وخوفه منه كان كبيرًا، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: كان عمر بن الخطاب يقول: لو مات جَدْيٌ بطفّ [جانب] الفرات لخشيت أن يحاسب الله عمر.

وعن ابن عمر أيضًا أنه قال: ما مات عمر حتى سرد الصوم، أي جعله متواليًا متتابعًا.

وقال سعيد بن المسيب: كان عمر رضي الله عنه يجب الصلاة في جوف الليل.

ومن مناقبه رضي الله عنه أنه شهد بدرًا والمشاهد كلها وثبت مع النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد.

ومن جملة مناقبه رضي الله عنه أنه كان أول من أمر بالتأريخ اعتمادًا على الأشهر الهجرية، وأول من أمر بجمع الناس على صلاة التراويح بعد أن كانوا يصلونها فرادى، وأول من عسَّ، أي طاف بالليل يحرس الناس ويكشف أهل الريبة، وأول من حمل الدرّة [العصا] وأدب بها، وأول من دوَّن الدواوين، وأول من لُقّبَ بأمير المؤمنين.

ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم عليه:

وردت أحاديث كثيرة في مدح سيدنا الفاروق رضي الله عنه وبيان فضائله وصفاته الحميدة، منها ما بيّن فيه النبي صلى الله عليه وسلم إخلاصه لله تعالى وصلابته وقوته في الدفاع عن دين الله والأمة الإسلامية وإقامة العدل بين المسلمين، فمن ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه: "والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكًا فجًّا إلا سلك فجًا غير فجّك".

وروى الترمذي وابن ماجه والحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أشد أمتي في أمر الله عمر".

ومن هذه الاحاديث ما أخرجه البخاري ومسلم والترمذي، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينا أنا نائم أُتيتُ بقدح لبن فشربت منه حتى إني أرى الريَّ يخرج من أطرافي، ثم أعطيت فضلي عمر" قالوا: فما أوَّلتَ ذلك يا رسول الله؟ قال: "العلم".

من كلامه رضي الله عنه:

لقد أُثر عن سيدنا الفاروق رضي الله عنه الكثير من المواعظ والحكم البليغة، فمن ذلك قوله رضوان الله عليه "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا نفوسكم اليوم. وتزينوا للعرض الأكبر {يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية} [سورة الحاقة/ءاية:18].

وفي كلامه هذا حث على محاسبة العبد نفسه وكبح جماحها وكفها عن هواها ليسلم في دنياه وءاخرته.

ومن كلام الفاروق رضي الله عنه أيضًا قوله فيما حكاه ابن الجوزي في مناقب عمر عن الأحنف بن قيس قال: يا أحنف من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن فرح استخف به، ومن أكثر من شيء عرف به، ومن كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه. وهذا من عمر رضي الله عنه توجيه وجيه لما ينبغي أن يكون عليه المرء من الاتزان والرزانة، فلا يكثر من الضحك بدون سبب ولا يكثر من المزاح كي لا تقل هيبته في نفوس العباد وبالتالي يقل انتفاعهم به وتأثرهم بما يقول من ارشادات وتوجهات، وكذا فإن كثرة الكلام في غير منفعة وغير مصلحة فإنه لا خير فيه، ولذا ينبغي للعاقل أن يراقب نفسه فيما يقول وما يفعل.

وفي مناقب عمر لابن الجوزي أن عمر قال: "لا تظن بكلمة، خرجت من امرئ مسلم شرًا وأنت تجد لها في الخير محملاً" فما علمنا منه خيرًا حسنَّا الظن به والله يعلم السرائر وما تخفي الصدور. أما نحن فقد أمرنا بتحسين الظن إذ يقول الله عز وجل: {يا أيُّها الذين ءامنوا اجتنبوا كثيرًا من الظن إن بعض الظن إثم} [سورة الحجرات/ءاية:12].

ومن جملة كلامه أيضًا قوله: ثلاثٌ يصفو بهن ود أخيك: تسلم عليه إذا لقيته وتفسح له في المجالس وتناديه باحب الأسماء إليه، ذكر ذلك ابن الجوزي في مناقب عمر بلفظ ءاخر وحاصله يفهم أهمية أن تجتمع هذه الخصال الثلاثة في المرء المسلم مما يزيد في أواصر التماسك والوحدة ليقوم المجتمع على أسس سليمة متينة.

ومن حكمه الرائعة قوله رضي الله عنه فيما رواه الأحنف بن قيس "تفقهوا قبل أن تسودوا" أي اطلبوا الفقه والعلم قبل طلب الزعامة والرياسة وقبل أن تصيروا أسياد الناس.

هذا وليعلم أنه ورد عن عمر أيضًا كلام مفيد في الطب فمن ذلك قوله:
"إياكم والبطنة فإنها مكسلة عن الصلاة مؤذية للجسم، وعليكم بالقصد في قوتكم فإنه أبعد من الأشر وأصح للبدن وأقوى على العبادة، وإن امرءًا لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه، وقال: إياكم واللحم فإن له ضراوة كضراوة الخمر، والضراوة بالشيء الولع به. وإنما كره عمر رضي الله عنه الإدمان عليه لما فيه من التنعم والتشبه بالأعاجم.

وفاته:

كانت وفاته رضي الله عنه صبيحة السابع والعشرين من ذي الحجة لسنة ثلاث وعشرين، فبينما هو يؤم الناس في صلاة الصبح، إذ جاء أحد غلمان المغيرة وكان يدعى أبا لؤلؤة، وكان مجوسيًا، فطعنه بسكين ذات طرفين وولى هاربًا، وصار لا يمر على أحد يمينًا وشمالاً إلا طعنه، ولما علم أنه لا مهرب له طعن نفسه فمات.

وقبل أن تفيض نفسه طلب الفاروق رضي الله عنه من ابنه عبد الله أن يحصي ما عليه من الدَّيْن وأن يؤديه لأصحابه، وقال له: اذهب إلى عائشة رضي الله عنها وقل لها: يستأذن عمر بن الخطاب أن يُدفن مع صاحبيه، فمضى عبد الله بن عمر فاستأذن فقالت له: كنت أريده لنفسي ولأوثرنَّه اليوم على نفسي، فدفن قرب النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق رضي الله عنه.

إن مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلغت مبلغًا كبيرًا جعل العلماء والمؤرخين والمترجمين يوردون فصولاً وأبوابًا طويلة في تعداد مآثره، ومنهم من ألف كتابًا مخصوصًا لتعداد مناقبه كابن الجوزي الذي عدَّد من مزاياه وصفاته ما جمع كتابًا ضخمًا، وكذلك السيوطي الذي ألف كتابًا له سماه: "الغُرر في فضائل عمر"، وكثيرون غيره


عثمان بن عفان
ثالث الخلفاء الراشدين


ترجمته:

هو أبو عبد الله بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي وأمه أروى بنت كُريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بت عبد مناف. وُلد بالطائف بعد الفيل بست سنين دخل في الإسلام على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنهما وعمره حينئذ تسع وثلاثون سنة وكان هذا قبل دخول الرسول صلى الله عليه وسلم دار الأرقم فسيدنا عثمان رضي الله عنه من السابقين الأولين الذين ذكرهم الله تعالى في القرءان بقوله: {والسابقونَ الأولونَ من المُهاجرينَ والأنصار والذينَ اتَّبعوهم بإحسان رضيَ الله عنهم ورضوا عنه} [سورة التوبة/ءاية:100]

وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم في حديث واحد وفي سياق واحد: "أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعلي في الجنة وعثمان في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة وسعد بن أبي وقاص في الجنة وسعيد بن زيد في الجنة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة". رواه الإمام أحمد في مسنده.

وكان رضي الله عنه أول من هاجر بأهله وقد هاجر الهجرتين الأولى إلى الحبشة والثانية إلى المدينة المنورة وهو أول من طيَّب المسجد وأول من زاد أذانًا ثانيًا يوم الجمعة وأول من أعطى أجرة للمؤذنين وأول من فوَّض إلى الناس إخراج زكاتهم وأول من وُلّيَ الخلافة في حياة أمه وأول من اتخذ صاحب الشرطة. وقد شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم المشاهد كلها إلا بدرًا لأن زوجته رقية كانت مريضة فأمره صلى الله عليه وسلم أن يقيم بالمدينة ليمرضها وعدّه الرسول صلى الله عليه وسلم من أهل بدر وأسهم له في غنائمها.

ذكر زوجاته وأولاده:

قبل نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم تزوج عثمان رضي الله عنه ابنة النبي صلى الله عليه وسلم وقد هاجرت معه إلى الحبشة وماتت عنده في ليالي بدر وهي التي ولدت له عبد الله فصار يكنى بأبي عبد الله بعد أن كان يكنى بأبي عمرو قم زوجه النبي صلى الله عليه وسلم من ابنته أم كلثوم وبقيت عنده إلى أن ماتت سنة تسع للهجرة وبهذا سُمي رضي الله عنه بذي النورين لأنه تزوج ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وتزوج رضي الله عنه فاختة بنت غزوان فولدت له عبد الله الأصغر وتزوج أم عمرو بنت جندب الدَّوسية فولدت له عمرًا وخالدًا وأبانًا وعمر ومريم وتزوج فاطمة بنت الوليد بن المغيرة فولدت له الوليد وسعيدًا وأم سعيد وتزوج أم البنين بنت عيينة الغزارية فولدت له عبد الملك وتزوج رملة بنت شيبة فولدت له عائشة وأم أبان وأم عَمرو وتزوج نائلة بنت الفرافصة الكلبية فولدت له مريم وقيل إنها ولدت به عنبسة وأختًا لها تسمى أم البنين.

ذكر صفاته الخَلقية:

كان رضي الله عنه رَبْعةَ أي معتدل القامة ليس طويلاً ولا قصيرًا حسن الوجه أبيض مشربًا بحمرة رقيق البشرة، عظيم الكراديس أي مفاصل عظامه كانت عظيمة بعيد ما بين المنكبين كثير شعر الرأس عظيم اللحية.

نبذة عن شمائله وفضائله:

لقد جعل كثير من أهل التراجم والسير فصولاً تتناول مناقبه رضي الله عنه حتى إن الترمذي رحمه الله ألّف كتابًا خاصًا به سماه "مناقب عثمان".

ومن ذلك ما رواه مسلم في فضائل عثمان وأحمد في مسنده عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسًا كاشفًا عن فخذه فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على حاله ثم استأذن عمر وهو على حاله ثم استأذن عثمان فأرخى عليه ثيابه، فلما قاموا قلت: يا رسول الله استأذن عليك أبو بكر وعمر فأذنت لهما وأنت على حالك فلما استاذن عثمان أرخيت عليك ثيابك فقال: "يا عائشة ألا أستحيي من رجل، واللهِ إن الملائكة لتستحيي منه".

وروى ابن الجوزي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في حائط من حيطان المدينة فجاء رجل يستفتح فقال النبي: "افتح له وبشره بالجنة" ففتحت فإذا أبو بكر فبشرته بالجنة، ثم استفتح رجل ءاخر فقال: "افتح وبشره بالجنة" فإذا عمر ففتحت وبشرته بالجنة ثم استفتح رجل ءاخر وكان متكئًا، فجلس فقال: "افتح به وبشره بالجنة على بلوى تصيبه" فإذا عثمان ففتحت له وبشرته بالجنة فاخبرته بالذي قال فقال: الله المستعان.

وأخرج البخاري في فضائل الصحابة ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد بن حنبل أن جبل أُحد ارتجَّ وعليه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اسكن أُحد، فما عليك إلا نبي وصديق وشهيدان".

وفي تاريخ ابن عساكر عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوّل الليل إلى أن طلع الفجر رافعًا يديه يدعو لعثمان: "اللهم عثمان رضيتُ عنه فارضَ عنه".

وروى الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في كتابه "حلية الأولياء" عن أبي هريرة ري الله عنه أنه قال: "اشترى عثمان بن عفان من رسول الله الجنة مرتين، حين حفر بئر رُومة وحين جهز جيشَ العُسرة".
وكانت بئر رومة يباع ماؤها للمسلمين فاشتراها عثمان رضي الله عنه وحفرها وجعلها عامة للمسلمين.
[ولا تزال إلى الآن معروفة في المدينة المنورة].

وتفصيل حادثة تجهيز جيش العسرة في ما رواه الترمذي عن عبد الرحمن بن خباب السلمي قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم فحث الناس على جيش العسرة فقال عثمان: عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها ثم حثَّ فقال عثمان عليَّ مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها. قال السلمي: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقول بيده يحركها: "ما على عثمان ما عمل بعد هذا".

وفي رواية للحاكم النيسابوري رحمه الله تعالى عن عبد الرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار حين جهز جيش العسرة فنثرها في حجره فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلبها ويقول: "ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم" مرتين.

وأخرج صاحب "حلية الأولياء" عن الشعبي عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان يوم جيش العسرة جائيًا وذاهبًا فقال: "اللهم اغفر لعثمان ما أقبل وما أدبر، وما أخفى وما اعلن، وما أسرَّ وما أجهر".

كما روى الطبراني عن ابن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عثمان أحيا أمتي وأكرمها".

جمعهُ القرءان الكريم:

ذكر البخاري في صحيحه مبدأ أمر جمع القرءان في مصحف واحد وهو أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه ارسل إلى زيد بن ثابت وهو من كتبة الوحي فأتاه زيد فإذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عنده فقال الصديق رضي الله عنه إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحرَّ يوم اليمامة بقُراء القرءان [أي كثُرَ] وإني أخشى إن استحرَّ القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرءان وإني أرى أن تأمر بجمع القرءان. فقال زيد لعمر رضي الله عنه: كيف نفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر رضي الله عنه: هذا والله خير. قال زيد: "فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى عمر". وتتبع زيد بن ثابت رضي الله عنه القرءان فصار يجمعه من العُسُب واللخاف [وهي الحجارة البيضاء الرقيقة] وصدور الناس، وكانت في صحف عديدة جمعت عند أبي بكر رضي الله عنه حتى توفاه الله، ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهما.

ولما بويع عثمان رضي الله عنه بالخلافة استشار الصحابة فكان الرأي أن يجمع القرءان في مصحف واحد، فجمع عثمان رضي الله عنه عددًا من الصحابة، قال أبو داود: كانوا اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار وكان بينهم من كتب الوحي وأرسل إلى حفصة بنت عمر رضي الله عنها يطلب منها الصحف التي جمعها زيد بن ثابت ثم نسخها في كتاب واحد.

وفي "فتح الباري" لابن حجر العسقلاني أن عثمان رضي الله عنه قال: من أكتبُ الناس؟ قالوا: زيد بن ثابت، قال: فأي الناس أفصح؟ قالوا: سعيد بن العاص، فقال: فليُملِ سعيد وليكتب زيد.

ولما انتهوا من نسخ المصحف جعل منه نسخًا وأرسلها إلى الأمصار وقد اختلف في عدد النسخ هذه، فمنهم من قال: هي أربعة ومنهم من قال: خمسة وقيل: ستة وسبعة ثم جمع ما سوى هذه النسخ من القرءان فأحرقها وأمر إلى أهل الأمصار بذلك.

وقد كان جمعُ عثمان رضي الله عنه للقرءان لمّا كثر الاختلاف في وجوه القراءات على اختلاف لغات العرب فتنازع أناس وخطَّأ بعضهم بعضًا، فخشي من تفاقم الامر في ذلك حتى جمعه على لغة قريش، ولا يعني ذلك منع قراءته بلغات العرب الأخرى وذلك أنه جاء في صحيح البخاري قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذا القرءان أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه".


ثناء الناس عليه رضي الله عنه:

قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كان عثمان من الذين: {ءامنوا وعملوا الصالحات ثم اتَّقوا وءامنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحبُّ المحسنين} [سورة المائدة/ءاية:93] ذكره الأصفهاني في "حلية الأولياء".

وروى الإمام أحمد رضي الله عنه عن رُهيمة جدة الزبير بن عبد الله أنها قالت: كان عثمان يصوم الدهر ويقوم الليل إلا هجعة من أوله.

وقال ابن سيرين رحمه الله: "قالت امرأة عثمان بن عفان رضي الله عنه حين أطافوا يريدون قتله: إن تقتلوه أو تتركوه فقد كان يحيي الليل كله في ركعة يجمع فيها القرءان" رواه ابن الجوزي.

وأخرج ابن عساكر عن عبد الرحمن بن مهدي قال: خصلتان لعثمان ليستا لأبي بكر ولا لعمر رضي الله عنهم: صبره على نفسه حتى قُتل مظلومًا وجمعه الناس على المصحف.


تواضعه:

إضافة إلى ما اجتمع في سيدنا عثمان رضي الله عنه من الخصال المرضية والصفات السَّنيَّة من حلم وعلم وكرم وجود وحياء وصفاء وورع وزهد كان من أشد الناس تواضعًا.

أخرج ابن سعد عن عبد الله الرومي قال: كان عثمان يلي وضوء الليل بنفسه فقيل له: لو أمرتَ بعض الخدم فكفوك، قال: لا، الليل لهم يستريحون فيه.

وروى الإمام أحمد أن الحسن رضي الله عنه سُئلَ عن القائلين في المسجد [أي الذين ينامون أو يستلقون في المسجد عند منتصف النهار] فقال: رأيت عثمانبن عفان يَقيلُ في المسجد وهو يومئذ خليفة وأثر الحصى بجنبه فيقال: هذا أمير المؤمنين هذا أمير المؤمنين. وعن شرحبيل بن مسلم أنه قال: كان عثمان رضي الله عنه يُطعم الناس طعام الإمارة ويدخل بيته فيأكل الخل والزيت.

ذكر خلافته:

بعد دفن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بثلاث ليال بويع سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه بالخلافة يوم الاثنين لليلة بقيت من شهر ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة واستقبل بخلافته المحرم سنة أربع وعشرين وعاش في الخلافة اثنتي عشر سنة وكان خاتمه خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم كأبي بكر وعمر رضي الله عنهم.

وفي خلافته رضي الله عنه غزا المسلمون ففتحوا الكثير من البلاد فتوسعت بهم بلاد الإسلام ومن هذه البلاد التي افتتحت جزيرة قبرص وكرمان وسِجِستان وكابُل وبلاد أخرى في أفريقية.

قصة استشهاده وما جرى عليه:

لما تمت الفتوحات للأمة الإسلامية وقويَ الملك في الأمصار واختلطت العرب بالأمم والأقوام المختلفة اللغات وكثر الطعن والقيل والقال في المدينة المنورة كتب رؤساء الفتنة إلى جماعتهم في الأمصار يستقدمونهم إلى المدينة المنورة إرادة الفتنة والمكيدة للخليفة فحاصروه في بيته أيامًا وكان سيدنا عثمان رضي الله عنه يقول: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَهِدّ إليَّ عهدًا فأنا صابرٌ عليه" رواه الترمذي في مناقب عثمان.

فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا عثمان إنه لعل الله يُقمصُكَ قميصًا [أي الخلافة]، فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني" أخرجه الحاكم والترمذي.

فلما بلغ سيدنا عليًّا رضي الله عنه أن أصحاب الفتنة حاصروا عثمان ومنعوه الماء وأرادوا قتله، أرسل إليه بثلاث قرب مملوءة بالماء وقال للحسن والحسين: اذهبا بسيفكما حتى تقوما على باب عثمان فلا تدعا أحدًا يصل إليه وبعث الزبير ابنه وبعث طلحة ابنه وبعث عدة من الصحابة أبناءهم يمنعون الناس من أن يدخلوا على عثمان رضي الله عنه.

ولكن رجالاً من الذين أرادوا بسيدنا عثمان شرًّا تسوَّروا من دار رجل من الأنصار حتى دخلوا عليه وكان يقرأ القرءان وهو صائم، فضربه أحدهم بالسيف فأكبَّت عليه نائلة زوجته فقُطعت أصابع يدها ولم يكن مع عثمان رضي الله عنه سواها في الدار، فقتل شهيدًا رضي الله تعالى عنه يوم الجمعة لثمان عشرة ليلة خلت من شهر ذي الحجة سنة خمس وثلاثين للهجرة، وعمره تسعون وقيل أكثر من ذلك وقيل أقل ودفن ليلة السبت بين المغرب والعشاء بمقبرة البقيع بالمدينة المنورة وصلى عليه الزبير.

وقد قال سيدنا عثمان رضي الله عنه قبل قتله: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وأبا بكر وعمر فقالوا: اصبر فإنك تُفطر عندنا القابلة.

وقد أورد ابن الاثير في كتابه "الكامل في التاريخ" أبياتًا لحسان بن ثابت الأنصاري في الذين قدموا المدينة من مصر واجتمعوا على قتله:

أتركتم غزو الدروب وراءكم *** وغزوتمونا عند قبر محمد
فلبئس هديُ المسلمين هديتُمُ *** ولبئس أمرُ الفاجرِ المتعمدِ
إن تقدموا نجعل قرى سَرَواتكم *** حول المدينة كُلَّ لَين مذودِ
أو تدبروا فلبئس ما سفرتُمُ *** ولَمِثْلُ أمر أميركم لم يرشدِ
وكأن أصحاب النبي عشية *** بُدْنٌ تُذَبَّحُ عند باب المسجدِ
أبكي أبا عمرو لحسن بلائه *** أمسى ضجيعًا في بقيع الغرقد

وبعد فإنما هذا غيض غائض من فيض فائض من بحر فضائل سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرًا ونفعنا ببركته وحشرنا في زمرته وأماتنا على سنته ومحبته، إنه سبحانه على ما يشاء قدير وبعباده لطيف خبير.


علي بن أبي طالب
رابع الخلفاء الراشدين


ترجمته:

هو سيدنا أبو الحسن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ابن عم رسول الله وصهره وأبو السبطين الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة وأول من أسلم من الصبيان علم من أعلام الدين ومن أبرز المجاهدين والشجعان وقدوة للزاهدين ومن أشهر الخطباء والمفوهين والعلماء العاملين أمه فاطمة بنت أسد بن هاشم وُلد قبل البعثة بعشر سنين وتربى في حجر النبي محمد صلى الله عليه وسلم وفي بيته وكان يلقب حيدرة وقيل إن أمه هي التي سمته حيدرة.

وأما تسميته بأبي تراب فإن رسول الله هو الذي سمّاه أبا تراب ولهذه التسمية قصة وهي أنّ الرسول دخل على فاطمة فسألها عن علي: "أي ابن عمك"، قالت: هو ذاك مضطجع في المسجد فجاءه رسول الله فوجده قد سقط رداؤه عن ظهره فجعل يمسح التراب عن ظهره ويقول: "اجلس أبا تراب"، فوالله ما سمّاه به إلا رسول الله ووالله ما كان له اسمٌ أحبَّ إليه منه.

وفي رواية أخرى أنه في غزوة العُشيرة سماه الرسول أبا تراب وكان خارج المسجد، وقال له: "قم أبا تراب، ألا أخبرك بأشقى الناس أحمر ثمود عاقر الناقة، والذي يضربك على هذا، [يعني قرنه] فيخضب هذه منها [وأخذ بلحيته]". كفله النبي قبل أن يوحى إليه لأن قريشًا أصابتهم أزمة شديدة وكان أبو طالب كثير العيال قليل المال فأخذ الرسول عليًّا وضمّه إليه وأخذ العباس جعفرًا وضمّه إليه تخفيفًا عن أبي طالب.


وصفه:

كان رضي الله عنه رجلاً ربعةً أميل إلى القصر ءادم اللون عريض اللحية أبيضها لا يخضبها وقد خضبها مرة بالحناء ثم تركها أصلع على رأسه غيبات ضخم البطن ضخم مُشاشة المنكب ضخم عضلة الذراع دقيق مستدقها حسن الوجه ضخم عضلة الساق دقيق مستدقها عظيم العينين أدعجهما ورؤي على عينيه أثر الكحل شثن الكفين كثير الشعر ضحوك السن من أشجع الصحابة وأعلمهم قضاء ومن أزهدهم في الدنيا لم يسجد لصنم قط إذا مشى تكفأ شديد الساعد واليد ثبت الجنان ما صارع أحدًا إلا صرعه شجاعًا منصورًا على من لاقاه.

وقد روي أن معاوية قال لضرار الصدائي: صف لي عليًّا فقال: أعفني قال: لتصِفنَّه. قال: إذ لا بد من وصفه كان والله بعيد المدى شديد القوى يقول فصلاً ويحكم عدلاً يتفجّر العلم من جوانبه وتنطق الحكمة من نواحيه يستوحش من الدنيا وزهرتها ويأنس إلى الليل ووحشته وكان غزير العبرة طويل الفكرة كان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه ونحن من تقريبه إيّانا وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له يعظّم أهل الدين ويقرّب المساكين ولا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه قابضًا على لحيته يتململ تململ السقيم ويبكي بكاء الحزين ويقول يا دنيا غري غيري إليّ تعرضت أم إليّ تشوفت؟ هيهات قد طلقتك ثلاثًا لا رجعة فيها فعمرك قصير وخطرك قليل ءاه ءاه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق فبكى معاوية وقال: رحم الله أبا الحسن كان والله كذلك فكيف حزنك عليه يا ضرار قال: حزن من ذبح واحدها في حجرها.


لباسه:

عن خالد بن أمية قال: رأيت عليًّا وقد لحق إزاره بركبتيه وعن عبد الله بن أبي الهذيل قال: رأيت عليًّا عليه قميص رازيّ، إذا مدّ كمه بلغ الظفر، فإذا أرخاه بلغ نصف ساعده.

وكان يلبس إزارًا مرفوعًا، فقيل له، فقال: يُخشّعُ القلب ويقتدي به المؤمن، ورؤي رضي الله عنه وعليه إزار إلى نصف الساق، ورداء مشمّر قريب منه ومعه دِرّة له يمشي بها في الأسواق ويأمرهم بتقوى الله وحسن البيع ويقول: أوفوا الكيل والميزان، ويقول: لا تنفخوا اللحم. وكان يتعصب بعصابة سوداء. ويلبس عمامة سوداء، وقبله حبيبنا محمد عليه الصلاة والسلام. لبس يوم فتح مكة عمامة سوداء أرخى عذبتها بين كتفيه الشريفين.

وكان سيدنا علي يتختم في يساره، وكان نقش خاتمه "محمد رسول الله" ونقش على خاتمه أيضًا "لله الملك".


زهده وتقشفه وورعه:

روي عن عمار بن يسار رضي الله عنه قال: قال رسول الله لعلي: "إنّ الله قد زينك بزينة لم يزين العباد بزينة أحبَّ منها، هي زينة الأبرار عند الله، الزهد في الدنيا. فجعلك لا ترزأ من الدنيا [أي لا يصيب من الدنيا] ولا ترزأ الدنيا منك شيئًا، ووصب لك المساكين [أي أدام لك المساكين] فجعلك ترضى بهم أتباعًا ويرضون بك إمامًا".

وجاءه ابن التياح فقال: يا أمير المؤمنين امتلأ بيت المال من صفراء وبيضاء. فقال: الله أكبر فقام متوكئًا على ابن التياح حتى قام على بيت المال وهو يقول: يا صفراء ويا بيضاء غُري غيري هاء هاء، حتى ما بقي فيه دينار ولا درهم. ثم أمر بنضحه وصلى فيه ركعتين.

وروي أنه دخل مرة بيت المال فرأى فيه شيئًا، فقال: لا أرى هذا هنا وبالناس حاجة إليه، فأمر به فقُسّم، وامر بالبيت فكنس، ونضحَ فصلى فيه أو نام فيه.

وصعد رضي الله عنه يومًا المنبر، وقال: من يشتري مني سيفي هذا، فلو كان عندي ثمن إزار ما بعته، فقام إليه رجل وقال: أسلفك ثمن إزار.

واشترى مرة تمرًا بدرهم فحمله في ملحفته فقيل له: يا أمير المؤمنين ألا نحمله عنك فقال: أبو العيال أحق بحمله. وعوتب في لباسه، فقال: مالكم وللباسي هذا هو أبعد من الكبر وأجدر أن يقتدي به المسلم.


كراماته:

عن الأصبغ قال: أتينا مع عليّ فمررنا على قبر الحسين فقال عليّ: ههنا مناخ ركائبهم وههنا موضع رحالهم، وههنا مهراق دمائهم، فتية من ءال محمد صلى الله عليه وسلم.

وعن علي بن زاذان، أن عليًّا حدّث حديثًا فكذبه رجل، فقال علي: أدعو عليك إن كنت صادقًا، قال: نعم، فدعا عليه فلم ينصرف حتى ذهب بصره.

عن أبي ذر رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعو عليًّا، فأتيت بيته فناديته فلم يجبني فعدت فأخبرت رسول الله، فقال لي: "عد إليه ادعه". قال: فعدت أناديه فسمعت صوت رحى تطحن، فشارفت فإذا الرحى تطحن وليس معها أحد، فناديته فخرج إلي منشرحًا، فقلت له إنّ رسول الله يدعوك. فجاء ثم لم أزل أنظر إلى رسول الله وينظر إليّ. ثم قال: "يا أبا ذر ما شأنك"، فقلت: يا رسول الله عجيب من العجب، رأيت رحى تطحن في بيت علي وليس معها أحد يرحى.

ومرة عرض لعلي رجلان في الخصومة فجلس في أصل جدار، فقال رجل: يا أمير المؤمنين، الجُدُر تقع فقال علي: امض كفى بالله حارسًا. فقضى بين الرجلين وقام فسقط الجدار.

لقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أقضى أمتي علي"، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أقضانا علي بن أبي طالب، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نتحدث أنّ أقضى أهل المدينة علي بن أبي طالب، فعن قوته وإصابته في القضاء قصة تدل على ذلك فيها أنه: لما بعثه رسول الله إلى اليمن، وجد أربعة وقعوا في حفرة يصطاد فيها الأسد، سقط أولاً رجل فتعلق بآخر، وتعلق الآخر بآخر حتى تساقط الأربعة فخرج الأسد وماتوا من جراحته، فتنازع أولياؤهم حتى كادوا أن يقتتلوا، فقال علي: أنا اقضي بينكم، فإن رضيتم فهو القضاء، وإلا حجزت بعضكم عن بعض حتى تأتوا رسول الله ليقضي بينكم. اجمعوا من القبائل التي حفروا البئر ربع الدية وثلثها ونصفها وكاملها، فللأول ربع الدية لأنه أهلك من فوقه، وللذي يليه ثلثها لأنه أهلك من فوقه، وللثالث النصف لأنه أهلك من فوقه، وللرابع الدية كاملة، فأبوا أن يضوا، فأتوا رسول الله فلقوه عند مقام إبراهيم فقصوا عليه القصة، فقال: أنا أقضي بينكم. فقال رجل من القوم: إن عليًّا قضى بيننا، فلما قصوا عليه القصة أجازه.

وروي عنه رضي الله عنه: أنه قضى بين اثنين يتغديان، ومع احدهما خمسة أرغفة، والآخر ثلاثة أرغفة، وجلس إليهما ثالث واستأذنهما في أن يصيب من طعامهما فأذنا له، فأكلوا على السواء، ثم ألقى إليهما ثمانية دراهم وقال: هذا عوض ما أكلت من طعامكما، فتنازعا في قسمتها فقال صاحب الخمسة: لي خمسة ولك ثلاثة، وقال صاحب الثلاثة: بل نقسمها على السواء، فترافعا إلى علي رضي الله عنه. فقال لصاحب الثلاثة: اقبل من صاحبك ما عرض عليك، فأبى وقال: ما أريد إلا مرَّ الحق. فقال علي: لك في مرّ الحق درهم واحد وله سبعة. قال: وكيف ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: لأن الثمانية أربعة وعشرون ثلثًا، لصاحب الخمسة خمسة عشر ولك تسعة، وقد استويتم في الأكل، فأكلت ثمانية وبقي لك واحد، وأكل صاحبك ثمانية وبقي له سبعة، وأكل الثالث ثمانية، سبعة لصاحبك وواحد لك، قال: قد رضيت الآن.


الأحاديث الواردة في فضله:

روى أحمد والحاكم وغيرهما: أن الرسول محمدًا صلى الله عليه وسلم قال: "من سبَّ عليًّا فقد سبني، ومن سبني فقد سبّ الله" فالذي يسبُّ ليًّا ويبغضه ولا يحبه يكون فاسقًا وهذا تحذير من سب علي. ومعنى [فقد سبني]: كأنه سبني.

وقد روى مسلم وغيره أن سيدنا علي قال: إنه لعهد النبي الأميّ إليَّ أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق. فإذا كان سباب المسلم فسوقًا فكيف بمن يسب عليًّا عليه السلام.

وفي صحيح مسلم ما نصه: عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعدًا فقال: ما يمنعك أن تسبّ أبا تراب فقال: أما ما ذكرت ثلاثًا قالهن له رسول الله فلن أسبه، لأن يكون لي واحدة منهن أحبّ إليَّ من حمر النعم، سمعت رسول الله يقول له حين خلفه في بعض مغازيه فقال له علي: يا رسول الله خلّفتني مع النساء والصبيان فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة بعدي"، وسمعته يوم خيبر يقول: "لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله"، قال فتطاولنا لها فقال: "اعدو لي عليًا"، فأتى به أرمد فبصق في عينه ودفع الراية له، ففتح الله عليه. ولما نزلت هذه الآية: {فقل تعالوا ندعُ أبناءنا وأبناءكم} [سورة ءال عمران/ءاية:61] دعا رسول الله عليًّا وفاطمة وحسنًا وحسينًا فقال: "اللهم هؤلاء أهلي" ورواه أيضًا النسائي.

وروى الحاكم رحمه الله في المستدرك عن رفاعة بن إياس الضبي عن أبيه عن جده قال: كنا مع عليّ يوم الجمل، فبعث إلى طلحة بن عبيد الله أن القني، فأتاه طلحة فقال: نشدتك الله هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه" قال: نعم، قال: فلم تقاتلني قال: لم أذكر، قال فانصرف طلحة. ثم قتله مروان بن الحكم وهو منصرف.

قال أبو عمر بن عبد البر: "لا يختلف العلماء والثقات في أنّ مروان قتل طلحة". ويكفيه فضلاً أيضًا حديث: "أنا مدينة العلم وعليّ بابها" وأيضًا شرف أنه أول من أسلم من الصبيان، وفضل أنه نزل قبر الرسول لما مات الرسول ليواريه وشارك في غسله، وغير ذلك من المناقب والفضائل والصفات الحميدة، والأخلاق الحسنة، وأنه مبشر بالجنة من رسول الله.


شجاعته في الجهاد:

شهد رضي الله عنه الغزوات مع رسول الله، فكان له فيها شأن عظيم، وأظهر شجاعة عجيبة، وأعطاه الرسول اللواء في مواطن كثيرة، فلما غزا رسول الله كزز بن جابر الفهري [غزوة بدر الأولى]، أعطاه لواءه الأبيض، وفي غزوة بدر الكبرى، كان أمام رسول الله رايتان سوداوان، إحداهما مع علي يقال لها العقاب، والآخرى مع بعض الأنصار، وأمره رسول الله أن يبارز في هذه الغزوة الوليد بن عتبة، فبارزه عليّ وقتله.

وفي غزوة أحد قتل سيدنا علي ثلاثة من أصحاب الألوية ورءوسًا كبيرة عرفت بعدائها للإسلام وكان وقتها في عنفوان شبابه ممتلئًا قوة ونشاطًا وإيمانًا. وفي غزوة الخندق لما أقحم بعض المشركين خيلهم وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم، ومنهم عمرو بن عبد ود العامري، وكان من أقوياء العرب المشهورين وكان وقتئذ كبير السن، فلما وقف هو وخيله، قال له سيدنا علي: أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام، قال: لا حاجة لي بذلك. فقال: فإني أدعوك إلى النزال قال: ولم يا ابن أخي فوالله ما أحب أن أقتلك. قال علي: ولكني والله أحب أن أقتلك، فحمي عمرو عند ذلك، فاقتحم عن فرسه فعقره ثم أقبل على عليّ فتنازلا وتجادلا فقتله عليّ رضي الله عنه، وخرجت خيله منهزمة وهذه شجاعة نادرة من أبي الحسن.

وفي غزوة خيبر معروف عند أهل السير قتله لمرحب زعيم حربي من زعماء اليهود، ضربه سيدنا علي على هامته، حتى عضّ السيف منها بأضراسه، وسمع أهل المعسكر ضربته، ثم لما وقع الترس من سيدنا علي أخذ بابًا عند الحصن فتترس به عن نفسه، فلم يزل في يده وهو مقاتل حتى فتح الله عليه، ثم ألقاه من يده حين فرغ، وكان ذاك الباب يحتاج لثمانية رجال حتى يقلبوه ليس لحمله، كما ذكر ذلك أبو رافع مولى رسول الله.

وسيدنا علي هو الذي قتل الحويرث بن نقيد الذي أهدر دمه رسول الله وكان يهجو رسول الله، ويكثر أذاه وهو بمكة.

وفي غزوة حنين كان رضي الله عنه ثابتًا مع من ثبت من المسلمين مع رسول الله كما ثبت في أحد وغيرها وكلما راجعنا السير والغزوات وجدنا اسم عليّ رضي الله عنه لألاء مضيئًا قضى عمره مجاهدًا مدافعًا عن دين الله. يفتح الحصون المستعصية ويهدم الأصنام إعلاءً لكلمة الله سبحانه وتعالى.


من أقواله:

ما أكثر العبر وأقل الاعتبار، وما زنى غيور قط. ما أحسن تواضع الأغنياء طلبًا لما عند الله، وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء اتكالاً على الله سبحانه.

كفاك أدبًا لنفسك اجتناب ما تكرهه من غيرك. من نظر في عيوب غيره فأنكرها ثم رضيها لنفسه فذلك هو الأحمق بعينه. لا تظنن بكلمة خرجت من أحد سواءًا وأنت تجد لها في الخير محتملاً.


وفاته:

توفي رضي الله عنه شهيدًا سعيدًا مُبشرًا بالجنة ونعيمها، وعمره ستون سنة وكانت خلافته أربع سنوات وتسعة شهور، رضي الله عنه وكرّم وجهه وغفر لنا بجاهه وحشرنا معه ومع الشهداء والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.


الزبير بن العوام
حواريّ النبي صلى الله عليه وسلم

ترجمته:

هو أبو عبد الله الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قُصي بن كلاب، حواريُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته صفية بنت عبد المطلب، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة أهل الشورى، أسلم وهو ابن ثمان سنين مع أمه وهو من السابقين الأولين إلى الإسلام.

اتفق البخاري ومسلم على حديثين له، وانفرد له البخاري بأربعة أحاديث، ومسلم بحديث واحد.

وهاجر الزبير رضي الله عنه إلى الحبشة الهجرتين، ولما فرضت الهجرة إلى المدينة المنورة هاجر إليها وهو ابن ثماني عشرة سنة.


مناقبه وفضائله:

كان الصحابي الجليل الزبير بن العوام رضي الله عنه واحدًا ممن سلَّ سيفه دفاعًا عن رسول الله، ففي "حلية الأولياء" أن الزبير سمع نفحة نفحها الشيطان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُخِذَ بأعلى مكة، فخرج الزبير رضي الله عنه يشق الناس بسيفه حتى أتى اعلى مكة فلقيه فقال صلى الله عليه وسلم: "مالك يا زبير" فقال: أخبرت أنك أُخذت، فأتيتُ أضرب بسيفي من أخذك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان بذلك أول من سلّ سيفًا في سبيل الله.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لكل نبي حواريٌّ وحواريَّ الزبير" وكان الزبير رضي الله عنه ءانذاك كما ذكر الذهبي في "سير أعلام النبلاء" ابن اثنتي عشرة سنة وقد قال موسى بن طلحة: كان عليُّ والزبير وطلحة وسعد عِذار عام واحد أي ولدوا في سنة واحدة وقال المدائني: كان طلحة والزبير وعلي أترابًا وكان عمه يُعلقه ويُدخّن عليه وهو يقول: لا أرجع إلى الكفر أبدًا.

شهد الزبير رضي الله عنه الغزوات والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعه على الموت في سبيل الله وثبت معه يوم بدر ويوم أحد وكانت معه إحدى رايات المهاجرين يوم غزوة الفتح، فلما دخل المسلمون مكة المكرمة يوم الفتح كان الزبير رضي الله عنه على المجَنَّبة اليسرى، وكان المقداد بن الأسود على المجنبة اليمنى، فجاءا بفرسيهما فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الغبار عن وجهيهما بثوبه وقال: "إني قد جعلت للفرس سهمين وللفارس سهمًا، فمن نَقَصهما نقصه الله".

ولما كانت غزوة بدر الكبرى كان على الزبير عمامة صفراء فنزل جبريل والملائكة على سيماء الزبير، وفي الطبقات الكبرى لابن سعد عن عمرو بن عاصم الكلابي عن همّام عن هشام بن عروة عن أبيه قال: كانت على الزبير ريطة صفراء متعجرًا بها يوم بدر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الملائكة نزلت على سيماء الزبير".

وفي البخاري ومسلم وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الخندق: "من يأتيني بخبر القوم" فقال الزبير: أنا، فأعادها النبي صلى الله عليه وسلم ثانية وثالثة والزبير يقول: أنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حينئذٍ: "لكل نبي حواري وحواريّ الزبير".

وفي "سير أعلام النبلاء" للذهبي عن يونس بن بُكير عن هشام عن أبيه عن الزبير أنه قال: "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: "لكل نبي حواري وحواريّ الزبير وابن عمتي". وقد أخرجه ابن سعد في طبقاته وصححه الحاكم في مستدركه.

والحواري في اللغة هو الناصر أو ناصر الأنبياء كما ذكر صاحب القاموس وقال مصعب الزبيري: هو الخالص من كل شيء وقال الكلبي: الحواري: الخليل.

وفي طبقات ابن سعد بالإسناد عن هشام بن عروة أن غلامًا مر بابن عمر فسئل من هو فقال: أنا ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ابن عمر: إن كنتَ من ولد الزبير وإلا فلا فسئل ابن عمر: هل كان أحد يقال له حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم غير الزبير؟ فقال: لا أعلمه.


وفاته:

كانت وفاته رضي الله عنه يوم الجمل عند مُنصرفه تائبًا من قتال أمير المؤمنين سيدنا على بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان ذلك في سنة ست وثلاثين للهجرة.

وجاء في سبب مقتله في مستدرك الحاكم عن قيس بن أبي حازم قال: قال علي للزبير: "أما تذكر يوم كنت أنا وأنت في سقيفة قوم من الأنصار فقال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتحبُّه" فقلت: ما يمنعني قال: "أما إنك ستخرج عليه وتقاتله وأنت ظالم".
قال: فرجع الزبير.

وقال صاحب "العقد الثمين": "وكان الزبير رضي الله عنه قد انصرف عن القتل نادمًا".

وبعد انصرافه نادمًا عن معسكر معاوية بن أبي سفيان لحقه عمرو بن جُرموز فقتله في وادي السباع على سبعة فراسخ من البصرة وأخذ رأسه إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فاستأذن عليه فقال الإمام علي: بشرون بالنار، وفي رواية أخرى أنه قال: بشروا قاتل ابن صفية بالنار.

وقد روى الذهبي بالإسناد عن أبي جروٍ المازني أنه قال: شهدتُ عليًا والزبير حين توافقا، فقال علي: يا زبير، أنشدك الله، أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنك تقاتلني وأنت لي ظالم قال: نعم، ولم أذكره إلا في موقفي هذا، ثم انصرف، قال يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: انصرف الزبير يوم الجمل عن علي فلقيه ابنه عبد الله فقال: جُبنًا جُبنًا، فقال الزبير: قد علم الماس أني لست بجبان ولكن ذكّرني عليّ شيئًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلفت أن لا أقاتله ثم قال:

ترك الأمور التي أخشى عواقبها *** في الله أحسن في الدنيا وفي الدينِ

وفي "الوافي بالوفيات" للصفدي أن ابن جرموز حين بشّره الإمام علي رضي الله عنه بالنار قال أبياتًا هي:

أتيت عليًا برأس الزبير *** وأرجو لديه من الزُّلفه
فبشَّر بالنار إذ جئتُهُ *** فبئس البشارةُ والتحفه

ولم يدع الزبير رضي الله عنه دينارًا ولا درهمًا، إلا أرضين بالغابة وأربع دور بالمدينة والبصرة والكوفة ومصر، وكان عليه ديون سببها أن الرجل كان يجيء بالمال ليستودعه إياه فيقول له: لا ولكن هو سلف، إني أخشى عليه الضيعة. وقدّر ابنه عبد الله ما عليه من الدين فبلغ ألفي ألف ومئتي ألف فباع أرضه التي بالغابة ونادى بالموسم أربع سنين: ألا من كان له على الزبير دين فليأتنا لنقضه فلما مضت السنون الأربع قسّم الأموال المتبقية بين الورثة.

واشتهر عن حسان بن ثابت أبيات قالها في الزبير هي:

أقام على عهد النبي وهديه *** حواريُّهُ والقول بالفعل يُعدَلُ
أقام على منهاجه وطريقه *** يُوالي وليَّ الحق والحق أعدلُ
هو الفارس المشهور والبطل الذي *** يصول إذا ما كان يوم محجَّلُ
إذا كشفت عن ساقها الحرب حشَّها *** بأبيض سباق إلى الموت يُرقل
وإن امرءًا كانت صفية أمَّهُ *** ومن أسد في بيتها لمؤثّلُ
له من رسول الله قربى قريبة *** ومن نصرة الإسلام مجدٌ مؤثَّلُ
فكم كربة ذبَّ الزبير بسيفه *** عن المصطفى والله يُعطي ويُجزلُ
ثناوك خير من فَعالِ معاشر *** وفعلك يا ابن الهاشمية أفضلُ
رحم الله الزبير بن العوام صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.


طلحة بن عُبيد الله
الشهيد ذو الخير والجود


ترجمته:

هو أبو محمد طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي أمه الصعبة بنت الحضرمي أخت العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه أسلمت وأسلم طلحة قديمًا معها. وطلحة رضي الله عنه أحد العشرة الذين بشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، وأحد السابقين الأولين إلى الإسلام وأحد الستة أهل الشورى.

له عدة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، منها حديثان متفق عليهما وانفرد له البخاري بحديثين ومسلم بثلاثة أحاديث وله في مسند بَقيّ بن مخلد ثمانية وثلاثون حديثًا.

كان ربعةً مائلاً إلى القصر مليح الوجه رحب الصدر بعيد ما بين المنكبين شعره كثير ليس بالجعد القطط ولا بالسبط المسترسل ضخم القدمين إذا التفت التفت جميعًا.


قصة إسلامه:

يروي ابن سعد في طبقاته قصة مفادها أن طلحة قال: حضرت سوق بُصرى بالشام فإذا راهب في صومعته يقول: سلوا أهل هذا الموسم أفيهم أحد من أهل الحرم فقلت: نعم أنا فقال: هل ظهر أحمد بعد قلتُ: ومن أحمد قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب هذا شهره الذي يخرج فيه وهو ءاخر الأنبياء ومخرجه من الحرم ومُهاجره إلى نخل وحرَّة وسباخ، قال طلحة: فوقع في قلبي ما قال فخرجت سريعًا حتى قدمت مكة فقلت: هل كان من حدث؟ قالوا: نعم محمد بن عبد الله الأمين تنبّأ وقد تبعه ابن أبي قحافة [يعنون أبا بكر رضي الله عنه] فانطلقت إلى أبي بكر فأخبرتهُ بما قال الراهب فخرجنا معًا فدخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت على يديه وأخبرته بخبر الراهب فسُرَّ سرورًا عظيمًا بذلك.

وقد شهد طلحة رضي الله عنه المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بدرًا، وذلك لأن رسول الله لما وصلته أخبار عن عير قريش بعث طلحة وسعيد بن زيد ليأتياه باخبار العير فخرجا حتى بلغا الحوراء حتى مرت بهما العير فرجعا يريدان المدينة ليخبرا رسول الله بخبرها لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد خرج قبل مجيئهما، وكانت وقعة بدر في اليوم الذي دخل فيه طلحة وسعيد المدينة فلم يشهدا الوقعة، فضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمهما وأجرهما فكانا كمن شهدها.


بعض مناقبه:

ورد في "سير أعلام النبلاء" للذهبي أن طلحة رضي الله عنه أتاه مال من حضرموت مقدار سبعمائة ألف درهم فبات يتململ فقال له زوجته: ما لك؟ قال: تفكَّرتُ منذ الليلة ما ظَنُّ رجل بربه يبيت وهذا المال في بيته؟ فقالت له زوجه وهي أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما: إذا أصبحت فادعُ بجفانٍ وقِصاع فقسّمه فقال لها: رحمك الله أنت موفّقة بنت موفق. فلما أصبح قسّمه بين المهاجرين والأنصار فبعث إلى علي رضي الله عنه منها بجفنة، فقالت له زوجه: أما كان لنا في هذا المال نصيب قال: فشأنك بما بقي فكانت صرة فيها نحو ألف درهم.

وأخبار بذل طلحة بن عبيد الله وسخائه كثيرة في كتب التراجم والسير منها أن أعرابيًا جاءه يسأله فتقرّب إليه برحم فقال: إن هذه لرحم ما سألني بها أحد قبلك إن لي أرضًا قد أعطاني بها عثمان ثلاثمائة ألف فاقبضها، وإن شئت بعتها من عثمان ودفعت إليك الثمن، فقال الرجل: الثمن، فأعطاه إياه.

وعن محمد بن سعد بالإسناد عن محمد بن إبراهيم التيمي أنه قال: كان طلحة لا يدعُ أحدًا من بني تيم عائلاً إلا كفاه وقضى دينه ولقد كان يرسل إلى عائشة كل سنة بعشرة ءالاف ولقد قضى عن صُبيحة التيمي ثلاثين ألفًا.

وقال الزبير بن بكار: حدثني عثمان بن عبد الرحمن أن طلحة بن عبيد الله قضى عن عبيد الله بن معمر وعبد الله بن عامر بن كُريز ثمانين ألف درهم.

وأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا ومدحه فسماه طلحة الخير وطلحة الفياض وطلحة الجود وذلك لبذله وسخائه في سبيل الله، فكثيرًا ما كان يعطي من غير مسئلة.

وعن عائشة رضي الله عنها عن ابيها الصديق رضي الله عنه أنه كلما ذُكر يوم وقعة أُحُد قال: ذلك كله يوم طلحة، كنت أول من فاء يوم أحد فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي عبيدة الجراح: "عليكما صاحبكما" يريد طلحة وقد نزف فأصلحنا من شأن النبي صلى الله عليه وسلم ثم أتينا طلحة فإذا به بضع وسبعون أو أقل أو أكثر بين طعنة وضربة ورمية.

وقد ثبت أن طلحة رضي الله عنه حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فقد اخرج النسائي أن رسول الله كان في ناحية في اثني عشر رجلاً منهم طلحة، فأدركهم المشركون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من للقوم" قال طلحة: أنا قال: "كما أنت" فقال رجل من الأنصار: أنا فقال: "أنت" فقاتل حتى قُتل فلم يزل كذلك حتى بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم طلحة، فعندئذٍ قاتلهم طلحة قتال الأحد عشر حتى قُطعت اصابعه، ثم رد الله المشركين.

وأخرج الحاكم والترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد: "أوجب طلحة".

وفي طبقات ابن سعد بالإسناد عن عامر الشعبي أنه قال: أصيب أنف النبي صلى الله عليه وسلم ورباعيته يوم أحد، وإن طلحة بن عبيد الله وقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فضربت فشلّت إصبعه.

وفي الطبقات أيضًا عن عائشة رضي وأم إسحاق ابنتي طلحة قالتا: جُرح أبونا يوم أحد أربعًا وعشرين بين جراحة وقع منها في رأسه شجّة مربعة وقُطع نساه [يعني عرق النسا] وشلّت إصبعه وسائر الجراح في سائر جسده وقد غلبه الغشي ورسول الله صلى الله عليه وسلم مكسورة رباعيتاه
مشجوج في وجهه قد علاه الغشي وطلحة محتمله يرجع به القهقرى كلما أدركه أحد من المشركين قاتل دونه حتى أسنده إلى الشعب.

وفاته:

كانت وفاة سيدنا طلحة رضي الله عنه يوم الجمل يوم التقى جيشا علي رضي الله عنه ومعاوية بن أبي سفيان وذلك في جمادى الآخرة من السنة السادسة والثلاثين للهجرة بعد أن رماه مروان بن الحكم بسهم وهو منصرف من معسكر معاوية تائبًا من قتاله لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

وقد روى الحاكم في مستدركه أن امير المؤمنين عليًا رضي الله عنه بعث إلى طلحة أن القني فاتاه طلحة فقال له: نشدتك الله هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه" فقال طلحة: نعم، قال: فلم تقاتلني قال: لم أذكر فانصرف طلحة تائبًا.

ويذكر صاحب المستدرك في تتمة هذه القصة عن ثور بن مجزأة أنه قال: "مررت بطلحة بن عبيد الله يوم الجمل وهو صريع في ءاخر رمق فوقفت عليه فرفع رأسه فقال: إني لأرى وجه رجل كأنه القمر، ممن أنت فقلت: من أصحاب أمير المؤمنين علي فقال: ابسط يدك أبايعك فبسطت يدي وبايعني ففاضت نفسه فأتيت عليًا فأخبرته بقول طلحة فقال: الله أكبر الله أكبر صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبى الله أن يدخل طلحة الجنة إلا وبيعتي في عنقه.

رحم الله طلحة بن عبيد الله صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم


عبد الرحمن بن عوف
الثقة الأمين في الأرض والسماء


ترجمته:

هو أبو محمد عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زُهرة بن كلاب بم مُرة بن كعب بن لؤي، كان اسمه في الجاهلية عبد عمرو وقيل كان اسمه عبد الحارث وقيل عبد الكعبة، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن وذكر الحافظ العسقلاني في "الإصابة" أنه ولد بعد عام الفيل بعشر سنين.

وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة وأحد الستة أهل الشورى وأحد الثمانية الأوائل الذين أسلموا قديمًا قبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم.

وهو أحد الذين هاجروا الهجرتين: الهجرة إلى الحبشة والهجرة إلى المدينة المنورة وأحد السابقين الذين شهدوا بدرًا وكذا شهد المشاهد كلها.

وروى عنه ابن عباس وابن عمر وأنس بن مالك وبنوه: إبراهيم وحميد وأبو سلمة وعمرو ومصعب وروى عنه مالك بن أوس وجبير بن مطعم وجابر بن عبد الله والمسور بن مخرمة وغيرهم.

وله في الصحيحين حديثان. وانفرد له البخاري بخمسة أحاديث.


مناقبه:

كان الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه واحدًا من أولئك الأبطال الذين أُثر عنهم بذل النفيس في سبيل الله ونصرة دينه، فقد روى ابن الجوزي في "صفة الصفوة" عن ثابت البناني عن أنس قال: بينما عائشة رضي الله عنها في بيتها إذ سمعت صوتًا رجَّت منه المدينة فقالت: ما هذا قالوا: عير قدمت لعبد الرحمن بن عوف من الشام، وكانت سبعمائة راحلة، فقال عبد الرحمن بن عوف لعائشة رضي الله عنها: فإني أشهدك أنها بأحمالها وأقتابها وأحلاسها في سبيل الله عز وجل.

وقال عبد الله بن جعفر الزهري: حدثتنا أم بكر بنت المسور أن عبد الرحمن باع أرضًا له لعثمان بن عفان بأربعين ألف دينار فاخذ المال وقسمه في فقراء بني زهرة وفي المهاجرين وأمهات المؤمنين.

قال المسور: فأتيت عائشة بنصيبها فقالت: من أرسل بهذا قلتُ: عبد الرحمن بن عوف، فقالت: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحنو عليكن بعدي إلا الصابرون". وقد أخرج أحمد بن حنبل هذا الحديث في مسنده.

وذكر الذهبي في سيره عن ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة أن عبد الرحمن بن عوف أوصى بخمسين ألف دينار في سبيل الله، فكان الرجل يعطى منها ألف دينار. وقال الزهري إن عبد الرحمن بن عوف أوصى للبدريين بمال فوُجدوا مائة، فأعطى كل واحد منهم أربعمائة دينار فكان منهم سيدنا عثمان بن عفان فأخذها.

وبإسناد ءاخر عن الزهري أن عبد الرحمن أوصى بألف فرس في سبيل الله.

وفي "صفة الصفوة" لابن الجوزي عن الزهري أنه قال: تصدق عبد الرحمن بن عوف بشطر ماله أربعة ءالاف، ثم تصدق بأربعين ألفًا ثم تصدق بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمسمائة فرس في سبيل الله تعالى، ثم حمل على ألف وخمسمائة راحلة في سبيل الله تعالى، وكان عامة ماله من التجارة.

وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة في الحديث الذي ذُكر فيه العشرة المبشرون وذكرنا ءانفًا ما كان له من الصدقات الكثيرة التي وزعها على أمهات المؤمنين وفقراء المهاجرين وغيرهم من الفقراء وعابري السبيل والأرامل والأيتام.

وكان عبد الرحمن بن عوف فقيرًا حين هاجر إلى المدينة فآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع أحد النقباء من الأنصار، فقال له سعد: إني أكثر الأنصار مالاً، فأقسم لك نصف مالي وانظر أي زوجتيَّ هويت نزلت لك عنها فإذا حلَّت تزوجتها، فقال له عبد الرحمن: لا حاجة لي في ذلك، بارك الله لك في أهلك ومالك، ولكن دُلَّني على السوق. فذهب وباع واشترى وربح، ولم يزل على هذه الحال حتى كثر ماله وكان له ما كان من المال والصدقات.

وكان رضي الله عنه من أعدل وأثبت الصحابة رواية للأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ففي سيَر الذهبي عن ابن عباس أنه قال: جلسنا مع عمر فقال: هل سمعت عن رسول الله شيئًا أمر به المرء المسلم إذا سها في صلاته كيف يصنع فقلت: لا والله، أو ما سمعت أنت يا أمير المؤمنين من رسول الله في ذلك شيئًا فقال: لا والله، فبينا نحن في ذلك أتى عبد الرحمن بن عوف فقال: فيم أنتما فأخبره عمر، فقال عبد الرحمن: لكني قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر في ذلك، فقال: له عمر: فأنت عندنا عدل، فماذا سمعت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سها أحدكم في صلاته حتى لا يدري أزاد أم نقص، فإن كان شك في الواحدة والثنتين فليجعلها واحدة، وإذا شك في الثنتين أو الثلاث فليجعلها ثنتين، وإذا شك في الثلاث والأربع فليجعلها ثلاثًا حتى يكون الوهم في الزيادة، ثم يسجد سجدتين وهو جالس قبل أن يُسلّم ثم يُسلّم".

وكذلك ذكر الحافظ العسقلاني في "الإصابة" أن سيدنا عمر بن الخطاب لم يكن يأخذ الجزية من المجوس حتى سمع عبد الرحمن بن عوف يشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اخذ الجزية من مجوس هَجَر، فصار بعدها سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأخذها منهم.

وفي "الإصابة" أيضًا للحافظ العسقلاني من حديث المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الذي يحافظ على أزواجي من بعدي هو الصادق البار" فكان عبد الرحمن بن عوف يخرج بأزواج النبي ويحج معهن ويجعل على هوادجهن الطيالسة.

ومن مناقبه أنه صلى بالنبي عليه السلام إمامًا، فعن المغيرة بن شعبة أنه سئل هل أمّ النبي صلى الله عليه وسلم أحدٌ من هذه الأمة غير أبي بكر فقال: نعم، فذكر أن النبي توضأ والمغيرة معه ومسح على خُفَّيه وعمامته [أي مسح شيئًا من الرأس ثم أكمل على العمامة]، وأنه صلى خلف عبد الرحمن بن عوف.

وفي رواية أن الرسول صلى الله عليه وسلم انتهى إلى عبد الرحمن بن عوف وهو يصلي بالناس، فأراد عبد الرحمن أن يتأخر، فأومأ إليه أن مكانَكَ، فصلى وصلى رسول الله بصلاة عبد الرحمن ركعة واحدة وأتم الذي فاته. وفي "صفة الصفوة" أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "ما قُبِضَ نبي حتى يصلي خلف رجل صالح من أمته".

وعن عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة أنه قال: كان بين خالد وعبد الرحمن بن عوف شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد: "دعوا لي أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحدٍ ذهبًا لم يُدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه". ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" ونسبه إلى البزار وقال: رجاله رجال الصحيح. وفي رواية مسلم في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال لخالد: "لا تسبوا أصحابي لا تسبوا أصحابي والذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما أدرك مدَّ أحدهم ولا نصيفه".

وامتدحه أكثر من واحد من الصحابة رضوان الله عليهم، فعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ورد عنه أنه قال فيه: "عبد الرحمن أمين في السماء وأمين في الأرض"، وعمر بن الخطاب قال فيه: "عبد الرحمن سيد من سادات المسلمين".

وعن سعيد بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على جبل خراء وكان معه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف رضوان الله عليهم فقال صلى الله عليه وسلم: "اثبت حراء فإنما عليك نبي أو صديق أو شهيد".


خصال وشمائل:

ولقد كان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه مع كثرة ماله متواضعًا عفيف النفس متفكرًا بالآخرة، فقد روي في "صفة الصفوة" عن نوفل بن إياس الهُذلي أنه قال: كان عبد الرحمن لنا جليسًا وكان نعم الجليس، وإنه انقلب بنا يومًا حتى دخلنا بيته فدخل فاغتسل، ثم خرج فجلس معنا وأُتينا بصحفة فيها خبز ولحم، فلما وُضعت بكى عبد الرحمن بن عوف، فقلنا له: يا أبا محمد ما يبكيك فقال: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشبع هو وأهل بيته من خبز وشعير، ولا أرانا أُخّرنا لها لما هو خير لنا.

وأخرج البخاري عن سعد بن إبراهيم عن أبيه أن عبد الرحمن بن عوف أُتي بطعام وكان صائمًا فقال: قُتل مصعب بن عمير وهو خير مني فكُفن في بردة إن غُطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطيت رجلاه بدا رأسه، وقُتل حمزة وهو خير مني فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة، ثم بُسط لنا من الدنيا ما بُسط، وأُعطينا من الدنيا ما أعطينا وقد خشينا أن تكون حسناتنا عُجّلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام.

وفي حلية الأولياء لأبي نُعيم أن رجلاً قرأ عند النبي صلى الله عليه وسلم القرءان وكان لين الصوت، فما بقي أحد من القوم إلا فاضت عينه غير عبد الرحمن بن عوف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لم يكن عبد الرحمن فاضت عينه فقد فاض قلبه".

ومن مناقبه أيضًا عزل نفسه عن الخلافة ورفضه إياها وكان جديرًا بها، فلما قُتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه اجتمع أهل الشورى لمبايعة خليفة جديد للمسلمين، قال عبد الرحمن: هل لكم أن أختار لكم وأنفصل منها قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنا أول من رضي، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنك أمين في أهل السماء، أمين في أهل الأرض".

وعن سعيد بن المسيب أن سعد بن أبي وقاص أرسل إلى عبد الرحمن رجلاً وهو قائم يخطب: أن ارفع رأسك إلى أمر الناس، أي ادعُ إلى نفسك، فقال عبد الرحمن: ثكلتك أمك، إنه لن يلي هذا الأمر أحد بعد عُمر إلا لامه الناس.

وعن المسور بن مخرمة أن عبد الرحمن قال حين طُلب منه أن يدعو إلى نفسه: والله لأن تؤخذ مدية فتوضع في حلقي ثم يُنفذ بها أحبُّ إليَّ من ذلك.


وفاته:

توفي رضي الله عنه سنة اثنتين وثلاثين للهجرة عن خمسة وسبعين عامًا، وقيل اثنين وسبعين.

وصلى عليه سيدنا عثمان بن عفان، وقيل الزبير بن العوام، ودفن في البقيع بالمدينة المنورة.

رحم الله عبد الرحمن بن عوف صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.


سعد بن أبي وقاص
أول من رمى سهمًا في سبيل الله



ترجمته:

هو أبو إسحاق سعد بن أبي وقاص، واسم أبي وقاص هو مالك بن أُهَيب بن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي، وهو أحد الستة اهل الشورى وأحد العشرة المبشرين بالجنة، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة وسعد في الجنة وسعيد في الجنة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة". رواه الترمذي. وكذلك هناك حديث ءاخر رواه أبو يعلى في مسنده والحاكم في مستدركه بالإسناد عن عبد الله بن عمر أنه قال: كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يدخل عليكم من هذا الباب رجل من أهل الجنة" فطلع سعد بن أبي وقاص.

وسعد كما أشرنا من بني زهرة وأبوه أبو وقاص هو ابن عم ءامنة بنت وهب والدة النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أخرج الترمذي في مناقب سعد والطبري في معجمه الكبير وابن سعد في طبقاته، عن جابر أنه قال: كنا مع رسول الله إذ اقبل سعد بن مالك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا خالي، فليُرني امرؤ خاله".

روى جملة من الأحاديث، وله في الصحيحين خمسة عشر حديثًا، وانفرد له البخاري بخمسة أحاديث، وانفرد مسلم بثمانية عشر حديثًا.

وحدَّث عنه عبد الله بن عمر وعائشة وابن عباس والسائب بن يزيد وقيس بن أبي حازم، وسعيد بن المسيب وأبو عثمان النهدي وعمرو بن ميمون والأحنف بن قيس وعلقمة بن قيس، وإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، ومجاهد وشريح بن عبيد الحمصي وأيمن المكي وبشر بن سعيد وأبو عبد الرحمن السلمي وأبو صالح ذكوان وعروة بن الزبير، وأولاد سعد وهم: عامر وعمر ومحمد ومصعب وإبراهيم وعائشة، وكثيرون غيرهم.


مناقبه:

يروي أهل التراجم والسير عن الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه حادثة هي مثال عن قوة إيمان صحابة رسول الله رضوان الله عليهم، وهي ما رواه مسلمة بن علقمة عن داود بن أبي هند عن أبي عثمان أن سعد بن أبي وقاص قال: نزلت هذه الآية: {وإن جاهداك لتُشْرك بي ما ليس لك به علم فلا تُطِعْهما} [سورة العنكبوت/ءاية:8] قال: كنتُ برًا بأمي، فلما أسلمت قالت: يا سعد، ما هذا الدين الذي قد أحدثت لَتَدعنَّ دينك هذا، أو لا ءاكل ولا أشرب حتى أموت فتُعَيَّر بي فيقال: يا قاتل أمه، فقلت: لا تفعلي يا أمَّه، إني لا أدع ديني هذا لشيء، فمكثت يومًا وليلة لا تأكل ولا تشرب، وأصبحت وقد جُهدت، فلما رأيت ذلك قلت: يا أمَّهْ، تعلمين والله لو كان لك مئة نفس فخرجت نفسًا نفسًا ما تركت ديني. إن شئتِ فكلي أو لا تأكلي، فلما رأت ذلك أكلت.

كان رضي الله عنه من أوائل من دخل في الإسلام من المهاجرين، فهو إذًا من السابقين الأولين الذين ذكرهم الله تعالى في القرءان الكريم وكان عمره حين أسلم سبع عشرة سنة، وقيل تسع عشرة.

شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أول من رمى سيفًا في سبيل الله، ففي كتاب "الإصابة" للحافظ العسقلاني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث سرية إلى جانب من الحجاز يدعى رابغ، فهاجم المشركون المسلمين، فحماهم سعد يومئذ بسهامه، فكان هذا أول قتال في الإسلام، فقال سعد في هذا شعرًا:

ألا هل أتى رسول الله أني *** حميت صحابتي بصدور نبلي
أذود بها عدوهم ذيادًا *** بكل حَزونة وبكل سهل
فما يعتد رامٍ في عدوٍ *** بسهم يا رسول الله قبلي

وكان رضي الله عنه جيد الرمي مُسدد الإصابة، ولا سيما بعد أن دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي "صفة الصفوة" لابن الجوزي عن قيس بن أبي حازم عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم سدّد رميته وأجب دعوته".

وفي "سير أعلام النبلاء" روى الذهبي عن ابن شهاب أنه قال: قتلَ سعدٌ يوم أحد بسهم رُميَ به، فرموا به مرة ثانية فأخذه سعد، فرمى به الثانية فقتل، فرُدَّ عليهم فرمى به الثالثة فقتل، فعجب الناس مما فعل.

عن ابن اسحاق عن صالح بن كيسان عن بعض ءال سعد عن سعد أنه قال عن معركة أحد: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يناولني النبل ويقول: "ارمِ، فداك أبي وأمي"، حتى إنه ليناولني السهم ما له من نصل، فأرمي به.

وقال ابن المسيب: كان جيد الرمي، سمعته يقول: جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه يوم أحد.

وكذلك أخرج الترمذي وأحمد بن حنبل في مسنده، والبخاري في المغازي، بالإسناد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يجمع أبويه لأحد غير سعد.

وروى ابن زنجويه عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص أنه قال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك يوم الخندق حتى بدت نواجذه، كان رجل معه ترس وكان سعد راميًا، فجعل يقول كذا يحوّي بالترس [أي يحركه] ويغطي جبهته، فنزع له سعد بسهم، فلما رفع رأسه رماه به فلم يخطئ هذه منه [يعني جبهته]، فانقلب وأشال برجله، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعله حتى بدت نواجذه.


استجابة دعوته:

كان مشهورًا بين الصحابة رضوان الله عليهم، وبين من جاء من بعدهم من التابعين والعلماء أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كان مجاب الدعوة، وذلك ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له الآنف الذكر وهو قوله: "اللهم سدّد رميته وأجب دعوته" وفي مسند الإمام أحمد وجامع الترمذي والحاكم في مستدركه والهيثمي في "مجمع الزوائد" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم استجب لسعد إذا دعاك"، فكان الناس لا يتعرضون له خشية أن تصيبهم دعوته، وكان هناك من الناس من أصابته دعوته، منهم رجل يقال له أبو سعدة، وذلك عندما شكا أهل الكوفة سعدًا إلى عمر بن الخطاب فقالوا إنه لا يحسن الصلاة، فبعث عمر رضي الله عنه رجالاً يسألون عنه بالكوفة، فكانوا لا يأتون مسجدًا من مساجد الكوفة إلا قيل لهم فيه خير، حتى أتوا مسجدًا لبني عبس، فقال رجل يقال له أبو سعدة: أما إذا نشدتمونا الله، فإنه كان لا يعدل في القضية، ولا يقسم بالسوية ولا يسير بالسريّة، فقال سعد: اللهم إن كان كاذبًا فأعم بصره وأطل عمره وعرضه للفتن، قال عبد الملك، فأنا رأيته بعد ذلك يتعرض للإماء في السكك، فإذا سئل: كيف أنت؟ يقول: كبير مفتون أصابتني دعوة سعد.

وفي "سير النبلاء" عن ابن جدعان عن ابن المسيب أن رجلاً كان يسب علي بن أبي طالب وطلحة والزبير رضي الله عنهم، فجعل سعد ينهاه ويقول: لا تقع في إخواني، فأبى، فقام سعد فصلى ركعتين ودعا بكلمات، فجاء بُخْتيٌّ [أي جمل] يشق الناس، فأخذه بالبلاط ووضعه بين صدره والبلاط حتى سحقه فمات، قال ابن المسيّب: فأنا رأيت الناس يتبعون سعدًا ويقولون: هنيئًا لك يا أبا إسحاق، استجيبت دعوتك.

وروى حاتم بن إسماعيل عن يحيى بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة عن جده أنه قال: دعا سعد بن أبي وقاص فقال: يا رب بنيَّ صغار، فأطِلْ في عمري حتى يبلغوا، فعاش بعدها عشرين سنة.


غزواته وجهاده:

ومن مناقبه أيضًا أنه قد منَّ الله عليه بأن فتح العراق على يده بعد معركة القادسية المشهورة، فإنه لما علم المسلمون اجتماع الفرس على يزدجرد بن شهريار بن كسرى، أرسل عمر بن الخطاب بتجميع المسلمين استعدادًا لغزو فارس، واستشار أهل الشورى فيمن يكون قائد المعركة، فأشاروا إليه بسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فخرج إلى العراق بأربعة ءالاف مقاتل، وصار عمر بن الخطاب بعد ذلك يمده بالجنود من غطفان وقيس وتميم وأسد وغيرها من العرب حتى صار عدد الجيش بضعة وثلاثين ألف مقاتل، فساروا حتى وصلوا إلى القادسية، وهي مكان بينه وبين الكوفة خمسة وأربعين ميلاً، وكانت المعركة بين المسلمين وبين الفرس الذين كان رستم قائدهم من قبل كسرى، فكانت الهزيمة الشنعاء للمجوس ءانذاك إذ قُتل منهم الآلاف، واقتحم جيش المسلمين العراق وفارس وتتابع فتح المدن والأمصار، ودخل سعد بن أبي وقاص بجيشه مدائن كسرى حيث كان قصره وغنم المسلمون ءانذاك الشيء العظيم.


بناؤه الكوفة:

كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد كتب إلى سعد بن أبي وقاص يسأله عن السبب الذي غير ألوان العرب وغيّر لحومهم، فكتب إليه سعد رضي الله عنه أن السبب هو تغير الهواء والأرض، فأرسل عمر إليه قائلاً: إن العرب لا يوافقها إلا ما وافق إبلها من البلدان، فابعث سلمان وحذيفة رائدين، فليرتادا منزلاً بريًا بحريًا ليس بيني وبينكم فيه بحر ولا جسر فخرج سلمان غربي الفرات، وحذيفة شرقيه، حتى التقيا عند الكوفة فأعجبتهما، فكتبا إلى سعد بن أبي وقاص وكان ءانذاك قد انتهى من فتح مدائن كسرى ومعظم بلاد فارس فارتحل بجنده من المدائن حتى عسكر بالكوفة، وكان ذلك في المحرم من سنة سبع عشرة للهجرة، فأمر راميًا فرمى بسهم ناحية الشرق، وءاخر ناحية الغرب، وأمر الناس أن يبنوا بيوتهم من وراء السهمين، وقسم النواحي بين العرب فكان لكل قوم ناحيتهم، وبنى في وسط المدينة المسجد ودار الإمارة.


وفاته:

توفي سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في قصره بالعقيق على عشرة أميال من المدينة المنورة سنة خمس وخمسين للهجرة، وقيل سنة خمسين، وقيل سنة ست وخمسين، وقيل غي ذلك، وهو ابن بضع وسبعين سنة، وقيل اثنتين وثمانين.

وروى الذهبي في سيره عن الليث عن عقيل عن الزهري أن سعد بن أبي وقاص لما حضرته الوفاة دعا بجبة صوف بالية فقال: كفنوني فيها، فإني لقيت المشركين فيها يوم بدر، وإنما خبأتها لهذا اليوم.

وحُمل رضي الله عنه إلى المدينة وصلى عليه مروان بن الحكم وهو يومئذ والي المدينة. وأرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن تمر جنازته في المسجد، فأوقف على حُجرتهن فصلين عليه وخرج من باب الجنائز ودفن في البقيع.

رحم الله سعد بن أبي وقاص صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.


سعيد بن زيد
مجاب الدعوة



ترجمته:

هو أبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفيل بن عبد العزى بن رياح بن قُرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي، القرشي العدويّ، أحد العشرة المبشرين بالجنة، ومن السابقين الأولين الذي رضي الله عنهم ورضوا عنه، أسلم قبل أن يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم دار الأرقم.

شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد حصار دمشق وفتحها، فولاه عليها أبو عبيدة بن الجراح.

روى أحاديث يسيرة له منها اثنان في الصحيحين، وانفرد له البخاري بحديث واحد.

وأما والده وهو زيد بن عمرو بن نفيل فقد اشتهر عند أصحاب كُتب التراجم والسير أنه كره ما كان يفعله المشركون من عبادة الاصنام والحجارة والذبح لها والاستسقام بالأزلام، وكان لا يعبد إلا الله وحده ولا يشرك به شيئًا، فقد روى ابن سعد في طبقاته أنه أظهر مخالفته لقومه في عبادتهم للأوثان، وكان لا يأكل ما كانوا يذبحونه على الأصنام، وقدم الشام فسأل اليهود وغيرهم من أهل الأديان الباطلة فلم تعجبه دياناتهم، فرجع إلى مكة وهو يقول: لا أعبد إلا الله.

وفي طبقات ابن سعد بالإسناد عن موسى بن عقبة قال: سمعت سالمًا أبا النضر يحدث، أن زيدًا والد سعيد كان يعيب على قريش ذبائحهم ثم يقول: الشاة خلقها الله وأنزل من السماء ماءً وأنبت لها الأرض، ثم يذبحونها على غير اسم الله، إنكارًا لذلك وإعظامًا له لا ءاكل مما لم يذكر اسم الله عليه.

وروى الذهبي في "سير أعلام النبلاء" أن زيدًا التقى بالشام راهبًا فقال له الراهب: أراك تريد دين إبراهيم عليه السلام، يا أخا أهل مكة، الحق ببلدك، فإن الله يبعث من قومك من يأتي بدين إبراهيم، وهو أكرم الخلق على الله.

وعن علي بن عيسى الحكمي عن أبيه عن عامر بن ربيعة أنه قال: قال لي زيد: يا عامر إني خالفت قومي واتّبعت ملة إبراهيم وما كان بعيد وإسماعيل من بعده، وكانوا يصلون إلى هذه القبلة، فأنا أنتظر نبيًا من ولد إسماعيل يُبعث ولا أراني أدركه، وأنا أؤمن به وأصدقه وأشهد أنه نبي، فإن طالت بك مدة فرأيته فأقرئه مني السلام. قال عامر: فلما تنبأ رسول الله أسلمتُ وأخبرته بقول زيد بن عمرو وأقرأته منه السلام فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورحَّم عليه وقال: "قد رأيته في الجنة يسحب ذيولاً".

وقد التقى زيد بن عمرو برسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه لم يدرك مبعثه إذ مات قبل ذلك، ولكن سعيدًا ابنه أدرك رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وءامن به وكان من المبشرين العشرة.


من مناقبه:

إن الله تعالى قد أنعم على عباده بنعم لا تُعَدُّ ولا تُحصى، أعظمها وأجلها نعمة الإيمان التي لا تعادلها نعمة. ومن نعم الله تعالى أنه جعل بعض عباده المؤمنين مستجابي الدعوة، ومنهم الصحابي الجليل سعيد بن زيد رضي الله عنه، الذي اشتهر عنه ذلك وذُكر في الكثير من كتب الترجمة.

ومن هذه الاخبار من رواه الحافظ أبو نُعيم في "حلية الأولياء" وهو أن امرأة تدعى أروى بنت أويس ادَّعت أن سعيد بن زيد رضي الله عنه قد أخذ من أرضها فأدخله في أرضه، فقال رضي الله عنه: ما كنتُ لأسرق منها بعد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سرق شبرًا من الأرض طُوّقه يوم القيامة من سبع أرضين"، ثم جعا: اللهم إن كانت كاذبة فلا تُمتها حتى يعمى بصرها، وتجعل قبرها في بئرها.

وجاء في تتمة هذه القصة أنها لم تمت حتى ذهب بصرها، وخرجت يومًا تمشي في دارها حَذِرة، فوقعت في بئرها وكانت قبرها.

من مناقبه أنه كان من العشرة الذين بشرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، وكذلك ذُكر في الحديث الذي أخرجه البخاري في الجهاد، ومسلم في فضل سعد، وأحمد في مسنده أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين اهتز جبل حراء وكان واقفًا عليه قال: "اثبت حراء فإنه ليس عليك إلا نبي أو صِدّيق أو شهيد". وذكر الذهبي أن الذين كانوا على الجبل ءانذاك أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن وسعيد بن زيد، رضي الله عنهم أجمعين.

ومن مناقبه أيضًا إنكاره على الذين كانوا يسبون الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ففي "حلية الأولياء" للحافظ أبي نُعيم أن المغيرة بن شعبة كان في المسجد الأكبر وعنده أهل الكوفة عن يمينه وعن يساره، فجاء سعيد بن زيد رضي الله عنه فأجلسه على السرير، ثمجاء رجل من أهل الكوفة فسبَّ، فقال سعيد بن زيد رضي الله عنه: من يسب هذا يا مغيرة؟ قال: يسب علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال سعيد رضي الله عنه: يا مغيرة بن شعبة أعادها ثلاثة ألا أسمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبون عندك فلا تنكر ولا تغير وأنا أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مما سمعت أذناي ووعاه قلبي من رسول الله، فإني لم أكن أروي عنه كذبًا يسألني عنه إذا لقيته، أنه قال: "أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة وسعد في الجنة، وتاسع المؤمنين في الجنة"، قال فرجّ أهل المسجد يناشدونه: يا صاحب رسول الله من التاسع؟ قال: ناشدتموني بالله، والله عظيم، أنا تاسع المؤمنين، ثم أتبع ذلك يمينًا فقال: لمشهدٌ شهِدَهُ رجل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يغبر وجهه مع رسول الله، أفضل من عمل أحدكم ولو عُمّر عمر نوح.


وفاته:

توفي رضي الله عنه بالعقيق، فحُمل إلى المدينة المنورة فدفن بها، وذلك سنة خمسين، وقيل إحدى وخمسين، وكان يومها ابن بضع وسبعين سنة.

وقال الذهبي: مات سعيد بن زيد وكان يذْرَب، فقالت أم سعيد لعبد الله بن عمر: أتحنطه بالمسك فقال: وأيُّ طيب أطيب من المسك، فناولته مسكًا. والذرب هو داء يصيب المعدة فلا تهضم الطعام ولا تمسكه.

وقال ابن الجوزي في "صفة الصفوة": ونزل في حفرته سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر. وصلى عليه المغيرة بن شعبة وهو يومئذ والي الكوفة لمعاوية بن أبي سفيان.

رحم الله سعيد بن زيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.


أبو عبيدة بن الجراح
أمين الأمة


ترجمته:

هو أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر بن مالك بن النضر، القُرشيّ الفهري، يجتمع في النسب هو والنبي في فهر، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة الذين ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث واحد.

وهو الذي عزم أبو بكر الصديق رضي الله عنه على توليه الخلافة وأشار به يوم السقيفة لكمال أهليته عنده.

روى أحاديث عدة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحدّث عنه العرباض بن سارية وجابر بن عبد الله وأبو أمامة الباهلي وسمرة بن جُندب، وأسلم على يده مولى عمر وعبد الرحمن بن غنم وءاخرون. وله في صحيح مسلم حديث واحد.

وهو من السابقين الأولين الذين أسلموا قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، فعن يزيد بن رومان أنه قال: انطلق عثمان بن مظعون وعبيدة بن الحارث وعبد الرحمن بن عوف، وأبو مسلمة بن عبد الأسد وأبو عبيدة بن الجراح حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليهم الإسلام وأنبأهم بشرائعه، فأسلموا في ساعة واحدة.

وشهد بدرًا وأحدًا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر ابن اسحاق أنه كان ممن هاجر الهجرة الأولى إلى الحبشة.

مناقبه وفضائله:

لقد كان أبو عبيدة رضي الله عنه موصوفًا بالصلاح والتقوى والامانة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن لكل أمة أمينًا، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح".

ومن أخبار أمانته أن ابن أبي شيبة روى بالإسناد عن حذيفة بن اليمان أن رجلين من نجران أتيا الرسول صلى الله عليه وسلم فقالا: ابعث معنا أمينًا حق أمين، فقال صلى الله عليه وسلم: "لأبعثنَّ معكم رجلاً أمينًا حق أمين" فاستشرف لها الناس، فقال صلى الله عليه وسلم: "قم يا أبا عبيدة" فأرسله معهم.

ومما امتدح به الرسول صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه ما رواه الحاكم، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه: "ما منكم من أحد إلا لو شئتُ لاخذتُ عليه بعض خُلقه إلا أبا عبيدة".

وممن مدحه سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ففي طبقات ابن سعد ومستدرك الحاكم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما بلغ سرْغ، وهي قرية بوادي ابوك بين الحجاز والشام، أُخبر أن بالشام وباء شديدًا، فقال: إن أدركني أجلي وأبو عبيدة حي، استخلفته، فإن سألني الله عز وجل لم استخلفته على أمة محمد قلت: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن لكل أمة أمينًا، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح".

وفي كتاب "الزهد" لابن المبارك أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قدم الشام تلقاه الأمراء والعظماء، فقال: أين أخي أبو عبيدة؟ فقالوا: يأتيك الآن، فجاء على ناقة مخطومة بحبل، فسلّم عليه ثم قال للناس: انصرفوا عنا، فسار معه حتى أتى منزله، فلم يرَ في بيته إلا سيفه وترسه ورحله، فقال له عمر: لو اتخذت متاعًا، فقال: إن هذا سيُبلّغنا المقيل.

وفي رواية أبي داود في سننه أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له: غيَّرتنا الدنيا كلنا غيرك يا أبا عبيدة.

وروي عن مالك بن أنس أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرسل إلى أبي عبيدة بأربعة ءالاف وأربعمائة دينار وقال للرسول: انظر ما يصنع بها فقسّمها أبو عبيدة بين الناس. ثم أرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمثلها إلى معاذ بن جبل فقسّمها بين الناس، إلا شيئًا قال له امرأته: نحتاج إليه، فلما أخبر الرسول عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: الحمد لله الذي جعل في الإسلام من يصنع هذا.

ومما ورد أيضًا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الثناء عليه، ما رواه الحافظ أبو نُعيم في "الحلية" وهو أن الفاروق رضي الله عنه قال لأصحابه: تمنّوا، فقال رجل: أتمنى لو أن لي هذه الدار مملوءة ذهبًا أنفقه في سبيل الله، وقال ءاخر: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤًا وزبرجدًا وجوهرًا أنفقه في سبيل الله وأتصدق، فقال عمر بت الخطاب رضي الله عنه: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح.

وأبو عبيدة هو الذي نزع بفمه حلقتَيْ المِغفر اللتين دخلتا في وجنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، ففي طبقات ابن سعد بالإسناد عن أبي بكر أنه قال: لما كان يوم أحد ورُمي رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه حتى دخلت في أُجنتيه [وجنتيه] حلقتان من المغفر، فأقبلت أسعى إلى رسول الله وإنسان قد أقبل من قِبَل المشرق يطير طيرانًا، فإذا أبو عبيدة بن الجراح قد بدرني فقال: أسألك بالله يا أبا بكر إلا تركتني فأنزعه من وجنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو بكر: فتركته فأخذ أبو عبيدة بثنيّة إحدى حلقتي المغفر فنزعها وسقط على ظهره وسقطت ثنية أبي عبيدة [أي إحدى مقدم أسنانه]، ثم أخذ الحلقة الأخرى فسقطت، فكان أبو عبيدة في الناس أثْرم [أي مكسور مقدم أسنانه].

وقال ابن الجوزي في "صفة الصفوة": فوقعت ثنيتاه فكان من أحسن الناس هَتْمًا. وفي سير الذهبي: فانقلعت ثنيتاه فحسُن ثغره بذهابهما، حتى قيل: ما رؤي هتْمٌ قط أحسن من هتم أبي عبيدة.

والمِغفر هو زَرَد أو حَلَقٌ من حديد يلبسها الدراع على رأسه ليدَّرع بها عند القتال.


جهاده وغزواته:

وكان أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه ممن غزوا وقادوا الغزوات في الجزيرة وخارجها، ومن هذه الغزوات غزوة ذات السلاسل التي كان أميرها عمرو بن العاص، فاستنجد عمرو برسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث إليه سراة من المهاجرين والأنصار بينهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وأمَّر عليهم أبا عبيدة بن الجراح، فكان النصر للمسلمين وذلك سنة ثمان للهجرة.

وكان أبو عبيدة رضي الله عنه أمير سرية الخبط التي كانت في رجب سنة ثمان للهجرة نحو حي من جهينة قرب البحر، فاصاب الجيش جوع شديد فأكلوا الخبط، وهو نوع من الشجر يسمى ورق السَّمر. ولما وصلوا إلى البحر ألقى إليهم حوتًا عظيمًا يسمى العنبر، فأكلوا منه نصف شهر ثم عادوا إلى المدينة.

وفي سنة ثلاث عشرة للهجرة وجهه أبو بكر رضي الله عنه إلى حمص في جيش وبعث إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه الذي كان في العراق، أن ينجد من في الشام، فقطع برية السماوة حتى وصل إلى دمشق فأمَّره الصديق على الأجناد فحاصروا دمشق، ولما توفي أبو بكر الصديق رضي الله عنه واستُخلف عمر، بادر بعزل خالد بن الوليد وأمَّر أبا عبيدة على أجناد الشام، وكان فتح دمشق على يديه.


وفاته:

كانت وفاته رضي الله عنه سنة ثماني عشرة للهجرة بالطاعون المشهور الذي سمي طاعون عَمَواس، ففي سير الذهبي عن الأسود عن عروة، أن طاعون عمواس كان أبو عبيدة وأهله معافين منه، فقال رضي الله عنه: اللهم نصيبك في ءال أبي عبيدة، فخرجت بأبي عبيدة في خنصره بثرة كان بداية الطاعون به. وقيل إنه كان معه من الجند ستة وثلاثون ألفًا، فلم يبق منهم إلا ستة ءالاف.

وكان له من العمر ءانذاك ثمان وخمسون سنة، وصلى عليه معاذ بن جبل رضي الله عنه ودفن في بيسان، وهي قرية في فلسطين بين الرملة وبيت المقدس.

رحم الله أبو عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.


الإعلام في مناقب بعض الصحابة الأعلام


بلال بن رباح
مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم


ترجمته:

هو أبو عبد الله، وقيل أبو عبد الكريم، وقيل أبو عمرو، بلال بن رباح، مولى أبي بكر الصديق، أمه حمامة وكانت أمة لبعض بني جُمَح.

كان من السابقين الأولين الذين عُذِّبوا في الله، وشهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أو من أذَّنَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان خازنه على بيت ماله، ففي "صفة الصفوة" لابن الجوزي عن أبي عبد الله الهوزني أنه قال: لقيتُ بلالاً فقلت: يا بلال، حدثني كيف كانت نفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما كان له شيء، كنت أنا الذي ألي له ذلك منذ بعثه الله عز وجل حتى توفي، وكان إذا أتاه الرجل المسلم فرءاه عاريًا، يأمرني أنطلق فأستقرض وأشتري البردة فأكسوه أطعمه.

حدَّث عنه عبد الله بن عمر وأبو عثمان النهدي وعبد الرحمن بن أبي ليلى وأسامة بن زيد وأبو إدريس الخولاني وسعيد بن المسيّب وءاخرون غيرهم.


مناقبه:

هو مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلال بن رباح الحبشي أحد السبعة الذين كانوا أول من أظهر إسلامه وهم: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وبلال وصُهيب وعمار بن ياسر وأمه سمية وخبَّاب، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه وحماه عمه أبو طالب، وأما أبو بكر فحماه قومه، وأما الباقون فأُخذوا وأُلبسوا الحديد ووضعوا في الشمس، فكان بلال رضي الله عنه أحدهم، فقد كان أمية بن خلف يُخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، فيقول وهو في ذلك البلاء: أحدٌ أحد.

وجعل أمية في عنقه حبلاً وأعطاه صبيان مكة فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو لا ينفك يقول: أحد أحد.

وفي "صفة الصفوة" لابن الجوزي، عن عروة بن الزبير، عن أبيه أن ورقة بن نوفل كان يمر ببلال، وهو يُعَذَّب فيقول له: أحد أحد يا بلال، ثم أقبل على أمية بن خلف وهو يصنع ذلك ببلال فقال له: والذي نفسي بيده، لئن قتلتموه على هذا لأتخذنَّهُ حنانًا [أي موضع بركة ورحمة فأتمسح به متبركًا].

وذكر الذهبي في "سير أعلام النبلاء" أن أبا بكر رضي الله عنه مر ببلال وهو يُعذَّب، فقيل له: اشترِ أخاك بلالاً، فاشتراه بخمس أواقٍ ذهبًا، وقيل بأربعين أوقية، ثم أعتقه لله، فقالوا لأبي بكر: لو أبيتَ أن تشتريه إلا بأوقية لبعناكه، فقال رضي الله عنه: لو أبيتم إلا مائة أوقية لاشتريته.

وكان عمر بن الخطاب يقول: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا [يعني بلالاً رضي الله عنه].

ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث في الثناء عليه وذكر فضائله، منها ما رواه الذهبي عن أنس رضي الله عنه وأبو نعيم والهيثمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اشتاقت الجنة إلى ثلاثة: علي وعمار وبلال".

وفي مصنف ابن أبي شيبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بلال سابق الحبشة".

وكان بلال رضي الله عنه أول من أذَّنَ يوم الفتح، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة فاتحًا أمر بلالاً رضي الله عنه أن يؤذن على ظهر الكعبة فأذَّن على ظهرها.

وفي "حلية الأولياء" لأبي نعيم، وفي الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نِعْمَ المرءُ بلال سيد المؤذنين يوم القيامة".

ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، عزم بلال رضي الله عنه على المرابطة في بلاد الشام، فجاء إلى الخليفة الراشد أبي بكر الصديق رضي الله عنه يستاذنه في الخروج إلى الشم فلم يأذن له بذلك، فقال له بلال: ءأعتقتني لله أو لنفسك قال: لله، فقال: فأذن لي حتى أغزو في سبيل الله، فأذن له، فخرج إلى الشام ومكث بها إلى وفاته.

وجاء في طبقات ابن سعد أن بني أبي البُكير جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، زوّج أختنا فلانًا، فقال لهم: "أين أنتم عن بلال"؟، ثم جاءوا مرة أخرى فقالوا: يا رسول الله، زوّج أختنا فلانًا، فقال: "أين أنتم عن بلال أين أنتم عن رجل من أهل الجنة؟"، فزوجوها بلالاً رضي الله عنه.


بعض من أخباره:

من ذلك ما رواه الذهبي في سيره في ترجمة بلال، وهي أنه لما كان في الشام رأى في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: ما هذه الجفوة يا بلال، أما ءان لك أن تزورني فنتبه من نومه حزينًا، فركب راحلته وقصد المدينة فأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه، فاقبل الحسن والحسين رضي الله عنهما فجعل يضمهما ويقبلهما، فقالا له: نشتهي أن نسمع أذانك، فعلا السطح ووقف، فلما أن قال: الله أكبر الله أكبر، ارتجت المدينة، فلما قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ازدادت رجتها، فلما قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، خرج العواتق من خدورهن، فما رؤي يوم أشد بكاءً بالمدينة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك اليوم.

فهذه القصة تدل على أن بلالاً رضي الله عنه قد تبرك وتمسح بقبر النبي صلى الله عليه وسلم، وتدل على جواز هذا العمل إذ فعله صحابي جليل بشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة وأثنى عليه الثناء الحسن الكثير.


وفاته:

كانت وفاته رضي الله عنه في بلاد الشام سنة عشرين للهجرة على قول ابن سعد في طبقاته وكثيرين غيره كأبي إسحاق وأبي عمر الضرير، قالوا: توفي سنة عشرين بدمشق، وقال ابن زيد: توفي بداريّا سنة عشرين وحُمل منها إلى دمشق ودفن بباب كيسان، وقيل: إنه دفن بباب الصغير بدمشق.

وذكر الذهبي في سيره أن بلالاً رضي الله عنه لما حضرته الوفاة قال: غدًا نلقى الأحبة، محمدًا وحزبه، فتقول زوجته: واويلاه، فيقول: وافرحاه.

رحم الله مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلال بن رباح.


مُصعب بن عُمَيْر


ترجمته:

هو مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي بن كلاب بن مرة القرشي العبدري أبو عبد الله.


من مناقبه:

كان من فضلاء الصحابة وخيارهم ومن السابقين إلى الإسلام، أعلن إسلامه وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم، وكتم إسلامه خوفًا من أمه وقومه، وكان يختلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سرًا، فبصر به عثمان بن طلحة العبدري يصلي، فأعلم أهله وأمه فأخذوه فحبسوه فلم يزل محبوسًا إلى أن هاجر إلى أرض الحبشة في الهجرة الأولى، وعاد من الحبشة إلى مكة.

وكان مصعب فتى مكة شبابًا وجمالاً، وكان أبواه يحبانه وكانت أمه كثيرة المال تكسوه أحسن ما يكون من الثياب وأرقّه، وكان أعطر أهل مكة يلبس الحضرمي من النعال، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكره ويقول: "ما رأيت بمكة أحدًا لمّة ولا أرق حُلّة ولا أنعم معمة من مصعب بن عمير".

وعن عروة بن الزبير قال: بينا أنا جالس يومًا مع عمر بن عبد العزيز وهو يبني المسجد إذ قال: أقبل مصعب بن عُمير ذات يوم والنبي صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه عليه قطعة نمرة قد وصلها بقطعة جلد، فلما رءاه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نكسوا رؤوسهم رحمة له لما رأوه من حاله بعد أن كان يلبس فاخر الثياب فسلم فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأحسن عليه الثناء وقال: "لقد رأيت هذا، يعني مصعبًا، وما بمكة فتى من قريش أنعم عند أبويه نعيمًا منه، ثم أخرجه من ذلك الرغبة في الخير في حب الله ورسوله".

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير مقبلاً وعليه إهاب [أي جلد] كبش قد تنطق به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "انظروا إلى هذا الرجل الذي قد نوّر الله قلبه، لقد رأيته بين أبويه يغدوانه بأطيب الطعام والشراب، فدعاه حب الله ورسوله إلى ما ترون".


هجرته إلى المدينة المنورة:

لما بايع العقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم رجعوا إلى قومهم فدعوهم إلى الإسلام سرًا وتلوا عليهم القرءان، وكانوا اثني عشر شخصًا، وبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن عفراء ورافع بن مالك أن ابعث إلينا رجلاً من قبلك يفقهنا في الدين ويقرئنا القرءان، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير فقدم إلى المدينة مهاجرًا قبل مقدم رسول الله باثنتي عشرة ليلة، فنزل على سعد بن زرارة، وكان يأتي الانصار في دورهم وقبائلهم فيدعوهم إلى الإسلام ويقرأ عليهم القرءان فيسلم الرجل والرجلان حتى ظهر الإسلام وفشا في دور الأنصار كلها وكسرت أصنامهم وكان المسلمون أعز أهل المدينة.

وكان مصعب يقرئهم القرءان ويعلمهم، فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه أن يُجمّع بينهم، فأذن له وكتب إليه: "انظر من اليوم الذي يجهر فيه اليهود لسبيتهم فإذا زالت الشمس فازدلفت إلى الله فيه بركعتين واخطب فيهم" فجمّع مصعب بن عمير في دار سعد بن خيثمة وهم اثنا عشر رجلاً، وما ذبح لهم يومئذ إلا شاة، فهو أول من جمّع في الإسلام جمعة. أسلم على يديه أسيد بن حُضير وسعد بن معاذ.


وفاته:

يوم معركة أحد حمل مصعب بن عمير اللواء، فلما جال المسلمون ثبت به مصعب فأقبل ابن قُميئة، وهو فارس، فضرب يده اليمنى فقطعها ومصعب يقول: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} [سورة ءال عمران/144]. فأخذ اللواء بيده اليسرى فحنا عليه ابن قميئة فضرب يده اليسرى فقطعها، فحنا على اللواء، وضمه بعضديه إلى صدره وهو يقول: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل}، ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فانفذه واندق الرمح ووقع مصعب وسقط اللواء.

قال عبد الله بن الفضل: قتل مصعب وأخذ اللواء ملك في صورته، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول له في ءاخر النهار: تقدم يا مصعب، فالتفت إليه الملك وقال: لست بمصعب، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم أنه ملكُ أُيّدَ به.

وعن عبيد بن عمير أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على مصعب بن عمير وهو منجعفٌ على وجهه [أي مصروع] يوم أحد شهيدًا، وكان صاحب لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نجبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً} [سورة الأحزاب/23]. ثم قال: "إن رسول الله يشهد عليكم أنكم شهداء عند الله يوم القيامة"، ثم أقبل على الناس فقال: "أيها الناس، ائتوهم فزوروهم وسلموا عليهم فوالذي نفسي بيده لا يُسلّم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه السلام" [رواه ابن سعد في الطبقات].

رحم الله صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب الجود والخير مصعب بن عمير.


معاذ بن جبل
إمام العلماء يوم القيامة


ترجمته:

هو أبو عبد الرحمن معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس بن عائد بن عدي انتهاء بجُشَم بن الخزرجي الأنصاري ثم الجشمي.

قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمًا وهو ابن ثماني عشرة سنة مع السبعين الذين شهدوا بيعة العقبة من الانصار، فكان بذلك من السابقين الأولين إذ أكرمه الله بأسبقية حميدة ويقين قوي كبير فكان بعد ذلك لا يتخلف عن غزوة أو مشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، مجندًا نفسه في سبيل الله يُعمل فكره وعقله في خدمة الدين، حيث كان يحظى بذكاء وصفاء ذهن واستنارة عقل دفعوا به إلى غاية مهمة في العلم والمعرفة حتى كان بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمكان الذي لا يجهل بل يكفيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل" رواه الإمام أحمد.


ذكر صفته رضي الله عنه:

لقد كان سيدنا معاذ لما قدم مكة يوم العقبة شابًا مشرق الوجه رائع النظرة برّاق الثنايا، يبهر الأبصار بسمعته ورويته، وقد رافقته هذه الصفات حتى وافاه الأجل ففي "صفة الصفوة" عن أبي بحرية قال: دخلت مسجد حمص فإذا أنا بفتى حوله الناس جعد قطط فإذا تكلم كأنما يخرج من فيه نورٌ ولؤلؤ، فقلت من هذا قالوا: معاذ بن جبل.


ذكر غزارة علمه:

لقد كان سيدنا معاذ رضي الله عنه على جانب كبير من العلم والدراية والورع، جبلاً من جبال المعرفة وعلمًا من أعلام الشريعة قائمًا بالحق مناضلاً بسيفه ولسانه، اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسله إلى اليمن مع أخيه أبي موسى الأشعري يعلمان الناس، ويكفيك هذا برهانًا على مدى علمه وحكمته وحسن دعوته إضافة إلى ما جاء من الروايات الكثيرة المؤكدة لذلك، فقد روى عنه من الصحابة عمر رضي الله عنه وابنه عبد الله وأبو قتادة وأنس بن مالك وغيرهم كثير، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يجلونه ويعرفون ما له من القدر المحمود والمرتبة الرفيعة والدرجة العلمية المرموقة، وهاك ما جاء في "صفة الصفوة" لابن الجوزي عن أبي مسلم الخولاني قال: "أتيت مسجد دمشق فإذا حلقة فيها كهول من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وإذا شاب منهم أكمل العين براق الثنايا كلما اختلفوا في شيء ردوه إلى الفتى، قال قلت لجليس لي: من هذا قال: معاذ بن جبل".

وعن عبد الله بن سلمة قال: قال رجل لمعاذ بن جبل: علمني قال: وهل أنت مطيعي قال: إني على طاعتك لحريص، قال: صم وأفطر وصلّ ونم واكتسب ولا تأثم ولا تموتن إلا وأنت مسلم، وإياك ودعوة المظلوم.

أي عالم هذا الذي جمع في كلام قليل ما كثر من خصال الخير والفلاح، كيف لا وهو الذي ورد فيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "معاذ إمام العلماء يوم القيامة برتوة أو رتوتين" رواه أبو نعيم في الحلية. والرتوة رمية بسهم، وقد كان سيدنا معاذ من مفاتي الصحابة المعدودين بل كان ممن يفتي في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد ذكر في "أسد الغابة" عن سهل عن أبيه قال: كان الذين يفتون على عهد رسول الله من المهاجرين عمر وعثمان وعلي ومن الأنصار أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت.


ذكر جملة من مناقبه:

عن مالك الدار أن عمر رضي الله عنه أخذ أربعمائة دينار فجعلها في صرة فقال للغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح ثم تله ساعة في البيت حتى تنظر ما يصنع، فذهب الغلام قال: يقول لك أمير المؤمنين اجعل هذه في بعض حاجتك قال: وصله الله ورحمه، ثم قال: تعالي يا جارية، اذهبي بهذه السبعة إلى فلان وبهذه الخمسة إلى فلان وبهذه الخمسة إلى فلان حتى أنفذها فرجع الغلام إلى عمر فاخبره فوجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبل فقال: اذهب بها إلى معاذ بن جبل وتله في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع بها إليه، قال: يقول لك أمير المؤمنين اجهل هذه في بعض حاجتك فقال: رحمه الله ووصله: تعالي يا جارية اذهبي إلى بيت فلان بكذا واذهبي إلى بيت فلان بكذا واذهبي إلى بيت فلان بكذا، فاطلعت امرأته فقالن: ونحن والله مساكين فأعطنا ولن يبق في الخرقة إلا دينار فدحا بهما إليها فرجع الغلام إلى عمر فأخبره بذلك فقال: إنهم أخوة بعضهم من بعض.

هو ممن شهد المشاهد أجمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت ثبات الأبطال الشجعان، يُناصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف والكلمة حتى إذا كان يوم بدر رمى حجرًا بين الصفين وقال: لا أفر هذا الحجر، ومضى يقتحم الصفوف ويصول صولة الأسد الشديد، وها هو يجرح يوم أحد تسع جراحات ويسيل دمه وهو ثابت يرجو نصرًا أو شهادة في سبيل الله. وكان على ذلك من الرماة المذكورين.


وفاته رضي الله عنه:

اتفق أهل التاريخ أن معاذًا رضي الله عنه توفي بطاعون عمواس بناحية الأردن من الشام سنة ثماني عشرة وقبره الآن في ناحية يقال لها الأغوار وهو معروف يُزار.

واختلفوا في عمره على قولين أحدهما ثمان وثلاثون والثاني ثلاث وأربعون سنة. وعن سعيد بن المسيب قال: رفع عيسى ابن مريم وهو ابن ثلاث وثلاثين ومات معاذ وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وكان ذلك في خلافة الفاروق عمر، رضي الله عن سيدنا معاذ وأرضاه.

اللهم انفعنا ببركته وبركات الصالحين واجمعنا به مع رسولك صلى الله عليه وسلم في مقام كريم.

رحم الله معاذ بن جبل صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.


عبد الله بن مسعود
الصحابي الجليل


ترجمته:

هو عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب بن شمخ بن فار بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هُذيل بن مدركة بن إلياس، الهُذلي المكي، صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد أفقه الصحابة رضوان الله عليهم الذين رووا علمًا كثيرًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كان أحد السابقين الأولين الذين أٍلموا قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، إذ أخرج الطبراني والبزار وغيرهما عنه أنه قال: لقد رأيتني سادس ستة ما على وجه الأرض مسلم غيرنا.

روى عنه القراءة أبو عبد الرحمن السُّلمي وعبيد بن فُضيلة وغيرهم، واتفق البخاري ومسلم في الصحيحين على أربعة وستين حديثًا، وانفرد له البخاري بواحد وعشرين حديثًا، ومسلم بخمسة وثلاثين.

وكنيته أبو عبد الرحمن، فقد روي عن علقمة عنه أنه قال: كنّاني النبي صلى الله عليه وسلم أبا عبد الرحمن قبل أن يولد لي.

وكان يعرف أيضًا بأمه فيقال له: ابن أم عبْد.

وكان رضي الله عنه ءادم شديد الأدمة، نحيفًا قصيرًا دقيق الساقين، وكان لطيفًا فطنًا ومعدودًا في أذكياء العلماء.


من مناقبه:

هو الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود الذي كان أحد أعلم الصحابة الكرام، فقد ألهمه الله حب العلم وطلبه منذ نعومة أظفاره، فقد روى الإمام ابن الجوزي في "صفة الصفوة" عنه أنه قال: كنتُ غلامًا يافعًا أرعى غنمًا، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر فقالا: يا غلام هل عندك لبن تسقينا فقلت: إني مؤتمن على الغنم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل عندك من جذعة لم يَنْزُ عليها الفحل قلت: نعم، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرعها ودعا فامتلأ الضرع، فاحتلب، فشرب أبو بكر وشربت، ثم قال للضرع: اقلص، فقلص. ثم قلت له: علّمني من هذا القول، فقال: إنك غلام مُعّلَّم، فأخذت من فمه سبعين سورة لا ينازعني فيها أحد.

وكان أول شيء علمه عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكره الذهبي في سيره وغيره، عن لسان ابن مسعود أنه قال: قدمت مكة مع أناس من قومي نبتاع منها، فأرشدونا إلى العباس بن عبد المطلب فإذا هو جالس عند زمزم، فبينا نحن كذلك إذ أقبل رجل من باب الصفا عليه ثوبان أبيضان، كأنه القمر ليلة البدر، يمشي على يمينه غلام حسن الوجه، تقفوهم امراة قد سترت محاسنها، حتى قصد الحجر فاستلم واستلم الغلام واستلمت المرأة، ثم طافوا البيت سبعًا، ثم استقبل الركن فرفع يده، وكبَّر وقام ثم ركع ثم سجد ثم قام، فأقبلنا على العباس نسأله فقال: هذا ابن أخي محمد بن عبد الله، والغلام علي بن أبي طالب، والمرأة خديجة بنت خويلد امرأته. أما والله ما على وجه الأرض أحد نعلمه يعبد الله بهذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة.

كان ابن مسعود رضي الله عنه أحد أفقه الصحابة وأعلمهم بالقرءان، فقد تكلم الصحابة الأجلاء ومن جاء بعدهم فذكروا سعة علمه، ففي "صفة الصفوة" عن زيد بن وهب أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أقبل ذات يوم وعمر بن الخطاب رضي الله عنه جالس فقال: كنيف مُلئ علمًا.

وسئل الإمام علي رضي الله عنه عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: عن أيهم تسألون قالوا: أخبرنا عن عبد الله بن مسعود، فقال: عُلّمَ القرءان والسنة ثم انتهى.

وروى الذهبي في "سير أعلام النبلاء" أن أبا موسى الأشعري قال: لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الحبر فيكم، يعني بذلك ابن مسعود رضي الله عنه.

وعن مسروق أنه قال: قال ابن مسعود: والذي لا إله غيره ما نزلت ءاية من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت وأعلم فيما نزلت، ولو أعلم أن أحدًا أعلم بكتاب الله مني تناله المطيُّ لأتيته.

وعن مسروق أيضًا أنه قال: شاممتُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدت علمهم انتهى إلى ستة نفر منهم: عمر وعلي وعبد الله وأبيّ بن كعب وأبو الدرداء وزيد بن ثابت، ثم شاممت هؤلاء الستة فوجدت علمهم انتهى إلى رجلين: علي وعبد الله بن مسعود.

وقال علقمة: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو بعرفة فقال: جئت إلى أمير المؤمنين من الكوفة وتركت بها رجلاً يملي المصاحف عن ظهر قلبه، فغضب وانتفخ حتى كاد يملأ ما بين شعبتي الرحل، فقال: من هو ويحك فقال الرجل: عبد الله بن مسعود، فما زال عمر يطفأ ويسير عنه الغضب حتى عاد إلى حاله التي كان عليها ثم قال: ويحك، والله ما أعلم بقي من الناس أحد هو أحق بذلك منه، وسأحدثك عن ذلك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمر عند أبي بكر الليلة كذلك في الأمر من أمر المسلمين، وإنه سمرَ عنده ذات ليلة وأنا معه، فخرج رسول الله وخرجنا معه فإذا رجل قائم يصلي في المسجد، فقام رسول الله يسمع قراءته ثم قال: "من سرَّهُ أن يقرأ القرءان رطبًا كما أُنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد" ثم جلس عبد الله يدعو، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: "سلْ تُعطَ".

وفي سير الذهبي عن أبي الأحوص أنه قال: أتيت أبا موسى الأشعري وعنده ابن مسعود وأبو مسعود الأنصاري وهم ينظرون إلى مصحف، ثم خرج ابن مسعود فقال أبو مسعود: والله ما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم ترك أحدًا أعلم بكتاب الله من هذا القائم، يعني بذلك عبد الله بن مسعود.


ثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه:

مما مدح به الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود ما رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمره أن يصعد ويجتني سواكًا من الأراك وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفؤه وتمليه، فضحك القوم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما يضحككم" قالوا: من دقة ساقيه، فقال النبي: "والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من أُحُد".

في سير الذهبي عن زهير بن معاوية عن منصور عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو كنت مؤمرًا أحدًا عن غير مشورة لأمَّرتُ عليهم ابن أم عبد". يعني ابن مسعود.

كما أخرج الحاكم والذهبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قد رضيتُ لكم ما رضي لكم ابن أم عبد".


بعض كلامه ومواعظه:

لقد كان ابن مسعود رضي الله عنه كثير الحلم والمواعظ شديد التأثير في سامعيه، فمن شهير مواعظه قوله: إنكم في ممر في الليل والنهار في ءاجال منقوصة وأعمال محفوطة، والموت يأتي بغتة، فمن زرع خيرًا فيوشك أن يحصد رغبة، ومن زرع شرًا فيوشك أن يحصد ندامة، ولكل زارع مثل ما زرع. لا يسبق بطئ بخظه، ولا يُدرك حريصٌ ما لم يُقَدَّرْ له، فإن أُعطيَ خيرًا فالله اعطاه، ومن وُقيَ شرًا فالله وقاه. المتقون سادة والفقهاء قادة، ومجالسهم زيادة.

ومن حكمه: ما قلَّ وكفى خير مما كثر وألهى، ونفسٌ تُنجيها خير من إمارة لا تحصيها، وشر المعذرة حين يحضر الموت، وشر الندامة ندامة يوم القيامة، وشر الضلالة الضلالة بعد الهدى، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى.

ومن بليغ كلامه ما رواه الطبراني أنه ارتقى الصفا يومًا وأخذ لسانه وخاطبه قائلاً: يا لسان، قُلْ خيرًا تغنم، واسكت عن شر تسلم، من قبل أن تندم، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أكثر خطايا ابن ءادم من لسانه".

ومن مواعظه ما رواه ابنه عبد الرحمن، وهو أنه أتاه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن علّمني كلمات جوامع نوافع، فقال له: لا تشرك بالله شيئًا، وزُلْ مع القرءان حيث زال، ومن جاءك بالحق فاقبل منه وإن كان بعيدًا بغيضًا، ومن جاءك بالباطل فاردده عليه وإن كان حبيبًا قريبًا.

وعن أبي الأحوص أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: مع كل فرحة ترحة، وما مُلئَ بيت حبرة [سعة عيش] إلا مُلئَ عِبرة.

ومن حكمه في بيان حال الدنيا وساكنيها: ما منكم إلا ضيف وماله عارية، فالضيف مرتحل، والعارية مؤداة إلى أهلها.

وفي "صفة الصفوة" لابن الجوزي عن سليمان بن مهران قال: بينما ابن مسعود يومًا معه نفر من أصحابه، إذ مر أعرابي فقال: علام اجتمع هؤلاء؟ فقال ابن مسعود: على ميراث محمد صلى الله عليه وسلم يقتسمونه. يعني بذلك علم الدين، وذلك مصداقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "العلماء ورثة الأنبياء". أي أنهم ورثوا عنهم العلم يتعلمونه ويعلمونه الناس.


وفاته:

ذكر الذهبي عن عُبيد الله بن عبد الله بن مسعود أنه توفي سنة اثنتين وثلاثين للهجرة وكذا قال ابن الجوزي، وعن ابن أبي عُتبة وابن بكير أنه مات سنة ثلاث وثلاثين، وقال الذهبي: قلتُ لعله مات في أولها.

وكانت وفاته في المدينة المنورة ودفن في البقيع.

وفي سير الذهبي أن الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه زاره في مرض وفاته فقال له: ما تشتكي قال: ذنوبي، فقال: فما تشتهي قال: رحمة ربي.

رحم الله الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.


أبيّ بن كعب
سيد القراء


ترجمته:

هو أبو المنذر ويكنى أبا الطفيل أبيّ بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار، الأنصاري النجاري سيد القراء.

كان ممن شهدوا العقبة التي حضرها سبعون من الأنصار، وشهد بدرًا كذلك وجميع المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الإمام ابن الجوزي في "صفة الصفوة" مترجمًا له: "وهو أحد الذين حفظوا القرءان كله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد الذين كانوا يُفتون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي "حلية الأولياء" أن مسروقًا سأل أبيًّا عن شيء، فقال له أبيّ: أكان بعد أي هل حدث ذلك، فقال مسروق: لا، فقال أُبيّ: فاحمنا حتى يكون، فإذا كان اجتهدنا لك رأينا.

وجاء في وصفه أنه كان دحداحًا، أي ربعة ليس بالطويل ولا بالقصير.

حدَّث عنه بنوه: محمد والطفيل وعبد الله، وأنس بن مالك وابن عباس، وسويد بن غفلة، وزِرُّ بن حُبيش، وأبو العالية الرياحي، وأبو عثمان النهدي، وسليمان بن صُرد، وسهل بن سعد، وأبو إدريس الخولاني، وعبد الله بن الحارث بن نوفل، وكثيرون غيرهم.


من مناقبه:

كان أبيّ بن كعب الأنصاري رضي الله عنه أحد القراء الذين سهل الله لهم تعلم قراءة القرءان وأحكامه من النبي صلى الله عليه وسلم الذي علّمه من أحكام القراءة وعلوم القرءان ما لم يعلمه أحدًا من الصحابة الكرام، ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه ابن سعد في طبقاته وهو: "أقرأُ أمتي أبيّ بن كعب".

وكان أبيّ رضي الله عنه يكتب في الجاهلية حيث كانت الكتابة قليلة في العرب، فلما أسلم جعل يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكان واحدًا من الأربعة الذين قال عنهم أنس بن مالك: جمع القرءان [أي حفظًا وعلمًا] على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة كلهم من الأنصار: أبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد أحد عمومتي.

وقد أمر الله تبارك وتعالى النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقرأ القرءان كله على أبيّ رضي الله عنه، ففي "حلية الأولياء" بالإسناد عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأبيّ رضي الله عنه: "إن الله عز وجل أمرني أن أقرأ عليك القرءان"، فقال أبيّ: الله سمّاني لك [أي هل ذُكرت باسمي] قال صلى الله عليه وسلم: "نعم، سمّاك لي"، فجعل أبيّ يبكي.

وفي "سير أعلام النبلاء" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا أبا المنذر، إني أُمرت أن أعرض عليك القرءان"، فقال أبيّ: بالله ءامنت وعلى يدك أسلمت، ومنك تعلمت، فردّ النبي صلى الله عليه وسلم القول، فقال أبيّ: يا رسول الله، وذُكرت هناك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "نعم، باسمك ونسبك في الملإ الأعلى"، فقال أبيّ: اقرأ إذًا يا رسول الله.

وكان له من سعة العلم ما شهد له به الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال: من أراد أن يسأل عن القرءان فليأتِ أبيّ بن كعب، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأتِ زيدًا، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأتِ معاذًا، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني، فإن الله جعلني خازنًا وقاسمًا.

وفي "حلية الأولياء" عن أُبيّ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "أبا المنذر، أي ءاية من كتاب الله عز وجل معك أعظم"، فقال رضي الله عنه: الله ورسوله أعلم، قال عليه الصلاة والسلام: "أبا المنذر، أي ءاية من كتاب الله معك أعظم" فقال أبيّ: [لا إله إلا هو الحي القيوم]، قال أبيّ: فضرب صدري وقال: "ليهنك العلم أبا المنذر".

وسأل أبيّ رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جزاء الحمى قال عليه الصلاة والسلام: "تُجرى الحسنات على صاحبها ما اختلج عليه قَدم أو ضرب عليه عِرق"، فقال أبيّ: اللهم إني أسألك حُمى لا تمنعني خروجًا في سبيلك، ولا خروجًا إلى بيتك، ولا مسجد نبيك، فلم يُمس أُبيّ قط إلا وبه حمى.

وذكر عنه ابن سعد في طبقاته بالإسناد عن أبي المهلب عن أبيّ بن كعب أنه كان يختم القرءان في ثماني ليالٍ، وكان تميم الداري يختمه في سبع.

روى أبو نعيم في "الحلية" والذهبي في سيره أن رجلاً استوصى أبيّ بن كعب، فقال له: اتخذ كتاب الله إمامًا، وارض به قاضيًا وحَكمًا، فإنه الذي استخلف فيكم رسولكم، شفيع مُطاع، وشاهد لا يُتهم، فيه ذكركم وذكر من قبلكم، وحَكَم ما بينكم، وخبركم وخبر من بعدكم.

وفي الحلية أيضًا بالإسناد عن أبي العالية عن أبيّ رضي الله عنه أنه قال: عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ليس من عبد على سبيلٍ وسنةٍ، ذكر الرحمن عز وجل ففاضت عيناه من خشية الله عز وجل، فتمسه النار، وليس من عبد على سبيل وسُنة ذكر الرحمن فاقشعر جلده من مخافة الله عز وجل، إلا كان مَثله كمثل شجرة يبس ورقها، فبينا هي كذلك إذ أصابتها الريح فتحاتت عنها ورقها، إلا تحاتَّت عنه ذنوبه كما تحات عن هذه الشجرة ورقها، وإن اقتصادًا في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل الله وسنته، فانظروا أعمالكم، فإن كانت اجتهادًا أو اقتصادًا أن تكون على منهاج الأنبياء وسنتهم.

وعن مسلم بن شداد عبيد بن عمير، عن أُبيّ بن كعب أنه قال: ما من عبد ترك شيئًا لله عز وجل إلا أبدله الله به ما هو خير منه من حيث لا يحتسب، وما تهاون به عبد فأخذه من حيث لا يصلح، إلا أتاه الله ما هو أشد عليه منه، من حيث لا يحتسب.

ومن أقواله أيضًا: المؤمن بين أربع، إن ابتُلي صبر، وإن أعطي شكر، وإن قال صدق، وإن حكم عدل.


وفاته:

ورد عدة أقوال في وفاته رضي الله عنه، فمنهم من قال إنه توفي سنة تسع عشرة للهجرة، ومنهم من قال: سنة اثنتين وعشرين في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومنهم من قال: توفي في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، على قولين: الأول أن وفاته كانت سنة ثلاثين، والثاني أنها كانت سنة اثنتين وثلاثين.

رحم الله سيد القراء أبيّ بن كعب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.


حمزة بن عبد المطلب
أسد الله وسيد الشهداء



ترجمته:

هو حمزة بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، عم رسول الله صلى الله عليه وسلم المكنى بأبي عمارة وقيل أبو يعلى، وأمه هالة بنت أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة. وهو شقيق صفية بنت عبد المطلب عمة الرسول صلى الله عليه وسلم وأم الزبير لأمها وأبيها، وكان أسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين وقيل بأربع سنين والأول أصح، وهو أخو الرسول صلى الله عليه وسلم من الرضاعة.


قصة إسلامه:

روى ابن الجوزي في كتابه "صفة الصفوة" عن محمد بن كعب القرظي قال: قال أبو جهل في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكره فبلغ ذلك حمزة فدخل المسجد مغضبًا فضرب رأس أبي جهل بالقوس ضربة أوضحته ثم بعد ذلك أعلن إسلامه فعز به رسول الله والمسلمون، وذلك في السنة السادسة من البعثة.

وفي "أسد الغابة" لابن الاثير الجزري ما نصه: عن محمد بن إسحاق قال إن أبا جهل اعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم فآذاه وشتمه وقال فيه ما يكره، فلم يكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومولاة لعبد الله بن جدعان التيمي في مسكن لها فوق الصفا تسمع ذلك ثم انصرف عنه فعمد إلى ناد لقريش عند الكعبة فجلس معهم ولم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن أقبل راجعًا من قنص له وكان صاحب قنص يرميه ويخرج له، وكان إذا رجع من قنصه لم يرجع إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم وكان أعز قريش وأشدها شكيمة. ثم إن مولاة ابن جدعان كلمته بما جرى، قال ابن الأثير: فاحتمل حمزة الغضب لِما أراد الله تعالى من كرامته فخرج سريعًا لا يقف على أحد كما كان يصنع يريد الطواف بالبيت معدًا لأبي جهل أن يقع به، فلما دخل المسجد نظر إليه جالسًا في القوم فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها ضربة شجته شجة منكرة، وقامت رجال من ثريش من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل فقالوا: ما نراك يا حمزة إلا قد صبأت [أي أسلمت]، قال حمزة: أنا أشهد أنه رسول الله، فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة فإني والله لقد سببت ابن أخيه سبًا قبيحًا.

مع هذه الحادثة أعلنها حمزة غير هياب ولا متردد "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله".

وعز المسلمون بحمزة عزًا عظيمًا لما كان له من السطوة والمكانة وعظيم الجرأة والبأس.

ثم إن حمزة هاجر إلى المدينة وشهد بدرًا وأبلى فيها بلاءً عظيمًا مشهودًا.

وقد قال فيه الرسول الصادق عليه الصلاة والسلام: "رحمة الله عليم فإنك كنت ما علمت فعولاً للخيرات وَصولاً للرحم".


جهاده في سبيل الله:

في "صفة الصفوة" لابن الجوزي عن سيدنا علي رضي الله عنه قال: "لما كان يوم بدر ودنا القوم منا إذا رجل منهم على جمل له أحمر، يسير في القوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا علي نادِ لي حمزة" وكان أقربهم من المشركين من صاحب الجمل الأحمر، فجاء حمزة وسئل عن صاحب الجمل الأحمر، فقال: هو عتبة بن ربيعة وهو ينهى عن القتال، فبرز عتبة وشيبة والوليد فقالوا: من يبارز، فخرج فتية من الأنصار فقال عتبة: لا نريد هؤلاء ولكن من يبارزنا من ولد عمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قم يا علي قم يا حمزة قم يا عبيدة بن الحارث".

ثم إن حمزة بارز شيبة فقتله، وبارز علي الوليد فقتله، وبارز عبيدة عنبة فأثبت كلٌّ صاحبه وكر علي وحمزة على عتبة بأسيافهما فأجهزوا عليه.

وجيء بعبيدة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام لكنه ما لبث أن توفي شهيدًا سعيدًا رضي الله عنه.

وقد ذكر أن حمزة رضي الله عنه كان عليه في الحرب ريشة نعامة وقاتل يوم بدر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسيفين، وقال بعض أسارى الكار: "من الرجل المعلم بريشة نعامة" قالوا: حمزة رضي الله عنه، قالوا: "ذاك فعل بنا الأفاعيل".

هذا وليعلم أن حمزة رضي الله عنه هو صاحب أول لواء عقده الرسول عليه الصلاة والسلام، ففي "أسد الغابة" عن أبي الحسن المدائني قال: أول لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم لحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه بعثه في سرية إلى سيف البحر من أرض مهينة.


وفاته رضي الله عنه:

لقد أكرم الله سيدنا حمزة بأن توفاه شهيدًا حميدًا قد تزود بصالح العمل مع حسن السيرة وسلامة السريرة، ففي السنة الثالثة من الهجرة يوم الجمعة، وقيل يوم السبت بينما كان القتال يدور في أحد وقد حمى الوطيس واحمرت الحدق وثبتت الأبطال كالليوث تناضل وتناصر رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث ولى كثير من القوم وتزلزلت الأقدام تحت وطأة السيف، فالألسن صامتة والأسنة تحكي قصص الالتحام، والسيوف تخطب على منابر الرقاب وحمزة يصول ويجول ويقاتل قتال الأبطال وكان يقاتل بسيفين، فقال قائل: أي أسدٍ هو حمزة، وبينما هو كذلك إذا عثر عثرة فوقع على قفاه وانكشف الدرع وإذا بوحشي الحبشي يرميه بالحربة فيمضي حمزة شهيدًا سعيدًا.

وفي سبب قتل وحشي لحمزة أن وحشيًا كان عبدًا مملوكًا عند "جبير بن مطعم" فقال له جبير: إن قتلت حمزة فأنت حر، وكان حمزة قد قتل "طعيمة بن عدي" عم جبير يوم بدر، روى الإمام ابن الجوزي في "صفة الصفوة" يروي عن وحشي بعدما كان قد أسلم قال: وكمنت لحمزة تحت صخرة حتى مرَّ عليّ فلما دنا مني رميته بحربتي فأضعها في ثُنته حتى دخلت بين وركيه/ وكان ذلك ءاخر العهد به.

قال وحشي: فلما رجع الناس رجعت معهم فأقمت بمكة حتى فشا فيها الإسلام.

وقد مثل به كفار قريش ومُثّل بجميع القتلى يومئذ، إلا حنظلة بن أبي عامر فإن أباه كان مع قريش يومها فتركوه. وجعل النساء يمثلن بالقتلى فيجدعن الأنوف ويقطعن الآذان ويبقرن البطون، وبقرت "هند بنت عتبة" بطن حمزة فأخرجت كبده فلاكتها ولم تسغها فلفظتها.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد مُثّل به "أي بحمزة" فلم يرّ منظرًا كان أوجع لقلبه منه فقال: "رحمك الله أي عم فلقد كنت وَصولاً للرحم فَعولاً للخيرات".

وعن جابر قال: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة قتيلاً بكى فلما رأى أي ما مُثّل به شهق.

هذا وقد ذكر أنه قد كشف مرة عن عدة قبور لشهداء أحد بينها قبر حمزة فكان كما هو.

وعن جابر قال: لما أراد معاوية أن يجري عينًا التي "بأحد" كتبوا إليه: إنّا لا نستطيع أن نجريها إلا على قبور الشهداء، فكتب معاوية: انبشوهم قال: فرأيتهم يحملون على أعناق الرجال كأنهم نيام، وأصابت المسحاة رجل حمزة فانبعثت دمًا.

وأعقب مقتل حمزة رضي الله عنه الحزن العظيم من كافة المسلمين، فبكى عليه الناس وحزن عليه الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام وكانت وفاته مصيبة كبيرة وفاجعة فجع بها الناس يومئذ.

رحم الله سيدنا حمزة سيد الشهداء وجمعنا به مع الصحابة الأبرار


العباس بن عبد المطلب
عم الرسول صلى الله عليه وسلم


ترجمته:

هو أبو الفضل العباس بن عبد المطلب بن هاشم، أحد أعمام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أسلموا، وكان أكثر الناس نصرة ومؤازرة له صلى الله عليه وسلم.

والعباس رضي الله عنه ولد قبل عام الفيل بثلاث سنين، وهو بذلك يكون أسن من الرسول صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين.

وأمه نُثيلة بنت جناب بن كُليب بن مالك، ذكر الصفدي في "الوافي بالوفيات" أنها كانت أول امرأة عربية كست البيت الحرام الحرير والديباج وأصناف الكسوة، وذلك أن العباس رضي الله عنه كان قد ضاع وهو صبي، فنذرت أمه أن تكسو البيت إن وجدته، فلما وجدته وفت بنذرها.

وكان العباس رضي الله عنه رئيسًا في الجاهلية وفي قريش، وأُسندت إليه عمارة البيت والسقاية في الجاهلية. والعمارة هي أن لا يدع أحدًا يسبُّ أحدًا في الحَرَم، فقد اجتمعت قريش وتعاقدت على ذلك وسلمت له ذلك وكانت له أعوانًا فيه.

كان رضي الله عنه معتدل الخلق ومن أحسن الرجال وأبهاهم صورة، واجهرهم صوتًا، وهو الذي أمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يهتف يوم حُنين: يا اصحاب الشجرة، وذلك حين حمي الوطيس واشتدت المعركة.

وعن الأصمعي أنه قال: كان للعباس راعٍ يرعى له على مسيرة ثلاثة أميال، فإذا أراد منه شيئًا صاح به فأسمعه حاجته.

وكان رضي الله عنه ذا سؤدد ورأي وحكمة، فقد قيل له: ءأنت أكبر أو النبي فقال: هو أكبر وأنا ولدت قبله.

وكان يمنع الجار ويبذل المعروف ويعطي في النوائب، وأعتق يوم موته سبعين مملوكًا كانوا له.

من مناقبه:

ويذكر أصحاب السير كالذهبي وابن سعد وابن الجوزي أنه أسلم قبل الهجرة وكان يكتم إسلامه خوفًا من إيذاء كفار قريش، ويوم بدر خرج مع المشركين مستكرهًا، ففي سير الذهبي عن عمارة بن عمار بن أبي اليسر السلمي عن أبيه عن جده أنه قال: نظرتُ إلى العباس يوم بدر وهو واقف كأنه صنم وعيناه تذرفان، فقلت له: أتقاتل ابن أخيك مع عدوه فقال: ما فعل، أٌقُتِلً قلت: الله أعز له وأنصر من ذلك، فقال: ما تريد إليَّ قلت: الأسر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتلك، فقال: ليست بأول صلته وبره، فأسرته، ثم جئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وطلب النبي صلى الله عليه وسلم من العباس أن يفدي نفسه وابن أخيه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث وعُتبة بن عمرو بن جحدم، فقال العباس: يا رسول الله إني كنتُ مسلمًا ولكن القوم استكرهوني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الله أعلم بإسلامك، إن يكُ ما تذكر حقًا فالله يجزيك به، فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا، فافدِ نفسك" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ منه عشرين أوقية من ذهب، فقال العباس رضي الله عنه: يا رسول الله احسبها لي من فدايَ، فقال: "لا، ذاك شيء أعطاناه الله منك"، فقال العباس: فإنه ليس لي مال، فقال الرسول: "فأين المال الذي وضعتَ بمكة حين خرجت عند أم الفضل بنت الحارث ليس معكم أحد، ثم قلت لها إن أصبتُ في سفري هذا فللفضل كذا ولعبد الله كذا"، قال العباس: والذي بعثك بالحق ما علم بهذا أحد غيري وغيرها، وإني لأعلم أنك رسول الله.

وقال العباس رضي الله عنه: وأنزلت الآية: {يا أيُّها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرًا يؤتكم خيرًا مما أُخذ منكم ويغفر لكم} [سورة الأنفال/ءاية:70]، فأعطاني الله مكان العشرين أوقية في الإسلام عشرين عبدًا كلهم في يده مال يضرب به، مع ما أرجو من مغفرة الله تعالى.

وكان العباس رضي الله عنه واحدًا من الذين حضروا بيعة العقبة التي حضرها سبعون رجلاً من الأوس والخزرج، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد سبقهم إلى أسفل العقبة تحت الشجرة مع عمه العباس رضي الله عنه، فبايعهم النبي صلى الله عليه وسلم والعباس ءاخذ بيده يؤكذ له البيعة.[/COLOR]


منزلته عند النبي صلى الله عليه وسلم:

إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب عمه العباس حبًا شديدًا، ويُجله ويحترمه ويبر قسمه ويسمع رأيه ويفرح لفرحه ويحزن لضر يصيبه، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بات ساهرًا أول الليل وأسرى بدر في الوثاق وفيهم العباس رضي الله عنه، فقيل: يا رسول الله مالك لا تنام؟ قال: "سمعت أنين عمي في وثاقه" فقام رجل فأرخى وثاق العباس، فقال رسول الله: "مالي لا أسمع أنين العباس" فقال رجل من القوم: إني أرخيت من وثاقه شيئًَا، قال: "فافعل ذلك بالأسرى كلهم".

ووردت أحاديث عدة عن النبي صلى الله عليه وسلم في مدح عمه العباس رضي الله عنه والدعاء له ولأولاده، فقد سب رجل من الأنصار أبًا للعباس كان في الجاهلية، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصعد المنبر وقال: "أيها الناس، أي أهل الأرض أكرم على الله" قالوا: أنت، فقال: "فإن العباس مني وأنا منه، ولا تسبوا أمواتنا فتؤذوا أحياءنا"، وفي جامع الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما بال رجال يؤذونني في العباس، وإن عم الرجل صنوا أبيه [أي مثلُ أبيه]، من ءاذى العباس فقد ءاذاني".

وعن سعيد بن المسيب عن سعد قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في نقيع الخيل، فأقبل العباس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا العباس عم نبيكم، أجود قريش كفًّا، وأوصلها".

وروى الذهبي عن الزبير بن بكار بالإسناد عم عبد الله بن عمر أنه قال: استسقى عمر رضي الله عنه عام الرمادة بالعباس فقال: اللهم، هذا عم نبيك نتوجه إليك به، فاسقنا، فما برحوا حتى سقاهم الله، فخطب عمر الناس فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى للعباس ما يرى الولد لوالده، فيعظمه ويفخمه ويبر قسمه، فاقتدوا أيها الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم في عمه العباس، واتخذوه وسيلة إلى الله فيما نزل بكم.

وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُجل أحدًا ما يُجل العباس أو يُكرم العباس.

وكان الصحابة يجلون العباس رضي الله عنه ويحترمونه، ففي "الأدب المفرد" للبخاري أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يقبل يد عمه العباس ويقول له: يا عم، ارضَ عني.

ولحسن بن ثابت رضي الله عنه أبيات مدح فيها العباس رضي الله عنه بعد أن استسقى عام الرمادة فسُقي الناس:

سأل الإمام وقد تتابع جَدْبنا *** سُقي الأنام بغرة العباسِ
عم النبي وصِنو والده الذي *** ورث النبي بذاك دون الناسِ
أحيا الإله به البلاد فأصبحت *** مخضرَّة الاجناب بعد الياسِ


مدحه النبي صلى الله عليه وسلم:

أورد الصفدي في "الوافي بالوفيات" والذهبي في سيره أبياتًا قالها العباس رضي الله عنه، مادحًا فيها النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الرواية أن العباس قال للنبي صلى الله عليه وسلم بعد منصرفه من تبوك: يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك، فقال النبي: "قل، لا يفضض الله فاك"، فقال:

من قبلها طبتَ في الظلال وفي *** مستودع حيثُ يُخصَفُ الورقُ
ثم هبطتَ البلاد لا بَشَر *** أنتَ ولا مضغة ولا عَلَقُ
بل نطفة تركب السفينَ وقد *** ألجَمَ نسرًا وأهله الغرقُ
تُنقلُ من صالب إلى رحمٍ *** إذا مضى عالم بدا طَبَقُ
حتى احتوت بيتُكَ المهيمن من *** خِندفَ علياءَ تحتها النُّطقُ
وأنت لما ولدتَ أشرقت الـ *** أرضُ وضاءت بنورك الأفقُ
فنحن في ذلك الضياء وفي الـ *** ـنور وسُبُل الرشاد نخترق

وهذه الأبيات ذكرها أيضًا الذهبي في سيره، وابن الأثير في "النهاية" وغيرهما، وتناولها الكثير من أصحاب السير والأدباء والشعراء يشرح مفرداتها ومعاني أبياتها.

ومعنى قول العباس:

من قبلها طبتَ في الظلال وفي *** مستودع حيثُ يُخصَفُ الورقُ

أنك يا رسول الله قد كنت طيبًا قبلها، أي قبل أن تكون في الأرض، جين كنت في صُلب ءادم عليه السلام حيث خصف هو وحواء عليهما من ورق الجنة.

ثم هبطتَ البلاد لا بَشَر *** أنتَ ولا مضغة ولا عَلَقُ

أي أن ءادم عليه السلام لما هبط إلى الأرض كنتَ في صلبه ولم تكن حينها بشرًا ولا مضغة في رحم امرأة ولا علقة.

بل نطفة تركب السفينَ وقد *** ألجَمَ نسرًا وأهله الغرقُ

نسر: هو أحد الأصنام الخمسة التي كان يعبدها قوم نوح عليه السلام. والمعنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نطفة في ظهر سيدنا نوح عليه السلام حين ركب السفينة وغرق نَسر والكفار الذين كانوا يعبدونه.

تُنقلُ من صالب إلى رحمٍ *** إذا مضى عالم بدا طَبَقُ

الصالب: هو الصلب، والطبق: القرن. والمعنى أنك يا رسول الله كنت تتنقل من صلب ردل إلى رحم امرأة، والقرون تمضي وتتبعها قرون.

حتى احتوت بيتُكَ المهيمن من *** خِندفَ علياءَ تحتها النُّطقُ

بيتك: شرفك، والنطق: أعراض من الجبال بعضها فوق بعض. ومعنى البيت: أنك نلت من الشرف أوسطه وأعلاه بانتسابك إلى خِندِف. وخندف هي ليلى القضاعية زوجة إلياس بن مضر، وكانت العرب إذا أرادت أن تبين علو شرفها ونسبها تنتسب إليها، فكانت مثلاً عن الشرف والنسب العالي.


وفاة العباس:

كانت وفاته رضي الله عنه بالمدينة المنورة سنة اثنتين وثلاثين للهجرة، فبعث بنو هاشم من يبلغ أهل المدينة خبر الوفاة، فاحتشد الناس عند بيته ولم يقدر أحد أن يدنو من سريره لكثرة ازدحام الناس، ثم ازدحم الناس عند قبره فلم يستطع بنو هاشم أن يدنوا من قبره، فبعث عثمان بن عفان رضي الله عنه الشرطة يفسحون الطريق لبني هاشم حتى وصلوا إلى قبره.

وغسله علي رضي الله عنه وأولاده: عبد الله وقُثم وعبيد الله، وصلى عليه عثمان بن عفان رضي الله عنه ودفن في البقيع، عليه سلام الله ورحمته وبركاته.


سلمان الفارسي
سابق الفرس



ترجمته:

هو سلمان الفارسي أبو عبد الله يعرف بسلمان الخير مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصله من فارس وقيل اسمه قبل الإسلام مابه بن بوذخشان بن مورسلان بن بهبوذان بن فيروز بن سهرك من ولد آب الملك "ذكره في أسد الغابة" سابق الفرس، الكادح الذي لا يبرح، والزاخر الذي لا ينزح، الحكيم، والعابد العالم، أبو عبد الله سلمان، رافع الألوية والأعلام، أحد الرفقاء والنجباء، ومن إليه تشتاق الجنة من الغرباء، ثبت على القلة والشدائد. يكنى أبا عبد الله، من أصبهان من قرية يقال لها جيّ وقيل رامهرمز.


قصته:

عن عبد الله بن العباس قال: حدثني سلمان الفارسي قال: كنت رجلاً فارسيًا من أهل أصبهان، من أهل قرية يقال لها جيّ، وكان أبي دهقان قريته [أي زعيم فلاحي العجم]. وكنت أحب الخلق إليه. فلم يزل به حب إياي حتى حبسني في بيته كما تًحبس الجارية، واجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار الذي يوقدها لا يتركها تخبو ساعة.

قال: وكانت لأبي ضيعة عظيمة. قال: فشغل في بنيان له يومًا. قال لي: يا بني إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي فاذهب فاطلعها، وأمرني فيها ببعض ما يريد. فخرجت أريد ضيعته فمررت بكنيسة من كنائس النصارى فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته. فلما مررت بهم وسمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون، قال: فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في أمرهم وقلت هذا والله خير من الذي نحن عليه، فوالله ما تركتهم حتى غربت الشمس وتركت ضيعة أبي ولم ءاتها فقلت لهم أين أصل، هذا الدين قالوا: بالشام. قال: ثم رجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي وشغلته عن عمله كله. فلما جئته قال: أي بني أين كنت ألم أكن عهدت إليك ما عهدت قال قلت: يا أبت، مررت بناس يصلون في كنيسة لهم فأعجبني ما رأيت، فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس، قال: أي بني ليس في ذلك الدين خير، دينك ودين ءابائك خير منه. قلت: كلا والله إنه لخير من ديننا، قال: فخافني فجعل في رجلي قيدًا ثم حبسني في بيته، قال: وبعثت إلى النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام تجارًا من النصارى فأخبروني بهم، فقال: فقدم عليهم ركب من تجار النصارى، قال: فأخبروني بقدوم تجار فقلت لهم إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فأذنوني بهم، قال: فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم ألقيت الحديد من رجلي ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام فلما قدمتها قلت: من أفضل أهل هذا الدين قالوا: الأسقف في الكنيسة، قال: فجئته فقلت: إني وقد رغبت في هذا الدين وأحببت أن أكون معك أخدمك في كنيستك وأتعلم منك وأصلي معك، قال: فادخل، فدخلت معه، قال: فكان رجل سوء، يأمرهم بالصدقة ويرغّبهم فيها فإذ جمعوا إليه منها شيئًا اكتنزه لنفسه ولم يعطه للمساكين حتى جمع سبع قلال من ذهب. قال: وأبغضته بغضًا شديدًا لما رأيته يصنع. قال: ثم مات، فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء يأمركم بالصدقة ويرغّبكم فيها فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئًا، قالوا: وما علمك بذلك، قلت: أنا أدلكم على كنزه، قالوا: فدُلنا عليه، قال: فأريتهم موضعه، قال: فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهبًا وورقًا، قال: فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبدًا، قال: فصلبوه ثم رجموه بالحجارة.

ثم جاؤوا برجل ءاخر فجعلوه مكانه فما رأيت رجلاً يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه وأزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة ولا أدأب ليلاً ونهارًا منه. قال: فأحببته حبًا لم أحبه من قبله فأقمت معه زمانًا ثم حضرته الوفاة. قلت له: يا فلان إني كنت معك فأحببتك حبًا لم أحبه من قبلك وقد حضرتك الوفاة فإلى من توصي بي، وما تأمرني قال: أي بني والله ما أعلم أحدًا اليوم على كنت عليه. لقد هلك الناس وبدّلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلاً بالموصل وهو فلان، وهو على ما كنت عليه، فالحق به. قال: فلما مات وغُيّب لحقت بصاحب الموصل فقلت له يا فلان إن فلانًا عند موته أوصاني وأمرني ونصحني ودلني أن ألحق بك وأخبرني أنك على أمره. قال: فقال لي: أقم عندي. قال: فأقمت عنده فوجدته خير رجل على أمر صاحبه فلم يلبث أن مات، فلما حضرته الوفاة قلت له: يا فلان إن فلانًا أوصى بي إليك وأمرني باللحوق بم وقد حضرك من أمر الله ما ترى فإلى من توصي بي وما تأمرني قال: أي بني والله ما أعلم رجلاً على مثل ما كنا عليه إلا رجلاً بنصيبين وهو فلان فالحق به. قال: فلما مات وفيب لحقت بصاحب نصيبين فجئت فأخبرته بما جرى وما أمرني به صاحبي قال: فأقم عندي فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبيه. فأقمت مع خير رجل، فوالله ما لبث أن نزل به الموت فلما حضر قلت له يا فلان إن فلانًا كان أوصى بي إلى فلان ثم أوصى بي فلان إليك فإلى من توصي بي، وما تأمرني قال: أي بني والله ما أعلم أحدًا بقي على أمرنا ءامرك أن تأتيه إلا رجلاً بعمورية فإنه على مثل أمرنا. قال: فلما مات وغُيب لحقت بصاحب عمورية وأخبرته خبري فقال: أقم عندي، فأقمت عند رجل على هدي أصحابه وأمرهم، قال: وكنت اكتسبت حتى كانت لي بقرات وغنيمة، قال: ثم نزل وحل به أمر الله عز وجل فلما حضر قلت له: يا فلان إني كنت مع فلان فأوصى بي إلى فلان، وأوصى بين فلان إلى فلان، وأوصى بي فلان إلى فلان، وأوصى بي فلان إلى فلان فإلى من توصي بي وما تأمرني قال: أي بني والله ما أعلم أصبح على ما كنا عليه أحد من الناس ءامرك أن تاتيه، ولكنه قد أظلك زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب مهاجرًا إلى أرض بين حرّتين بينهما نخل به علامات لا تخفى، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل.

قال: ثم مات وغيّب، فمكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث، ثم مر بي نفر من كلب تجارًا فقلت له: تحملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغُنيمتي هذه؟ قالوا: نعم، فأعطيتهم إياها وحملوني حتى إذا قدموا بي وادي القرى ظلموني فباعوني من رجل من يهود.

فكنت عنده ورأيت النخل ورجوت أن يكون البلد الذي وصف لي صاحبي، فبينا أنا عنده قدم عليه ابن عم له من المدينة من بني قريظة فابتاعني منه فاحتملني إلى المدينة فوالله ما هو إلا أن رأيتها بصفة صاحبي فأقمت بها، وبعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم فأقام بمكة، أقام لا أسمع به بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق، ثم هاجر إلى المدينة فوالله إني لفي رأس عَذْق [أي النخلة] لسيدي أعمل فيه بعض العمل وسيدي جالس إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه فقال: فلان، قاتل الله بني قيلة والله إنهم الآن لمجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم من مكة اليوم زعم أنه نبي. قال: فلما سمعته أخذتني العرواء حتى ظننت أني ساقط على سيدي، قال: ونزلت النخلة فجعلت أقول لابن عمه ماذا تقول قال: فغضب سيدي فلكمني لكمة شديدة، وقال: ما لك ولهذا أقبل على عملك. قال: قلت لا شيء، إنما أردت أن أستثبته عما قال، وقد كان شيء عندي قد جمعته فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء فدخلت عليه فقلت له: إنه قد بلغني أنك رجل صالح معك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيء كان عندي للصدقة فرأيتكم أحق به من غيركم، قال: فقربه إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "كلوا" وأمسك يده هو فلم يأكل. قال: فقلت في نفسي: هذه واحدة. ثم انصرفت عنه فجمعت شيئًا وتحوّل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ثم جئته به فقلت: إني رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هدية أكرمتك بها فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها وأمر أصحابه فأكلوا معه قال: فقلت في نفسي: هاتان اثنتان، قال: ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببقيع الغرقد قد تبع جنازة من أصحابه عليه شملتان وهو جالس في أصحابه فسلمت عليه ثم استدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي فلما رءاني رسول الله صلى الله عليه وسلم استدبرته عرف أني استثبت في شيء وُصِفَ لي. قال: فألقى رداءه عن ظهره فنظرت إلى الخاتم فعرفته فانكببت عليه أقبله وأبكي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تحول". فتحولت فقصصت عليه حديثي، ثم شغل سلمان الرقّ حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: بدر وأحد. قال: ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كاتب يا سلمان"، فكاتبتُ صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحييها [أي أغرسها] له بالفقير وبأربعين أوقية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "أعينوا أخاكم"، فأعانوني بالنخل: الرجل بثلاثين ودية، والرجل بعشرين، والرجل بخمسة عشر، والرجل بعشرة يعين الرجل بقدر ما عنده. حتى اجتمعت لي ثلاثمائة ودية فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهب يا سلمان ففقّر لها فإذا فرغت أكن أنا أضعها بيدي". قال: ففقرت لها وأعانني أصحابي حتى إذا فرغت منها جئته فأخبرته فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معي إليها فجعلنا نقرب له الوديّ ويضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فوالذي نفس سلمان بيده ما مات منها ودية واحدة. فأديت النخل فبقي علي المال فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المعادن فقال: "ما فعل الفارسي المُكاتب" قال: فدعيت له، قال: "خذ هذه فأدّ بها ما عليك يا سلمان". قال: قلت: وأيت تقع هذه يا رسول الله مما علي قال: "خذها فإن الله عز وجل سيؤدي بها عنك"، قال: فاخذتها فوزنت لهم منها والذي نفس سلمان بيده أربعين أوقية فأوفيتهم حقهم وعُتقت، فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق ثم لم يفتني معه مشهد.


فضائله وعلمه:

عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السبّاق أربعة: أنا سابق العرب، وصهيب سابق الروم، وسلمان سابق الفرس، وبلال سابق الحبشة".

عن أبي جحيفة قال: ءاخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء مبتذلة. فقال لها: ما شانك؟ فقالت: إن أخاك أبا الدرداء ليست له حاجة في الدنيا. فقال: فلما جاء أبو الدرداء قرب طعامًا فقال: كل فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء ليقوم، فقال له سلمان: نم، فنام، فلما كان من ءاخر الليل قال له سلمان: قم الآن فقاما فصليا فقال: إن لنفسك عليك حقًا، ولربك علي حقًا، وإن لضيفك عليك حقًا وإن لأهلك عليك حقًا فاعط كل ذي حق حقه، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له فقال: "صدق سلمان".


زهده:

عن مالك بن أنس أن سلمان الفارسي كان يستظل بالفيء حيثما دار، ولم يكن له بيت، فقال له رجل: ألا نبني لك بيتًا تستظل به من الحر وتسكن فيه من البرد فقال له سلمان: نعم. فلما أدبر صاح به فسأله سلمان: كيف تبنيه؟ قال: أبنيه إن قمت فيه أصاب رأسك وإن اضطجعت فيه أصاب رجليك فقال سلمان: نعم.

وعن أبي عبد الرحمن السلمي عن سلمان: أنه تزوج امرأة من كندة فلما كان ليلة البناء مشى معه أصحابه حتى أتى بيت المرأة، فلما بلغ البيت قال: ارجعوا أجركم الله، ولم يُدخلهم، فلما نظر إلى البيت، والبيت منجّد قال: أمحموم بيتكم أم تحولت الكعبة في كندة فلم يدخل حتى نزع كل ستر في البيت غير ستر الباب فلما دخل رأى متاعًا كثيرًا فقال: لمن هذا المتاع قالوا: كتاعك ومتاع امرأتك. فقال: ما بهذا أوصاني خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أوصاني خليلي أن لا يكون متاعي من الدنيا إلا كزاد الراكب، ورأى خدمًا فقال: لمن هذا الخدم قالوا: خدمك وخدم امرأتك فقال: ما بهذا أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم، ثم قال للنسوة اللاتي عند امرأته: هل أنتن مخليات بيني وبين امرأتي قلن: نعم فخرجن، فذهب إلى الباب فأجافه [أي ردّه عليه] وأرخى الستر ثم جاء فجلس عند امرأته فمسح عند ناصيتها ودعا بالبركة، فقال لها: هل أنت مطيعتي في شيء ءامرك به قالت: جلست مجلس من يطيع، قال: فإن خليلي أوصاني إذا اجتمعت إلى أهلي أن أجتمع على طاعة الله. فقام وقامت إلى المسجد فصليا ما بدا لهما ثم خرجا فقضى منها ما يقضي الرجل من امرأته. فلما أصبح غدا عليه أصحابه فقالوا: كيف وجدت أهلك فأعرض عنهم، ثم أعادوا فاعرض عنهم، ثم أعادوا فأعرض عنهم. ثم قال: إنما جعل الله عز وجل الستور والخِدر والأبواب لتواري ما فيها، حسْبُ كل امرئ منكم أن يسأل عما ظهر له فأما ما غاب عنه فلا يسألن عن ذلك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المتحدث عن ذلك كالحمارين يتسافدان في الطريق".

عن النعمان بن حميد قال: دخلت مع خالي على سلمان الفارسي بالمدائن وهو يعمل الخوص فسمعته يقول: اشتري خوصًا بدرهم فاعمله فأبيعه بثلاثة دراهم فأعيد درهمًا فيه وأنفق درهمًا على عيالي وأتصدق بدرهم.


نبذة من كلامه ومواعظه:

عن جرير قال: قال سلمان: يا جرير تواضع لله عز وجل فإنه من تواضع لله عز وجل في الدنيا رفعه الله يوم القيامة، يا جرير هل تدري ما الظلمات يوم القيامة قلت: لا، قال: ظلم الناس بينهم في الدنيا، قال: ثم أخذ عويدًا لا أكاد أراه بين إصبعيه، قال: يا جرير لو طلبت في الجنة هذا العود لم تجده. قال: قلت: يا أبا عبد الله فأين النخل والشجر قال: أصولها اللؤلؤ والذهب، وأعلاها الثمر.

عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال: ثلاث أعجبتني حتى أضحكتني: مؤمل دنيا والموت يطلبه، وغافل وليس بمغفول عنه، وضاحك ملء فيه لا يدري أساخط رب العالمين عليه أم راض عنه، وثلاث أحزنني حتى أبكينني: فراق محمد وحزنه، وهول المطلع والوقوف بين يدي ربي عز وجل ولا أدري إلى جنة أو إلى نار.

وعن سعيج بن وهب قال: دخلت مع سلمان على صديق له من كندة نعوده، فقال له سلمان: إن الله عز وجل يبتلي عبده المؤمن بالبلاء ثم يعافيه فيكون كفارة لما مضى، فيستعتِب فيما بقي، وإن الله عز وجل يبتلي الفاجر بالبلاء ثم يعافيه فيكون كالبعير عقله أهله ثم أطلقوه فلا يدري فيم عقلوه ولا فيم أطلقوه حيث أطلقوه.


وفاته:

عن حبيب بن الحسن وحميد بن مورق العجلي أن سلمان لما حضرته الوفاة بكى فقيل له: ما يبكيك قال: عهد عهده إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "ليكن بلاغ أحدكم كزاد الراكب". قال: فلما مات نظروا في بيته فلم يجدوا في بيته إلا إكافًا ووطاء ومتاعًا قوم نحوًا من عشرين درهمًا.

قال أهل العلم بالسير: كان سلمان من المعمّرين، أدرك وصيّ عيسى بن مريم عليه السلام، وعاش مائتين وخمسين سنة، ويقال أكثر، وتوفي بالمدائن في خلافة عثمان، وقيل مات سنة ثنتين وثلاثين.

فهذا هو سلمان الفارسي الزاخر والعابد والنجيب والرفيق.


صهيب الرومي
سابق الروم


ترجمته:

هو الصحابي الجليل صهيب بن سنان الرومي بن مالك بن عبد عمرو بن عقيل بن عامر بن جندلة بن جذيمة بن كعب بن سعد بن أسلم بن أوس مناة بن النمر بن قابس بن هنب بن أقصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار الربعي النمري كذا نسبه الكلبي وأبو نعيم وكنيته "أبو يحيى" ذكره في أسد الغابة.

كان أبوه حاكم الأبلَّه وواليًا عليها لكسرى، وكان من العرب الذين نزحوا إلى العراق قبل بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بعهد طويل.

وذات يوم تعرضت البلاد لهجوم الروم، وأسر الروم أعدادًا كثيرة، وسبوا "صهيب بن سنان" وأصبح مع تجار الرقيق، وانتهى إلى مكة المكرمة، حيث بيع لعبد الله بن جدعان، بعد أن أمضى طفولته كلها وصدرًا من شبابه في بلاد الروم، حتى أخذ لسانهم ولهجتهم. واعجب سيد "صهيب" بذكائه ونشاطه، فأعتقه وحرره وهيأ له فرصة الإتجار معه.


إسلامه:

يقول سيدنا عمّار بن ياسر رضي الله عنه: لقيت صهيب بن سنان على باب دار الأرقم، ورسول الله فيها، فقلت له: ماذا تريد، فأجابني: وماذا تريد أنت، قلت له: أريد أن ادخل على محمد فأسمع ما يقول، قال: وإني أريد ذلك. فدخلنا على الرسول عليه الصلاة والسلام فعرض علينا الإسلام فاسلمنا، ثم مكثنا على ذلك حتى أمسينا، ثم خرجنا ونحن مستخفيان.

ويقول صهيب: "لم يشهد رسول الله مشهدًا قط إلا كنت حاضرَه ولم يبايع بيعة قد إلا كنت حاضرها، ولا غزا غزاة أوّل الزمان وءاخره إلا وكنت فيها عن يمينه أو شماله، وما خاف المسلمون أمامهم قد إلا كنت أمامهم، ولا خافوا وراءهم إلا كنت وراءهم، وما جعلت رسول الله بيني وبين العدو".


هجرته إلى المدينة:

لقد أحبّ سيدنا "صهيب" رضي الله عنه أن يهاجر، لكن المشركين أعاقوه عن الهجرة ووقع في بعض فخاخهم، بينما الرسول وأبو بكر هاجرا على بركة الله، حتى يسّر الله الأمر فامتطى ظهر ناقته، بيدَ أن قريشًا أرسلت قناصتها فأدركوه، ولم يكد صهيب يراهم ويواجههم من قريب حتى صاح فيهم قائلاً: "يا معشر قريش لقد علمتم أني من أرماكم رجلاً وأيم الله لا تصلون إليّ حتى أرمي بكل سهم معي في كنانتي ثم أضربكم بسيفي حتى لا يبقى في يدي منه شيء، فاقدموا إن شئتم، وإن شئتم دللتكم على مالي، وتتركوني وشأني"، فقبلوا أن يأخذوا ماله قائلين له: "أتيتنا صعلوكًا فقيرًا، فكثر مالك عندنا، وبلغت بيننا ما بلغت والآن تنطلق بنفسك ومالك؟" فدلهم على المكان الذي خبّأ فيه ثروته وتركوه وشأنه وقفلوا إلى مكة راجعين، والعجب أنهم صدقوا قوله في غير شك وفي غير حذر، فلم يسألوه بينة، بل ولم يستحلفوه على صِدقه.

وتابع "صهيب" هجرته حتى أدرك الرسول عليه الصلاة والسلام في قباء. كان الرسول جالسًا وحوله اصحابه حين أهلَّ عليهم صهيب، ولم يكد الرسول يراه حتى ناداه متهللاً: "ربح البيعُ أبا يحيى ربح البيع أبا يحيى" وعندها نزلت الآية الكريمة: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعباد} [سورة البقرة/ءاية:257].


وفاته:

رحل سيدنا صهيب رضي الله عنه من دنيا غرارة خائنة إلى دار البقاء، راضيًا مرضيًا بعد حياة ملؤها التقوى والورع والجهاد والإنفاق في سبيل الله، وإطعام الطعام وفعل الخيرات وترك المنكرات، ليحيا في جنة عرضها السموات والأرض أعدت لعباد لله المؤمنين بإذن الله رب العالمين.


الأنباء فيما لبعض الصحابة من الأنباء


الحسين بن علي
الإمام الشهيد



الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، فجاء رحمة للعالمين وسراجًا منيرًا للمهتدين والمسترشدين، هدى الله به الأمة وكشف به الغمة وأخرج به الناس من الظلمات إلى النور فجزاه الله خير ما جزى نبيًا عن أمته.

أما بعد، يقول الله عز وجل: {إنَّما يريدُ الله ليذهب عنكم الرجسَ أهل البيت ويطهركم تطهيرًا} [سورة الأحزاب/ءاية:33].

لقد أكرم الله ءال بيت النبي الأعظم صلوات الله عليه بمنزلة عظيمة وقرابة زكية فاخرة، وجعل منهم الأئمة الكرام والعلماء الأعلام فكانوا للناس مصابيح هداية يضيئون وسط ظلام الفتن وطغيان الفساد ويذودون عن حياض الشريعة الغراء باللسان والسنان، قائمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يخافون في سبيل الله لومة لائم، لُيوثًا في مواطن الحق والجهاد وبحورًا في العلم والدراية ورثوا من علوم جدهم المصطفى صلى الله عليه وسلم ما يسعدهم في الدنيا والآخرة وساروا على هديه ودربه فجزاهم الله عن أمة نبيه خيرًا عظيمًا.

وها نحن إذ نعرض للكلام عن أهل البيت الطاهرين الكرام نتناول البحث في مآثر شخصية كبيرة فذة من كبار رجالات ءال البيت الصالحين، الإمام الشهيد الحسين بن علي رضي الله عنه.


مولده الميمون ونسبه المصون:

في السنة الرابعة من الهجرة المباركة وهنام على أرض يثرب التي طابت وتنورت بقدوم الرسول الأكرم، ولد سبطا رسول الله عليه الصلاة والسلام الحسنان الشهيدان وجاءت ولادة الحسين بعد أخيه الحسن بسنة وعشرة أشهر على الأشهر، ولد ذاك الإمام العظيم أبو عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي خامي أهل الكساء، السند الشريف والسيد العفيف الكرار بن الكرار، من أم تقية طاهرة مباركة هي فاطمة الزهراء بنت سيد المرسلين الأعظم صلى الله عليه وسلم، ففرح لولادته القلب وقرت به العين كما قرت بأخيه من قبل، وحظي بحب كبير من جده رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ما ناله من البركة والخير حيث إن الرسول عليه الصلاة والسلام عقَّ عنه وعن الحسن كبشًا كبشًا ووزنت له أمه شعره وشعر الحسن وأمّ كلثوم فتصدقت بزنته فضة، واختار له الرسول عليه الصلاة والسلام هذا الاسم اللامع كما اختار اسم أخيه الحسن من قبل، فقد أخرج الطبراني بسنده عن سالم عن أبي الجعد قال: قال علي رضي الله عنه: كنت رجلاً أحب الحرب فلما ولد الحسن هممت أن أسميه حربًا فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن، فلما ولد الحسين هممت أن أسميه حربًا فسماه الحسين.

وقد ذكر أن اسم الحسن والحسين لم يكونا معروفين في الجاهلية حتى سمى بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم سبطيه الحسنين كما ذكر ابن الأثير في "أسد الغابة" وغيره.


ذكر شيء من صفته عليه السلام:

كان الإمام الحسين رضي الله عنه سيدًا وسيمًا جميلاً فصيحًا عالمًا عاقلاً رزينًا محتشمًا جوادًا كريمًا كثير الخير دينًا ورعًا كبير الشأن عظيم القدر يشبه بخِلقته جده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن علي رضي الله عنه أنه قال: الحسين أشبه برسول الله من صدره إلى قدميه، وعن عبيد الله بن يزيد قال: رأيت الحسين بن علي أسود الرأس واللحية إلا شعرات في مقدم لحيته، وروي أنه كان يصبغ شعره بالوسمة وهي نبت يختضب به وكان مع ذلك طويل الشعر يضرب أحيانًا إلى منكبيه.


جملة من مناقبه وفضائله العظيمة

لقد كان سيدنا الحسين رضوان الله عليه إمامًا عظيمًا وسيدًا سندًا جليلاً، سيفًا من سيوف الحق وجبلاً يمشي على قدمين كريم الأصل شريف النسب ذا مرتبة عالية ورفعة بالغة، تعلم وسمع من جده الرسول عليه الصلاة والسلام فحدث عنه وعن أبويه وعن الفاروق عمر وطائفة أخرى، وحدث عنه والداه علي وفاطمة وابن أخيه زيد بن الحسن وبنته سكينة والشعبي والفرزدق الشاعر وغيرهم، وكان عالمًا مبجلاً وسيدًا معظمًا محترمًا يجله الناس وكبراء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كأبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم من طليعة القوم، ويعرفون ما للحسين من قدر ومقام، فقد وردت في شأنه الفضائل وتعددت فيه المكارم فكان صفوة من الرجال وخيرة من القوم عابدًا زاهدًا خاشعًا كثير العبادة، فاضلاً يكثر من الصلاة والصيام والحج حتى قيل إنه حج خمسًا وعشرين حجة ماشيًا، وكان كريمًا كثير الصدقات يرحم المسكين ويعين الضعيف، شملته دعوة جده الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم لما جلله هو والحسن وفاطمة بكساء ثم قال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا".

إن رجلاً أحبه الرسول عليه الصلاة والسلام جدير أن يكون بهذه الصفات وبهذه المكارم العالية، كيف لا وهو الحِبُّ أخو الحِبّ كما دلت على ذلك الأخبار وشهدت بذلك النقول الصريحة والآثار، ففي جامع الإمام الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للحسن والحسين فقال: "اللهم إني أحبهما فأحبَّهما".

وفي المسند عند أحمد والطبراني وغيرهما عن أبي سعيد مرفوعًا: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة" وعن ابن عمر رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هما ريحانتاي من الدنيا" رواه البخاري وفي السنن عند الترمذي: "الحسن والحسين ريحانتاي من الدنيا".

إن رجلاً هذه منزلته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حري به أن يكون عظيم الصلاح فيحبه الناس ويجلوه، حتى إن سيدنا عمر رضي الله عنه كان جعل للحسين مثل عطاء الإمام علي خمسة ءالاف وكان يكرمه ويوقره

فقد ذكر الذهبي في السير عن حماد عن معمر عن الزهري أن عمر كسا أبناء الصحابة ولم يكن في ذلك ما يصلح للحسن والحسين، فبعث إلى اليمن فأتي بكسوة لهما فقال: الآن طابت نفسي، وفي أثر ءاخر عن أبي المهزم قال: كنا في جنازة فأقبل أبو هريرة ينفض بثوبه التراب عن قدم الحسين ومعلوم أن سيدنا أبا هريرة رضي الله عنه كان يجل الحسنين ويحترمهما ويحبهما حبًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حدث مرة فقال: كان الحسين عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان يحبه حبًا شديدًا فقال: "اذهب إلى أمك" فقلت: أذهب معه؟ فقال: "لا" فجاءت برقة فمشى في ضوئها حتى بلغ إلى أمه. رواه الطبراني.

وفي حديث عند الحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أحبني فليحب حسينًا".


استشهاده عليه السلام:

ذكر الذهبي في السير وغيره عن عمارة بن زادان حدثنا ثابت عن أنس قال: أستأذن ملك القطر [المطر] على النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أم سلمة احفظي علينا الباب" فجاء الحسين فاقتحم وجعل يتوثب على النبي صلى الله عليه وسلم ورسول الله يقبه فقال الملك: أتحبه قال: "نعم" قال: إن أمتك ستقتله وإن شئت أريتك المكان الذي يقتل فيه، قال: "نعم" فجاء بسهلة أو تراب أحمر، قال ثابت: كنا نقول إنها كربلاء.

واعلم أن ملخص ما جاء في استشهاد الإمام الحسين رضي الله عنه أن أهل الكوفة لما بلغهم موت معاوية وخلافة يزيد كتبوا كتابًا إلى الحسين عليه السلام يدعونه إليهم ليبايعوه فكتب لهم جوابًا مع رسولم وسيَّر معه ابن عمه مسلم بن عقيل فلما وصل إليهم اجتمع بعض أنصاره عليه وأخذ عليهم العهد والميثاق بالبيعة للحسين وأن ينصروه ويحموه، ولما أراد الحسين المسير إلى العراق نهاه أصحاب الرأي كابن عباس وابن عمر وغيرهما فلم يأخذ بقولهم وتوجه فبلغ توجهه يزيدًا فولى العراق عبيد الله بن زياد وأمره بنقابلة وقتال الإمام الحسين، فدخل ابن زياد الكوفة قبل الحسين وظفر بمسلم بن عقيل فقتله، وأرسل جيشًا لملاقاة الحسين وأمر عليهم عمر بن سعد بن أبي وقاص وكان الحسين وصل مع أصحابه إلى كربلاء وحط أثقاله في ذلك المكان فلم يجد أحدًا من أهل العراق ممن كاتبه فلما التقى عمر بن سعد قال: اختاروا مني واحدة من ثلاث إما أن تدعوني فألحق بالثغور وإما أن أذهب إلى يزيد أو أنصرف حيث جئت، فقبل ذلك عمر بن سعد ولم يقبل ابن زياد وقال: حتى يضع يده في يدي [يريد بيعة يزيد] فقال الحسين: لا يكون ذلك أبدًا. فلما أصبح الصباح وكان يوم العاشر من المحرم تهيأ الحسين ومعه اثنان وثلاثون فارسًا وأربعون راجلاً وتهيأ عمر بن سعد بأربعة ءالاف مقاتل ودارت رحى الحرب والحسين رضي الله عنه يدافع عن يمينه وعن شماله حتى ضربه زرعة بن شريك على يده اليسرى وضربه ءاخر على عاتقه، وطعنه سنان بن أنس بالمح فوقع على الأرض ونزل إليه شمر بن ذي الجوشن فأخذ رأسه، وكان قد وجد به عليه السلام ثلاث وثلاثون طعنة وأربع وثلاثون ضربة. وكان عمره يوم قُتل ستًا وخمسين سنة وخمسة أشهر وقيل كان ابن ثمان وخمسين سنة. وكان استشهاده عليه السلام يوم الجمعة في العاشر من محرم سنة إحدى وستين من الهجرة الشريفة.


دفنه عليه السلام:

ذُكر أنه لما قتل الحسين عليه السلام جيء برأسه إلى يزيد فجعل ينكث ثناياه بقضيب في يده فقال له أبو برزة الأسلمي: تنكث قضيبك في ثغر الحسين، والذي لا إله إلا هو لقد رأيت شفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هاتين الشفتين يقبلهما، ثم أغلظ له في الكلام جدًا وقام من مجلسه فانصرف.

ودفن الجسد الكريم بكربلاء واختلف في محل رأسه فقيل: دفن بدمشق وعليه أكثر المؤرخين ثم نُقل إلى مصر.


حادثة غريبة:

مما يروى بعد حادثة الحسين عليه السلام عن أبي جناب الكلبي قال: أتيت كربلاء فقلت لرجل من أشراف العرب: بلغني أنكم تسمعون نوح الجن قال: ما تلقى حرًا ولا عبدًا إلا أخبرك أنه سمع ذلك، قلت: فما سمعت أنت قال: سمعتهم يقولون:

مسح الرسول جبينَهُ *** فله بريق في الخُدود
أبواه من عليا قريـ **** ـشِ وجَدُّهُ خيرُ الجدود


عاقبة الظالمين:

ذكر الذهبي في السير عن السدّي قال: أتيت كربلاء تاجرًا فعمل لنا شيخ من طيّ طعامًا فتعشينا عنده فذكرنا قتل الحسين فقلت: ما شارك أحد في قتله إلا مات ميتة سوء، فقال: ما أكذبكم أنا ممن شارك في قتله، فلم نبرح حتى دنا من السراج وهو يتقد بنفظ فذهب يخرج الفتيلة بإصبعه فأخذت النار فيها فهب يطفئها بريقه فعلقت النار في لحيته فعدا فألقى بنفسه في الماء فرأيته كأنه حُممة.

رحم الله سيدنا الحسين ورضي عنه وجمعنا به مع رسوله الكريم في جنات النعيم


الصالح ابن الصالح


ترجمته:

هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل بن رياح بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب، الإمام القدوة شيخ الإسلام أحد أعلام المؤمنين وهداة المسلمين، الثابت على سنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم. وهو بهذا ينتسب إلى بني عدي من قريش وهي قبيلة عظيمة ذات شأن في الجاهلية والإسلام، فأبوه عمر رضي الله عنه كانت له السفارة في الجاهلية ينافح ويناضل عن قريش في المحافل وهو في الإسلام غني عن التعريف ويكفيه ما ورد فيه من الآثار الدالة على فضله، وعمه زيد بن الخطاب أحد السابقين الأولين ممن شهدوا بدرًا وما بعدها وكانت له الراية يوم اليمامة في حرب مسيلمة الكذاب حيث نال هناك الشهادة سعيدًا حميدًا.

وسط هذه البيئة نشأ سيدنا عبد الله بن عمر نشأة عظيمة تجلت في سلوكه ومواقفه الجريئة في الدفاع عن الحق والعمل على نصرة الدين الحنيف وقول الحق من غير أن يخاف في الله لومة لائم.


فصل في بعض فضائله:

لقد شرف الله ابن عمر بأن جعله من السابقين الأولين وأكرمه بصحبة خير الناس سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فمالت نفسه نحو الخير والتزود من صالح الأعمال فهاجر مع أبيه إلى المدينة، وعُرض على الرسول عليه الصلاة والسلام يوم بدر فرده وكذا في يوم أحد فرده لصغر سنه وأجازه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فهي أول مشاهده مع الرسول صلوات الله وسلامه عليه، ثم شهد جميع ما بعدها من المشاهد.

وكان رضي الله عنه من أهل الورع والعلم، كثير الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم شديد التحري، شهد الحديبية وقيل إنه أول من بايع الرسول عليه الصلاة والسلام يومذاك، وكان لا يتخلف عن السرايا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم كان بعد وفاة الرسول كثير الحج أعلم أهل زمانه بمناسكه وأحكامه، وكان الناس يقصدونه للفتيا على علمه وفهمه وشدة ذكائه.

وورد في فضله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وسنن الترمذي عن سالم عن أبيه قال كان الرجل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى رؤيا قصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت غلامًا عزبًا شابًا فكنت أنام في المسجد فرأيت كأن ملكين أتياني فذهبا بي إلى النار فإذا هي مطوية كطي البئر ولها قرون كقرون البئر، فرأيت فيها ناسًا قد عرفتهم فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، فلقينا ملك فقال: لن تراع. فذكرتها لحفصة فقصتها حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ونِعم الرجل عبد الله بن عمر لو كان يصلي من الليل"، فكان بعد لا ينام من الليل إلا القليل.


زهده وعظيم خوفه من الله:

لقد بلغ ابن عمر رضي الله عنه في الزهد مبلغًا عظيمًا فجعل الدنيا منه على القفا وسلك طريق المصطفى صلى الله عليه وسلم وانصرف جاهدًا إلى الزيادة والإكثار من الحسنات والعمل الصالح، عاملاً بمقتضى ما جاء في القرءان الكريم ثابتًا على سنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم لا ينجرف وراء الفتن ولا تميل به الأهواء، فقد عاش ما عاش لم تغره بهرجة الدنيا وزخارفها، ذكر في "صفة الصفوة" لابن الجوزي عن عبد الله بن عدي كان مولى لابن عمر أنه قدم من العراق فجاءه فسلم عليه فقال: أهديت لك هدية، قال: وما هي قال: جوارش قال: وما جوارش قال: يهضم الطعام. قال ابن عمر: ما ملأت بطني طعامًا منذ أربعين سنة فما أصنع به، وعن نافع قال: كان ابن عمر إذا أعجبه شيء من ماله قربه لربه، ومما يظهر ذلك ما في "صفة الصفوة" عن حمزة بن عبد الله بن عمر عن ابن عمر قال خطرت هذه الآية: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [سورة ءال عمران/ءاية:92] فتذكرت ما أعطاني الله فما وجدت شيئًا أحب إليَّ من جاريتي رُميتة فقلت هذه حرة لوجه الله فلا أعود في شيء جعلته لله ولولا ذلك لنكحتها فأنكحها نافعًا وهي أم ولده.

لقد كان ابن عمر يكسر نفسه ويخالف ما تميل إليه، فلا يدع وقتًا من عمره يذهب سدى فيقوم بالليل ويصوم بالنهار ويتقرب إلى الله بوافر العمل الصالح وتجده خاشعًا خائفًا خاضعًا لله عز وجل يقرأ مرة من قوله عز وجل: {ويل للمطففين} حتى يصل إلى قوله: {يوم يقوم الناس لرب العالمين} فيبكي ويشتد بكاؤه ويحن حتى لا يقدر على القراءة من كثرة بكائه، ولربما سمع الآية فيبكي حتى تبتل ثيابه ولحيته من كثرة بكائه ووفرة عبرته رضي الله عنه.


علمه وورعه:

لا عجب بالنسبة لشخص كعبد الله بن عمر أن يبلغ في العلم رتبة عظيمة حتى يكون مجتهدًا مفتيًا من مفاتي الصحابة الكرام، فقد أفاض الله على قلبه جواهر الحكم وجميل القول وروى علمًا كثيرًا نافعًا عن أبيه الفاروق وعن أبي بكر وعثمان وعلي وبلال والسيدة عائشة إضافة إلى ما رواه من كثرة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو معدود من الرواة المكثرين عنه عليه الصلاة والسلام، وقد أخذ عنه كثير من العلماء الكبار واستفادوا منه كالحسن البصري وثابت البناني وسعيد بن جبير وغيرهم كثير.


وفاته:

لقد امتد العمر بابن عمر رضي الله عنهما حتى جاوز الثمانين فأدرك أيام بني أمية وشهد ما رافق ذلك الحُقب من أحداث وفتن، حتى أدركه الأجل سنة أربع وسبعين وهو ابن أربع وثمانين سنة رضي الله عنه.

وفي أسباب وفاته روي أن الحجاج الثقفي أمر بعض جنوده فأخذ حربة مسمومة ضرب بها رجل ابن عمر بعدنا رد عليه ابن عمر مرة وهو يخطب بالناس فمرض عبد الله رضي الله عنه وكات منها ودخل عليه الحجاج بعد ذلك عائدًا فسلم عليه فلم يرد وكلمه فلم يجب، ثم ما لبث أن فاضت روحه الكريمة فمات ودفن في مقبرة المهاجرين بمكة على ما ذكر في سير أعلام النبلاء ومثله في طبقات ابن سعد.

ختامًا نسأل الله أن يرزقنا حسن الاتباع وأن يجمعنا مع ابن عمر في الجنة ولله الحمد من قبل ومن بعد


عبد الله بن عباس
حبر الأمة وترجمان القرءان


ترجمته:

هو الصحابي الجليل والإمام النحرير والسيد العظيم حبر الأمة المحمدية العالم العامل الفذ ترجمان القرءان وإمام المفسرين القدوة الحجة الثبت الثابت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسبك بهذا النسب المصون فخرًا وعزًا، فهو أبو العباس عبد الله بن عباس بن عبد المطلب شيبة بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي المكي رضي الله عنه وأرضاه.

ولد بالشعب وهو شعب أبي طالب الذي ءاوى إليه الرسول صلى الله عليه وسلم وبنو هاشم لما تحالفت قريش على بني هاشم.

وكان مولده قبل الهجرة المشرفة بثلاث سنين وتوفي عليه الصلاة والسلام ولابن عباس ثلاث عشرة سنة ولكنه حصل فيها كثيرًا من العلم والخير والدراية فشب علمًا محجاجًا وليثًا ضرغامًا قد أمسك بالمجد من أطرافه حسبًا ونسبًا وعلمًا واستقامة.


صفته:

لقد كان الإمام الكبير سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما مجمعًا للفضائل والمثالب خُلقًا وخَلقًا إذ كان إمامًا جليلاً عظيمًا مبجلاً فخمًا محترمًا كامل العقل ذكي النفس، حتى أطلق عليه سيدنا عمر تلك التسمية المشهورة حيث قال فيه: "فتى الكهول" لما ظهر منه من وفور العقل وغزارة العلم وعلو القدر، ومن ثم إذافة إلى ذلك فقد وهبه الله جمالاً وبهاءً فكان وسيمًا جميلاً صبيح الوجه أبيض مشربًا حسن الثغر بهي الطلعة مديد القامة، حتى قال فيه أمير المؤمنين سيدنا عمر رضي الله عنه مرة: "إنك لأصبح فتياننا وجهًا وأحسنهم عقلاً وأفقههم في كتاب الله عز وجل".


علمه وفهمه:

لقد بلغ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما مرتبة مرموقة في العلم والفهم حتى اجتمعت فيه وهو في سن الشباب حكمة الشيوخ الفضلاء وأناتهم وحصافتهم، مما دفع الخليفة الفاروق عمر رضي الله عنه لأن يحرص على مشورته في الأمور فيدعوه وهو فتى للمعضلات من الأمور وحوله أهل بدر وأكابر المهاجرين والأنصار من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما هو دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم له بالحكمة، فقد أخرج البخاري والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن ابن عباس أنه قال: مسح النبي صلى الله عليه وسلم رأسي ودعا لي بالحكمة، وفي حديث ءاخر عند الحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس فقال: "اللهم علمه تأويل القرءان" وفي رواية أخرى أنه صلى الله عليه وسلم دعا له فقال: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" وعليه فقد تحققت في ابن عباس دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى غدا علمًا وأيما علم نمت معارفه وتوسعت علومه ومداركه وحكمته

وكان منذ نشأته لا ينفك يدور ويبحث عن العلوم ويلتقطها أنى وجد لذلك سبيلاً إذ كان يجيء فيستأذن بالمبيت في بيت خالته ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ليرى ما يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل فيتعلم منه ويقتدي بهديه الشريف، وكان يكثر من سؤال أصحابه عليه الصلاة والسلام وتراه يقول عن نفسه "فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتي إليه وهو قائلٌ في الظهيرة فأتوسد ردائي على بابه يسفي الريح عليَّ من التراب حتى ينتهي من مقيله ويخرج فيراني فيقول: يا ابن عم رسول الله ما جاء بك هلا أرسلت إلي فآتيك فيقول: لا أنت أحق بأن أسعى إليك فيسأله عن الحديث ويتعلم منه.

وبمواظبته على هذه الهمة العالية في طلب العلم حصل ما كان ذخرًا له دينه ودنياه حيث حدث عن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بجملة حسنة وحدث عن الفاروق عمر وعن علي ومعاذ وعبد الرحمن بن عوف وأبي ذر وأبيّ بن كعب وعن والده العباس وغيرهم من أئمة الصحابة، وحدث عنه كثير من أجلاء التابعين وساداتهم من أمثال سعيد بن جبير ومجاهد والشعبي والحسن وابن سيرين وغيرهم كثير استفادوا بما استشفه ابن عباس من هدي الرسول الأكرم وأصحابه الميامين، وعلى كل فقد اجتمع في ابن عباس ببركة دعوته صلى الله عليه وسلم ما أهاه لذلك الدور العلمي الكبير

فلقد كان يأخذ بقلوب الرجال إذا حدث ويُحسِن الاستماع إذا حُدث وكان عنده من المعرفة ما يبهر الألباب في تفسير القرءان وتأويله وفي الفقه والحديث وفي التاريخ وفي لغة العرب والأدب حتى غدا مقصد الباحثين والطالبين يأتيه الناس أفواجًا أفواجًا ليسمعوا منه وليتفقهوا عليه، وإليك ما جاء عن أحد أصحابه أنه حدث يومًا فقال: "لقد رأيت من ابن عباس مجلسًا لو أن جميع قريش فخرت به لكان لها به الفخر، قال: رأيت الناس اجتمعوا على بابه حتى ضاق بهم الطريق فما كان أحد يقدر أن يجيء ولا أن يذهب فدخلت عليه فأخبرته بمكانهم على بابه فقال لي: ضع لي وضوءًا فتوضأ وجلس وقال: اخرج إليهم فادع من يريد أن يسأل عن القرءان وتأويله قال فخرجت فآذنتهم فدخلوا حتى ملئوا البيت فما سألوا عن شيء إلا أخبرهم وزادهم ثم قال إخوانكم فخرجوا ليفسحوا لغيرهم، ثم قال لي: اخرج فادع من يريد أن يسأل عن الحلال والحرام والفقه فليدخل قال فخرجت فآذنتهم فدخلوا حتى ملئوا البيت فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم وزادهم ثم قال: إخوانكم فخرجوا ثم قال لي: اخرج فقل من أراد أن يسأل عن الفرائض وما أشبهها فليدخل قال فخرجت فآذنتهم فدخلوا حتى ملئوا البيت فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم وزادهم ثم قال: إخوانكم قال فخرجوا ثم قال: اخرج فقل من أراد أن يسأل عن العربية والشعر والغريب من الكلام فليدخل قال: فدخلوا حتى ملئوا البيت فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم وزادهم قال الراوي: فلو أن قريشًا كلها فخرت بذلك لكان لها فخرًا فما رأيت مثل هذا لأحدٍ من الناس" رواه ابن الجوزي في صفة الصفوة وغيره.


جملة من مناقبه:

لقد كان الإمام ابن عباس رضي الله عنهما إضافة إلى ما مر ذكره على جانب عالٍ وكبير من الاخلاق والتدين والجود والسخاء فكان يفيض على الناس كرمًا وسخاءً بالمال والأعطيات، كما يفيض عليهم بالعلم والمعرفة، وها هو يوم كان عاملاً للإمام علي بن أبي طالب على البصرة يأتيه الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه فيقول له: لأجزينك على إنزالك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن أبا أيوب كان قد نزل الرسول صلى الله عليه وسلم عنده في بيته بعد الهجرة، فما زال ابن عباس يعطيه ويكرمه حتى أعطاه الدار بما فيها وخرج منها تاركًا إياها لأبي أيوب رضي الله عنه.

وكان عابدًا قانتًا زاهدًا خاشعًا أوابًا لله عز وجل كثير البكاء إذا صلى وإذا قرأ القرءان، يقوم بالليل ويصوم بالنهار، حدث عنه بعض من رافقه فقال: صحبت ابن عباس من مكة إلى المدينة فكان يصلي ركعتين فإذا نزل قام شطر الليل ويرتل القرءان حرفًا حرفًا ويكثر في ذلك من النشيج والبكاء، وعن أبي رجاء قال: رأيت ابن عباس وأسفل عينيه مثل الشراك البالي من البكاء" رواه الذهبي في السير.

وهنا أمر مهم بارز في عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وهو الجانب الذي كان عليه من الشجاعة والبأس والحصافة في الحرب، فلقد كان له في تلك الحرب التي دارت بين علي رضي الله عنه ومعاوية ءاراء تلد على فطنته وسعة حذقه وحنكته العسكرية، ولقد كان رضي الله عنه على امتداد فترة النزاع التي خاضها معاوية ضد علي مناصرًا للإمام العدل علي كرم الله وجهه، وكان سيفًا من سيوفه يأتمر بأمره ويسمع له ويطيع فيما يوجه إليه، وإذا به مع كل صفاته تلك بطلاً مجربًا حاذقًا في شئون الحرب وثبتًا لا يتزحزح في مواجهة الباطل بحسام ماضٍ بتار قد جرده لمناصرة الحق، ماضيًا في ذلك حتى تصرمت السنين وجاءه نبأ استشهاد الحسين رضي الله عنه فأقضه الحزن عليه ولزم داره مقبلاً على ما يعنيه، قائمًا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مكثرًا من الخير والطاعة.


وفاته:

لقد عاش ابن عباس عمره المديد يفيض علمًا وحكمًا وينشر المعرفة بين الناس فيفوح عبيره وأريجه في أقطار البلاد حتى وافاه الأجل سنة ثمان وستين من الهجرة عن إحدى وسبعين سنة من عمره، وكانت وفاته بالطائف فلما خرجوا بنعشه جاء طائر عظيم أبيض حتى خالط أكفانه ثم لم يروه فكانوا يرون أنه علمه.

وفي السير عن سالم الأفطس عن سعيد قال: مات ابن عباس بالطائف فجاء طائر لم يُرَ على خلقته فدخل نعشه ثم لم يُر خارجًا منه فلما دفن تُليت هذه الآية على شفير القبر لا يُدرى من تلاها {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي} [سورة الفجر/ءاية:27-30].

رضي الله عنك يا ابن عباس ونفعنا بك وجمعنا بك في جنات النعيم.


الضياء في ذكر من اشتهر من العلماء



الحسن البصري


ترجمته:

هو الإمام العظيم والسيد الكريم المجتهد الحافظ أحد السادات التابعين أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن يسار بن مطهر بن غاضرة بن قرهد وقيل فرهد "بالفاء" العوفي، والده أبو الحسن يسار من سبي ميسان وهو كورة واسعة عظيمة كثيرة القرى والنخل بين البصرة وواسط من أرض العراق، سكن المدينة المنورة وكان مملوكًا فأعتق وبفي في المدينة حيث استقر وتزوج فيها وذلك في خلافة الفاروق عمر رضي الله عنه فولد له بها الحسن لسنتين بقيتا من خلافة عمر رضي الله عنه واسم أمه خيرة. وقيل إنها كانت مولاة لأم المؤمنين أم سلمة زوج الرسول صلى الله عليه وسلم وكانت السيدة أم سلمة ربما تبعث أم الحسن في الحاجة فيبكي وهو طفل رضيع فتسكته أم سلمة بثديها وتخرجه أحيانًا إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صغير فكانوا يدعون له، وأخرجته مرة إلى سيدنا عمر فدعا له وقال: اللهم فقهه في الدين وحببه إلى الناس. ومن ثم نشأ الحسن بوادي القُرى، وتجدر الإشارة إلى أنه كان لما ولد قد حنكه بالتمر سيدنا عمر وكان له من العمر يوم وفاة سيدنا عثمان سنة وحضر معه الجمعة وعلى هذا يكون عام مولد الحسن سنة إحدى وعشرين من الهجرة المباركة.


ذكر شيء من صفته:

كان الإمام الحسن رضي الله عنه عظيمًا مبجلاً جليلاً كبير القدر جليل الشأن ذا وسامة فائقة، حسن الصورة جميل الوجه حتى قيل إنه أجمل أهل البصرة في زمانه تام الشكل مهيبًا بهيًا، وكان مع ذلك مجاهدًا بطلاً شجاعًا من الموصوفين المعدودين، ليثًا من ليوث الحرب في مواطن الجهاد شديد القوة عظيم البطش، مجربًا في مواضع الناس.

ولقد حدث الأصمعي عن أبيه فقال: ما رأيت زندًا أعرض من زند الحسن البصري، كان عرضه شبرًا، وعن محمد بن سعد قال: كان الحسن رحمه الله جامعًا رفيعًا فقيهًا ثقة حجة مأمونًا عابدًا ناسكًا، كثير العلم فصيحًا جميلاً وسيمًا، لم ير في البصرة أجمل وجهًا منه في زمانه وكانوا يرون أنه أشبه الناس رأيًا بعمر رضي الله عنه.


مناقبه:

لقد كان الحسن رضي الله عنه من أشبه الناس سريرة بعلانية إن أمر بأمر كان من أعمل الناس له وإن نهى عن شيء كان من أبعد الناس عنه، عابدًا خاشعًا قانتًا زاهدًا تقيًا ورعًا ذا مروءة عجيبة وشهامة واسعة، وعلى جانب كبير من الخلق الحسن فكان شكله حسنًا وخلقه حسنًا وعلمه حسنًا ونهجه حسنًا وهو الحسن.

وكان مع ذلك قلما يرى ضاحكًا وقلما ضحك إلا تبسمًا، طويل الحزن كثير البكاء ما شوهد إلا كأنه حديث عهد بمصيبة، يبكي وله نشيج وصوت حتى كأن النار بين عينيه، وقد روي أنه كان مرة في مجلس فطلب الماء فلما جيء له به أغمي عليه مدة ما لبث بعد ذلك أن أفاق منه فسئل عن سبب ذلك فقال رضي الله عنه: تذكرت قول الله عز وجل: {وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا} [سورة الكهف/ءاية:29].

أي رجل هذا الذي بلغ به الخوف إلى هذا الحد الكبير فإذا به يغمى عليه خوفًا وخشية إثر ذكر ءاية من كتاب الله، وكيف لا وهو الذي قد اشتهر بطول حزنه وكثرة بكائه ووفور عبرته ونشيجه خوفًا من عذاب الله، وقد قيل فيه إنه بقي ثلاثين سنة لم يضحك وأربعين سنة لم يمزح، أجل لقد كان فطنًا يدرك أن الدنيا ليست منتهى الأمر فاتخذها لجة وصالح عمله سفينة يسير بها إلى مقر الأمان والنجاة، فكان نعم العالم العامل الأواب القوام بالليل والصوام بالنهار، كثير التهجد كثير الصوم.

وإن كان الرجل ليأتيه يطلب منه العلم فلا يلبث أن يرى ذلك في تخشعه وزهده ولسانه وبصره رضي الله عنه، وكان رحمه الله مع ذلك جمع إلى هذه الخصال الكريمة الجهاد في سبيل الله وله في ذلك حظ جيد حتى إن المهلّب كان إذا أراد حرب الروم أو غيرهم وتهيأ لجهاد في سبيل الله قدم لحربه على ما كان فيه من الشجاعة والشدة والبأس والقوة في منازلة الرجال والثبات في المواطن التي يحجم فيها القوم، ولقد كان بطلاً مجربًا شديد الجسم مفتول العضلات وله في الواقع رأي ثاقب وبصيرة نافذة وحسن تخطيط وتصرف، كل ذلك مما رفع قدره وعظَّم شأنه عند طوائف الناس وعقلاء الرجال.

واعلم مع ما مر أن الحسن البصري رحمه الله كان مشهورًا بتعهده لنفسه فكان ينظف ثوبه وبدنه ويبالغ في ذلك جدًا، ومن أخباره عنايته بحسن ثيابه ما حكاه الذهبي عن سلام بن مسكين قال: رأيت على الحسن قباء مثل الذهب يتألق وعن يونس قال: كان الحسن يلبس في الشتاء قتاء حبرة وطيلسانًا كرديًا وعمامة سوداء وفي الصيف إزار كتان وقميصًا وبردًا حبرة وعن سلام بن مسكين قال: رأيت على الحسن طيلسانًا كأنما يجري فيه الماء وخميصة كأنها خز.

وكان رحمه الله يُصفّر لحيته في كل جمعة يغير ما شاب من شعره بالصفرة.


ذكر غزارة علمه:

أما العلم فقد بلغ فيه الحسن غاية كبرى قلما حظي بمثلها بين الناس، فلقد كان إمامًا في كثير من أنواع العلوم من فقه وحديث وتفسير وعلم القرءان واللغة والأدب والتصوف والبلاغة، سيدًا من سادات زمانه شيخًا مبجلاً روى عنه الصحابي الجليل عمران بن المعين وعن المغيرة بن شعبة وأبي بكر الثقفي والنعمان بن بشير وعبد الله بن عباس وأنس وغيرهم، ورأى عثمان وسمع منه بعضًا من خطب الجمعة وغيره من الصحابة الكبار وحدث عنه خلق من التابعين منهم ثابت البناني ومالك بن دينار وغيرهم كثير. وقد صحبه قوم للفقه فصاروا فقهاء وصحبه ءاخرون للحديث فصاروا محدثين وصحبه قوم للتصوف والزهد فبلغوا فيه شأوًا بعيدًا، وما زال الحسن بحرًا يزخر بشتى العلوم وأنواع الحكم والمعارف، وقد حدث حجَّاج الأسود فقال: تمنى رجل فقال: ليتني بزهد الحسن وورع ابن سيرين وعبادة عامر بن عبد قيس وفقه سعيد بن المسيب وذكر مطرف بن الشخير بشيء، قال: فنظروا في ذلك فوجدوه كله كاملاً في الحسن.

وعن قتادة قال: "كان الحسن من أعلم الناس بالحلال والحرام وكان رحمه الله يتكلم بكلام يخرج من جوفه كأنه الدر واللؤلؤ، وإذا حدث أخذ بكلامه القلوب وأثر بمواعظه في أفئدة الرجال" وهو مع ما مر على جانب واسع في الخطابة حتى قيل إنه أشهر خطباء عصره في المواعظ والتذكير، ترى في عباراته كلام إنسان عاقل كيس فطن علم مدارك الأمور وأحاط معرفة بقسط وافر من الدراية والحفظ، فعن الربيع بن أنس قال: اختلفت إلى الحسن عشر سنين فليس من يوم إلا أسمع منه ما لم أسمع من قبل، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سلوا الحسن فإنه حفظ ونسينا، وعن الذهبي عن أبي هلال قال: كنت عند قتادة فجاء الخبر بموت الحسن فقلت: لقد كان غمس في العلم غمسة، قال قتادة: بل نبت فيه وتحقبه وتشربه.

وعن عطاء وقد قيل له إن الحسن يقول في الجنازة إنه يقرأ عليها فقال عطاء للسائل: علمك بذاك، ذاك إمام ضخم يقتدى به.

وقد حدث يونس بن عبيد مرة وهو من المشايخ الصالحين وأهل العلم العاملين الثقات الأتقياء فقال: أما أنا فإني لم أر أحدًا أقرب قولاً من فعل من الحسن، وفي معرض ءاخر قال فيه: كان من رؤوس العلماء.

كل هذه الشهادات تثبت مقدار ما وصل إليه الرجل من العلم الواسع مما جعله مقصدًا حتى غدا من أساطين العلم وحبرًا من كبار علماء الأمة رضي الله عنه وأرضاه.


وفاته رضي الله عنه:

بعد حياة عظيمة أمضاها إمامنا الحسن في العلم والعمل والجهاد في سبيل الله، أدركه الموت الذي لا بد منه وكان ذلك في رجب سنة عشر ومائة وله من العمر نحو من ثمان وثمانين سنة، ومن ثم خرجوا به في جنازة مشهودة مهيبة عظيمة وصلوا عليه عقيب الجمعة بالبصرة فشيعه الخلق وازدحموا عليه، حتى إن صلاة العصر لم تقم في ذلك الجامع يومها وقد حزن لوفاته أعيان الرجال كابن سيرين وغيره، فعند الذهبي عن هشام بن حسان قال: كنا عند محمد "أي ابن سيرين" عشية يوم الخميس فدخل عليه رجل بعد العصر فقال: مات الحسن، فترحم عليه محمد وتغير لونه وأمسك عن الكلام فما تكلم حتى غربت الشمس، وأمسك القوم عنه لما رأوا من وجده عليه.

رحم الله الإمام الحسن البصري وأعلى مقامه في جنات النعيم إنه سميع الدعاء والحمد لله رب العالمين.


عطاء بن أبي رباح
الحبر الزاهد


مناقبه:

في سنة سبع وتسعين للهجرة وفد الحُجَّاج مشاة وركبانًا شيوخًا وشبانًا رجالاً ونساء، فيهم الأسود والأبيض والعربي والعجمي والسيد والمسود، قدموا جميعًا إلى المسجد الحرام متخشعين لله ملبّين راجين مؤمِّلين، وهذا سليمان بن عبد الملك سابع خلفاء بني أمية الذي أخرج الخلافة من أولاده وعهد بها للخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، كان يطوف بالبيت العتيق مكشوف الرأس حافي القدمين ليس عليه إلا إزار ورداء، شأنه في ذلك كشأن بقية رعاياه، وكان من خلفه ولداه وهما غلامان كطلعة البدر بهاء وكأكمام الورد نضارة وطيبًا، وما إن انتهى من طوافه حتى مال على رجل من خاصّته وقال: أين صاحبكم فقال: إنه هناك يصلي، وأشار إلى الناحية الغربية من المسجد الحرام فاتجه وولداه إلى حسث يجلس عطاء بن أبي رباح التابعي الجليل رضي الله عنه، وأراد معاونو الخليفة وخاصته أن يفسحوا له الطريق ويدفعوا عنه أذى الزحام فصناهم عن ذلك وقال: هذا مقام يستوي في الملوك والسُّوقّة ولا يفضُلُ فيه أحدٌ أحدًا إلا بالقبول والتقوى ورُبَّ أشعث [أي متلبد الشعر] أغبر تكاثر عليه الغبار قَدِم على الله فتقبّله بما لم يتقبل به الملوك.

ثم مضى سليمان نحو عطاء رضي الله عنه فوجده ما يزال داخلاً في صلاته غارقًا في ركوعه وسجوده والناس جلوس وراءه عن يمينه وشماله فجلس حيث انتهى به المجلس وأجلس معه ولديه، وانتهى الإمام من صلاته ومال بشقّه أي بطرفه على الجهة التي فيها الخليفة فحيّاه سليمان بن عبد الملك فرد التحية بمثلها وأقبل عليه الخليفة وجعل يسأله عن مناسك الحج منسكًا منسكًا وهو يفيض بالإجابة ويُفصّل القول فيها تفصيلاً ويُسند كل قوم بقوله إلى رسول الله، ولما انتهى الخليفة من المسائل قال له: جزاك الله خيرًا، فقام الثلاثة نحو المسعى وسمعوا مناديًا ينادي: لا يفتي الناس في هذا المقام إلا عطاء بن أبي رباح فإن لم يوجد فعبد الله بن أبي نجيح، فقال الولدان لأبيهما: كيف يأمر عامل الخليفة الناس بأن لا يستفتوا أحدًا غير عطاء بن أبي رباح وصاحبه ثن جئنا نستفتي هذا الرجل الشيخ الحبشي الأسود البشرة مفلفل الشعر الذي لم يأبه للخليفة، فقال عندها سليمان لولده: هذا الذي رأيته يا بنيّ ورأيت ذلنا بين يديه هو عطاء بن أبي رباح صاحب الفتيا في المسجد الحرام ووارث عبد الله بن عباس في هذا المنصب الكبير ثم أردف يقول: يا بنيَّ تعلموا العلم فبالعلم يشرُف الوضيع وينبه الخامل ويعلو الأرقاء على مراتب الملوك.

ولم يكن سليمان مبالغًا في ما قال في شأن العلم فقد كان عطاء بن أبي رباح في صغره عبدًا مملوكًا لامرأة من أهل مكة، غير أن الله عز وجل أكرم الغلام الحبشي بأن وضع قدميه منذ نعومة أظفاره في طريق العلم فقسّم وقته أقسامًا ثلاثة: قسمٌ جعله لسيدته يخدمها فيه أحسن ما تكون الخدمة ويؤدي لها حقوقها عليه أكمل ما تؤدى الحقوق، وقسمٌ جعله لربّه يفرُغُ فيه لعبادته أصفى ما تكون العبادة وأخلصها لله تعالى، وقسمٌ جعله لطلب العلم حيث أقبل على ما بقي حيًا من صحابة رسول الله وطفق ينهل من مناهلهم الغزيرة الصافية فأخذ عن أبي هريرة وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وغيرهم من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم حتى امتلأ صدره علمًا وفقهًا ورواية عن رسول الله، ولما رأت السيدة المكية أن غلامها قد باع نفسه لله تعالى وعكف على طلب العلم، تخلت عن حقها فيه وأعتقت رقبته تقربًا إلى الله عز وجل لعل الله ينفع به الإسلام والمسلمين ومنذ ذلك اليوم اتخذ عطاء بن أبي رباح البيت الحرام مقامًا له، فجعله داره التي يأوي إليها ومدرسته التي يتعلم فيها ومصلاه الذي يتقرب فيه إلى الله بالتقوى والطاعة.


زهده وشفقته على المسلمين:

أما حاله مع الدنيا فقد صدَّ عنها ولم يعبأ بها وأباها أعظم الإباء وعاش عمره يلبس قميصًا لا يزيد ثمنه على خمسة دراهم، ولقد دعاه الخلفاء إلى مصاحبتهم فلم يجب دعوتهم لخشيته على دينه من دنياهم، لكنه مع ذلك كان يفِدُ إليهم إذا وجد في ذلك فائدة للمسلمين أو خيرًا للإسلام، من ذلك ما حدَّث به عثمان بن عطاء الخراساني قال: انطلقت مع أبي نريد هشام بن عبد الملك فلما عدونا قريبًا من دمشق إذ نحن بشيخ على حمار أسود عليه قميص خشن كثيف النسج وجُبّةٌ بالية وقلنسوة لازقة برأسه وركاباه من خشب، فضحكت منه وقلت لأبي: من هذا فقال: اسكت هذا سيد فقهاء الحجاز عطاء بن أبي رباح، فلما قرب منا نزل أبي عن بغلته ونزل هو عن حماره فاعتنقا وتساءلا ثم عادا فركبا وانطلقا حتى وقفا على باب قصر هشام بن عبد الملك فاستقر بهما الجلوس حتى أُذن لهما، فلما خرج أبي قلت له: حدثني بما كان منكما فقال: لما علم هشام أن عطاء بن أبي رباح بالباب بادر فاذن له ووالله ما دخلت إلا بسببه فلما رءاه هشام قال: مرحبًا مرحبًا ههنا ههنا، وأجلسه على سريره ومسّ بركبته ركبته وكان في المجلس أشراف الناس يتحدثون فسكتوا، ثم أقبل عليه هشام وقال: ما حاجتك يا أبا محمد قال: يا أمير المؤمنين أهل الحرمين جيران رسول الله تُقسّم عليهم أرزاقهم وأعطياتهم فقال: نعم... يا غلام اكتب لأهل مكة والمدينة بعطاياهم وأرزاقهم لسنة ثم قال: هل من حاجة غيرها يا أبا محمد فقال: نعم يا أمير المؤمنين، أهل الحجاز وأهل نجد أصل العرب وقادة الإسلام تردُّ فيهم فضول صدقاتهم، فقال: نعم، يا غلام اكتب بأن ترد فيهم فضول صدقاتهم، هل من حاجة غير ذلك يا أبا محمد، قال: نعم يا أمير المؤمنين، أهل الثغور المرابطون على تخوم البلاد في مواجهة العدو يقفون في وجوه عدوكم ويقتلون من رام المسلمين بشر، تُجري عليهم أرزاقًا تدرها عليهم فإنهم إن هلكوا ضاعت الثغور فقال: نعم، يا غلام اكتب بحمل أرزاقهم إليهم هل من حاجة غيرها يا أبا محمد قال: نعم، اتق الله في نفسك يا أمير المؤمنين واعلم أنك خُلقت وحدك وتموت وحدك وتُحشر وحدك وتُحاسب وحدك ولا والله ما معك ممن ترى أحد. فأكبّ هشام ينكث في الأرض وهو يبكي، فقام عطاء فقمت معه فلما صرنا عند الباب إذا رجل قد تبعه بكيس لا أدري ما فيه وقال له: إن أمير المؤمنين بعث لك بهذا، فقال: هيهات. {وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين} [سورة الشعراء/ءاية:109].

فوالله إنه دخل على الخليفة وخرج من عنده ولم يشرب قطرة ماء.


وفاته:

لقد طال عمر سيدنا عطاء بن أبي رباح حتى بلغ مائة عام ملأها بالعلم والعمل والبر والتقوى وزكاها بالزهد فيما في أيدي الناس والرغبة بما عند الله، فلما أتاه اليقين وجده خفيف الحمل من أثقال الدنيا كثير الزاد من عمل الآخرة ومعه فوق ذلك سبعون حجة وقف خلالها سبعين مرة على عرفات وهو يسأل الله تعالى رضاه والجنة ويستعيذ به من سخطه والنار.

رحم الله عطاء بن أبي رباح وأكثر من أمثاله في هذه الأمة علمًا وورعًا وزهدًا وإخلاصًا وخوفًا من الله وخدمة لهذه الأمة، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين


إياس بن معاوية


ترجمته:

هو أبو واثلة إياس بن معاوية بن قُرة بن إياس بن هلال بن رباب بن عبيد بن سوأة بن سارية بن ذبيان بن ثعلبة بن سُليم بن أوس بن مُزينة المزني، كانت ولادته في البصرة سنة ست وخمسين للهجرة.

وقد ظهرت عليه دلائل نبوغته وفطنته منذ صغره، فقد ذكر ابن خلكان في "وفيات الأعيان" أنه قال يومًا لأبي وهو طفل –وكان أبوه يؤثر أخاه عليه-" يا أبت تعلم ما مثلي ومثل أخي معك إلا كفرخ الحمام، أقبح ما يكون أصغر ما يكون، فكلما كبر ازداد ملاحة وحسنًا، فتبنى له العلالي وتتخذ له المربعات ويستحسنه الملوك، ومثل أخي مثل الجحش الصغير فأملح ما يكون أصغر ما يكون، وكلما كبر صار القهقرى، إنما يصلح لحمل الزبل والتراب.

ولي القضاء سنة في أيام الخليفة عمر بن عبد العزيز، وذلك أن الخليفة كتب إلى نائبه في العراق عدي بن أرطأة أن اجمع بين إياس بن معاوية والقاسم بن ربيعة الجرشي فولّ قضاء البصرة أنفذهما، فجمع بينهما، فقال له إياس: أيها الامير، سلّ عني وعن القاسم فقيهي مصر الحسن البصري ومحمد بن سيرين وكان القاسم يأتيهما وإياس لا يأتيهما فعلم القاسم أنه إن سألهما أشارا به، فقال القاسم للأمير: لا تسأل عني ولا عنه، فوالله الذي لا إله إلا هو إن إياس بن معاوية أفقه مني واعلم بالقضاء، فإن كنت كاذبًا فلبس لك أن توليني وأنا كاذب، وإن كنت صادقًا فينبغي لك أن تقبل قولي، فقال إياس للأمير: إنك جئت برجل أوقفته على شفير جهنم فنجّى نفسه منها بيمين كاذبة يستغفر الله منها وينجو مما يخاف، فقال عدي: أما إذ فهمتها فأنت لها، فجعله قاضيًا على البصرة.


من مناقبه:

حفل الكثير من كُتب السير والأدب والتراجم بالروايات التي تُظهر ذكاء القاضي إياس بن معاوية وفراسته، ومما قاله فيه الحريري في مقاماته جملته التي كتبها في المقامة السابعة وهي: "فإذا ألمعيَّتي ألمعية ابن عباس، وفراستي فراسة إياس". وفي المثل يقال أيضًا: هو من إياس أي أذكى منه. ومما يروى عن ذكائه وفطنته ما ذكره ابن الجوزي في كتابه "الأذكياء" ومفاده أن رجلاً استودع رجلاً ءاخر مالاً فلما عاد لأخذه منه جحده، فأتى إياسًا فقال له إياس: أعَلِمَ أنك أتيتني، قال: لا، قال: فنازعته عند أحد قال: لا، فقال: اذهب وعُدْ بعد يومين، ثم استدعى الرجل الآخر، وقال له: لدي مال كثير أريد أن أسلمه إليك فأعد في بيتك موضعًا للمال وقومًا يحملونه، ولما عاد صاحب المال قال القاضي له: انطلق إليه فاطلب المال، فإن أعطاك فذاك، وإن جحدك فقل له: إني سأخبر القاضي، فذهب إلى الرجل فدفع إليه ماله.

ويروي ابن الجوزي رواية أخرى وهي أن رجلاً استودع رجلاً مالاً ثم طلبه منه فجحده الرجل المال، فتخاصما إلى القاضي إياس فقال للطالب: ومن حضر معكما قال: دفعته له في مكان كذا، وفي ذلك الموضع شجرة، فقال إياس لصاحب المال: انطلق إلى ذلك الموضع وانظر الشجرة فلعل الله يوضح لك هناك ما يتبين به حقك، فمضى الرجل إلى الشجرة وطلب القاضي من الآخر أن ينتظر حتى يرجع خصمه، وبينما إياس يقضي بين الناس إذ قال للرجل: أترى صاحبك بلغ موضع الشجرة قال: لا، فقال له القاضي: إنك لخائن، فاعترف الرجل بأنه جحد المال.

ذكر صاحب "حلية الأولياء" أنه قيل لإياس يومًا: فيك خصال: دمامة وكثرة كلام وتعجيلك بالقضاء، فقال: أما الدمامة فالامر فيها إلى غيري، وأما كثرة الكلام فبصواب أتكلم أم بخطأ، قالوا بصواب، قال: فالإكثار من الصواب أمثل وأفضل. وأما قولكم إنك تعجل بالقضاء فكم هذه [وأشار بيده خمسة] فقالوا: خمسة، فقال: عجلتم، ألا قلتم واحد واثنان وثلاثة وأربعة وخمسة؟ قالوا: ما نعد شيئًا قد عرفناه، قال: فما أحبس شيئًا قد تبين لي في الحكم.

ومن أخباره أنه كان في موضع فحدث فيه ما يدعو إلى الخوف وهناك ثلاث نسوة لا يعرفهن، فقال: هذه ينبغي أن تكون حاملاً، وهذه مرضعًا، وهذه عذراء، فكشف عن ذلك فكان كما تفرّس، فقيل له: من أين لك هذا قال: عند الخوف لا يضع الإنسان يده إلى على أعز ما له ويخاف عليه، ورأيت الحامل قد وضعت يدها على جوفها فاستدللت بذلك على حملها، ورأيت المرضع وضعت يدها على ثديها، والعذراء وضعت يدها على فرجها. ونظر يومًا إلأى ءاجُرَّة وهو بمدينة واسط فقال: رأيت ما بين الآجرتين نَدِيًّا من بين جميع تلك الرَّحبة فعلمت أن تحتها شيئًا يتنفس.

ومر يومًا بمكان فقال: أسمع صوت كلب غريب، فقيل له: كيف عرفت ذلك قال: بخضوع صوته وشدة نُباح غيره من الكلاب، فكشفوا عن ذلك فإذا كلب غريب مربوط والكلاب تنبحه.

وكان يومًا في برية فسمع نباح كلب فقال: هذا الكلب ينبح على رأس بئر، فوجدوا الأمر كما قال فقيل له: كيف علمت ذلك قال: لأني سمعت الصوت كالذي يخرج من البئر.

وروى داود بن أبي هند عنه أنه قال: أنا أكلم الناس بنصف عقلي، فإذا اختصم إليَّ اثنان جمعت عقلي كله.

وسمعه حبيب بن الشهيد يقول: ما كلمتُ أحدًا من أهل الأهواء بعقلي كله إلا القدرية، فإني قلت لهم: ما الظلم عندكم قالوا: أن ياخذ الإنسان ما ليس له، فقلت لهم: فإن لله عز وجل كل شيء.

ومن كلامه في الدفاع عن الدين أنه سمع يهوديًا يقول: ما أحمق المسلمين، يزعمون أن أهل الجنة يأكلون ولا يُحدثون [أي يأكلون فلا يبولون ولا يتغوطون] فقال له إياس: أكُلُّ ما تأكله تُحدثه؟ قال: لا، لأن الله يجعله غذاءً، فقال: فلم تُنكر أن الله تعالى يجعل كل ما يأكله أهل الجنة غذاء فبُهت الذي كفر.

وروي عنه أنه قال: ما غلبني أحد قد إلا رجل واحد، وذلك أني كنت في مجلس القضاء بالبصرة، فدخل عليَّ رجل شهد عندي أن البستان الفلاني وذكر حدوده هو ملك فلان، فقلت له: كم عدد شجره فسكت ثم قال: منذكم يحكم سيدنا القاضي في هذا المجلس فقلت: منذ كذا، فقال: كم عدد خشب سقفه فقلت له: الحق معك، وأجزت شهادته.


وفاته:

ذكر صاحب "وفيات الأعيان" أن إياس بن معاوية قال في العام الذي توفي فيه: رأيت في المنام كأني وأبي على فرسين فجريا معًا فلم أسبقه ولم يسبقني، وعاش أبي ستًا وسبعين سنة وأنا فيها، فما كانت إحدى الليالي قال: أتدرون أي ليلة هذه ليلة أستكمل فيها عمر أبي، ونام فأصبح ميتًا، وكان ذلك سنة مائة واثنتين وعشرين للهجرة عن ست وستين سنة.


الفضيل بن عياض
قدوة السالكين




ترجمته:

هو الإمام الصالح الفضيل بن مسعود بن بشر، القدوة الثبت شيخ الإسلام أبو علي التيمي اليربوعي الخراساني المجاور لبيت الله المعظم.

ولد بسمرقند ونشأ بأبيورد يقطع الطريق بين أبيورد وسرخس، حتى كانت حادثة الجارية، فتاب إلى الله حيث قد هزّه وحرك وجدانه سماع عابد يتلو {ألم يأن للذين ءامنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق} [سورة الحديد/ءاية:16]، فإذا بلسان يردد "بلى يا رب قد ءان، اللهم إني تبت إليك، اللهم إني تبت إليك"، وارتحل في طلب العلم عاكفًا على الاغتراف من بحوره، يزينه الإخلاص وتقوى الله، حتى كان له شأن عظيم فسبحان الهادي الذي يهدي من يشاء.


علمه وورعه:

ارتحل رضي الله عنه في طلب العلم، فكتب بالكوفة عن الأعمش وليث وجعفر الصادق وخلق سواهم، وحدث عنه الشافعي وابن المبارك وبشر الحافي والسري السقطي وأسد بن موسى الأموي الملقب بأسد السنة وناس ءاخرون. تفقه وحفظ وبرع، وعكف على العبادة والاجتهاد في الطاعة حتى سبق سبقًا عظيمًا، وجاءت شهادات العلماء دلالة على عظيم شأنه ورفعة قدره، فعن إبراهيم بن محمد الشافعي قال: سمعت سفيان بن عيينه يقول: "فضيل ثقة". وعن ابن مهدي قال: "فضيل رجل صالح". وقال النسائي: "ثقة مأمون، رجل صالح". وعن محمد بن سعد قال: "وُلِدَ بخراسان، بكورة أبيورد، وقدم الكوفة وهو كبير، فسمع من منصور وغيره ثم تعبد وانتقل إلى مكة ونزلها إلى أن مات بها في أول سنة سبع وثمانين ومائة في خلافة هارون، وكان ثقة نبيلاً فاضلاً عابدًا ورعًا كثير الحديث".

ومن أخباره رحمه الله، أنه كان شديد الخوف على نفسه، وكان يقرأ القرءان، فيظهر من خلال قراءته الحزن والوجد وشدة الخوف من الله عز وجل، فإذا مر بآية فيها ذكر الجنة سأل الله الجنة، وإذا مر بآية فيها ذكر عذاب استعاذ بالله من النار، ثم هو مع ذلك كثير الصلاة، كان يُلقى له الحصير في مسجده فيصلي من أول الليل مدة ثم تغلبه عيناه فيلقي الحصير فينام قليلاً ثم يقوم، فإذا غلبه النوم نام ثم يقوم، وهكذا حتى يصبح فينصرف من عبادة بالليل إلى عبادة بالنهار.

وكان رحمه الله صحيح الحديث صدوق اللسان شديد الهيبة للحديث إذا حدّث، وربما حدّث فتتغير حاله ويثقل عليه الكلام إجلالاً وهيبة لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رضي الله عنه سريع التأثر بما يسمع من قرءان أو موعظة، غزير الدمع، ولربما بكى أحيانًا حتى يرحمه من يحضره، وكان شديد الفكرة، يريد بعلمه وعمله وجه الله عز وجل، وكان إذا خرج في جنازة لا يزال يعظ ويذكر ويبكي كأنه مودع أصحابه حتى يبلغ المقابر فيجلس بين القبور متعظًا بالموت والأموات فيشتد به البكاء حتى يقوم فيرجع إلى داره رضي الله عنه.

سبحان الله، إن رجلاً بهذه الصفات جدير به حقًا أن يكون من أعيان السادات وأكابرهم مما جعل ألسنة الأعيان تلهج بفضله وذكره، فعن أحمد بن أبي الحواري عن الهيثم بن جميل قال: سمعت شريكًا يقول: "لم يزل لكل قوم حجة في أهل زمانهم، وإن فضيل بن عياض حجة لأهل زمانه". وفي السير عن مردويه قال: "قال لي عبد الله بن المبارك: إن الفضيل بن عياض صَدَقَ اللهَ فأجرى الله الحكمة على لسانه"، وقد جاء عن ابن المبارك أيضًا أنه قال في الفضيل: "إنه من الأبدال" وحري بمن هو من الأبدال أن يكون كما مر ذكره ذا علم وورع وعبادة وصلاح وسداد، فعن أبي بكر عبد الرحمن بن عفان قال: سمعت ابن المبارك يقول: "ما بقي في الحجاز أحد من الأبدال إلا فضيل بن عياض وابنه علي"، وناهيك بهذا فضلاً وشرفًا أن يكون من الأبدال الذين جاء فيهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لن تخلو الأرض من أربعين رجلاً مثل إبراهيم خليل الرحمن، فبهم يُسقون وبهم ينصرون، ما مات منهم أحد إلا أبدل الله مكانه ءاخر". والحديث رواه الطبراني في الأوسط من طريق أنس بن مالك رضي الله عنه.


بين الفضيل والرشيد:

كان هارون الرشيد رحمه الله يكرم أهل العلم والفضل، ويصلهم ويقتبس من أنوارهم وأسرارهم وبركاتهم، فاتصل بكثير من أئمة زمانه كالإمام مالك والفضيل وأثنى عليهما فيما روى الذهبي في السير عن النضر بن شميل قال: سمعت الرشيد يقول: "ما رأيت في العلماء أهيب من مالك ولا أورع من الفضيل".

وفي خبر ءاخر أن الفضيل وعظ الرشيد مرة فأبلغ في القول فجعل الرشيد يبكي حتى جاء الخادم والرشيد يبكي ويشهق، قال الفضيل: فحملوني وقالوا: اذهب بسلام. وفي حادثة طويلة فيها أن الرشيد جاء إلى بيته مع الفضل بن الربيع، قال الفضل: فأتيناه فإذا هو قائم يصلي يتلو ءاية يرددها، فقال: اقرع الباب، فقرعت، فقال بعد أن أنهى صلاته: من هذا قلت: أجب أمير المؤمنين، قال: مالي ولأمير المؤمنين، قلت: سبحان الله، أما عليك طاعة، قال: فنزل ففتح الباب ثم ارتقى إلى الغرفة فأطفأ السراج ثم التجأ إلى زاوية فدخلنا فجعلنا نجول عليه بأيدينا فسبقت كف هارون قبلي إليه. فقال: يا لها من كف ما ألينها إن نجت غدًا من عذاب الله، فقلت في نفسي: ليكلمنه الليلة بكلام نقي، فقال: خذ لما جئناك رحمك الله، فبسط الفضيل بكلام مؤثر يعظ فيه الرشيد قال فيه: إن أردت النجاة فصم الدنيا وليكن فطارك منها الموت، وقال: إن أردت النجاة من عذاب الله فأحب المسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، وإني أقول لك هذا، وإني أخاف عليم أشد الخوف يومًا تزل فيه الأقدام، فهل معك رحمك الله من يشير بمثل هذا. قال الفضل: فبكى الرشيد بكاءً شديدًا حتى غشي عليه ثم أفاق فقال له: زدني رحمك الله، فقال: يا حسن الوجه أنت الذي يسألك الله عن هذا الأمر يوم القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار فافعل، وإياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غشٌ لأحد من رعيتك، قال: فبكى الرشيد، ثم أعطاه ألف دينار، وقال: خذها، فأنفقها على عيالك وتقوّ بها على عبادة ربك، فقال: سلمك الله ووفقك، ورد له المال، فلم يأخذه ثم صمت، قال الفضل: فخرجنا، فقال الرشيد: أبا عباس إذ دللتني فدلني على مثل هذا، هذا سيد المسلمين اليوم. فدخلت امرأة من نسائه فقالت: قد ترى ما نحن فيه من الضيق فلو قبلت هذا المال، فلما سمع الرشيد هذا الكلام قال: ندخل فعسى أن يقبل المال، فلما علم الفضيل صعد السطح فجلس على باب الغرفة، فجاء هارون فجلس إلى جنبه فجعل يكلمه فلا يجيبه، فبينا نحن كذلك إذ خرجت جارية سوداء فقالت: يا هذا قد أكثرت على الشيخ منذ الليلة فانصرف، فانصرفنا.


جملة من جواهر حكمه:

من الطبيعي بالنسبة لإمام كالفضيل أن يكون كلامه تعبيرًا عن ورعه وإخلاصه وشدة شفقته على المسلمين ونصحه لهن بعبارات عظيمة بليغة سديدة منظومة كحبات الدر واللؤلؤ، فمما يؤثر عنه عن الحسين بن زياد قال: سمعت الفضيل كثيرًا يقول: "احفظ لسانك، وأقبل على شأنك، واعرف زمانك، وأخف مكانك" والمراد بقوله: "أخف مكانك" أي اترك حب الظهور والشهرة في الدنيا. وعن هارون الرشيد قال: دخلت عليه فقال لي: فرغ قلبك للحزن وللخوف حتى يسكناه فيقطعاك عن المعاصي ويباعداك من النار.

وعن إبراهيم بن الأشعث عنه قال: "خصلتان تقسيان القلب، كثرة الكلام وكثرة الاكل" وقال: "من أخلاق الأنبياء الحلم والأناة وقيام الليل".

وقال إبراهيم بن الأشعث: رأيت سفيان بن عيينة يقبل يد الفضيل مرتين.

قال الذهبي في السير: وللفضيل رحمه الله مواعظ وقدم راسخ في التقوى، وكان يعيش من صلة ابن المبارك ونحوه من أهل الخير ويمتنع من جوائز الملوك.


وفاته رضي الله عنه:

قال بعضهم: كنا جلوسًا عند الفضيل، فقلنا له: كم سنك فقال:

بلغت الثمانين أوجزتها *** فماذا أؤمل أو أنتظر
علتني السنون فأبلينني *** فدق العظام وكل البصر

وبعد حياة حافلة بالجد والتقوى والزيادة في الخير والبركات أتاه اليقين وقد جاوز الثمانين من عمره فتوفي في المحرم أول سنة سبع وثمانين ومائة من الهجرة المشرفة، وكانت وفاته بمكة المكرمة، وهو يومها شيخ الحجازيين رحمه الله.

اللهم ارحم الفضيل بن عياض، وانفعنا ببركاته وبركات الصالحين، والحمد لله رب العالمين.


الإمام الأكبر
أبو حنيفة النعمان



ترجمته:

هو أبو حنيفة النعمان بن ثابت، قال ابن خلكان: أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطى بن ماه الفقيه الكوفي، مولى تيم الله ابن علبة. وقيل في نسبه أيضًا إنه النعمان بن ثابت بن المرزُبان. ولد سنة ثمانين للهجرة وكان خزَّازًا يبيع الخز وهو نوع من النسيج، طلب العلم في صباه ثم اشتغل بالتدريس والإفتاء، وأدرك ستة من الصحابة وروى عنهم وهم: أنس بن مالك وعبد الله بن أنس، وواثلة بن الأسقع، وعبد الله بن أبي أوفى، وعبد الله بن جزء الزبيدي، ومعقل بن يسار.

أخذ الفقه عن حماد بن أبي سليمان وسمع من عطاء بن أبي رباح وأبي إسحاق السبيعي ومحارب بن دثار والهيثم بن حبيب الصوّاف ومحمد بن المنكدر ونافع، وروى عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وأبي الحسن زيد بن الحسين رضي الله عنهم، وأبي بكر الزهري.

ويبلغ عدد مشايخه من التابعين الذين روى عنهم نحو المائتين.

ومن تلامذته عُبيد الله بن المبارك، وأشهرهم أبو يوسف القاضي ومحمد بن الحسن الشيباني، وغيرهم كثير.


مناقبه:

لم يبلغ الإمام المجتهد أبو حنيفة رضي الله عنه من العلم والمرتبة وقوة الحجة ما بلغ لو لم يكن قوي القريحة متفتح الذهن قوي الحافظة، إذ روي عنه من العجائب في القضاء والفقه ما يشهد بتفوقه وذكائه، من ذلك أن رجلاً أتاه وقال له: يا إمام، دفنتُ مالا مدة طويلة ونسيت الموضع الذي دفنته فيه، فقال الإمام: اذهب فصلّ الليلة إلى الغداة فإنك ستذكره إن شاء الله، ففعل الرجل فلم يمضِ إلا أقل من ربع الليل حتى ذكر الموضع الذي دفن فيه المال، فجاء إلى أبي حنيفة رضي الله عنه وأخبره بذلك فقال: لقد علمتُ أن الشيطان لا يدعك تصلي الليل كله، فهلا أتممت ليلتك كلها شكرًا لله.

ويروي أصحاب التواريخ والسير والتراجم القصص الكثيرة عن ذكائه وفطنته وقوة قريحته.

لقد كان الإمام رضي الله عنه رجلاً زاهدًا ورعًا تقيًا كثير الخشوع دائم التضرع إلى الله تعالى، فقد روى ابن خلكان في "وفيات الأعيان" عن أسد بن عمرو أنه قال: صلى أبو حنيفة فيما حُفظ عليه صلاة الفجر بوضوء العشاء أربعين سنة، وكان عامة ليله يقرأ جميع القرءان في ركعة واحدة، وكان يُسمع بكاؤه في الليل حتى يشفق عليه جيرانه، وحفظ عليه أنه ختم القرءان في الموضع الذي توفي فيه سبعة ءالاف مرة.

وقال يزيد بن الكُميت: كان أبو حنيفة شديد الخوف من الله، فقرأ بنا علي بن الحسين المؤذن ليلة العشاء سورة {إذا زلزلت} وأبو حنيفة خلفه، فلما قضى الصلاة وخرج الناس نظرت إلى أبي حنيفة وهو جالس يتفكر ويتنفس، فلما خرجت تركت القنديل فيه زيت قليل يكاد ينطفئ، فجئت وقد طلع الفجر وهو قائم وقد أخذ بلحيته وهو يقول: يا من يجزي بمثقال ذرة خير خيرًا، ويا من يجزي بمثقال ذرة شر شرًا، أجِر النعمان عبدك من النار ومما يقرب منها من السوء، وأدخله في سعة رحمتك، قال: فأذّنت والقنديل يُزهر، فلما دخلتُ قال لي: اكتم عليَّ ما رأيت، وركع ركعتين وجلس حتى أقمتُ الصلاة وصلى معنا الغداة على وضوء أول الليل.

وقد أراد الخليفة المنصور أن يوليه القضاء فأبى، فحلف المنصور ليفعلنَّ، فحلف الإمام ألا يفعل، فقال الربيع بن يونس الحاجب: ألا ترى أمير المؤمنين يحلف فقال: أمير المؤمنين على كفارة أيمانه أقدر مني على كفارة أيماني، وأبى أن يلي.

وروي عن الربيع أنه قال: رأيت المنصور ينازل أبا حنيفة في أمر القضاء فقال أبو حنيفة: اتَّقِ الله ولا تُرعي أمانتك إلا من يخاف الله، والله ما أنا مأمون الرضا فكيف أكون مأمون الغضب ولا أصلح لذلك، فقال له المنصور: كذبت، أنت تصلح، فقال له: قد حكمت لي على نفسي، كيف تولي قاضيًا على أمانتك وهو كذّاب وكان يزيد بن عمر بن هُبيرة الفزاري أمير أراده أن يلي القضاء بالكوفة أيام مروان بن الحكم فأبى عليه فضربه مائة وعشرة أسواط في كل يوم عشرة، فلما رأى امتناعه عن القضاء خلَّى سبيله.


علمه وقوة حجته:

لقد كان الإمام رضي الله عنه مجتهدًا مطلقًا قوي الحجة. وقد كان في وقته سيف السنة المسلط على رقاب المعتزلة، فقد تتبع مجالسهم في البلاد وناظرهم وأقام عليهم الحجة، وبلغ في علم الكلام [وهو علم التوحيد] أنه كان المشار إليه بين الأنام، وكان معتمد أهل السنة وأشهرهم في الرد على أهل الاهواء ولا سيما المعتزلة. وقد نقل صاحب كتاب "التبصرة البغدادية" عن الإمام أبي عبد الله الصيمري أن الإمام كان متكلم هذه الأمة في زمانه وفقيههم في الحلال والحرام.

ونقل الخطيب في تاريخه عن حرملة بن يحيى عن الشافعي أنه قال: من أراد أن يتبحر في الفقه فهو عيال على أبي حنيفة. وروى كذلك الشافعي أنه قيل لمالك رضي الله عنه: هل رأيت أبا حنيفة فقال: نعم، رأيت رجلاً لو كلّمك في هذه السارية أن يجعلها ذهبًا لقام بحجته.

وذكر الخطيب في "تاريخ بغداد" أيضًا أن أبا حنيفة رأى في المنام كأنه ينبش قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث من سأل ابن سيرين فقال: صاحب هذه الرؤيا يثور علمًا لم يسبقه إليه أحد قبله.


عقيدته:
كان الإمام رضي الله عنه على عقيدة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم إذ التقى ببعضهم وأخذ عنهم، وشأنه شأن غيره من أئمة السلف الذين هم على عقيدة التوحيد وتنزيه الله تعالى عن التشبيه والجسمية والمكان، ويدل على ذلك ما جاء في كتابه "الفقه الأبسط" وهو قوله: "كان الله ولا مكان، كان قبل أن يخلق الخلق، كان ولم يكن أينٌ ولا خَلْق ولا شيء وهو خالق كل شيء".

ومن نفيس كلامه في تنزيه الله تعالى عن كل ما هو من صفات الأجسام قوله في الفقه الاكبر: "يده صفته بلا كيف" أي أن اليد صفة له من غير أن تكون جارحة، وقال أيضًا: "والله واحد لا من طريق العدد ولكن من طريق أنه لا شريك له، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، لا جسم ولا عَرَض ولا حدَّ له ولا ضد ولا ند ولا مثل، لا يشبه شيئًا من خلقه، ولا يشبهه شيء من خلقه، وهو شيء لا كالأشياء".

كما كان أيضًا من المنزهين لله تعالى عن الصوت والحروف واللغة، إذ بيَّن أن كلام الله تعالى الذاتي الأزلي الأبدي ليس بحرف ولا صوت فقال في "الفقه الأبسط" ما نصه: "ويتكلم لا ككلامنا، نحن نتكلم بالآلات من المخارج والحروف والله متكلم بلا ءالة ولا حرف، فصفاته غير مخلوقة ولا مُحدثة، والتغير والاختلاف في الأحوال يحدث في المخلوقين، ومن قال إنها مُحدثة أو مخلوقة أو توقف أو شك فهو كافر".

وفي كل هذا بيان ودليل ساطع على أن علم الكلام الذي هو علم التوحيد المتعلق بمعرفة ما يجب لله من الصفات وما يستحيل عليه من الصفات، هو علم ممدوح بدليل أن الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه كان من أكثر الناس اشتغالاً به في وقته، وكان تبحره في هذا العلم هو سلاحه المشهور على أهل الأهواء والضلال ولا سيما المعتزلة، إذ تتبعهم في البلاد ودحض مزاعمهم وأبطل شبهاتهم وبيَّن زيفهم. إلى هذا فإن كتابيه "الفقه الأكبر" و"الفقه الأبسط" دليل ساطع على خوضه في علم الكلام من خلال إقامته الأدلة العقلية والنقلية على مسائل علم الكلام التي هي على مذهب أهل السنة والجماعة.


وفاته:

كانت وفاته سنة مائة وخمسين للهجرة، وهي السنة التي وُلد فيها الإمام الشافعي لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى فقيل "مات قمر وولد قمر". وقيل مات في السجن لرفضه أن يلي القضاء، وقيل إنه لم يمت في السجن. وقد خرج في جنازته قريب الخمسين ألفًا فصلي عليه ودفن في مقبرة الخيزران في بغداد، رحمات الله الواسعة عليه.


الإمام الليث بن سعد



ترجمته:

الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي ينسب إلى فهم وهم بطن من قيس عيلان أبو الحارث إمام أهل مصر في عصره ولد في شعبان سنة أربع وتسعين للهجرة وتوفي سنة مائة وخمس وسبعين للهجرة.

أصله من خراسان ومولده في قلقشنده ووفاته في القاهرة كان من الكرماء الأجواد، يعلم الأحكام مليًا، ويبذل الأموال سخيًا.

ويروى عن الشافعي أنه قال: "الليث بن سعد أتبع للأثر من مالك بن أنس".

وفي رواية أخرى: "الليث بن سعد أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به" ولذلك اندثر مذهبه خصوصًا عند انتشار تلاميذ مالك والشافعي.


كرمه:

ومما يروى عن كرمه أن امرأة جاءت إلى الليث بن سعد فقالت إن لي أخًا وصف له العسل فهب لي سكرجة، فقال: يا غلام املأ سكرجتها عسلاً وأعطها زقًا من عسل فقال الغلام: إنها سألت سكرجة، قال: سألت بقدرها وأعطيناها بقدرنا وحق لي ذلك إني امرؤ ابن أصبهان.

وكان الليث يستغل مائة ألف دينار مل سنة وما وجب عليه زكاة قط لأن الحول كان لا ينقضي عنه حتى ينفقها ويتصدق بها وكان له قرية بمصر يقال لها الفرما يحمل إليه من خراجها فيجعل ذلك صررًا ويجلس على باب داره ويُعطي صُرة لهذا وصرة لهذا حتى لا يدع إلا اليسير.


زهده وورعه:

أما عن زهده فيروى الكثير قال يحيى بن بكير: رأيت الفقراء يزدحمون على باب الليث بن سعد وهو يتصدق عليهم حتى لم يبق أحد منهم، ثم مشى وأنا معه على سبعين بيتًا من الأرامل ثم انصرف فمشيت معه فبعث غلامه بدرهم فاشترى خبزًا وزيتًا ثم جئت إلى بابه فرأيت أربعين ضيفًا جاء إليه باللحوم والحلوى فسألت غلامه بالله عليك لمن الخبز والزيت فقال: يطعم ضيفانه اللحم والحلوى وما رأيته يأكل إلا خبزًا وزيتًا.


مناقبه:

وكان الإمام الليث كثير الاتصال بمجالس العلم، وكان يغشى مجالسها أينما كانت، فحدث أنه حج سنة ثلاث عشرة ومائة فسمع من ابن شهاب الزهري ومن ابن مليكه، وعطاء بن أبي رباح ونافع وعقيل وعمر بن أنس وغيرهم في تلك السنة وكفاه فخرًا أنه شيخ مشايخ البخاري ومسلم. وروى البخاري عن يونس بن عبد الأعلى عن الإمام الليث بن سعد.


وفاته:

توفي الإمام الليث رضي الله عنه سنة خمس وسبعين ومائة أي قبل وفاة الإمام مالك بأربع سنوات وقيل غير ذلك. ودفن في مصر في مقابر "الصدف" وقيل إن قبره كان "كالمصطبة" ثم بني عليه هذا المشهد. وهو مكان مبارك معروف بإجابة الدعاء.

وبالمشهد أيضًا قبر الفقيه الإمام المحدث شعيب بن الليث بن سعد، كان من أجلاء العلماء وهو معدود من المحدثين. قال ابن أبي الدنيا: حج شعيب بن الليث سنة من السنين فتصدق بمال عظيم فمر عليه رجل من العلماء فسأل عنه فقيل له: هذا العالم الكريم ابن العالم الكريم.

ولما فقد مال أبيه بعد موته رحل إلى الشم ودخل دمشق فجاءه رجل فقال: أنا عبد أبيك ومعي لأبيك تجارة بالفي دينار، وأنا الآن في الرق فخذ مال أبيك وأعتقني إن شئت وإلا فبعني، فقال: أنت حر والمال بيدك هبة مني إليك.

قال الخطابي: فلا أدري أيهما أفضل: العبد في إقراره بالمال أم السيد حين أعتقه واعطاه المال.


تاريخ الجامع:

يقع مسجده الآن في شارع الإمام الليث. يقول المقريزي: اشتهر قبره أنه كان مصطبة في ءاخر قباب الصدفيين، وكان عددها أربعمائة قبة، وقد كتب على مصطبة الإمام ما نصه "الإمام الفقيه الزاهد العالم الليث بن سعد بن عبد الرحمن أبو الحارث المصري مفتي أهل مصر".

وقد جُدد هذا الضريح في عهد السلطان المملوكي برقوق ثم الأشرف قايتباي ثم أقيمت مئذنة الجامع في الطرف الغربي منه في عهد الأمير "يشبك داودار" الأشرفي.

وكذلك أجرى السلطان الغوري عدة تجديدات بالمسجد على المدخل الرئيسي مكتوب داخل دائرة: "أمر بإنشاء هذا الباب الشريف من فضل الله تعالى سيدنا ومولانا ومالك رقابنا السلطان الملك الأشرف أبو النصر قانصوه الغوري عزّ نصره في مستهل رجب المفرد من سنة إحدى عشرة وتسعمائة" ويرجع تاريخ القبة والمقصورة الموجودتين الآن على ضريح الإمام إلى العمارة التي قام بها الامير "موسى جوربجي مرزا مستحفظان"، وكان الفراغ منها يوم الخميس في الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة سنة ألف ومائة وثمان وثلاثين للهجرة.


وصف الجامع:

يتكون جامع الليث بن سعد من مستطيل تتقدمه مداخل عدة، تهبط إلى المدخل عدة درجات، وقد ثبت على المدخل لوحتان مؤرختان سنة ألف ومائة وأربع وتسعين للهجرة –ألف ومائتين وواحد للهجرة مكتوب عليها:

إذا رمت المكارم من كريم *** فيمم من بنى للفضل بيتا
فذاك الليث من يحمى حماه *** ويكرم جاره حيًا وميتا

ويلي المدخل الخارجي باب ءاخر يؤدي إلى طرقة كبيرة بها عامودان رخاميان، ثم الباب الثالث الذي جدده قانصوه الغوري سنة تسعمائة وإحدى عشرة للهجرة، وقد ركب على هذا الباب مصراعان من الخشب ذي الزخارف المحفورة حفرًا عميقًا. ويؤدي الباب إلى المسجد المستطيل وينتهي بحائط القبلة حيث يوجد المحراب والمنبر.

يقع ضريح الإمام الليث بن سعد في الضلع الجنوبي للمسجد وهو عبارة عن حجرة مربعة أقيمت بواسطة قبة صغيرة محمولة على أربعة أعمدة رخامية بها قواعد، وتيجان بها زخارف عربية، وكتابات كوفية منها "بكة كاملة" و"نعمة شاملة".

رحم الله الإمام العالم الجليل الليث بن سعد الذي وقف على قبره الإمام الشافعي وقال: لله درّك يا إمام، لقد حزت أربع خصال لم يكملهن عالم: العلم والعمل والزهد والكرم.



الإمام مالك بن أنس
إمام دار الهجرة




ترجمته:

هو أبو عبد الله مالك بن أنس بن أبي عامر أنس بن الحارث بن غيمان الأصبحي المدني وينتهي نسبه إلى يعرب بن يشجب بن قحطان. جده مالك بن أنس من كبار التابعين وأحد الذين حملوا الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه ليلاً إلى قبره كما ذكر ذلك القشيري، ووالد جده هو الصحابي أبو مالك الذي شهد المغازي كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خلا بدرًا، وأما والدة الإمام مالك رضي الله عنه فهي العالية بنت شريك بن عبد الرحمن الأسدية، وأبناؤه هم: يحيى ومحمد وحماد. والإمام مالك هو أحد أصحاب المذاهب الأربعة المدونة المعروفة والمشهورة في بلاد المسلمين.

ولد في المدينة المنورة سنة خمس وتسعين للهجرة نشأ مُجدًا في التحصيل والرواية وقد أخذ العلم وروى عن عدد كبير من التابعين وتابعيهم الذين يعدون بالمئات نذكر منهم: نافع مولى بن عمر، وابن شهاب الزهري، وأبا الزناد وعائشة بنت سعد بن أبي وقاص، ويحيى بن سعيد الأنصاري.

ولقد كان رحمه الله إمام دار الهجرة، فانتشر علمه في الامصار واشتهر في سائر الاقطار وضربت إليه أكباد الإبل وارتحل الناس إليه من شتى الأنحاء، فكان يدرّس وهو ابن سبع عشرة سنة، فمكث يُفتي ويعلم الناس، حتى إن كثيرًا من مشايخه رووا عنه كمحمد بن شهاب الزهري، وربيعة بن أبي عبد الرحمن فقيه أهل المدينة، ويحيى بن سعيد الأمصاري، وموسى بن عقبة وروى عنه كثير من الرواة حتى إن القاضي عياضًا ألف كتابًا عدّ فيه ألفًا وثلاثمائة اسم ممن روى عن الإمام رضي الله عنه، أشهرهم شفيان الثوري والإمام المجتهد محمد بن إدريس الشافعي وعبد الله بن المبارك.


مناقبه:

كثير من علماء التابعين قالوا إن الإمام مالكًا رضي الله عنه هو الذي بشّر به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل فلا يجدون أعلم من عالم المدينة".

ولقد كان الإمام مالك بن أنس معظمًا للعلم حتى إنه إذا أراد أن يحدث توضأ وصلى ركعتين وجلس على صدر فراشه وسرح لحيته واستعمل الطيب وتمكن في الجلوس على وقار وهيبة ثم حدث، فقيل له في ذلك، فقال: أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحدث به إلا متمكنًا على طهارة.

وكان الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه معظمًا للنبي صلى الله عليه وسلم موقرًا له، فقد قال مصعب بن عبد الله: كان مالك إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه، فقيل له يومًا في ذلك فقال: "لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم عليّ ما ترون ولقد كنت أرى محمد بن المنكدر وكان سيد القراء لا نكاد نسأله عن حديث أبدًا إلا يبكي حتى نرحمه ولقد كنت أرى جعفر بن محمد كان كثير الدعابة والتبسم فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم اصفر وما رأيته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على طهارة، ولقد اختلفت إليه زمانًا فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مصليًا وإما صامتًا وإما يقرأ القرءان، ولا يتكلم فيما لا يعنيه وكان من العلماء والعباد الذين يخشون الله عز وجل.

يروى من أن الخليفة هارون الرشيد قدم إلى المدينة المنورة وكان قد بلغه أن الإمام مالكًا يقرأ الموطأ على الناس، فأرسل إليه البرمكي وقال له: اقرأ عليه السلام وقل له يحمل إليّ الكتاب فيقرأه عليّ، فأتاه البرمكي فأخبره فقال الإمام رضي الله عنه: اقرأ على أمير المؤمنين السلام وقل له إن العلم يُزار ولا يزور، وإن العلم يؤتى ولا يأتي، فقصد الرشيد منزل الإمام واستند إلى الجدار فقال له الإمام مالك: يا أمير المؤمنين، من إجلال رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلال العلم.

ولم يكن هذا الفعل من الإمام تكبرًا على الخليفة، بل كان ذلك لمصلحة شرعية هي بيان فضل العلم والعلماء وتعليم الناس سواء كانوا حكامًا أو محكومين أن يُجلّوا العلم ويوقروه ويكون له في نفوسهم رهبة وهيبة، وإلا فالإمام مالك رضي الله عنه كان من أشد أهل عصره تواضعًا ولينًا.

وكان الناس إذا أتوا الإمام مالكًا خرجت إليهم جارية له فتقول لهم: يقول لكم الشيخ تريدون الحديث أو المسائل فإذا قالوا المسائل خرج إليهم، وإن قالوا الحديث دخل مغتسله واغتسل وتطيب ولبس ثيابًا جددًا ولبس ساجه وتعمم ووضع رداءه وتلقى له منصة فيخرج فيجلس عليها وعليه الخشوع ولا يزال يبخر بالعود حتى يفرغ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رحمه الله لا يجلس على تلك المنصة إلا إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل في ذلك لمالك فقال: أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحدث به إلا على طهارة متمكنًا.

قال الدراوردي رحمه الله: رأيت في المنام أني دخلت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت النبي عليه الصلاة والسلام يعظ الناس إذ دخل عليه مالك فلما رءاه النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إليَّ إلي" فأقبل حتى دنا منه فنزع النبي صلى الله عليه وسلم خاتمه من أصبعه فوضعه في خنصر مالك رضي الله عنه فأولته بالعلم وكان العلماء يقتدون بعلمه والأمراء يستضيئون برأيه، والعامة منقادين إلى قوله، فكان يأمر فيمتثل بأمره بغير سلطان. ولقد قال الإمام ابن حبان في "الثقات": كان مالك أول من انتقى الرجال من الفقهاء بالمدينة، وأعرض عمن ليس بثقة في الحديث، ولم يرو إلا ما صح ولا يحدث إلا عن ثقة مع الفقه والدين والفضل والنسك.

ثم إن أقوال الكثيرين من علماء عصره جعلنا نتبين مدى حرصه على دين الله فقد قال الإمام الشافعي عنه: إذا ذكر العلماء فمالك النجم، وقال ابن معين: مالك من حُجج الله على خلقه، وقال يحيى بن سعيد القطان: مالك أمير المؤمنين في الحديث، وقال ابن سعيد: كان مالك ثقة مأمونًا ثبتًا ورعًا فقيهًا عالمًا حجة.


عقيدته:

كان الإمام رضي الله عنه مقتديًا بالسنة المطهرة التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وأهل بيته، وكان مولده بالمدينة المنورة وتفقهه على علمائها سببًا في اضطلاعه بالسنة النبوية المطهرة وأحوال أهل مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم فكان على عقيدة التنزيه لله عن مشابهة الخلق وعن المكان وعن الهيئة والصورة والحركة والانتقال والتغير.

وثبت أن مالكًا أول الاحاديث المتشابهة التي يوهم ظاهرها التجسيم والحركة والانتقال والسكون، ففي تأويل مالك لهذه الأحاديث نقل البيهقي بإسناده عن الأوزاعي ومالك وسفيان والليث بن سعد أنهم سئلوا عن هذه الاحاديث فقالوا: "أمروها كما جاءت بلا كيفية" ذكره في كتابه الأسماء والصفات، وثبت عنه ما رواه البيهقي بإسناد جيد من طريق عبد الله بن وهب قال: كنا عند مالك فدخل رجل فقال: يا أبا عبد الله، الرحمن على العرش استوى كيف استوى؟ فأطرق مالك فأخذته الرحضاء [أي كثرة العرق] ثم رفع رأسه فقال: الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه ولا يقال كيف وكيف عنه مرفوع وما أراك إلا صاحب بدعة، أخرجوه فقول مالك: وكيف عنه مرفوع أي ليس استواؤه على عرشه كيفًا أي هيئة كاستواء المخلوقين من جلوس ونحوه.

وروى البيهقي من طريق يحيى بن يحيى أحد تلاميذ مالك رواية أخرى عن الإمام مالك وهي قوله: "الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول"، أي أن الاستواء معلوم وروده في القرءان، والكيف غير معقول أي أن الاستواء بمعنى الكيف أي الهيئة كالجلوس لا يعقل أي لا يقبله العقل لكونه من صفات الخلق لأن الجلوس لا يصح إلا من ذي أعضاء أي ألية وركبة وتعالى الله عن ذلك.

وأما رواية "والكيف مجهول" فهي غير صحيحة لم تصح عن أحد من السلف ولم تثبت عن مالك ولا غيره من الأئمة رواية.

وثبت عن مالك التأويل في حديث النزول أنه قال: "نزول رحمة لا نزول نقلة"، وروي عنه كذلك في تأويل هذا الحديث: "ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول هل من داع فأستجيب له" أي حديث النزول، أنه على سبيل الاستعارة ومعناه الإقبال على الداعي بالإجابة واللطف والرحمة وقبول المعذرة، ليس على معنى الانتقال الحسي من مكان إلى ءاخر.


الموطأ:

هو أول كتا وُضعت فيه الأحاديث مصنفة ومبوبة، ومعناه الممهد كما أنه أول كتاب ألف في الحديث والفقه معًا، واستغرق تأليفه أربعين سنة. وقد اشتمل على الكثير من الأسانيد التي حكم المحدثون بأنها أصح الأحاديث.

فقد قال الشافعي في الموطأ: ما ظهر كتاب على الأرض بعد كتاب الله أصح من كتاب مالك، وفي عصره قيل فيه: "أيفتى ومالك في المدينة".


علمه:

سئل مالك رحمه الله عن طلب العلم فقال: "حسن جميل ولكن انظر إلى الذي يلزمك من حين تصبح إلى حين تمسي فالزمه". وكان رحمه الله في تعظيم علم الدين على درجة عالية، حتى إذا أراد أن يحدّث توضأ وجلس على صدر فراشه وسرّح لحيته واستعمل الطيب وتمكن من الجلوس على وقار وهيبة ثم حدّث، فقيل له في ذلك، فقال: أحب أن أعظِّم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإرادته وجه الله تعالى بالعلم، فقد جاء عن مالك رضي الله عنه أنه سئل ثمانية أربعين سؤالاً فأجاب عن ستة وقال عن البقية لا أدري.


زهده:

أما زهده في الدنيا فكبير، فقد روي أن الرشيد سأله: هل لك دار فقال: لا، فأعطاه ثلاثة ءالاف دينار وقال: اشتر بها دارًا، فأخذها ولم ينفقها، عندها قال الرشيد لمالك رحمه الله: ينبغي أن تخرج معنا فإني عزمت على أن أحمل الناس على الموطأ. فقال له: أما حمل الناس على الموطأ فليس إليه سبيل، لأن أصحاب الرسول افترقوا في الامصار فحدثوا، فعند أهل كل مصر علم، وأما الخروج معك فلا سبيل إليه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون" متفق عليه. وقال عليه الصلاة والسلام: "المدينة تنفي خَبثها كما ينفي الكير خبث الحديد" متفق عليه. وهذه دنانيركم كما هي إن شئتم فخذوها وإن شئتم فدعوها. يعني أنك إنما تكلفني مفارقة المدينة لما اصطنعته إليَّ، فلا أوثر الدنيا على مدينة رسول الله عليه الصلاة والسلام.

لقد كان الإمام مالك زاهدًا في أمر الدنيا، وقد أفلح الزاهدون، ولما حُملت إليه الأموال الكثيرة من أطراف الدنيا لانتشار علمه وأصحابه، كان يفرقها في وجوه الخير. ودلّ على زهده سخاؤه وقلة حبه للدنيا، وليس الزهد فقد المال، وإنما الزهد فراغ القلب عنه، ومما يدل على استحقاره للدنيا ما روي عنه أنه قال: "دخلت على هارون الرشيد فقال لي: يا أبا عبد الله ينبغي أن تختلف حتى يسمع صبياننا منك الموطأ، قال: فقلت: أعزّ الله مولانا الأمير، إنَّ هذا العلم منكم خرج، والعلم يؤتى ولا يأتي. فقال: صدقت، اخرجوا إلى المسجد حتى تسمعوا مع الناس.


وفاته:

كانت وفاته في المدينة المنورة لعشر خلون من ربيع الأول سنة مائة وتسعة وسبعين للهجرة، ودفن في البقيع بجوار إبراهيم ولد النبي صلى الله عليه وسلم ورثاه العديد من الشعراء منهم جعفر بن أحمد السراج بقوله:

سقى جدثًا ضمَّ البقيعُ لمالك ***** من المزن مرعاد السحائب مبراقُ
إمام موطاه الذي طبقت به ***** أقاليم في الدنيا فساح وءافاق
أقام به شرع النبي محمد ***** له حذر من أن يضام وإشفاقُ
له سند عال صحيح وهيبة ***** فللكل منه حين يرويه إطراقُ
وأصحاب صدق كلهم علم فسل ***** بهم إنهم إن أنت ساءلت حذاقُ
ولو لم يكن إلا ابن إدريس وحده ***** كفاه ألا إن السعادة أرزاق

رحم الله الإمام مالك بن أنس ونفعنا بعلمه.


الإمام الأوزاعي



ترجمته:

هو أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن يُحْمَد الأوزاعي، نسبة إلى الأوزاع وهي قبيلة يمنية نزل أناس منها في قرية من قرى دمشق عند باب الفراديس فسميت باسمهم وظلت معروفة إلى القرن التاسع الهجري ثم شملها العمران فاندثرت. وقيل إنه سمي بذلك لنزوله في هذه المحلة.

وقال بعض النسابين إن الأوزاع في الأصل بطن من ذي الكلاع ملك حِمير، وبنو حمير من العرب القحطانيين في اليمن، خرجوا وتفرقوا في البلاد بعد حادثة سد مأرب الذي فاضت مياهه فاغرقت القرى، أما ياقوت الحموي فقال إنه ينتسب إلى بني همدان التي هي قبيلة يمنية كان منها رجال أبطال جاهدوا في الإسلام جهادًا عظيمًا.

ولد الإمام الأوزاعي في بعلبك سنة ثمانية وثمانون للهجرة ونشأ يتيمًا في حجر أمه التي كانت تتنقل به من بلد إلى ءاخر ومن عالم إلى ءاخر، فنشأ تنشئة دينية صالحة، وكان يتنقل بين الشام واليمن والحجاز والبصرة وغيرها طالبًا العلم يستقيه من مناهله العذبة الطاهرة.


من مناقبه:

روى الحافظ أبو نُعيم في "حلية الأولياء" أن أبا جعفر المنصور قد بعث إلى الإمام الجليل الأوزاعي، فلما دخل عليه قال المنصور: ما الذي أبطأ بك عنا يا أوزاعي؟ قال: وما الذي يريده أمير المؤمنين؟ قال المنصور: أريد الأخذ عنكم والاقتباس منكم، قال الإمام: انظر لا تجهل شيئًا مما أقول، قال المنصور: كيف أجهله وأنا أسألك عنه وقد وجهت فيه إليك؟ قال: أن تسمعه ولا تعمل به، فصاح الربيع به، وأخذ السيف بيده، فانتهره المنصور وقال للربيع: هذا مجلس مثوبة لا عقوبة، فحينئذ قال الإمام الأوزاعي: يا أمير المؤمنين، حدثني مكحول عن عطية بن بسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما عبد جاءته من الله موعظة في دينه فإنها نعمة من الله سيقت إليه، فإن قبلها بشكر وإلا كانت حجة من الله عليه ليزداد بها إثمًا ويزداد الله عليه بها سخطًا" [رواه البيهقي]، يا أمير المؤمنين، حدثني مكحول عن عطية بن بسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما والٍ بات غاشًا لرعيته حرم الله عليه الجنة" [رواه البيهقي]، يا أمير المؤمنين، إن الذي يُلين قلوب أمتّكم لكم حين وليتم أمورها قرابتكم من نبيكم صلى الله عليه وسلم، وقد كان بهم رؤوفًا رحيمًا مواسيًا نفسه بهم في ذات يده، وإنك عند الناس لحقيق أن تقوم فيهم بالحق وأن تكون بالقسط فيهم قائمًا ولعوراتهم ساترًا، لم تغلق عليك دونهم الأبواب، ولم تُقم عليك دونهم الحُجَّاب، تبتهج بالنعمة عندهم وتبتئس بما أصابهم من سوء.

ولم يكن هذا إلال نزرًا يسيرًا من الموعظة التي وعظ الإمام الأوزاعي أبا جعفر المنصور أياها، وهي موعظة طويلة فيها من المعاني العظيمة والحِكم ما جعل المنصور يبكي بكاءً شديدًا.

وذلك كان شأن الإمام الأوزاعي الذي كان لا يبخل بالنصيحة في موضعها عملاً بقول الله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} [ءال عمران/ ءاية110].


مشايخه:

نشأ في بلدة الكرك من البقاع حيث تلقى مبادئ العلوم وحفظ القرءان الكريم وحظًا من اللغة، ثم توجه إلى دمشق حيث لازم مكحولاً الذي كان فقيه الشام ءانذاك وواحدًا من حفاظ الحديث، فأخذ عنه الكثير وقرأ عليه حتى عُدَّ مكحول معلم الأوزاعي.

ثم رحل إلى اليمامة حيث أخذ عن يحيى بن كثير وانقطع إليه زمنًا، كما كان له صلة بآل البيت كالإمام زيد بن علي زين العابدين والإمام محمد الباقر، والإمام جعفر الصادق رضوان الله عليهم وغيرهم.

وتلقى الحديث والفقه عن عطاء بن أبي رباح أحد أعلام التابعين، وقتادة وهو أحد أعلام المفسرين واللغويين، ومحمد بن شهاب الزهري أحد أئمة المدينة المنورة، ونافع بن عمر الذي أخذ الأوزاعي عنه علم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وبقي الإمام دائبًا على تلقي العلوم الإسلامية ومتتبعًا ءاثار الصحابة والتابعين حتى اكتملت عنده شروط الاجتهاج فصار مجتهدًا مطلقًا سديدًا موفقًا في اجتهاداته، وسار مذهبه في بلاد الشام والمغرب والأندلس قريب المائتي سنة.


صفاته وأخلاقه:

لقد كان الإمام إلى جانب علمه رجلاً زاهدًا تقيًا كثير العبادة قليل الكلام، فقد ورد عن الوليد بن مسلم أنه قال عنه: ما رأيت أحدًا أكثر اجتهادًا من الأوزاعي في العبادة، وكان إذا صلى الصبح جلس يذكر الله تعالى حتى طلوع الشمس.

أما ابن عساكر فقد قال عنه: كان الأوزاعي كثير العبادة حسن الصلاة، ورعًا، طويل الصمت.

وكان رضي الله عنه كثير البكاء والتهجد والابتهال في دعائه، ولم يُرَ قط ضاحكًا يقهقه بل كان غاية ذلك أن يبتسم، وكان لا يبكي في مجلسه، فإذا دخل بيته كان يبكي حتى يشفق عليه.

ويروى أن امرأة دخلت على امرأة الإمام فرأت الحصير الذي يصلي عليه مبلولاً فقالت: لعل الصبي بال هنا؟ فقالت: هذا أثر دموع الشيخ في سجوده، هكذا يصبح كل يوم.

استوطن بيروت مع زوجه وأولاده، فقد روى الحافظ أبو نعيم في "حلية الأولياء" عن الإمام الأوزاعي أنه قال: أعجبني في بيروت أني لما مررت بقبورها رأيت امرأة سوداء فقلت لها: أين العمارة يا هنتاه؟ فقالت: إن أردت العمارة فهي هذه [وأشارت إلى القبور]، وإن أردت الخراب فأمامك [مشيرة إلى البلدة]، قال: فعزمت على الإقامة فيها، وذلك لما مس فيها من الزهد والتقوى ءانذاك.


مواعظه ورسائله:

لقد كان الإمام الأوزاعي ذا باع طويل في البلاغة وحسن البيان بحيث يفوق الكثير من أعلام الأدب في عصره، وكانت عباراته صادقة اللهجة متينة السبك قوية المعاني، وقد ظهر ذلك في ناحيتين اثنتين: مجالسه التي كان يعقدها، ومراسلاته إلى الأمراء والعلماء وطلاب العلم.

ومن هذه الرسائل ما أرسله إلى أبي جفر المنصور بعدما وقع الألوف من المسلمين أسرى لدى الروم وأبى المنصور أن يفادي بهم، فأرسل إليه الإمام الأوزاعي رسالة فيها: "أما بعد فإن الله تعالى استرعاك أمر هذه الأمة لتكون فيها بالقسط قائمًا وبنبيه صلى الله عليه وسلم في خفض الجناح والرأفة متشبهًا، وأسأل الله تعالى أن يسكن على أمير المؤمنين دهماء هذه الأمة ويرزقه رحمتها، فإن سايحة المشركين غلبت عام أول وموطؤهم حريم المسلمين، واستنزالهم العواتق والذراري من المعاقل والحصون، وكان ذلك بذنوب العباد، وما عفا الله عنه أكثر، فبذنوب العباد استنزلت العواتق والذراري من المعاقل والحصون، لا يلقون لهم ناصرًا ولا عنهم مدافعًا، كاشفات عن رؤوسهن وأقدامهن... وقد بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إني لأسمع بكاء الصبي خلفي في الصلاة فأتجوز فيها مخافة أن تفتتن أمه"، كيف بتخليتهم يا أمير المؤمنين في أيدي عدوهم يمتهنونهم ويتكشفون منهم ما لا نستحله نحن إلا بنكاح؟ وأنت راعي أحكام الله، والله تعالى مستوفٍ منك" فلما وصله الكتاب أمر بالفداء.

ومن رسائله أيضًا ما بعث به إلى أخ له يقول له فيه: "أما بعد فإنه قد أحيط بك من كل جانب، واعلم أنه يُسار بك في كل يوم وليلة، فاحذر الله والمقام بين يديه، وأن يكون ءاخر العهد بك، والسلام".

ومن أقواله وحكمه قوله في موعظة له: "تقوَّوا بهذه النعم التي أصبحتم فيها على الهرب من نار الله الموقدة، التي تطّلع على الأفئدة، فإنكم في دار الثواء فيها قليل، وأنتم عما قليل منها راحلون، خلائف بعد القرون الماضية الذين استقبلوا من الدنيا أنفها وزهرتها، فهم كانوا أطول منكم أعمارًا وأمد أجسامًا، وأعظم إجلالاً، وأكثر أموالاً وأولادًا، فخدَّدوا الجبال وجابوا الصخور بالواد، وتنقلوا في البلاد مؤيدين ببطش شديد وأجساد كالعماد، فما لبثت الأيام والليالي أن طويت ءاثارهم، وتغيرت منازلهم وديارهم، فهل تُحسُّ منهم من أحد أو تسمع لهم ركزًا، كانوا يتطلبون الدنيا ويطيلون الأمل ءامنين، وعن ميقات يوم موتهم غافلين، فآبوا إياب قوم نادمين، ثم إنكم علمتم الذي نزل بساحتهم بيانًا من عقوبة الله، فأصبح كثير منهم في ديارهم جاثمين، وأصبح الباقون المتخلفون ينظرون في نعم الله وينظرون في نقمته وزوال نعمته عمن تقدمهم من الهالكين، ينظرون في مساكن خالية قد كانت بالعز محفوفة، وبالنعم معروفة، والقلب إليها مصروف والاعين إليها ناظرة".

ومن مواعظه قوله: "مَنْ أكثر من ذكر الموت كفاه اليسير، ومَنْ علم أن منطقه مِنْ عمله قلّ كلامه".

وقال أيضًا واعظًا: "عليك بآثار مَنْ سلف وإن رفضك الناس، وإياك وأقوال الرجال وإن زخرفوها وحسنوها".

وروى عبد الله بن اسماعيل بن بنت الإمام عن أبيه أنه قال: وجدت في كتب الأوزاعي بخط يده: "يا ابن ءادم اعمل لنفسك وبادر فقد أتيت من كل جانب، واعول كعويل الأسير المكبل، ولا تجعل بقية عمرك للدنيا، وطلبها في أطراف الارض، حسبك ما بلغك منها، ستسلم طائعًا وتعز بيوم فقرك وفاقتك واسعًا في طلب الأمان، فإنك في سفر إلى الموت يطرد بك نائمًا ويقظان، واذكر سهر أهل النار في خُلد أبدًا، وتخوّف أن ينصرف بك من عند الله إلى النار، فيكون ذلك ءاخر العهد بالله عز وجل وينقطع الرجاء، واذكر أنك قد راهقت الغاية وإنما بقي الرمق، فسدد تصبرًا وتكرمًا، وارغب عن أن تفني بقية عمرك للدنيا، وخذ منها ما يفرغك لآخرتك، ودع من الدنيا ما يشغلك عن الآخرة".

ذلك يظهر بكل وضوح أثر مواعظ الإمام الاوزاعي وحكمه في نفوس الناس، وفي ذلك يقول ضمرة: ما تكلم الأوزاعي بكلمة إلا كان المتعين على من يسمعها من جلسائه أن يكتبها عنه لحسنها.

وقال العباس بن الوليد بن مزيد: ما رأيت أبي يتعجب من شيء رءاه في الدنيا، تعجبه من الأوزاعي، وكان يقول: سبحان الله يفعل ما يشاء ما سمعت منه كلمة قد إلا رغب مستمعها في حفظها وإثباتها.

وحسبنا ما قاله أبو حاتم الرازي في بيان كلام الإمام ومراسلاته: كان الأوزاعي لا يلحن في كلامه، وكانت كتبه ترد على الخليفة المنصور فينظر فيها ويتأملها ويتعجب من فصاحتها وحلاوة عبارتها، وقد قال يومًا لأحظى كُتّابه: ينبغي أن تُجيب الأوزاعي على كُتبه، فقال: والله يا أمير المؤمنين لا يقدر أحد من أهل الأرض على مثل كلامه ولا على شيء منه، وإنا لنستعين بكلامه فيما نكاتب به الآفاق إلى من لا يعرف كلام الأوزاعي.


ثناء العلماء عليه

قال سفيان بن عيينة فيه: كان الأوزاعي إمام زمانه، وعن عباس بن زياد قال: كان أبي يقول: يا بني، عجز الملوك أن يؤدبوا أنفسهم وأولادهم أدبه في نفسه.

وقال اسماعيل بن عياش: سمعت الناس سنة أربعين ومائة يقولون: الأوزاعي اليوم عالم الأمة.

وقال يحيى بن معين: العلماء أربعة: الثوري وأبو حنيفة ومالك والأوزاعي.

وقال محمد بن شعيب: قلت لأميمة بن يزيد: أين الأوزاعي من مكحول؟ قال: هو عندي أرفع من مكحول، إنه قد جمع العبادة والعلم والقول الحق.

وأما ابن سعد فقد قال عنه: كان الأوزاعي ثقة مأمونًا فاضلاً خيرًا كثير الحديث والعلم والفقه.

وعن عبيد بن حيان قال: أتيت مجلس مالك بن أنس وهو عنه غائب فقلت لأصحاب مالك: ما يقول أبو عبد الله في مسألة كذا وكذا؟ فأجابوا، فقلت: كت هكذا يقول أبو عمرو [يعني الأوزاعي] إنه يقول كذا وكذا، بخلاف ما قالوه، فتضاحكوا، ولما أقبل مالك وجلس قالوا: يا أبا عبد الله أتسمع ما يحدث الشامي عن الأوزاعي؟ فقلت: ما تقول أنت في مسألة كذا وكذا؟ فأجاب مثل جوابهم، فقلت: ما هكذا يقول أبو عمرو، فتضاحكوا وعلت الإمام سكتة فأخلد برأسه الأرض مليًا، ثم رفع رأسه وقال: إن القول ما قاله أبو عمرو، فرأيتهم وقد عاد ما بي من الحال بهم.


وفاته:

روى عقبة بن علقمة البيروتي في سبب وفاة الإمام الأوزاعي أنه دخل حمام منزله في يوم شديد البرودة، فأدخلت زوجته مه موقدًا فيه فحم وقاية من البرد، وأغلقت باب الحمام فمات بسبب الفحم، وكان ذلك يوم الأحد لليلتين بقيتا من صفر، وقيل من ربيع الأول سنة مائة وسبعة وخمسين للهجرة وهو في التاسعة والستين من عمره.

قال ابن مسهر: لم تكن امرأته عامدة، فأمرها قاضي بيروت سعيد بن عبد العزيز بعتق رقبة.

وكان يومًا مشهودًا حضره أعداد لا تكاد تحصى من المسلمين وغيرهم، فقد روى العباس بن الوليد بن مزيد عن سالم بن المنذر قال: سمعت الصيحة بوفاة الأوزاعي، فخرجت، فأول من رأيت نصراني قد ذر على رأسه الرماد والمسلمون من أهل بيروت يعرفون ذلك، ودفن الإمام رحمه الله خارج بيروت قرب شاطئ البحر، وبين الصنوبر بأرض قرية يقال لها حنتوس وهو مدفون في قبلة حائط مسجدها.

رحم الله الإمام الأوزاعي ودفع به عنا البلايا إنه على كل شيء قدير.


عبد الله بن المبارك



ترجمته:

الإمام المجمع على جلالته وإمامته الذي تُستنزل الرحمة بذكره وترتجى المغفرة بحبُّه، المجاهد عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي المروزي وهو من تابعي التابعين أبوه رجل صالح تقي كثير الانقطاع للعبادة شديد الورع حتى إنّ له قصة عجيبة وهي أنّ مولاه طلب منه يومًا أن يحضر له رمانًا حلوًا فأحضره فإذا هو حامض، فغضب مولاه ثم تكرر ذلك ثلاث مرات وفي كل مرة يكون حامضًا، قال له مولاه: أنت لا تعرف الحامض من الحلو، فقال المبارك: ما أكلتُ منه شيئًا حتى أعرفه قال: لمَ لم تأكل قال: لأنك ما أذنت لي بالأكل منه، فعجب صاحب البستان وعظم في عينه وزاد قدره عنده وكانت له بنت خُطبت كثيرًا فقال: يا مبارك من ترى تزوّج هذه البنت فقال: أهل الجاهلية كانوا يزوجون للحسب واليهود للمال وهذه الأمة للدين، فأعجبه عقله وأخبر الرجل زوجته وقال لها: ما أرى لهذه البنت زوجًا غير مبارك، فتزوجها ثم ولدت له عبد الله فتمت عليه بركة أبيه وأنبته الله نباتًا صالحًا. وقد ولد سنة ثمان عشرة ومائة كما قال الإمام أحمد رحمه الله وغيره وكان مولده في مدينة مرو أشهر مدن خراسان.


مناقبه:

كان ابن المبارك يتردد إلى الكُتّاب يتلقى هناك بعض العلوم وبدت عليه مخايل النبوغ وملامح الذكاء منذ صغره، شهد بذلك أصدقاؤه الذين كانوا معه في ذلك الوقت فقد أورد الخطيب البغدادي قصة عن صديق ابن المبارك قال: كنا غلمانًا في الكتاب فمررت أنا وابن المبارك ورجل يخطب خطبة طويلة فلما فرغ قال ابن المبارك: قد حفظته، فسمعه رجل من القوم قال: هاتها فأعادها ابن المبارك وقد حفظها.

أما طلبه للهم فما فتئ يطلب العلم وما فتر عن السفر فقد سافر إلى جميع الأمصار فمن اليمن إلى الشام إلى الحجاز والبصرة والكوفة ومصر، قال عنه الإمام أحمد رحمه الله: لم يكن في زمن ابن المبارك أطلب للعلم منه، وقال زكريا بن عديّ: رأيت ابن المبارك في النوم بعد موته فقلت له: ما فعل الله بك قال لي: غفر لي برحلتي في الحديث.

وقد بلغ عدد من حمل عنه من الشيوخ أربعة ءالاف وقد قال: حملت عن أربعة ءالاف شيخ فرويت عن ألف منهم. وكان ينشر العلم حيث رءاه ويأخذه حيث وجده لا يمنعه من ذلك مانع، كتب عمّن هو فوقه وكتب عمّن هو مثله ممن هو أصغر منه، أنا خدمته لأستاتذته وتواضعه فهو ظاهر في حياته، قال أستاذه عيسى بن يونس: كنا بأرض الروم أنا وابن المبارك وربما استحييت من خدمة ابن المبارك لي كان يأخذ بركابي، فإذا نزلنا قدّم لنا الخبيص وهو طعام يُصنع من التمر والسمن فيلقمني ويقعد يسألني عن الحديث ويكتب، وأما إخلاصه في طلب العلم وطلب رضا الله وثوابه فهذا يُعرف من قول البغدادي عنه أنه من الربانيين في العلم.


كراماته:

أما كرامات عبد الله بن المبارك فكثيرة، قال الخليلي في الإرشاد: ابن المبارك الإمام المتفق عليه له من الكرامات ما لا يحصى، يقال إنه من الأبدال كما ورد في تهذيب التهذيب. والأبدال جمع بدل وهم جماعة من الأولياء الصالحين كلما مات رجل منهم أبدل الله مكانه رجلاً وهم أربعون، لا تخلو الأرض منهم وهم من أكابر الأولياء، قال قتادة عن الحسن البصري: لسنا نشك أن الحسن منهم. وقد ورد في تهذيب التهذيب: عن أبي وهب قال مرّ ابن المبارك برجل أعمى فقال: أسألك أن تدعو الله أن يردّ عليّ بصري، فدعا الله فرد عليه بصره وأنا أنتظر، وورد هذا في تاريخ بغداد. وقد ورد في تاريخ بغداد أنّ الأوزاعي رحمه الله قال لعبد الرحمن الجهمي: رأيتَ ابن المبارك، قال: لا، قال: لو رأيته لقرّت عينُك.


كثرة علمه:

أما قوة حفظه للعلم والحديث فقد كان يتمتع بحافظة نادرة حتى روي أنه قال: ما أودعت قلبي شيئًا قط فخانني، وحضر مرة عند حماد بن زيد مسلمًا عليه فقال أصحاب الحديث لحماد بن زيد: يا أبا إسماعيل، تسأل أبا عبد الرحمن يعنون ابن المبارك أن يحدثنا، فقال حماد: يا أبا عبد الرحمن تحدثهم فقد سألوني، فقال: سبحان الله يا أبا إسماعيل أحدث وأنت حاضر فقال: أقسمت لتفعلن/ فحدثهم مجلسًا كاملاً فما حدّث فيه بحرف إلا عن حماد بن زيد.

وحدّث المسيب بن واضح قال: سمعت أبا إسحاق الفزاري يقول: ابن المبارك إمام المسلمين ورأيت أبا إسحاق الفزاري بين يدي ابن المبارك قاعدًا يسائله، مع العلم أنّ أبا إسحاق أكبر من عبد الله بن المبارك بعشرين سنة.


عقيدته:

أما عقيدته فكانت عقيدة أهل السنة والجماعة، كان حربًا على أهل البدع الضلالية حربًا على المعتزلة والمرجئة والجهمية، فقد حذّر من المعتزلة وزعيمهم الذين كانوا يقولون: العبد يخلق أفعال نفسه وكانوا يقولون الله ما خلق الشر وما قدّره، وهذا كفر وضلال. وكان يقول رأيه في الجهمية والقدرية كرأي سفيان الثوري رحمه الله: الجهمية كفار، والقدرية كفار. وروي أن جهم ذكر عنده فقال:

عجبت لشيطان أتى الناس داعيًا *** إلى الشر وانشق اسمه من جهنّم

وموقفه من القول بخلق القرءان هو موقف أهل السنة حيث يقول: إن كلام الله الذي هو صفة ذاته أزلي أبدي ليس بحرف وصوت ولغة ولا يشبه كلام العالمين، كلام الله ليس ككلامنا. وقال: من زعم أنّ القرءان مخلوق فقد كفر بالله العظيم، والمراد بالقرءان هنا كلام الله الذاتي.

أما رأيه في أحاديث الصفات فقال كما قال الزهري والأوزاعي وأحمد وغيرهم أمرّوها بلا كيف، فالله لا يوصف بصفات الخلق. قال عز وجل: {ولله المثل الأعلى} [سورة النحل/الآية:60] أي لله الوصف الذي لا يشبه وصف غيره ورحم الله الطحاوي الذي قال: "ومن وصف الله بمعنًى من معاني البشر فقد كفر"، أما الشعر فكان رحمه الله ينظم الشعر الذي فيه حكمة وحث على الجهاد في سبيل الله والزهد والخشية من الله تعالى وترك المعاصي وشهادة الزور.


وفاته:

توفي رحمه الله سنة إحدى وثمانين ومائة لعشر خلون من رمضان، مات سحرًا بعد انصرافه من الغزو في شهرٍ أوله رحمة وقد دُفن بهيت وقبره ظاهر يُزار هناك. وهيت بلدة على الفرات من نواحي بغداد وقد زار بعض الفضلاء قبر ابن المبارك فقال:

مررت بقبر ابن المبارك غدوةً *** فأوسعني وعظًا وليس بناطق
وقد كنتُ في العلم الذي في جوانحي *** غنيا وبالشيب الذي في مفارقي
ولكن أرى الذكرى تنبه عاقلا *** إذا هي جاءت من رجال الحقائق

رحم الله ابن المبارك وأعلى مقامه في عليين ونفعنا به وبعلمه.



الإمام محمد بن إدريس الشافعي



ترجمته:

هو أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف، فهو عربي قرشي هاشمي مطلبي، يلتقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جده عبد مناف.

ولد الشافعي بغزة سنة مائة وخمسين هجرية، وهي نفس السنة التي مات فيها الإمام أبو حنيفة.

وروى ياقوت الحموي في معجمه عن الشافعي أنه قال "ولدت باليمن فخافت أمي علي الضيعة، فحملتني إلى مكة وأنا ابن عشر سنين أو شبيه ذلك" وذهب البعض في التوفيق بين الروايتين إلى القول بأنه ولد بغزة، ونشأ بعسقلان وهي بلدة تبعد نحو ثلاثة فراسخ من غزة كانت تسكنها قبائل اليمن.

نشأ الشافعي في أسرة فقيرة، ومات أبوه وهو صغير فانتقلت به أمه إلى مكة لتحافظ على شرف نسبه.

وأمه تدعى فاطمة بنت عبد الله الأزدية نسبة إلى قبيلة الأزد. شب الشافعي فقيرًا ضيق العيش، حتى اضطر وهو يطلب العلم إلى الكتابة على قطع الخزف، وقطع الجلود وسعف النخل وعظام الحيوانات لضيق ذات يده وعدم قدرته على شراء الورق.

حفظ الشافعي القرءان الكريم وهو صغير، وأخذ يحفظ الأحاديث النبوية ويكتبها، ورحل إلى البادية وعاشر قبيلة "هذيل" عشر سنين ليأخذ عنها قواعد اللغة العربية وكلماتها، فحفظ الشافعي أشعار هذيل وأخبارها، وكانت هذيل من القبائل العربية الفصيحة. تعلم الشافعي الرمي إلى جوار العلم، حتى إنه كان يرمي عشرة سهام فلا يخطئ في سهم منها وقال في ذلك: "كانت همتي في شيئين: الرمي والعلم، فصرت في الرمي بحيث أصيب من عشرة عشرة" وسكت، فقال له بعض من سمعه [أنت والله في العلم أكثر منك في الرمي].

الشافعي في مكة:

كان الشافعي في أول أمره منصرفًا إلى الشعر والأدب وأيام العرب، ثم قيض الله له من الأسباب ما صرفه إلى الفقه والعلم. وتقول الروايات إنه التقى وهو في طريقه إلى طلب النحو والأدب بمسلم بن خالد الزنجي مفتي مكة فسأل الشافعي: من أين أنت؟ فقال: من أهل مكة قال: أين منزلك؟ قال: بشعب الخيف، قال: من أي قبيلة أنت فأجاب الشفعي: من عبد مناف قال مسلم: بخ بخ لقد شرفك الله في الدنيا والآخرة، ألا جعلت فهمك هذا في الفقه فكان أحسن لك.

وقد نبغ الشفعي في الفقه على حداثة سنه، وأذن له الزنجي في الإفتاء، ولكن همة الشافعي لم تقنع بما وصل إليه، إذ بلغته أخبار إمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه وكان ذلك في الوقت الذي ارتفع فيه اسم مالك في الآفاق وبلغ شأنًا عظيمًا من العلم والحديث.


الشافعي في المدينة المنورة:

سمت همة الشافعي للهجرة إلى المدينة في طلب العلم، وأعد لذلك عدته بأن استعار كتاب "موطأ مالك" من رجل في مكة وقرأه وحفظه، ثم سافر إلى المدينة فلما سأله الإمام مالك عن اسمه قال: محمد، فقال له مالك: "يا محمد اتق الله واجتنب المعاصي فإنه سيكون لك شأن، إن الله قد ألقى على قلبك نورًا فلا تطفئه بالمعصية". ثم قال له: "إذا ما جاء الغد تجيء ويجيء من يقرأ لك". وأخذ الشافعي يقرأ ومالك يستزيده في القراءة، وظل معه يروي عنه ويتفقه عليه ويدارسه المسائل التي يفتي فيها الإمام الجليل إلى أنا مات الإمام مالك سنة مائة وتسع وسبعين هجرية وقد بلغ الشافعي الشباب.

كان الشافعي حريصًا على ملازمة الإمام مالك، ولكنه كان يتحين الوقت بعد الآخر فيقوم برحلات إلى مكة يزور أمه ويستفيد بنصائحها، وكان فيها نبل وحسن فهم، وكان الإمام الشافعي يحب السفر ويرى فيه فوائد جليلة.

وكان يقول:

سأضرب في طول البلاد وعرضها *** أنال مرادي أو أموت غريبًا
فإن تلفت نفسي فلله درها *** وإن سلمت كان الرجوع قريبا

وقال الشافعي في فوائد السفر:

سافر تجد عوضًا عمن تفارقه *** وانصب فإن لذيذ العيش في النصب
إني رأيت وقوف الماء يفسده *** وإن سال طاب وإن لم يجر لم يطب
والأسد لولا فراق الغاب ما افترست *** والسهم لولا فراق القوس لم يصب

على أن شرف نسب الشافعي لم يقعده عن العمل والسعي في طلب الرزق ليأكل من كد يمينه، ثم ولاه أحد حكام اليمن عملاً في نجران ظهر فيه ذكاؤه وترفعه عن الظلم فرفض التملق والرشوة التي كانت تقدم لمن سبقه من الحكام.


الشافعي في العراق:

كان الشافعي وقت قدومه بغداد في الرابعة والثلاثين من عمره وأقام بها حولين. ثم تفرغ لدراسة العلم والفقه على محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة، فاجتمع له بذلك فقه الحجاز الذي يغلب عليه النقل، وفقه العراق الذي يغلب عليه العقل، وهكذا صار الشافعي إمامًا من أئمة الفقه في المعقول والمنقول.

يقول ابن حجر عن الشافعي: "اجتمع له علم أهل الرأي وعلم أهل الحديث".


مشايخه:

ومن مشايخه في العراق وكيع بن الجرّاح الكوفي، وأبو أسامة حماد بن أسامة الكوفي، واسماعيل بن عطية البصري، وعبد الوهاب بن عبد الحميد البصري.

ومن شيوخه في المدينة: مالك بن أنس الأصبحي، وإبراهيم بن سعد الأنصاري وعبد العزيز بن محمد الداوردي وإبراهيم بن يحيى الاسامي، ومحمد بن سعيد بن أبي فديك وعبد الله بن نافع الصائغ.

ومن شيوخه في اليمن: مطرف بن مازن وهشام بن يوسف قاضي صنعاء وعمر بن أبي مسلمة صاحب الأوزاعي ويحيى بن حسان صاحب الليث بن سعد.


الشافعي وأحمد بن حنبل:

ولما عاد إلى مكة يلقي دروسه في الحرم المكي، والتقى به أكابر العلماء في موسم الحد، واستمعوا إليه، ثم التقى بأحمد بن حنبل العالم الجليل، فلما سُئل عن الشافعي قال: "لقد منّ الله به علينا، ولقد جالسناه الأيام والليالي فما رأينا منه إلا كل خير رحمة الله عليه" وكان ابن حبان يكثر التردد على مجلس الشافعي يجل مقامه ويحتفل به، ويقال إن الشافعي ركب يومًا على حماره فمشى ابن حنبل إلى جانيه وهو يذاكره، ولما علم يحيى بن معين بذلك عاتب أحمد بن حنبل على فعله هذا فقال له الإمام أحمد: "لو كنت في الجانب الآخر من الحمار لكان خيرًا لك".

وفي عام مائة وخمس وتسعين هجرية قدم الشافعي بغداد ومعه أصول الفقه وقواعده، فأقبل عليه العلماء والمحدثون وأهل الرأي، فأخذ يفيض عليهم من علمه، وكان له بالعراق تلاميذ وأتباع، وعرف مذهبه واشتهر بمذهبه القديم.

وكان رحمه الله أول من صنّف في ابواب كثيرة من الفقه معروفة ومع ذلك قال: "وددت لو أخذ عني هذا العلم من غير أن يُنسب إلي منه شيء" وقال: "ما ناظرت أحدًا إلا وددت أن يظهر الله الحق على يديه".

كان الشافعي رحمه الله جهوري الصوت جدًا، وفي غاية الكرم والشجاعة، وجودة الرمي وصحة الفراسة وحسن الخلق، كان قوله في اللغة حجة كقول امرئ القيس ولبيد ونحوهما كما نقله ابن الصلاح في طبقاته، في فصل المحمدين عن ابن هشام صاحب السيرة بسند صحيح، ولهذا عبّر ابن الحاجب في "تعريفه" بقوله: "وهي لغة الشافعي كما يقولون لغة تميم، وربيعة"، وكان رحمه الله أعجوبة في العلم بأنساب العرب وأيامها، وأحوالها.

وسأله هارون الرشيد يومًا موعظة، فوعظه بموعظة مؤثرة لطاووس اليماني، فبكى الرشيد وأمر للشافعي بمال كثير وهدايا ففرقها عند الباب.

قال الرازي في كتاب مناقب الشافعي: "واعلم ان الشافعي رضي الله عنه قد صنف كتاب الرسالة وهو في بغداد، ولما رجع إلى مصر، أعاد تصنيفه، وفي كل واحد منهما علم كثير".

وفي سنة مائة وثمان وتسعين هجرية تولى الخلافة المأمون العباشي، وفي عهده لم يطب للشافعي المقام ببغداد نظرًا لغلبة الفرس واستيلائهم على شئون الحكم، والشافعي عربي قرشي معتز بالشريعة، بينما كان المأمون يشجع الفلسفة التي انتشرت في عهده، ولقد عرض على الشافعي تولي القضاء فأباه.

وعندما أراد الشافعي السفر إلى مصر قال:

لقد أصبحت نفسي تتوق إلى مصر *** ومن دونها قطع المهامة والقفر
فوالله ما أدري أللفوز والغنى *** أساق إليها أم أساق إلى القبر

وأقام الشافعي بمصر أربع سنين ونيفًا، نشرت فيها كتبه وسار ذكره ونال الفوز بسبب إقبال الناس عليه وحبهم له وانتشار مذهبه بينهم.

قال الربيع بن سليمان تلميذ الشافعي كان الشافعي يجلس في حلقته إذا صلى الفجر فيجيئه أهل القرءان، فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء أهل الحديث فيسألونه تفسيره ومعانيه، فإذا ارتفعت الشمس قاموا فاستوت الحلقة للمذاكرة والنظر، فإذا ارتفع الضحى تفرقوا وجاء أهل العربية والعروض والنحو والشعر فلا يزالون إلى قرب انتصاف النهار.

كان الشافعي رضي الله عنه يتحرى الدقة فيما يرويه الرواة منسوبًا للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان يشترط فيمن يروي الحديث أن يكون صادقًا ورعًا، يفهم ما يرويه، حافظًا له وأن يكون قد سمع الحديث مباشرة ممن يروي عنه.

واعتبر الشافعي الإجماع إجماع أمة محمد في زمن من الأزمان على حكم من الأحكام حجة، وذلك بعد أن وضع له قيودًا وشروطًا تبعد عنه الفوضى، وكان يكره الغلوّ في الدين، ويرى أنه لا يجوز لإنسان أن يقول بالشريعة برأيه، إلا إذا كان أساس هذا الرأي القياس، وهو إلحاق أمر غير منصوص على حكمه بأمر منصوص على حكمه لاشتراكهما في عله الحكم على أن يكون المتكلم أهلاً للاجتهاد والقياس.

ويقول الرازي في فقه الشافعي: "اعلم أن نسبة الشافعي إلى علم الأصول كنسبة أرسطو إلى علم المنطق وكنسبة الخليل بن أحمد إلى علم العروض".


مرضه ووفاته:

تعرض الشافعي في حياته لأمراض كثيرة منها [البواسير] الذي كان سببًا لنزف الدم منه في كثير من الأحيان، وعرضه هذا المرض ذات مرة لنزيف شديد قضى عليه رحمه الله.

توفي الشافعي بمصر ليلة الخميس بعد المغرب في ءاخر ليلة من رجب سنة أربع ومائتين وعمره أربعة وخمسون عامًا، وكانت وفاته عند عبد الله بن الحكم وإليه أوصى، ودفن يوم الجمعة التالي ليوم وفاته، ودفنه بنو عبد الحكم في مقابرهم بالقرافة الصغرى وبنوا على قبره قبة جددها صلاح الدين وبنى بجوارها المدرسة الصلاحية عام خمسمائة وخمسة وسبعين هجرية ألف ومائة وتسعة وسبعين رومية، وكانت معقلاً لنشر مذهب الشافعي.


قبة الشافعي:

هي قبة عظيمة تفنن المهندسون في زخرفتها، وتوالى عليها التجديد والإصلاح من الملوك والحاكمين، ومكتوب على مصراعيها:

الشافعي إمام الناس كلهم *** في العلم والحلم والعلياء والباس
له الإمامة في الدنيا مسلمة *** كما الخلافة في أولاد عباس
أصحابه خير أصحاب ومذهبه *** خير المذاهب عند الله والناس

وفوق القبة مركب مثبت في هلال القبة منذ إنشائها، وقد عاينها الإمام البوصيري صاحب "البردة" المتوفى عام ستمائة وخمسة وتسعين هجرية، ألف ومائتين وخمسة وتسعين رومية وأنشد يقول:

بقبة قبر الشافعي سفينة *** رست في بناء محكم فوق جلمود
وقد غاض طوفان العلوم بقبره *** استوى الفلك من ذاك الضريح على الجود


وصف القبة:

يقول المسعودي: "إن مقبرة الإمام الشافعي قد تميزت بوضع عمود حجري عند الرأس، وءاخر عند قدميه وقد نقش على عمود الرأي النص التالي: "هذه مقبرة الإمام محمد بن إدريس الشافعي المؤمن بالله".

في عام خمسمائة واثنين وسبعين هجرية أمر صلاح الدين الأيوبي ببناء مدرسة بجوار ضريح الإمام الشافعي، وتمّ بناءها في رمضان عام خمسمائة وخمسة وسبعين هجرية قد بقي من هذه المدرسة لوحة كتب عليها خمسة سطور: "بنيت هذه المدرسة باستدعاء الشيخ نجم الدين الخبوشاني لتدريس فقه الشافعي وأصول الأشعرية للرد على الحشوية وغيرهم من المبتدعة".

كما أمر صلاح الدين بعمل تابوت خشبي ءاية في الزخرفة مؤرخ عليه سنة خمسمائة وأربعة وسبعين هجرية واسم الصانع هو عبيد أبو المعالي.

ويقول المقريزي: أن الملك الكامل دفن ابنه بجوار قبر الإمام الشافعي، وبنى قبة كبيرة على القبر، ووصل إليها المياه من بركة الحبش بواسطة قناطر، ولذلك أقبل الناس على بناء مقابر موتاهم، وانتهى بناء قبة الشافعي في جمادى الآخرة عام ستمائة وثمانية هجرية وبلغت تكاليفها خمسين ألف دينار.

ويذكر ابن إياس أن السلطان قايتباي أمر بإجراء إصلاحات بضريح الإمام الشافعي عام ثمانمائة وخمسة وثمانين تحت إشراف شمس الدين بن الزمن رئيس أعماله للشئون المعمارية ولكنه لم يشر إلى الإصلاحات التي قام بها، غير أن السخاوي في ترجمته لابن الزمن ذكر هذه الأعمال التي أشرف عليها فقال: "وعمّر قبة الإمام الشافعي وجدد رخامها وزخرفتها" ويقول الجبرتي: "إن علي بك الكبير أزال القصدير المغطى بخشب القبة الذي عمله السلطان الكامل لأن الخشب تحته كان قد تآكل ووضع بدله خشبًا ءاخر ثم غطى الخشب بصفائح جديدة من القصدير وثبّتها في الخشب بواسطة مسامير كبيرة وأصلح الزخارف الداخلية بطلاءات متعددة الألوان أهمها اللون الذهبي اللازوردي".

يضيف الجبرتي: أن عبد الرحمن كتخلدا [بلّط] ردهة غرفة قبة الإمام الشافعي بالرخام الملون الذي يدخل إليها بواسطة ممر طويل وعريض ومقفل ببابين كبيرين وذلك سنة ألف ومائة وتسعين هجرية. ويوجد بالضريح أربعة مقابر، الأولى مقبرة الإمام الشافعي عليها التابوت الخشبي الذي أمر بعمله صلاح الدين، والثاني لأم السلطان الكامل، والثالث للسلطان الكامل، والرابع للسيد محمد بن عبد الحكم.

ويعتبر ضريح الإمام الشافعي من أكبر أضرحة مصر على الإطلاق، والقبة التي تعلوه كانت طوال العصور وما تزال موضع تقدير.



الإمام أحمد بن حنبل



ترجمته:

جاء في السير للذهبي في نسب طويل له ذكر منه الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" أنه أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد، أبو عبد الله الذهلي الشيباني المَروزي ثم البغدادي.

ولد كما أخبر ابنه صالح عنه في ربيع الأول سنة مائة وأربعة وستين للهجرة، توفي والده محمد شابًا فنشأ يتيمًا وطلب الحديث وهو ابن خمس عشرة سنة أي سنة مائة وتسعة وسبعين وهي السنة التي توفي فيها الإمام مالك رضي الله عنه صاحب المذهب.


رحلاته:

لما بلغ الإمام أحمد خمس عشرة سنة سعى في طلب العلم والحديث فكثرت رحلاته إلى أقطار المعمورة يطلب الحديث من رجاله الافذاذ.

ومن هذه الرحلات التي ساهمت في اتساع علمه رحلته إلى البصرة خمس مرات، فصار يتنقل بين المشايخ في طلب الحديث فكثر عدد مشايخه فيها.

ومن أهل رحلاته تلك التي قام بها إلى الحجاز مرات عديدة قالتقى بالمشايخ الكبار أمثال الإمام الشافعي الذي أعجب به، وأخذ عن الشافعي أصول الحديث والفقه ومعرفة الناسخ والمنسوخ وغيره.

كما التقى في بغداد ابن عيينة الذي كان ءانذاك محدّث الحجاز بلا منازع فأخذ عنه واستفاد منه كثيرًا

كما كانت له رحلة إلى الكوفة يطلب بها العلم، ورحل أيضًا إلى صنعاء في اليمن حيث تلقى الحديث عن عبد الرزاق بن همام وجاهد نفسه البقاء مدة سنتين فكان يصبر على خشونة العيش ويكري نفسه ينقل الأمتعة حتى وافى صنعاء، وكان في صنعاء يعمل بنسج الحُصر أو النسخ ليأكل من عمل يده.

أما عدد مشايخه فقد فاق الثلاثمائة شيخ. وقد ذكر الذهبي في سيره أن عدد الشيوخ الذين روى عنهم في مسنده وحده بلغ مائتين وثمانين ونيفًا.

ومن أكبر وأعظم هؤلاء المشايخ هُشيم بن بشير الذي أخذ عنه وأكثر في بغداد فلازمه أربع سنوات يسمع منه، وسفيان بن عيينة وبشر بن المفضل والنضر بن اسماعيل البجلي والوليد بن مسلم ويزيد بن هارون ووكيع الذي أكثر من الاخذ منه، والحافظ أبو نعيم وكثيرون.

أما الذين حدثوا عنه فكثيرون نذكر منهم إمام المحدثين البخاري، وتلميذه الإمام مسلم صاحب الصحيح، وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه، وحدث عنه ولداه صالح وعبد الله، ويحيى بن معين، وأبو زرعة وإبراهيم الحربي وغيرهم.


ثباته عند المحنة:

لما وُلي الخليفة المأمون رفعت الجهمية والمعتزلة رؤوسها وظهرت الفتنة التي قيل لها "فتنة خلق القرءان" وهي التي قالت فيها الجهمية بأن كلام الله الذاتي مخلوق غير أزلي. وقد كان المأمون والمعتصم قد ساعدا المعتزلة بمقولة أن القرءان مخلوق من غير اعتقاد أن كلام الله الذاتي الذي هو صفة له مخلوق فامتحنا الناس على قول ذلك.

وكان ممن امتُحِنَ في هذه الفتنة الإمام الكبير أحمد بن حنبل رضي الله عنه حيث أمر المعتصم بإحضاره إلى بغداد وأمره أن يقول بأن القرءان مخلوق فكان يرفض ذلك فيجلد بالسوط حتى يُغشى عليه. وقد أورد الحافظ البيهقي في "مناقب أحمد" أن مئزره قد اضطرب مرة يريد أن يقع على الارض فتظهر عورته، فدعا الله تعالى قائلاً: اللهم إن كنتُ على الحق فلا تُبدِ عورتي، فإذا بكف من ذهب قد خرج من تحت مئزره فثبت المئزر مكانه ولم يسقط.

وروى الذهبي في "سير أعلام النبلاء" أن الإمام رضي الله عنه لما حُمل إلى بغداد لقيه أبو جعفر الانباري فسلم عليه وقال له: "أيها الإمام أنت اليوم رأس والناس يقتدون بك، فوالله لئن أجبتَ إلى خلقِ القرءان ليجيبنّ خلقٌ، وإن أنت لم تُجب ليمتنعنّ خلق كثير. ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتلك فإنك تموت لا بد من الموت، فاتق الله ولا تجب".

وعن صالح بن الإمام أحمد أنه لما حُمِلَ مقيدًا ووصل الأنبار سأله أبو بكر الأحول: يا أبا عبد الله، إن عرضتَ على السيف هل تجيب قال: لا، ولما وصلوا الرّحبةَ وهي بين الرقة وبغداد أقبل رجل فقال: أيكم أحمد بن حنبل فقيل له: هذا، فقال: يا هذا، ما عليك أن تُقتلَ ههنا وتدخل الجنة، ثم قال: أستودعك الله، ومضى. فسأل عنه فقيل له: هذا رجل من ربيعة يعمل الصوف يقال له جابر بن عامر، يُذكر بخير.


ثناء العلماء عليه:

روى الذهبي في سيره عن عبد الله بن أحمد بن حنبل أنه قال: قال لي أبو زُرعة: أبوك يحفظ ألف ألف حديث، فقيل له: وما يدريك؟ قال: ذاكرته فأخذت عليه الأبواب.

وسئل أبو زُرعة: أأنت أحفظ أم أحمد فقال: بل أحمد، فسئل: كيف علمت قال: وجدتُ كُتُبه ليس في أوائل الأجزاء أسماء الذين حدثوه فكان يحفظ كل جزء ممن سمعه، وأنا لا أقدر على هذا.

أما إبراهيم فقد قال فيه: رأيتُ أبا عبد الله، كأن الله جمع له علم الأولين والآخرين.

وعن عباس الدُّوري أنه قال: سمعت أبا عاصم يقول لرجل بغدادي: مَنْ تعُدُّون عندكم اليوم من أصحاب الحديث قال: عندنا أحمج بن حنبل ويحيى بن معين وأبو خيثمة والمُعَيطي والسويدي، حتى عدَّ له جماعة بالكوفة والبصرة، فقال أبو عاصم: قد رأيتُ جميع من ذكرت وجاءوا إليّ، لم أرَ مثل ذاك الفتى، يعني أحمد بن حنبل.

أما شجاع بن مخلد فقد روي عنه أنه قال: ما بالمِصرَيْن [أي البصرة والكوفة] رجل أكرم عليّ من أحمد بن حنبل.

وقال مُهَنَّى بن يحيى: رأيت ابن عيينة ووكيعًا وبقية وعبد الرزاق وضمرة والناس، ما رأيت رجلاً أجمع من أحمد في علمه وزهده وورعه.

وقال عبد الرزاق: ما رأيت أحدًا أفقه ولا أورع من أحمد بن حنبل، فعقب عليه الذهبي قائلاً: قال هذا وقد رأى مثل الثوري ومالك وابن جريج.

وقال قتيبة فيه: لو أدرك ابن حنبل عصر الثوري والأوزاعي والليث لكان هو المقدّم عليهم.

أما الإمام محمد بن إدريس الشافعي فقد روى عنه المزني أنه قال: رأيت ببغداد شابًا إذا قال: حدّثنا، قال الناس كلهم: صدقَ، فقال المزني: ومن هو قال: أحمد بن حنبل.

وروى حرملة عن الشافعي أنه قال: خرجت من بغداد فما خلفت بها رجلاً أفضل ولا أعلم ولا أفقه ولا أتقى من أحمد بن حنبل.

وروى الذهبي عن ابن المديني أنه قال: ليس في أصحابنا أحفظ من أحمد، وبلغني أنه لا يُحدث إلا من كتاب ولنا فيه أسوة، وقال أيضًا: أحمد اليوم حُجّة الله على خلقه.

كما جاء في "مناقب أحمد" لابن الجوزي أن بلالاً الخواص قال: كنتُ في تيه بني إسرائيل فإذا رجل يماشيني فعجبت منه ثم أُلهمت أنه الخضر، فقلت له: بحق الحق من أنت، قال: أخوك الخضر، قلت: أريد أن أسألك مسألة، قال: سل، قلت: ما تقول في الشافعي، قال: من الأوتاد، قلت: فأحمد بن حنبل، قال: صِدّيق.


حاله وورعه:

لقد بلغ الإمام أحمد رضي الله عنه من الخُلق ما جعله حديث الناس ومُقدَّمًا على الأكثرين، فقد جاء عن أبي الحسين بن المنادى أنه قال: سمعت جدي يقول: كان أحمد من أحيا الناس وأكرمهم نفسًا وأحسنهم عشرة وأدبًا، كثير الإطراق والغض، معرضًا عن القبيح واللغو، لا يسمع منه إلا المذاكرة بالحديث وذكر الصالحين والزهاد في وقار وسكون ولفظ حسن.

ويروي الذهبي عن أحد المشايخ أنه زار أحمد بن حنبل في بيته وقد سُرقت ثيابه، فذهب الشيخ إلى منزله وجاء بمائة درهم فلم يأخذه هبة ولا قرضًا، فقال أحمد: أليس قد سمعتَ معي من ابن عيينة، قال: بلى، قال: أأكتبه لك قال: بلى، قال: فكتب بدراهم اكتسى منها ثوبين.

وهناك رواية أخرى عن الذهبي أن الإمام أحمد رضي الله عنه قد رهن عند فامي [بائع الفوم أي الحمص] سطلاً ليشتري ما يقوته، ثم جاء بعد ذلك لفك الرهن، فأخرج إليه الفامي سطلين وقال: أيهما سطلك، فقال له: لا أدري، أنت في حلّ منه وما أعطيتك، فقال الفامي: والله إنه لسطله، وإنما أردت أن أمتحنه فيه.

وروى ابن حاتم عن أحمد بن سنان أن الإمام أحمد رضي الله عنه رهن نعله عند خباز باليمن وأكرى نفسه من جَمالَيْن عند خروجه لقاء قوته.

أما ابنه صالح فقد قال عنه: ربما رأيت أبي يأخذ الكِسَر ينفض الغبار عنها ويصيرها في قصعة ويصب عليها الماء ثم يأكلها بالملح. وما رأيته اشترى رمانًا ولا سفرجلاً ولا شيئًا من الفاكهة، إلا أن تكون بطيخة فيأكلها بخبز وعنبًا وتمرًا.

والروايات عن إعراضه عن ملذات الدنيا وزهده فيها وسلوكه درب التصوف والزهد، هي أكثر من أن نذكرها في هذا الموضع.

وكان رضي الله عنه كثير التواضع للشيوخ تواضعًا شديدًا، وكان يحب في الله ويبغض في الله، قال ابن سلام: جالست أبا يوسف ومحمد بن الحسن ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي فما هِبتُ أحدًا منهم ما هِبتُ أحمد بن حنبل.

وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل أنه قال: كان أبي يصلي في كل يوم وليلة ثلاثمائة ركعة، فلما مرض كان يصلي في كل يوم وليلة مائة وخمسين.


تبركه بآثار النبي صلى الله عليه وسلم:

ذكر الذهبي في سيرته ما لا يدع مجالاً للشك بأن الإمام كان على عادة أهل عصره والمسلمين عامة من التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى عن ابنه عبد الله أنه قال: رأيت أبي يأخذ شعرة من شعر النبي صلى الله عليه وسلم فيضعها على فيه ويُقبلها، وأحسب أني رأيته يضعها على عينيه ويغمسها في الماء ثم يشربه يستشفي به.

وروى الذهبي أيضًا عن ابنه عبد الله أنه سأله عمن يلمس رمانة منبر النبي صلى الله عليه وسلم ويمس الحجرة النبوية بقصد التبرك، فقال: لا أرى بأسًا بذلك.

كما روى الإمام في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قلَّم أظفاره ووزعها بين الصحابة ليتبركوا بها، وعنه أيضًا الرواية المشهورة، وهي أن مروان بن الحكم رأى رجلاً واضعًا وجهه على القبر النبوي الشريف فقال: يا رجل ماذا تصنع، فرفع رأسه فإذا هو أبو أيوب فقال: لقد جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ءاتِ الحجر.

فلا عبرة بعد ذلك لما يقوله نفاة التوسل والتبرك من تحريم التبرك بآثار الأنبياء والصالحين، ولا تكون نسبة ذلك إلى الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه إلا زورًا وبهتانًا.


وفاته:

ذكر ابن خلكان في الوفيات أن وفاته كانت ببغداد يوم الجمعة في الثاني عشر من ربيع الأول، وقيل الثالث عشر، وقيل من ربيع الآخر، سنة مائتين وواحد وأربعين للهجرة، ودفن بمقبرة باب حَرْب، وقُدّرَ من حضر جنازته من الرجال بثمانمائة ألف، ومن النساء بستين ألفًا، وقيل إنه أسلم يوم وفاته عشرون ألفًا من اليهود والمجوس وغيرهم.



الإمام البخاري
شيخ المحدثين وإمام المصنفين في الحديث



ترجمته:

هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن بَرْدِزْبَة، الجُعفي البخاري، ولد في مدينة بخارى يوم الجمعة بعد الصلاة لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال سنة مائة وأربع وتسعين للهجرة، ونشأ يتيمًا في حجر أمه. وقد ذهبت عيناه في صغره، فرأت والدته الخليل إبراهيم عليه السلام في المنام، فقال لها: لقد رد الله على ابنك بصره لكثرة بكائك.

أحبّ العلم منذ صغره فحفظ تصانيف ابن المبارك وهو صبي، وقرأ الكتب المشهورة وهو ابن ست عشرة سنة، حتى قيل إنه كان يحفظ وهو صبي سبعين ألف حديث سردًا. وقد أعانه على ذلك أنه كان يقرأ تراجم الرواة ويستوفي أخبارهم ويتتبع أحوالهم ويعرف شيوخهم وتلاميذهم وطرق أسانيدهم.

وقبل أن يغادر بلده سمع جميع مروياتها من محمد بن سلام البيكندي وعبد الله بن محمد المسندي وإبراهيم بن الأشعث، ومحمد بن يوسف البيكندي وغيرهم، ثم قصد مكة مع أمه وأخيه راغبًا في التلقي والرواية، فبقي في الحجاز ستة أعوام يتلقى فيها الحديث، وتنقل في البلاد فدخل الشام ومصر والجزيرة مرتين، والبصرة أربع مرات، والكوفة وبغداد مرات عديدة، فتلقى الحديث من محدثي كل بلد دخل إليه، حتى بلغ عدد الرجال الذين روى عنهم ألفًا وثمانين رجلاً كلهم مُحدثون.


مناقبه:

أورد الإمام التاج السبكي في طبقاته في معرض ترجمة إمام المحدثين أبي عبد الله البخاري، عن ابن عدي أنه قال: "سمعت عدة مشايخ يحكون أن البخاري قدم بغداد فاجتمع أصحاب الحديث فعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها بحيث جعلوا متن هذا لإسناد هذا، وإسناد هذا لمتن هذا، ودفعوا إلى كل واحد عشرة أحاديث ليلقوها على البخاري في المجلس، فاجتمع الناس وانتدب أحدهم فقام وسأله عن حديث تلك العشرة، فقال: لا أعرفه، فسأله عن ءاخر فقال: لا أعرفه، حتى فرغ من العشرة، فكان الفقهاء يلتفت بعضهم إلى بعض، ثم انتدب ءاخر فعل كفعل الأول والبخاري يقول: لا أعرفه، فلما فرغ الرجال العشرة التفت إلى الأول فقال: أما حديثك الأول فإسناده كذا وكذا، والثاني كذا وكذا... إلى ءاخر العشرة، فرد كل متن إلى إسناده، وفعل بالثاني في مثل ذلك إلى أن فرغ، فأقر له الناس بالحفظ".

كان البخاري منذ صغره شديد الحافظة بحيث يحفظ الأحاديث وأسانيدها سماعًا.

حفظ تصانيف ابن المبارك وقرأ الكتب المشهورة وهو ابن ست عشرة سنة وإنما عُرفت عنه هذه الحافظة العجيبة منذ صغره، فمما يرويه السبكي في طبقاته عنه أنه قال: "أُلهِمتُ حفظ الحديث في الكتّاب ولي عشر سنين أو أقل. وخرجت من الكُتّاب بعد العشر فجعلت أختلف إلى الداخلي وغيره، فقال يومًا فيما يقرأ على الناس: سفيان عن أبي الزبير عن إبراهيم، فقلت له: إن أبا الزبير لم يروِ عن إبراهيم، فانتهرني، فقلت له: ارجع إلى الأصل، فدخل ثم خرج فقال لي: كيف يا غلام قلت: هو الزبير بن عدي عن إبراهيم، فأخذ القلم مني وأصلحه وقال: "صدقت" ولما سئل البخاري عن سنّه ءانذاك قال: "كنت ابن إحدى عشرة سنة".

ومما يروى عن محمد بن أبي حاتم ورَّاق البخاري أنه قال: "سمعت حامج بن إسماعيل يقولان: كان البخاري يختلف معنا إلى السماع وهو غلام فلا يكتب حتى أتى على ذلك أيامًا، فكنا نقول له فقال: إنكما قد أكثرتما عليّ فاعرضا عليَّ ما كتبتما، فأخرجنا إليه ما كان عندنا فزاد على خمسة عشر ألف حديث، فقرأها كلها على ظهر قلب حتى جعلنا نُحكِمُ كُتبنا من حفظه".


مشايخه:

ولما كان عدد مشايخه أكثر من أن نحصره في هذا البحث، فإننا سنذكر أشهرهم، فقد سمع من: مكي بن إبراهيم البلخي، وعبدان بن عثمان المروزي، وعبيد الله بن موسى العبسي، وأبي عاصم الشيباني، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، ومحمد بن يوسف الفريابي، وأبي نعيم الفضل بن دكين، وأبي غسان الهندي، وسليمان بن حرب الواشجي، وأبي سلمة التبوذكي، وعفان بن مسلم، وعارم بن الفضل، وأبي الوليد الطيالسي، وأبي معمر المنقري، وعبد الله بن مسلمة القعنبي، وأبي بكر الحميدي، وعبد الله بن يوسف التنيسب، وأبي اليمان الحمصي، وأحمد بن حنبل، وإسماعيل بن أبي أويس المديني، ويحيى بن معين، وخلق كثيرين غيرهم.


أقوال العلماء فيه:

روي أن الإمام البخاري رأى نفسه في المنام واقفًا أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيده شيء يَذُبُ به عن رسول الله ولما سأل عن تأويل ذلك قال له بعض المعبرين: أنت تذب الكذب عن رسول الله.

جاء في "تهذيب الأسماء واللغات" عن حاشد بن إسماعيل أنه قال: "رأيت إسحاق بن راهويه جالسًا على سرير ومحمد بن إسماعيل معه، فأنكر عليه محمد شيئًا فرجع إسحاق إلى قول محمد، وقال إسحاق: يا معشر أصحاب الحديث، اكتبوا عن هذا الشاب، فإنه لو كان في زمن الحسن البصري لاحتاج الناس إليه لمعرفته بالحديث وفهمه".

وجاء في "البداية والنهاية" عن ابن خزيمة أنه قال: "ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحفظ له من البخاري".

وقال فيه إسحاق بن زيرك: "سمعت في سنة سبع وأربعين ومائتين محمد بن إدريس الرازي أبا حاتم يقول: يقدم عليكم رجل من أهل خراسان لم يخرج منها أحفظ منه، ولا قدم العراق أعلم منه، فقدم علينا محمد بن إسماعيل بعد أشهر".

ومما قاله الإمام المجتهد أحمد بن حنبل رضي الله عنه في مدحه وبيان مرتبته: "انتهى الحفظ إلى أربعة من أهل خراسان: أبو زرعة الرازي، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وعبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي، والحسين بن شجاع البلخي".

وجاء في طبقات السبكي عن محمد بن أبي حاتم وراق البخاري أنه قال: "سمعته يقول: ذاكرني أصحاب عمرو بن علي بحديث فقلت: لا أعرفه، فسُرُّوا بذلك وساروا إلى عمرو بن علي فقالوا له: ذاكرنا محمد بن إسماعيل بحديث فلم يعرفه، فقال عمرو: حديث لا يعرفه محمد بن إسماعيل ليس بحديث".

وجاء أيضًا في طبقات السبكي عن أحمد بن حمدون قوله: "جاء مسلم بن الحجاج إلى البخاي فقبَّل بين عينيه وقال: أقبِّل رجليك يا أستاذ الأستاذين ويا سيد المحدثين، ويا طبيب الحديث في علله".

وقال حاشد بن إسماعيل: "كنت بالبصرة فسمعت قدوم محمد بن إسماعيل، فلما قدم قال محمد بن يسار: دخل اليوم سيد الفقهاء.

وقد روي عن أبي سهل الشافعي أنه قال: "دخلت البصرة والشام والحجاز والكوفة ورأيت علماءها فكلما ذكر محمد بن إسماعيل فضلوه على أنفسهم".

وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل أنه قال: "قلت لأبي: يا أبت ما الحفاظ قال: يا بُنيّ شباب عندنا من أهل خراسان وقد تفرقوا، قلت: من هم يا أبت قال: محمد بن إسماعيل ذاك البخاري".

ومما قاله إبراهيم الخواص في البخاري: "رأيت أبا زرعة كالصبي جالسًا بين يدي محمد بن إسماعيل يسأله عن علل الحديث".


مؤلفاته:

لقد كان البخاري من أفذاذ العلماء الذين تركوا وراءهم المؤلفات العظيمة النافعة، وكان رضي الله عنه من أقدر الناس على التأليف وأمهرهم. وقد كثرت مؤلفاته التي نذكر أشهرها:
الجامع الصحيح: وهو المشهور بصحيح البخاري، الأدب المفرد: وهو من مؤلفاته القيمة، أسامي الصحابة، التاريخ: وهو كتاب جمع فيه الثقات والضعفاء من رواة الحديث. وهو ثلاث كتب: كبير ووسط وصغير، التفسير الكبير، الجامع الكبير، خلق أفعال العباد، خير الكلام في القراءة خلف الإمام، كتاب الضعفاء والمتروكين، كتاب العلل في الحديث، كتاب الفوائد، القراءة خلف الإمام، قضايا الصحابة والتابعين، كتاب المبسوط من الحديث، المسند الكبير، كتاب الوحدان: وهو كتاب جمع فيه كل من ليس له إلا حديث واحد من الصحابة.


وفاته:

توفي رحمه الله يوم السبت ليلة عيد الفطر من سنة ست وخمسين ومائتين للهجرة، عن عمر يناهز اثنتين وستين سنة إلا ثلاثة عشر يومًا. ودفن يوم الفطر بعد صلاة الظهر بقرية "خَرْتَنْك"، وهي قرية من قرى سمرقند.

وقد روى ابن عدي عن عبد القدوس بن عبد الجبار السمرقندي أنه قال: "جاء الإمام البخاري إلى خرتنك وكان له بها أقرباء ينزل عندهم، فسمعته ليلة وقد فرغ من صلاة الليل يقول في دعائه: اللهم ضاقت عليَّ الأرض بما رحبت فاقبضني إليك، فما تم الشهر حتى قبضه الله تعالى".

رحم الله الإمام البخاري وجزاه الله عنا خيرًا.


الإمام النَسائي



ترجمته:

هو الإمام المحدّث الحافظ، العالم الرباني، الصالح الورع، الذي نذر نفسه لعلم هو من أشرف العلوم وأهمها في ديننا الحنيف، ألا وهو علم الحديث، هو أبو عبد الرحمن أحمد بن علي بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر النسائي نسبة إلى نَسا مدينة بخراسان، كان حبرًا إمامًا من أئمة الدنيا في الحديث.


دراسته:

كان أبو عبد الرحمن مقتديًا بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي قال في الحديث الذي رواه الطبراني في معجمه وابن أبي عاصم في كتابه رحمهما الله تعالى بالإسناد الصحيح من حديث معاوية: "يا أيها الناس تعلموا فإنما العلم بالتعلم والفقه بالتفقه فمن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين"، حيث بدأ رحمه الله رحلاه في طلب العلم سنة مائتين وثلاثين للهجرة، فسمع من قتيبة بن سعيد، واسحاق بن راهويه، وهشام بن عمار، وعيسى بن حماد، والحسين بن منصور السلمي النيسابوري، وعمرو بن زرارة، ومحمد بن النصر المروزي، وسويد بن نصر، وأبي كريب، ومحمد بن رافع، وعلي بن حجر، وأبي يزيد الجرمي ويونس بن عبد الاعلى، وخلق سواهم بخراسان والعراق والشام ومصر والحجاز والجزيرة.

ولم يغفل رضوان الله عليه عن تبليغ ما تعلم كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "بلغوا عني ولو ءاية" رواه البخاري، فاشتغل بذلك أيضًا، وروى عنه أبو بشير الدولابي، وأبو علي الحسين النيسابوري، وحمزة بن محمد الكناني، وأبو بكر أحمد بن السني، ومحمد بن عبد الله بن حيويه، وأبو القاسم الطبراني، وغيرهم.

ثم رحل إلى قتيبة وهو ابن خمس عشرة سنة وقال: "أقمت عنده سنة وشهرين".


حياته:

أما مسكنه فكان في مصر في زقاق القناديل، وكان يصوم صيام داود عليه السلام حيث يصوم يومًا ويفطر يومًا، وله أربع زوجات يقسم لهن، مع عدم خلوه عن السراري. ثم لما دخل دمشق وسئل عن معاوية وما رُوي من فضائله قال: ما اعرف له فضيلة إلا "لا أشبع الله بطنك"، فأخرج من المسجد.

وأنكر عليه بعضهم تصنيفه كتاب الخصائص لعلي، وهو كتاب يذكر فيه فضائل الإمام علي رضي الله عنه فقيل له: كيف تركت تصنيف فضائل الشيخين فقال: "دخلت إلى دمشق والمنحرف بها عن علي كثير فصنفت كتاب الخصائص رجاء أن يهديهم الله" فكان رضي الله عنه من الجهابذة الحفاظ من أهل السنة الذين اشتغلوا ببث فضائله حتى كثرت نصحُا للأمة ونصرة للحق.


أقوال العلماء فيه:

أما عن أقوال العلماء فيه: فقد قال أبو علي النيسابوري حافظ خراسان في زمانه: حدثنا الإمام في الحديث بلا مدافعة، أبو عبد الرحمن النسائي، وقال منصور الفقيه، وأبو جعفر الطحاوي: "النسائي إمام من أئمة المسلمين". وقال الدارقطني: "أبو عبد الرحمن مقدم على كل من يذكر بهذا العلم من أهل عصره".


مؤلفاته:

وللنسائي مصنفات كثيرة كلها نافع مفيد تلوح منه علامات التحقيق والباع الطويل، وتكشف عن روح مُخلصة وراغبة عن الشهرة، وذيوع الصيت، ومما أتحف به الامة الإسلامية:

1- "غرائب شعبة على سفيان وسفيان على شعبة" في الحديث.
2- "كتاب السنن" روى بعض الامراء لما سأله عن السنن الكبير أكلُّه صحيح فقال: لا، فقال: فاكتب عن الصيح مجردًا، فلخص السنن الصغيرة منها وهو أحد الكتب الستة.
3- مسند علي رضي الله عنه وقد ذكره غير واحد من أصحاب الكتب الستة.
4- الخصائص في فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
5- تسمية فقهاء الانصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من أهل المدينة.
6- تسمية من لم يرو عنه غير رجل واحد.
7- تفسير ذكره له ابن خير الاشبيلي والزركشي في البرهان في علم القرءان وابن حجر في فتح الباري والسيوطي في حسن المحاضرة.
8- مناسك النسائي: ألفها على مذهب الشافعي.
9- كتاب الضعفاء والمتروكين في رواة الحديث.
10- كتاب عمل اليوم والليلة.
11- كتاب الجمعة، ذكره البغدادي في هدية العارفين.
12- التمييز: سماه السيوطي في تدريب الرواي. أسماء الرواة والتمييز بينهم.
13- جزء من حديث عن النبي.
14- تصنيف في معرفة الإخوة والاخوات من العلماء والرواة. ذكره ابن الصلاح في مقدمته، والسخاوي في فتح المغيث، والنووي في التقريب، والسيوطي في تدريب الراوي، وابن حجر في تهذيب التهذيب.


وفاته:

وقد اختلفوا في مكان موت النسائي، فالصحيح أنه أخرج من دمشق لما ذكر فضائل علي، قيل ما زالوا يدفعونه في خصيته حتى أخرج من المسجد، ثم حُمل إلى الرملة فتوفي بها.

وقال أبو سعيد بن يونس توفي بفلسطين يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من صفر سنة ثلاث وثلاثمائة، وقيل حمل إلى مكة فدفن بها بين الصفا والمروة.



ابن جرير الطبري
المؤرخ المجتهد صاحب المصنفات



ترجمته:

هو الإمام الجليل المجتهد المطلق أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب، ولد في طبرستان سنة مائتين وأربع وعشرين للهجرة، وقيل مائتين وخمس وعشرين. وقد تحدث عن أمره في حداثة سنه فقال: "حفظت القرءان ولي سبع سنين، وصليت بالناس وأنا ابن ثمان سنين، وكتبت الحديث وأنا ابن تسع".

وكان أبوه ورعًا تقيًا متصوفًا ذا يسار، فما إن أحسَّ من ابنه رجاجة في عقله ونزوعًا إلى العلم، حتى دفعه إلى الرحلة في سبيل طلب العلم، فكان أول ما رجل إلى الريِّ وما جاورها من البلاد، فأخذ عن شيوخها وأكثرَ، ودرس الفقه في العراق على أبي مقاتل، وكتب عن أحمد بن حماد الدولابي كتاب "المبتدأ" وأخذ مغازي ابن إسحاق عن سلمة بن الفضل وعليه بنى تاريخه فيما بعد.

ثم رحل إلى الكوفة فكتب فيها الحديث عن هنّاد بن السري وإسماعيل بن موسى، وأخذ عن سليمان بن خلاد الطلحي القراءات. ولقي في الكوفة أبا كريب محمد بن العلاء الهمذاني الذي كان علم عصره، فسمع منه أكثر من مائة ألف حديث.

ومن الكوفة ارتحل إلى بغداد حيث انقطع إلى أحمد بن يوسف التغلبي المقرئ ثم انكب على الفقه الشافعي فدرسه واتخذه مذهبًا وأفتى به سنوات.

وفي طريقه إلى مصر عرج على الشام فالتقى في بيروت العباس بن الوليد البيروتي المقرئ، فختم عليه القرءان برواية الشاميين، وتابع سيره إلى الفسطاط حتى بلغها سنة مائتين وثلاث وخمسين للهجرة. وطالت أيامه في مصر سنوات عرَّج خلالها على الشام وأخذ من فقه الشافعي من الربيع والمزني وأبناء عبد الحكم، ومن فقه مالك عن تلاميذ ابن وهب.

وبعد فترة طويلة قضاها في مصر عاوده الحنين إلى بغداد فعاد إليها بعد رحلة طويلة وعزم على أن ينقطع للدرس والتأليف وبنى لنفسه دارًا وزّع نفسه فيها بين العبادة والقراءة والتدريس والتأليف.


مناقبه:

اشتُهر عند كثير من العلماء والمؤرخين غزارة علم الإمام المجتهد محمد بن جرير الطبري وكثرة مؤلفاته، فقد كان واحدًا من أولئك الأفذاذ الذين سالت أقلامهم فخطّت من المصنفات في العلوم المختلفة ما يدعو إلى العجب، فقد أورد التاج السبكي في طبقاته بمعرض ترجمته للإمام الطبري عن علي بن عبد الله السمساني أن الإمام بقي أربعين سنة يكتب في كل يوم منها أربعيم ورقة. وذكر الفرغاني في كتابه "صلة التاريخ" أن بعض تلامذة الإمام الطبري حسبوا له عدد الصحائف التي خطها بيده، ثم قسموها على عدد أيامه منذ أن بلغ الحُلُم إلى أنا مات، فكان نصيب كل يوم من أيامه أربع عشرة ورقة.

يروي ابن سُريج في جملة ما يثبت غزارة تصانيف الإمام الطبري، أنه مرة قال لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرءان [أي لاستملائه]، فقالوا: كم يكون قدره قال: ثلاثون ألف ورقة فقالوا: هذا مما يُفني الأعمار قبل تمامه، فاختصره في نحو ثلاثة ءالاف ورقة ثم قال: هل تنشطون لتاريخ العالم من ءادم إلى وقتنا قالوا: كم قدره فذكر نحوًا مما ذكره في التفسير، فأجابوا بمثل ذلك، فقال: إنا لله، ماتت الهمم، فاختصره في نحو ما اختصر التفسير. والكتابان هما: "جامع البيان عن تأويل ءاي القرءان"، و"تاريخ الأمم والملوك" المعروف بتاريخ الطبري.

ومما ذكره التاج السبكي في طبقاته أنه قرأ على محمد بن إسماعيل بن الخباز قصة مفادها أن رحلة جمعت بين محمد بن جرير الطبري ومحمد بن إسحاق بن خزيمة ومحمد بن نصر المروزي ومحمد بن هارون الروياتي في بيت بمصر كانوا يأوون إليه ولم يكن عندهم ما يقوتهم وأثَّر فيهم الجوع، فاتفقوا على أن يقوم واحد منهم فيسأل لأصحابه الطعام، فكانت القرعة على ابن خزيمة. وبينما هو يصلي صلاة الخيرة إذا برجل من قبل والي مصر يقرع الباب ويدخل عليهم ويسأل: أيكم محمد بن نصر، فقيل: هو ذا، فأخرج صرة فيها خمسون دينارًا فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن جرير، فقالوا: هو ذا، فأخرج صرة فيها ما في الأولى فدفعها إليه، وفعل بالباقين كذلك وقال: إن الأمير كان نائمًا بالأمس فرأى في المنام خيالاً قال له: إن المحامد جياع عندك فأنفِذْ إليهم هذه الصرار، وإن الأمير يُقْسِمُ عليكم إذا نفدت أن تبعثوا إليه.


ثناء العلماء عليه:

من هؤلاء العلماء الذين عرفوا قدره ومنزلته من العلم التاج السبكي صاحب الطبقات الذي قال فيه: "الإمام الجليل المجتهد المطلق أبو جعفر الطبري من أهل طبرستان، أحد أئمة الدنيا علمًا ودينًا".

وقال فيه الخطيب: "كان ابن جرير أحد الأئمة يُحْكَمُ بقوله ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله. جمعَ من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، فكان حافظًا لكتاب الله، بصيرًا بالمعاني في أحكام القرءان، عالمًا بالسنن وطرقها صحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها، عارفًا بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المخالفين في الأحكام ومسائل الحلال والحرام، عارفًا بأيام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في تاريخ الأمم والملوك وكتاب في التفسير لم يصنف أحد مثله".

وفي كتاب "غاية النهاية في طبقات القراء" يورد ابن الجزري عن أبي حامد الإسفراييني إمام الشافعية في عصره أنه قال: "لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل تفسير ابن جرير لم يكن كثيرًا". وقال فيه الداني أبياتًا من الشعر:

محمد بن جرير *** إمام أهل زمانه
وكل جاهل عِلمٍ *** فعارف بمكانه
وكُتبه قد أبانت *** عن علمه وبيانه
عفا المهيمن عنه *** وزاد في إحسانه


مصنفاته:

تنوعت تصانيفه الكثيرة في العلوم المختلفة من تفسير وحديث وفقه وغيره، واتسمت بالغزارة والقوة والإحاطة. ومن أشهر هذه المصنفات:

ءاداب المناسك، اختلاف علماء الأمصار في أحكام شرائع الإسلام، تاريخ الأمم والملوك المشهور بتاريخ الطبري، جامع البيان عن تأويل ءاي القرءان، الجامع في القراءات، الخفيف في الفقه، الرد على الحرقوصية، ريح السنة، وهو رسالة ذكر فيها مذهبه، طرق الحديث، كتاب العدد والتنزيل، كتاب الفضائل، مختصر الفرائض، كتاب المسترشد، السند المجرد، كتاب الوقف، هذا بالإضافة إلى بعض المؤلفات التي بدأ تأليفها وحال موته دون إتمامها.


وفاته:

توفي في بغداد برحبة يعقوب يوم السبت ليومين بقيا من شوال سنة ثلاثمائة وعشر للهجرة، ودفن يوم الأحد في داره. وقد قال الخطيب في تاريخ بغداد: "واجتمع على جنازته من لا يحصي عددهم إلا الله، وصُلي على قبره عدة شهور ليلاً ونهارًا، ورثاه خلق كثير من أهل الدين والأدب" ومن ذلك قول ابن الأعرابي فيه:

حدث مفظع وخطب جليل *** دق عن مثله اصطبار الصبور
قام ناعي العلوم أجمع لما *** قام ناعي محمد بن جرير

وقال فيه ابن دريد:

إن المنية لم تتلف به رجلاً *** بل أتلفت علمًا للدين منصوبا
كان الزمان به تصفو مشاربه *** والآن أصبح بالتكدير مقطوبا
كلا وأيامه الغر التي جعلت *** للعلم نورًا وللتقوى محاريبا

جزى الله الإمام محمد بن جرير الطبري عن أمة محمد خيرًا.



الإمام الطبراني



ترجمته:

هو الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي رحمه الله تعالى، من طبرية الشام، ولد سنة ستين ومائتين للهجرة.

وكان الحافظ الطبراني أشهر أهل زمانه في علم الحديث وصنعته، عالمًا بالتفسير فقيهًا سيفًا مسلطًا على رقاب الزنادقة والمبتدعة من جهمية ومعتزلة وغيرهم، فقد ردّ عليهم بمؤلفات عديدة بيَّن فيها انحرافاتهم ورد عليها فأفاض وأجاد. وقد جمع إلى كل هذا كثرة الحفظ وسعة العلم وشدة الذكاء، وحسن السيرة، كما أنه كان معروفًا بحلمه وجلال قدره وصلابته في الحق.


مشايخه:

رحل الإمام الطبراني إلى أصبهان أول مرة سنة تسعين ومائتين ثم تركها مدة من الزمن وعاد إليها ثانية سنة عشر أو إحدى عشرة وثلاثمائة ليسمع الحديث من أبي بكر أحمد بن عمرو بن عاصم النبيل، وعبد الله بن محمد بن زكريا، لكنه لم يلحقهما لكونهما توفيا قبل دوله إلى أصبهان، فسمع بها ممن أدركه من شيوخها مثل إبراهيم بن محمد المعروف بنائلة، ومحمود بن أحمد بن الفرج، وإبراهيم بن متويه، ومحمد بن العباس الأخرم، ومحمد بن يحيى بن منده، وروى عن كثير غيرهم من الأكابر ممن يطول ذكرهم.


ذكر بعض من روى عنه:

وأما الذين أخذوا عنه فهم كثر، قال أبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الرحمن رحمه الله: "حدّث سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني بأصبهان ستين سنة، فسمع منه الآباء ثم الأبناء فالأسباط حتى لحقوا بالأجداد"، وروى عنه جماعة من كبار المحدثين كابن عقدة، وأبي علي الصحاف، وأبي عبد الله بن خفيف، والقاضي أبي أحمد العسال، وإبراهيم بن محمد بن حمزة، وأبي الشيخ وغيرهم كثير، ومن المتأخرين ما يصعب حصرهم.


مناقبه:

لقد كان من جملة ما أكرم الله تعالى الإمام الطبراني التواضع وترك التكبر في طلب العلم، مع رزانة العقل وفصاحة المنطق وعذوبة الحديث بل وأكثر من ذلك حيث أنعم عليه البارئ عز وجل برؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام مرات عديدة كما روى عنه معاصروه من أهل العلم، فحاز بها البشرى بحسن الخاتمة. ورويَ عنه أنه رحمه الله قال: ورأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المنام كأنه في قصر عال وكنت مُغتمًا مُتفكرًا في بعض أموري، فكان يقول لي بكلام عال: اللهم اكفني ما أهمني وما لا أهتم به من أمور الدنيا والآخرة.

لقد كان الإمام الطبراني رضي الله عنه على المحجّة البيضاء متمسكًا بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الاعتقاد، يعرف الفضل لأهله ويُعظِّم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ويعتقد أن التوسل بالأنبياء والأولياء أمر جائز مستحسن في الشرع وأنهم ينفعون بإذن الله في حال حياتهم وبعد مماتهم.

وهو واحد من الأعلام الذين رووا الحديث الذي فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم علّم الأعمى أن يتوسل به فذهب فتوسل به في حال غيبته وعاد إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وقد أبصر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علّم هذا الضرير أن يقول: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي –ويسمي حاجته- لتقضى لي.

وقد قال الحافظ الطبراني رحمه الله في معجمه بعد أن ساق هذا الحديث: والحديث صحيح. مع أنه من عادته أنه لا يصحح حديثًا مع اتساع كتابه المعجم الكبير، ما قال عن حديث أورده ولو كان صحيحًا: "الحديث صحيح"، إلا عن هذا الحديث.

وروى ابن الجوزي الحنبلي في كتابه: "الوفا بأحوال المصطفى" عن أبي بكر المِنقريّ قال: كنتُ أنا والطبراني وأبو الشيخ في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا على حالة، فأثَّر فينا الجوع، فواصلنا ذلك اليوم، فلما كان وقت العشاء حضرتُ قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلتُ: يا رسول الله الجوع الجوع، وانصرفت. فقال لي أبو الشيخ: اجلس فإمّا أن يكون الرزق أو الموت، قال أبو بكر: فنمتُ أنا وأبو الشيخ، والطبراني جالس ينظر في شيء فحضر بالباب رجل من ءال علي بن أبي طالب رضي الله عنه فدقّ الباب، فإذا معه غلامان مع كل واحد منهما زنبيل كبير فيه شيء كثير. فجلسنا وأكلنا، وظننا أن الباقي يأخذه الغلام، فولّى وترك عندنا الباقي، فلما فرغنا من الطعام قال الرجل: يا قوم أشكوتم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم فأمرني بحمل شيء إليكم.

وإنا لنعجب من أمر أهل الجفاء قساة القلوب نفاة التوسل الذين يكفّرون المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ويتهمونهم بالشرك، لانهم يتوسلون إلى الله بالأنبياء والأولياء، أين ذهبوا بالأحاديث التي وردت بأن النبي صلى الله عليه وسلم علّم أصحابه التوسل وأين ذهبوا بأقوال وأفعال العلماء من السلف والخلف والأغرب من ذلك ادعاؤهم بأنهم على مذهب السلف وأنهم مُتّبعون للشرع، وهم على حسب ما يزعمون وما يعتقدون قد كفّروا سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم الذي جاءنا بأحكام الشرع، وجعلوه مقررًا للشرك مُعلّمًا له والعياذ بالله من الضلال، لأنه علّم الأعمى أن يتوسل به في غير حضرته، نعوذ بالله من موت القلوب ومن الزيغ والانحراف.


ذكر بعض تآليفه:

كان الطبراني رحمه الله واسع العلم كثير التصانيف ومن أشهر ما صنف:
كتاب المعجم – مائتا جزء، كتاب المعجم الأوسط – أربعة وعشرون جزءًا.
كتاب المعجم الصغير - سبعة أجزاء، مسند العشرة – ثلاثون جزءًا، مسند الشاميين – عشرة أجزاء، كتاب النوادر – عشرة أجزاء، كتاب الفوائد – عشرة أجزاء، كتاب دلائل النبوة – عشرة أجزاء، كتاب الطوالات – ثلاثة أجزاء، كتاب التفسير، كتاب الرد على المعتزلة، كتاب الرد على الجهمية.
وغيرها كثير فقد بلغ عدد ما وُجِد من تصانيفه ما يزيد على مائة مُصنف في علوم مختلفة وفنون شتى.


وفاته:

قال الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه: توفي سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني في ذي القعدة يوم السبت، ودفن يوم الأجد لليلتين بقيتا منه سنة ستين وثلاثمائة بباب مدينة أصبهان إلى جنب قبر حممة الدوسي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبره معروف يزار، وله ابن يسمى محمدًا ويكنى أبا ذر، وبه بنت تسمى فاطمة، أمها أسماء بنت أحمد بن محمد بن شذرة الخطيب، وذكر أنها كانت تصوم يومًا وتفطر يومًا وكانت لا تنام من الليل إلا قليلاً رحمها الله.

رحم الله الإمام الطبراني وجزاه عن أهل الإسلام خيرًا.



الإمام الماتريدي



ترجمته:

هو أبو منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي السمرقندي، والماتريدي نسبة إلى ماتريد، وهي محلة بسمرقند فيما وراء النهر.

وكان الإمام الماتريدي والإمام أبو الحسن الأشعري الإمامين الجليلين اللذين حررا عقيدة أهل السنة والجماعة بالأدلة النقلية والعقلية، وقد لقب الماتريدي بـ"إمام الهدى" و"إمام المتكلمين" وغيره من الألقاب وهي ألقاب تظهر مكانته في نفوس مسلمي عصره ومؤرخيه. ورغم ذيوع اسمه واشتهاره واشتهار فرقة الماتريدية المنسوبة إليه فقد كان المؤرخون الذين كتبوا عنه قلة.

ولم تذكر المراجع سنة ميلاده بالتحديد ولكن يمكن القول إنه ولد في عهد المتوكل الخليفة العباسي، وإنه يتقدم على الإمام الحسن الأشعري ببضع وعشرين سنة.

ولد في بيت من البيوت التي شغفت بالعلوم الدينية، فنشأ وتعلم علوم الدين منذ صغره، ولم يتقاعس لحظة في الدعوة إلى مذهب أهل السنة والدفاع عنه والتمسك به، ولم يفتر عزمه عن الاشتغال بعلم الكلام والتأليف فيه ونصب الأدلة والحجج والبراهين.


مشايخه:

إن المراجع لم تذكر إلا القليل من مشايخه الذين تلقى علومه عنهم إلا أنهم جميعًا يصل سندهم في العلم إلى الإمام الجليل أبي حنيفة النعمان، وقد ذكر صاحب "الجواهر المضيئة" أن الماتريدي تخرج بأبي نصر أحمد بن العباسي بن الحسين العياضي، وتفقه على أبي بكر أحمد الجوزجاني ونصير بن يحيى البلخي، ومحمد بن مقاتل الرازي.

أما أبو نصر العياضي وأبو بكر الجوزجاني فقد تفقها على الإمام أبي سليمان موسى بن سليمان الجوزجاني، وهذا الأخير تفقه على صاحبي أبي حنيفة: أبي يوسف القاضي ومحمد بن الحسن الشيباني اللذين تفقها على أبي حنيفة. وأما نصير البلخي ومحمد بن مقاتل الرازي فقد تفقّها على الإمامين أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي، وأبي مقاتل حفص بن سلم السمرقندي اللذين تفقها على الإمام أبي حنيفة كذلك.

وأما علومه فقد دارت حول تأويل القرءان الكريم وأصول الفقه وعلم الكلام وما يتعلق به، وقد درس العلوم العقلية، كما درس العلوم النقلية درسًا متقنًا عميقًا، ووقف على دقائقها حتى صار إمامًا مبرزًا في الفقه والتأويل وعلم الكلام.

وبعد أن نال القسط الوفير من الثقافة والعلم انصرف إلى التدريس والتثقيف، فصنّف وألّف وكرّس حياته لحماية الإسلام ونصرة عقيدة أهل السنة والجماعة حتى وصفه العلماء بأنه كان إمامًا جليلاً، مناضلاً عن الدين، موطدًا لعقائد أهل السنة، قطع المعتزلة وذوي البدع في مناظراتهم، وخصمهم في محاوراتهم إلى أن أسكتهم.


مؤلفاته:

كان للإمام أبي منصور الماتريدي العديد من المؤلفات، منها ما كان في علم الكلام والعقيدة، ومنها ما كان في أصول الفقه، ومنها ما كان في تأويل القرءان.

أما في علم الكلام فله عدة مصنفات منها كتاب "التوحيد"، وكتاب "المقالات"، وكتاب "الرد على القرامطة"، و"بيان وهم المعتزلة"، و"رد الأصول الخمسة لأبي محمد الباهلي" و"أوائل الأدلة للكعبي" و"رد كتاب وعيد الفساق للكعبي" و"رد تهذيب الجدل للكعبي" وغيرها.

وأما في علم أصول الفقه فقد ذكرت كتب الطبقات وكتاب "كشف الظنون" كتابين في أصول الفقه هما: "الجدل"، وكتاب "مأخذ الشرائع في أصول الفقه" وجاء في "بدائع الصنائع" في أثناء استنباط أوقات الصلوات الخمس من قوله تعالى: {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السموات والأرض وعشيًا وحين تُظهرون} [سورة الروم/ءاية 17-18] قال الشيخ أبو منصور الماتريدي السمرقندي إنهم فهموا من هذه الآية فرضية الصلوات الخمس، ولو كانت أفهامهم مثل أفهام أهل زماننا لما فهموا منها سوى التسبيح المذكور.

وأما مؤلفات الإمام الماتريدي في تأويل القرءان فمنها كتاب "تأويلات أهل السنة"، وقد ذكره بهذا العنوان صاحب "كشف الظنون"، لكن نسخة "كوبريلّي" عنونت بـ"تأويلات الماتريدي في التفسير"، وأما أصحاب الطبقات فقد ذكروه باسم "تأويلات القرءان" وهذا الاسم تحمله النسخ الأخرى الموجودة في تركيا والهند وألمانيا والمدينة المنورة ودمشق والمتحف البريطاني وطشقند. ولعل الكتاب كان يحمل الاسمين في مبتدإ الأمر فاختصره المؤرخون وأصحاب الطبقات على ذلك.

وقد وصف الإمام عبد القادر القرشي المتوفى سنة سبعمائة وخمس وسبعين للهجرة هذا الكتاب بقوله: "هو كتاب لا يوازيه فيه كتاب بل لا يدانيه شيء من تصانيف من سبقه في ذلك الفن".

وجاء في نسخة مكتبة "خدابخش" في الصحيفة الأولى إسناد كتاب "تأويلات القرءان" إلى الماتريدي، وجاء فيما يليه مقدمة من مؤلف هذا الكتاب وعن تعريف التفسير والتأويل، وجاء في مقدمة الكتاب أيضًا ما نصه: "قال الشيخ الإمام الزاهد علم الدين شمس العصر، رئيس أهل السنة والجماعة أبو بكر محمد بن أحمد السمرقندي رحمه الله تعالى: إن كتاب التأويلات المنسوب إلى الشيخ الإمام أبي منصور الماتريدي رحمه الله كتابٌ جليل القدر، عظيم الفائدة في بيان مذهب أهل السنة والجماعة في أصول التوحيد، ومذهب أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله في أصول الفقه وفروعه على موافقة القرءان" ا.هـ.

وذكر صاحب "كشف الظنون" كتاب "تأويلات القرءان" تحت عنوان "تأويلات الماتريدية في بيان أصول أهل السنة وأصول التوحيد"، وصرح بأنه ثمانية مجلدات وأن الشيخ علاء الدين محمد بن أحمد هو الذي جمعه.

وجاء في "تأويلات القرءان" في تفسير قوله تعالى: {قال ربّ أرني أنظر إليك قال لن تراني} [سورة الأعراف/ءاية:143] قوله: "والقول بها [يعني رؤية الرب] لازم عندنا في الآخرة، وحق من غير إدراك ولا تفسير" ا.هـ. أي من غير تشبيه ولا كيفية.

ومن تصانيف الإمام أبي منصور الماتريدي كتاب "شرح الفقه الأكبر" وهو كتاب يُعرف محتواه من عنوانه، فقد تناول كتاب "الفقه الأكبر" لأبي حنيفة بالشرح والإيضاح والتفسير.


وفاته:

ذكر صاحب كتاب "كشف الظنون" أن الإمام الماتريدي توفي سنة ثلاثمائة واثنين وثلاثين للهجرة، غير أنه عاد بعد ذلك في مواطن أخرى فاتفق مع جمهرة المؤرخين على أن وفاته كانت سنة ثلاثمائة وثلاث وثلاثين للهجرة. وذكر عبد الله القرشي في "الفوائد البهية" بأنه توفي سنة ثلاثمائة وثلاث وثلاثين للهجرة، وأن قبره بسمرقند.



الخطيب البغدادي



ترجمته:

هو أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي البغدادي، ولد سنة ثلاثمائة واثنتين وتسعين للهجرة وكان أبوه خطيبًا بقرية دَرْزيجان وهي قرية قرب بغداد على الجانب الغربي لدجلة، فحضه على سماع الحديث والفقه فسمع وهو ابن إحدى عشرة سنة، وارتحل إلى البصرة وهو ابن عشرين سنة، وإلى نيسابور وهو ابن ثلاث وعشرين، وإلى الشام ومكة وغيرها من البلدان، وسمع من أبي عمر الفارسي وأحمد بن محمد بن الصلت الأهوازي وإبراهيم بن مخلد وأبي الفضل التميمي وأبي القاسم الحسن بن الحسن بن المنذر وغيرهم، وسمع بنيسابور من القاضي أبي بكر الحيري وأبي سعيد الصيرفي والحافظ أبي حازم العبدوي وكثيرين غيرهم.

وفي دمشق قرأ صحيح البخاري على كريمة بنت أحمد في خمسة أيام ثم رجع إلى بغداد حيث حظي عند الوزير أبي القاسم بن مسلمة.

وذكر ياقوت الحموي في "معجم المؤلفين" وغيره أن الإمام الخطيب لما حجّ شرب من ماء زمزم ثلاث شربات وسأل الله تعالى ءاخذًا بالحديث: "ماء زمزم لما شرب له" ثلاث حاجات: أن يُحدّث بتاريخ بغداد، وأن يُملي الحديث بجامع المنصور، وأن يدفن عند قبر بشر الحافي فاستجاب الله له فيها جميعًا.

خرج إلى صور وبها عز الدولة الذي كان أحد الأجواد، فأحسن صلته وأعطاه مالاً كثيرًا، وصنف ما ينيف على خمسين مصنفًا من العلوم المختلفة.


مناقبه:

ومن جملة الأدلة التي تثبت مكانة الإمام الخطيب البغدادي في التاريخ وباعه فيه، وتدل على أهمية أن يكون في تاريخنا الإسلامي أناس أمناء وقفوا أنفسهم لحمل هذا العلم وتدوينه وصيانته، ما ذكر في أكثر من كتاب أن اليهود من أهل خيبر أظهروا في زمن الخطيب البغدادي كتابًا يدعون أنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه فيه إسقاط للجزية عنهم، وادعوا أنه بخط علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأن فيه شهادة معاوية بن أبي سفيان وسعد بن معاذ، فوقف الخطيب البغدادي على هذا الكتاب وعرف أنه مزور ومكذوب، ولما طلب منه الدليل على ذلك قال: لأن فيه شهادة معاوية بن أبي سفيان ولم يكن أسلم يوم خيبر بل بعد ذلك يوم الفتح، وفيه شهادة سعد بن معاذ، وقد مات قبل خيبر عام الخندق سنة خمس للهجرة، فاستحسن الناس منه ذلك وأقروا بعلمه ومكانته.

ولم يقتصر تبحر الإمام الخطيب على التاريخ الذي بلغ فيه مبلغًا عظيمًا، بل إلى جانب ذلك حصّل من علم الحديث الشريف ما جعله حافظًا كبيرًا دعا الإمام أبا إسحاق الشيرازي إلى أن يشبهه بالدارقطني، وقال فيه مؤتمن الساجب: ما أخرجت بغداد بعد الدارقطني مثل الخطيب البغدادي، هذا بالإضافة إلى اضطلاعه بالأدب إذ كان فصيح اللهجة أديبًا شاعرًا سمع منه بعض الشعر في الحكم والمواعظ.


ثناء العلماء عليه:

قال الذهبي في "سير الأعلام" عند أول ترجمته له، مثنيًا عليه: "الإمام الأوحد العلامة المفتي الحافظ الناقد، محدث الوقت أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي البغدادي، صاحب التصانيف وخاتمة الحفاظ".

وفي كتاب "المستفاد من ذيل تاريخ بغداد" يقول فيه ابن ماكولا: "كان أبو بكر ءاخر الأعيان ممن شاهدناه معرفة وحفظًا وإتقانًا، وضبطًا لحديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتفننًا في علله وأسانيده، وعلمًا بصحيحه وغريبه وفرده ومنكره ومطروحه، ولم يكن للبغداديين بعد الدارقطني مثله. سألت أبا عبد الله الصوري عن الخطيب وأبي نصر السجزي: أيهما أحفظ؟ ففضل الخطيب تفضيلاً بينًا".

وفي "تذكرة الحفاظ" و"الطبقات" السبكي نقل عن ابن إسحاق الشيرازي قوله في الإمام الخطيب البغدادي: "أبو بكر الخطيب يُشبّه بالدارقطني ونظرائه في معرفة الحديث وحفظه".

ومما قاله السمعاني فيه: "سمعت يوسف بن أبي أيوب بمرو يقول: حضر الخطيب درس شيخنا أبي إسحاق فروى أبو إسحاق حديثًا من رواية بحر بن كنيز السقاء، ثم قال للخطيب: ما تقول فيه؟ فقال: إن أذنت لي ذكرت حاله، فانحرف أبو إسحاق وقعد كالتلميذ، وشرع الخطيب يقول، وشرح أحواله شرحًا حسنًا، فأثنى الشيخ عليه وقال: هذا دارقطني عصرنا".

وقال فيه أبو علي البرداني: "حدثني حافظ وقته أبو بكر الخطيب، وما رأيت مثله ولا أظنه رأى مثل نفسه".

وفيه قال السلفي: "سألت شجاعًا الذهلي عن الخطيب فقال: إمام مصنف حافظ، لم ندرك مثله".


مصنفاته:

لقد كانت مؤلفات الخطيب البغدادي تنيف على خمسين مؤلفًا. وقد جعلها أبو سعد السمعاني ستة وخمسين، أشهرها: "الفقيه والمتفقه"، "الجامع"، "السابق واللاحق"، "المتفق والمفترق"، "الموضح"، "الاحتجاج بالشافعي"، "البسملة وأنها من الفاتحة"، "أسماء المدلسين"، "تقييد العلم"، "القول في النجوم"، "النهي عن صوم يوم الشك". وأِهر هذه الكتب كتابه الذي ألفه في التاريخ وسماه "تاريخ بغداد".

وإلى جانب ذلك نقل عنه الشعر الحسن كقصيدته التي قال فيها:

لعمرُك ما شجاني رسم دار *** وقفتُ به ولا ذِكر المعاني
ولا أثر الخيام أراق دمعي *** لأجل تَذكري مهد الغواني
ولا ملك الهوى يوما قيادي *** ولا عاصيته فثنى عناني
طلبت أخًا صحيح الود محضًا *** سليم العيب مأمون اللسان
فلم أعرف من الإخوان إلا *** نفاقًا في التباعد والتداني
ولما لم أجد حرًا يؤاتي *** على ما ناب من صرف الزمان
صبرت تكرمًا لقراع دهري *** ولم أجزع لما منه دهاني
ولم أكُ في الشدائد مستكينًا *** أقول لها ألا كُفّي كفاني
ولكني صليب العود عود *** ربيط الجأش مجتمع الجَنان
ومَنْ طلبَ المعاني وابتغاها *** أدار لها رحى الحرب العوانِ

ومن شعره قوله:

لا تَغْبَطَنَّ أخا الدنيا لزخرفتها *** ولا للذة وقت عجّلت فرحا
فالدهر أسرع شيء في تقلّبه *** وفِعله بيّن للخلق قد وضحا
كم شارب عسلا فيه منيَّته *** وكم تقلَّد سيفًا مَنْ به ذُبحا

وقال أيضًا:

إن كنت تبغي الرشاد محضًا *** لأمر دنياك والمعادِ
فخالف النفس في هواها *** إن الهوى جامع الفساد




وفاته:

ذكر مكي الرُّميلي أن الخطيب مضى في منتصف رمضان واشتدت الحال به في ذي الحجة، وأوصى أن يدفن قرب قبر بشر الحافي في باب حرب، وتصدق بماله الذي بلغ مائتي دينار ءانذاك، وأوصى بأن يتصدق بجميع ثيابه، ووقف جميع كُتبه، وتوفي يوم الاثنين في السابع من ذي الحجة لسنة أربعمائة وثلاث وستين للهجرة، وشيعه الفقهاء والعامة وحملوه إلى جامع المنصور، وكان بين يدي الجنازة جماعة ينادون: هذا الذي كان يذبّ عن النبي صلى الله عليه وسلم الكذب، هذا الذي كان يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان الشيخ أبو بكر بن زهراء الصوفي قد أعد لنفسه قبرًا إلى جانب قبر بشر الحافي، وكان يمضي إليه كل أسبوع ويتلو فيه القرءان كله، فجاء أصحاب الحديث يستأذنونه بدفن الخطيب البغدادي في قبره عملاً بوصيته، فامتنع، فذهبوا إلى أبي سعد الصوفي شيخ الشيوخ وذكروا له ذلك، فاستدعى ابن زهراء، وقال له: أنا لا أقول لك أعطهم القبر، ولكن أقول لك: لو أن بشرًا الحافي في الأحياء وأنت إلى جانبه فجاء أبو بكر ليقعد دونك، أكان يحسن بك أن تقعد أعلى منه قال: لا، بل كنت أجلسه مكاني، قال: فهكذا ينبغي أن تكون الساعة، فرضي وأذن بدفنه في القبر، فتحقق بذلك دعاؤه الذي دعاه يوم شرب من ماء زمزم.

وقد روى أبو الحسن الزعفراني عن حسن بن أحمد البصري أنه قال: رأيت الخطيب في المنام وعليه ثياب بيض حسان وعمامة بيضاء فقال لي: غفر الله لي ورحمني، وكان ذلك بعد وفاته بأيام.

رحم الله الإمام الخطيب البغدادي وجمعنا معه في دار عليين.



أبو إسحاق الشيرازي
الصوفي العالم المصنف




ترجمته:

هو أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي الفيروزأبادي الملقب جمال الدين، شيخ الإسلام صاحب التصانيف التي سارت كمسير الشمس، ولد بفيروزأباد وهي بلدة بفارس سنة ثلاثمائة وثلاث وتسعين للهجرة، ونشأ بها، ثم دخل شيراز وأخذ الفقه عن أبي عبد الله البيضاوي وعبد الوهاب بن محمد بن رامين. وتنقل بين المدن والبلدان، فدخل البصرة وقرأ الفقه بها على الجزري، ثم دخل بغداد سنة أربعمائة وخمس عشرة للهجرة وقرأ على القاضي أبي الطيب الطبري ولازمه ردحًا وصار أعظم أصحابه وأكثر المستفيدين منه، وناب عنه في مجلسه.

قرأ الأصول على أبي حاتم القزويني، والفقه على الزجاجي وءاخرين غيره، حتى صار أنظر أهل زمانه والمقدم على أقرانه، فانتشر صيته في البلاد، ورحل إليه طلبة العلم من كل حدب وصوب.

وقال حيدر بن محمود بن حيدر الشيرازي: سمعت الشيخ أبا إسحاق يقول: خرجت إلى خراسان فما بلغت بلدة ولا قرية إلا وكان قاضيها أو خطيبها تلميذي أو من أصحابي، كما ذكر عنه أنه قال: كنتُ أعيد كل قياس ألف مرة، فإذا فرغت منه اخذت قياسًا ءاخر وهكذا، وكنت أعيد كل درس ألف مرة فإذا كان في المسئلة بيت يستشهد به حفظت القصيدة.


مناقبه:

وقد ورد في طبقات السبكي أكثر من قصة تظهر تواضعه، منها ما مفاده أن الشيخ قد خرج إلى خراسان مرورًا بنيسابور يصحبه جماعة من الفقهاء، فكان أهل البلاد يخرجون إليه رجالاً ونساءً وأطفالاً، ويتمسحون به وبأردائه يريدون بذلك التبرك والاستشفاء لما يعلمون من مكانته وفضله وعلو مقامه، وجعل النساء الصوفيات يلقين بسُبحاتهن بين يديه يُردنَ أن يلمسها فيحصل لهن به البركة، فصار يمرها على يديه ويمسخ بها جسده وثيابه يقصد بذلك في حقهن ما قصدن في حقه.

ويذكر التاج السبكي في الطبقات في تتمة القصة أن الشيخ حين قدم مدينة بسطام، أتاه رأس الصوفية فيها الإمام السهلكي وخلفه خلقٌ من أصحاب التصوف، ولما دما منه الشيخ أبو إسحاق نزل عن دابته وقبَّل يد الشيخ، فرمى الشيخ أبو إسحاق بنفسه على رجله فقبّلها.

ومما يروى عن زهده وورعه ما رواه ابن السمعاني عن بعضهم أنه قال: دخل أبو إسحاق يومًا مسجدًا فنسي دينارًا، ثم ذكره فرجع فوجده، ففكر ثم قال: لعله وقع من غيري، فتركه في مكانه.

وكان يضرب فيه المثل في الفصاحة والبلاغة، كما عرف عنه الملاحة والظرافة، فكان يحكي الحكايات الحسنة والأشعار المليحة ويحفظ منها الكثير. وأُثِرَ عنه أيضًا إلى جانب ذلك أنه كان شاعرًا مجيدًا أكثر في أشعاره من الحكم والمواعظ والدعوة إلى التقوى والزهد ومما روي عنه من الشعر قوله:

سألتُ الناس عن خِلٍّ وفيٍّ *** فقالوا ما إلى هذا سبيلُ
تمسَّكْ إن ظفرت بذيلِ حُرٍّ *** فإن الحرَّ في الدنيا قليلُ

ومما يورى عنه أيضًا هذه الأبيات التي ذاعت بين الناس وانتشرت على كل شفة ولسان:

لبستُ ثوب الرجا والناس قد رقدوا *** وقمتُ أشكو إلى مولاي ما أجدُ
وقلت يا عُدَّتي في كل نائبة *** ومن عليه لكشف الضر أعتمدُ
أشكو إليك أمورًا أنت تعلمها *** مالي على حملها صبرٌ ولا جلدُ
وقد مددتُ يدي بالذل مبتهلاً *** إليك يا خير من مُدَّت إليه يدُ
فلا تردَّنَّها يا ربُ خائبةً *** فبحرُ جودِكَ يُروي كلَّ مَنْ يَرِدُ


مصنفاته:

كانت له المصنفات العديدة المفيدة، منها: "المهذب في المذهب"، و"اللمع" و"النكت" في الخلاف، و"التبصرة" و"المعونة" و"التلخيص"، و"التنبيه" في المذهب الشافعي، وهو أشهر كتاب له ألفه.

وقد ذكر بعض أصحاب الترجمة سبب تأليفه كتابه "المهذب" في مسائل الخلاف، فقد روى التاج السبكي أن الشيخ لما بلغه أن ابن الصباغ قال: إذا اصطلح الشافعي وأبو حنيفة ذهب علم أبي إسحاق الشيرازي، يعني بذلك أن علمه هو مسائل الخلاف بينهما، فصنف الشيخ حينئذ المهذب، حكى ذلك ابن سمرة في طبقات التمييز وذكر أن الشيخ صنّف المهذب مرارًا، فلما لم يوافق مقصوده رمى به في دجلة وأجمع رأيه على هذه النسخة المجمع عليها.


ثناء العلماء عليه:

قال التاج السبكي في ترجمته إياه مبينًا فضله ومقامه: "هو الشيخ الإمام شيخ الإسلام صاحب التصانيف التي سارت كمسير الشمس ودارت في الدنيا فما جحد فضلها إلا الذي يتخبطه الشيطان من المس بعذوبة لفظ أحلى من الشهد بلا نحله، وحلاوة تصانيف فكأنما عناها البحتري بقوله:

وإذا دجت أقلامه ثم انتحت *** برقت مصابيح الدجى في كتبه
باللفظ يقرب فهمه في بعده *** فتيا ويبعد نيله في قربه
حكم سحائبها خلال بنانه *** هطالة وقليبها في قلبه
فالروض مختلف بحمرة نوره *** وبياض زهرته وخضرة عشبه
وكأنها والسمع معقود بها *** شخص الحبيب بدا لعين محبه


يضيف التاج: "وكانت الطلبة ترحل من الغرب والشرق إليه والفتاوى تحمل من البر والبحر إلى بين يديه، والفقه تتلاطم أمواج بحاره ولا يستقر إلا لديه، ويتعاظم لابس شعاره إلا عليه، حتى ذكروا أنه كان يجري مجرى ابن سريج في تأصيل الفقه وتفريعه، ويحاكيه في انتشار الطلبة الربع العامر جميعه... وأما الجدل فكان ملكه الآخذ بزمامه، وإمامه إذا أتى كل واحد بإمامه، وبدر سمائه الذي لا يغتاله النقصان عند تمامه. وأما الورع المتين وسلوك سبيل المتقين والمشي على سنن السادة السالفين، فذلك أشهر من أن يذكره الذاكر" ا.هـ.

وممن مدحه من العلماء الإمام أبو بكر الشاشي الذي قال فيه: "الشيخ الشيرازي حجة الله على أئمة العصر" اهـ. وقال الإمام أبو الحسن الماوردي: "ما رأيت كأبي إسحاق، لو رءاه الشافعي لتجمّل به" اهـ، وقال الوزير عميد الدولة ابن جهير: "هو وحيد عصره وفريد دهره مستجاب الدعوة" اهـ.

وذكر محب الدين بن النجار في "تاريخ بغداد" فقال في حقه: "إمام أصحاب الشافعي، ومن انتشر فضله في البلاد، وفاق أهل زمانه بالعلم والزهد، وأكثر علماء الأمصار من تلامذته" اهـ.


وفاته:

ذكر ابن خلكان في تاريخ وفاة الشيخ أبي إسحاق قولين: أحدهما أنه توفي ليلة الحادي والعشرين من جمادى الأولى، والثاني أنه في الحادي والعشرين من جمادى الآخرة، وذكر السمعاني القولين في كتابه "الذيل". وأما التاج السبكي في الطبقات فقد ذكر تاريخ جمادى الآخرة. واتفق الكل أن وفاته كانت سنة أربعمائة وست وسبعين للهجرة.

ورثاه كثير من الخلق منهم ابن ناقياء الشاعر الذي قال فيه:

أجرى المدامع بالدم المهراقِ *** خطْبٌ أقام قيامة الأماق
ما لليالي لا تؤلف شملها *** بعد ابن بَجْدتها أبي إسحاق
إن قيل مات فلم يمت مَنْ ذِكرُهُ *** حيٌّ على مر الليالي باقي



الإمام الجويني
إمام الحرمين

ترجمته:

هو الإمام عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني، نسبة لجوين من قرى نيسابور، النيسابوري الشافعي الأشعري المعروف بإمام الحرمين، كان عالمًا أصوليًا نظارًا محققًا بليغًا، كنيته أبو المعالي، ولقبه ضياء الدين.

ولد الإمام الجويني في الثامن من شهر محرم سنة أربعمائة وتسع عشرة للهجرة، واعتنى به والده من صغره، وحرص على أن لا يطعمه ما فيه شُبهة، فلم يُمازج باطنه إلا الحلال الخالص اقتداءً بالرسول صلى الله عليه وسلم.


مناقبه:

أخذ الإمام الجويني الفقه على والده، وكان والده يعجب به ويسر لما رأى فيه مخايل النجابة وأمارات الفلاح، وجدّ واجتهد في المذهب والخلاف والأصول وغيرها، وشاع اسمه واشتهر في صباه وضربت باسمه الأمثال، ولم يكن ذلك دافعًا له للعُجب والكِبر وغيرهما من أمراض القلوب، بل كان رضي الله عنه ذاكرًا نعمة الله عليه بأنه هو الذي أقدره على هذا العمل. وسلك طريق البحث والنظر والتحقيق بحيث أنِس تصرفات الأولين، وسعى في دين الله فكان من أعلم أهل عصره بالكلام والأصول والفقه.

ثم توفي والده وعمره نحو العشرين وهو مع ذلك من الأئمة المحققين فأُقعد مكانه في التدريس، فكان يدرّس ثم يذهب بعد ذلك إلى مدرسة البيهقي، حتى حصّل الأصول عند أستاذه أبي القاسم الإسكاف الإسفراييني، وكان يواظب على مجلسه حتى قال فيه عبد الغافر الفارسي: كان يصل الليل بالنهار في التحصيل، خرج إلى الحجاز والتقى بالأكابر من العلماء يدارسهم حتى شاع ذكره في الأقطار. وجاور بمكة أربع سنين، وبالمدينة يدرس ويفتي، ويجمع طرق المذهب فلهذا قيل له إمام الحرمين. ثم عاد إلى نيسابور بعد ولاية السلطان ألب أرسلان، وأقعد للتدريس في المدرسة النظامية قريب الثلاثين سنة.

وتوفي بالمحفة من قرى نيسابور في الخامس والعشرين من ربيع الآخر سنة أربعمائة وثمانية وسبعين، ودُفن في نيسابور.


مشايخه وأشهر رواته:

كان الإمام الجويني قد سمع الحديث في صباه من والده، ومن أبي حسان محمد بن أحمد المزكي، وأبي سعد عبد الرحمن بن حمدان النضروي، وأبي سعيد عبد الرحمن بن الحسن بن عليك، وأبي عبد الرحمن محمد بن عبد العزيز النيلي، ومنصور بن دامس وغيرهم، وروى عنه زاهر الشحامي وأبو عبد الله الفراوي [الذي كان يُقال فيه الفِراوي ألفُ راو] وإسماعيل بن أبي صالح المؤذن وغيرهم.


أقوال العلماء فيه:

قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: تمتعوا بهذا الإمام فإنه نزهة هذا المكان [يعني إمام الحرمين]. وقال له مرة: يا مفيد أهل المشرق والمغرب، لقد استفاد من علمك الأولون والآخرون.

وقال عبد الغافر الفارسي فيه: إمام الحرمين فخرُ الإسلام إمام الأئمة على الإطلاق، حبر الشريعة، المُجمع على إمامته شرقًا وغربًا. وقال الحافظ أبو محمد الجرجاني: هو إمام عصره، ونسيج وحده، ونادرة دهره، قليل المثل في حفظه وشأنه ولسانه.

وقال الشيخ أبو عثمان بن عبد الرحمن الصابوني: صرف الله المكاره عن هذا الإمام، فهو اليوم قرة عين الإسلام.

ونقل من خط ابن الصلاح: أنشد بعض من رأى إمام الحرمين:

لم تر عيني تحت أديم الفُلك *** مثل إمام الحرمين الثبت عبد الملك

وقال أبو سعيد الصبري: هو إمام خراسان والعراق لفضله وتقدمه في أنواع العلوم. وكان الفقيه الإمام غانم الموسيلي ينشد ويقول لغيره في إمام الحرمين:

دعوا لبس المعالي فهو ثوب *** على مقدار قدّ أبي المعالي


مؤلفاته:

كان الجويني رحمة الله تعالى عليه شديد الاعتناء بالتعلم والتعليم، وكان حريصًا على حفظ معلوماته في مؤلفات انتفعت بها الأمة الإسلامية ومنها:

الإرشاد في الكلام، الإرشاد في الأصول، الأساليب في الخلافيات: ذكر فيه الخلاف بين الحنفية والشافعية. ووجه التسمية أنه إذا أراد الانتقال في أثناء الاستدلال إلى دليل ءاخر أورد بقوله "أسلوب" ءاخر وتبعه الغزالي في كتابه المسمى "بالمأخذ"، "البرهان في أصول الفقه"، "البلغة"، "التحفة في أصول الفقه"، "التلخيص، تفسير إمام الحرمين": كتاب في علم التفسير عن معنى نظم القرءان، التقريب في الفروع: تلخيص لكتاب "التقريب" للشيخ قاسم بن محمد بن القفال الشاشي الشافعي، "الرسالة النظامية في الكلام"، "الشامل في أصول الدين"، "شفاء الغليل في بيان ما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل"، "غياث الأمم في التياث الظلم"، "العقيدة النظامية"، "الكافية بالجدل"، "لباب الفقه"، "لمع الأدلة": هو مختصر على فصول، "في قواعد عقائد أهل السنة"، "مدارك العقول"، "مغيث الخلق في اختيار الأحق". صنفه لترجيح مذهب الشافعي على غيره، نهاية المطلب في دراية المذهب، الورقات في الأصول.


وفاته:

توفي وهو ابن تسع وخمسين سنة بعد مرض "اليرقان" الذي بقي به أيامًا ثم برأ منه وعاد إلى الدرس والمجلس، وأظهر الناس من الخواص والعوام السرور بصحته وإقباله من علته.

وبعد ذلك بعهد قريب مرض فأدركه قضاء الله الذي لا بد منه وتوفي، وكان قد بقي أيامًا وغلب عليه الحرارة، ولكنه صبر على ما ابتلاه الله به وهذا شأن المؤمنين الراضين بقضاء الله تبارك وتعالى. قال الله عز وجل: {وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون} [سورة البقرة/ءاية:155-156] فحُمل، إلى "بشتنقان" لاعتدال الهواء، وبدت عليه مخايل الموت وهو في ليلة الأربعاء بعد صلاة العتمة الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين وأربعمائة هجرية، ودفن في نيسابور، ومما قيل عند وفاته:

قلوب العالمين على المعالي *** وأيام الورى شبه الليالي
أيثمر غصن أهل الفضل يومًا *** وقد مات الإمام أبو المعالي



الإمام العز بن عبد السلام
سلطان العلماء




ترجمته:

قال التاج السبكي في طبقاته في نسب الشيخ ما نصه: "عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن حسن بن محمد بن مهذب السلمي"، وذكر في تاريخ مولده قولين: أحدهما أنه ولد سنة خمسمائة وسبع وسبعين للهجرة، والآخر سنة خمسمائة وثمان وسبعين. تفقه على مؤرخ الشام الإمام الشيخ فخر الدين بن عساكر، وقرأ أصول الحديث على الشيخ سيف الدين الأمدي وغيره، وسمع الحديث من عدد كبير من المحدثين، منهم الحافظ أبو محمد القاسم، وشيخ الشيوخ عبد اللطيف بن إسماعيل بن أبي سعد البغدادي، وعمر بن محمد بن طبرزد، وحنبل بن عبد الله الرصافي، وكثيرين غيرهم.

درَّس في دمشق بالزاوية الغزالية وغيرها، وولي الخطابة والإمامة بالجامع الأموي، فأزال كثيرًا من البدع وقتئذٍ.


مناقبه:

روى الإمام تاج الدين السبكي في طبقاته حادثة فريدة من نوعها، جرت في زمن سلطان العلماء الشيخ العز بن عبد السلام، وهي أن بعض أمراء الدولة من المماليك كانوا لا يزالون عبيدًا مملوكين ولم يكونوا أحرارًا، فأفتى الشيخ ابن عبد السلام أن لهم حكم الرق، وأنهم لا بد أن ينادى عليهم ليباعوا، فاحتدم الأمر بينهم وبين الشيخ، فأرسلوا إليه فقال: نعقد لكم مجلسًا وينادى عليكم لبيت مال المسلمين ويحصل عتقكم بطريق شرعي، فرفعوا أمره إلى السلطان فأنكر عليه دخوله في هذا الأمر، فغضب الشيخ وحمل حوائجه قاصدًا بلاد الشام. ولما علم أهل مصر عزمه على ذلك خرج غالبهم وراءه حتى لم يبقَ رجل ولا امرأة ولا طفل إلا خرجوا وراءه، فبلغ السلطان الخبر وقيل له: إن خرج الشيخ من مصر ذهب مُلكك، فركب السلطان ولحقه واسترضاه وطيَّب خاطره.

وفي تتمة هذه الحادثة أن نائب السلطان انزعج من كلام الشيخ فقال: كيف ينادى علينا ونحن ملوك الأرض، والله لأضربنه بسيفي، فلما دخل النائب ووقع بصر الشيخ عليه يبست يده وسقط السيف منها، فبكى النائب وسأل الشيخ أن يعفو عنه ويدعو له، ورضي بحكم الشيخ أن ينادى عليهم، فنادى على الأمراء واحدًا واحدًا وغالى في ثمنهم حتى قبضه وصرفه في وجوه الخير، فكانت هذه من الحوادث التي لم يسمع بمثلها عن أحد، والتي تظهر هيبة العلماء ومكانتهم عند الأمراء والسلاطين.

وقد اشتهر عن الشيخ العز بن عبد السلام ما وقع له في الشام ومصر من المحن التي كان سببها أهل البدع والضلال، فمن أشهرها ما حصل بينه وبين الملك الأشرف موسى بن الملك العادل في مصر، وهي أن طائفة من مُجسّمة الحنابلة قد صحبوا السلطان الأشرف منذ صغره فتأثر بهم حتى اعتقد عقائدهم، وصاروا يوهمونه بأن ما جاءوا به هو عقيدة الصحابة والتابعين والإمام أحمد بن حنبل وبدأوا بالطعن في الشيخ وتشويه صورته عند السلطان، وقالوا به إنه أشعري العقدية ينزه الله عن الحرف والصوت، فبدّعه السلطان وضلله على هذا وكفّره، وبعث إليه برسالة يطلب فيها منه أن يبين عقيدته، فكتب الشيخ في الرسالة العقيدة المشهورة وهي عقيدة إمام أهل السنة الإمام أبي الحسن الأشعري، ومما جاء فيها قوله: "الحمد لله ذي العزة والجلال والقدرة والكمال، والإنعام والإفضال، الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، ليس بجسم مصور، ولا جوهر محدود مقدَّر، ولا يشبه شيئًا، ولا يشبهه شيء، ولا تحيط به الجهات، ولا تكتنفه الأرضون ولا السموات، كان قبل أن يكون المكان، ودبر الزمان وهو الآن على ما عليه كان". ويقول أيضًا في هذه الرسالة: "استوى على العرش المجيد على الوجه الذي قاله، وبالمعنى الذي أراده، استواءً منزهًا عن المماسة والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال... متكلم بكلام قديم أزلي ليس بحرف ولا صوت. ولا يُتصور في كلامه أن ينقلب مدادًا في الألواح والأوراق شكلاً ترمقه العيون والأحداق كما زعم أهل الحشو والنفاق، بل الكتابة من أفعال العباد ولا يتصور في أفعالهم أن تكون قديمة". ولما فرغ الشيخ من هذه الرسالة الطويلة التقطها المجسمة وطاروا بها إلى السطان، فلما قرأها قال: ظهر من الاختبار أنه من الفجار، لا بل من الكفار.

والتمس الشيخ ابن عبد السلام من السلطان أن يعقد مجلسًا للشافعية والحنابلة والمالكية والحنفية وغيرهم من علماء المسلمين فلم يستجب له في ذلك، وشرط عليه ثلاثة شروط: أن لا يُفتي، وأن لا يجتمع بأحد، وأن يلزم بيته ولا يفارقه، فبقي الشيخ على هذه الحال إلى أن وصل إلى أسماع الشيخ جمال الدين الخضيري شيخ الحنفية خبر الشيخ ابن عبد السلام، فأخذ معه أصحابه حتى دخلوا دار الإمارة، فلما رءاه السلطان قام إليه فأنزله عن حماره وأحسن وفادته، فقال الشيخ جمال الدين: ماذا بينك وبين ابن عبد السلام، هذا رجل لو كان في الهند أو في أقصة الدنيا كان ينبغي للسطان أن يسعى في حلوله في بلاده لتتم بركته عليه وعلى بلاده، ويفتخر به على سائر ملوك الأرض، فقال السلطان: عندي رسالتين له تظهران اعتقاده، فلو وقفت عليهما لتكون الحكم بيني وبينه، فأحضر الرسالتين فقرأهما الشيخ جمال الدين وقال: هذا اعتقاد المسلمين وشعار الصالحين ويقين المؤمنين، وكل ما فيهما صحيح، ومن خالف ما فيهما وذهب إلى ما قاله الخصم من إثبات الحرف والصوت فهو حمار، فكان ذلك سببًا في عودة السلطان الأشرف عن ضلالته، فأرسل إلى الشيخ واسترضاه وطلب مخاللته، وصار يترضاه ويعمل بفتاويه، وطلب أن يقرأ عليه بعض تصانيفه ككتاب "الملحة في الاعتقاد" وغيرها. كما صرح مرة بقوله: لقد غلطنا في حق ابن عبد السلام غلطة عظيمة.


رحلته إلى مصر:

بقي الشيخ عز الدين بن عبد السلام في دمشق إلى أثناء الصالح إسماعيل المعروف بأبي الخبيش الذي استعان بالفرنجة وأعطاهم مدينة صيدا، فغضب الشيخ عز الدين وترك الدعاء له على المنابر، وساعده في ذلك الشيخ أبو عمرو بن الحاجب المالكي، فغضب الملك منهما فخرجا إلى مصر سنة ستمائة وتسع وثلاثين للهجرة، فاستقبله الملك نجم الدين أيوب الكامل، فأكرمه وولاه خطابة جامع عمرو بن العاص والقضاء في القاهرة والوجه القبلي.

ومما يروى عن شجاعة الشيخ ما جرى بينه وبين الملك نجم الدين، وهو أنه خرج يوم العيد إلى القلعة، فشاهد العسكر مصطفين ومجلس المملكة مجتمعين عند الملك وقد خرج على قومه في زينته وأبهته على عادة سلاطين مصر، فالتفت الشيخ إلى الملك وناداه: يا أيوب، ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوئ لك ملك مصر ثم تبيح الخمور، فقال: هل جرى ذلك؟ فقال الشيخ: نعم، الحانة الفلانية يباع فيها الخمور وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة، فقال السلطان: يا سيدي، هذا أنا ما علمته، هذا من زمان أبي، عندها قال الشيخ: أنت من الذين يقولون: إنا وجدنا ءاباءنا على أمة، فأمر السلطان عندها بإغلاق تلك الحانة.


ثناء العلماء عليه:

منهم شيخ الإسلام ابن دقيق العيد الذي قال فيه: "كان ابن عبد السلام أحد أساطين العلماء". وأثنى عليه كذلك الشيخ جمال الدين بن الحاجب قائلاً: "ابن عبد السلام أفقه من الغزالي".

أما التاج السبكي فقد قال فيه بطبقاته: "شيخ الإسلام والمسلمين وأحد الأئمة الأعلام، سلطان العلماء، إمام عصره بلا مدافعة، القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمانه، المطلع على حقائق الشريعة وغوامضها، العارف بمقاصدها، لم ير مثل نفسه ولا رأى من رءاه مثله علمًا وورعًا وقيامًا في الحق وشجاعة وقوة جنان".


وفاته:

بقي الشيخ العز بن عبد السلام إلى عهد الملك الظاهر ركن الدين بيبرس، فكان الملك يعظمه ويحترمه ويعرف قدره ويقف عند أقواله وفتاويه. وفي عهده توفي الشيخ وذلك في التاسع من جمادى الأولى في سنة ستمائة وستين للهجرة، فحزن عليه الملك كثيرًا وشيّعه مع خاصته وأمراء دولته، وحمل نعشه وحضر دفنه.

وروي أن جنازة الشيخ لما مرت تحت القلعة وشاهد الملك الظاهر بيبرس الأعداد العائلة من المشيعين قال لبعض خواسه: اليوم استقر أمري في الملك لأن هذا الشيخ لو كان يقول للناس اخرجوا عليه لانتزع الملك مني.

وهكذ انتقل إلى رحمة الله واحد من أساطين العلم الذين عاشوا في زمن كثرت فيها الدسائس والمؤامرات التي حاكها أهل الضلال فتربصوا بالمسلمين وكادوا لهم، ولكن الله نصره على المشبهة وجعل كيدهم في نحورهم، وسخّر لهذا الدين من الملوك من دافع عن العقيدة الحقة التي دعا إليها النبي محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

جزاه الله عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خيرًا.



الحافظ ابن حجر العسقلاني



ترجمته:

هو أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن أحمد العسقلاني الأصل، المصري الكناني المولد، الشافعي المذهب، المعروف بابن حجر كأسلافه. وهذه نسبة إلى ءال حجر، وهم قوم يسكنون الجنوب الآخر على بلاد الجريد وأرضهم قابس أي ببلاد المغرب وأما شهاب الدين فلقب له، على المعتاد في عصره، وأبو الفضل كنيته.

ولد بمصر العتيقة سنة سبعمائة وثلاث وسبعين للهجرة، وتوفي أبوه سنة سبعمائة وسبع وسبعين للهجرة، وكانت أمه توفيت قبل ذلك فنشأ يتيمًا، وكفله وصيه رضي الدين أبو بكر الخروبي، كبير التجار بمصر.


طلبه للعلم:

ولما بلغ سنيه الخمس أُدخل الكتاب، فحفظ القرءان وهو ابن تسع، على الشيخ صدر الدين الصفتي، ثم حفظ "العمدة" و"الحاوي" في الفقه، وألفية شيخه زين الدين العراقي في علم الحديث، و"مختصر ابن الحاجب" في الأصول، و"ملحة الإعراب" لأبي محمد القاسم بن علي الحريري البصري في النحو. ثم انتقل إلى مكة حاجًا سنة سبعمائة وأربع وثمانين للهجرة فقرأ على الحافظ أبي حامد محمد بن ظهيرة وعلى العفيف النشاوري.

قرأ العربية على شمس الدين محمد الغماري، والأدب والعروض على البدر البشتكي، والفقه على برهان الإبناسي ونور الدين الهيثمي وعلى فقيهي عصره السراج البلقيني والسراج ابن الملقن، وقرأ أكثر الفنون على عز الدين بن جماعة، وكان بحرًا متفننًا في العلوم، حتى إنه كان يقول: "أقرأ في خمسة عشر علمًا لا يعرف علماء عصري أسماءها".

وفي الجملة، فقد كان الشهاب ابن حجر علامة عارفًا بعلوم عصره مع تفرعها ومباينة بعضها لبعض، من نحو تصريف وبلاغة وسائر علوم العربية، وتاريخ وفقه وحديث وقراءات وسائر العلوم النقلية، والعقلية كالحساب وغيره.

وأما علم الحديث، الذي تقدم فيه على أقرانه وطارت شهرته، وأجمع معاصروه ومن وليهم على درايته به وسعة اطلاعه ومتانة حفظه، بل على إطلاق لقب "الحافظ" عليه لذلك، فأول شيخ أخذ عنه فيه عفيف الدين النشاوري بمكة كما تقدم، وارتحل في طلبه إلى بيت المقدس ونابلس والرملة وغزة ودمشق، وإلى الإسكندرية وقوص من مصر، وإلى مكة واليمن، ولازم خصوصًا شيخ الحديث الزين العراقي لذلك بالقاهرة.

وقد استكثر الحافظ من الشيوخ وبلغ في هذا العلم ما لم يبلغه أقرانه، فبرع في المعارف الحديثية من سند ومتن وعلل ومصطلح، وفقه علم الرجال فقهًا متينًا، لذلك صنّف فيه ما اعتمده العلماء ووثقوه، حتى غدا يشار إليه ويرتحل لأخذ هذا الفن الجليل عنه.


مشايخه:

جمع الحافظ ابن حجر أسماء شيوخه مرتبة على الحروف في كتابه "المجمع المؤسس بالمعجم المفهرس"، وكان ذلك بقسمه قسمين: الأول في المشايخ الذين أخذ عنهم رواية، والآخر في الذين قرأ عليهم شيئًا على طريق الدراية، وذكر بعضهم في تاريخه "إنباء الغمر بأنباء العمر".

أما أشهر مشايخه ففي علوم العربية: مجد الدين بن يعقوب الفيروزأبادي في اللغة، وبدر الدين البشتكي في الأدب، والغماري في جملة منها.

وفي القراءات: أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد التنوخي البعلبكي.

وفي الفقه: سراج الدين البلقيني وسراج الدين بن الملقن.

وفي الحديث: عفيف الدين النشاوري، وزين الدين العراقي، والحافظ أبو هريرة، وبدر الدين بن قوام البالسي، وله من الشيخات فاطمة بنت المُنْجا التنوخية، وفاطمة بنت محمد بن عبد الهادي وأختها عائشة.

مناصبه ووظائفه وتدريسه:

وقد تولى ابن حجر التدريس بالإقراء والإملاء في المجالس على طريقة المحدثين، وأفتى، وولي القضاء مرات فدرّس التفسير بالحسنية والمنصورية، والحديث بالبيبرسية والجمالية المستجدة والحسنية والشيخونية والزينبية وهي جميعًا مدارس، سميت بالنسبة إلى الأمراء والأعيان الذين بنوها، وبجامه ابن طولون والقبة المنصورية، وتولى الإسماع بالمحمودية، وتدريس الفقه بالخروبية والشيخونية والصالحية النجمية والمؤيدية، وولي مشيخة البيبرسية، والإفتاء بدار العدل. وكانت خطابة الجامع الأزهر من وظائفه، وخطابة جامع عمرو بن العاص، وأملى الحديث بخانقاه [أي زاوية] بيبرس زهاء عشرين عامًا ثم بدار الحديث الكاملية بالحي المسمى بين القصرين بالقاهرة.

وأما القضاء فقد تقلده في دولة السلطان الأشرف برسباي أولاً وكان قد عرض عليه قضاء البلاد الشامية فامتنع. وتولى خزانة المكتبة المحمودية وعمل لها فهرسًا.


وفاته:

وفي سنة ثمانمائة واثنتين وخمسين للهجرة أصيب ابن حجر العسقلاني بعلة الإسهال، وبقي كذلك إلى أن توفي ليلة السبت في الثامن عشر من ذي الحجة من السنة المذكورة، وهو بداره بجوار المدرسة المنكوتمرية بالقاهرة، وصُلي عليه بالرملية خارج المدينة، وحضر الصلاة عليه السلطان الظاهر جقمق، والخليفة العباسي، وصلى عليه إمامًا علم الدين البلقيني، ثم نقل نعشه إلى القرافة الصغرى، مقابل جام الديلمي، ودفن قرب الليث بن سعد.


ديوانه:

وهو الكتاب الذي جمع فيه قصائده وموشحاته وقسمه سبعة أقسام: الأول هو قسم النبويات وفيه سبع قصائد يمدح بها النبي صلى الله عليه وسلم، والثاني قسم الملوكيات وفيه مدح لبعض ملوك عصره، والثالث في الأميريات والصحابيات، والرابع في الغزل، والخامس ضمنه أغراضًا مختلفة من شكوى ورثاء وحكم وغيرها، والخامس هو قسم الموشحات، والسابع سمي بالمقاطيع، وهي ضرب من الشعر يتألف من بيتين اثنين على بحور الخليل.

ونتوقف عند قسم النبويات لنقتطع بعضًا من روائع مديحه للنبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما قاله في قصيدة أنشدها في رمضان سنة سبعمائة وثمان وتسعين للهجرة وفيها:

آثار خير المرسلين بها شفا *** داء الذنوب لخائف يتوهم
هو رحمة للناس مهداة فيا *** ويح المعاند إنه لا يُرحمُ
نال الأمان المؤمنون به إذا *** شبَّت وقودًا بالطغاة جهنم
الله أيده فليس عن الهوى *** في أمره أو نهيه يتكلم
فليحذر المرء المخالف أمره *** من فتنة أو من عذاب يؤلم
ذو المعجزات الباهرات فسل بها *** نطق الحصى وبهائمًا قد كُلّموا
حفظت لمولده السماء وحُصّنت *** فالماردون بشُهبها قد رُجّموا

ومن أشعاره قوله:

ذي المعجزات فكل ذي بصر غدا *** لصوابها بالعين ذا تصويب
كالشمس ضاءت للأنام وأشرقت *** إلا عن المكفوف والمحجوب
وانشق بدر التم معجزة له *** وبه أتاه النصر قبل مغيبِ
نطق الجماد بكفه وبه جرى *** ماء كما ينصبُّ من أنبوب
والعين أوردها وجاد بها كما *** قد ردّها كالشمس بعد غروب
ولكم مناقب أعجزت عن عدّها *** من حافظ واعٍ ومن حَيْسوبِ
يا سيد الرسل الذي منهاجه *** حاوٍ كمال الفضل والتهذيب
أسرى بجمسك للسماء فبشرت *** أملاكها وحبَتْكَ بالترحيب
فعلوت ثم دنوت ثم بلغت ما *** لا ينبغي لسواك من تقريب
وخُصصت فضلاً بالشفاعة في غدٍ *** ومقامك المحمود والمحبوبِ
والأنبياء وقد رُفعتَ جلالة *** في الحشر لوائك المنصوبِ

ولمناسبة ختمه كتاب "دلائل النبوة" عند الإمام سراج الدين البلقيني أنشد قصيدة مدح فيها النبي صلى الله عليه وسلم فقال:

ولولا اشتغلي في مدائح أحمد *** وآثاره ما كان لي عنه شاغل
نبي الهدى المختار من ءال هاشم *** فعن فخرهم فليقصر المتطاول
خطيب الهدى والشيف والعقل والندى *** إذا خرست في كل حفل مقاولُ
فقيس إذا ما قيس في الرأي جاهل *** لديه وقُسٌّ في الفصاحة باقلُ
تنقل في أصلاب قوم تشرّفوا *** به مثل ما للبدر تلك المنازل
وأرسله الله المهيمن رحمة *** فليس له في المرسلين مماثل
فما تبلغ الأشعار فيه ومدحه *** به ناطق نصُّ الكتاب وناقلُ

[قيس المذكور المراء به قيس بن عاصم المنقري المضروب به المثل في الرأي والحِلم. وقُسٌّ هو الخطيب المشهور في الجاهلية وهو قس بن ساعدة الإيادي. وباقل رجل عربي ضرب به المثل في العيّ العجز عن البيان].

ومن نظمه في مدح النبي صلى الله عليه وسلم:

تعودت مدحًا في النبي وإنما *** لكل امرئ من دهره ما تعوّدا
أبو القاسم المختار من نسل هاشم *** وأزكى الورى نفسًا وأصلاً ومحتدا
نبي يراه الله أشرف خلقه *** وأسماه إذ سماه في الذكر أحمدا
فأكرم به عبدًا صفيًا مُمَدَّحًا *** وأنعم به مولى وفيًا محمدًا
مبيد العدى *** مولى الندى *** قامع الردى
مبين الهدى *** مروي الصدى *** واسع الجَدا

المراد بالردى في هذا البيت الضلال، والصدى: هو الظمأ، والجدا: العطية والهبة.

وكم مذنبٍ وافاه يطلب نجدة *** تنجيه في الأخرى فأنجى وأنجدا
أيا خير خلق الله دعوة مذنب *** تَخَوَّفَ من نار الجحيم توقُّدا
له سند عال بمدحك نيّرٌ *** وبابك أمسى فيه أسنى وأسندا
وأنت الذي جنبتنا طارق الرى *** وأنت الذي عرَّفتنا طرق الهدى

ولا يُحسبُ الحافظ العسقلاني أراد بمدائحه هذه إلا نيل الثواب والأجر من الله تبارك وتعالى، وأن يكون ممن تناله الشفاعة يوم القيامة، فكفى بذلك دليلاً على جواز مدح النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، وعلى رد مقوله الجُفاة القُساة الذين يحرمون مدح النبي صلى الله عليه وسلم، والاحتفال بمولده والفرح به. وكيف يكون ما استحسنه المجتهدون والعلماء العاملون ورغبوا في فعله عملاً مذمومًا حاشا وكلا.



العلامة المحدث اللغوي
محمد مرتضى الزبيدي الحسيني



ترجمته:

قال القاضي ابن الحاج في "الإشراف على من بفاس من مشاهير الأشراف" من ذرية زيد الشهيد يعني ابن علي زين العابدين بن الحسين عليهم السلام، خاتمة الحفاظ بالديار المصرية الشيخ مرتضى الحسيني الواسطي الزبيدي" اهـ. الواسطي العراقي تأصلاً، الهندي مولدًا، الزبيدي تعلمًا وشهرة "وزبيد باليمن"، المصري وفاة، الحنفي مذهبًا، القادري إرادة، النقشبندي سلوكًا، الأشعري عقيدة، ولج في سنة ألف ومائة وخمس وأربعين للهجرة، قال الجبرتي: هكذا سمعته من لفظه ورأيته.

أصله من "بلجرام" قصبة على خمسة فراسخ من "قنوج" وراء نهر "جمج" بالهند، وبها ولد سنة ألف ومائة وخمس وأربعين للهجرة كما أرّخ إجازته لعمر بن حمودة الصفار التونسي.

كان رحمه ربعة، نحيف البدن، ذهبي اللون، متناسب الأعضاء معتدل اللحية، وقد خطه الشيب في أكثرها، مترفهًا، في ملبسه، ويعمّ مثل أهل مكة عمامة منحرفة بشاش أبيض ولها عذبة مرخية، ولها حبة وشراريب طولها قريب من فتر وطرفها الآخر داخل طي العمامة، وبعض أطرافه ظاهر. كان لطيف الذات حسن الصفات بشوشًا بسومًا وقورًا محتشمًا مستحضرًا للنوادر والمناسبات، ذكيًا فطنًا ألمعيًا، روض فضله نضير، وماله في سعة الحفظ نظير.


مشايخه:

اشتغل على المحدث محمد فاخر بن يحيى، والدهلوي فسمع عليه الحديث وأجازه، ثم ارتحل لطلب العلم، فدخل زبيد وأقام بها مدة طويلة حتى قيل له الزبيدي وبها اشتهر، حجّ مرارًا وأخذ عن نحو من ثلاثمائة شيخ ذكرهم في معاجمه الكبير والصغير وألفية السند وشرحها، حتى قال عن نفسه في ألفيته:

وقل أن ترى كتابًا يُعتمد *** إلا ولي فيه اتصال بالسند
أو عالمًا إلا ولي إليه *** وسائطٌ توقنني عليه

ورد إلى مصر في تاسع صفر سنة ألف ومائة وسبع وستين، وسكن بخان الصاغة، وأول من أخذ عنه السيد علي المقدسي الحنفي من علماء مصر، وحضر دروس أشياخ الوقت كالشيخ أحمد الملوي، والجوهري والحنفي والبليدي والصعيدي والمدابغي، وتلقى عنهم وأجازوه وشهدوا بعلمه وفضله وجودة حفظه. واعتنى بشأنه "اسماعيل كتخدا عزبان" وأولاه بره حتى راج أمره، واشتهر ذكره عند العام والخاص، ولبس الملابس الفاخرة وركب الخيول المسومة، وسافر إلى الصعيد ثلاث مرات، واجتمع بأعيانه وأكابره وعلمائه، وأكرمه شيخ العرب همام، وإسماعيل أبو عبد الله وأبو علي وأولاد نصير وأولاد وافي وهادوه وبرّوه. كذلك ارتحل إلى الجهات البحرية مثل دمياط ورشيد والمنصورة.


ثناء العلماء عليه:

قال تلميذه الجبرتي في تاريخه: "لم يزل المترجم يحرص على جمع الفنون التي أغفلها المتأخرون، كعلم الأنساب والأسانيد وتخاريج الأحاديث واتصال طرائف طرائق المستحدثين المتأخرين بالمتقدمين، وألّف كتبًا ومنظومات وأراجيز جمّة، وذكر أنه أحيا إملاء الحديث على طريق السلف في ذكر الأسانيد والرواة والمخرجين من حفظه على طرق مختلفة. وكان إذا دعاه أحد الأعيان المصريين إلى بيوتهم، يذهب مع خواص الطلبة والمقرئ والمستملي وكاتب الأسماء، فيقرأ لهم شيئًا من الأجزاء الحديثية بحضور الجماعة وصاحب المنزل وأصحابه وأحبابه وأولاده، وبناته ونساؤه من خلف الستائر، ويكتب الكاتب أسماء الحاضرين والسامعين حتى النساء والصبيان والبنات واليوم والتاريخ، ويكتب الشيخ تحت ذلك "صحيح ذلك" وهذه كانت طريقة المحدثين في الزمان السالف كما رأيناه في الكتب القديمة" اهـ.

وأثنى عليه تلميذه الوجيه عبد الرحمن الأهدل فقال: "إمام المسندين خاتمه الحفاظ المحدثين المعتمدين".

وقال عنه من أعلام المغرب الحافظ ابن عبد السلام الناصري في رحلته لما ترجمه فيها: ألفيته عديم النظير في كمال الاطلاع والحفظ واللغة والأنساب، فهو والله سيوطي زمانه، انخرق له من العوائد ما انخرق لابن شاهين وابن حجر والسيوطي.

وقال عنه أبو الربيع عبد الرحمن الحَوّات في "السر الظاهر" الإمام الحافظ النسابة ملأ البسيطة بعلومه ومعارفه، أمتع الله به اهـ.

وقال عنه محدث الشام الوجيه عبد الرحمن الكزبري: "إمام المسندين وخاتمة المحدثين".

وقال عنه عالم مصر الشمس محمد بن علي الشواني الأزهري: "شيخ الإسلام علامة الأنام ناشر لواء السنة المحمدية، وواصل الأسانيد النبوية أبو الجود وأبو الفيض" وقد ترجمه من متأخري المصريين محمد إبراهيم فني المصري في جزء صغير سماه "الجوهر المحسوس في ترجمة صاحب القاموس".

كذلك ترجمه تلميذه الجبرتي في تاريخه لكنه ما سلم من حسده.

وكانت سُنة الإملاء قد انقطعت بموت الحافظ ابن حجر وتلاميذه كالسخاوي والسيوطي وبهما ختم الإملاء، فأحياه الزبيدي، ووصلت أماليه إلى نحو أربعمائة مجلد، كان يملي كل اثنين وخميس فقط.


صيته وشهرته:

كان لعظم شهرته يكاتبه ملوك النواحي من الترك والحجاز والهند واليمن والمغرب والسودان وفزان والجزائر واستجازوه. وممن أخذ عنه من ملوك الأرض، خليفة الإسلام في وقته السلطان عبد الحميد الأول ووزيره الأكبر محمد باشا بالمكاتبة، وكذلك انجذب إليه بعض الأمراء الكبار مثل مصطفى بك السكندراني وأبي أيوب الدفتردار فسعوا إلى منزله لحضور مجالس درسه، وواصلوه بالهدايا الجزيلة فاشترى الجواري، وعمل الأطعمة للضيوف، وأكرم الواردين والوافدين من الآفاق البعيدة، وحضر عبد الرزاق أفندي الرئيس من الديار الرومية إلى مصر، وسمع به، فحضر إليه، والتمس منه الإجازة وقراءة مقامات الحريري، فكان يذهب إليه بعد فراغه درس شيخون، ويطالع له ما تيسر من المقامات ويفهمه معانيها اللغوية.


كتبه ومصنفاته:

أهمها: "تاج العروس في شرح القاموس"، طبع، "اتحاف السادة المتقين" وهو شرح إحياء علوم الدين للإمام الغزالي، "أسانيد الكتب الستة"، طبع، "عقود الجواهر الحنفية في أدلة مذهب الإمام أبي حنيفة"، مجلدان، طبع، "كشف اللثام عن ءاداب الإيمان والإسلام"، "رفع الشكوى وترويح القلوب في ذكر ملوك بني أيوب"، "معجم شيوخه"، "ألفية السند" وهو في الحديث يحتوي على 1500 بيت وشرحها، "مختصر العين" وهو مختصر كتاب العين المنسوب للخليل بن أحمد، "التكملة والصلة والذيل للقاموس"، مجلدين، "إيضاح المدارك بالافصاح عن العواتك"، "عقد الجمان في بيان شعب الإيمان" رسالة، "تحفة القماعيل في مدح شيخ العرب إسماعيل"، "تحقيق الوسائل لمعرفة المكاتبات والرسائل"، "جذوة الاقتباس في نسب بني العباس"، "حكمة الإشراف إلى كتاب الآفاق"، "الروض المعطار في نسب ءال جعفر الطيار"، "مزيل نقاب الخفاء عن كنى سادتنا بني الوفاء"، "بُلغة الغريب في مصطلح ءاثار الحبيب"، "تنبيه العارف البصير على أسرار الحزب الكبير"، "سفينة النجاة المحتوية على بضاعة مزجاة من الفوائد المنتقاة"، "غاية الابتهاج لمقتفي مسلم بن الحجاج"، "نشوة الارتياح في بيان حقيقة الميسر والقداح"، "العرائس المجلوة في ذكر أولياء فوة"، "لقط اللآلئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة"، طبع.


وفاته:

أصيب رحمه الله بالطاعون في شعبان سنة ألف ومائتين وخمس للهجرة بعد أن صلى الجمعة في مسجد الكردي القريب من داره، فدخل داره واعتُقل لسانه في تلك الليلة وتوفي يوم الأحد. فأخفت زوجته الثانية وأقاربها نبأ موته حتى نقلوا الأشياء النفيسة والمال والذخائر والأمتعة والكتب ثم أشاعوا موته يوم الاثنين، وخرجوا بجنازته، وصلوا عليه ودفن بقبر كان قد أعده لنفسه في حياته بجانب زوجته بالمشهد المعروف بالسيدة رقية بنت علي بن أبي طالب. ولم يعلم بموته أهل الأزهر ذلك اليوم لاشتغال الناس بأمر الطاعون، ولم يترك ابنًا ولا بنتًا.

ذكر الحسن الحريري وكان من خاصته وممن يخدمه أنه حضر إليه في يوم السبت في موضه قبل وفاته وطلب الدخول لعيادته، فأدخلوه عليه، فوجده راقدًا معتقل اللسان، وزوجته وأصهاره في كبكبة واجتهاد في إخراج ما في داخل والخبايا والصناديق إلى الليوان، ووجد أكوامًا من الأقمشة الهندية والكشمير وأشياء في ظروف وأكياس وساعات العلب الثمينة، قال الحريري: فجلست عند رأسه وأمسكت يده ففتح عينيه ونظر إلي وأشار كالمستفهم عما هم فيه "يعني زوجته وأهلها" ثم أغمض عينيه رحمه الله.

اللهم اجز سيدنا مرتضى الزبيدي عنا كل خير واحشرنا معه في الفردوس الأعلى.


الدرر النادرة في أعيان الأشاعرة


جمهور الأئمة الإسلامية أشاعرة



يكفي لبيان فضل الإمام الأشعري أن على مذهبه في الاعتقاد علماء مئات الملايين من المسلمين في الشرق والغرب تدريسًا وتعليمًا، ويشهد بذلك الواقع المشاهد، ويكفي أيضًا لبيان حقية مذهبه في الاعتقاد كون هؤلاء الحفاظ الذين هم رءوس أهل الحديث الحافظ أبو بكر الإسماعيلي صاحب المستخرج على البخاري، ثم الحافظ العلم المشهور أبو بكر البيهقي، ثم الحافظ الذي وُصف بأنه أفضل المحدثين بالشام في زمانه ابن عساكر أشاعرة، كان كل واحد من هؤلاء علمًا في الحديث في زمانه ثم جاء من هو على هذا المنوال الحافظ الموصوف بأنه أمير المؤمنين في الحديث أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المكنيُّ بأبي الفضل.

فمن حقق عرف أن الأشاعرة هم فرسان ميادين العلم والحديث وفرسان ميادين الجهاد والسنان، ويكفي أن منهم أبا الحسن الباهلي، وأبا إسحاق الإسفرايني، والحافظ أبا نعيم الأصبهاني، والقاضي عبد الوهاب المالكي، والشيخ أبا محمد الجويني وابنه أبا المعالي إمام الحرمين، وأبا منصور التميمي البغدادي والحافظ الدارقطني، والحافظ الخطيب البغدادي، والأستاذ أبا القاسم القشيري وابنه أبا نصر، والشيخ أبا إسحاق الشيرازي، ونصر المقدسي، والفراوي، وأبا الوفاء بن عقيل الحنبلي، وقاضي القضاة الدامغاني الحنفي، وأبا الوليد الباجي المالكي، والإمام السيد أحمد الرفاعي، والحافظ أبا القاسم بن عساكر، وابن السمعاني، والحافظ السلفي، والقاضي عياض، والنووي، والإمام فخر الدين الرازي، والعز بن عبد السلام، وأبا عمرو بن الحاجب المالكي، وابن دقيق العيد، والإمام علاء الدين الباجي، وقاضي القضاة تقي الدين السبكي، والحافظ العلائي، والحافظ زين الدين العراقي وابنه الحافظ ولي الدين، وخاتمة اللغويين الحافظ مرتضى الزبيدي، والشيخ زكريا الأنصاري، والشيخ بهاء الدين الرواس الصوفي، ومفتي مكة أحمد بن زيني دحلان، ومسند الهند ولي الله الدهلوي، ومفتي مصر الشيخ محمد عليش المالكي المشهور، وشيخ الجامع الأزهر عبد الله الشرقاوي، والشيخ المشهور أبا المحاسن القاوقجي نقطة البيكار في أسانيد المتأخرين، والشيخ حسين الجسر الطرابلسي صاحب "الرسالة" و"الحميدية"، والشيخ عبد اللطيف فتح الله مفتي بيروت، والشيخ عبد الباسط الفاخوري مفتي بيروت، والشيخ محمد بن درويش الحوت البيروتي وابنه عبد الرحمن نقيب أشراف بيرون، والشيخ مصطفى نجا مفتي بيروت، والشيخ أبا محمد الويلتوري المليباري الهندي وقد ألف رسالة سماها "العقائد السنية ببيان الطريقة الأشعرية"، والقاضي الجليل ابن فرحون المالكي، والقاضي أبا بكر محمد بن الطيب الباقلاني، والحافظ ابن فورك، وأبا حامد الغزالي، وأبا الفتح الشهرستاني، والإمام أبا بكر الشاشي القفال، وأبا علي الدقاق النيسابوري، والحاكم النيسابوري، والحاكم النيسابوري صاحب المستدرك، والشيخ محمد بن منصور الهدهدي، والشيخ أبا عبد الله محمد السنوسي، والعلامة علوي بن طاهر الحضرمي الحداد صاحب التآليف الكثيرة، والعلامة المتفنن والفقيه المحقق الحبيب بن حسين بن عبد الله بلفقيه، والمفسر محمد بن علان الصديقي الشافعي وجميع السادة الحضارمة من ءال علوي، والسقاف، والجنيد، والعيدروس، وشافعي العصر رفاعي الأوان الشيخ الفقيه المحدث الأصولي عبد الله الهرري وغيرهم من أئمة الدين كثير لا يحصيهم إلا الله.

ومنهم الوزير المشهور نظام الملك والسلطان العادل العالم المجاهد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى وجزاه عن المسلمين الخير فإنه أمر أن تذاع أصول العقيدة على حسب عبارات الأشعري على المنابر بعد أذان الفجر وأن تُعلم المنظومة التي ألفها له ابن هبة الله المكي للأطفال في الكتاتيب. ومنهم الملك الكامل الأيوبي، والسلطان الأشرف خليل بن المنصور سيف الدين قلاوون بل وكل سلاكين المماليك رحمهم الله.

ومنهم السلطان محمد العثماني فاتح القسطنطينية الذي جاء فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش" رواه أحمد، وكذا سائر السلاطين العثمانيين الذين ذابوا عن عقيدة المسلمين وحموا حمى الملة قرونًا متتالية رحمهم الله.

وليس مرادنا بما ذكرنا إحصاء الأشاعرة فمن يحصي نجوم السماء أو يحيط علمًا بعدد رمال الصحراء؟! ولكن ما ذكرناه بنبئ عن المراد كما بنبئ عنوان الكتاب على مضمونه.


اعتقاد الأشعري هو اعتقاد أهل السنة والجماعة



قال السبكي في الطبقات: "واعلم أن أبا الحسن الأشعري لم يبتدع رأيًا ولم يُنشِ مذهبًا وإنما هو مقرر لمذاهب السلف، مناضل عما كانت عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالانتساب إليه إنما هو باعتبار أنه عقد على طريق السلف نطاقًا وتمسك به، وأقام الحجج والبراهين عليه فصار المقتدي به في ذلك السالك سبيله في الدلائل يسمى أشعريًا" اهـ.

وقال في موضع ءاخر: "قال المآيرقي المالكي: ولم يكن أبو الحسن أول متكلم بلسان أهل السنة إنما جرى على سنن غيره وعلى نصرة مذهب معروف فزاد المذهب حجة وبيانًا، ولم يبتدع مقالة اخترعها ولا مذهبًا به، ألا ترى أن مذهب أهل المدينة نسبة إلى مالك، ومن كان على مذهب أهل المدينة يقال له مالكي، ومالك إنما جرى على سنن من كان قبله، وكان كثير الاتباع لهم إلا أنه لما زاد المذهب بيانًا وبسطًا عُزي إليه، كذلك أبو الحسن الأشعري لا فرق، ليس له في مذهب السلف أكثر من بسطه وشرحه وما ألفه في نصرته" اهـ.

ويقول الشيخ عز الدين بن عبد السلام في عقيدته: "واعتقاد الأشعري رحمه الله مشتمل على ما دلت عليه أسماء الله التسعة والتسعون".

ويقول الشيخ قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب السبكي ما نصه: "وهؤلاء الحنفية والشافعية والمالكية وفضلاء الحنابلة في العقائد يدٌ واحدة كلهم على رأي أهل السنة والجماعة يدينون الله تعالى بطريق شيخ السنة أبي الحسن الأشعري رحمه الله" ثم يقول بعد ذلك: "وبالجملة عقيدة الأشعري هي ما تضمنته عقيدة أبي جعفر الطحاوي التي تلقاها علماء المذاهب بالقبول ورضوها عقيدة" اهـ.

ويقول أبو الفتح الشهرستاني في كتابه الملل والنحل: "الأشعرية أصحاب أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري المنتسب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه كان يقرر عين ما يقرره الأشعري أبو الحسن في مذهبه" اهـ.

وقال القاضي ابن فرحون المالكي في ترجمة الإمام الأشعري ما نصه: "صنف لأهل السنة التصانيف وأقام الحجج على إثبات السنن وما نفاه أهل البدع" ثم قال: "فأقام الحجج الواضحة عليها من الكتاب والسنة والدلائل الواضحة العقلية، ودفع شبه المعتزلة ومن بعدهم من الملحدة، وصنف في ذلك التصانيف المبسوطة التي نفع الله بها الأمة، وناظر المعتزلة وظهر عليهم، وكان أبو الحسن القابسي يثني عليه وله رسالة في ذكره لمن سأله عن مذهبه فيها أثنى عليه وأنصف، وأثنى عليه أبو محمد بن أبي زيد وغيره من أئمة المسلمين" اهـ.

ويقول الشيخ محمد الحوت البيروتي ما نصه: "المالكية والشافعية أشعرية وإمامهم أبو الحسن الأشعري من ذرية أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، والحنفية ماتريدية وإمامهم أبو منصور الماتريدي وهما إماما أهل السنة والجماعة" اهـ.

ويقول الشيخ محمد أمين الشهير بابن عابدين الحنفي في رد المحتار على الدر المختار: "أهل السنة والجماعة وهم الأشاعرة الماتريدية" اهـ.

ويقول أبو عبد الله الطالب بن حمدون المالكي في حاشيته على ميارة عن الأشعري: "أنه أول من تصدى لتحرير عقائد أهل السنة وتخليصها ودفع الشكوك والشبه عنها وإبطال دعوى الخصوم" اهـ.

ولقد أنصف الحبيب عبد الله بن علوي الحداد حين قال: "إن الحق مع الفرقة الموسومة بالأشعرية نسبة إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري رحمه الله الذي رتب قواعد عقيدة أهل الحق وحرر أدلتها، وهي العقيدة التي أجمعت عليها الصحابة ومن بعدهم من خيار التابعين وهي عقيدة أهل الحق من أهل كل زمان ومكان، وهي عقيدة جميع أهل التصوف كما حكى ذلك أبو القاسم القشيري في أول رسالته، وهي بحمد الله عقيدتنا وعقيدة إخواننا من السادة الحسينيين المعروفين بآل أبي علوي، أسلافنا من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، ثم أنشد:

وكُن أشعريًا في اعتقادك إنه *** هو المنهل الصافي عن الزيغ والكفر

أما اليخ الفقيه عبد الله العيدروس الأكبر فذكر في كتابه الكبريت الأحمر أن عقيدتهم عقيدة أهل السنة والجماعة فقال: "اعتقادنا اعتقاد الأشعرية، ومذهبنا مذهب الشافعية على مقتضى الكتاب والسنة" اهـ.

وإجمال اعتقاد الأشعري رحمه الله تعالى الذي هو اعتقاد أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى واحد لا شريك له، ليس بجسم مصور، ولا جوهر محدود مُقدر، ولا يشبه شيئًا ولا يُشبهه شيء {ليس كمثله شي وهو السميع البصير} [سورة الشورى/ءاية11]، قديم لا بداية لوجوده، دائم لا يطرأ عليه فناء، لا يعجزه شيء، لا تحيط به الجهات، كان قبل أن كوَّن المكان بلا مكان، وهو الآن على ما عليه كان، لا يقال متى كان ولا أين كان ولا كي، لا يتقيد بالزمان ولا يتخصص بالمكان، تعالى عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات وأنه سبحانه وتعالى منزه عن الجلوس والمماسة والاستقرار، والتمكن والحلول والانتقال، لا تبلغه الأوهام ولا تدركه الأفهام، حي، عليم، قادر، سميع، بصير، متكلم وكلامه قديم كسائر صفاته لأنه سبحانه مباين لجميع المخلوقات في الذات والصفات والأفعال. ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر، وأنه سبحانه وتعالى خلق الخلق وأعمالهم، وقدّر أرزاقهم وءاجالهم، لا دافع لما قضى ولا مانع لما أعطى، يفعل في ملكه ما يريد لا يُسئل عما يفعل وهم يسئلون، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه سبحانه موصوف بكل كمال يليق به منزه عن كل نقص في حقه، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، مبعوث إلى عامة الجن وكافة الورى، صادق في كل ما يبلغه عن الله تعالى.

وقد ألف الحافظ مؤرخ الشام أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي كتابًا في الدفاع عن الإمام أبي الحسن الأشعري رضي الله عنه، ذكر فيه مشاهير العلماء والحفاظ الأشاعرة في عصره، وأسماه "تبيين كذب المفتري فيما نُسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري" وقد طبع، وألف الشيخ محمد بن داود البازلي المتوفى سنة تسعمائة واثنتين وخمسين للهجرة كتابًا أسماه "مناقب أبي الحسن الأشعري" وهو مخطوط في المكتبة الظاهرية بدمشق، وكذا الشيخ عبد الملك بن عيسى بن درباس الماراني القاضي أيام السلطان صلاح الدين الأيوبي فقد جمع رسالة في ذلك تسمى "رسالة في الذب عن الأشعري رضي الله عنه" وقد طبعت سنة ألف وثلاثمائة وإحدى وعشرين للهجرة.

وقد ذبّ عنه وبرّأه مما نسب إليه المبتدعة الأستاذ أبو القاسم القشيري في رسالته "شكاية أهل السنة بحكاية ما نالهم من المحنة" وهي مسطّرة برمّتها في طبقات الشافعية للسبكي. وذب عنه أيضًا الحافظ البيهقي في كتابه إلى الوزير العميد وهو مذكور في الطبقات أيضًا.



إمام الحق والهدى أبو الحسن
علي بن إسماعيل الأشعري


ترجمته:

هو أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن أمير البصرة بلال بن أبي بردة بن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري اليماني البصري، وفي قومه نزل قول الله تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا من يرتدَّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبّهم ويحبّونه أذلة على المؤمنين أعزّة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم} [سورة المائدة/ءاية:54]. فيشير صلى الله عليه وسلم بعد نزولها إلى أبي موسى الأشعري قائلاً: "هم قوم هذا وضرب بيده على ظهر أبي موسى الأشعري"، ولما نزلت هذه الآية قدم بعد ذلك بيسير سفائن الأشعريين وقبائل اليمن فكان لهم بلاء حسن في الإسلام فقد روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبًا الإيمان يمان والحكمة يمانية.." كما أخرج البخاري في صحيحه عن عمران بن الحصين أن النبي أتاه أناس من بني تميم فقال عليه الصلاة والسلام: "اقبلوا البشرى يا بني تميم" قالوا بشرتنا فأعطنا مرتين فتغير وجهه، فجاءه أناس من أهل اليمن فقال: "يا أهل اليمن اقبلوا البشرى إذ لم يقبلها بنو تميم" قالوا: قد قبلنا يا رسول الله جئناك لنتفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان قال: "كان الله ولم يكن شيء غيره". وفيه دليل على أن الله موجود في الأزل قبل خلق الأماكن والأزمان وقبل الخلق كان ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان ليس له كمية صغيرة ولا كبيرة.

ولد الإمام أبو الحسن الأشعري سنة ستين ومائتين للهجرة بالبصرة، وقيل سنة سبعين، وتوفي سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة وقيل سنة أربع وعشرين وقيل سنة ثلاثين ببغداد.

جده أبو موسى ممن يؤخذ عنهم الفتيا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أحسن الناس صوتًا في قراءة القرءان، ويُنسب إلى الجماهر بن الأشعر، والأشعر من أولاد سبأ الذين كانوا باليمن، هاجر أبو موسى الأشعري مع أخويه في بضع وخمسين من قومه إلى أرض الحبشة وأقاموا مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه حتى قدموا جميعًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر. رزق من الأولاد والاحفاد مع الدراية والرواية والرعاية ما يكثر نشره، وأساميهم في التواريخ مثبتة، إلى أن بلغت النوبة إلى شيخنا أبي الحسن الاشعري رضي الله عنه.

كان أبو الحسن الأشعري سنيًا من بيت سنّة ثم درس الاعتزال على أبي علي الجبائي وتبعه في الاعتزال حتى صار لهم إمامًا، ثم تاب ورقيّ كرسيًا في المسجد الجامع بالبصرة يوم الجمعة ونادى بأعلى صوته: من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فإني أعرّفه بنفسي، أنا فلان بن فلان كنت أقول بخلق القرءان وأن الله لا تراه الأبصار وأن أفعال الشر أنا أفعلها وأنا تائب مقلع، معتقدٌ للرد على المعتزلة مخرجٌ لفضائحهم ومعايبهم.

قال الفقيه أبو بكر الصيرفي: كانت المعتزلة قد رفعوا رءوسهم حتى نشأ الأشعري فحجزهم في أقماع السماسم.


ثناء العلماء عليه:

وقال السبكي في طبقات الشافعية الكبرى: واعلم أن أبا الحسن الأشعري لم ينش مذهبًا إنما هو مقرر لمذاهب السلف مناضل عما كانت عليه صحابة رسول الله فالانتساب إليه إنما هو باعتبار أنه عقد على طريق السلف نطاقًا وتمسك به وأقام الحجج والبراهين عليه فصار المقتدي به في ذلك السالك سبيله في الدلائل يسمى أشعريًا. اهـ.

قال المؤرخ أبو محمد عبد القادر القرشي الحنفي في كتابه "الجواهر المضية في طبقات الحنفية": "صاحب الأصول الإمام الكبير". وأثنى عليه الشيخ عبد الرحيم الأسنوي الشافعي في طبقات الشافعية فقال: "هو القائم بنصرة أهل السنة، القامع للمعتزلة وغيرهم من المبتدعة بلسانه وقلمه، صاحب التصانيف الكثيرة، وشهرته تغني عن الإطالة بذكره"، ومدحه أبو بكر ابن قاضي شهبة أيضًا في طبقات الشافعية بقوله: "الشيخ أبو الحسن الأشعري البضري إمام المتكلمين، وناصر سنة سيد المرسلين، والذاب عن الدين".

أما اليافعي فقال في "مرءاة الجنان": "الشيخ الإمام ناصر السنة وناصح الأمة، إمام الأئمة الحق، ومدحض حجج المبتدعين المارقين، حامل راية منهج الحق ذي النور الساطع والبرهان القاطع".

وقال أبو الفتح الشهرستاني في كتابه "الملل والنحل": "الأشعرية أصحاب أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري المنتسب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما، وسمعت من عجيب الاتفاقات أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه كان يقرر عين ما يقرر الأشعري أبي الحسن في مذهبه".

وقال الاستاذ أبو القاسم القشيري رحمه الله: "اتفق أصحاب الحديث أن أبا الحسن علي بن إسماعيل الأشعري كان إمامًا من أئمة أصحاب الحديث ومذهبه مذهب أصحاب الحديث تكلم في أصول الدين على طريقة أهل السنة ورد على المخالفين من أهل الزيغ والبدع وكان على المعتزلة والمبتدعين من أهل القبلة والخارجين عن الملة سيفًا مسلولاً، ومن طعن فيه أو قدح أو لعنه أو سبه فقد بسط لسان السوء في جميع أهل السنة" اهـ.

وترجمه الحافظ أبو بكر البغدادي في "تاريخ بغداد" بقوله: "أبو الحسن الأشعري المتكلم صاحب الكتب والتصانيف في الرد على الملحدة وغيرهم من المعتزلة والجهمية والخوارج وسائر أصناف المبتدعة" اهـ.

ووصفه المؤرخ ابن العماد الحنبلي بالإمام العلامة البحر الفهامة المتكلم صاحب المصنفات ثم قال: "ومما بيّض به وجوه أهل السنة النبوية وسوّد به رايات أهل الاعتزال والجهمية فأبان به وجه الحق الأبلج، ولصدور أهل الإيمان والعِرفان أثلج، مناظرته مع شيخه الجبائي التي قصم فيها ظهر كل مبتدع مرائي" اهـ.

وأورده شمس الدين بن خلكان في الأعيان ووصفه بقوله: "صاحب الأصول، والقائم بنصرة مذهب أهل السنة، وإليه تنسب الطائفة الأشعرية، وشهرته تغني عن الإطالة في تعريفه" اهـ.

وأجاب قاضي القضاة أبو عبد الله الدامغاني الحنفي على سؤال ورده ببغداد ونصه: "ما قول السادة الأئمة الأجلة في قوم اجتمعوا على لعن فرقة الأشعري وتكفيرهم، ما الذي يجب عليهم؟، فأجاب بقوله: "قد ابتدع وارتكب [أي كل لاعن لفرقة الأشاعرة] ما لا يجوز، وعلى الناظر في الأمور أعز الله أنصاره الإنكار عليه وتأييده [أي تأييد الإنكار بالحجج] بما يرتدع به هو وأمثاله عن ارتكاب مثله".

وبعده كتاب الشيخ أبو إسحاق الشيرازي رحمه الله تعليقًا على الجواب المذكور: "الأشعرية أعيان أهل السنة وأنصار الشريعة انتصبوا للرد على المبتدعة من القدرية وغيرهم فمن طعن فيهم فقد طعن على أهل السنة، وإذا رفع أمر من يفعل ذلك إلى الناظر في أمر المسلمين وجب عليه تأديبه بما يرتدع به كل أحد".

ووقّع على هذا الجواب أيضًا بالموافقة الشيخ أبو بكر محمد بن أحمد الشاشي تلميذ الشيخ أبي إسحاق.

وقد صنف الشيخ العلامة ضياء الدين أبو العباس أحمد بن عمر بن يوسف بن عمر القرطبي رسالة سماها "زجر المفتري على أبي الحسن الأشعري" رد فيها على بعض المبتدعة الذين هجوا الإمام الأشعري، ولما وقف عليها الشيخ تقي الدين بن دقيق قرَّظها.

وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: "واعتقاد الأشعري رحمه الله مشتمل على ما دلت عليه أسماء الله التسعة والتسعون" ويقول رضي الله عنه في ءاخر عقيدته: "فهذا جملة من اعتقاد الاشعري رحمه الله تعالى واعتقاد السلف واهل الطريقة والحقيقة" ويقول تاج الدين عبد الوهاب السبكي أيضًا: "وهؤلاء الحنفية والشافعية والمالكية وفضلاء الحنابلة في العقائد يد واحدة كلهم على رأي أهل السنة والجماعة يدينون لله تعالى بطريق شيخ السنة أبي الحسن الأشعري رحمه الله". ثم يقول: "وبالجملة عقيدة الأشعري هي ما تضمنته عقيدة أبي جعفر الطحاوي التي تلقاها علماء المذاهب بالقبول ورضوها عقيدة". ويقول الشيخ محمد العربي التبّان شيخ المالكية في الحرم المكي: "فحول المحدثين من بعد أبي الحسن إلى عصرنا هذا أشاعرة وكتب التاريخ والطبقات ناطقة بذلك".

قال الأستاذ الإمام الإسفراييني الفقيه الأصولي: "كنت في جنب الشيخ الباهلي كقطرة في البحر، وسمعت الشيخ أبا الحسن الباهلي يقول: كنت أنا في جنب الشيخ الأشعري كقطرة في جنب البحر".

وقال البيهقي: "إلى أن بلغت النوبة إلى شيخنا أبي الحسن الأشعري رحمه الله فلم يُحدث في دين الله حدثًا، ولم يأتِ فيه ببدعة، بل أخذ أقاويل الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة في أصول الدين فنصرها، بزيادة شرح وتبيين، وأن ما قاله في الأصول وجاء به الشرع صحيح في العقول خلاف ما زعم أهل الأهواء، فكان في بيانه تقوية لنصره أهل السنة والجماعة من الأئمة كأبي حنيفة وسفيان الثوري من أهل الكوفة، والأوزاعي وغيره من أهل الشام، ومالك والشافعي من أهل الحرمين، وأحمد بن حنبل وغيره من أهل الحديث كالبخاري ومسلم إمامي أهل الآثار وحفاظ السنن التي عليها مدار الشرع رضي الله عنهم أجمعين.

وقال لسان الأمة القاضي أبو بكر الباقلاني: "أفضل أحوالي أن أفهم كلام أبي الحسن".

وقال تاج الدين السبكي: "لو أردنا استيعاب مناقب الشيخ الأشعري لضاقت بنا الأوراق، وكلّت الأقلام، ومن أراد معرفة قدره، وأن يمتلئ قلبه من حبه فعليه بكتاب "تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري" الذي صنفه الحافظ ابن عساكر الدمشقي فهو من أجلّ الكتب، وأعظمها فائدة وأحسنها"، قال ابن أبي الحجاج الأندلسي في فهرسته: "لو لم يكن للحافظ ابن عساكر من المنّة على الأشعري إلا هذا الكتاب لكفى به".

وقد افتتح ترجمته بقوله: "شيخنا وقدوتنا إلى الله تعالى الشيخ أبو الحسن الأشعري البصري شيخ طريقة أهل السنة والجماعة وإمام المتكلمين وناصر سنة سيد المرسلين والذاب عن الدين والساعي في حفظ عقائد المسلمين سعيًا يبقى أثره إلى يوم يقوم الناس لرب العالمين، إمام حبر وتقي بر، حمى جناب الشرع من الحديث المفترى وقام في نصرة ملة الإسلام فنصرها نصرًا مؤزرًا وما برح يدلج ويسير وينهض بساعد التشمير حتى نقَّى الصدور من الشبه كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ووقى بأنوار اليقين من الوقوع في ورطات ما التبس فلم يترك مقالاً لقائل وأزاح الأباطيل والحق يدفع تُرَّهات الباطل".

وقد زعم بعض الناس أن الشيخ الأشعري كان مالكيًا وليس ذلك بصحيح، إنما كان شافعيًا تفقه على أبي إسحاق المروزي، نص على ذلك الأستاذ أبو بكر بن فورك في "طبقات المتكلمين" والأستاذ أبو اسحاق الاسفراييني فيما نقله عنه الشيخ أبو محمد الجويني في "شرح الرسالة". أما شيخ الأشاعرة من المالكية فهو الإمام القاضي أبو بكر الباقلاني.


مجانبته لأهل البدع وصحة اعتقاده:

نظر الإمام أبو الحسن الأشعري في كتب المعتزلة والجهمية فوجد أنهم عطلوا وأبطلوا وقالوا والعياذ بالله: "لا علم لله ولا قدرة ولا سمع ولا بصر ولا حياة ولا بقاء ولا إرادة". وقالت الحشوية والمجسمة والعياذ بالله: "إن لله علمًا كالعلوم وقدرة كالقُدر وسمعًا كالأسماع وبصرًا كالأبصار"فسلك رضي الله عنه طريقة بينهما فقال: "إن لله سبحانه وتعالى علمًا لا كالعلوم، وقدرة لا كالقُدَر، وسمعًا لا كالأسماع، وبصرًا لا كالأبصار".

أما جهم بن صفوان فقال: "العبد لا يقدر على إحداث شيء ولا على كسب شيء". وقالت المعتزلة والعياذ بالله: "هو [أي العبد] قادر على الإحداث والكسب معًا". فسلك رضي الله عنه طريق بينهما فقال: "العبد لا يقدر على الإحداث ويقدر على الكسب" ونفى قدرة الإحداث وأثبت قدرة الكسب. وقالت الحشوية المشبهة والعياذ بالله: "إن الله سبحانه يُرى مكيفًا محدودًا كسائر المرئيات"، وقالت المعتزلة والجهمية والنجارية والعياذ بالله: "إنه سبحانه لا يُرى بحال من الأحوال". فسلك رضي الله عنه طريقة بينهما فقال: "يُرى من غير حلول ولا حدود ولا تكييف، وهو غير محدود ولا مُكيف فكذلك نراه وهو غير محدود ولا مُكيَّف".

وقالت النجارية والعياذ بالله: "إن الله بكل مكان من غير حلول ولا جهة"، وقالت الحشوية والمجسمة والعياذ بالله: "إنه سبحانه حالٌ في العرش، وإن العرش مكان له وهو جالس عليه"، فسلك رضي الله عنه طريقة بينهما فقال: "كان ولا مكان، فخلق العرش والكرسي ولم يحتج إلى مكان، وهو بعد خلق المكان كما كان قبل خلقه".

وقالت المرجئة والعياذ بالله: "من أخلص لله سبحانه وتعالى مرة في إيمانه لا يكفر بارتداد ولا كفر ولا يكتب عليه كبيرة قط"، وقال المعتزلة: "إن صاحب الكبيرة مع إيمانه وطاعاته مائة سنة لا يخرج من النار قط"، فسلك رضي الله عنه طريقة بينهما فقال: "المؤمن الموحد الفاسق هو في مشيئة الله تعالى إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة، وإن شاء عاقبه بفسقه ثم أدخله الجنة".

وأما ما تزعم المجسمة من أن الإمام الأشعري قرر في كتابه الإبانة ما يوافق التجسيم وأن الله حال في السماء فهو مدفوع بأن النسخ التي يعتمدون عليها في نسبة ذلك إليه مدسوسة عليه ولا يستطيعون أن يظهروا نسخة موثوقًا بها إنما هذه النسخة عمل بعض المجسمة، فهل يعقل أن تكون مثل هذه العبارة من كلام أبي الحسن الأشعري وهي: اتفق المسلمون في دعائهم على قول يا ساكن السماء، فهذه فرية ظاهرة يكفي لكونها كذبًا وافتراء عليه أن هذا لا يُعرف عن أحد من الأشاعرة خواصهم وعوامهم، بل ولا عن أحد ممن سبق أبا الحسن الأشعري ولا من لحقه من أهل الإسلام في الزمن الماضي والحاضر.


اجتهاده في العبادة وزهده في الدنيا:

كان الشيخ أبو الحسن الأشعري عجيبًا في الذكاء وقوة الفهم وتبحره في العلم، وكان قريبًا من عشرين سنة يصلي صلاة الصبح بوضوء العتمة، وكان لا يحكي عن اجتهاده شيئًا إلى أحد. كان كثير الحياء في أمور الدنيا، ونشيط في أمور الآخرة، وكان يأكل من غلّة ضيعة وقها جده بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري على عقبه، وكانت نفقته في كل سنة سبعة عشر درهمًا لكل شهر درهم وقليل.


مصنفاته:

ذكر الإمام الأشعري رحمه الله في كتابه "العمد في الرؤية" أسماء أكثر كتبه، فمنها: كتاب "الإبانة" و"الفصول في الرد على الملحدين الخارجين عن الملة" كالفلاسفة والطبائعيين الدهريين وأهل التشبيه، والقائلين بأزلية الدهر، وردَّ على البراهمة واليهود والمجوس، وهو كتاب يشتمل على اثنتي عشر كتابًا، وكتاب "إيضاح البرهان في الرد على أهل الزيغ والطغيان" وكتاب "اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع"، و"اللمع الكبير" وكتاب "التفصيل في الرد على أهل الإفك والتضليل" وكتاب "النقض على الجبّائي" والجبائي هذا رأس متكلمي المعتزلة. وكتاب "مقالات المسلمين"، و"جمل المقالات" و"الجوابات في الصفات" و"القامع لكتاب الخالدي"، و"الدافع للمهذب" و"المختصر في التوحيد والقدر" و"كتاب الطبريين" و"جواب المصريين" و"المسائل على أهل التثنية" و"تفسير القرءان" و"زيادات النوادر" و"جوابات أهل فارس" و"الجوهر" و"الاحتياج" و"الأخبار وتصحيحها" و"الإيمان" و"أفعال النبي" و"دلائل النبوة" و"كشف الأسرار" و"الموجز" و"الاحتجاج" و"ثبات القياس" و"النوادر في دقائق الكلام" و"أدب الجدل" و"النقض على البلخي" و"الرد على المجسمة" و"الرد على ابن الرواندي في الصفات والقرءان" و"الاجتهاد في الأحكام" و"الادراك في فنون لطيف الكلام" و"الإمامة" و"التبيين عن أصول الدين" و"خلق الأعمال" و"جواز رؤية الله تعالى بالأبصار" وغيرها كثيرة فقد كان الأشعري رحمه الله مكثرًا في التصنيف ويقال إن تصانيفه بلغت أكثر من ثلاثمائة كتاب ومن شاء فليراجع فقد أورد الكثير منها إسماعيل باشا في كتابه "هدية العارفين" الجزء الأول.

وكتاب "الإبانة" هو من تأليف أبي الحسن، لكن أكثر نسخه سقيمة، وكل النسخ التي تنقل منها المجسمة القدماء وغيرهم غير صحيحة لأنها لم تكن مقابلة بيد ثقة على نسخة قابلها ثقة وهكذا إلى أصل المؤلف الذي كتبه بخطه أو كتبه ثقة بإملاء المؤلف فقابله على المؤلف، وابن عساكر لم يسرد الإبانة كلها وإنما ذكر بعضًا ليس فيه ما هو صريح في التجسيم والتشبيه، بل يوجد في النسخ المطبوعة من الإبانة ما لا يخفى على جميع المسلمين أنه مفترى ولا يُصدق على المبتدئ من طلاب العلم. وفي هذه النسخ السقيمة مما أدخلته الحشوية من الجمل التي لا يقول بها أدنى مسلم فكيف بالإمام الأشعري؟!!! ومما يدل على تبرئة الأشعري من ذلك ما نقله عنه الشيخ ابن فورك رحمه الله فقد جمع كلامه في مؤلَّف وفيه من الكلام ما يدل على أن ما في الإبانة من التجسيم هو مفترى على أبي الحسن رحمه الله. ثم إن الإبانة ليست مؤلف أبي الحسن الوحيد، وليست ءاخر مؤلفاته على الإطلاق، بل مذهب الإمام من الأئمة ما أطبق عليه أصحابه الثقات على نسبته إليه، ومسئلة تنزيه الله عن التحيز في العرش والسماء وغيرهما من الأماكن مما عُرف أنه طريق الأشعري بالتواتر على القطع والجزم فلا وجه للمراء في ذلك.


مشاهير أصحابه:

إن فضل المقتدي يدل على فضل المقتدى به، فمن أصحابه الذين أخذوا عنه ومن أدركه ممن قال بقوله أو أخذ العلم عنه وهم من أعيان الأئمة ومشاهير القوم وقد ذكرهم مؤرخ الشام وحافظها أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر في كتابه الذي ألفه في الدفاع عن الشيخ أبي الحسن الأشعري مع ذكر مناقبه ومؤلفاته وثناء الأئمة عليه، وقد أفرد قاضي القضاة الشيخ تاج الدين ابن الإمام قاضي القضاة تقي الدين السبكي فصلاً خاصًا بذكر أكابر المنتسبين إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري وذلك أثناء ترجمته في كتابه طبقات الشافعية.

* أبو محمد الطبري المعروف بالعراقي، أهل جرجان يعرفونه بالمنجنيقي. وكان ولي قضاء جرجان، وكان فصيح اللسان، يناظر على مذهب الشافعي في الفقه، وعلى مذهب الأشعري في الكلام.
* أبو بكر القفال الشاشي: إمام عصره ببلاد ما وراء النهر للشافعيين، وأعلمهم بالأصول وأكثرهم رحلة في طلب الحديث.
* أبو سهل الصعلوكي النيسابوري وهو فقيه أديب لغوي نحوي شاعر متكلم مفسّر.
* أبو زيد المروزي، وهو أحد أئمة المسلمين ومن أحفظ الناس لمذهب الشافعي وأحسنهم نظرًا وأزهدهم في الدنيا.
* أبو عبد الله بن خفيف الشيرازي وكان شيخًا بعلوم الظاهر متمسكًا بالشريعة.
* أبو بكر الجرجاني الإسماعيلي، وكان برًا بوالديه لحقته بركة دعائهما.
* أبو الحسن عبد العزيز بن محمد بن إسحاق الطبري: وكان من أعيان أصحاب أبي الحسن، خرج إلى الشام ونشر بها مذهبه.
* أبو الحسن علي بن محمد بن مهدي الطبري، وأبو عبد الله الأصبهاني المعروف بالشافعي، وأبو محمد القرشي الزهري، وأبو بكر البخاري المعروف بالأودني، وأبو منصور النيسابوري، وأبو الحسين بن سمعون البغدادي، وأبو عبد الرحمن الشروطي، وأبو علي الفقيه السرخسي، وأبو بكر البيهقي، وابن عساكر الدمشقي، وأبو الفضل العسقلاني، وأبو الحسن الباهلي، وأبو إسحاق الاسفراييني، والحافظ أبو نعيم، والإمام أحمد الرفاعي، والقاضي عياض، والإمام النووي، والإمام فخر الدين الرازي، وابن دقيق العيد، والحافظ مرتضى الزبيدي، والشيخ زكريا الأنصاري، ومفتي مصر محمد عليش المالكي، وشيخ الجامع الأزهر عبد الله الشرقاوي وغيرهم من أئمة الدين كثير لا يحصيهم إلا الله سبحانه.

قال الإمام أبو نصر القشيري:

شيئان من يعذلني فيهما *** فهو على التحقيق مني بري
حب أبي بكر إمام الهدى *** ثم اعتقادي مذهب الأشعري

وقال بعض أهل العلم:

الأشعرية قوم *** قد وفّقوا للصواب
لم يخرجوا في اعتقاد *** عن سنة أو كتاب

قال الإمام الحزري الاسكندراني:

خذ ما بدا لك أو فدع *** كثرت مقالات البدع
إن النبي المصطفى *** دينًا حنيفيًا شرع
الله أيّد شيخنا *** وبه البرية قد نفع
الأشعري إمامنا *** شيخ الديانة والورع

وقال بعضهم في مدحه:

قل للمخالف يا لُكع *** كُفّ اللسان عن البدع
وذَرِ التعصب جانبًا *** واللعن للعلماء دع
واعلم بأن الأشعري *** عدو أصحاب البدع
فهو المجيدُ الذبّ عن *** سنن الرسول وما شرع
حبر تقي عالم *** جمع الديانة والورع
فعليه رحمة ربه *** ما غاب نجم أو طلع

وبعد.. فإن ما ذكره علماء أهل الحق من معاصري الإمام الأشعري ومن جاء بعدهم في مدح طريقته وصحة اعتقاده ليثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن أبا الحسن الاشعري إمام أهل السنة والجماعة، وأن ما يدعيه المجسمة والمشبهة نفاة التوسل بشأنه ما هو إلا محض افتراء يرمون من وراءه إلى نشر عقائدهم الفاسدة في التشبيه والتجسيم. ومن رام مزيد اطلاع على سيرة إمامنا أبي الحسن الأشعري رضي الله عنه فنحيله إلى حيث أحال الإمام تاج الدين السبكي في "طبقات الشافعية" المستزيدين من أخبار الأشعري، ونعني بذلك كتاب "تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الاشعري" للإمام ابن عساكر الدمشقي.


وفاته:

في تاريخ وفاته اختلاف منها أنه توفي في سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، وقيل سنة أربع وعشرين، وقيل سنة ثلاثين، توفي رحمه الله ببغداد ودفن بين الكرخ وباب البصرة رحمه الله تعالى.



أبو بكر الجرجاني الإسماعيلي
الإمام الحافظ شيخ المحدثين



ترجمته:

هو الإمام الحافظ الحجة الفقيه، شيخ الإسلام أبو بكر أحمد بن إسماعيل بن العباس الجرجاني الإسماعيلي شيخ الشافعية المولود سنة سبع وسبعين ومائتين للهجرة.

كتب الحديث بخطه وهو صبي مميز، ورحل في طلبه سنة تسع وثمانين وبعدها، أي منذ أن بلغ اثنتي عشرة سنة. ومما جاء في ترجمته في كتاب "تاريخ جرجان" للسهمي قول المؤلف: "سمعت أبي يوسف بن إبراهيم يقول: سمعت أبي إبراهيم بن موسى يقول: كنا جماعة صبيان نختلف من بكر أباذ إلى إبراهيم بن هانئ نتفقه ونتعلم مذهب الشافعي رضي الله عنه، فكان منا مَنْ يسبق أبا بكر الإسماعيلي لكي يتأخر فيما يقرأ، فأبى الله تعالى إلا رفعه ونفعه بما تعلّم".

وجاء في معجمه قوله: "كتبتُ في صغري الإملاء بخطي في سنة ثلاث وثمانين ومائتين، ولي يومئذ ست سنين".

وجاء في "تاريخ جرجان" أيضًا عن أول رحلة له في طلب الحديث إلى الحسن بن سفيان قوله: "فقدمت عليه [أي الحسن بن سفيان] وسألته أن أقرأ عليه المسند فأذن لي، فقرأت عليه جميع المسند وغيره من الكتب، فكان ذلك أول رحلتي في طلب الحديث، ورجعت إلى وطني ثم رجعت إلى بغداد في سنة ست وتسعين ومائتين وصحبني بعض أقربائي".


مشايخه:

روى عنه كثيرين منهم إبراهيم بن زهير الحلواني، وحمزة بن محمد الكاتب، ويوسف بن يعقوب القاضي صاحب "السنن"، وأحمد بن محمد بن مسروق، ومحمد بن يحيى المروزي، والحسن بن علوية القطان، وجعفر بن محمد الغربالي، ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة، وإبراهيم بن شريك، وجعفر بن محمد الليث البصري، والحسن بن سفيان، وأبي يعلى الموصلي، وابن خزيمة، والبغوي، وغيرهم ممن هم في طبقتهم بخراسان والحجاز والعراق والجبال، وأما الذين حدثوا عنه فكثيرون منهم الحاكم النيسابوري، وأبو بكر البرقاني، وحمزة السهمي، وأبو حازم العبدوي، وأبو الحسن محمد بن علي الطبري، والحافظ أبو بكر محمد بن إدريس الجرجاني، وسبطه أبو عمرو وعبد الرحمن بن محمد الفارسي، وكثيرون غيرهم.


ثناء العلماء عليه:

جاء في "سير أعلام النبلاء" في الثناء على الإمام الجرجاني قوله: "قال حمزة بن يوسف: سمعت الدارقطني يقول: قد كنت عزمت غير مرة أن أرحل إلى أبي بكر الإسماعيلي فلم أُرزق".

وقال الحاكم: "كان الإسماعيلي واحد عصره، وشيخ المحدثين والفقهاء، وأجلهم في الرئاسة والمروءة والسخاء، ولا خلاف بين العلماء من الفريقين وعقلائهم في أبي بكر".

وفي "تاريخ جرجان" للسهمي جاء ما نصه: "سمعت والدي أبا يعقوب يوسف بن إبراهيم يقول: سمعت أبي إبراهيم بن موسى يقول: كان أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بارًا بوالديه فحقته بركة دعائهما". ونقل ابن عساكر في تبيينه عن الحافظ أبي نصر السجزي أنه قال: "أبو بكر الإسماعيلي شيخ كبير جليل ثقة من الفقهاء والمحدثين في عصره، يرجع إلى علم وافر ومعرفة بالحديث صادقة، ومروءة ظاهرة. وكانت إليه الرحلة في زمانه".

وفي سير الذهبي ورد ما نصه: "قال حمزة: سمعت جماعة، منهم الحافظ ابن المظفر يحكون جودة قراءة أبي بكر، وقالوا: كان مقدمًا في جميع المجالس، كان إذا حضر مجلسًا لا يقرأ غيره".


مؤلفاته:

صنف تصانيف تشهد له بالإمامة في الفقه والحديث، منها "عمل مسند عمر"، صنفه في مجلدتين، و"المستخرج على الصحيح" وهو كتاب وضعه في الحديث على شرط البخاري، ومعجمه الذي جمعه عن نحو ثلاثمائة شيخ.

ويذكر صاحب السير عن سعة علمه ما جاء على لسان حمزة بن يوسف حيث قال: "سمعت الحسن بن علي الحافظ بالبصرة يقول: كان الواجب للشيخ أبي بكر أن يصنف لنفسه سننًا ويختار ويجتهد، فإنه كان يقدر عليه لكثرة ما كتب، ولغزارة علمه وفهمه وجلالته".


وفاته:

توفي رحمه الله في غرة رجب سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة عن أربع وتسعين سنة، وخلف من الاولاد ابنين هما: أبو نصر محمد وأبو سعد إسماعيل، وثلا بنات. فأما أبو نصر فترأس في حياة أبيه وعقد مجلسًا للإملاء سنة ثلاثمائة وست وستين للهجرة.

وأما أبو سعد فقد صار إمامًا في الفقه لم يكن له نظير في زمانه.

وجاء في "تبيين كذب المفتري" ما نصه: "حدثنا أبو اسحاق إبراهيم بن علي الفقيه قال: أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العباس الإسماعيلي مات سنة نيف وسبعين وثلاثمائة، وجمع بين الفقه والحديث ورئاسة الدين والدنيا، وصنف الصحيح وأهذ عنه ابنه أبو سعد وفقهاء جرجان".

إنه واحد من أعلام الأشاعرة الذين وقفوا أنفسهم حماة للدين يدافعون عنه شبه المضلين المفسدين، فهل بعد ذلك يكون من الإنصاف في شيء أن يقوم مدعٍ للعلم فيذم الأشاعرة أو يطعن بهم فيطلق عليهم سهام الطعن والتجريح.

رحمه الله تعالى وأسكنه الفردوس الأعلى.



إبن خفيف الشيرازي
إمام فارس وشيخ الصوفية




ترجمته:

هو أبو عبد الله محمد بن خفيف بن إسفكشاذ الضبي الفارسي الشيرازي شيخ إقليم فارس ورأس الصوفية في زمانه، ولد من أم نيسابورية وأقام بمدينة شيراز. لم تذكر المصادر شيئًا عن وقت ولادته. وقد نقل ابن عساكر في "تبيين كذب المفتري" عن محمد بن حسين السلمي أنه قال: "محمد بن خفيف بن اسفكشاذ الضبي أبو عبد الله المقيم بشيراز. كانت أمه نيسابورية. هو اليوم شيخ المشايخ وتاريخ الزمان، لم يبق للقوم أقدم منه سنًا ولا أتم حالاً ووقتًا، صحب وريمًا والجريري وابن العباس بن عطاء ولقي الحسين بن منصور وهو من أعلم المشايخ بعلوم الظاهر متمسكًا بعلوم الشريعة من الكتاب والسنة وهو فقيه على مذهب الشافعي".


علمه:

تفقّه على أبي العباس بن سريج وحدّث عن حماد بن مدرك وعن محمد بن جعفر التمار والحسين المحاملي وجماعة، وحدّث عنه أبو الفضل الخزاعي والحسن بن حفص الأندلسي وإبراهيم بن الخضر الشياح، والقاضي أبو بكر الباقلاني، ومحمد بن عبد الله بن باكويه. وكان رحل إلى إمام أهل السنة أبي الحسن الأشعري فلازمه فترة وأخذ عنه وكان من أعيان تلامذته.


ثناء العلماء عليه:

وروى ابن باكويه أن ابن خفيف نظر يومًا إلى ابن مكتوم وجماعة يكتبون شيئًا فقال: ما هذا؟ قالوا: نكتب كذا وكذا، قال: اشتغلوا بتعلم شيء ولا يغرنكم كلام الصوفية، فإني كنت أخبئ محبرتي في جيب مرقعي والورق في حجر سراويلي وأذهب في الخفية إلى أهل العلم، فإذا علموا بي خاصموني وقالوا لا يفلح، ثم احتاجوا إليَّ.

ومن ذلك قول الذهبي في "سير أعلام النبلاء": "قد كان الشيخ قد جمع بين العلم والعمل وعلو السند والتمسك بالسنن، ومُتّع بطول العمر في الطاعة".

ومن أجمل ما قيل فيه ما ذكره التاج السبكي في طبقاته من قوله: "الشيخ أبو عبد الله بن خفيف شيخ المشايخ وذو القدم الراسخ في العلم والدين، كان سيدًا جليلاً وإمامًا حفيلاً، يستمطر الغيث بدعائه، ويؤدب المصر بكلامه، من أعلم المشايخ بعلوم الظاهر وممن اتفقوا على عظيم تمسكه بالكتاب والسنة، وكانت له أسفار وبدايات، وأحوال عاليات ورياضات، وصحب من أرباب الاحوال أحبارًا وأخيارًا، وشرب من منهل الطريق كأسات كبارًا، وسافر مشرقًا ومغربًا، وصابر النفس حتى انقادت له فأصبح مبنى الثناء عليها معربًا، صبر على الطاعة لا يعصيه فيه قلبه، واستمر على المراقبة شهيد عليه ربه، وجنب لا يدري القرار، ونفس لا تعرف المأوى إلا البيداء ولا المسكن إلا القفار".

وقال فيه أيضًا: "بلغ ما لم يبلغه أحد من الخلق في العلم والجاه عند الخاص والعام، [أي في زمانه] وصار أوحد زمانه مقصودًا من الآفاق مفيدًا في كل نوع من العلوم مباركًا على من يقصده، رفيقًا بمريديه يبلغ كلامه مراده".


زهده وتصوفه:

يقول التاج: "كان ابن خفيف من أولاد الامراء، فتزهد حتى قال: "كنت أذهب وأجمع الخرق من المزابل وأغسله وأصلح منه ما ألبسه"، ويروى عنه أنه قال: "ما وجبت علي زكاة الفطر أربعين سنة مع ما لي من القبول العظيم بين الخاص والعام".

ومما يرويه ابن عساكر في "تبيين كذب المفتري" عنه قوله: "كنت في ابتدائي بقيت أربعين شهرًا أفطر كل ليلة بكف باقلاء، فمضيت يومًا واقتصدت فخرج من عرقي شبيه ماء اللحم وغشي علي فتحير الفصاد وقال: ما رأيت جسدًا بلا دم إلا هذا".

في كتاب السير للذهبي قول ابن باكويه في ابن خفيف: "سمعت ابن خفيف يقول: كنت في بدايتي ربما أقرأ في ركعة واحدة عشرة ءالاف {قل هو الله أحد} وربما كنت أقرأ في ركعة القرءان كله".

يقول الذهبي: "وروي عن ابن خفيف أمه كان به وجع الخاصرة، فكان إذا أصابه أقعده عن الحركة، فكان إذا نودي بالصلاة يُحمل على ظهر رجل، فقيل له: لو خففت على نفسك، قال: إذا سمعتم: حيَّ على الصلاة ولم تروني في الصف فاطلبوني في المقبرة".


رحلته إلى أبي الحسن الاشعري:

رواها ضياء الدين الرازي أبو الإمام الفخر الرازي في كتابه "غاية المرام في علم الكلام"، والتاج السبكي في طبقاته عن ابن خفيف رضي الله عنه، وهي قصة كلها سجع بدأها بقوله: "دعاني أرب، ولوع ألب، وشوق غلب، وطلب يا له من طلب، أن أحرك نحو البصرة ركابي، في عنوان شبابي، لكثرة ما بلغني، على لسان البدوي والحضري، من فضائل شيخنا أبي الحسن الأشعري، لأستسعد بلقاء ذلك الوحيد، وأستفيد مما فتح الله تعالى عليه من ينابيع التوحيد...". ويكمل ابن خفيف هذه القصة المسجوعة التي نوردها متصرفين فيها وذاكرين ما فيها بغير سجع، فيقول ما معناه: "وصلت إلى البصرة التي وجدتها على ما وصفت لي من الجمال والنظافة ورحابة صدور أهلها. وفيها أنا أدور وأبحث عمن يرشدني إلى الشيخ أبي الحسن، التقيت رجلاً بهي المنظر بين جماعة من أصحابه، فارتحت إليه وعزمت على أن أكلمه فسلمت عليه ورد علي السلام وكلّمني بأجزل الكلام وألطفه، فسألته عن الإمام الأشعري فقال لي: وماذا تريد منه، قلت: قد بلغني ذكره وعلمه فتقت لأن ألقاه وأستفيد من علمه، قال: عد إليّ غدًا باكرًا إلى هذا الموضع فأدلك عليه، فأتيت في اليوم التالي فلقيته في المكان عينه ينتظرني فسلّم عليّ ورددت عليه، ثم مضى وأنا أتبعه حتى دخل دارًا قد حضر فيها جماعة من الناس قد تسارعوا إلى الباب يستقبلونه بالترحاب والتعظيم، وقدموه إلى صدر المجلس ينتظرون حتى بدأ الشيخ يتكلم بلسان يفتق الشعور ويفلق الصخور، وألفاظ أرق من أديم الهواء وأعذب من زلال الماء، ومعانٍ ذات بيان، فكان إذا أوجز أعجز، وإذا أسهب أذهب، فلم يدع مشكلة إلا أزالها ولا فسادًا إلا أصلحه، وسط حيرة الحاضرين وتعجبهم من كلامه، عندها سألت بعض الحاضرين: من هذا الذي كان يتكلم بكلام لم أسمع مثله.

قال: هو الباز الاشهب ناصر الحق وقامع البدعة، إمام الامة وقوام الملة أبو الحسن الاشعري، فسرحت وأمعنت النظر في توسمه وتوقد جذوته، فإذا به يخرج من المجلس فتبعته فنظر إليّ وقال: يا فتى كيف وجدت أبا الحسن، فقلت:

ومسْجل مثل حد السيف منصلتٍ ***** تَزِلُّ عن غربه الألباب والفكرُ
طعنت بالحجة الغراء جيلهُم ***** ورمح غيرك منه العي والحضرُ

لا قام ضدك ولا قعد جدك، ولا فض فوك ولا لحقك من يقفوك، فوالذي سمك السماء وعلم ءادم الأسماء، لقد أبديت اليد البيضاء، وسكنت الضوضاء وكشفت الغماء، ولحنت الدهماء وقطعت الاحشاء وقمعت البدع والأهواء، بيد أنه قد بقي لي سؤال، فقال: اذكره، قلت: رأيت الأمر لم يجر على النظام، لأنك لم تفتتح كلامك بالدليل، فقال: إني في الابتداء لا أذكر الدليل ولا أشتغل بالتعليل، حتى إذا ذكر الخصم ضلالته وأفرد شبهته، أنص حينها على الجواب بالدليل والبرهان" ا.هـ.

قال ابن خفيف: "فتعلقت بأهدابه لخصائص ءادابه، ونافست في مصافاته لنفائس صفاته، ولبثت معه برهة أستفيد منه في كل يوم نزهة، وأدرأ عن نفسي للمعتزلة شبهة. ثم ألفيت مع علو درجته وتفاقم مرتبته، يقوم بتثقيف أوده من كَسْبِ يده، من اتخاذ تجارة العقاقير معيشة، والاكتفاء بها عيشة، اتقاء للشبهات وإبقاء على الشهوات، رضى بالكفاف وإيثارًا للعفاف" ا.هـ.


كرامته:

منها ما ذكره التاج السبكي في الطبقات، وهي أنه ناظر يومًا بعض البراهمة، فقال له البرهمي: إن كان دينك حقًا فتعال اصبر أنا وأنت على الطعام أربعين يومًا، فأجابه ابن خفيف فعجز البرهمي عن إكمال المدة المذكورة وأكملها ابن خفيف وهو طيب مسرور.

ومنها أيضًا عن الطبقات أن برهميًا ءاخر ناظره ثم دعاه إلى المكث معه تحت الماء مدة، فمات البرهمي قبل انتهاء المدة وصبر الشيخ إلى أن انتهت وخرج سالمًا لم يظهر علي تغير.


مؤلفاته:

وأما مصنفاته فكثيرة قال فيها التاج السبكي في طبقاته: "وصنف من الكتب ما لم يصنفه أحد، وعُمِّرَ حتى عمَّ نفعه". ومن الكتب التي صنفها في مختلف العلوم الدينية كتاب "ءاداب المريدين" و"اختلاف الناس في الروح" و"جامع الإرشاد" و"الجمع والتفري" و"الفصول في الأصول" و"فضل التصوف" و"كتاب الاستدراج" و"الاستذكار" و"الإعانة" و"الاقتصاد" و"السماع" وكثير غيرها من بينها ديوان شعر له.


وفاته:

ذكر الصفدي في "الوافي" والذهبي في "سير أعلام النبلاء" وصاحب "كشف الظنون" أنه توفي سنة ثلاثمائة وإحدى وسبعين للهجرة.

وقال الذهبي: "يقال إنه عاش مائة سنة وأربعين سنين، وانتقل إلى رحمة الله تعالى في ليلة الثالث من شهر رمضان سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة. والأصح أنه عاش خمسًا وتسعين سنة، وازدحم الخلق على سريره وكان أمرًا عجيبًا. قيل إنهم صلوا عليه نحوًا من مئة مرة.



سيف السنة ولسان الأمة
الإمام أبو بكر الباقلاني



ترجمته:

هو القاضي أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم الباقلاني، ذكر صاحب "معجم المؤلفين" أنه ولد سنة ثلاثمائة وثمان وثمانين هجرية. وهو من أهل البصرة سافر إلى بغداد وسكن فيها.

سمع الحديث في بغداد من أبي بكر بن مالك القطيعي وأبي محمد بن ماسي، وأبي أحمد الحسين بن علي النيسابوري، وأخذ علم الكلام عن أبي عبد الله محمد بن أحمد بن مجاهد الطائي صاحب الأشعري، وأخذ عنه أئمة منهم أبو ذر الهروي وأبو عمران الفاسي والقاضي أبو محمد بن نصر.


مناقبه:

ويروى أن الهروي سئل: من أين تمذهبت بمذهب مالك ورأي الأشعري مع أنك هروي، فقال: قدمت بغداد وكنت ماشيًا مع الدارقطني فلقينا أبو بكر بن الطيب فلزمه الدارقطني بعد ما قبّل وجهه وعينه، فلما افترقا قلت من هذا، قال: إمام المسلمين والذاب عن الدين القاضي أبو بكر، فمن ذلك الوقت ترددت عليه وتمذهبت بمذهبه.

وعن فطانته وسعة علومه يروي صاحب "وفيات الأعيان" أنه جرى يومًا بينه وبين أبي سعيد الهاروني مناظرة، فأكثر القاضي أبو بكر الكلام ووسع العبارة وزاد في الإسهاب، ثم التفت إلى الحاضرين وقال: اشهدوا عليَّ أنه إن أعاد ما قلت لا غير لم أطالبه بالجواب، فقال الهاروني: اشهدوا عليَّ أنه إن أعاد كلام نفسه سلمت له ما قال.

وذكر ابن عساكر الدمشقي في "تبيين كذب المفتري" سعة علمه فقال: "قال أبو الفرج: وسمعت أبا بكر الخوارزمي يقول: كل مصنف ببغداد إنما ينقل من كتب الناس إلى تصانيفه سوى القاضي أبي بكر، فإن صدره يحوي علمه وعلم الناس". وقال فيه الذهبي في السير ما نصه: "وسمعت علي بن محمد الحربي يقول: جميع ما كان يذكر أبو بكر بن الباقلاني من الخلاف بين الناس صنفه من حفظه، وما صنف أحد خلافًا إلا احتاج إلى أن يطالع كتب المخالفين، سوى ابن الباقلاني" اهـ.

ومن كلام الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" عنه قوله: "وكان كل ليلة إذا صلى العشاء وقضى ورده وضع الدواة بين يديه وكتب خمسًا وثلاثين ورقة تصنيفًا من حفظه، فإذا صلى الفجر دفع إلى بعض أصحابه ما صنفه في ليلة وأمره بقراءته عليه وأملى عليه الزيادات فيه" اهـ.


أقوال المؤرخين والعلماء فيه:

منهم ابن عساكر الدمشقي الذي مدحه في "تبيين كذب المفتري" وبيّن مآثره قائلاً: "فأما علم الكلام فكان أعرف الناس به واحسنهم خاطرًا، أجودهم لسانًا وأوضحهم بيانًا وأصحهم عبارة" وقال: "أخبرني الشيخ أبو القاسم بن نصر في كتابه إليَّ عن القاضي أبي المعالي بن عبد الملك قال: ذكر الشيخ الإمام أبو حاتم محمود بن الحسين القزويني أن ما كان يضمره القاضي الإمام أبو بكر الأشعري رضي الله عنه من الورع والديانة والزهد والصيانة أضعاف ما كان يُظهره". وينقل الحافظ ابن عساكر في الكتاب عن الشيخ أبي الحسن التميمي الحنبلي قوله فيه: "تمسكوا بهذا الرجل فليس للسنة عنه غنى أبدًا".

ومما قاله الذهبي في "سير أعلام النبلاء" عنه ما نصه: "الإمام العلامة، أحد المتكلمين، مقدَّم الأصوليين، القاضي أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم البصري ثم البغدادي، ابن الباقلاني صاحب التصانيف، وكان يضرب المثل بفهمه وذكائه". ومما قاله أيضًا: "وقد ذكر القاضي عياض في "طبقات المالكية" فقال: هو الملقب بسيف السنة ولسان الأمة، المتكلم على لسان أهل الحديث وطريق أبي الحسن، وإليه انتهت رئاسة المالكية في وقته".

ومن مآثره ما ذكره ابن عساكر في "تبيين كذب المفتري" والخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" وكثيرون غيرهم من أنه أرسل من قبل الملك عضد الدولة إلى ملك الروم، فلما ورد المدينة عُرّف الملك خبره ومكانته من العلم وموضعه وكان هذا الملك يعلم أن المسلمين لا ينجنون أمام مخلوق، فرغب في أن يجعله يركع له إذ كان من عادة رعيته أن تقبل الأرض بين يديه فأمر بأن يوضع سريره الذي يجلس عليه وراء باب لطيف لا يقدر أحد أن يدخل منه إلا راكعًا، ليدخل منه الإمام الباقلاني على هذا النحو، فلما وضع سريره في ذلك الموضع أمر بإدخال الباقلاني من الباب، فسار القاضي حتى وصل إلى المكان، فلما رءاه تفكر فيه ثم فطن للأمر فأدار ظهره، وحنا رأسه راكعًا ودخل من الباب وهو يمشي إلى الوراء مستقبلاً الملك بظهره حتى صار بين يديه، ثم رفع رأسه ونصب ظهره وأدار بوجهه حينئذٍ إلى الملك فعجب من فطنته ووقعت هيبته في نفسه.


مؤلفاته:

وقد كثرت تصانيفه في أنواع العلوم ولا سيما الردود على الجهمية والخوارج والكرامية وغيرهم من أهل التحريف، ومن هذه المصنفات: "كيفية الاستشهاد في الرد على أهل الجحد والعناد"، "الأصول الكبير في الفقه"، "مناقب الأئمة"، "الملل والنحل"، "هداية المسترشدين"، "نقض النقض"، "الفرق بين معجزات النبيين وكرامات الصالحين"، "الانتصار"، "التقريب والإرشاد"، "دقائق الكلام"، "الكسب"، "التبصرة"، "تمهيد الدلائل وتلخيص الأوائل"، "إعجاز القرءان"، "الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به"، بالإضافة إلى العديد من المؤلفات النفيسة القيمة.

عقيدته:

لما كان رحمه الله متكلمًا أشعريًا، علمنا أنه كان يدافع عن عقيدة تنزيه الله عن المكان والحد أي الحجم والتشبيه، بدليل ما جاء في كتاب "الإنصاف" تحت عنوان "مسألة في إحالة اتصاف الباري بسمات النقص في حقه جلت صفاته"، فقد قال ما نصه: "ويجب أن يُعلم أن كل ما يدل على الحدوث أو على سمة النقص فالرب تعالى يتقدس عنه، فمن ذلك أنه تعالى متقدس عن الاختصاص بالجهات والتصاف بصفات المحدثات، وكذلك لا يوصف بالتحول والانتقال، ولا القيام ولا القعود، لقوله تعالى: {ليس كمثله شيء} [سورة الشورى/ءاية:11]". ويقول في شأن الاستواء: "ويقول استواؤه لا يشبه استواء الخلق، ولا نقول إن العرش له قرار ولا مكان، لأن الله تعالى كان ولا مكان، فلما خلق المكان لم يتغير عما كان".

ومن كلامه في تنزيه الله عن الجوارح قوله في الصحيفة سبع وثلاثين من "الإنصاف": "وأن يعلم مع كونه تعالى سميعًا بصيرًا، أنه مدرك لجميع المدركات" إلى أن يقول: "وأنه مع ذلك ليس بذي جوارح وحواس توجد بها هذه الإدراكات، فتعالى الله عن الجوارح والآلات".

ومن كتاب "تمهيد الأوائل" يقول القاضي رحمه الله: "فإن قال قائل: أين هو قيل له: الأين سؤال عن المكان، وليس هو ممن يجوز أن يحويه مكان ولا تحيط به أقطار".

ومن أقواله رضي الله عنه في "الإنصاف" ما نصه: "وقال جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: "من زعم أن الله تعالى في شيء أو من شيء أو على شيء فقد أشرك، لأنه لو كان على شيء لكان محمولاً، ولو كان في شيء لكان محصورًا، ولو كان من شيء لكان محدثًا [أي مخلوقًا] والله يتعالة عن جميع ذلك".


وفاته:

قال صاحب الوفيات ما نصه: طوتوفي القاضي أبو بكر المذكور ءاخر يوم السبت ودفن يوم الأحد لسبع بقين من ذي القعدة سنة ثلاث وأربعمائة ببغداد، رحمه الله، وصلى عليه ابنه الحسن ودفنه في داره بدرب المجوس، ثم نقل بعد ذلك فدفن في مقبرة باب حرب" ورثاه بعض شعراء عصره بقوله:

انظر إلى جبل تمشي الرجال به *** وانظر إلى القبر ما يحوي من الصلف
وانظر إلى صارم الإسلام منغمدًا *** وانظر إلى درة الإسلام في الصدف

وقال ابن عساكر ما نصه: "نُقل إلى باب حرب ودفن في تربة بقرب قبر الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه وأرضاه، ومنقوش على علم عند رأس تربته ما هذه نسخته: هذا قبر القاضي الإمام السعيد فخر الأمة ولسان الملة وسيف السنة عماد الدين ناصر الإسلام أبي بكر محمد بن الطيب البصري قدس الله روحه وألحقه بنبيه محمد صلوات الله عليه وسلامه، ويزار ويُستسقى ويُتبرك به".

وفي الكتاب عينه يروي ابن عساكر أن الشيخ أبا الفضل التميمي حضر يوم وفاته العزاء مع إخوته واصحابه وأمر أن ينادى بين يدي جنازته: هذا ناصر السنة والدين، هذا إمام المسلمين، هذا الذي كان يذب عن الشريعة ألسنة المخالفين، هذا الذي صنف سبعين ورقة ردًا على الملحدين. وقعد للعزاء مع أصحابه ثلاثة أيام فلم يبرح، وكان يزور تربته كل يوم جمعة في الدار.

نسأل الله تعالى أن يقيض للمسلمين رجالاً أفذاذًا كمثل القاضي الباقلاني رحمه الله.



أبو بكر بن فورَك
رأس الأشاعرة وشيخ المتكلمين




ترجمته:

هو الإمام الصالح الأديب النحوي المتكلم أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك [ضبطها ابن خلكان والسيوطي وابن العماد وغيرهم بضم الفاء وسكون الواو وفتح الراء، أما الزبيدي فقد ضبطها بضم الفاء وفتحها] الأصبهاني. لم تذكر كتب التراجم شيئًا عن تاريخ مولده أو مكانه، وكل ما ذكر عنه أنه أقام مدة بالعراق يتلقى العلم على المذهب الشافعي في الفقه وعلى العقيدة الأشعرية في الأصول، ثم توجه بعد ذلك إلى الريّ فائتمرت له الفرقة الكرامية المبتدعة وسعت للإضرار به، فراسله أهل نيسابور والتمسوا منه التوجه إليهم ففعل، وفي ذلك يقول الحافظ أبو عبد الله بن البَيِّع النيسابوري: "وتقدمنا إلى الأمير ناصر الدولة أبي الحسن محمد بن إبراهيم والتمسنا منه المراسلة في توجهه إلى نيسابور ففعل، وورد نيسابور فبنى له الدار والمدرسة في خانكاه أبي الحسن البوشنجي".


علمه:

سمع مسند أبي داود الطيالسي من عبد الله بن جعفر بن فارس، وسمع من ابن خرزاد الأهوازي وكثر سماعه في البصرة وبغداد، وأثنى عليه العديد من أهل العلم كالحافظ ابن البيّع النيسابوري الذي قال فيه: "أحيا الله به بلدنا أنواعًا من العلوم لما استوطنها، وظهرت بركته على جماعة من المتفقهة وتخرجوا به".

كثرت مصنفاته في الأصول والفقه ومعاني القرءان حتى ناهزت المائة مصنف، وحدّث عنه البيهقي والقشيري وابن خلف والحاكم وءاخرون كُثر.

وفي "تبيين كذب المفتري" لمؤرخ الشام ابن عساكر الدمشقي ما نصه: "أخبرنا الشيخ أبو الحسن عبد الغافر بن إسماعيل في كتابه إليَّ من نيسابور قال: سمعت الشيخ أبا صالح أحمد بن عبد الله المؤذن يقول: كان الأستاذ أوحد وقته أبو علي الحسن بن علي الدقاق يعقد المجلس ويدعو للحاضرين والغائبين من أعيان البلد وأئمتهم فقيل له: قد نسيت ابن فورك ولن تدع له، فقال أبو علي: كيف أدعو له وكنت أقسم على الله البارحة بإيمانه أن يشفي علتي. وكان به وجع البطن تلك الليلة" اهـ.

ويكفيه مدحًا وبيانًا لفضله ما جاء في "طبقات الشافعية الكبرى" للتاج السبكي من قوله فيه: "الأستاذ أبو بكر الأنصاري الأصبهاني الإمام الجليل والحبر الذي لا يجارى فقهًا وأصولاً وكلامًا ووعظًا ونحوًا مع مهابة وجلالة وورع بالغ رفض الدنيا وراء ظهره، وعامل الله في سره وجهره وصمم على دينه.

مصمم ليس تلويه عواذله *** في الدين ثَبْتٌ قوي باسُهُ عَسِرُ

وذكر التاج في طبقاته على لسان الإمام سبب اشتغاله بعلم الكلام قوله: "كان سبب اشتغالي بعلم الكلام أني كنت بأصبهان أختلف إلى فقيه فسمعت أن الحجر يمين الله في الأرض [الحجر الأسود يمين الله في أرضه] أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام، والمعنى أنه وضع في الأرض للتقبيل والاستلام تشريفًا له كما شرفت اليمين وأكرمت بوضعها للتقبيل دون اليسار في العادة، فاستعير لفظ اليمين للحجر لذلك. وأضيف الحجر إلى الله إضافة تشريف وإكرام. كذا في صحيفة 108 ج2 من "إتحاف السادة المتقين" لمحمد مرتضى الزبيدي، فسألت ذلك الفقيه عن معناه فلم يُجب بجواب شاف، فأُرشدت إلى فلان من المتكلمين فسألته فأجاب بجواب شاف، فقلت لا بد لي من معرفة هذا العلم فاشتغلت به".


محنته مع الكرامية [المشبهة]:

إن نصرة الإمام أبو بكر بن فورك للحق وشدته في النكير على أهل الضلال ولا سيما الكرامية قد دفع بهؤلاء إلى الافتراء عليه عند السلطان محمود بن سبكتكين فادعوا أنه أنكر رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم بعد موته، فعظم الأمر عند السلطان فأمر بإحضاره وقال: "إن صح هذا منه لأقتلنه". ولما حضر الإمام بين يديه ظهر كذب المفترين عليه وأن الإمام لا يقول إلا مقولة الأشاعرة، فأمر السلطان عندئذ بإعزازه وإكرامه وإرجاعه إلى وطنه معززًا.

ولما أيست الكرامية منه وعلمت أن الوشاية به لم تتم، وأم مكايدها وحيلها لن تؤت نتيجة، سعت إلى قتله فدفعت إليه من دس له السم فمات على أثره.

وأما ما ذكره ابن حزم في "النصائح" من أن ابن فورك قد قال بهذه المسئلة وأن السلطان ابن سبكتكين قد قتله بالسم لاجل ذلك، فقد بين التاج السبكي وغيره من الأشاعرة أن هذا كذب وافتراء عليه رضي الله عنه، فقال في الطبقات: "والمسئلة المشار إليها وهي انقطاع الرسالة بعد الموت مكذوبة قديمًا على الإمام أبي الحسن الأشعري نفسه. وقد مضى الكلام عليها في ترجمته. إذا عرفت هذا فاعلم أن أبا محمد بن حزم الظاهري ذكر في النصائح أن ابن سبكتكين قتل ابن فورك بقوله لهذه المسئلة ثم زعم ابن حزم أنها قول جميع الأشعرية، قلت وابن حزم لا يدري مذهب الأشعرية ولا يفرق بينهم وبين الجهمية لجهله بما يعتقدون، وقد حكى ابن الصلاح ما ذكره ابن حزم ثم قال: ليس الأمر كما زعم بل هو تشنيع على الأشعرية أثارته الكرامية فيما حكاه القشيري" اهـ.

وأما قول الذهبي الذي فيه أن السلطان قتله لأنه ثبت عليه مسئلة إنكاره لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فقد رده التاج السبكي في الطبقات وبين أنه عار من الصحة فقال: "أما أن السلطان أمر بقتله فشفع إليه، إلى ءاخر الحكاية فأكذوبة سمجة ظاهرة الكذب من جهات متعددة منها أن ابن فورك لا يعتقد ما نقل عنه بل يكفّر قائله، فكيف يعترف على نفسه بما هو كفر. وإذا لم يعترف فكيف يأمر السلطان بقتله وهذا أبو القاسم القشيري أخص الناس بابن فورك فهل نقل هذه الواقعة؟ بل ذكر أن من عزا إلى الأشعرية هذه المسئلة فقد افترى عليهم وأنه لا يقول بها أحد منهم".


مؤلفاته:

ذكرت المراجع أن مؤلفات الإمام ابن فورك قد بلغت قريب المائة مؤلف في الأصول والحديث والفقه وغيره. ونذكر من هذه المؤلفات: كتاب "مُشْكِل الحديث" وهو كتاب يتناول فيه عددًا من الأحاديث المتشابهة فيؤولها ويبين معانيها، كتاب "مشكل الآثار"، دقائق الأسرار، تفسير القرءان، شرح أوائل الأدلة، طبقات المتكلمين، وغير ذلك من المؤلفات القيّمة التي ألفها منتصرًا فيها للعقيدة الأشعرية.


وفاته:

مضى إلى مدينة غزنة بعد أن طُلب منه ذلك وناظر فيها كثيرًا، ثم عاد إلى نيسابور فسُمَّ في الطريق فمات ونقل إلى نيسابور ودفن بعدها في الحيرة، وهي محلة كبيرة في نيسابور غير الحيرة القريبة من مدينة الكوفة العراقية. وقبره ما زال إلى الآن يزار ويستسقى به ويستجاب الدعاء عنده. وكانت وفاته سنة أربعمائة وست للهجرة.



الإمام أبو القاسم القشيري
العالم المصنف الصوفي الأشعري



ترجمته:

هو أبو القاسم عبد الكريم بن هوزان بن عبد الملك بن طلحة بن محمد القشيري، ذكر ابن خلكان أن أصله من بلدة "أستوا" من العرب الذين قدموا خراسان، ولد سنة ثلاثمائة وست وسبعين للهجرة وتوفي والده وهو صغير، وكانت له أرض بنواحي "أستوا" فرأى أن يحضر إلى نيسابور ليتعلم طرفًا من الحساب ليعينه ذلك على استيفاء الخراج، فاتفق حضوره مجلس الشيخ أبي علي الدقاق رأس الصوفية في وقته، فسمع دروسه وتعلم منه وسلك طريق الصوفية، وأشار عليه الدقاق بالاشتغال بالعلم فخرج إلى درس أبي بكر الطوسي فتفقه على المذهب الشافعي، ثم اختلف إلى الأستاذ ابن فورك فأخذ منه علم الأصول حتى أتقنه على مذهب الإمام الأشعري، وتردد أيضًا إلى مجلس الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني فأخذ عنه، وأخذ عن عدة مشايخ كأبي الحسين الخفاف الذي أخذ عنه الحديث، وأبي بكر بن عبدوس وأبي نعيم أحمد بن محمد المهرجاني، وعلي بن أحمد الأهوازي وابن باكويه الشيرازي وغيرهم، حتى صار يشار إليه بالبنان وكثر طلابه في الأصقاع.


ثناء العلماء عليه:

ذكر التاج السبكي في طبقاته فقال في مقدمة ترجمته: "الأستاذ أبو القاسم القشيري النيسابوري الملقب زين الإسلام، الإمام مطلقًا وصاحب الرسالة التي سارت مغربًا ومشرقًا، والبسالة التي أصبح بها نجم سعادته مشرقًا، والأصالة التي تجاوز بها فوق الفرقد ورِقًا، أحد أئمة المسلمين علمًا وعملاً وأركان الملة فعلاً ومقولاً، إمام الأئمة ومجلي ظلمات الضلال المدلهمة، أحد مَنْ يقتدى به في السنة ويتوضح بكلامه طرق النار وطرق الجنة، شيخ المشايخ وأستاذ الجماعة ومقدم الطائفة الجامع بين أشتات العلوم" اهـ.

ومدحه عبد الغافر بن إسماعيل قائلاً: "الإمام مطلقًا، الفقيه المتكلم الاصولي المفسر الأديب النحوي الكاتب الشاعر لسان عصره وسيد وقته، وسر الله بين خلقه، شيخ المشايخ وأستاذ الجماعة ومقدَّم الطائفة، ومقصود سالكي الطريقة وشعار الحقيقة وعين السعادة وحقيقة الملاحة، لم ير مثل نفسه ولا رأى الراءون مثله في كماله وبراعته، جمع بين علم الشريعة والحقيقة وشرح أحسن الشرح أصول الطريقة" اهـ.

وذكره أبو الحسن علي الباخرزي في "دمية القصر" وبالغ في الثناء عليه فقال: "الإمام زين الإسلام أبو القاسم جامع لأنواع المحاسن، ينقاد إليه صابها، ذلل المراسن فلو قُرع الصخر بسوط تحذيره لذاب... وله "فصل الخطاب في فضل النطق المستطاب"، ما هو في التكلم على مذهب الأشعري، كلمته للمستفيدين فوائد، وعتبات منبره للعارفين وسائد،وله شعر يتوج به رؤوس معاليه إذا خُتمت به أذناب أماليه".


مؤلفاته:

لقد كان الإمام العالم الصوفي الشيخ أبو القاسم القشيري أحد الصوفية الصادقين المتحققين، فألف كتابه الذي سماه "الرسالة القشيرية"، وهي رسالة أراد فيها المؤلف تبيان حقيقة الصوفية، وأن عقيدتهم هي عقيدة توحيد الله وتنزيهه عن مشابهة الخلق وكل ما فيه تنقيص في حقه تعالى.

ولم يكن الإمام القشيري أول من ألف في التصوف وبيان حال المتصوفين، فقد صنف الحافظ أبو نُعيم كتابه "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء"، مريدًا بذلك أن يميز الصوفية المتحققين الصادقين من غيرهم، وذلك لأنه حصل في زمانه طعن في هؤلاء الصوفية، وادعى أناس التصوف وهم خلاف ما عليه الصوفية في المعتقد والقول والعمل، فبدأ بذكر الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم ليثبت أنهم من حيث الحقيقة زهاد صوفيون من السلف الصالح.

عُرف عن الشيخ أبي القاسم القشيري كثرة نصانيفه ولا سيما بعد وفة شيخه أبي علي الدقاق، فاخذ في التصنيف وصنف التفسير الكبير الذي سماه "التيسير في علم التفسير"، و"التحبير في التذكير" و"ءاداب الصوفية"، "الطائف الإشارات" وكتاب "المناجاة"، وكتاب "نحو القلوب الكبير"، و"أحكام السماع"، و"كتاب الأربعين في الحديث"، ومؤلفات كثيرة منها "الرسالة القشيرية" في علم التصوف التي نتوقف عندها فيما يلي:


الرسالة القشيرية:

بعد الحمد لله والصلاة على النبي يتوجه المؤلف في ابتداء رسالته إلى الصوفية الصادقين بقوله: "كتبها الفقير إلى الله تعالى عبد الكريم بن هوزان القشيري إلى جماعة الصوفية ببلدان الإسلام في سنة سبع وثلاثين وأربعمائة.

أما بعد رضي الله عنكم فقد جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه وفضلهم على الكافة من عباده بعد رسله وانبيائه صلوات الله وسلامه عليهم، وجعل قلوبهم معادن أسراره واختصهم من بين الأمة بطوالع أنواره".

كما بيّن الإمام القشيري السبب من تأليف الرسالة في مقدمته بقوله: "ثم اعلموا رحمكم الله أن المحققين من هذه الطائفة [الصوفية] انقرض أكثرهم ولم يبق في زماننا هذا من هذه الطائفة إلا أثرهم... وقلَّ الشباب الذين كان لهم بسيرتهم وسنتهم اقتداء، وزال الورع وطوى بساطه، واشتد الطمع وقوي رباطه، وارتحل عن القلوب حرمة الشريعة فعدُّوا قلة المبالاة بالدين أوثق ذريعة، ورفضوا التمييز بين الحلال والحرام ودنوا بترك الاحترام وطرح الاحتشام، واستخفوا بأداء العبادات واستهانوا بالصوم والصلاة وركضوا في ميدان الغفلات... ولما أبى الوقت إلا استصعابًا وأكثر أهل العصر بهذه الديار لما زادوا إلا تماديًا فيما اعتادوه واغترارًا بما ارتادوه، أشفقت على القلوب أن تحسب أن هذا الأمر على هذه الجملة بنى قواعده وعلى هذا النحو سار سلفه، فعلقتُ هذه الرسالة إليكم أكرمكم الله وذكرت فيها بعض سير شيوخ هذه الطريقة في ءادابهم وأخلاقهم ومعاملاتهم وعقائدهم".

وفيما يلي المقدمة يفرد الإمام القشيري الفصل الأول للحديث عن معتقد الطائفة الصوفية، هادفًا إلى التاكيد على أن اعتقاد أهل السنة هو اعتقادهم، إذ يقول في بداية هذا الفصل: "اعلموا رحمكم الله أن شيوخ هذه الطائفة بنوا قواعد أمرهم على أصول صحيحة في التوحيد صانوا بها عقائدهم عن البدع ودانوا بما وجدوا عليه السلف وأهل السنة من توحيد ليس فيه تمثيل ولا تعطيل"، ثم ينقل عن عدد منهم بعضًا من الكلام في التوحيد، فيروي عن أبي بكر الشبلي قوله: "الواحد المعروف قبل الحدّ وقبل الحروف"، ويعقب على كلامه قائلاً: "وهذا صريح من الشبلي أن القديم سبحانه لا حدّ لذاته ولا حروف لكلامه".

كما يورد عن الجنيد قوله في معنى التوحيد: "هو إفراد الموَحَّد بتحقيق وحدانيته بكمال أحديته أنه الواحد الذي لم يلد ولن يولد بنفي الأضداد والأنداد والأشباه بلا تشبيه ولا تكييف ولا تصوير ولا تمثيل ليس كمثله شيء وهو السميع البصير"، وفي الرسالة أيضًا رواية عن أبي عثمان المغربي حيث يقول: "كنت أعتقد شيئًا من حديث الجهة، فلما قدمتُ بغداد زال ذلك عن قلبي فكتبتُ إلى أصحابنا بمكة أني أسلمتُ الآن إسلامًا جديدًا"، وعن الإمام جعفر الصادق قوله: "من زعم أن الله في شيء أو على شيء أو من شيء فقد أشرك، إذ لو كان على شيء لكان محمولاً، ولو كان في شيء لكان محصورًا، ولو كان من شيء لكان محدثًا".

لقد أراد الإمام القشيري في سرد أقوال هؤلاء الأئمة بيان معتقدهم في أصول الشريعة الذي هو تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه وعن المكان والجسمية والاعضاء وكل ما هو من صفات المخلوقات، ثم لخّص هذه المعتقدات بجملة أقوال منها قوله: "ليس يشبه شيئًا من المصنوعات ولا يشبهه شيء من المخلوقات، ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض، ولا صفاته أعراض، ولا يتصور في الأوهام ولا يتقدر في العقول، ولا له جهة ولا مكان، ولا يجري عليه وقت وزمان، ولا يجوز في وصفه زيادة ولا نقصان...".

وتتضمن الرسالة بابًا ذكر فيه المؤلف مشايخ هذه الطريقة ورؤوسها أمثال إبراهيم بن أدهم وذي النون المصري والفضيل بن عياض ومعروف الكرخي والسري السقطي وأبي يزيد البسطامي وسهل بن عبد الله التستري والجنيد البغدادي وإبراهيم الخواص وابن خفيف الشيرازي، وطائفة كبيرة من الصوفية المتحققة، مع الإشارة إلى بعض من سيرهم وأخبارهم ومواعظهم وكلامهم في أصول الشريعة.

وفيما يلي هذا الباب يجعل المؤلف بابًا خاصًا فيه بعضًا من المصطلحات الصوفية المتعارفة بين أفراد هذه الطائفة كالحال والقبض والبسط والتواجد، والغَيْبة والحضور، والصحو والسكر والستر والتجلي والقرب والبعد وعلم اليقين وحق اليقين والمراقبة والحياء والفراسة والمحبة والشوق وغير ذلك من المصطلحات.

وبعد هذا الباب تأتي فصول عدة تتضمن مسائل تتصل بمسئلة التصوف كإثبات الكرامات للأولياء ومعنى الولي وهل يكون الولي معصومًا، وفيما ينبغي للمريد في التعامل مع مشايخه ومع المسلمين والفقراء وغير ذلك من الآداب والخصال التي يطلب من المريد التحلي بها بغية الرقي وسلوك طريق التصوف.


فتوى الإمام القشيري في الإمام الأشعري:

حدث في زمن الإمام القشيري فتنة عظيمة حيكت ضد الأشاعرة فكثر سبهم وسب الإمام أبي الحسن الأشعري، فاستُفتيَ الإمام عن عقيدة الاشعري فكتب كتابًا جاء فيه: "اتفق أصحاب الحديث أن أبا الحسن علي بن إسماعيل الاشعري كان إمامًا من أئمة أصحاب الحديث ومذهبه مذهب أصحاب الحديث، تكلم في أصول الديانات على طريقة أهل السنة ورد على المخالفين من أهل الزيغ والبدع، وكان على المعتزلة والمبتدعين من أهل القبلة والخارجين من الملة سيفًا مسلولاً. ومَنْ طعن فيه أو قدح أو لعنه أو سبه فقد بسط لسان السوء في جميع أهل السنة. بذلنا خطوطنا طائعين بذلك في هذا الدرج في ذي القعدة سنة ست وثلاثين وأربعمائة. والأمر على هذه الجملة المذكورة في هذا الذكر. وكتبه عبد الكريم بن هوزان القشيري وكتبه تحته الخبازي، كذلك يعرفه محمد بن علي الخبازي وهذا خطه، والشيخ أبو محمد الجويني الأمر على هذه الجملة المذكورة فيه، وكتبه عبد الله بن يوسف وبخط أبي الفتح الشاشي، وعلي بن أحمد الجويني وناصر العمري وأحمد بن محمد الأيوبي وأخيه علي، وأبي عثمان الصابوني وابنه أبي نصر بن أبي عثمان والشريف البكري ومحمد بن الحسن وأبي الحسن الملقابادي وقد حكى خطوطهم ابن عساكر. وكتب عبد الجبار الإسفراييني بالفارسية: هذا أبو الحسن كان إمامًا، ولما أنزل الله عز وجل قوله: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} [سورة المائدة/54] أشار المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى أبي موسى فقال: "هم قوم هذا".

توفي رحمه الله وأسكنه فسيح جناته ونفعنا ببركاته سنة أربعمائة وخمس وستين للهجرة.






أبو بكر البيهقي
الحافظ الفقيه صاحب المصنفات




ترجمته:

هو الإمام الكبير الفقيه الحافظ الأصولي النحرير الزاهد الورع الشيخ أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى البيهقي الخُسرَوْجردي [نسبة إلى خسروجرد القرية التي ولد فيها]. أخذ علم الأصول على مذهب الإمام الأشعري واشتغل بالتأليف فكثرت مصنفاته وصار أوحد زمانه في الحديث والفهم والقريحة والزهد.

ولد في شعبان سنة ثلاثمائة وأربع وثمانين هجرية بقرية خُسروجرد وهي إحدى قرى ناحية بيهق التي قال فيها ياقوت الحموي: بيهق ناحية كبيرة وكورة واسعة كثيرة البلدان والعمارة من نواحي نيسابور، تشتمل على ثلاثمائة وإحدى وعشرين قرية.

وقد نشأ الإمام البيهقي في زمن كثرت فيه المحن والفتن وابتلي به المسلمون بلاءً عظيمًا، وهاجم فيه ملك الروم بلاد الشام على حين غرّة. في هذه الأثناء دفع حب العلم بالبيهقي إلى السفر في طلبه، فقصد العراق ثم الحجاز والتقى بعدد من الأئمة والأعلام فأخذ عنهم صنوف العلوم الدينية. وقد ذكرت المراجع أنهم جاوزوا المائة شيخ كان أبرزهم: الحاكم النيسابوري صاحب المستدرك، وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو إسحاق الإسفراييني، وأبو ذر الهروي، وأبو بكر بن فورك، وأبو بكر الطوسي، وأبو الطيب سهل بن محمد، وأبو منصور البغدادي وكثيرون غيرهم.


ثناء العلماء عليه:

قال ابن الجوزي فيه: "كان واحد زمانه في الحفظ والإتقان وحسن التصنيف، وجمع علوم الحديث والأصول، وهو من كبار أصحاب الحاكم أبي عبد الله".

وفيه قال الإمام التاج السبكي ما نصه: "كان الإمام البيهقي أحد أئمة المسلمين وهداة المؤمنين، والدعاة إلى حبل الله المتين، فقيه جليل، حافظ كبير، أصولي نحرير، زاهد ورع، قانت لله، قائم بنصرة المذهب أصولاً وفروعًا، جبل من جبال العلم".

ومنهم ياقوت الحموي الذي مدحه بقوله: "هو الإمام الحافظ الفقيه في أصول الدين الورع، أوحد الدهر في الحفظ والإتقان مع الدين المتين، من اجلّ أصحاب أبي عبد الله الحاكم والمكثرين عنه، ثم فاقه في فنون من العلم وتفرد بها".

ومنهم ابن خلكان الذي قال فيه في كتابه "وفيات الأعيان" ما نصه: "الفقيه الشافعي الحافظ الكبير المشهور واحد زمانه، وفرد أقرانه في الفنون من كبار أصحاب الحاكم أبي عبد الله في الحديث، ثم الزائد عليه في أنواع العلوم". ومدحه ابن عساكر الدمشقي بقوله: "كان رحمه الله على سيرة العلماء، قانعًا من الدنيا باليسير، متجملاً في زهده وورعه، وبقي كذلك إلى أن توفي رحمه الله بنيسابور".


عقيدته:

لا شك أن الإمام البيهقي رحمه الله كان أشعري المعتقد، وذلك بشهادة أهل التحقيق من العلماء والمؤرخين، بالإضافة إلى مؤلفاته التي ضمنَّها بعض عقيدته ولا سيما كتابيه "الاعتقاد" و"الأسماء والصفات" حيث نلاحظ كلامه في تنزيه الله عن المكان، ففي "الأسماء والصفات" يقول ما نصه: استدل بعض أصحابنا في نفي المكان عنه [أي عن الله تعالى] بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شي". وإذا لم يكن فوقه شيء ولا دونه شيء لم يكن في مكان. ويقول في الكتاب عينه تحت عنوان "ذكر الأسماء التي تتبع نفي التشبيه عن الله تعالى" ما نصه: "ومنها [المتعالي]... قال الحليمي: ومعناه المرتفع عن أن يجوز عليه ما يجوز على المحدثين من الأزواج والأولاد والجوارح والأعضاء واتخاذ السرير للجلوس عليه، والاحتجاب بالستور عن أن تنفذ الأبصار إليه، والانتقال من مكان إلى مكان، ونحو ذلك، فإن إثبات بعض هذه الأشياء يوجب النهاية، وبعضها يوجب الحاجة، وبعضها يوجب التغير والاستحالة. وشيء من ذلك غير لائق بالقديم ولا جائز عليه" اهـ.

وفي تنزيه الله تعالى عن الأعضاء والجسمية والحركة، يقول الإمام البيهقي في كتابه "الاعتقاد": "وعرفنا بقوله عز وجل {ليس كمثله شيء} [سورة الشورى/ءاية:11] وبدلائل العقل أنها ليست بحدقة، وأن اليدين ليستا بجارحتين، وأن الوجه ليس بصورة، فإنها صفات ذات أثبتناها بالكتاب والسنة بلا تشبيه". ويقول: "وفي الجملة يجب أن يُعلم أن استواء الله سبحانه وتعالى ليس باستواء اعتدال عن اعوجاج، ولا استقرار في مكان، ولا مماسة لشيء من خلقه، ولكنه مستوٍ على عرشه كما أخبر بلا كيف، بلا أين، بائن من جميع خلقه، وأن إتيانه ليس بإتيان من مكان إلى مكان، وأن مجيئه ليس بحركة، وأن نزوله ليس بنقلة، وأن نفسه ليس بجسم، وأن وجهه ليس بصورة، وأن يده ليست بجارحة، وأن عينه ليست بحدقة" اهـ.

وتحت باب "القول في خلق الأفعال" الموجود في كتاب "الاعتقاد" يذكر البيهقي أن كل ما يصدر من العباد من أفعال سواء كانت خيرًا أم شرًا، هي بخلق الله تعالى، يقول: "قال الله عز وجل: {ذلكم الله ربكم خالق كل شيء} [سورة غافر/ءاية:62] فدخل فيه الأعيان والأفعال من الخير والشر، وقال: {أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء} [سورة الرعد/ءاية:16] فنفى أن يكون خالق غيره، ونفى أن يكون شيء سواه غير مخلوق، فلو كانت الأفعال غير مخلوقة لكان الله سبحانه خالق بعض الأشياء دون جميعها. وهذا خلاف الآية. ومعلوم أن الأفعال أكثر من الأعيان، فلو كان الله خالق الاعيان والناس خالقي الأفعال، لكان خلق الناس أكثر من خلقه، ولكانوا أتم قوة منه وأولى بصفة المدح من ربهم سبحانه، ولأن الله تعالى قال: {والله خلقكم وما تعملون} [سورة الصافات/ءاية:96] فأخبر أن أعمالهم مخلوقة لله عز وجل" اهـ.

وقد أثبت في "الاعتقاد" رؤية الله تعالى بالعين في الآخرة بقوله: "ولا يجوز أن يكون الله سبحانه عنى بقوله: {إلى ربها ناظرة} [سورة القيامة/ءاية:23] نظر التفكر والاعتبار، لأن الآخرة ليست بدار استدلال واعتبار، وإنما هي دار اضطرار، ولا يجوز أن يكون عنى نظر الانتظار، لأنه ليس في شيء من أمر الجنة انتظار، لأن الانتظار معه تنغيص وتكدير". إلى أن قال: "ولأن النظر إذا ذكر مع ذكر الوجوه فمعناه نظر العينين اللتين في الوجه" اهـ.


مؤلفاته:

بعد أن جاب البيهقي أقطار الأرض طلبًا للعلم، ونهل من موارده المختلفة، عاد إلى بلده ليبدأ بتصنيف الكتب والرسائل التي بلغت ألف جزء، منها ما هو في العقائد والأصول، ومنها ما هو في الحديث وأصوله، ومنها ما جمع بين الحديث والفقه. ومن أبرز المؤلفات التي لا يستغنى عنها:

السنن الكبرى: وهو من أهم مؤلفاته، جمع فيه من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته وموقوفات الصحابة الشيء الكثير، فكان موسوعة كبرى في الحديث مرتبًا على أبواب الفقه. وقد شهد له الإمام السبكي بقوله: "ما صنف في علم الحديث مثله تهذيبًا وترتيبًا وجودة" اهـ. وقال فيه السخاوي: "فلا تعد عنه لاستيعابه لأكثر أحاديث الأحكام، بل لا تعلم كما قال ابن الصلاح في بابه مثله، ولذا كان حقه التقديم على سائر كتب السنن، ولكن قُدّمت تلك لتقدم مصنفيها وفاة ومزيد جلالتهم" اهـ.
معرفة السنن والآثار: جمع فيه الكثير من الأحكام المستندة إلى كتاب الله وسنن النبي صلى الله عليه وسلم، وبيَّن فيه ما احتج به الشافعي رضي الله عنه في الأصول والفروع.
المبسوط: جمع فيه كلام الإمام الشافعي رضي الله عنه، بعدما وجده في الكتب من الاختلاف في نصوص الشافعي وإيراد الحكايات عنه دون تثبت.
الأسماء والصفات: ألفه لبيان أسماء الله تعالى وأدلتها من الكتاب والسنة والإجماع.
الاعتقاد: وهو كتاب أودع فيه قصيدة أهل السنة والجماعة. وقد قال في مقدمته ما نصه: "هذا الذي أودعناه هذا الكتاب اعتقاد أهل السنة والجماعة وأقوالهم".
دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة: تكلم فيه على مولد النبي صلى الله عليه وسلم ونشأته وشرف أصله وسيرته، ذاكرًا صفاته الخلقية والخلقية ومعجزاته.
"شعب الإيمان"، "مناقب الشافعي": وفيه ذكر لمولده ونشأته وعلومه وتصانيفه وزهده وورعه ومكارم أخلاقه، كتاب "الدعوات الكبير": وفيه جمع لما ورد من الأخبار في الأدعية التي دعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أو علمها أحدًا من أصحابه، كتاب "الدعوات الصغير"، كتاب "الزهد الكبير"، "إثبات عذاب القبر وسؤال الملكين"، "أحكام القرءان"، "المدخل إلى كتاب السنن"، "البعث والنشور"، "تخريج أحاديث الأم"، "الخلافيات بين الشافعي وأبي حنيفة"، "جزء القراءة خلف الإمام"، "الآداب"، كتاب "الأربعين الكبرى"، كتاب "الأربعين الصغرى"، هذا بالإضافة إلى غيرها من المؤلفات في شتى العلوم مما يدل على مدى تبحره وسعة اطلاعه.


وفاته:

ذكر ياقوت الحموي في "معجم البلدان" أن الإمام البيهقي قد استدعي إلى نيسابور ليسمع منه كتاب "المعرفة"، فاستجاب لذلك وانتقل إليها سنة أربعمائة وإحدى وأربعين للهجرة ثم عاد إلى ناحيته فأقام بها إلى أن مات في جمادى الأولى من سنة أربعمائة وثمان وخمسين للهجرة.

وأما الذهبي فقال في "تذكرة الحفاظ": "حضر في أواخر عمره من بيهق إلى نيسابور وحدَّث بكُتبه، ثم حضره الأجل في عاشر جمادى الأولى من سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، فنقل في تابوت فدفن ببيهق".

رحمه الله وأعلى مقامه ءامين.



الإمام الغزالي



ترجمته:

هو الشيخ الكبير والعالم النحرير، الفقيه النظار جامع أشتات العلوم والمبرز في المعقول منها والمفهوم، حجة الفقهاء والمتصوفين أبو حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي. ولد بطوس من أرض خراسان سنة خمسين وأربعمائة للهجرة في بيت فقير متواضع حيث كان والده يغزل الصوف ويبيعه في دكان له بطوس فدرجت عليهم تسمية الغزالي.

نشأ الشيخ الغزالي يتيمًا في كنف بعض المتصوفة من أصحاب أبيه الذي أوصى لما حضرته الوفاة به وبأخيه أحمد إلى صديق له متصوف من أهل العلم والخير وقال له: "إن لي لتأسفًا عظيمًا على عدم تعلم الخط وأشتهي استدراك ما فاتني في ولديَّ هذين فعلمهما ولا عليك أن ينفد في ذلك جميع ما أخلفه لهما" فلما توفي أقبل الصوفي على تعليمهما واعتنى بهما عناية عظيمة وكان لهما سندًا وعونًا في بلوغهما مرتبة رفيعة ودرجة عالية كبيرة في أنواع العلوم وأغراض المعارف، فكان أبو حامد فارس ميدانه وجهبذ زمانه فقيهًا كبيرًا متصوفًا جليلاً مدرسًا وشامخًا ومناظرًا في سبيل الدفاع عن دين الله.


مناقبه:

والغزالي رحمه الله عالمٌ من أكابر علماء المسلمين درج عليه لقب حجة الإسلام فكان واحدًا من أعظم الفقهاء المسلمين وأغزرهم كتابة وتحريرًا في نصرة المذهب الشافعي، وله فضل كبير أيضًا في تثبيت مذهب الأشاعرة على لسان إمام أهل السنة أبي الحسن الأشعري رضي الله عنه.

قدم نيسابور ولازم إمام الحرمين عبد الملك الجويني وجد واجتهد حتى برع في حفظ المذهب ووضع كتابه الذي أسماه بـ"المنخول في الفقه" وعرضه على شيخه الجويني فأعجبه كثيرًا وقال له عندئذ كلمته "لقد دفنتني وأنا حي" ثم قرأ بعد ذلك الحكمة والخلاف ففاق أقرانه وتصدى للرد على الفلاسفة وإبطال دعاويهم الفاسدة فأجاد في ذلك إجادة كبيرة حتى حجزهم في أقماع السماسم وصنف في هذه الفنون كتبًا يرد فيها على أصحاب تلك الأهواء فجاء رده محكمًا واضحًا مفحمًا للمخاصم.

ثم إنه خرج بعد وفاة الجويني رحمه الله قاصدًا الوزير نظام الملك فناظر في مجلسه ونافح حتى علا كلامه على الخصوم وظهرت حجته على أصحاب البدع المردية، فاعترف العلماء بقدره ومرتبته وتلقاه الوزير بالترحاب والتبجيل فولاه التدريس في مدرسته النظامية ببغداد فقدمها سنة أربع وثمانين وأربعمائة واستمر فيها بمهنة التدريس مدة فأعجب الناس حسن كلامه وفصاحة لسانه ونكته الدقيقة وإشاراته اللطيفة، فأحبوه وأكرموه حتى قيل فيه "أهلاً بمن أصبح لأجلّ المناصب أهلا" وقد ساعد الغزالي على ذلك شدة ذكائه وفرط إدراكه فكان بعيد الغور غواصًا إلى المعاني الدقيقة والعبارات السديدة النافعة، جهبذًا محجاجًا ومنافحًا مناظرًا وصفه إمام الحرمين فقال: الغزالي بحر مغرق.

وأقام الغزالي مدة في التدريس زائد الحشمة موفور الأدب تضرب به الأمثال وتشد إليه الرحال وشرفت نفسه وترفعت عن سفاسف الأمور ورذائل الدنيا فترك كل ذلك وراءه وقصد بيت الله الحرام فحج وتوجه إلى بلاد الشام في ذي القعدة سنة ثمان وثمانين وأربعمائة واستناب أخاه في التدريس ثم عاد إلى دمشق واعتكف في زاوية الجامع الأموي المعروفة اليوم باسم الغزالية نسبة إليه، ثم لبس الثياب الخشنة وقلل طعامه وشرابه. وصار يطوف على المشاهد والمقامات ويزور الترب والمساجد ويكثر من الوحدة فيأوي إلى القفار ويروض نفسه ويجاهدها في كبح جماحها وكفها عن هواها مجاهدة بالغة، ويكثر من العبادات وقيام الليل ويبالغ في الطاعات والقُرب، وأخذ أثناء ذلك بتصنيف كتابه "إحياء علوم الدين" حتى أتمه ثم رجع إلى بغداد وعقد بها مجالس علم ووعظ وأخذ يدرس ويحدث بكتابه الإحياء ويتكلم على لسان أهل التصوف العارفين، مما رفع مكانته، وقدره طوائف الناس وبرع في علوم الفقه والتصوف سوى أنه لم يتمكن من علوم الحديث كما ينبغي، ولهذا ربما تجد في بعض كتبه الضعيف أو المكذوب كما بيّن ذلك الحافظ النحوي اللغوي مرتضى الزبيدي.


عقيدته:

اعلم أن المطالع لكتب الغزالي يجد فيها كلامًا عظيمًا من جواهر الحكم في تنزيه الله عن الجهة والمكان مما يؤكد عند القارئ ما كان عليه هذا الشيخ الذي لم تخلُ كتبه مع ذلك من الدس، وها نحن نورد جملة من كلامه في الإحياء تحت عنوان: "من كتاب قواعد العقائد في لوامع الأدلة" فيقول في جملة من مقاله بأنه يجب: "العلم بوجود الله تعالى وقِدمه وبقائه وأنه ليس بجوهر ولا جسم ولا عرض وأنه سبحانه ليس مختصًا بجهة ولا مستقرًا على مكان" ثم يقول في سياق ءاخر: "وهو العلم بكونه حيًا عالمًا قادرًا مريدًا سميعًا بصيرًا متكلمًا منزهًا عن حلول الحوادث" ومن ثم يتطرق إلى الكلام عن أفعال العباد فيثبت أنها مخلوقة لله تعالى وأن ليس للعباد إلا الكسب، ويذهب في الكلام عن السمعيات إلى إثبات الحشر والنشر وسؤال الملكين منكر ونكير وعذاب القبر والميزان وخلق الجنة والنار وتفضيل الأربعة الراشدين على حسب ترتيب إمامتهم إلى ءاخر ذلك مما هو من أصول مذهب أهل السنة مما يعتمد ويعتد به ويُسلم لقائله بأنه حق ثابت لا يرده عاقل ولا يزيغ عنه إلا هالك.


براءته من الدس:

اعلم بعدما تقدم إليك نصه من مقالة للغزالي في العقائد، أن الرجل كان موحدًا منزهًا من مشايخ الاشاعرة المقدمين وعلمًا من أعلام الدين، وقد صح عنه من كلام خالص في التنزيه وتوحيد الله عز وجل وتأييد مسلك الأشاعرة وعليه فاعلم أن ما تجده بعد ذلك منسوبًا للغزالي من عبارات وإشارات تخالف معتقد الحق فهو باطل زائف نبرئ منه الشيخ الغزالي ونرى أنه دُس عليه إذ يبعد بعد هذا البيان أن ينسب للشيخ الغزالي الشك في وجود الله أو في صفاته حيث ربما تجد ذلك في كتب الفلسفة أو غيرها من التراجم والتواريخ، فهذا وغيره مما ينسب إلى الشيخ الغزالي، يبعد صحته عنه والذي يظهر أنه دس على الرجل.

ثم إنه من العلوم قديمًا أن الفقهاء الشافعيين وأهل الكلام من علماء عصره ومشايخ أوانه اعتدوا به ولم يثبت على لسان عالم معتبر مقال صحيح يطعن فيه بعقيدته وسكوت الائمة المعاصرين عنه بل واعتدادهم بفقهه حجة إبطال ما ينسب إليه زورًا وبهتانًا، علمًا أنه لم يثبت في مخطوط للغزالي كلام يقدح في عقيدته أو يرميه بزندقة أو شك في الله عز وجل وصفاته.

ثم إنه مما يقوي احتمالات الدس على الغزالي ويدعم صحة ما نقول وما نرى في تبرئة الشيخ الغزالي احترقت كتبه ومخطوطاته في فترة من الفترات، وعليه فلا يبعد بعد ذلك أن يكون تولى إعادة خط مصنفاته من أدخل إليها الحشو والدس الذي لم يره الغزالي ولم يعلم به أصلاً، إذ توفاه الله قبل هذا، فقد حدث أبو عبد الله محمد بن يحيى بن عبد المنعم العبدري قال: رأيت بالإسكندرية فيما يرى النائم كأن الشمس طلعت من مغربها فعبر ذلك بعض المعبرين ببدعة تحدث فيهم قال: فوصلت بعد أيام فأُخبرت بغحراق كتب الغزالي بالمريه.


تنبيه:

إذا عرفت هذا فالزم الصواب وإيّاك ونسبة ما لا يصح إلى الشيخ الغزالي، وكن أخي المسلم على حذر فلا تهرف بما لا تعرف وخذ ما وافق كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ودع طرق الغي وإن كثرت فالحق أحق أن يتبع.


مصنفاته:

للغزالي كتب كثيرة عظيمة النفع والفائدة نذكر منها مثلاً: "البسيط" "والوسيط" و"الخلاصة" و"المنخول" و"الرد على الباطنية"، و"المستصفى"، و"منهاج العابدين"، و"إحياء علوم الدين" وغيرها من مهمات الكتب.


وفاته:

بعد عودة الغزالي من دمشق رجع إلى المدرسة النظامية بنيسابور ودرس بها مرة أخرى ثم رجع إلى طوس واتخذ إلى جانب داره مدرسة للفقهاء وخانقاه للصوفية ووزع أوقاته على وظائف جليلة من ختم القرءان والتدريس، وعكف في أواخر عمره على طلب الحديث مكثرًا من الجد والعبادات حتى أدركه الاجل إذ توفي رحمه الله يوم الاثنين في الرابع عشر من جمادى الآخرة سنة خمس وخمسمائة عن خمس وخمسين سنة من عمره ودفن بطوس رحمه الله وجزاه خيرًا.


الإرشاد في أحوال العارفين والزهّاد


أولياء الله



يقول الله تعالى {ألا إنَّ أولياء الله لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون الذين ءامنوا وكانوا يتّقون} [سورة يونس/ءاية:62-63]، وروى الإمام أبو عبد الله البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: "من عادى لي وليًا فقد ءاذنته بالحرب وما تقرَّب إليّ عبدي بشيء أحبَّ إليّ مما افترضت عليه".

ومعنى هذا الحديث القدسي أن الذي يعادي الولي فالله يُعلِمه أنه مُحاربه، ومن كان الله محاربه هلك، وأن أحبَّ ما يتقرَّب به العبد إلى الله هو الفرض.


الأولياء لهم كرامات:

وأولياء الله صفتهم أنهم استقاموا بطاعة الله تعالى فأدّوا الواجبات واجتنبوا المحرمات وأكثروا من نوافل الطاعات فهؤلاء الأولياء الذين هم أحباب الله تعالى يكرمهم الله تعالى في الدنيا والآخرة. ومن إكرامهم في الدنيا أن الله عز وجل يجري على أيديهم الكرامات وهي أمور خارقة للعادة تظهر على أيديهم. والدليل على إثبات كرامات الأولياء ما جاء في القرءان الكريم من قوله تعالى: {قال الذي عنده علمٌ من الكتاب أنا ءاتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفكَ فما رءاه مستقرًا قال هذا من فضل ربي} [سورة النمل/ءاية:40]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي وغيره: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله" وثبت بالإسناد الصحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نادى أمير الجيش الذي كان بنهاوند وهو سارية بن زنيم: "يا سارية الجبلَ الجبل" فسمع سارية وكان عمر بالمدينة يخطب، أخرجها البيهقي وأفردها البيهقي وأفردها الحافظ الدمياطي بتأليف وصححها ووافقه السيوطي.

وروى الطبراني في الأوسط عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن تخلو الأرض من أربعين رجلاً مثل خليل الرحمن فبهم تُسقون وبهم تنتصرون، ما مات منهم أحد إلا أبدل الله مكانه ءاخر"، قال الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد" إسناده حسن.

فالإيمان بوجود أولياء الله وكراماتهم من عقيدة أهل السنة والجماعة، فليحذر بعد ذلك من الذين ينكرون كرامات الأولياء وهم المجسمة نفاة التوسل الذين شبهوا الله تعالى بخلقه وحرموا التوسل بالأنبياء والأولياء الصالحين.

واعلم أن الاولياء شهروا بالعلم والتصوف والزهد والتقوى والورع واتباع السنة ومنهم أصحاب الطرق المشهورة كالرفاعي والجيلاني وغيرهم وكل هذه الطرق مؤسسة على وفاق القرءان والحديث سوى التيجانية المنحرفة، فإنها على حسب ما تشرحها كتبهم ومؤلفاتهم المطبوعة ظاهرة المخالفة للكتاب والسنة، والله أعلم بحال الشيخ الذي تنتسب إليه وهو أبو العباس أحمد التيجاني فإنه يحتمل أنها مدسوسة عليه وهو بريء منها.

فلا عبرة بعد ذلك بإنكار مفاة التوسل لطرق أهل الله الصوفية الصادقين، فذمهم للصوفية دليل جهلهم، فالصوفي عند من يعرفه هو العامل بالكتاب والسنة وأداء الواجبات واجتناب المحرمات وترك التنعم في المأكل والملبس ونحو هذا، وهذه الصفة في الحقيقة صفة الخلفاء الراشدين الأربعة فلذلك صنّف أبو نعيم كتابه "حلية الأولياء"، أراد به أن يميز الصوفية المتحققين عن غيرهم لما كثر في زمانه الطعن من بعض الناس في الصوفية، ودعوى التصوف من أناس هم خلاف الصوفية في المعنى، فبدأ بذكر الخلفاء الأربعة.

وليعلم نفاة التوسل أنهم متهورون في حكمهم على التصوف، وهم بذلك خالفوا الإمام أحمد الذي يدعون زورًا أنهم ينتسبون إليه، فإن الإمام أحمد كان يقول لأبي حمزة الصوفي: "ماذا تقول يا صوفي؟".

كما أن الوهابية خالفوا زعيمهم ابن تيمية الحراني حيث قال في كتابه "شرح حديث النزول": "الجنيد سيد الصوفية إمام هدى".

وليعلموا أن حقيقة التصوف هو اتباع الشريعة والعمل بالكتاب والسنة ومجاهدة النفس ومخالفة الهوى، فقد قال الجنيد البغدادي رضي الله عنه: "التصوف صفاء المعاملة مع الله تعالى". وقال سيدنا أحمد الرفاعي رضي الله عنه: "الصوفي هو الفقيه العامل بعلمه".

واعلم أنه قد اشتهر بين المسلمين وجود الأولياء وحصول كراماتهم من عهد الصحابة إلى يومنا هذا فلا ينكر وجودهم وحصول كراماتهم إلا محروم.



أويس القرني
خير التابعين


ترجمته:

هو أويس بن عامر بن جَزء بن مالك بن عمرو بن سعد بن عَصْوان بن قرَن بن ردمان بن ناجية بن مُراد، وهو يُحابر بن مالك بن أُدَد.

وقال الجوهري في صحاحه إن أويسًا القرني منسوب إلى قرن وهي ميقات أهل نجد وموضعها في الطائف، أما مجد الدين الفيروزأبادي في "القاموس المحيط" فقد خطّأ الجوهري في نسبة أويس إلى هذه القرية فقال ما نصه: "وهي قرية عند الطائف، أو اسم الوادي كله، وغلط الجوهري في تحريكه وفي نسبة أويس القرني إليه، لأنه منسوب إلى قرن بن ردمان بن ناجية بن مراد، أحد أجداده".

ولم تذكر المراجع سنة ولادته، ولكن ما علم من ترجمته أنه أدرك حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه لم يلتقه، ولذلك عُدَّ من التابعين وليس في الصحابة لأن من شروط الصحابي أن يلتقي النبي صلى الله عليه وسلم. ونقل الذهبي في سيره عن أصبغ بن زيد أنه قال: إنما منع أويسًا أن يقدم على النبي صلى الله عليه وسلم برُّه بأمه.

وذكر الذهبي أيضًا أنه روى عن عمر بن الخطاب القليل وعن علي بن أبي طالب أيضًا. وروى عنه يُسير بن عمرو وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وأبو عبد رب الدمشقي وغيرهم روايات يسيرة، ولم يَرْوِ شيئًا مُسندًا ولا كان من رجال الحديث.


مناقبه:

إن ما ذُكر في الأحاديث التي صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأن أويس بن عامر أو أويس القرني، لدليل واضح على صدق هذا النبي العظيم الذي لا ينطق عن الهوى، فقد روى ابن سعد في طبقاته عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يأتي عليكم أويس بن عامر من مُراد ثم من قرَن، كان برَص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها برٌّ، لو أقسم على الله لأبرَّه، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل". وأما رواية ابن حجر العسقلاني في "لسان الميزان" عن حماد بن سلمة عن الجريري عن أبي نضرة عن أُسَير بن جابر عن عمر بن الخطاب فهي: "إن خير التابعين رجل يقال له أويس بن عامر، كان به بياض فدعا الله فأذهبه عنه إلا موضع الدرهم في سرته" روى هذا الحديث مسلم في صحيحه وروى لفظًا ءاخر فيه زيادة: "فمن لقيه منكم فمروه فليستغفر لكم".

وأخرج مسلم أيضًا من حديث معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن زرارة، عن أُسَيْر بن جابر، فذكر اجتماع عمر رضي الله عنه بأويس وفيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يأتي عليكم أويس القرني مع أمداد من اليمن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بارٌّ، لو أقسم على الله لأبرَّه، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل". فاستغفر لي، فاستغفر له.

وأما أحمد بن حنبل فقد أخرج في مسنده عن أبي نعيم عن شريك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن من خير التابعين أويسًا القرني".

لقد كان أويس القرني رضي الله عنه رجلاً من الصالحين الأتقياء الذين استعدوا للآخرة فتزودوا بصالح الأعمال، وكان من أشهر خصاله التي تبينت لنا من خلال الأحاديث الشريفة أنه كان بارًا بأمه محسنًا إليها، فقد روى ابن سعد في طبقاته بالإسناد إلى أُسير بن جابر أنه قال: كان عمر بن الخطاب إذا أتت عليه أمداد اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر حتى أتى أويس فقال: أنت أويس بن عامر قال: نعم، قال: من مُراد ثم من قَرَن قال: نعم، قال: كان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم قال: نعم، قال: فلك والدة قال: نعم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يأتي عليكم أويس بن عامر بن مراد ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بارٌّ، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل" فاستغفره لي، فاستغفر أويس له. قال: أين تريد قال: الموفة، قال ألا أكتب لك إلى عاملها فيستوصي بك قال: لا، أكون في غُبَّر الناس أحبُّ إليَّ.

أما رواية الذهبي في "سير أعلام النبلاء" ففيها أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له: أنت الذي خرج بك وضحٌ فدعوت الله أن يذهبه عنك فأذهبه، فقلت اللهم دع لي في جسدي منه ما أذكر به نعمتك علي، فترك لك في جسدك ما تذكر به نعمة الله؟ قال: وما أدراك يا أمير المؤمنين فوالله ما اطلع على هذا بشر، قال: "أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه سيكون في التابعين رجل من قرَن يقال له أويس بن عامر يخرج به وَضح فيدعو الله أن يذهبه عنه فيذهبه فيقول: اللهم دع لي في جسدي ما أذكر به نعمتك علي، فيدع له ما يذكر به نعمه عليه، فمن أدركه منكم فاستطاع أن يستغفر له فليستغفر له".

وفي حلية الأولياء ذكره الحافظ أبو نعيم فقال: "فمن الطبقة الأولى من التابعين سيد العُباد، وعلم الأصفياء الزهاد، أويس بن عامر القرني، بشر النبي صلى الله عليه وسلم به وأوصى به" إلى أن قال في الترجمة رواية عن مخلد بن يزيد عن نوفل بن عبد الله أنهم قالوا: يا رسول الله وما أويس؟ قال: "أشهل ذو صهوبة، بعيد ما بين المنكبين، معتدل القامة، ءادم شديد الأدمة، ضارب بذقنه على صدره، رام ببصره إلى موضع سجوده، واضع يمينه على شماله، يتلو القرءان، يبكي على نفسه، ذو طمرين، لا يؤبه له، يتّزرُ بإزار صوف ورداء صوف، مجهول في أهل الأرض معروف في السماء، لو أقسم على الله لأبره، ألا وإن تحت منكبه الأيسر لمعة بيضاء، ألا وإنه إذا كان يوم القيامة قيل للعُبّاد: ادخلوا الجنة، ويقال لأويس: قف فاشفع، فيشفعه الله في مثل عدد ربيعة ومضر. يا عمر ويا علي إذا رأيتموه فاطلبا إليه يستغفر لكما، يغفر الله لكما". فمكث عمر وعلي رضي الله عنهما عشر سنين لا يقدران عليه حتى التقاه عمر رضي الله عنه.

وفي لسان الميزان للعسقلاني عن أسير بن جابر أنه قال: كان محدثٌ في الكوفة، فإذا فرغ تفرقوا، ويبقى رهط فيهم رجل يتكلم بكلام لا أسمع أحدًا يتكلم به، ففقدته فسألت عنه فقال رجل: ذاك أويس القرني، قلت: أتعرف منزله قال: نعم، قال أسير: فانطلقت معه حتى جئت حجرته، فخرج إليّ فقلت: يا أخي ما حبسك عنا قال: العُرْي، وكان أصحابه يسخرون به.

وروى يحيى بن سعيد القطان الحمصي عن يزيد بن عطاء الواسطي عن علقمة بن مرثد أنه قال: انتهى الوهد إلى ثمانية من التابعين: عامر بن عبد قيس وأويس بن عامر وهرم بن حيان والربيع بن خثيم، وأبي مسلم الخولاني ومسروق والحسن.

وروى العسقلاني في "لسان الميزان" أيضًا عن أبي صالح عن الليث عن المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليشفعن رجل من أمتي في أكثر من مضر" قال أبو بكر: يا رسول الله إن تميمًا من مضر، قال: "ليشفعن رجل من أمتي لأكثر من تميم ومضر، وإنه أويس القرني".

ومن الأحاديث التي رواها أبو نعيم في "حلية الاولياء" روايته عن عبد الله بن الأشعث بن سوّار، عن محارب بن دثار أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أمتي من لا يستطيع أن يأتي مسجده أو مصلاه من العُرْي، يحجزه إيمانه أن يسأل الناس، منهم أويس القرني وفرات بن حيان".

وفي كتاب "ثقاة التابعين" ذكره ابن حبان وقال فيه: أويس بن عامر القرني من اليمن من مراد، سكن الكوفة وكان زاهدًا عابدًا، يروي عن عمر.

وعن أبي زرعة الرازي أن أويسًا القرني كان إذا أمسى يقول: هذه ليلة الركوع، فيركع حتى يصبح، وكان إذا أمسى يقول: هذه ليلة السجود، فيسجد حتى يصبح، وكان إذا أمسى تصدّق بما في بيته من الفضل من الطعام والشراب ثم قال: اللهم من مات جوعًا فلا تؤاخذني به، ومن مات عُريًا فلا تؤاخذني به.


أقواله ومواعظه:

روى أبو نعيم في حلية الأولياء أن الشعبي قال: مر رجل من مراد على أويس القرني فقال: كيف أصبحت قال: أصبحت أحمد الله عز وجل، فقال: كيف الزمان عليك قال: كيف الزمان على رجل إن أصبح ظن أنه لا يُمسي، وإن أمسى ظن أنه لا يصبح، فمبشرٌ بالجنة أو مبشر بالناء. يا أخا مراد، إن الموت وذكره لم يترك لمؤمن فرحًا، وإن علمه بحقوق الله لم يترك له في ماله فضة ولا ذهبًا، وإن قيامه لله بالحق لم يترك له صديقًا.

وفي طبقات ابن سعد زيادة على هذه الحاثة وهي أنه قال: والله إنا لنأمرهم بالمعروف وننهاهم عن المنكر فيتخذوننا أعداءً ويجدون على ذلك من الفساق أعوانًا، حتى والله لقد رموني بالعظائم. وايم الله لا يمنعني ذلك أن أقوم بالحق.


وفاته:

تضاربت الأقوال في مكان وفاته فمنهم من قال إنه مات على جبل أبي قبيس بمكة، ومنهم من يزعم أنه مات بدمشق ومنهم من زعم أنه توفي بالحيرة ومنهم من قال إنه قتل يوم صفين في رجال علي رضي الله عنه، ففي "سير أعلام النبلاء" للذهبي أنه لما فشا أمر أويس بعد لقائه بعمر بن الخطاب رضي الله عنه، هرب ولم يعد يُعلم عنه شيء حتى عاد في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقاتل معه واستشهد في صفين، قال الذهبي: فنظروا، فإذا عليه نيف وأربعون جراحة. وفي مستدرك الحاكم أيضًا ما يقوي أنه استشهد في صفين، فقد روي عن اصبغ بن نباته أنه قال: شهدت عليًا يوم صفين يقول: من يبايعني على الموت فبايعه تسعة وتسعون فقال: أين التمام؟ فجاء رجل على أطمار صوف، محلوق الرأس، فبايع، فقيل: هذا أويس القرني، فما زال يحارب بين يديه حتى قُتل.

وذكر الذهبي عن أبي ليلى أنه قال: فوُجد في قتلى صفين. وأغلب الأقوال على هذا، أي على أنه توفي في صفين في جيش علي بن أبي طالب. وإذا كان الامر كذلك فإن موقعة صفين كانت في صفر من سنة سبع وثلاثين للهجرة. وقبره الآن معروف في محافظة الرقة في سورية، يزار ويستجاب الدعاء عنده.

رحم الله أويسًا وجمعنا معه في الجنة ءامين.



الإمام السجّاد
زين العابدين



ترجمته:

هو علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، المعروف بزين العابدين وكان يكنّى أبا الحسين وقيل أبا محمد. وليس للحسين رضي الله عنه عقب إلا من ولد زين العابدين. وأمه كانت أمةً مملوكة اسمها غزالة كما ذكر ابن سعد في "الطبقات". وحكى ابن قتيبة في كتاب "المعارف" أن أم زين العابدين سندية يقال لها سُلافة ويقال غزالة. وورد في كتاب "وفيات الأعيان" لابن خلكان أن أمه سُلافة بنت يزدجرد ءاخر ملوك فارس.

ويروي ابن سعد في "الطبقات": أن علي بن الحسين كان مع أبيه وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، وكان مريضًا نائمًا على فراشه، فلما قُتل الحسين عليه السلام، قال شمر بن ذي الجوشن: اقتلوا هذا. فقال له رجل من أصحابه: سبحان الله!! أنقتل فتى حدثًا مريضًا لم يُقاتل وجاء عمر بن سعد فقال: لا تعرّضوا لهؤلاء النسوة ولا لهذا المريض.


علمه وورعه:

والإمام زين العابدين هو من سادات التابعين، قال الزهري: لم أر هاشميًا أفضل منه وما رأيت أحدًا أفقه منه. وكان رضي الله عنه إذا توضأ اصفرّ وجهه فيقول له أهله: ما ها الذي يعتادك عند الوضوء فيقول: ما تدرون بين يدي مَنْ أريد أن أقوم.

وورد أنه وقع حريق في بيت فيه علي بن الحسين وهو ساجد، فجعلوا يقولون له: ابن بنت رسول الله النار، يا ابن بنت رسول الله النار، فما رفع رأسه حتى أطفئت، فقيل له: ما الذي ألهاك عنها قال: ألهتني عنها النار الأخرى.

وجاءه رجل يومًا وهو مع أصحابه في المسجد فما ترك شيئًا إلا قاله له وزين العابدين ساكت، فانصرف الرجل، فلما كان الليل جاء إلى باب الرجل فقال له: يا أخي إن كنت صادقًا فيما قلت لي فغر الله لي، وإن كنت كاذبًا فغفر الله لك. وولّى، فاتبعه الرجل فالتزمه من خلفه وبكى حتى أشفق زين العابدين عليه، ثم قال: لا جرَم لا عُدتُ في أمرٍ تكره، فقال له: وأنت في حِلٍّ مما قلت لي.


جوده وكرمه:

وكان رضي الله عنه سخيًا كريمًا جوادًا، فقد روى ابن الجوزي في "صفة الصفوة" عن محمد بن إسحاق قال: كان ناس من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين كان معاشهم، فلما مات علي بن الحسين زين العابدين فقدوا ما كانوا يؤتون به بالليل. ويروى أن عددهم كان مائة أهل بيت من المدينة. وكان إذا أتاه السائل رحّب به وقال: مرحبًا بمن يحمل زادي إلى الآخرة.

وروى رجل من ولد عمار بن ياسر قال: كان عند علي بن الحسين قوم فاستعجل خادمًا له بشواء كان له في التنور، فأقبل به الخادم مسرعًا وسقط السَّفود [الحديدة التي يُشوى بها اللحم] من يده على ولد لعلي أسفل الدرجة فأصاب رأسه فقتله، فقال علي للغلام: أنت حُرّ إنك لم تتعمده، وأخذه في جهاز ابنه. ودخل يومًا على محمد بن أسامة بن زيد في مرضه فجعل محمد يبكي، فقال زين العابدين: ما شأنك، قال: عليّ دَيْنٌ ما. قال: كم هو قال: خمسة عشر ألف دينار. فقال زين العابدين: فهو عليّ.


تواضعه:

كان رضي الله عنه متواضعًا، وإذا مشى لا تجاوز يده فخذه ولا يخطر بيده [أي يتبختر في مشيه]، وإذا قام إلى الصلاة أخذته رعدة فقيل له: ما لك فقال: ما تدرون بين يدي مَنْ أقوم ومَنْ أناجي وكان رضي الله عنه يجالس أسلم مولى عمر رضي الله عنه، فقال له رجل من قريش: تدع قريشًا وتجالس عبد بني عدي فقال علي: إنما يجالس الرجل حيث ينتفع. وقال يزيد بن حازم: رأيت علي بن الحسين وسليمان بن يسار يجلسان في الروضة بين القبر [أي قبر النبي] والمنبر يتحدثان إلى ارتفاع الضحى ويتذاكران، فإذا أرادا أن يقوما قرأ عليهم عبد الله بن أبي سلمة سورة من القرءان فإذا فرغ دَعَوْا.


شمائله:

روى ابن قتيبة في "المعارف": "أن علي بن الحسين أعتق جارية له وتزوجها، فكتب إليه عبد الملك بن مروان يُعيّره في ذلك، فكتب إليه زين العابدين "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، وقد أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت حُيَي بن اخطب وتزوجها وأعتق زيد بن حارثة وزوَّجه بنت عمته زينب بنت جحش".

وكان زين العابدين كثير البر بأمه، حتى إنه لا يأكل معها في صَحفة مخافة أن تسبق يده إلى ما سبقت إليها عينها. وكان رضي الله عنه يُصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة من النوافل حتى سُمي الإمام السجاد.

وقال الزهري عنه أيضًا: كان أقصد أهل بيته وأحسنهم طاعة وأحبهم إلى مروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان.


صفته:

وكان لزين العابدين كساء أصفر يلبسه يوم الجمعة، وكان يلبس نعلاً مدورة الرأس ليس لها لسان. وكان يشتري كساء الخز بخمسين دينارًا فيشتُو فيه ثم يبيعه ويتصدق بثمنه، ويصيّف في ثوبين من ثياب مصر أشمونَيين بدينار، ويلبس ما بين ذا وذا من اللبوس. ويعتم بعمامة ويرخي عمامته خلف ظهره، وكان يدّهن أو يتطيب بعد الغُسل إذا أراد أن يُحرم.

وكان يجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في السفر.


كلامه في تنزيه الله عن مشابهة المخلوقات:

وكان زين العابدين على عقيدة النبي وأصحابه من توحيد الله وتنزيهه عن المكان والحيز والحد واللون، فقد روى السيد مرتضى الزبيدي شارح "القاموس" بالإسناد المتصل لآل البيت أن زين العابدين علي بن الحسين قال في الرسالة المسماة الصحيفة السجادية: "سبحانك اللهم لا يحويك مكان".

وكان رضي الله عنه لا يعينه أحد على طهوره، وكان يستقي الماء لطهوره قبل أن ينام، فإذا قام من الليل بدأ بالسواك ثم توضأ فأخذ في صلاته، وكان يقضي ما فاته من النوافل في النهار بالليل ثم يقال: يا بُني ليس هذا مما عليكم بواجب ولكن لمن عوَّد نفسه منكم عادة من الخير أن يدوم عليها. وكان لا يدع صلاة الليل في الحضر والسفر. ويُروى عنه قول: عجبت للمتكبر الفخور الذي كان بالأمس نطفة ثم غدًا جيفة، وعجبت كل العجب لمن شكّ في الله وهو يرى خلقه، وعجبت كل العجب لمن أنكر النشأة الأخرى وهو يرى النشأة الاولى، وعجبت كل العجب لمن عمل بدار الفناء وهو يعلم دار البقاء.

ورُوي عن أبي جعفر محمد بن علي بن زين العابدين أنه قال: أوصاني أبي فقال: لا تصْحَبن خمسة ولا تحادثهم ولا ترافقهم في طريق، قلت: فداك يا أبت من هؤلاء الخمسة قال: لا تصجبنّ فاسقًا فإنه يبيعك بأكلة فما دونها. قلت: يا أبتِ وما دونها قال: يطمع فيها ثم لا ينالها. قلت: يا أبت ومن الثاني قال: لا تصحبن البخيل فإنه يقطع بك في ماله أحوج ما كنت إليه. قلت: يا أبتِ ومن الثالث قال: لا تصحبن كذابًا، فإنه بمنزلة السراب، يُبعد منك القريب ويقرّب منك البعيد. قلت: يا أبت ومن الرابع قال: لا تصحبن أحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك، قلت: يا أبن ومن الخامس قال: لا تصحبن قاطع رحم، فإني وجدته ملعونًا في كتاب الله في ثلاثة مواضع.

في فضائل أهل البيت:

وقد قيل في فضائل ءال البيت الكثير من الشعر. ومما يروى أن هشام بن عبد الملك حجّ قبل أن يلي الخلافة، فاجتهد أن يستلم الحجر فلم يتمكن، وجاء زين العابدين علي بن الحسين فوقف له الناس وتنحوا حتى استلم الحجر، فقال الناس لهشام: من هذا قال: لا أعرفه، فقال الفرزدق الشاعر أنا أعرفه:

هذا ابن خير عباد الله كلهم *** هذا التقي النقي الطاهر العلم
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته *** والبيتُ يعرفه والحل والحرمُ
يكاد يمسكه عرفان راحته *** ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
إذا راته قريش قال قائلها *** إلى مكارم هذا ينتهي الكرمُ
إن عدّ أهل التقى كانوا أئمتهم *** أو قيل مَنْ خيرُ أهل الأرض قيل همُ
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله *** بجدّه أنبياء الله قد خُتموا
وليس قولك من هذا بضائره *** العرب تعرف من أنكرتَ والعجمُ
يغضي حياءً ويُغضى من مهابته *** فلا يُكلّم إلا حين يبتسمُ


وفاته عليه السلام:

وفضائله ومناقبه رضي الله عنه اكثر من أن تُحصر. وكانت ولادته يوم الجمعة سنة ثمان وثلاثين للهجرة وتوفي سنة أربع وتسعين وقيل تسع وتسعين وقيل اثنتين وتسعين للهجرة بالمدينة. ودفن في البقيع في قبر عمه الحسن بن علي في القبة التي فيها قبر العباس رضي الله عنهم.

رحمك الله أيها الإمام الورع والولي الصالح.. رحمك الله فقد كنت حقًا زين العابدين ورزقنا الله شفاعة جدك صلى الله عليه وسلم.



بشر الحافي
الصوفي الواعظ الحكيم



ترجمته:

هو أبو نصر بن الحارث بن عبد الرحمن بن عطاء بن هلال بن ماهان بن عبد الله، وعبد الله كان اسمه بعبور، وأسلم على يد علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

أصله من قرية من قرى مرو يقال لها: مابرسام. وكان مولده سنة مائة وخمسين للهجرة بها، ثم انتقل منها إلى بغداد فسكنها وكان من أولاد الرؤساء والكتاب.

وعن وبته قال ابن خلكان في "وفيات الأعيان" إنه أصاب في الطريق ورقة متكوب فيها اسم الله تعالى وقد وطئتها الأقدام، فالتقطها واشترى طيبًا فطيّب به الورقة ووضعها في شق حائط، فرأى في النوم كأن قائلاً يقول: يا بشر، طيّبتَ اسم الله، ليُطيّبَن اسمك في الدنيا والآخرة، فلما تنبّه من نومه تاب.

سمع الحديث من إبراهيم بن سعد الزهري وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وحماد بن يزيد وشريك بن عبد الله والمعافى بن عمران الموصلي وعبد الله بن المبارك وعلي بن مسهر وعيسى بن يونس وعبد الله بن داود الخريبي وأبي معاوية الضرير وزيد بن أبي الزرقاء.

وروى عنه كثيرون منهم نعيم بن الهيضم وابنه محمد بن نعيم، وإبراهيم بن هاشم بن مشكان ونصر بن منصور البزاز، ومحمد بن المثنى السمسار، وسرّ السقطي، وإبراهيم بن هانئ النيسابوري وغيرهم.

وكان كثير الحديث ولكنه لم ينصب نفسه للرواية بل كان يتجنبها ودفن كتبها لاجل ذلك، وكل ما سُمع منه فإنما كان على سبيل المذاكرة.


مناقبه:

كان بشر بن الحارث المعروف ببشر الحافي، واحدًا من كبار أعيان السلف الصالح الذين ولدوا في القرن الثاني الهجري. وقد بلغ من التقوى والورع والزهد في الدنيا ما جعل ذكره على ألسنة الخلق. وكان له ثلاث أخوات زاهدات ورعات استفاد منهن وتعلم منهن الزهد، وقد أورد ابن خلكان في "وفيات الأعيان" قصة مفادها أن امرأة دخلت على الإمام المجتهد أحمد بن حنبل رضي الله عنه وسألته قائلة: يا أبا عبد الله، إني امرأة أغزل في الليل على ضوء السراج، وربما طفئ السراج فاغزل على ضوء القمر، فهل عليَّ أن أبيّن للمشتري غزل السراج من غزل القمر فقال لها: إن كان عندك بينهما فرق فعليك أن تبيني ذلك. وسألته غير ذلك من الأسئلة وخرجت، فقال الإمام أحمد رضي الله عنه لابنه عبد الله: ما سمعتُ إنسانًا قط يسأل عن مثل ما سألت هذه المرأة اتبعها، فتبعها ابنه إلى أن دخلت دار بشر الحافي، فعرف أنها أخته، ولما أخبر الإمام أحمد قال له: والله هو الصحيح، لا تكون هذه المرأة إلا أخت بشر الحافي.

ويروي ابن خلكان عن سبب تسميته بالحافي أنه جاء إلى إسكاف يطلب منه شسعًا لإحدى نعليه، وهو الزمام يوضع في النعل ويكون بين إصبعين، فقال له الإسكاف: ما أكثر كلفتكم على الناس، فألقى النعل من يده والأخرى من رجله، وحلف ألا يلبس نعلاً بعدها.

ومن الروايات التي تظهر تقواه وورعه ما رواه الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" وهو أن أخته قالت له: يا أخي قد بلي إزارك، فلو جئت بقطن حتى أغزل لك، فصار يأتي بالقطن ويحسب وزنه حتى انتهت أخته من الغزل، فأخذه وأخرج ألواحه ووزنه فإذا بأخته قد زادت فيه فأعاده إليها وقال: كما أفسدته خذيه.

ومن أخبار زهده وكسره لنفسه رواية الخطيب البغدادي التي مفادها أنه قد اشتهى سفرجلة، فقالت له أمه: اطلب لي سفرجلة، فجاء بها وصار يشمها ووضعها بين يديه، فقالت له أمه: يا أبا نصر كُلها فما زال يشمها وأبى أن يأكل السفرجل حتى مات.

وعن "تاريخ بغداد" أيضًا أن جارًا له بقالاً كان قد عمل طعامًا لذيذًا مطبوخًا بالباذنجان، فمر بشر ينظر إليه فعلم البقال أنه اشتهاه، فتبعه وقال له: بأبي أنت، هذا الباذنجان تعمله بُنيَّة لي من غزل تغزله وأبيعه لها فخذ منه ما شئت، فقال له بشر: ارجع حفظك الله، فرجع البقال وسمعه يخاطب نفسه قائلاً: هيه، افتضحتِ، تشتهين الباذنجان بأصباغه، والله لا تذوقينه حتى تفارقي الدنيا.

حكمه ومواعظه:

كان رضي الله عنه لا يتكلم إلا في الخير، وإذا تكلم كان جُلّ كلامه حكمًا ومواعظ تذكر بالآخرة وتحث على الازدياد من الطاعات والخيرات، كما كان لسانه لا يفتر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومن أقواله في الحكمة والحث على التقوى أنه سئل عن القناعة فقال: "لو لم يكن في القناعة شيء إلا التمتع بعز الغنى لكان ذلك يجظئ"، ثم أنشا يقول:

أفادتني القناعة أي عِزّ *** ولا عِزّ أعزّ من القناعة
فخذ منها لنفسك رأس مال *** وصيّر بعدها التقوى بضاعه
تَحُزْ حالين تُغني عن بخيل *** وتسعد في الجنان بصبر ساعه

ومن أشعاره الحِكَمية قوله:

قطْعُ الليالي مع الأيام في خَلَقِ *** والنوم تحت رُواق الهم والقلق
أحرى وأعذرُ لي من أن يقال غدا *** إني التمست الغنى من كف مختَلَق
قالوا رضيتَ بذا قلتُ القُنوع غنى *** ليس الغنى كثرة الأموال والورق
رضيتُ بالله في عسري وفي يُسري *** فلست أسلك إلا أوضح الطُرُق

وقيل له: بأي شيء تأكل الخبز فقال: أذكر العافية فأجعلها إدامًا. ومن دعائه: اللهم إن كنت شهرتني في الدنيا لتفضحني في الآخرة فاسلبه عني.


ثناء العلماء عليه:

بدأ الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" ترجمة بشر الحافي بقوله: "وكان ممن فاق أهل عصره في الورع والزهد، وتفرد بوفور العقل، وأنواع الفضل، وحسن الطريقة واستقامة المذهب وعزوف النفس وإسقاط الفضول".

وروي عن أبي خثيمة أنه قال: "إن كان رجل تأدب بمذهب رجل أي سفيان الثوري ففاقه، لقلت بِشر الحافي، لولا ما سبق لسفيان الثوري من السن والعلم".

وروى يحيى بن أكثم عن المأمون أنه قال: "لم يبق أحد في هذه الكُوَر يستحى منه غير هذا الشيخ" يعني بذلك بشر الحافي.

وقال محمد بن المثنى لأحمد بن حنبل رضي الله عنه: ما تقول في هذا الرجل فقال: أي رجل قيل: بشر، فقال: سألتني عن رابع سبعة من الأبدال.

وقال إبراهيم الحربي: رأيت رجالات الدنيا، لم أر مثل ثلاثة: رأيت أحمد بن حنبل وتعجز النساء أن تلد مثله، ورأيت بشر بن الحارث من قرنه إلى قدمه مملوءًا عقلاً، ورأيت أبا عبيد القاسم بن سلام كأنه جبل نُفخ فيه علم، وقال الحربي عنه أيضًا: ما أخرجت بغداد أتم عقلاً ولا أحفظ للسانه من بشر بن الحارث، كأنه في كل شعرة منه عقل، ما عُرف له غيبة لمسلم، لو قُسم عقله على أهل بغداد صاروا عقلاء وما نقص من عقله شيء.


وفاته:

ذكر ابن خلكان عدة أقوال في وفته فقال: "توفي في شهر ربيع الآخر سنة مائتين وست وعشرين للهجرة، وقيل: مائتين وسبع وعشرين، وقيل يوم الأربعاء عاشر المحرم، وقيل: في رمضان بمدينة بغداد، وقيل: بمرو".

وذكر الخطيب البغدادي هذه التواريخ أيضًا، وأخرجت جنازته بعد صلاة الصبح. وعن أبي حفص ابن أخته أنه قال: كنت أسمع الجن تنوح على خالي في البيت الذي كان يكون فيه، غير مرة سمعت الجن تنوح عليه.

رحم الله سيدنا بشر الحافي وأمدنا بأمداده، وحشرنا في زمرته وزمرة الصالحين يوم الدين.



حاتم الأصم
مثال التوكل على الله




ترجمته:

كنيته أبو عبد الرحمن واختُلِف في اسم أبيه فمنهم من قال: هو حاتم بن عنوان بن يوسف، ومنهم من قال: هو حاتم بن يوسف، صحب شقيق بن إبراهيم البلخي وأسند الحديث عنه وعن شداد بن حكيم البلخي، وكان أستاذ أحمد بن خضرويه. وروى عنه أناس مثل حمدان بن ذي النون ومحمد بن فارس البلخيان.


مناقبه:

كان حاتم الاصم أحد أعلام الورع والزهد من أهل بلخ الذين ذاع صيتهم في الآفاق وعُرف عنهم الإعراض عما في أيدي الناس والتوكل على الله، بالإضافة إلى التحلي بحسن الخلق والمعاملة، فقد أورد ابن خلكان في "وفيات الاعيان" قصة تظهر ما وصل إليه من المراتب العالية من الدين والخلق الحسن، فقد روى عن أبي بكر الوراق أن امرأة جاءت لتسأله مسألة، فاتفق أن خرج منها في تلك الحالة صوت فاحمر وجهها وخجلت خجلاً كثيرًا، فصارت كلما سألته جعل يوهمها أنه أصمّ ويقول لها: ارفعي صوتك، فقالت في نفسها: لم يسمع الصوت، فسمي لذلك الأصمّ، روى ذلك أكثر من واحد منهم صاحب "طبقات الأولياء" وابن تغري بردي في كتابه "النجوم الزاهرة".

قدم بغداد في أيام الإمام أحمد بن حنبل واجتمع به فنفعه وانتفع به. وقد روى أبو جعفر الهروي قصة أول اجتماع بينهما إذ قال: كنت مع حاتم وقد أراد الحج، فلما وصل إلى بغداد قال: يا أبا جعفر أحب أن ألقى أحمد بن حنبل، فسألنا عن منزله ومضينا إليه فلما خرج قلت: يا أبا عبد الله هذا أخوك حاتم، فسلم عليه ورحب به وسأله: أخبرني يا حاتم فيمّ أتخلص من الناس فقال: يا أبا عبد الله في ثلاث خصال، قال: ما هي قال أن تعطيهم مالك ولا تأخذ من مالهم شيئًا، وتقضي حقوقهم ولا تستقضي منهم حقًا، وتحمل مكروههم ولا تُكره واحدًا منهم على شيء، فأطرق الإمام أحمد ثم رفع رأسه وقال: يا حاتم إنها شديد، فقال: وليتك تسلم، أعادها ثلاث مرات.

ولما اجتمع نفر من أهل بغداد بحاتم الأصم وسألوه: يا أبا عبد الرحمن أنت رجل أعجمي وليس يكلمك أحد إلا قطعته لأي معنى قال لهم: معي ثلاث خصال أظهر بها على خصمي: أفرح إذا أصاب خصمي وأحزن له إذا أخطأ، وأُخفض نفسي كي لا تتجاهل عليه، بلغ ذلك أحمد بن حنبل فقال: سبحان الله ما أعقله من رجل.


ثناء العلماء عليه:

ترجم له الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في "حلية الأولياء" و"طبقات الأصفياء" فقال في مقدم ترجته ما نصه: "ومنهم المؤثر للأدْوَم والأعم والآخذ بالألزم والأقوم أبو عبد الرحمن حاتم الأصم، توكل فسكن وأيقن فركن".

وقال فيه ابن خلكان في الوفيات: "حاتم بن عنوان الأصم من أهل بلخ كان أوحد من عُرف بالزهد والتقلل واشتهر بالورع والتقشف، وله كلام يُدوَّن في الزهد والحكم".

وأما الذهبي فقد مدحه في سيره فقال: "الزاهد القدوة الرباني أبو عبد الرحمن حاتم بن عنوان بن يوسف البلخي الواعظ الناطق بالحكمة، الأصم، له كلام جليل في الزهد والمواعظ والحكم، كان يقال له: لقمان هذه الأمة".


توكله على الله:

روى الحافظ أبو نُعيم أن رجلاً سأله: على أي شيء بنيت أمرك في التوكل فقال: على أربع خصال: علمت أن رزقي لن يأكله غيري فاطمأنت به نفسي، وعلمتُ أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتي بغتة فأنا أبادره، وعلمت أن لا أخلو من عين الله [أي الله يراه] فأنا مستحٍ منه.

وقال له رجل مرة: بلغني أنك تجوز المفاوز [الصحارى والأماكن المهلكة] بغير زاد، فقال: بل أجوزها بالزاد وإنما زادي فيها أربعة أشياء قال: ما هي قال: أرى الدنيا كلها ملكًا لله، وأرى الخلق كلهم عباد الله، وأرى الأرزاق كلها بيد الله، وأرى قضاء الله نافذًا في كل أرض لله، فقال له الرجل: نعم الزاد زادك يا حاتم، أنت تجوز به مفاوز الآخرة.

وروى عنه ابن خلكان أنه قال: خرجت في سفر ومعي زاد نفِدَ في وسط البرية فكان قلبي في السفر والخصر واحدًا، وقال: لي أربع نسوة وتسعة من الأولاد، فما طمع الشيطان أن يوسوس لي في شيء من أرزاقهم.

وحدث مرة فقال: كنا في حرب مع الترك فرماني تركي بوهق فقلبني عن فرسي، وقعد على صدري وأخذ بلحيتي وأخرج سكينًا يريد أن يذبحني بها، فما كان قلبي عنده ولا عند سكينه إنما كان متفكرًا فيما ينزل به القضاء، فقلت في نفسي: اللهم إن قضيت علي أن يذبحني هذا الرجل فأنا لك وملكك، وبينما أنا أخاطب نفسي إذ رماه المسلمون بسهم فما أخطأ حلقه.

وفي "طبقات الصوفية" لأبي عبد الرحمن السلمي يروي عن حاتم الاصم أنه قال: "ما من صباح إلا والشيطان يقول لي: ما تأكل وما تلبس وما تسكن؟ فأقول: "ءاكل الموت وألبس الكفن وأسكن القبر".


حكمه ومواعظه:

عن أبي تراب أن شقيقًا البلخي قال له: أي شيء تعلمت مذ صحبتني قال: ست كلمات: رأيت الناس في شك من أمر الرزق فتوكلت على الله، قال الله تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} [سورة هود/ءاية:6].
ورأيت لكل رجل صديقًا يفشي إليه سره ويشكو إليه، فصادقت الخير ليكون معي في الحساب ويجوز معي الصراط. ورأيت كل واحد له عدو، فمن اغتابني ليس بعدوي ومن أخذ مني شيئًا ليس بعدوي، بل عدوي من إذا كنت في طاعة أمرني بمعصية الله، وذلك إبليس وجنوده فاتخذتهم عدوًا وحاربتهم. ورأيت الناس كلهم لهم طالب وهو ملك الموت، ففرغت له نفسي. ونظرت في الخلق فأحببت ذا وأبغضت ذا، فالذي أحببته لم يعطني، والذي أبغضته لم يأخذ مني شيئًا، فإذا هو من الحسد فطرحته وأحببت الخير للكل، فكل شيء لم أرضه لنفسي لم أرضهُ لهم. ورأيت الناس كلهم في بيت ومأوى، ورأيت مأواي القبر، فكل شيء قدرت عليه من الخير قدمته لنفسي لأعمّر به قبري، فقال شقيق: عليك بهذه الخصال. وروي عنه أنه قال مرة: المؤمن لا يغيب عن خمسة: عن الله والقضاء والرزق والموت والشيطان.

ومن مواعظه قوله: مَنْ دخل في مذهبنا ذا فليجعل في نفسه أربع خصال من الموت: موت أبيض وموت أسود وموت أحمر وموت أخضر، فالموت الابيض الجوع، والموت الأسود احتمال الأذى، والموت الأحمر مخالفة النفس، والموت الأخضر طرح الرقاع بعضها على بعض.

ويروى عنه قوله: العجلة من الشيطان إلا في خمس: إطعام الطعام إذا حضر ضيف، وتجهيز الميت إذا مات، وتزويج البكر إذا أدركت، وقضاء الدين إذا وجب، والتوبة من الذنب إذا أذنب.

وروى السلمي في "طبقات الصوفية" عن أحمد بن محمد بن زكريا أن حاتمًا الأصم قال: مَنْ أصبح وهو مستقيم في أربعة أشياء فهو يتقلب في رضى الله: أولها الثقة بالله ثم التوكل ثم الإخلاص ثم المعرفة. والأشياء كلها تتم بالمعرفة. ومن كلامه قوله في تقسيم الجهاد: "الجهاد ثلاثة: جهاد في سِرّك مع الشيطان حتى تكسره، وجهاد في العلانية في أداء الفرائض حتى تؤديها، وجهاد مع أعداء الله في غزو الإسلام".

وقال: الواثق من رزقه مَنْ لا يفرح بالغنى ولا يهتم بالفقر، ولا يبالي أصبح في عسر أو يسر، وقال أيضًا: الزم خدمة مولاك تأتِكَ الدنيا راغمة والجنة عاشقة، وقال أيضًا: تعهَّد نفسك في ثلاثة مواضع: إذا عملت فاذكر نظر الله إليك، وإذا تكلمت فاذكر سمع الله لك، وإذا سكنت فاذكر علم الله بك.

وذكر صاحب "حلية الأولياء" أن عصام بن يوسف مر بحاتم الأصم وهو يتكلم في مجلسه فقال: يا حاتم أتحسن الصلاة قال: نعم، قال: كيف تصلي قال حاتم: أقوم بالأمر وأمشي بالخشية وأدخل بالنية وأكبر بالعظمة وأقرأ بالترتيل والتفكر وأركع بالخشوع وأسجد بالتواضع وأجلس للتشهد بالتمام وأسلّم بالسنة والإخلاص لله عز وجل، وأرجع على نفسي بالخوف، أخاف أن لا يُقبل مني وأحفظه بالجهد إلى الموت، فقال عصام حينئذٍ: تكلم فإنك تُحسن تصلي.


وفاته:

ذكر الذهبي في سيره عن ابن مندة وأبي طاهر السلفي أنه توفي سنة مائتين وسبع وثلاثين للهجرة، وكذلك قال ابن خلكان في "وفيات الأعيان".

رحم الله الإمام حاتم الأصم وأمدنا بأمداده ونفحاته الشريفة.



إبراهيم الحربي
عَلَم في التواضع والزهد



ترجمته:

هو الشيخ الإمام الحافظ العلامة شيخ الإسلام والمسلمين وقدوة العلماء العاملين رأس أهل الزهد في زمانه، الجهبذ النحرير والحجة الكبير إبراهيم بن إسحاق بن بشير بن عبد الله بن ديسم أبو إسحاق الحربي، ولد سنة ثمان وتسعين ومائة وأصله من مرو بلد الإمام أحمد أمه تغلبية من تغلب. وسمي بالحربي نسبة إلى الحربية وهي حي من أحياء بغداد مان قد صحب قومًا فيها فنسب إليها، قال ياقوت في "معجم الأدباء": وقيل لم سميت إبراهيم الحربي قال: صحبت قومًا من الحربية فسموني الحربي بذلك.


جملة من مناقبه:

كان إبراهيم الحربي رضي الله عنه واسع الكرم عفيف النفس جم التواضع عظيم الورع جبلاً يمشي على قدمين، أحد أئمة المؤمنين العاملين.

وحدث عنه أبو عثمان الرازي فقال: جاء رجل من أصحاب المعتضد إلى إبراهيم الحربي بعشرة ءالاف درهم من عند المعتضد يسأله عن أمير المؤمنين أن يفرق ذلك على الناس فرده، ثم عاد فقال: إن أمير المؤمنين يسألك أن تفرقه في جيرانك، فقال له: عافاك الله قل لأمير المؤمنين إن تركتنا وإلا تحولنا من جوارك.

وفي كتاب "سير أعلام النبلاء" عن المخلص عن أبيه قال: إن المعتضد بعث إلى إبراهيم الحربي بمال فرده عليه قال: ردها إلى من أخذتها منه وهو محتاجٌ إلى فلس. وذكر أنه لم يكن عنده سوى ثوب واحد فقط.

وعن القاسم بن بكير قال: سمعت إبراهيم الحربي يقول: ما كنا نعرف من هذه الأطبخة شيئًا، كنت أجيء من عشي إلى عشي وقد هيأت لي أمي باذنجانة مشوية ثم لعقة بنٍ [بكسر الباء وهي الطبقة من الشحم] أو باقة فجل.

ومما جاء في فضائله رضي الله عنه وحسن سيرته عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: سألت الدارقطني عن إبراهيم الحربي فقال: كان يقاس بأحمد بن حنبل في زهده وعلمه وورعه.

وناهيك به قدرًا أن يُقاس بأحمد بن حنبل وهو من هو علمًا وورعًا وزهدًا وقيامًا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد ذُكر أن قومًا فضلوا الحربي على أحمد بن حنبل فبلغه ذلك فأنكر الحربي عليهم، وفي ذلك إشارة إلى تواضع الرجل وعظيم محبته وتقديره لأهل العلم المعتبرين.

ومن جميل خصائصه وحسن فضائله ما روى عنه أبو الفضل عبيد الله الزهري عن أبيه عبد الرحمن عن إبراهيم الحربي قال: ما أنشدت بيتًا قط إلا قرأت بعده {قل هو الله أحد} ثلاثًا.

وفي السير أن أبا إسحاق الحربي لما دخل على إسماعيل القاضي بادر أبو عمر محمد بن يوسف القاضي إلى نعله فأخذها فمسحها من الغبار فدعا له وقال: أعزل الله في الدنيا والآخرة، فلما توفي أبو عمر رؤي في النوم فقيل له: ما فعل الله بك قال: أعزني الله في الدنيا والآخرة بدعوة الرجل الصالح.

وعن محمد بن أيوب العكبري قال: سمعت إبراهيم الحربي يقول:
"ما تروحتُ ولا رُوِّحْتُ ولا أكلت من شيء في يوم مرتين، وقال: ولي عشر سنين أبصر بفرد عين ما أخبرت به أحدًا، وأفنيت من عمري ثلاثين سنة برغيفين إن جاءتني بها أمي أو أختي وإلا بقيت جائعًا إلى الليلة الثانية، وأفنيت ثلاثين سنة برغيف في اليوم والليلة إن جاءتني امرأتي وبناتي به وإلا بقيت جائعًا والآن ءاكل نصف رغيف وأربع عشرة تمرة وقام إفطاري في رمضان هذا بدرهم ودانقين ونصف.

يظهر لنا وبوضوح مدى الحالة التي وصل إليها الرجل من الزهد في المأكل والمشرب والملبس شأنه في ذلك شأن العبّاد الزاهدين والعلماء العاملين الذين صفت نفوسهم فسلكوا طريق المصطفى وكانت الدنيا منهم على القفا.


ثناء العلماء عليه:

كان إبراهيم الحربي رضي الله عنه إمامًا مبرزًا من أعيان السلف وعلى خطاهم ومسلكهم سليم الاعتقاد موحدًا منزهًا يعتقد في الله ما يليق به مجتنبًا البدع، سيفًا من سيوف الحق حربًا على المعتزلة وغيرهم من فئات الانحراف، رأسًا في الزهد إمامًا في العلم، بحرًا من بحور المعرفة له دراية واسعة في الفقه والحديث، بصيرًا بالأحكام حافظًا للأثر حجة في اللغة والأدب حتى غدا بالإضافة إلى ما جمع من علوم الشريعة علمًا من أعلام الأدب، وقد ترجم له ياقوت في "معجم الأدباء" عادا إياه من رؤوس اهل الأدب وقريض الشعر.

وكان قد طلب العلم فسمع من هوذه بن خليفة وعفان بن مسلم وعمر بن حفص واحمد بن حنبل وأحمد بن شبيب وغيرهم كثير، وحدث عنه خلق كثير منهم سليمان بن إسحاق الجلاب وأبو عمرو بن السماك وءاخرون، وقد أقر له معاصروه بالتبحر في العلم والمعرفة حتى جاء من جملة ثناء العلماء عليه عن الحافظ أبي بكر الخطيب في تاريخ بغداد قال: كان إمامًا في العلم رأسًا في الزهد عارفًا بالفقه بصيرًا بالأحكام، حافظًا للحديث مميزًا لعلله، قيمًا بالأدب جمّاعة للغة صنف غريب الحديث وكتبًا كثيرة.

وفي معجم الأدباء لياقوت قال: حدث عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: كان أبي يقول لي: امضِ إلى إبراهيم الحربي يلق عليك الفرائض [علم المواريث] قال: ولما مات سعيد بن أحمد بن حنبل جاء إبراهيم الحربي إلى عبد الله فقام إليه عبد الله فقال: تقوم إليَّ قال: لم لا أقوم إليك والله لو رءاك أبي لقام إليك، وعن أبي الحسن الدارقطني أنه قال: إبراهيم الحربي ثقة وكان إمامًا يُقاس بأحمد بن حنبل في زهده وعلمه وورعه.


جملة من مصنفاته:

قال أبو الحسن الدارقطني: الحربي إمام مصنف عالم. وقال: بارعٌ في كل لم صدوق.

ولما كان الحربي قد حظي بمرتبة عالية من مراتب العلم والاجتهاد، وكان قد صنف في أغراض العلم، كان من البديهي أن تأتي كتبه صورة معبرة عن غزارة إدراكه وحسن ديباجته وجميل نظمه وسبكه إن في الفقه أو الحديث أو في أنواع الشعر وأغراض الأدب واللغة. وللحربي مصنفات عديدة نذكر منها هلى سبيل المثال:
"كتاب سجود القرءان"، "كتاب الهدايا والسنة فيها"، "كتاب مناسك الحج"، "مسانيد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم"، حيث أفرد لكل منهم مسندًا خاصًا بالإضافة إلى مسانيد أخرى منها "مسند أبو عمر" و"مسند عبد الله بن عمرو" و"مسند السائب" و"مسند المسور بن مخرمة" و"مسند الفقه والحديث والأدب" مما يشهد له بالفهم والتفوق. وما ذكرنا من مصنفاته أو مناقبه إلا نزرًا قليلاً وغيضًا من فيض.


وفاته:

توفي إبراهيم الحربي رحمه الله سنة خمس وثمانين ومائتين من ذي الحجة ودفن بداره في بغداد بشارع الأنبار. قال في "سير أعلام النبلاء": مات إبراهيم الحربي ببغداد في داره يوم الاثنين لسبع بقين من ذي الحجة سنة خمس وثمانين ومائتين. وقال المسعودي: كانت وفاة الحربي المحدث الفقيه في الجانب الغربي وله نيفٌ وثمانون سنة وكان صدوقًا عالمًا فصيحًا جوادًا عفيفًا زاهدًا عابدًا ناسكًا، وكان مع ذلك ضاحك السن ظريف الطبع، وقال: ولم يكن معه تكبر ولا تجبر قال: وكان الشيخ البغدادي في وقته ظريفهم وزاهدهم وناسكهم.

اللهم ارحم إبراهيم الحربي واجمعنا به في الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.



إبراهيم بن أدهم
الصوفي الذي ترك الملك لأجل الآخرة



ترجمته:

هو أبو إسحاق إبراهيم بن أدهم بن منصور بن يزيد العِجلي البلخي، ولد ببلخ وهي المدينة العظيمة التي شهدت أكبر حركة تنزع نحو التصوف والإقبال على الآخرة. قال ابن معين: هو من العرب من بني عجل، وقال قتيبة: هو تميمي كان بالكوفة، وقال الفضل الشيباني: حج أبوه أدهم بأمه فولدت إبراهيم بمكة فجعلت تطوف به في المسجد وتقول للناس: ادعوا لابني أن يجعله الله رجلاً من الصالحين.


جملة من مناقبه:

لقد كان إبراهيم بن أدهم واحدًا من هؤلاء الصالحين الذين كانوا من أبناء الملوك، إذ كان والده ملكًا من ملوك خراسان وكان سبب زهده أنه خرج مرة إلى الصيد فسمع هاتفًا يقول له: يا إبراهيم، ما لهذا خُلقت ولا بذا أُمرت، فحلف ألا يعصي الله تعالى، وترك ملك أبيه فأكثر من السفر في طلب العلم والازدياد من الطاعات.

هذه الحادثة وغيرها دعته إلى الإعراض عن الدنيا والإقبال على الطاعات، ومما جاء في تفصيل هذه الحادثة ما رواه الحافظ أبو نعيم في "حلية الأولياء" على لسانه أنه قال: لقد كان أبي من أهل بلخ وكان من ملوك خراسان، وكان من المياسر وحبب إلينا الصيد فخرجت راكبًا فرسي وكلبي معي، فبينما أنا كذلك إذ ثار أرنب أو ثعلب فحركت فرسي فسمعت نداء من ورائي: يا إبراهيم، ما لذا خُلقتَ، ولا بذا أُمرتَ، فوقفت أنظر يمنة يسرة فلا أرى أحدًا، ثم حركت فرسي فسمعت نداءً أجهر من الأول: يا إبراهيم ما لذا خلقت ولا بذا أمرت، ثم عاد الهاتف مرة ثالثة فقال كما قال في الأولى والثانية، فقلت: أنبهتَ... أنبهتَ، جاءني نذير من رب العالمين، والله لا عصيتُ الله بعد يومي هذا ما عصمني ربي.

وروى جلال الدين الرومي أن رجال الحراسة في مقر إبراهيم سمعوا ذات ليلة ضجة كبيرة فوق سطح القصر، فإذا بقوم يدعون أنهم يبحثون عن إبلهم الضالة، فاقتيدوا إليه فسألهم: هل حدث أن تفقَّد امرؤ إبله فوق سطوح المنازل فقالوا: نحن لا نعمل إلا اقتداءً بك أنت الذي يسعى إلى الفناء في حب الله في الوقت الذي أنت فيه جالس على عرشك، فهل لرجل في مثل هذا المقام أن يكون قريبًا من الله فهرب من القصر ولم يره أحد منذ ذلك الحين.

ومن ذلك أيضًا أنه نام يومًا فرأى رجلاً بيده كتاب فتناوله وفتحه فإذا فيه مكتوب بالذهب: لا تؤثرنَّ فانيًا على باقٍ ولا تفرحنَّ بملكك، فإن ما أنت فيه جسيم إلا أنه عديم، فنتبه من نومه فزعًا وقال: هذا تنبيه من الله وموعظة.


زهده وأمانته:

ترك إبراهيم بن أدهم المُلك والجاه فكان يلبس في الشتاء فروًا ليس تحته قميص، وفي الصيف شقة بدرهمين، ولم يكن يلبس خفين ولا عمامة، وكان كثير الصوم في السفر والحضر، قليل النوم كثير التفكر، وكان يأكل من عمل يده في حصاد الزرع وحراسة البساتين.

ومما يروى عن زهده وأمانته ما رواه أبو نعيم في حليته عن داود بن الجراح أن إبراهيم بن أدهم كان يحرس بستانًا في غزة فجاء صاحب البستان ومعه أصحابه فقال له: إيتنا بعنب نأكل، فأتاه بعنب فإذا هو حامض، فقال صاحب البستان من هذا تأكل قال: لا ءاكل من هذا ولا من غيره، قال له: فأتني برمان، فأتاه برمان فإذا هو حامض، فقال: من هذا تأكل قال إبراهيم: لا ءاكل من هذا ولا من غيره، ولكن رأيته أحمر حسنًا فظننت أنه حلو، فقال صاحب البستان: لو كنت إبراهيم بن أدهم ما عدا! قال ذلك وهو لا يعرف أنه هو.

وروى أبو نعيم بن أبي إسحاق الفزاري أنه قال: كان إبراهيم بن أدهم في شهر رمضان يحصد الزرع بالنهار ويصلي بالليل، فمكث ثلاثين يومًا لا ينام بالليل ولا بالنهار.

وعن يحيى بن عثمان عن بقية أنه سأل رفيقًا لإبراهيم: أخبرني عن أشد شيء مرَّ بك منذ صحبته، فقال: كنا يومًا صائمين فلما كان الإفطار لم يكن عندنا شيء نفطر عليه، فأتينا باب الرستن فأكرينا أنفسنا لرجل في حصاد بستانه ونحن صيام، فلما كان المساء أخذنا أجرتنا فأتيت السوق فاشتريت ما احتجت إليه وتصدقت بالباقي، فقال إبراهيم: أما نحن فقد استوفينا أجرينا فليت شعري هل وفيناه حقه أم لا فلما رأيت ذلك غضبت، فلما رأى غضبي قال: لا بأس، تضمن لي أنّا أوفيناه عمله فأخذت منه الطعام فتصدقت به، فهذا أشد شيء مر بي منذ صحبته.

ومما يؤكد زهده وعزوفه عما في أيدي الناس ما رواه أبو الحسين الجرجاني عن علي بن بكار أنه قال: كنا جلوسًا عند الجامع بالمصيصة [وهي مدينة في الشام يقال لها المنصورة أيضًا] وفينا إبراهيم بن أدهم، فقدم رجل من خراسان فقال: أبكم إبراهيم بن أدهم فقال القوم: هذا، فقال: إن إخوتك بعثوني إليك، فلما سمع ذكر إخوته قام فأخذه بيده ونحّاه فقال: ما جاء بك قال: أنا مملوكك مع فرس وبعلة وعشرة ءالاف درهم بعث بها إليك إخوتك، فقال: إن كنتَ صادقًا فأنت حر وما معك فلك، اذهب فلا تخبر أحدًا.

ومن أخبار أمانته ما ذكره ابن الجوزي في "صفة الصفوة" عن أحمد بن داود أنه قال: مر يزيد بإبراهيم بن أدهم وهو ينظر بستانًا فقال: ناولنا من هذا العنب، فقال إبراهيم: ما أذن لي صاحبه، فقلب يزيد السوط وجعل يضربه به، فطأطأ إبراهيم رأسه وقال: اضرب رأسًا طالما عصى الله عز وجل، فتوقف الرجل عنه.


كراماته:

معلوم عند المسلمين أن بعض الأولياء يصدر منهم كرامات، وهي أمور خارقة للعادة تكون دليلاً على صدق اتباعهم لنبيهم. وقد كثر في أمة محمد صلى الله عليه وسلم الكرامات، وكان إبراهيم بن ادهم واحدًا من أولئك الذين حصلت على أيديهم أمور كهذه منها ما ذكره يوسف النبهاني في "جامع كرامات الأولياء" وهو أن قومًا أتوا إلى إبراهيم بن أدهم فقالوا: يا أبا إسحاق، إن الأسد واقف على طريقنا، فأتى إبراهيم إلى الأسد فقال: يا أبا الحارث إن كنت أُمرتَ فينا بشيء فامض لما أُمرتَ به، وإن لم تؤمر بشيء فتنحَّ عن طريقنا، فأدبر الأسد يهمهم.

وفي "روض الرياحين" كرامة أخرى له، وهي أنه اراد ركوب سفينة، فأبى الملاح إلا أن يأخذ دينارًا، فصلى إبراهيم ركعتين وقال: اللهم إنهم سألوني ما ليس عندي وهو عندك كثير، فصار الركل دنانير فأخذ واحدًا دفعه له ولم يأخذ غيره.

ومن كراماته التي حصلت له المصيصة أنه خرج إلى مرج من مروج الشام فالتقى بأناس يوقدون نارًا حولهم خوف السباع، فطلبوا منه أن ينضم إليهم فأبى وجلس في ناحية وحيدًا، وبينما هو يصلي الليل إذ أتته ثلاثة أسود فتقدم الأول إليه فشمه وطاف حوله ثم تنحى ناحية فربض، ثم جاء الثاني ففعل كفعل الأول، ثم الثالث ففعل كفعل الأولين، فلما دخل السَّحر قال للأسود: ما الذي جاء بكم أتريدون أن تاكلوني امضوا، فقامت الأسود فتركته وذهبت، وكل ذلك على مرأى من القوم.


حكمه ومواعظه:

من جملة حكمه التي أُثرت عنه ما قاله في رسالة إلى سفيان الثوري يقول فيها: مَنْ عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل، ومن أطلق بصره طال أسفه، ومن أطلق أمله ساء عمله، ومن أطلق لسانه قتل نفسه.

ومن درره الحكمية قوله: "قلة الحرص والطمع تورث الصدق والورع، وكثرة الحرص والطمع تورث الهم والجزع".

وعن أحمد بن خضرويه أن إبراهيم بن أدهم قال لرجل في الطواف حول الكعبة: "اعلم أنك لا تنال درجة الصالحين حتى تجوز ست عقبات: أولاها أن تغلق باب النعمة وتفتح باب الشدة، والثانية أن تغلق باب العز وتفتح باب الذل، والثالثة أن تغلق باب الراحة وتفتح باب الجهد، والرابعة أن تغلق باب النوم وتفتح باب السهر، والخامسة أن تغلق باب الغنى وتفتح باب الفقر، والسادسة أن تغلق باب الأمل وتفتح باب الاستعداد للموت".


وفاته:

ذكر صاحب "جامع كرامات الأولياء" أنه توفي في بلاد الشام سنة مائة واثنين وستين للهجرة، وأنه دفن في جبلة من سواحل سوريا، وروى عن المنادي أنه قال: وقد زرته والحمد لله في جبلة وحصلت لي بركته، وله مزار عظيم وجامع كبير قديم، وأوقاف كثيرة. وقال ابن الجوزي في "صفة الصفوة" إنه توفي بالجزيرة وحمل إلى صور فدفن فيها.



ابن سمعون البغدادي
الصوفي الواعظ صاحب الكرامات




ترجمته:

ابن سمعون هو أبو الحسين محمد بن أحمد بن سمعون، أحد المشايخ الصوفية في بغداد الذين شهروا بالكرامات والزهد والورع ورفض الدنيا وحب الآخرة.


مناقبه:

يحكي ابن عساكر الدمشقي في كتابه "تبيين كذب المفتري" عن الصوفي الواعظ صاحب الكرامات أبي الحسين بن سمعون أنه قال لأمه يومًا: أحب أن أحج، فقالت له: كيف تحجُّ وما معك نفقة، ولا لي ما أنفقه، إنما عيشنا من أجرة ما تنسخه. وغلب عليها النوم فنامت، ولما انتبهت قالت له: يا ولدي حُجَّ، فقال: منعتِ قبل النوم، وأذِنت بعده قالت: رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم وقال لي: دعيه يحج، فباع من دفاتره ما له قيمة ودفع إليها نفقة وخرج مع الحجاج. قال: فبقيت عريانًا ووجدت مع رجل عباءة كانت على عدل فقلت له: هَبْ لي هذه العباءة أستر نفسي بها، فأعطانيها. وكنت إذا غلب علي الجوع ووجدت قومًا يأكلون وقفت أنظر إليهم فيدفعون إليَّ الكسرة فأقتنع بها ذلك اليوم. ولما وصلت إلى مكة غسلت العباءة فأحرمت بها. ودعوت الله يومًا: "اللهم ارزقني معيشة أستغني بها عن سؤال الناس". فسمعت قائلاً يقول: "اللهم ارزقه عيشًا بلا معيشة"، فالتفتُّ فلم أر أحدًا، فأعدت القول فأعاد الدعاء، فأعدت الثالثة فأعاد.

ولما عاد ابن سمعون إلى بغداد كان الخليفة وقد أراد إخراج جارية من جواريه من الدار، فقال: اطلبوا رجلاً مستورًا يصلح أن تُزَوّج هذه الجارية به، فقيل له: قد وصل ابن سمعون من الحج وهو يصلح لها، فاستصوب الخليفة قوله. وزُوّج ابن سمعون بالجارية ونقل الخليفة معها من المال والثياب والجواهر ما تحمل الملوك.

قال ابن عساكر: فكان ابن سمعون يجلس على الكرسي للوعظ فيقول: أيها الناس خرجتُ حاجًا فكان من حالي كذا وكذا، ويشرح حاله جميعها.

ومن جملة هذه الخوارق ما ذكره أبو القاسم علي بن إبراهيم الخطيب أن الشيخ خرج من المدينة المنورة قاصدًا بيت المقدس وحمل معه تمرًا صيحانيًا، فلما وصل إلى بيت المقدس ترك التمر مع غيره من الطعام في الموضع الذي كان يأوي إليه، ثم اشتهت نفسه أكل الرطب، فلامها وقال: من أين لنا في هذا الموضع بالرطب فلما كان وقت الإفطار عمد إلى التمر ليأكل منه فوجده رطبًا، فلم يأكل منه شيئًا، ثم عاد إليه عشية فوجده تمرًا على حالته الأولى فأكل منه.

ويروى أيضًا عن كراماته أن أبا الفتح القواس قد أصابته ضائقة، قال: فلم أجد في البيت غير قوس لي وخفين كنت ألبسهما، فأصبحت وقد عزمت على بيعهما. وقلت في نفسي: أحضر مجلس ابن سمعون ثم أنصرف فأبيع الخفين والقوس، فحضرت المجلس. ولما أردت الانصرف نادى أبو الحسين: يا أبا الفتح لا تبع الخفين، ولا تبع القوس، فإن الله سيأتيك برزق من عنده.

ومن عجائبه أن أبا الفتح القواس غشيه النعاس ونام في المجلس فتوقف ابن سمعون عن الكلام ساعة حتى استيقظ أبو الفتح فقال له: رأيت رسول الله في نومك قال: نعم، قال ابن سمعون: لذلك أمسكتُ عن الكلام خوفًا من أن تنزعج وتنقطع.

ومن أخباره أن الخليفة الطائع لله قد قيل له إن أبا الحسين ينتقص الإمام عليًا رضي الله عنه، فأرسل مولى له إليه يستدعيه إلى دار الخلافة، فدخل وسلم على الخليفة ثم أخذ في وعظه، فأول ما ابتدأ به أن قال: روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه... وذكر خبرًا عنه وأحاديث كثيرة، ثم عاد فقال: روي عن أمير المؤمنين... وروى أحاديث وأخبارًا، ولم يزل على وعظه هذا حتى بكى الطائع حتى سُمع شهيقه وابتل منديل بين يديه بدموعه. ولما انصرف ابن سمعون سأل مولى الطائع: يا مولاي رأيتك على صفة من شدة الغضب على ابن سمعون ثم انتقلت عن تلك الصفة عند حضوره فما السبب؟ فقال الخليفة: رُفع إليَّ عنه أنه ينتقص علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأحببت أن أتيقن ذلك لأقابله عليه إن صح ذلك منه، فلما حضر بين يدي افتتح كلامه بذكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأعاد وأبدى في ذلك. وقد كان له مندوحة في الرواية عن غيره وترك الابتداء به، فعلمتُ أنه وُفِّقَ لما تزول عنه الظنة وتبرأ ساحته عندي، ولعله كُوشِفَ بذلك.


ثناء العلماء والمؤرخين عليه:

ممن أثنى عليه من المؤرخين ابن خلكان في الوفيات حيث قال فيه: "كان وحيد دهره في الكلام على الخواطر وحسن الوعظ وحلاوة الإشارة ولطف العبارة. أدرك جماعة من جُلَّة المشايخ وروى عنهم، منهم الشيخ أبو بكر الشبلي".

وقال فيه ابن عساكر في تبيينه ما نصه: "له لسان عالٍ في هذه العلوم، يعني علوم أهل التصوف. وهو لسان الوقت والمرجوع إليه في ءاداب الظاهر يذهب إلى أسدّ المذاهب. وهو إمام المتكلمين على هذا في الوقت".

ويذكر ابن عساكر عن أبي بكر الأصبهاني وكان خادم الشبلي أنه قال: "كنت بين يدي الشبلي في الجامع يوم الجمعة فدخل أبو الحسين بن سمعون وهو صبي على رأسه قلنسوة بشفاشك مطلّس بفوطة، فجاز علينا وما سلّم، فنظر الشبلي إلى ظهره وقال: يا أبا بكر أتدري أيش لله في هذا الفتى من الذخائر".

ويذكر ابن عساكر أيضًا عن أبي النجيب الأرموي أن القاضي أبا بكر الاشعري وأبا حامد الغزالي كانا يقبلان يد ابن سمعون إذا جاءاه. وروى عن القاضي أبي بكر أنه كان يقول: ربما خَفِيَ عليَّ من كلامه بعض الشيء لدقته.

ومن كلامه قوله وهو على الكرسي في مجلس وعظه: "سبحان من أنطق باللحم وبصَّر بالشحم وأسمع بالعظم، إشارة إلى اللسان والعين والاذن، وهذه من لطائف الإشارات".

ومما قاله السلمي فيه: "أبو الحسين بن سمعون الذي هو لسان الوقت والمُعبّر عن الاحوال بألطف بيان، مع ما يرجع إليه صحة الاعتقاد وصحبة الفقراء".

ويقول ابن خلكان: "وكان لأهل العراق فيه اعتقاد كثير، ولهم به غرام شديد. وإياه عنى الحريري صاحب المقامات في المقامة الحادية والعشرين وهي الرازيّة بقوله في أوائلها: رأيت ذا بكرة، زمرة إثر زمرة، وهم منتشرون انتشار الجراد، ومُستنُّون استنان الجراد، ومتواضعون واعظًا يقصدونه ويُحِلُّون ابن سمعون دونه" وقال ابن خلكان بعد هذا: "ولم يأتِ بعده في الوعاظ مثله".


وفاته:

قال بعض المؤرخين إنه توفي يوم الجمعة منتصف ذي القعدة من سنة ثلاثمائة وسبع وثمانين للهجرة، وقال بعض إنه توفي في ذي الحجة. ودفن في داره بدرب العتابيين.

ولم يزل هناك حتى نقل يوم الخميس الحادي عشر من رجب سنة أربعمائة وست وأربعين للهجرة، ودفن بباب حرب. وقيل إن أكفانه لم تكن قد بليت بعد.

رحمه الله رحمة واسعة ونفعنا به وبأمثاله.



العارف بالله
الشيخ عبد القادر الجيلاني




ترجمته:

هو السيد الشريف الشيخ محيي الدين أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح موسى بن أبي عبد الله بن يحيى الزاهد بن محمد بن داود بن موسى بن عبد الله بن موسى الجون بن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضوان الله تعالى عليهم.

وذكر أبو الفضل أحمد بن صالح الجيلي أم مولد الشيخ محيي الدين المذكور سنة إحدى وسبعين وأربعمائة، وأنه دخل بغداد سنة ثمان وثمانين وأربع مائة وله ثماني عشرة سنة.

وذكر بعضهم أنه منسوب إلى جيل بكسر الجيم وهي بلاد متفرقة وراء طبرستان، وبها ولد. ويقال لها أيضًا جيلان وكيلان. وكيل أيضًا قرية على شاطئ دجلة على مسيرة يوم من بغداد من جهة طريق واسط.

أما صفة الشيخ رضي الله عنه فروي أنه كان نحيف البدن ربع القامة، عريض الصدر، عريض اللحية وطويلها، أسمر مقرون الحاجبين [أي متصل الحاجبين]، أدعج العينين [أي أسود العينين مع سعهما]، ذا صوت جهوري وسَمْت بهي [أي هيئة حسنة]، وقدر علي رضي الله عنه.


مناقبه:

من القصص التي تظهر أبواب الشيطان وتمويهاته، وتبين أهمية تعلم العقيدة الإسلامية والتسلح بها في مواجهة وساوس الشيطان وتلبيساته، ما رواه ابن العماد في "شذرات الذهب" ومفاده أن الشيخ موسى روى عن والده الشيخ عبد القادر الجيلاني أنه خرج في بعض سياحاته إلى البرية فمكث أيامًا لا يجد ماء حتى اشتد به العطش، فأظلته سحابة ونزل عليه منها شيء يشبه الندى، فحاول الشيطان أن يغويه فموه على عيني الشيخ فرأى في الأفق نورًا قويًا وصورة عظيمة، وناداه الشيطان بقوله: يا عبد القادر أنا ربك وقد أحببت لك المحرمات، فقال الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، اخسأ يا لعين، فإذا بالنور قد صار ظلامًا والصورة دخانًا، ثم خاطبه الشيطان قائلاً: يا عبد القادر نجوت مني بعلمك، وقد أضللتُ بهذه الواقعة سبعين من أهل الطريق.

لقد كانت هذه القصة مصداقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد"، إذ أن العلم بالله هو الذي جعل الشيخ الديلاني يعلم أن هذه الصورة وهذا الضوء وهذا الكلام المخلوق الذي سمعه من صفات المخلوقات التي تستحيل على الله الذي ليس كمثله شيء.


علمه ومشايخه:

قال بعض الأئمة المتكلمين في مناقبه: لما علم أن طلب العلم على كل مسلم فريضة، وأنه شفاء للأنفس المريضة، إذ هو أوضح مناهج التقوى سبيلاً، وأبلغها حجة وأظهرها دليلاً، وأرفع معارج اليقين وأعلى مدارج المتقين وأعظم مناصب الدين وأفخر مراتب المهتدين، شمّر عن ساق الجد والاجتهاد في تحصيله، وسارع في طلب فروعه وأصوله وقصد الأشياخ الأئمة أعلام الهدى علماء الأمة فاشتغل بالقرءان العظيم حتى أتقنه وعمّر بدرايته سرّه وعلنه، وتفقه بالشيوخ منهم: أبو الوفاء علي بن عقيل، وأبو الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني، وأبو الحسين محمد بن القاضي أبي يعلى، وأبو سعد المبارك بن علي المخزومي رضي الله عنهم، وأخذ عنهم مذهبًا وخلافًا وفروعًا وأصولاً.


مجاهدته وسيرته:

كان رضي الله عنه يلبس لباس العلماء، ويركب البغلة ويتكلم على كرسي عال وربما خطا في الهواء على رءوس الناس ثم يرجع إلى الكرسي. وكان يقول: قاسيت الأهوال في بدايتي فما تركت هولاً إلا ركبته وكان لباسي جبة صوف وعلى رأسي خريقة وكنت أقتات بخرنوب الشوك وورق الخس من شاطئ النهر ولم أزل ءاخذ نفسي بالمجاهدات حتى طرقني من الله تعالى الحال [الحال عند أهل الحق معنًى يَرِدُ على القلب من غير تصنع ولا اجتلال ولا اكتساب من طرب أو حزن أو قبض أو بسط أو هيئة ويزول بظهور صفات النفس، فالأحوال مواهب، والمقامات مكاسب]، فإذا طرقني صرخت وهمت على وجهي سواء كنت في صحراء أو بين الناس".

وكان من أخلاقه أن يقف مع جلالة قدره مع الصغير والجارية ويجالس الفقراء ويفلي لهم ثيابهم وكان لا يقوم قد لأحد من العظماء ولا أعيان الدولة وما ألمّ قد بباب وزير ولا سلطان. وكان رضي الله عنه يقول: أقمت في صحراء العراق وخرابه خمسًا وعشرين سنة مجردًا سائحًا لا أعرف الخلق ولا يعرفونني يأتيني طوائف من رجال الغيب والجان أعلمهم الطريق إلى الله عز وجل، ورافقني الخضر عليه السلام في أول دخولي العراق وما كنت عرفته وشرط أن لا أخالفه وقال لي: اقعد هنا فجلست في الموضع الذي أقعدني فيه ثلاث سنين يأتيني كل سنة مرة ويقول لي: مكانك حتى ءاتيك. ذكر ذلك الشعراني في طبقاته.


من أقواله في التحذير من أهل الضلال:

يقول رضي الله عنه هناك طائفة ضلوا في تيه التمويه ووقعوا في التجسيم والتشبيه، الذين أهلكهم الشقاء حتى ابتلى أخيارهم، وأولئك الذين لعنهم الله فأصمَّهم وأعمى أبصارهم. ومنهم فرقة حاروا في أضاليل التعطيل [أي نفى صفات الله]. ومنهم عصابة هلكوا بأباطيل الحلول [أي القول بأن الله يحل في الأجساد]، وأغرقوا فأدخلوا نارًا، فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارًا. ويقول في التنزيه إن الله لم ينتقل إلى مكان، ولم يتغير عما عليه كان.


ذكر بعض كراماته:

جاء رجل من أهل بغداد وذكر أن له بنتًا قد اختطفت من سطح داره وهي بكر فقال له الشيخ عبد القادر رضي الله عنه: اذهب هذه الليلة إلى خراب الكرخ واجلس عند التل الخامس وخط عليك دائرة في الأرض وقل وأنت تخطها: بسم الله، على نية عبد القادر، فإذا كانت فحمة العشاء مرت بك طوائف الجن على صور شتى فلا يرعك منظرهم فإذا كان السَّحَر مر بك ملكهم في جحفل منهم فيسألك عن حاجتك فقل له: بعثني إليك الشيخ عبد القادر رضي الله عنه، فمرت بي صور مزعجة المنظر ولم يقدر أحد منهم أن يمر على الدائرة التي أنا فيها وما زالوا يمرون زمرًا زمرًا إلى أن جاء ملكهم راكبًا فرسًا وبين يديه أمم منهم فوقف بإزاء الدائرة وقال: يا إنسي ما حاجتك فقلت له: قد بعثني إليك الشيخ عبد القادر فنزل عن فرسه وقبَّل الأرض وجلس خارج الدائرة وجلس من معه ثم قال: ما شأنك فذكرت له قصة ابنتي فقال من حوله: عليَّ بمن فعل هذا، فأتاني بمارد ومعه بنتي فقيل له إن هذا مارد شيطان من مردة الصين فقال له: ما حملك على أن اختطفت هذه من تحت ركاب القطب فقال: إنها وقعت في نفسي، فأمر به فضربت عنقه، وأعطاني ابنتي فقلت: ما رأيت مثل الليلة من امتثالك أمر الشيخ عبد القادر. فقال: نعم إنه في داره ينظر إلى مردة الجن وهم بأقصى الأرض فيفرون من هيبته، وإن الله تعالى إذا أقام قطبًا مكنه من الجن والإنس [كذا في حياة الحيوان للدميري في حرف الجيم عند الكلام على الجن].


من حكمه ومواعظه:

يقول رضي الله عنه يا قوم عليكم بأعمال القلوب وإخلاصها. معرفة الله عز وجل هي الأصل ما أرى أكثركم إلا كذابين في الأقوال والأفعال في الخلوات والجلوات. ما لكم إثبات، لكم أقوال بلا أفعال، وأفعال بلا إخلاص. انفوا ثم اثبتوا، انفوا عنه ما لا يليق به، وهو ما رضيه لنفسه وعلّمنا إياه رسوله صلى الله عليه وسلم.

دنياكم قد أعمت قلوبكم فما تبصرون بها شيئًا، احذروا منها فهي تمكنكم من نفسها تارة بعد أخرى حتى تدرجكم وفي الأخيرة تذبحكم، تسقيكم من شرابها وبنجها ثم تقطع أيديكم وأرجلكم وتسمل أعينكم فإذا ذهب البنج وجاءت الإفاقة رأيتم ما صنعت بكم، هذا عاقبة حب الدنيا والعدو خلفها والحرص عليها وعلى جمعها، هذا فعلها فاحذروا منها.

يا غلام: اشتغل بنفسك، انفع نفسك ثم غيرك، لا تكن كالشمعة تحرق هي نفسها وتضىء لغيرها.


ذكر وفاته رضي الله عنه:

استوصى عبد الوهاب والده الشيخ رضي الله عنه في مرض موته فقال: عليك بتقوى الله وطاعته، ولا تخف أحدًا ولا ترجه، وكِل الحوائج كلها إلى الله عز وجل، واطلبها منه، ولا تعتمد إلا عليه سبحانه، التوحيد، التوحيد، التوحيد وجماع الكل التوحيد.

كانت وفاته رضي الله عنه في بغداد سنة خمسمائة وإحدى وستين للهجرة، ودفن فيها وقبره معروف ويزال ويتبرك به.


العارف بالله
الشيخ أحمد الرفاعي




ترجمته:

هو السيد الشريف مرشد الإسلام صاحب منقبة تقبيل يد الرسول الأمين، سيدنا أبو العباس الشيخ أحمد الرفاعي الكبير رضي الله عنه ابن السيد السلطان علي أبي الحسن دفين بغداد ابن السيد يحيى المغربي ابن السيد الثابت ابن السيد الحازم ابن السيد أحمد ابن السيد علي ابن السيد أبي المكارم رفاعة الحسن المكي ابن السيد المهدي ابن السيد محمد أبي القاسم ابن السيد الحسن ابن السيد الحسين أحمد ابن السيد موسى الثاني ابن الإمام إبراهيم المرتضى ابن الإمام موسى الكاظم ابن الإمام جعفر الصادق ابن الإمام محمد الباقر ابن الإمام زين العابدين علي ابن الإمام الشهيد المظلوم الحسين السبط ابن الإمام علم الإسلام زوج البتول أم الحسنين عليها السلام سيدنا علي كرم الله وجهه ورضي عنه.

وقد ثبتت نسبته من جهة أمه أيضًا إلى سيدنا الحسين ابن فاطمة الزهراء بنت الرسول صلى الله عليه وسلم ويتصل نسبه بأمير المؤمنين أبي بكر الصديق رضي الله عنه من جهة جده الإمام جعفر الصادق لأن أم الإمام جعفر الصادق هي فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

ولد رضي الله عنه سنة خمسمائة واثني عشرة للهجرة في العراق في البطائح، والبطائح عدة قرى مجتمعة في وسط الماء بين واسط والبصرة، وفي السابعة من عمره توفي أبوه في بغداد، فكفله خاله الشيخ الزاهد القدوة منصور البطائحي وقد رباه تربية دينية وأحسن تربيته.

والإمام الرفاعي مؤسس الطريقة الرفاعية، وهذه إحدى الطرق التي أحدثها أكابر الأولياء كالجيلاني والنقشبندي وغيرهم رضوان الله عليهم، وهي من البدع الحسنة وإن شذ بعض المنتسبين إليها فهذا لا يقدح في الأصل.


نشأته العلمية ومشايخه:

نشأ الإمام الرفاعي منذ طفولته نشأة علمية وأخذ في الانكباب على العلوم الشرعية، فقد درس القرءان العظيم وترتيله على الشيخ عبد السميع الحربوني في قريته وله من العمر سبع سنين. وانتقل مع خاله ووالدته وإخوته إلى بلدة "نهر دفلي" من قرى واسط في العراق وأدخله خاله على الإمام الفقيه الشيخ أبي الفضل علي الواسطي رضي الله عنه وكان مقرئًا ومحدثًا وواعظًا عالي الشأن. فتولى هذا الإمام أمره وقام بتربيته وتأديبه وتعليمه، فجدّ السيد أحمد الرفاعي في الدرس والتحصيل للعلوم الشرعية حتى برع في العلوم النقلية والعقلية، وأحرز قصب السبق على أقرانه وكان الإمام أحمد الرفاعي رضي الله عنه يلازم دروس العلم ومجالس العلماء، فقد كان يلازم درس خاله الشيخ أبي بكر أحد علماء زمانه كما كان يتردد على حلقة خاله الشيخ منصور البطائحي، وتلقى بعض العلوم على الشيخ عبد الملك الحربني، وحفظ رضي الله عنه "كتاب التنبيه" في الفقه الشافعي للإمام أبي إسحاق الشيرازي وقام بشرحه شرحًا عظيمًا، وأمضى رضي الله عنه أوقاته في تحصيل العلوم الشرعية على أنواعها وشمر للطاعة وجدّ في العبادة حتى أفاض الله عليه من لدنه علمًا خاصًا حتى صار عالمًا وفقيهًا شافعيًا وعالمًا ربانيًا رجع مشايخه إليه وتأدّب مؤدبوه بين يديه.

وكان الشيخ الجليل أبو الفضل علي محدث واسط وشيخها قد أجاز الإمام أحمد الرفاعي وهو في العشرين من عمره إجازة عامة بجميع علوم الشريعة والطريقة وأعظم شأنه ولقبه "بأبي العلمين" أي الظاهر والباطن، لما أفاض الله عليه من علوم كثيرة حتى انعقد الإجماع في حياة مشايخه واتفقت كلمتهم على عظيم شانه ورفعة قدره.

وفي الثامن والعشرين من عمر الإمام أحمد الرفاعي الكبير عهد إليه خاله الشيخ منصور بمشيخة الشيوخ ومشيخة الأروقة المنسوبة إليه وامره بالإقامة في أم عبيدة برواق جده لأمه الشيخ يحيى النجاري والد الشيخ منصور الذي تولى كفالته وتعليمه منذ طفولته.


مناقب الإمام الرفاعي:

أثنى عليه الإمام أبو القاسم عبد الكريم الرافعي إمام الشافعية المعروف بوفور العلم والزهد والكرامة، قال رحمه الله في كتابه "سواد العينين في مناقب الغوث أبي العلمين" في الثناء على الشيخ أحمد الرفاعي رضي الله عنه ما نصه: "حدثني الشيخ أبو شجاع الشافعي فيما رواه قائلاً: كان الشيخ أحمد الرفاعي رضي الله عنه علمًا شامخًا وجبلاً راسخًا وعالمًا جليلاً محدثًا فقيهًا مفسرًا ذا روايات عالية وإجازات رفيعات قارئًا مُجوّدًا حافظًا مُجيدًا حجة متمكنًا في الدين سهلاً على المسلمين، صعبًا على الضالين، هينًا لينًا هشًا بشًا لين العريكة، حسن الخلق، كريم الخُلق، حلو المكالمة لطيف المعاشرة لا يمله جليسه، ولا ينصرف عن مجالسه إلا لعبادة، حمولاً للأذى، وفيًا إذا عاهد، صبورًا على المكاره، متواضعًا من غير ذلة، كاظمًا للغيظ من غير حقد، أعرف أهل عصره بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأعلمهم بها، بحرًا من بحار الشرع، سيفًا من سيوف الله، وارثًا أخلاق جده رسول الله صلى الله عليه وسلم" اهـ.

وقال الرافعي أيضًا: "وقال لي شيخنا عمر الفاروثي أخبرني الشيخ بدر الأنصاري عن الشيخ الإمام منصور البطائحي الرباني قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قبل ولادة ابن أختي الشيخ أحمد الرفاعي بأربعين يومًا في الرؤيا فقال لي: يا منصور أُبشرك أن الله يعطي أختك بعد أربعين يومًا ولدًا يكون اسمه أحمد الرفاعي، مثلما أنا رأس الأنبياء كذلك هو رأس الأولياء، وحين يكبر خذه إلى الشيخ علي القارئ الواسطي وأعطه له كي يربيه لأن ذلك الرجل عزيز عند الله ولا تغفل عنه، فقلت: الامر أمركم يا رسول الله عليك الصلاة والسلام. وكان الأمر كما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال الرافعي أيضًا: "أخبرني الفقيه العالم الكبير أبو زكريا يحيى ابن الشيخ الصالح يوسف العسقلاني الحنبلي قال: كنت في أم عبيدة زائرًا عند السيد أحمد الرفاعي وفي رواقه وحوله من الزائرين أكثر من مائة ألف إنسان، فيهم من الامراء والعلماء والشيوخ والعامة، وقد احتفل بإطعامهم وإكرامهم وحسن البشر لهم كل على حاله، وكان يصعد الكرسي بعد الظهر فيعظ الناس، والناس حلقًا حلقًا حوله. فصعد الكرسي ظهر خميس، وفي مجلسه وعاظ واسط وجم غفير من علماء العراق وأكابر القوم فبادره قوم بأسئلة من التفسير وءاخرون بأسئلة من الحديث وجماعة من الفقه وجماعة من الخلاف وجماعة من الأصول وجماعة من علوم أخر، فأجاب عن مائتي سؤال من علوم شتى ولن يتغير حاله حال الجواب ولا ظهر عليه أثر الحدة، فأخذتني الغيرة من سائليه فقمت وقلت: أما كفاكم هذا والله لو سألتموه عن كل علم دُوِّن لأجابكم بإذن الله بلا تكلف، فتبسم وقال: دعهم يا أبا زكريا فليسألوني قبل أن يفقدوني فإن الدنيا زوال والله محوّل الأحوال. فبكى الناس وتلاطم المجلس بأهله وعلا الضجيج ومات في المجلس خمسة رجال وأسلم من الصابئين والنصارى واليهود ثمانية ءالاف رجل أو أكثر وتاب أربعون ألف رجل".

قال الرافعي أيضًا: "أخبرني الشيخ العدل أبو موسى الحدادي قال أخبرني الشيخ أبو محمد جمال الدين الخطيب أن بنتًا في الحدادية يقال لها فاطمة، كانت أمها لا يولد لها ولد، فنذرت إن رزقها الله ولدًا أن تجعله ما دام حيًا في خدمة من يَرِد الحدادية من فقراء سيدنا الشيخ أحمد الرفاعي، فبعد مدة يسيرة قدَّر الله فحملت، فلما وضعت وأتت بالمولود إذا هي بنت حدباء فلما كبرت وءان أوان مشيها إذا بها عرجاء، ثم سقط شعر رأسها لعاهة، ففي يوم من الأيام حضر السيد أحمد الكبير رضي الله عنه الحدادية فاستقبله أهلها، والعرجاء فاطمة بين الناس مع النساء وبنات الحدادية يستهزئن بها، فلما أقبلت على سيدنا الشيخ أحمد قالت: أي سيدي أنت شيخي وشيخ والدتي وذخري أشكو إليك ما أنا فيه لعل الله ببركة ولايتك وقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعافيني مما أنا فيه فقد زهقت [تعبت] روحي من استهزاء بنات الحدادية فأخذته الشفقة عليه وبكى رحمة لحالها ثم ناداها: أدني مني. فدنت منه فمسح بيده المباركة على رأسها وظهرها ورجليها فنبت بإذن الله شعرها وذهب احديدابها وتقومت رجلاها وحسن حالها".


كرامته بتقبيل يد النبي صلى الله عليه وسلم:

قال الرافعي في كتابه الذي ألفه في الثناء على الإمام الرفاعي فسماه "سواد العينين في مناقب الغوث أبي العلمين" ما نصه: "أخبرني شيخنا الإمام الحجة القدوة أبو الفرج عمر الفاروثي الواسطي قال: حج سيدنا وشيخنا السيد أحمد الرفاعي عام خمس وخمسين وخمسمائة فلما وصل إلى المدينة وتشرف بزيارة جده عليه الصلاة والسلام وقف تجاه حجرة النبي صلى الله عليه وسلم ووقفنا خلف ظهره فقال: السلام عليك يا جدي فقال له عليه أفضل صلوات الله: وعليك السلام يا ولدي، فتواجد لهذه النغمة [أي لحسن الصوت] وقال منشدًا:

في حالة البعد روحي كنت أرسلها *** تُقبّل الأرض عني وهي نائبتي
وهذه دولة الأشباح قد حضرت *** فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي

فمدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يده الشريفة من قبره الكريم فقبلها في ملأ يقرب من تسعين ألف رجل، والناس ينظرون يد النبي صلى الله عليه وسلم ويسمعون كلامه، وكان فيمن حضر الشيخ حياة بن قيس الحراني والشيخ عبد القادر الجيلي والشيخ عدي الشامي وشاهدوا ذلك هم وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين" اهـ.

والرافعي المذكور وصفه التاج السبكي في "طبقات الشافعية" بقوله: "كان الإمام الرافعي متضلعًا في علوم الشريعة تفسيرًا وحديثًا وأصولاً مترفعًا على أبناء جنسه في زمانه نقلاً وبحثًا وإرشادًا وتحصيلاً. وأما الفقه فهو فيه عمدة المحققين وأستاذ المصنفين، كأنما كان الفقه ميتًا فأحياه وأنشره وأقام عماده بعدما أماته الجهل فأقبره".

وكذلك ترجمه [أي الرافعي] صاحبُ مختصر تلخيص الأسدي في طبقات الشافعية وأثنى عليه ثناءً عظيمًا.

وقد روى هذه الحادثة المشهورة الجلال السيوطي في رسالته التي ألفها في الثناء على السيد أحمد الرفاعي رضي الله عنه سماها "الشرف المحتم فيما منَّ الله به على وليد السيد أحمد الرفاعي من تقبيل يد النبي صلى الله عليه وسلم" قال ما نصه: "حدثنا شيخنا شيخ الإسلام الشيخ كمال الدين إمام الكاملية عن شيخ مشايخنا الإمام العلامة الهمام الشيخ شمس الدين الجزري عن شيخه الإمام الشيخ زين الدين المراغى عن شيخ الشيوخ البطل المحدُ الواعظ الفقيه المفسر الإمام القدوة الحجة الشيخ عز الدين أحمد الفاروثي الواسطي عن أبيه الأستاذ الأصيل العلامة الجليل الشيخ أبي إسحاق إبراهيم الفاروثي عن أبيه إمام الفقهاء والمحدثين وشيخ أكابر الفقراء "الصوفية" والعلماء العاملين الشيخ عز الدين عمر أبي الفرج الفاروثي الواسطي قُدّست أسرارهم أجمعين قال: "كنت مع شيخنا ومَفْزعنا [ملجئنا] وسيدنا أبي العباس القطب الغوث الجامع الشيخ أحمد الرفاعي الحسيني رضي الله عنه عام خمس وخمسين وخمسمائة، العام الذي قدر الله له فيه الحج، فلما وصل مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف تجاه حجرة النبي عليه الصلاة والسلام وقال على رءوس الأشهاد: السلام عليك يا جدي، فقال له عليه الصلاة والسلام: وعليك السلام يا ولدي، سمع ذلك كل من في المسجد النبوي فتواجد سيدنا السيد أحمد وأرعد واصفر لونه وجثا على ركبتيه ثم قام وبكى وأنّ طويلاً وقال يه جداه:

في حالة البعد روحي كنت أرسلها *** تُقَبّلُ الارض عني وهي نائبتي
وهذه دولة الأشباح قد حضرت *** فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي

فمدَّ له رسول الله صلى الله عليه وسلم يده الشريفة العطرة من قبره الأزهر المكرم فقبلها في ملأ يقرب من تسعين ألف رجل، والناس ينظرون اليد الشريفة، وكان في المسجد مع الحجاج الشيخ حياة بن قيس الحراني والشيخ عبد القادر الجيلي المقيم ببغداد والشيخ خميس والشيخ عدي بن مسافر الشامي وغيرهم نفعنا الله بعلومهم وشرفنا معهم برؤية اليد المحمدية الزكية، وفي يومها لبس الشيخ حياة بن قيس الحارني خرقة السيد أحمد الكبير واندرج في سلك أصحابه".

ومن ثم ساق السيوطي إسناد هذه القصة من عدة طرق أخر ثم قال: "ومن المعلوم أن هذه المنقبة المباركة بلغت بين المسلمين مبلغ التواتر وعلت أسانيدها وصحت رواياتها واتفق رواتها، وإنكارها من شوائب النفاق معاذ الله. ثم ذكر ردًا على سؤال: هل يعني ذلك أن الرفاعي دخل في تعداد الصحابة لرؤيته يد النبي صلى الله عليه وسلم وكذا الزوار؟ فأجاب: والأصح عدم الدخول. وبهذا قال السخاوي وغيره لأن الحجة استمرار حياته عليه الصلاة والسلام وهذه الحياة أخروية ليست بدنيوية لا تتعلق بها أحكام الدنيا".

كما أن اجتماع النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء بعد وفاتهم في الأقصى ليلة الإسراء لا يعني دخولهم في تعداد الصحابة.

والمعلوم أن السيوطي هذا أجيز بالإفتاء والتدريس حتى بلغ أسماء شيوخه إجازة وقراءة وسماعًا واحدًا وخمسين، وصنّف المصنفات الكثيرة حتى بلغت ما يقارب خمسمائة مؤلف فاشتهرت مؤلفاته في أقطار الأرض فتأمل.


زهده وتواضعه:

كان الإمام أحمد الرفاعي الكبير رضي الله عنه متواضعًا في نفسه خافضًا جناحه لإخوانه غير مترفع وغير متكبر عليهم، وروي عنه أنه قال: "سلكت كل الطرق الموصلة فما رأيت أقرب ولا أسهل ولا أصلح من الافتقار والذل والانكسار". فقيل له: يا سيدي فكيف يكون. قال: "تعظم أمر الله، وتشفق على خلق الله وتقتدي بسنة سيدك رسول الله صلى الله عليه وسلم". وكان رضي الله عنه يخدم نفسه، ويخصف نعله، ويجمع الحطب بنفسه ويشده بحبل ويحمله إلى بيوت الأرامل والمساكين وأصحاب الحاجات، ويقضي حاجات المحتاجين ويقدم للعميان نعالهم ويقودهم إذا لقي منهم أناسًا إلى محل مطلوبهم، وكان رضي الله عنه يمشي إلى المجذومين والزمنى ويغسل ثيابهم ويحمل لهم الطعام، ويأكل معهم ويجالسهم ويسألهم الدعاء، وكان يعود المرضى وإذا سمع بمريض في قرية ولو على بعد يمضي إليه ويعوده. وكان شفيقًا على خلق الله يرأف باليتيم. ويبكي لحال الفقراء ويفرح لفرحهم، وكان يتواضع كل التواضع للفقراء.

وقد قال مشايخ أهل عصره: "كل ما حصل لابن الرفاعي من المقامات إنما هو من كثرة شفقته على الخلق وذل نفسه رضي الله عنه". وكان رضي الله عنه يعظم العلماء والفقهاء ويأمر بتعظيمهم واحترامهم ويقول: "هؤلاء أركان الأمة وقادتها".


فضل الرفاعية:

ثم إن ما عُرف عن أتباع الشيخ أحمد الرفاعي رضي الله عنه من دخول الأفران الحامية ورقود بعضهم في بعض جوانب الفرن والخباز يخبز في الجانب الآخر، ودخولهم النار العظيمة ونحو ذلك فإنها ليست أحوالاً شيطانية كما يقول نفاة التوسل وابن تيمية الحراني بل هي أحوال سامية.

وقد ثبت أن إبراهيم الخليل عليه السلام ما أثرت فيه تلك النار العظيمة وهي معجزة له، والقاعدة أن كل معجزة لنبي صح أن تكون كرامة لولي إلا ما كان من خصائص النبوة، وهذا أبو مسلم الخولاني اشتهر عنه أنه رماه الأسود العنسي المتنبي في النار ثلاث مرات فلم تؤثر فيه وهذه كرامة له. ثم بسبب مشايخ الرفاعية أسلم السلطان أحمد بن هولاكو ملك التتار.

واعلم يا أخي المسلم أن ابن الملقن ذكر في أواخر كتابه "طبقات الأولياء" قصيدة في مدح الإمام الرفاعي والرفاعية فقال:

إن الرفاعيين أصحاب الوفا *** والجود للعافي المُلِمِّ المزْملي
كم فيهم من عارف ذي همة *** أو صادق عن عزمه لم يفشلِ

ومن مزايا هذه الطريقة على غيرها مكافحة عقيدة الوحدة وعقيدة الحلول أكثر من غيرهم من أهل الطرق. وقد أخذ أهلها ذلك عن شيخ الطريقة الشيخ أحمد الرفاعي ثم اتبعه كل خلفاء طريقته إلى هذا العصر، فلهم بذلك فضل على غيرهم لأن هاتين العقيدتين من أخبث العقائد الكفرية. ثم إن الإمام الرفاعي رضي الله عنه لم يقتصر على إنكار اعتقادهما بل ينكر اللفظ بهما ولو من غير اعتقاد معنى الحلول والوحدة.


الإمام الرفاعي يحارب التشبيه:

قال الإمام أبو القاسم الرافعي رحمه الله عن الإمام الرفاعي أنه قال في الحلاج: "ما أراه رجلاً عارفًا ما أراه شرب ما أراه سمع إلا رنة أو طنينًا فأخذه الوهم من حال إلى حال من ازداد قربًا ولم يزدد خوفًا فهو ممكور يذكرون عنه أنه قال أنا الحق، أخطأ بوهمه لو كان على الحق ما قال أنا الحق".

وقال الإمام الرفاعي رضي الله عنه: "لفظتان ثلمتان في الدين [أي ثغرة في الدين، هدم للدين] القول بالوَحدة والشطح المجاوز والشطح المجاوز حدَّ التحدث بالنعمة" فقوله هذا صريح في أن القول بالوحدة المطلقة مهلك لصاحبه لأن هذه الفرقة تعتقد أن هذا العالم هو الله.

وقال الإمام الرافعي رحمه الله: "وكتب رضي الله عنه [أي الإمام الرفاعي] كتابًا إلى الشيخ الاجلّ عبد السميع الهاشمي الواسطي قدس الله سره يوصيه به قال فيه: إياك والقول بالوحدة التي خاض بها بعض المتصوفة، وإياك والشطح".

وقال أحمد الرفاعية ممن كان في أوائل القرن الرابع عشر الهجري وهو الشيخ العالم أبو الهدى الصيادي رحمه الله في رسالة له ما نصه: "تنبيه: من قال: "أنا الله" أو "لا موجود إلا الله" أو "ما في الوجود إلا الله" أو "هو الكل" فإن كان في عقله حُكِمَ بردته".


تلاميذه والمنتسبون إليه بالطريقة:

كثُر تلاميذ الإمام أحمد الرفاعي الكبير في حياته وبعد مماته حتى قال ابن المهذب في كتابه "عجائب واسط": بلغ عدد خلفاء السيد أحمد الرفاعي رضي الله عنه وخلفائهم مائة وثمانين ألفًا حال حياته، ومن عظيم فضل الله على السيد الجليل أحمد الرفاعي أنه لم يكن في بلاد المسلمين مدينة أو بليدة أو قطر تخلو ربوعه وزواياه من محبيه وتلامذته العارفين المرضيين.

وكان غالب الأقطاب المشهورين في الأقطار الإسلامية ينتهون إليه من طريق الخرقة على الغالب لذلك لُقب الإمام أحمد رضي الله عنه بشيخ الطرائق وأستاذ الجماعة والشيخ الكبير إلى ءاخر ما هنالك من الألقاب.

ومن الذين ينتمون إليه: الشيخ الحافظ عز الدين الفاروثي، والشيخ أحمد البدوي، والعارف بالله أبو الحسن الشاذلي، والشيخ نجم الدين الأصفهاني شيخ الإمام الدسوقي، والشيخ أحمد علوان اليماني، والحافظ جلال الدين السيوطي، والشيخ عقيل المنبجي، والشيخ علي الخواص، وغيرهم كثيرون من الاقطاب والعلماء ومشايخ الطرق.


كتبه ومؤلفاته:

للسيد الإمام أحمد الرفاعي مؤلفات كثيرة أكثرها فقد في موقعة التتار، ومما وصل إلينا من كتبه: "حالة أهل الحقيقة مع الله" و"الصراط المستقيم" و"كتاب الحكم شرح التنبيه [فقه شافعي]" و"البرهان المؤيد" و"معاني بسم الله الرحمن الرحيم" و"تفسير سورة القدر" و"البهجة" و"النظام الخاص لأهل الاختصاص" و"المجالس المحمدية" و"الطريق إلى الله".


وفاته رضي الله عنه:

عندما بلغ الإمام أحمد الرفاعي السادسة والستين من عمره مرض بداء البطن [الإسهال الشديد] وبقي رضي الله عنه مريضًا أكثر من شهر، وكان مع خطورة مرضه يتحمل الآلام الشديدة بدون تأوه أو شكوى، مستمرًا وثابتًا على تأدية الطاعات والعبادات التي اعتاد عليها قدر استطاعته إلى أن وافته المنية يوم الخميس الثاني عشر من شهر جمادى الأولى سنة خمسمائة وثماني وسبعين هجرية، ودفن في قبة جده لأمه الشيخ يحيى النجاري في بلدة أم عبيدة، وكان يومًا مهيبًا. رحم الله الإمام أحمد الرفاعي وأعلى مقامه في الجنة وأمدنا بأمداده وثبتنا على طريقته الشريفة.



العارف بالله
الشيخ أبو بكر بن عربي



ترجمته:

الشيخ الأكبر محيى الدين أبو بكر محمد بن علي بن محمد بن عربي الحاتمي الطائي الأندلسي. ومحيى الدين لقب له بناءً على ما درج في عصره من تلك الألقاب كضياء الدين وغيره،والطائي نسبة إلى قبيلة طيء وهي قبيلة عربية مشهورة منها حاتم الطائي المشهور بالكرم، وعليه فالشيخ ابن عربي على هذا هو عربي الأرومة واضح النسب سليل عروبة، وقد أطلق عليه تسمية الشيخ الاكبر لما امتاز به من سعة العلوم وكثرة المعرفة في شتى مجالات العلم حتى صار علمًا تشد إليه الرحال ويقصد للاستفادة منه.

ولد الشيخ ابن عربي سنة خمسمائة وستين للهجرة في مرسيه من بلاد الأندلس ومن ثم انقتل إلى إشبيلية من بلاد الأندلس أيضًا وتنقل بعد ذلك بين البلاد فزار المغرب وكتب فيها الإنشاء لبعض الامراء ثم إلى مصر.

ومن ثم قام برحلة فزار الشام وبلاد الروم والعراق والحجاز فنشأ على الرحلة والتنقل بين البلاد مسافرًا في طلب العلم والاجتماع بالاكابر من أئمة زمانه وعلماء عصره، ما أكسبه مكانة علمية مرموقة وخبرة عظيمة، وكان في أثناء زيارته لمصر عمل بعضهم على إراقة دمه فحبس مدة ثم خرج بعد ذلك ناجيًا بمساعدة علي بن فتح البجائي، ومن ثم استقر أخيرًا في بلاد الشام وفي دمشق تحديدًا حتى وافاه الأجل.


مناقبه:

لا نبالغ لو قلنا إن الشيخ الأكبر ابن عربي رحمه الله من كبار أئمة عصره علمًا وفقهًا وتصوفًا وتأليفًا على تعدد أغراض ومجالات العلم، زار الحجاز وسمع بمكة من زاهر بن رستم ومر في أثناء رجلته ببغداد ثم استقر في دمشق وسمع فيها من ابن الحرستاني، وكان سمع في موطنه قبلاً من ابن بشكوال وابن صاف وكان مع ذلك ذكيًا مفرط الذكاء جليلاً كثير العلم واسع المعرفة، وصفه الذهبي في السير في بداية ترجمته فقال ما نصه: "العلامة صاحب التآليف الكثيرة أبو بكر محمد بن علي...".

وقد وصفه المستشرق بروكلمان بأنه مؤلف من أخصب المؤلفين عقلاً وأوسعهم خيالاً، وذكر له نحوًا من مائة وخمسين مصنفًا لا تزال باقية ما بين مخطوط ومطبوع.

ومهما يكن من التضارب بين الكُتّاب في عدد مؤلفات ابن عربي وأحجامها فليس هناك شك في أن هذا الرجل كان من أغزر الكُتّاب المسلمين علمًا وأوسعهم أفقًا، وكان مع ذلك زاهدًا متفردًا متعبدًا موحدًا لزم التصوف طوال حياته فلم يخض في الفلسفة والرياضة ومشاكل الفلاسفة، فألف وأجاد وتأثر به وبكتاباته أهل التصوف، إلا أن كتبه تلك والتي من أشهرها "الفتوحات المكية" و"فصوص الحكم" لم تخلُ من الدس، بل حُشِيَت بالكثير مما يبرأ منه الشيخ ابن عربي على جلالة قدره وعلو شأنه، فنسأل الله الثبات على الحق وحسن الحال.


تبرئة ابن عربي مما ينتسب إليه:

اعلم أن الشيخ ابن عربي مبرأ مما ينسب إليه من الشطحات والطامات والقول بالوحدة المطلقة وإن ادعى بعض أنه إمام هذا المذهب، بل إننا ننفي عنه ذلك لأنه ما تجده من الدس في كتب ابن عربي مما فيه من الضلال، تجد معه أيضًا وفي نفس المؤلف المنسوب إليه كلامًا واضحًا وصريحًا في التنزيه وبيان أن الله واحد لا يحل في شيء كما يلاحظ ذلك بوضوح في "فصوص الحكم" فإنك تجد فيه من التناقضات ما يذهل العقل، فقد تجد في موضع كلامًا كفريًا، ثم تجد في مبحث ءاخر أقوالاً خالصة في التنزيه والتوحيد حتى يروى عنه أنه قال: "من قال بالحلول فدينه معلول" وعليه يبعد بعد هذا أن يكون من أهل مذهب الوحدة المطلقة الذين يقولون بوحدة الوجود لأن من أبشع الكفر اعتقاد حلول الله في العالم، وهذا معنى القول بوحدة الوجود الذي لا يضح نسبته لابن عربي وإن نسب بعض المؤلفين ذلك إليه أو غير هذا المذهب من شطحات كما يذكر الذهبي في سيره ثم يقول: "قلت إن كان محيي الدين رجع عن مقالاته تلك قبل الموت فقد فاز وما ذلك على الله بعزيز" وهذا الكلام من الذهبي لا يعتد له في إثبات ما نسب إلى ابن عربي حتى في كتاب "فصوص الحكم" الذي يقول الذهبي فيه: "ولا ريب أن كثيرًا من عباراته له تاويل إلا كتاب فصوص الحكم" اهـ. وردُّنا على ذلك أن جميع ما ينسب إلى الشيخ من ضلالات مهلكات إنما دس عليه وذلك لأمرين: أحدهما أن الشعراني قال إنه اطلع على النسخة الأصلية فوجدها خالية من هذه الكفريات وأن صاحب "المعروضات المزبورة" أحد الفقهاء المشهورين في أهل المذهب الحنفي قال: "تيقنا أن اليهود دسوا عليه في "فصوص الحكم" والسبب الثاني أن الحافظ ابن حجر قال في "لسان الميزان" في ترجمة ابن عربي اعتدَّ به حفاظ عصره كابن النجار وابن الدبيثي ويؤيد ذلك أن في "الفتوحات المكية" عبارات صريحة في إبطال القول بعقيدة الحلول والاتحاد وفيه إثبات التنزيه الصريح لله عز وجل".

وعليه فقد ذكر الشيخ أحمد بن حجر الهيتمي أيضًا في كتاب "الفتاوى الحديثية" عند مطلب في الكلام عن ابن عربي ما يُثبت أن اليهود دسوا عليه بالفعل فقال ابن حجر: "دس عليه من سينتقم الله منه" وعليه أخي المسلم إذا عرفت هذا المستند في تبرئة ابن عربي فالزمه ودع طرق الغي وإياك والخوض في لجج بحر مهلك.


جملة من مصنفاته:

لما كان الشيخ ابن عربي قد نال درجة عالية في العلم والتبحر فيه، كان من البديهي أن ينعكس ذلك على حياته فأفاض بكثر من المؤلفات التي قيل إنها ربت على أربعمائة كتاب ورسالة كما ذكر صاحب الأعلام، نذكر منها مثلاً: "القطب" و"النقباء" و"مراتب العلم الموهوب" و"كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدب" و"الفتوحات المكية" و"فصوص الحكم في التصوف" و"فتح الذخائر".

وفي الشعر له ديوان مطبوع، ولكننا ننبه إلى أنه قد دخل إلى أكثر كتبه الكذب والدس، ونظرًا كذلك لعلو أسلوبه في الكتابة بما لا تستوعبه عقول العامة، ننصح بتجنب تلك الكتب لمن لا يميز بين الغث والسمين ولم يتلقَ كثيرًا في علم العقيدة.


وفاته:

ولم يزل الشيخ ابت عربي يؤلف ويحرر ويدون دون ملل حتى أواخر أيامه حيث بلغ الثمانين، فجاءته المنية في دمشق في بيت ابن الذكي حيث كان يحيط به أهله وأتباعه من المشايخ الصوفية وذلك ليلة الجمعة في الثامن والعشرين من ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين وستمائة من الهجرة وقام بتغسيله ابن الذكي، ومن ثم حمله مع اثنين من مريديه هما ابن عبد الخالق وابن النحاس إلى خارج دمشق حيث دفنوه في الصالحية شمالي المدينة بسفح قاسيون ضمن مقبرة خاصة بأسرة ابن الذكي وقتها وما زال قبره حتى اليوم مزارًا للناس.



تعطير الأنام
في أخبار بعض الخلفاء
والحكام


عمر بن عبد العزيز
الخليفة الراشد



ترجمته:

هو أبو جعفر عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن العاص بن أمية بن عبد شمس، أمه ليلى أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب. كان سليل الفاروق رضي الله عنه من جهة أمه ورث منه كثيرًا من شمائله الشماء، ومناقبه الغراء ومن إيثار الحق ومناصرة العدل والعفة والورع والتقوى.

ولد عمر بن عبد العزيز سنة إحدى وستين للهجرة وقيل سنة ثلاثة وستين للهجرة وكانت ولادته بالمدينة، كان يأتي عبد الله بن عمر وهو بعد غلام صغير لقرابة أمه منه، ثم يرجع إلى أمه فيقول: "يا أماه، فأنا أحب أن أكون كثل خالي". يريد عبد الله بن عمر. فتقول له: "أُعزب، أنت تكون مثل خالك" فلما كبر سار أبوه عبد العزيز بن مروان إلى مصر أميرًا عليها ثم كتب إلى زوجته أم عاصم أن تقدم عليه بولدها، فأتت عمها عبد الله بن عمر فأعلمته بكتاب زوجها إليها، فقال لها: "يا ابنة أخي هو زوجك فالحقي به"، فلما أرادت الخروج قال لها: "خلفي هذا الغلام عندنا يريد عمر فإنه أشبهكم بنا"، فخلّفته عنده، ولم تخالفه. فلما قدمت على عبد العزيز أخبرته بخبر عمر، فسُرّ بذلك وكتب إلى أخيه عبد الملك بن مروان يخبره بأمره، فكتب عبد الملك أن يُجدى عليه ألف دينار في كل شهر ثم قدم عمر على أبيه بعد ذلك فأقام عنده ما شاء الله.


علومه:

عُني أبوه بتربيته منذ نشأته، فكتب إلى صالح بن كيسان بالمدينة أن يتعاهده ويرعاه، وكان صالح يُلزمه الصلاة، فأبطأ يومًا عنها، فقال: "ما حبسك"، قال: كانت مُرجّلتي تسكن شعري، فقال: "بلغ بك حبك تسكين شعرك أن تؤثره على الصلاة". وكتب إلى أبيه بذلك، فبعث إليه عبد العزيز رسولاً فلم يبارحه حتى حلق شعره.

وقد روى الحديث وتلقى الفقه عن جماعة من الصحابة، منهم أنس بن مالك المتوفى سنة تسعين للهجرة وقد جاوز المائة، رءاه عمر وروى عنه وصلى أنس خلفه، ومنهم عبد الله بن عمر بن الخطاب المتوفى سنة أربعة وسبعين للهجرة، وهو عم أمه كما قدمنا، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب المتوفى سنة ثمانين للهجرة، وتلقى من جماعة من كبار التابعين منهم سعيد بن المسيب المتوفى سنة أربع وتسعين للهجرة وهو رأس علماء التابعين وفقيههم، وعروة بن الزبير المتوفى سنة أربع وتسعين للهجرة، وسالم بن عبد الله بن عمر المتوفى سنة تسعة وتسعين للهجرة، وكان عمر بن عبد العزيز يقول: "لأن يكون لي مجلس من عبيد الله أحب إليّ من الدنيا وما فيها"، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري المتوفى سنة مائة وخمس وعشرين للهجرة، وقد كتب عمر بعد إلى الآفاق: "عليكم بابن الشهاب فإنكم لا تجدون أحدًا أعلم بالسنة الماضية منه".

على هؤلاء العلماء الجهابذة وعلى غيرهم من علماء المدينة تخرج عمر في علوم الدين حتى حذقها وصار فيها إمامًا ضليعًا مبرزًا، وقال فيه ميمون بن مهران المتوفى سنة مائة وسبع عشرة للهجرة: "ما كان العلماء عند عمر بن عبد العزيز إلا تلاميذ"، وقال: "عمر بن عبد العزيز معلم العلماء"، وقد حدَّث عن نفسه فقال: "لقد رأيتني وأنا بالمدينة غلام مع الغلمان ثم تاقت نفسي إلى العلم بالعربية والشعر فاصبت منه حاجتي". ولئن أُخذ على بعض الأمويين وقوع اللحن في قولهم، إلا أن عمر بن عبد العزيز لم يتعلق عليه أحد بلحن في قول، ومما يروى في هذا الصدد أن بشر بن مروان قال يومًا لغلام له، وكان عنده عمر بن عبد العزيز: "ادع لي صالحًا"، فقال الغلام: يا صالحًا، فقال بشر: "ألغ منها ألفًا" فقال له عمر: "وأنت فزد في ألفك ألفًا".


ولايته على المدينة:

وفي ربيع الأول سنة سبع وثمانين للهجرة ولاه الوليد بن عبد الملك المدينة فقدمها ونزل دار جده مروان بن الحكم، ودخل عليه الناس فسلموا، فلما صلى الظهر دعا عشرة من فقهاء المدينة: عروة بن الزبير، وعبد الله بن عتبة، وأبا بكر بن عبد الرحمن، وأبا بكر بن سليمان، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عامر بن ربيعة وخارجة بن زيد، فدخلوا عليه فجلسوا فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: "إني إنما دعوتكم لأمر تؤجرون عليه، وتكونن فيه أعوانًا على الحق، ما أريد أن أقطع أمرًا إلا برأيكم، أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحدًا يتعدى، أو بلغكم عن عامل لي ظلامة، فأحْرِجْ بالله على من بلغه ذلك إلا بلغني". لقد كانت هذه الكلمة الوجيزة هي الدستور الذي سنه لحكمه والنهج القويم الذي رام أن ينتهجه في ولايته، فاتخذ من هؤلاء الائمة الأعلام أعوانًا على الحق، يجعل أمره شورى بينهم ولا ينفذ حكمًا إلا باطلاعهم، وينشدهم الله أن لا يُزْوُوا عنه خبر شكاياه أو ظلامة من أحد من عماله أو من عامة الناس فلا غَرْوَ أن يسطر المؤرخون اسمه في صحيفة تاريخه.

ولي عمر المدينة وسار سيرة حسنة، وولى على قضائها أبا بكر محمد بن عمرة بن حزم، وعرف للعلماء حقهم وفضلهم فأولاهم ما هم أهله من الإكبار والإجلال، وظل عمر على ولايته المدينة حتى كانت سنة إحدى وتسعين للهجرة فضمت إليه ولاية مكة، ثم عزله الوليد سنة ثلاث وتسعين للهجرة، وكان سبب ذلك أن كتب عمر إلى الوليد يخبره بظلم الحجاج لأهل العراق واعتدائه عليهم، وبلغ ذلك الحجاج فكتب إلى الوليد: "إن من قبلي من مراق أهل العراق، أهل الشقاق، قد جلوا عن العراق، ولجأوا إلى المدينة ومكة، وإن ذلك وهن"، فكتب الوليد إلى الحجاج أن أشر علي برجلين، فكتب إليه بشير عليه بعثمان بن حيان وخالد بن عبد الله، فولى خالدًا مكة وعثمان المدينة وعزل عمر بن عبد العزيز، فخرج من المدينة فأقام بالسويداء.


خلافته:

ولي عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه الخلافة من سنة تسع وتسعين إلى مائة وواحد للهجرة، بعد وفاة الخليفة ابن عمه سليمان بن عبد الملك، فكان رجلاً زاهدًا في منصب الخلافة، متواضعًا لله تعالى، ومما جاء عن تواضعه أن شخصًا مدحه في وجهه فقال له: "يا هذا لو عرفت من نفسي ما أعرف منها ما نظرت في وجهي". وقد أخذ رضي الله عنه على عاتقه النظر في المظالم فردّها، وراعى السنن العادلة فاعادها، ومما يروى عن مالك بن دينار رضي الله عنه في عدل عمر بن عبد العزيز أنه قال: "لما وُلي عمر بن عبد العزيز رحمه الله قالت رعاة الشاة في ذروة الجبل: من هذا الخليفة الصالح الذي قد قام على الناس قيل لهم وما أعلمكم بذلك قالوا: إنا إذا قام على الناس خليفة صالح كُفّت الذئاب والأسد عن شياهنا".

ومما جاء أيضًا عن عدله بين الرعية ما رُويَ أنه ما مات رضي الله عنه حتى جعل الرجل يأتي بالمال العظيم فيقول: "اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء"، فما يبرح حتى يرجع بماله لا يجدون أحدًا يأخذه، قد اكتفى الناس في عهده، حتى قيل: "أغنى عمر بن عبد العزيز الناس".

وروي أن أعرابيًا قصد عمر بن عبد العزيز وكان فقيرًا فقال: "يا أمير المؤمنين جاءت بي إليك الحاجة وانتهت بي الفاقة والله سائلك عني يوم القيامة"، فاهتز عمر من خشية الله وقال: "أعد"، فأعاد، فنكّس رضي الله عنه رأسه وأرسل دموعه حتى بلّت الأرض، ثم أمر له بثلاثمائة، ولكل واحدة من بناته بمائة وكان عنده ثماني بنات وأعطاه بعد ذلك مائة وقال له: "هذه المائة أعطيتك من مالي إذهب فاستنفقها حتى تخرج صدقات المسلمين فتأخذ معهم".


ءاثاره الحميدة في البدع الحسنة:

ومما تجدر الإشارة إليه والتنويه به هو أنه رضي الله عنه سنَّ في الإسلام سنة حسنة وافقه عليها العلماء، لأنها كانت من جملة البدع الحسنة التي توافق الشرع ولا تخالفه، وهي تجويفه المحراب في المساجد، فهو أول من عمر المحراب، وهو أول من منع مسبة الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه على المنابر وأمر أن يقرأ قول الله تعالى: {إنَّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القُربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى يعظكم لعلكم تذكرون} [سورة النحل/ءاية:90]، إذ كان بنو أمية يأمرون بسب الإمام علي رضي الله عنه.

ومن أعماله الجليلة أيضًا أنه أبطل المكوس التي كان بنو أمية قد أخذوها من الناس بغير حق ورد الحق إلى أهله، وله اعمال كثيرة بالإضافة إلى شهرته وشهادات العلماء بفضله وصلاحه تؤكذ تقواه وورعه وخدمته للأمة الإسلامية.


أخلاقه:

كان عمر بن عبد العزيز كريم الشمائل، حميد السجايا، رفيع الخُلق فاضله، ولا نغالي إذا قلنا إنه كان يُعَدُّ في عصره مثال الرجل الكامل، إذ اجتمع له من مكارم الأخلاق وشريف الآداب ما لم يعرف لأحد من معاصريه، ولا غرو فقد كان كجده الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حتى بلغ في الشيم والأخلاق شأنًا عظيمًا.

كان عمر لا ينكث وعده ولا ينقض عهده، يعتقد الحق فيجاهد به ولا يتهيب فيه غضبة السلطان ونقمته، فقد أراده الوليد بن عبد الملك إبان خلافته أن يبايع لابنه عبد العزيز ويخلع أخاه سليمان من ولاية العهد، فقال له: "يا أمير المؤمنين إنا بايعنا لكما في عقدة واحدة فكيف نخلعه ونتركك".

وقد روي من الأخبار بمبالغته في التورع أنه حُمل إليه سلتان من الرطب، فقال: علام جيء بهما قيل: "على دواب البريد" قال: "فما جعلني الله أحق بدواب البريد من المسلمين أخرجوهما فبيعوهما واجعلوا ثمنهما في علف دواب البريد"، فغمز ابن أخ عمر بن عبد العزيز الرسول وقال له: "اذهب فإذا قامتا على ثمن فخذها لي"، فأخرجتا إلى السوق فقوّمتا بأربعة عشر درهمًا، فجاء بهما الرسول إلى ابن أخيه فاشتراها، فأعطاه ثمنهما، وقال: "اذهب بهذه الواحدة [أي إحدى السلتين إلى أمير المؤمنين]، وحبس لنفسه الأخرى، فأتى عمر بها فقال: "ما هذا" فأخبره الخبر فقال: "الآن طاب لي أكله"، وألقى ثمن السلتين في بيت المال.

وقال يومًا لرجل: "من سيد قومك" قال: أنا، قال: "لو أنك كذلك لم تقله". وجعل شعاره الزهد في الدنيا والإعراض عن متعتها الزائلة، قال مالك بن دينار: "الناس يقولون مالك بن دينار زاهد، إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز، أتته الدنيا فتركها".


أمره بتدوين الحديث:

كان الناس منذ بدء الدعوة المحمدية يعتمدون في الحديث الشريف على الحفظ والاستظهار، فلما كثرت الغزوات واتسعت الفتوح ومات من حملة الحديث من مات، وتفرق باقيهم في البلاد وكان عند كل منهم شيء من الحديث، وقد ينفرد بعضهم منه بما لم يسمعه سواه، وقل الضبط وكاد يلتبس الباطل بالحق، مست الحاجة إلى تدوينه، فكان أول من امر بتدوين الحديث عمر بن عبد العزيز إبان خلافته، إذ رأى أن في تدوينه حفظًا له وإبقاء عليه.

جاء في "فتح الباري" في باب كتابة العلم: "وأول من دوّن الحديث ابن شهاب الزهري على رأس المائة، بأمر من عمر بن عبد العزيز، ثم كثر التدوين والتصنيف، وحصل بذلك خير كثير". وجاء في متن البخاري على هامش "الفتح" في باب: كيف يُقبض العلم: "وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم": "انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء".

وقال في "الفتح": وقد رويت هذه القصة بلفظ: "كتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق: انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه".


وفاته:

ولما حضرت عمر بن عبد العزيز الوفاة دخل عليه مسلمة بن عبد الملك فقال له: "يا أمير المؤمنين، إنك فطمت أفواه ولدك عن هذا المال، وتركتهم عالة، ولا بد من شيء يصلحهم، فلو أوصيت بهم إليّ أو إلى نظرائي من أهل بيتك، لكفيتك مؤونتهم إن شاء الله"، فقال عمر: "أجلسوني"، فاجلسوه فقال: "أما ما ذكرت من أني فطمت أفواه ولدي عن هذا المال وتركتهم عالة، فإني لم أمنعهم حقًا هو لهم ولم أكن لاعطيهم حقًا هو لغيرهم، وأما ما سألت من الوصاية إليك أو إلى نظرائك من أهل بيتي، [فقال فيما معناه] فإني أكِلهم إلى الله الذي أنزل الكتاب وهو يتولى الصالحين، وإنما بنو عمر أحد رجلين: رجل اتقى الله فسيجعل الله له من أمره يسرًا ويرزقه من حيث لا يحتسب، ورجل عصى الله فلن أكون أول من أعانه بالمال على معصيته، ادعوا لي بنيَّ. وهم يومئذ بضعة عشر ذكرًا. فجعل يصعد بصره فيهم حتى اغرورقت عيناه بالدموع، ثم قال: "إني مليت رأيي بين أن تستغنوا ويدخل أبوكم النار، وبين أن تفتقروا ويدخل الجنة فكان أن تفتقروا ويدخل الجنة أحب إليه من أن تستغنوا ويدخل النار، قوموا يا بني عصمكم الله ورزقكم"، قالوا فما احتاج أحد من اولاد عمر ولا افتقر.

وتوفي رحمه الله في رجب سنة مائة وواحد للهجرة وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر، ومات وهو ابن تسع وثلاثين سنة وأشهر في محلة يقال لها: "دير سمعان" بمدينة حمص.

رحمه الله ونفعنا ببركاته.




هارون الرشيد
الخليفة الورع النقي




ترجمته:

هو الخليفة الخامس من الخلفاء العباسيين هارون الرشيد بن محمد المهدي رضي الله عنه، بويع له بالخلافة بعد موت أخيه الهادي سنة مائة وسبعين هجرية، وولد له ولده المأمون، فكانت ليلة مات فيها خليفة، وولّي خليفة، وولد خليفة، أمه الخيزران أم الهادي وهي أم الخلفاء العباسيين.


صفته وأخلاقه وحياته:

كان هارون الرشيد رحمه الله أبيض، طويلا، جميلاً، جسيمًا، قد خطه الشيب، وهو من أجلّ ملوك الأرض، كريمًا سخيًا يتصدق من خالص ماله كل يوم بألف درهم وكان يحب العلم والعلماء. حُكي أن أبا معاوية الضرير قال: أكلت مع الرشيد يومًا فصبَّ على يديّ رجل لا أعرفه، ثم قال الرشيد: أتدري من صبَّ على يديك قلت: لا، قال: أنا إجلالاً للعلم.

اجتمع للرشيد ما لم يجتمع لغيره، وزراؤه البرامكة، وقاضيه أبو يوسف رحمه الله، وشاعره مروان بن أبي حفصة، ونديمه العباس بن محمد بن عمر أبيه، وزوجته زبيدة صاحبة الخيرات والمكرمات التي جرت الماء إلى أرض عرفة عقب رؤية رأتها، وحاجبه الفضل بن الربيع من أبهى الناس وأعظمهم، في أيامه اصطنعت الساعة، وهو الذي أهدى الساعة الشهيرة إلى شارلمان ملك فرنسا وقتئذ. ومن فضائله أنه كان يغزو عامًا ويحج عامًا، وءاخر حَجَّة حجها ماشيًا عليه رحمات الله.

أما ما يذكره بعض المؤرخين والقصاصين من أنه كان يتعاطى المنكرات والمسكرات، وأنه كان ينهمك في اللهو واللذات والشهوات، وما يذكرونه عن أبي النواس الحسن بن هانئ من الحكايات والخزعبلات مع الرشيد فمله كذب لا أصل له، ولا يجوز نقله والتكلم به إلا لبيان أنه كذب ودس وتشويه للتاريخ الإسلامي، وهذا كثير في كتب التاريخ. وانظر أيها المصنف إلى كتاب "الخراج" الذي ألفه أبو يوسف القاضي رحمه الله لهارون الرشيد تعرف وتتحقق مقام الرشيد في العلم والدين.


رؤيته للرسول صلى الله عليه وسلم في المنام:

لما ولي هارون الرشيد الخلافة رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال له: "إن هذا الأمر قد صار إليك فاغز وحُجّ ووسّع على أهل الحرمين"، فجهز الجيوش وغزا في أطراف بلاد الروم وظفر وحج بالناس ماشيًا، وفرّق في الحرمين مالاً كثيرًا، فعل ذلك كله في عام واحد.


بكاؤه من خشية الله:

دخل ابن السماك على هارون الرشيد يومًا فاستسقى الرشيد، أي طلب الماء، فأتى بكوز فلما أخذه قال له ابن السماك: على رسلك يا أمير المؤمنين، لو منعت هذه الشربة بكم تشتريها قال: بنصف ملكي، قال: اشرب هنأك الله، فلما شرب قال: أترى لو منعت خروجها من بدنك بماذا كنت تشتري خروجها، قال: بنصف ملكي الآخر، قال: إنَّ ملكًا قيمته شربة ماء لجدير أن لا يتنافس فيه. فبكى الرشيد رحمه الله تعالى.

ولقد حُكي عنه أنه انتقى أكفانه وكان ينظر إليها ويقول: {ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه} [سورة الحاقة/ءاية:28-29].


شهادة هارون الرشيد لأبي حنيفة:

نشأ أبو يوسف القاضي رحمه الله يتيمًا وصحب أبا حنيفة وتعلم منه، وطالت صحبته لأبي حنيفة على أمه، مع إعراضه عن تعلم حرفة يعيش بها، فحضرت عند أبي حنيفة وعاتبته على ذلك فقال لها: قري عينًا، ها هو ذا يتعلم أكل الفالوذج بدهن الفستق، ولما كبُر وصار قاضي القضاة وأكله عند الرشيد ذُكر ذلك للرشيد، فقال الرشيد: "إنَّ أبا حنيفة كان ينظر بنور الله".


وفاته رحمه الله:

توفي هارون الرشيد في الغزو بطوس من بلاد خراسان وبها دفن في ثالث جمادى الآخرة، سنة ثلاث وتسعين ومائة، عن خمس وأربعين من عمره. وقيل إنه راى في المنام أن يموت بطوس فبكى وقال: احفروا لي قبرًا فحفروا له، ثم حمل وهو مريض في قبة على جمل حتى نظر إلى القبر فقال: "يا ابن ءادم تصير إلى هذا" ثم أمر قومًا فنزلوا القبر وقرأوا فيه ختمة من القرءان وهو على شفير القبر، وعهد بالخلافة لولده الأمين وهو حينئذ ببغداد. وكانت مدة خلافته ثلاثًا وعشرين سنة وشهرين ونصف. فسبحان الحي الذي لا يموت، ورحم الله الخليفة الورع النقي هارون الرشيد.



نظام الملك الطوسي



ترجمته:

هو قوَّام الدين أبو علي الحسين بن علي بن إسحاق بن العباس نظام الملك الطوسي، ولد في بلدة صغيرة من نواحي طوس تسمى نوقان سنة أربعمائة وثمان للهجرة، وكان من أولاد الدهاقين [الفلاحين] الذين يعملون في البساتين، حفظ القرءان واشتغل في الفقه منذ صغره على مذهب الإمام الشافعي.

سمع الحديث باصبهان من محمد بن علي بن مهريزد الأديب، وأبي منصور شجاع بن علي بن شجاع، وسمع بنيسابور من الأستاذ أبي القاسم القشيري، وببغداد من أبي الخطاب بن البطر وغيره، وجلس للإملاء ببغداد في مجلسين أحدهما بجامع المهدي بالرصافة، والآخر بمدرسته. وكان يقول في ذلك: إني لست أهلاً لما أتولاه من الإملاء، لكني أريد أن أربط نفسي على قطار نقلة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولما ترك أباه رحل إلى غزنة حيث خدم في الديوان السلطاني، ثم ءال به الأمر إلى أن خدم أبا علي بن شاذان وزير السلطان ألبَ أرسلان الذي أحبه ورأى منه العفة والأمانة والتقوى، وأوصى به السلطان عند وفاته، فقربه السلطان إليه ونصبه وزيرًا مكانه. ولما مات ألب أرسلان سعى نظام الملك في توطيد المملكة لولده ملكشاه فنجح في ذلك، وصار الامر كله للوزير وليس للسلطان إلا اللباس والصيد. وبقي الأمر عشرين سنة أمضاها ما بين تدبير لشؤون المملكة وبناء المدارس وخدمة العلماء وفتح بلاد وقضاء حوائج الرعية من أصحاب الفاقات والمُتظلمين.


مناقبه:

ذكر ابن خلكان أن مجلس الوزير كان عامرًا بالفقهاء والصوفية، وأنه كان كثير الإنعام على الصوفية. ولما سئل عن سبب ذلك قال: أتاني صوفي وأنا في خدمة بعض الأمراء، فوعظني وقال: اخدم من تنفعك خدمته ولا تشتغل بمن تأكله الكلاب غدًا، فلم أعلم معنى قوله حتى شرب ذلك الأمير مُسكرًا وخرج في الليل، وكانت له كلاب كالسباع تفترس الغرباء، فوثبت عليه ومزقته، فعلمتُ أن الرجل كوشف بذلك، فأنا أخدم الصوفية لعلي أظفر بمثل ذلك.

وكثرت محاسن أفعاله وعمَّ عدله حتى تناقلت ذلك الالسنة، وصار بابه محط الرحال، وأخذ في بناء المساجد في البلاد، وبنى المدارس في بغداد وبلخ ونيسابور وهراة وأصبهان والبصرة ومرو وءامل طبرستان والموصل، وكثرت البيمارستانات [المستشفيات] التي بناها للمرضى.

هذا وقد غزا ففتح عدة بلاد من ديار بكر وربيعة والجزيرة وحلب ومنبج وبلاد ما وراء النهر.

ومن مناقبه أن ما توضأ إلا وأتى بنوافل الوضوء، وكان لا يقرأ القرءان مستندًا إعظامًا له، وكان يستصحب المصحف معه أينما توجه، وإذا أذن المؤذن أمسك عن كل شغل هو فيه وأجابه، وكان يصوم كل اثنين وخميس، ولا يمنع أحدًا من الدخول عليه في وقت الطعام ولا غيره، فقد ذكر تاج الدين السبكي أن امرأة دخلت عليه وهو قاعد للطعام فزجرها بعض الحُجاب، فالتفت الوزير إليه وقال له: إنما أريدكَ وأمثالك لإيصال مثل هذه، ثم أدخلها عليه ونظر في حاجتها.

وهو أول مَنْ فرَّق الإقطاعات على الجند، فكان يوزع لكل مقطع قرية أو نحوها كي لا تكون الأرض المقتطعة شاسعة بحيث يحدث عجز في عمارتها، فكان ذلك سببًا في عمارة العديد من البلدان وكثرة غلاتها.


خلقه:

لقد اشتهر الوزير نظام الملك بكثرة الحلم والإغضاء، فمما يروي عنه تاج الدين السبكي أن بعض أصحاب الحوائج قد رمى إليه رقعة ليوقعها، فأتت على دواته فأوقعتها وكان بها مداد كثير، فوقع المداد على عمامة الوزير وثيابه فاسودت، فلم يغضب لذلك ولم يتغير، فأخذ الرقعة ووقع عليها فتعجب الحاضرون من ذلك أشد العجب.

ومما يظهر تواضعه على ما به من الملك والسلطان، حوادث كثيرة منها ما حدث معه حين دعا إلى مأدبته عددًا من الأعيان والفقراء، وكان من بينهم رجل من الاعيان يدعى العميد خليفة، فجلس إلى جانبه رجل فقير مقطوع اليد اليسرى، فتنزه العميد من مؤاكلة هذا الفقير الذي يأكل بيساره، فقال الوزير نظام الملك للفقير: إن العميد رجل يستنكف عن مؤاكلتك، فتقدم إلي، فأجلسه إلى جانبه وجعل يؤاكله.


ثناء العلماء عليه:

لما جرى في الآفاق ذكره وصيته ومآثره ومكارمه، مدحه الكثيرون ممن عاصروه أو جاء بعده، من هؤلاء صاحب "طبقات الشافعية الكبرى" تاج الدين السبكي الذي قال في معرض ترجمته إياه: "الوزير الكبير العالم العادل أبو علي الملقب نظام الملك، وزير غالى الملوك في سمعتها وغالب الضراغم، وكانت له النصرة مع شدة منعتها، وضاهى الخلفاء في عطائها وباهى الفراقد كأنه فوق سمائها، ملك طائفة الفقهاء بإحسانه، وسلك في سبيل البر معهم سبيلاً لم يعهد قبل زمانه. هو أشهر من بنى لهم المدارس، وشيد أركانهم، لولاه خيف أن يكون كالطلل الدارس... طمس ذكره مَنْ كنا نسمع في المكارم من الملوك خبره، وغرس في القلوب شجرات إحسانه المثمرة، دولته كلها فضل وأيامه جميعها عدل، ووقته وابل مغدق، ومجلسه بجماعة العلماء مصباح مشرق...".

وفي خطبة "العُباب" لإمام الحرمين الجويني في مدح الوزير كلام عذب جميل جاء فيه: "ومؤيد الدين والدنيا، ملاذ الأمم، مستخدم للسيف والقلم، ومن ظَلَّ ظِلُّ الملك بيُمنِ مساعيه مدودًا، ولواء النصر معقودًا... وتحصنت المملكة بنصله، وتحسنت الدنيا بإفضاله وفضله، وعمَّ بره ءافاق البلاد، ونفى الغي عنها بالرشاد، وجلى ظلام الظلم عدله، وكسر قفار الفقر بذله، وكانت خطة الإسلام شاغرة وأفواه الخطوب فيها فاغرة، فجمع الله برأيه الثاقب شملها...".

أما أبو الوفاء ابن عقيل فكان من جملة من بالغ في مدحه والثناء عليه فقال في "الفنون" ما نصه: "أبهرت العقول سيرته جودًا وكرمًا وعدلاً، وأحيا لمعالم الدين بناء المدارس، ووقف الوقوف ونعش من العلم وأهله ما كان خاملاً مهملاً في أيام مَن قبله، وفتح طريق الحج وعمره وعمر الحرمين واستقام الحجيج، وابتاع الكتب بأوفر الأثمان وأدار الجريات للخُزّان، وكانت سوق العلم في أيامه قائمة والنعم على أهله دائرة".


وفاته:

بلغ الوزير الصالح نظام الملك الطوسي من الوهد والتقوى وأعمال البر وحسن الخلق مبلغًا عظيمًا جعل المسلمين عامتهم وعلماءهم وصوفيتهم يحبونه ويعظمونه ويُجلونه، فكان ذلك سببًا في أن حسدهُ السلطان ملكشاه ألب أرسلان السلجوقي وحاول غير مرة أن يُقيله من منصب الوزارة، ولكن قوة الوزير وهيبته وتقواه وكثرة مناصريه حالت دون ذلك، حتى كانت ليلة العاشر من شهر رمضان سنة أربعمائة وخمس وثمانين للهجرة، وهي الليلة التي كيد له فيها فأُرسل إليه غلام ديلمي، فدنا منه حتى ضربه بكسين في صدره، فحُمل إلى مضربه فمات شهيدًا سعيدًا حميدًا، وعمّر دار ءاخرته بما ادخره من تقوى الله والإعراض عن ملذات الدنيا وزخرفها.

ذكر ابن خلكان أن قاتل نظام الملك تعثر بأطناب الخيمة، فلحقه مماليك الوزير فقتلوه. وقيل إن السلطان ملكشاه قد دس عليه مَنْ قتله حسدًا له واستكثارًا لما بيده من الإقطاعات، وتعظيم الوزير للخليفة المقتدي بالله ومحبته الشديدة له. ولم يعش السلطان بعد مقتل الوزير نظام الملك سوى خمسة وثلاثين يومًا.

وقيا أيضًا إن تاج الملك أبا الغنائم المرزبان بن خسرو فيروز المعروف بابن دارست هو الذي خطط لقتله بسبب العداوة الشديدة بينهما، وكان كبير المنزلة عند السلطان ملكشاه، فلما قتل الوزير نصبه مكانه في الوزارة، فوثب عليه غلمان الوزير فقتلوه وقطعوه إربًا إربًا.

ورجح تاج الدين السبكي في طبقاته أن يكون رأس الباطنية ابن صباح هو الذي قتله، وذلك لأن ابن صباح قد أقام بقلعة الموت بقزوين وتملّكها وأظهر الزهد إغواءً للناس، فبلغ ذلك نظام الملك فأرسل له عسكرًا لمنعه من ضلاله وتحذير الناس منه، فأرسل إلى الوزير من يقتله فقتله.

توفي الوزير نظام الملك ليلة العاشر من رمضان لسنة أربعمائة وخمس وثمانين للهجرة مقتولاً على يد غلام ديلمي وقد قال أحد خدامه إن ءاخر كلامه كان: "لا تقتلوا قاتلي فإني قد عفوت عنه" وتشهد ومات رحمه الله فضج لموته الناس رحمات الله تعالى عليه.



السلطان يعقوب المنصوري



ترجمته:

إنه السلطان يعقوب المنصوري قدوة السلاطين وعمدة الزاهدين، ومن أبرز الملوك في بلاد المغرب، وقائدها أيام دولة الموحدين، بل هو النسر الطائر من الأندلس المفقود الذي حلق عاليًا، وألقى عصا الترحال على قمة شاهقة في البقاع الغربي في لبنان، حيث عُرف الموطن الذي نزل فيه ببلدة "السلطان يعقوب".

هو السلطان الكبير الملقب بأمير المؤمنين المنصور، واسمه يعقوب بن السلطان أبي يعقوب يوسف بن أبي محمد عبد المؤمن بن علي القيسي الكوفي، المغربي، المراكشي، وأمه أمة رومية اسمها سحر.

ولد سنة خمسمائة وأربع وخمسين للهجرة وتوفي سنة خمسمائة وست وتسعين للهجرة، وتتباين المصادر التاريخية في وفاته إلا أن ابم خلكان يؤكد رحلته إلى بلاد المشرق وإقامته في سهل البقاع للعبادة، وبخاصة في بلدتي عيتا الفار وحمّارة [المنارة]، وكان يأوي إلى قمة الجبل المجاور حيث شق قبره بحياته وسط الصخور، وهذا شائع ومعروف في القرية التي حملت اسمه.

وتضيف المصادر التاريخية إنه تولى الوزارة لأبيه فترة من الزمن تمرس فيها بأعباء الحكم مما خوّله بعد وفاة أبيه بإجماع شيوخ الموحدين أن يتولى مكانه، ولقبوه بأمير المؤمنين المنصور. وكانت عاصمة خلافته مراكش.

ويصفه ابن خلكان بأنه صافي السمرة، طويلاً، جميل الوجه، أفوه، أعين، ضخم الأعضاء، جهوري الصوت، من أصدق الناس حديثًا.


صفاته وجهاده:

كان السلطان يعقوب رحمه الله مثال الملك العادل التقي الورع الزاهد العابد.

رفع راية الجهاد، ونصب ميزان العدل، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وأقام الحدود حتى في أهله وعشيرته الأقربين، وكان يأخذ بيد الولاة [ينصحهم ويرشدهم في منع الظلم] الذين عيّنهم إذا ظلموا، فاستقامت الأمور في حياته، وعلت راية العدل، واتسعت الفتوحات، وخاض المعارك الشرسة ضد الفرنجة وكان النصر حليفه.

ومن أشهر معاركه معركة "الأرك" المشهورة التي جرت بينه وبين الفرنجة بقيادة ملكهم "الأذفونش" سنة خمسمائة وست وثمانين للهجرة. وتؤكد المصادر التاريخية انتصار السلطان يعقوب الانتصار الباهر، وأجمعت المصادر فيه على تقدير كمية الغنائم التي حازها المسلمون بحوالي مائة وستين ألف درع ومئات الآلاف من الدواب والأحمال الكثيرة من المؤن والجواهر وعشرات الألوف من الأسرى.

وكان وقع الهزيمة على الفرنجة كبير جدًا مما حمل "الأذفونش" على حلق رأسه وأقسم أنه لن يقرب النساء ولن ينام على فراش ما لم يثأر، ثم كانت الهدنة لمدة خمس سنوات بين الطرفين، وبعد انتهاء الهدنة أخذ الطرفان بالاستعداد الحربي للمعركة المقبلة سنة خمسمائة وتسعين للهجرة. وحين عزم على التوجه من مراكش إلى جزر الإفرنج لمحاربتهم أصيب السلطان يعقوب بمرض جعل الإفرنج وعلى رأسهم "الأذفونش" يطمعون في المسلمين، ويعتدون على الثغور، ويتهددون ويتوعدون، ومما زاد في الطين بلّة الرسالة التي بعثها "الأذفونش" إلى السلطان وهي من كتابة ابن الفخار يدعوه فيها إلى المنازلة، فقد أثارت الرسالة غضب السلطان الذي كتب على ظهر قطعة منها قول الله تعالى حكاية عن نبي الله سليمان: {فلنَأتِينَّهُم بجُنودٍ لا قِبَلَ لهم بها ولنُخْرِجَنَّهُمْ منها أذِلَّة وهم صاغرون} [سورة النمل/ءاية:37] والجواب ما سترى لا ما تسمع وكما يقول الشاعر:

ولا كتب إلا المشرفية عندنا *** ولا رسل إلا الخميس العرمرم

ثم زحف السلطان يعقوب بجيوشه الظافرة التي ما اعتادت أن تتراجع، ومُنِيَ "الأذفونش" وجيشه بهزيمة كبيرة جعلت جيوش المسلمين تتتبعهم فتقتل وتأسر، حتى حل الظلام.

بعد ذلك قام السلطان يعقوب بحصار "طليطلة" عاصمتهم مدة طويلة حتى استسلمت ودخلها فاتحًا.


سيرة ومواقف:

كان السلطان يعقوب قائد تاريخي من قادة الإسلام الذين أعطوا بسيرتهم العطرة وسلوكهم مثالاً يُحتذى لطلاب الآخرة.

بعد انتصاره تنازل السلطان يعقوب عن الملك ثم يمَّم شطر الشرق العربي حيث أقام في سهل البقاع زاهدًا عابدًا في الفترة الأخيرة من حياته.

ومن مواقفه الرائعة التي تدل على شهامته أن صلاح الدين الأيوبي استنجد به في الحروب الصليبية لتخليص بيت المقدس من الأسر.

ويروي أحمد بن عبد السلام الجرادي في كتابه "صفوة الأدب وديوان العرب" أن الدنانير اليعقوبية تنسب إليه، ويروي ابن خلكان في كتابه "وفيات الأعيان" صورًا عن عدله أن أخت الامير يعقوب كانت زوجة لأحد أمراء افريقيا من بني عبد الواحد، وبسبب خلافٍ ما تركت منزل زوجها ولجأت إلى منزل أخيها السلطان يعقوب، فرفع زوجها أمره إلى قاضي القضاة الذي كان من أمره أن كلّم السلطان بأن فلانًا يطلب زوجته، فلا يرد عليه السلطان، ثم يكلمه ثانية وثالثة إلى أن قدّم استقالته من العمل بعد أن توجه إلى السلطان بكل جرأة بكلامٍ حول عودة أخته [أخت السلطان] إلى زوجها، فما كان من السلطان يعقوب رحمه الله إلا أن أمر بعض حاشيته أن يأخذوا أخته إلى زوجها، وهنّأ القاضي على جرأته في الحق وأقره على عمله وكافأه.


مقام السلطان يعقوب:

على قمة جبل السلطان يعقوب يقوم مقامه الذي كان في بداية أمره مصلى صغيرًا ثم ألحقت بالمقام غرفة كمصلى في أيام الشهيد نور الدين ثم شيّد بعد ذلك مسجد البلدة الوحيد بجانب المقام الذي يُعتبر مقصد أهل الحاجات من بلاد بعيدة وبخاصة من فلسطين، ليقيموا عند قبره يدعون الله تعالى متوسلين بصاحب هذا المقام، لا يخفى أن كثيرًا من أهل المغرب كانوا يتخذون من مقام السلطان محطة في رحلاتهم.

السلطان يعقوب رجل قائد وزاهد عابد. عرفته بلاد المغرب مجاهدًا بطلاً، وعرفه بقاع لبنان ناسكًا عابدًا خاشعًا. بمثله يُقتدى، وبمثله يُتوسل، وبمثله ترجع الأمجاد وتستعاد البلاد رحمه الله ونفعنا به وببركاته.


مظفر الدين كوكبري
الملك الذي استحدث عمل المولد



ترجمته:

هو السلطان الملك المعظم مظفر الدين أبو سعيد كوكبري بن علي بن بكتكين بن محمد التركماني، أحد الملوك الذين كان ملكهم عزًا للإسلام والمسلمين، وكان له أعمال جليلة وءاثار حسنة منها أنه أول من احتفل بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يوزع فيه الأعطيات والهبات على المسلمين إظهارًا لفرحه بنبي ءاخر الزمان سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.

ملك والده زين الدين علي كوجك إربل، وكان رجلاً شهمًا شجاعًا مهيبًا، تملّك بلادًا كثيرة ثم وهبها لاولاد صاحب الموصل، توفي سنة ثلاث وستين وخمسمائة وله أوقاف وأعمال بر كثيرة ومدرسة في الموصل.

ولد الملك المظفر في إربل وهي قلعة حصينة ومدينة كبيرة من أعمال الموصل تبعد عنها مسيرة يومين ليلة السابع والعشرين من محرم سنة خمسمائة وتسع وأربعين للهجرة، وتملك إربل بعد وفاة والده وهو مراهق كان له أربع عشرة سنة، وكان أتابكه مجاهد الدين قيماز، فعمل عليه قيماز وكتب محضرًا بأنه لا يصلح للملك وقبض عليه وملك أخاه زين الدين يوسف، فتوجه مظفر الدين إلى بغداد فما التفتوا إليه.

ثم قدم الموصل على صاحبها سيف الدين غازي بن مودود، فأقطعه حران، فبقي فيها مُديدة، ثم التحق بخدمة السلطان صلاح الدين وغزا معه فأحبه وزاده "الرها" وزوجه بأخته ربيعة، وأبان عن شجاعة يوم حطين، وحصل أن وفد أخوه صاحب إربل على صلاح الدين فمرض ومات، فأعطاه السلطان صلاح الدين إربل وشهرزور وأخذ منه حران والرها.


صفاته وأخلاقه:

كان مظفر الدين من أكثر الملوك تدينًا وأجودهم برًا، وكان عالمًا تقيًا شجاعًا. قال فيه ابن خلكان: "وأما سيرته فكان له في فعل الخير عجائب لم نسمع أن أحدًا فعل في ذلك مثل ما فعله".

وكان يحب الصدقة وكان له في كل يوم قناطير مقنطرة من الخبز يفرقها على المحاويج في عدة مواضع في البلد، وإذا نزل من الركوب يكون قد اجتمع جمع كثير عند الدار فيدخلهم إليه ويدفع لكل واحد كسوة على قدر الفصل من الصيف والشتاء ومعها شيء من الذهب، وكان لا يتعاطى المنكر ولا يمكّن من إدخاله البلد.

وذكر ابن خلكان عنه أيضًا: "أنه كان متواضعًا، خيرًا يحب الفقهاء والمحدثين وربما أعطى الشعراء، وما نُقل أنه انهزم في حرب".


مآثره:

كان للملك المظفر رحمه الله ءاثارًا حسنة، فقد بنى دارًا للنساء الأرامل ودارًا للأيتام ودارًا للضعفاء، ودارًا للملاقيط رتّب بها جماعة من المراضع، فكان كل مولود يلتقط يُحمل إليهن فيرضعنه.

وكان رحمه الله يدخل إلى "البيمارستان" ويقف على كل مريض ويسأله عن مبيته وكيفية حاله وما يشتهيه، وكان له دار مضيف يدخل إليها كل قادم على البلد من فقيه وفقير وغيرهما، وإذا عزم الإنسان على السفر اعطاه نفقة تليق بمثله.

وكان يُسيّر في كل سنة دفعتين من جماعة من أصحابه وأمنائه إلى بلاد الساحل ومعهم جملة مستكثرة من المال يُفكّ بها أسرى المسلمين من أيدي الكفار.

وله بمكة ءاثار جميلة فهو أول من أجرى الماء إلى جبل عرفات وعمل بالجبل مصانع للماء، وهو الذي عمّر الجامع المظفري بسفح قاسيون، كما ذكر ذلك السيوطي في "الحاوي للفتاوى".

قال ابن الساعي "طالت عليه مداراة أولاد العدل، فأخذ مفاتيح إربل وقلاعها وسلّم ذلك إلى المستنصر في أول سنة ثمان وعشرين، فاحتفلوا له، واجتمع بالخليفة وأكرمه وقلّده سيفين ورايات وخلعًا وستين ألف دينار ومن ءاثاره الحسنة أيضًا أنه أول من أحدث الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم وجمع لهذا كثيرًا من العلماء فيهم من اهل الحديث والصوفية الصادقين، فاستحسن ذلك العمل العلماء في مشارق الأرض ومغاربها كالحافظ أحمد بن حجر العسقلاني وتلميذه الحافظ السخاوي، وكذلك الحافظ السيوطي.


عمل المولد:

وأما احتفال الملك المظفر بمولد النبي صلى الله عليه وسلم فإن الوصف يقصر عن الإحاطة، فكان يعمله في كل سنة، مرة في الثامن من شهر ربيع الأول ومرة في الثاني عشر لأجل الاختلاف الذي فيه، فإذا كان قبل المولد بيومين أخرج من الإبل والبقر والغنم شيئًا كثيرًا يزيد على الوصف وزفّها بجميع ما عنده من الطبول حتى يأتي بها الميدان، ثم يشرعون في نحرها وينصبون القدور ويطبخون الألوان المختلفة.

وقيل إن الخلق كانوا يقصدونه في المولد من العراق والجزيرة وكانت تنصب قباب خشب له ولأمرائه وتزيّن، وفيها جُوَق المدائح والنوبات، وينزل كل يوم عند العصر فيقف على كل قبة ويتفرج، ويفعل ذلك أيامًا، ويتكلم الوعاظ في الميدان.

وكان ينفق أموالاً جزيلة، وقد جمع له ابن دحية "كتاب المولد" فأعطاه ألف دينار.

قال ابن شهبه في "تاريخ الإسلام" بعد كلام طويل وثناء جميل: "قال جماعة من أهل إربل: كانت نفقته على المولد في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار، وعلى الأسرى مائتين ألف دينار، وعلى دار المضيف مائة ألف دينار، وعلى الحرمين والسبيل وعرفات ثلاثين ألف دينار، غير الصدقة في رمضان بقلعة إربل".

وذكر ذلك أيضًا سبط ابن الجوزي في "مرءاة الزمان" فقال: "كان مظفر الدين ينفق في السنة على المولد مائة ألف دينار، وعلى الخانقاه مائتي ألف دينار، وعلى دار المضيف مائة ألف، وقال من حضر المولد مرة: عددت على سماطه مائة فرس قشلميش، وخمسة ءالاف رأس شوي، وعشرة ءالاف دجاجة، ومائة ألف زبدية، وثلاثين ألف صحن حلواء".


وفاته:

قال ابن خلكان: "مات ليلة الجمعة في الرابع عشر من رمضان سنة ثلاثين وستمائة، وحُمل في نعش مع الحجاج إلى مكة، وكان قد أعد قبة تحت جبل يدفن فيها، فاتفق أن الوفد رجعوا تلك السنة لعدم وجود الماء فدفن بالكوفة رحمه الله تعالى عن عمر اثنتين وثمانين سنة".

إنه أحد الملوك الأتقياء الأنقياء الأجواد، ابتدع الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم إظهارًا لفضله، فكان ممن قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سنّ في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده، لا ينقص من أجورهم شيء"... الحديث.

رحم الله الملك المظفر ونفعنا به وبأمثاله.



الناصر صلاح الدين الأيوبي
السلطان المجاهد



ترجمته:

هو العالم الورع والفارس المجاهد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي. ولد سنة خمسمائة واثنين وثلاثين للهجرة في قلعة "تكريت" وهي مدينة تقع على ضفاف دجلة جنوبي بغداد في العراق. كان أبوه واليًا على المدينة ثم انتقل معه إلى الموصل واستقر فيها برعاية عماد الدين زنكي. كان طاهر القلب عفيف اللسان، يردّ الحقوق إلى أهلها ويمنع الرشوة ويعاقب عليها، لا يُحابي في الحق أحدًا، وكان رحمه الله سياسيًا بارعًا، وقائدًا فذًا، وفارسًا مقدامًا عمّ ذكره في الآفاق شرقًا وغربًا.

انتقل والده نجم الدين أيوب مه أهله إلى بعلبك بعد أن عيّنه عماد الدين واليًا عليها، ولكن لم يطل مقامهم في بعلبك حيث انتقلوا للعيش في دمشق، وقد تولّى صلاح الدين رئاسة شرطة دمشق في عهد نور الدين. وبعد وفاة الأتابك نور الدين بن عماد الدين زنكي عام خمسمائة وتسع وستين للهجرة استقلّ صلاح الدين بحكم مصر والشام وغيرها، ثم شمّر عن ساعده لتوحيد البلاد الإسلامية وجهز الجيوش لقتال الإفرنج وانتزاع ما بقي من أراضي الشام. كما جهز جيشًا لاسترداد اليمن وبعثه إليها وعلى رأسه أخوه توران شاه بن أيوب، حيث وجد صلاح الدين أن ضم بلاد اليمن إلى ملكه سيجعل المسلمين يُحكمون السيطرة على منافذ البحر الأحمر لحماية الأراضي المقدسة في الحجاز، خصوصًا بعد استعادة منطقة العقبة الواقعة على البحر الأحمر. كما وأن عدن أصبحت مركزًا مهمًا للتجارة الإسلامية، فالمطلوب حمايتها من هجمات الإفرنج الذين قد يفكرون بالاتصال بأنصارهم في بلاد الحبشة، فكان من المهم تحصين المنفذ الجنوبي للبحر الأحمر.

وهكذا، وبعد أن جهز صلاح الدين الجيش، عبر أخوه بالجيوش الإسلامية البحرَ إلى جدة ومنها إلى مكة حيث دخلها معتمرًا، ثم سار إلى "زبيد" وتمت السيطرة عليها، وتم أسر حاكم "عدن". كما واصل الجيش تقدمه فملك القلعة في "تعز" وهي من أحصن القلاع، وعامل أهلها بالإحسان وقضى على الانقسام والتشرذم فيها، وقضى على بقايا النفوذ الفاطمي. وقد حكم بنو أيوب اليمن أكثر من نصف قرن من الزمن.

كما أن السلطان صلاح الدين بعث حملة إلى غربي مصر بقيادة "قراقوش" فاستولى على برقة وطرابلس الغرب وتونس. وهكذا تم توحيد البلاد الإسلامية في جبهة واحدة تمتد من برقة وتونس غربًا إلى الفرات شرقًا، ومن الموصل وحلب شمالاً إلى النوبة واليمن جنوبًا، وبقي لدى صلاح الدين همّ كبير وهو تحرير الأقصى من العدو الجاثم في فلسطين.


الاستيلاء على حصن الكرك:

شيَّد حصنَ الكرك الواقع جنوبي الأردن "باجان الساقي" وهو من الإفرنج، وقد أقيم الحصن على تلة عالية، وجُعل بناؤه كبيرًا بحيث يتسع لعدد كبير من الجنود وأهلهم، وكان بالغ المناعة، مقامًا على تلة حجرية يتعذر الوصول إليه من جميع الجهات لشدة انحداره. وللوصول إليه أُقيم جسر يسهل الدفاع عنه من حامية الحصن القوية، وكان لموقع الحصن أهمية التحكم في طرق المواصلات بين مصر وبلاد الشام. وقد تولى حكم المنطقة "رونالد شانيون" المعروف بـ"أرناط" كما تسميه العرب.

كان "أرناط" هذا شخصًا مقامرًا متهورًا ناقضًا للعهود، فكثيرًا ما خرق العهود والمواثيق المعقودة مع المسلمين، فيعتدي على القوافل التجارية الإسلامية وينهبها. فكان من السلطان صلاح الدين أن وضع نصب عينيه خطة للاستيلاء على الحصن الذي يعتبر شوطة في خاصرة المسلمين. فحاصر صلاح الدين القلعة واستمر الحصار لأكثر من عام حتى صاروا يأكلون جوابهم، فأرسلوا يطلبون الامان مقابل تسليم الحصن فوافق وتسلم القلعة وأمّن من فيها على أنفسهم.


النصر الكبير في حطين:

تقع قرية حطين غربي "طبرية"، وهي غنية بالمياه وفيرة المرعى في جزء منها، وقد دارت المعركة في المنطقة الممتدة بين "طبرية" شرقًا و"صفورية" غربًا، وهذا الجزء جاف وعرٌ قليل المياه إلا من الآبار والينابيع المحلية النادرة. ومع أن استعادة بيت المقدس وتخليص الأقصى من يد الإفرنج كان الهدف الذي يسعى إليه السلطان المجاهد بعد أن وحَّد الجبهة الإسلامية وأمّن الحدود، غير أنه لم يشأ أن يكون هو البادئ بالحرب لحنكة هو أرادها فانتظر حتى بدأ "أرناط" صاحب الكرك المشهور بالخيانة والغدر، فكانت القشة التي قصمت ظهر البعير والشرارة التي أشعلت نيران الحرب، وذلك أن "أرناط" اعتدى على قافلة كانت تمر بالكرك في طريقها من مصر إلى الشام، فنهبها وأسر وقتل من فيها، وقال للأسرى وهو يعذبهم: "فليأت محمدكم ليخلصكم"، فغضب صلاح الدين ونذر لئن مكّنه الله منه ليقتلنه بيده. ودعا صلاح الدين إلى النفير والتعبئة الشاملة للجهاد. وبعد أن كملت الاستعدادات وجاءت الجيوش الإسلامية متطوعة من شتى الممالك الإسلامية، غادر صلاح الدين دمشق إلى بصرى وبدأ بمهاجمة "الكرك" ثم استولى على "طبرية" واستعصت عليه قلعتها فتركها إلى حين يعود إليها، وبدأ بتحصين موقعه. وهنا تبرز مهارة صلاح الدين العسكرية إذ لم يتقدم بجيوشه إلى المعركة، بل سعى لإجبار العدو على المسير إليه، حتى ينهك جيشهم وخيولهم.

ونشب الخلاف في صفوف العدو وانقسموا على رأيين، إذ كان يرى "ريمند" حاكم طرابلس بقاء جيوشهم في صفورية لقربها من ممتلكاتهم في الساحل، وليدفع بجيش المسلمين إلى عبور الصحراء بين "طبرية" و"صفورية" فيتعب ويسهل التغلب عليه، ورأى "أرناط" حاكم الكرك المتعطش لدماء المسلمين الإسراع بالتقدم نحو "طبرية" لمفاجأة صلاح الدين والبطش به، وهكذا غلب رأي "أرناط" وزحفت الجيوش الصليبية والخلافات تعصف بها، بالإضافة إلى الحرارة العالية في الصيف، في الوقت الذي كان فيه جيش صلاح الدين محتفظًا بقواه. ولما وصل خبر زحف جيوش الأعداء قال صلاح الدين: "قد حصل المطلوب وكمل المخطوب وجاءنا ما نريد".

وهكذا سار جيش الصليبيين بأسلحتهم وخوذاتهم ودروعهم الحديدية، وأشعة الشمس تنعكس على رمال الصحراء فتلهب الجو لهيبًا، حتى كادت أجسامهم تقع تحت ثقل حديد دروعهم ولباسهم الساخن، وذلك يوم السبت لخمس بقين من ربيع الآخر سنة خمسمائة وثلاث وثمانين للهجرة.

ولما بدأت المعركة حاصر المسلمون الاعداء وأحاطوا بهم إحاطة السوار بالمعصم، وأشبعوهم ضربًا وقتلاً وأسرًا. وقد حاول "ريمند" صاحب طرابلس أن يُحدث ثُغرة في الحصار المضروب عليهم فدبر له تقي الدين، ابن أخ صلاح الدين مكيدة وتظاهر بالهزيمة فأفسح له الطريق ليخرج، فعاد تقي الدين وانضم إلى الجيش والتأمت دائرة المسلمين من جديد، فصار "ريمند" وجيشه خارج جيوش الإفرنج المحاصرة، فآثر النجاة وهرب إلى طرابلس، ومات بعد مدة قليلة حسرة وكمدًا حينما اتهم بالخيانة.

كما لجأ صلاح الدين إلى إشعال النار في الأعشاب اليابسة المحيطة بمعسكر الأعداء فانهارت قواهم وقُتل منهم عدد كبير ووقع الباقي في الأسر.

قال المؤرخ ابن الأثير المعاصر لتلك الموقعة في تاريخه: "كل من يرى القتلى يحسب أن ليس هناك أسرى وكل من يرى الأسرى يحسب أن ليس هناك قتلى" وقال ءاخر: "كان الفارس من المسلمين يقود ثلاثين أو أربعين أسيرًا في حبل واحد، وكان المائتان من الإفرنج الأسرى يحرسهم فارس واحد من المسلمين، وقُدِر عدد الأسرى بثلاثين ألف أسير، مما أثر في كساد أثمانهم في السوق لدى عرضهم للبيع، ووصل الأمر أن يباع منهم أسير بنعل".

وكان من بين الأسرى معظم قوادهم وملوكهم ومن بينهم "أرناط". وعنّف صلاح الدين "أرناط" على فعلته الشنيعة مع قافلة المسلمين واستهزائه بمقام النبوة وعرض عليه الإسلام فأبى، فاستل صلاح الدين سيفه وقال له: "ها أنا أنتصر لمحمد صلى الله عليه وسلم" فضربه تنفيذًا لوعده وبرًا بقسمه. وإثر ذلك انهارت الدولة المسماة "أورشليم"، وتمكن السلطان صلاح الدين من استرجاع جميع مدنها وقلاعها، وبدأت المدن تسقط بأيدي المسلمين الواحدة تلو الأخرى لا سيما عكا ويافا وحيفا وصيدا وبيروت وجبيل.


حبه للعلم الديني وتقواه:

يقول السبكي في طبقات الشافعية عن السلطان صلاح الدين إنه سمع الحديث من الحافظ أبي طاهر السلفي وأبي طاهر بن عوف والشيخ قطب الدين النيسابوري وعبد الله برّي النحوي وجماعة غيرهم.

وقد سلك صلاح الدين مسلك السلف الصالح في المحافظة على الدين والتمسك بالعقيدة الصافية النقية عقيدة أهل الحق. فقد أمر رضي الله عنه بتدريس العقيدة الإسلامية والتي فيها تنزيه الله عن المكان والحيز واللون وسواها من صفات المخلوقين في الكتاتيب والمدارس، وقد ألّف العلامة محمد بن هبة الله المكي رسالة في العقيدة سماها "حدائق الفصول وجواهر الأصول" في علم الكلام على أصول أبي الحسن الأشعري رحمه الله، أهداها إلى السلطان صلاح الدين الذي أمر بتعليمها في المدارس للصبية الصغار فعُرفت بالعقيدة الصلاحية ومما يقوله فيها:

وصانعُ العالم فَرْدٌ واحد *** ليس له في خلقِهِ مساعدُ
جلَّ عن الشريك والأولاد *** وعزّ عن نقيصة الأندادِ
وهو قديم مالَهُ ابتداءُ *** ودائم ليس له انتهاء

ويقول عنه معاصروه: كان خاشع القلب غزير الدمعة إذا سمع القرءان خشع قلبه ودمعت عيناه، وكان كثير التعظيم لشعائر الإسلام.


مآثره:

ومن مآثره الحميدة أنه أبطل المكس [الضريبة] المأخوذ من الحجاج في البحر على طريق عَيْذاب في أيام مكثّر بن عيسى وهو ءاخر أمراء مكة المعروفين بالهواشم.

وكان لم يؤدّ بعيذاب يُؤخذ منه بجدة وهو سبعة دنانير مصرية على كل إنسان. وكان سبب إبطاله أن الشيخ علوان الأسدي الحلبي حجّ، فلما وصل إلى جدة طولب بذلك فأبى أن يسلم لهم شيئًا وأراد الرجوع، فلاطفه الجند وبعثوا إلى صاحب مكة، وكان الشريف مُكثّر بن عيسى، فأمر بإطلاقه ومسامحته. فلما طلع إلى مكة، اجتمع به واعتذر إليه بأن مدخول مكة لا يفي بمصالحنا وهذا الحامل لنا على هذا. فكتب الشيخ علوان إلى السلطان صلاح الدين وذكر له حاجة أمير مكة، وعرّفه أن البلد ضعيفة وأنها ما تُدخل من أموال لا يكفيه، وأن ذلك هو الذي حمله على هذه البدعة الشنيعة. فأنعم عليه السلطان صلاح الدين بثمانية ءالاف إردب قمح وقيل بألفي دينار وألفي إردب قمح وأمره بترك هذه المظلمة.

وكان مواظبًا على صلاة السنة وكان له ركعات يصليها إذا استيقظ بوقت من الليل، وإلا صلاها قبل صلاة الصبح، وكان إذا أركته الصلاة وهو سائر نزل وصلى، وكان يصلي قائمًا في مرضه الذي أصيب به في ءاخر أيامه وكان سببًا في وفاته.


ذكر طرف من مناقبه وشجاعته:

كان السلطان صلاح الدين رضي الله عنه ديّنًا ورعًا زاهدًا كثير العبادة يحافظ على الصلوات الخمس في أوقاتها جماعة في المسجد، حتى في أيام مرضه كان يتجلد ويحضرها كما ذكره ابن شداد، وكان مع ذلك مواظبًا على السنن والرواتب وقيام الليل، وكان إذا أدركته الصلاة وهو سائر نزل وصلى، وهو مع ذلك رحمه كان ينتقي إمامه ويتخيره عالمًا بالقرءان متقنًا ضابطًا لحفظه، وكان كثيرًا ما يتأثر بسماع القرءان الكريم ولربما استقرأ الحارس بالليل الجزءين والثلاثة والأربعة وهو يسمع، وإنه لمما يشهد على مدى حبه وتعظيمه للقرءان ما روي أن صبيًا مر بين يديه وهو يقرأ القرءان فاستحسن قراءته فقربه وجعل له حظًا من طعامه ووقف عليه وعلى أبيه جزأين من مزرعة يجنيان منها، وكان رحمه الله خاشع القلب غزير الدمعة رفيقًا حليمًا شفوقًا ناصحًا محبًا للعلم وطلبه، شديد الرغبة في سماع الحديث، فكان إذا سمع بشيخ محدث ذي رواية عالية وكان ممن يحضر مجالس السلاطين استدعاه وأخذ عنه فسمع وأسمع أولاده ومماليكه، وإن كان هذا الشيخ ممن لا يقصدون أبواب السلاطين سار إليه بنفسه فسمع منه وقرأ وأخذ عنه، وكان رضي الله عنه عادلاً رؤوفًا رحيمًا ناصرًا للضعيف المظلوم، وله مجالس للخصومات كل يوم اثنين وخميس يحضره الفقهاء والقضاة، ويفتح الباب للمتحاكمين حتى يصل إليه من شاء من كبير وصغير أو عجوز أو شيخ وما استغاث به أحد إلا سمع له وكشف ظلامته إن كان عليه ظلامة ودفعها عنه، وقد حدث ابن شداد مرة فقال: "لقد رأيته وقد استغاث به إنسان من أهل دمشق يقال له ابن زهير على تقي الدين ابن أخيه فأنفذ إليه ليحضر مجلس الحكم وكان تقي الدين هذا مقربًا إليه محبوبًا لديه عظيمًا في عينه ولكنه لم يحابه في مثل هذا الأمر بل استدعاه حرصًا على إقامة العدل.

كان رحمه الله سلطاًنا شجاعًا كريم الاخلاق، عالمًا صالحًا متواضعًا. وقالوا: "لم يؤخر صلاة عن وقتها ولم يصلِ الصلاة المفروضة إلا في جماعة". كان قانتًا لا تأخذه في الله لومة لائم. وكان في مجلسه يجمع العلماء والفضلاء والفقراء وأصحابه كأنما هم على قلب رجل واحد.

أما الشجاعة والصبر فقد بلغ السلطان في ذلك شأوًا كبيرًا، فكان رحمه الله من عظماء الشجعان، قوي النفس شديد البأس عظيم الثبات، لا يهوله أمر العدو بل كان يدور حول العدو المرة والمرتين في اليوم يستطلع أخباره بنفسه إن كان قريبًا منه فيحكم خطته بهدوء وترو، فإذا ما اشتدت الحرب يخترق بين الصفين ويرتب العساكر ويأمرهم بالتقدم والثبات ثم يشرف على العدو بنفسه يباشره بالطعن فيكون أقرب إليه في مواطن النزال حتى تنكشف الحرب وهو ثابت لا يبرح كليث هصور تفر أمامه الحمر الوحشية.

وقد حدث عنه ابن شداد فقال: ولقد رأيته رحمه الله يخرج عكا وهو على غاية من مرض اعتراه بسبب كثرة دماميل كانت ظهرت عليه من وسطه إلى ركبتيه بحيث لا يستطيع الجلوس، وإنما يكون منكبًا على جانبه إن كان بالخيمة، وامتنع من مد الطعام بين يديه لعجزه عن الجلوس، وكان يأمر أن يفرق على الناس. وكان مع ذلك قد نزل بخيمة الحرب قريبًا من العدو وقد رتب الناس ميمنة وميسرة وقلبًا للقتال، وكان مع ذلك كله يركب من بكرة النهار إلى صلاة المغرب يطوف على الجيش، ثم قال: ولقد رأيته ليلة على صفد وهو يحاصرها وقد قال لا ننام الليلة حتى تنصب لنا خمسة مناجيق ورتب لكل منجنيق قومًا يتولون نصبه، وكنا طوال الليل في خدمته والاخبار تتواصل بأن قد نصب المنجنيق الفلاني كذا والمنجنيق الفلاني كذا حتى أتى الصباح وقد فرغ منها وكانت من أطول الليالي وأشدها بردًا. ا.هـ.

من أشهر أعماله الحربية وأعظمها تحرير بيت المقدس وفتح القدس، حيث نزل عليها في الخامس عشر من رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وتسلمها يوم الجمعة في السابع والعشرين من رجب لمناسبة ذكرى الإسراء والمعراج وأقيمت الجمعة، فعلت الأصوات بالتكبير والتهليل، وكان فتحًا وتحريرًا عظيمًا مهيبًا.


من وصاياه:

وقد ورد أنه أوصى أحد أولاده قائلاً: "أوصيك بتقوى الله، فهي رأس كل خير، وءامرك بما أمر الله به، فإنه سبب نجاتك، واحذر من الدماء والدخول فيها والتقلد بها، فإن الدم لا ينام، وأوصيك بحفظ قلوب الرعية والنظر في أحوالها، ولا تحقد على أحد فإن الموت لا يُبقي على أحد".

وكان رحمه الله إذا سمع أن العدو دهم بلاد المسلمين خرّ إلى الأرض ساجدًا داعيًا إلى الله بهذا الدعاء: "إلهي قد انقطعت أسبابي الأرضية في نصرة دينك ولم يبق إلا الإخلاد إليك والاعتصام بحبلك والاعتماد على فضلك أنت حسبي ونعم الوكيل".

قال القاضي ابن شداد: "رأيته ساجدًا والدموع تتقاطر على لحيته ثم على سجادته ولا أسمع ما يقول، ولم ينقضِ ذلك اليوم إلا وتأتيه أخبار الانتصار على الأعداء".

وكان يتخير وقت صلاة الجمعة للهجوم على أعدائه تبركًا بدعاء الخطباء له بالنصر على المنابر.


ءاثاره ووفاته:

بنى المساجد والمدارس وعمّر قلعة الجبل في القاهرة وسوّرها، وبنى قبة الشافعي.

وكان شافعي المذهب، أشعري الاعتقاد، لحقه ليلة السبت سادس عشر من صفر تعب عظيم وغشيته نصف الليل حُمى شديدة وأخذ الموض في التزايد فقصده الاطباء واجتمعوا لديه ينظرون أمره والحمى تثقل عليه حتى أخذته رعشة وأغمي عليه واشتد الخطب في البلد فعم الحزن وكثر البكاء ولحقه في اليوم العاشر من مرضه عرق شديد حتى نفذ من الفراش، واشتد مرضه ليلة الثاني عشر من مرضه فحضر عنده الشيخ أبو جعفر إمام الكلاسة ليبيت عنده في القلعة يذكره الشهادتين عند الاحتضار، فكان أن توفي السلطان من تلك الليلة في السابع والعشرين من صفر وأخرج بعد صلاة الظهر من يوم الأربعاء في تابوت مسجى وصلى عليه الناس ثم دفن في قلعة دمشق في الدار التي كان يقيم بها وأنزل إلى لحده وقت العصر بعد الصلاة من اليوم المذكور، وقد كانت وفاته سن تسع وثمانين وخمسمائة عن سبع وخمسين سنة، وخلف سبعة عشر ذكرًا وبنتًا واحدة. ولم يوجد في خزانته الخاصة سوى دينار وأربعين درهمًا. أقام في السلطنة أربعًا وعشرين سنة توفي بعدها وعمره سبعٌ وخمسون سنة، وله مقام ظاهر يزوره المسلمون تبركًا بسيرته العظرة ونهجه السوي. وقد كان لهذا السلطان المجاهد ثلاثة عوامل هيأت له النجاح بتوفيق الله وكرسته حاكمًا وقائدًا وفارسًا فذًا: الطبع الموهوب، والعلم المكتسب، والتجربة العملية، يزينها جميعًا دين وتقوى وورع وحنكة عسكرية، فما هي إلا سنوات قليلة حتى استطاع أن يمد سلطانه من مصر إلى بلاد الشام ويوحد البلاد والعباد، ويعيد الأرض لأصحابها وللأمة قوتها بعد الوهن والضعف الذي أصابها.

رحم الله السلطان المجاهد صلاح الدين بطل وقعة حطين ومحرر بيت المقدس، فقد كان رجل عقيدة وصاحب زهد وتقى، حقق لأمة الإسلام عزّها وقهر أعداءها وجعل كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى.



المجاهد الكبير
السلطان قلاوون



ترجمته:

بعد أن كان واحدًا من المماليك جلس على كرسي المُلك وصار سلطانًا لمصر بعد الملك "سلامش" يوم الأحد في الثاني عشر من رجب سنة ستمائة وثمان وسبعين للهجرة وتلقب بالملك المنصور.

هو السلطان قلاوون، صاحب القبة الشريفة المعروفة بقبة قلاوون التي تعتبر من روائع فن العمارة الإسلامية في قاهرة المماليك.

ذكر الحافظ الذهبي أن المنصور قلاوون كان من أحسن الناس صورة في صباه، وأبهاهم وأهيبهم في رجولته، كان تام الشكل، مستدير اللحية. على وجهه هيبة المُلك وعلى أكتافه حشمة السلطنة، وعليه سكينة ووقار.

ويذكر المؤرخون أن أصل قلاوون من أترك أواسط ءاسيا من جنس "القبجان" الذين استقروا بعد تجوالهم حول نهر "الفلجا" جنوبي روسيا الحالية.

كان "قلاوون" من قادة السلطان الظاهر "بيبرس" بعد موت الملك الصالح نجم الدين أيوب، وفي عهد السلطان العادل "سلامش" الابن الثاني للسلطان الظاهر "بيبرس" رقي قلاوون إلى وظيفة القائد العام للجيش، وأصبح اسمه يذكر مع اسم السلطان على المنابر، وصار "قلاوون" يتصرف تصرف الملوك عدة أشهر، ثم اختبر بعدها سلطانًا على البلاد سنة ستمائة وثمان وسبعين للهجرة، فسارع إلى تعيين ابنه "علي" وليًا للعهد بعد مضي أسبوع على توليه الملك، ليتفرغ للزحف إلى الشام لمحاربة المغول.


قتال المغول والإفرنج:

مُني جيش المغول بقيادة "كتبغا" بهزيمة كبرى على يد الظاهر بيبرس في معركة "عين جالوت" [موضع بين نابلس وبيسان]، وفي هذه المعركة أسر قائد المغول "كتبغا" فأمر السلطان "قطز" بقطع رأسه والطواف به في البلاد، فصمم "هولاكو" المغولي على الانتقام، فأرسل جيشًا بقيادة أخيه "منكوتمر"، ودارت معارك طاحنة انتهت بالنصر للمسلمين وجرح "منكوتمر" ومُني التتار بهزائم عظيمة.

قال صاحب كتاب "النجوم الزاهرة": "إن السلطان قلاوون توجه بعد الموقعة إلى دمشق فخرج الناس للقائه، ودخل دمشق وبين يديه جماعة من أسرى التتار وبأيديهم رماح عليها رءوس القتلى من التتار، وذلك بعد الموقعة العظيمة التي لم يشهد مثلها في تلك الأزمان، إذ اضطربت ميمنة المسلمين فيها وحملت التتار على ميسرة المسلمين فكسروها، وانهزم من كان بها، وكذلك انكسر جناح القلب الأيسر، لكن السلطان "قلاوون" ثبت في جمع قليل بالقلب ثباتًا عظيمًا. ولما رأى أعيان الأمراء ومشاهيرهم وشجعانهم ثبات السلطان "قلاوون"، ردوا على التتار وحملوا عليهم حملات حتى كسروهم، وقتلوا عددًا كبيرًا تجاوز الوصف" اهـ.

ثم خرج لقتال الفرنجة، وحاصر طرابلس الشام أربعة وثلاثين يومًا، ثم فتحها، وفتح جبيل وطرد الفرنجة منها.


القبة الشريفة والبيمارستان:

ومن ءاثار السلطان "قلاوون" أنه عمل بالقاهرة قبة عظيمة ومدرسة وبيمارستانًا للمرضى. وهذه الاماكن واقعة بشارع المعز في القاهرة بمصر.

وقد وصف المقريزي القبة والمجموعة التي حولها فقال: "إنها من أعظم المباني المملوكية، وبها قبر يضم الملك المنصور قلاوون، وابنه الملك الناصر محمد، والملك الصالح عماد بن محمد بن قلاوون.

وهناك قاعة جميلة في وسطها بركة ماء يصل إليها الماء من فوارة بديعة وسائر القاعة مفروشة بالرخام الملون. وقال: "إن هناك مكانًا للخدم الذين يعرفون بالطواشية، ولهؤلاء الخدم في كل يوم ما يكفيهم من الخبز النقي واللحم المطبوخ".

وكان هناك خمسون مقرئًا يتناوبون قراءة القرءان ليلاً ونهارًا وهم يجلسون بالشبابيك المطلة على الشارع، وإمام ورئيس المؤذنين، ودروس لتفسير القرءان ودرس للحديث النبوي، وخزانة للكتب، ودروس للفقه على المذاهب الأربعة.


وصف القبة:

ذكر المقريزي أن القبة والمجموعة التي حولها أنشئت في خلال عام إلا شهرًا، وقالت مصادر أخرى إنها تمت خلال عام وشهرين، وقال البعض إن إتمام القبة تم في خمسة شهور. غير أن هذا الرأي شكك به بعض المؤرخين منهم ابن الفرات في تاريخه حيث يقول: "وإذا شاهد الرائي هذه العمارة العظيمة واتساع فضائها وعلو أسوارها ومُكنة بنيانها، ثم سمع أنها عمرت في هذه المدة القريبة ربما أنكر ذلك".

وكان بناء القبة على أرض القصر الفاطمي بمحلة النحاسين. وكان القصر قد اندثر ولم يبق منه سوى قاعة كبيرة تخص "ست الملك" أخت الخليفة الفاطمي الحاكم. ثم ملكتها الاميرة "مؤنسة الأيوبية"، ثم اشترى السلطان قلاوون الأرض وأعطى الأميرة "مؤنسة" قصرًا تعويضًا لها عن قاعة "ست الملك".

وتحتوي القبة من الداخل بجدرانها الأربعة وأرضيتها، وفتحات النوافذ والدواليب على وخارف متعددة، بعضها من الفسيفساء الرخامية والصدف والعاج، إلى جانب الكتابات بأساليب متعددة، والتي استعمل فيها الخط الكوفي في كتابة اسم "محمد" صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة مرة.

أما تصميم القبة فيتكوّن من قاعدة مربعة يوجد في وسطها ثمانية أعمدة، أربعة منها من الجرانيت وهي متقابلة ومذهبة التيجان والأربعة الأخرى دعائم مبنية بأركان كل منها أربعة أعمدة من الرخام. وقد حُلّيت بواطن العقود التي تعلوها العُمد والدعائم الثمانية بزخارف جصية ونقوش ذهبية، كما زخرفت جدران القبة المربعة وأرضيتها وفتحات النوافذ والخزائن الحائطية التي تزخر بها الجدران بزخارف من الفسيفساء والصدف.

أما محراب القبة فهو تحفة فنية لما اشتمل عليه من دقة في صناعة الرخام، وهو يعتبر أكبر وأجمل وأفخم محراب في مصر. ويغطي القبر بقايا تابوت خشبي منقوش عليه: "قلاوون الصالحي سلطان الإسلام والمسلمين قدس الله روحه ونور ضريحه".

وقد دُفن في هذا القبر المنصور قلاوون وابنه الناصر محمد وابنه عماد الدين إسماعيل بن محمد بن قلاوون.

ويعتبر "البيمارستان" أو المستشفى الكبير الموجود ضمن المجموعة التي أقيمت مع القبة من المنشآت التي استوقفت الرحالة والمؤرخين في العصور الوسطى، ليس من ناحية جمال وروعة فنون العمارة الإسلامية فقط، بل من ناحية الرسالة الجليلة والإنسانية باعتبارها مدرسة للطب ضمن أسماء علماء يحفظ لهم تاريخ الطب دورهم.

قال ابن بطوطة سنة ألف وثلاثمائة وسبع وعشرين رومية: "أما البيمارستان الذي بين القصرين عند قبة الملك المنصور قلاوون، فيعجز الواصف عن ذكر محاسنه، وقد أعد فيه من المرافق والأدوية ما لا يُحصى" اهـ. وفي هذا المستشفى لمع نجم "ابن النفيس" الذي توصل إلى حقيقة الدورة الدموية الصغرى قبل أن يكتشفها الأوروبيون بحوالي ثلاثة قرون.

ويذكر المقريزي أن السلطان قلاوون "خصص ميزانية قدرها ألف ألف درهم كل سنة، ورتب مصاريف القبة والمدرسة ودار الأيتام. وجعل البيمارستان لخدمة المرضى من الرجال والنساء، وأفرد لكل طائفة من المرضى موضعًا فجعل قاعة لمرضى الرمد، وعنبرًا لمرضى الحُميات، وقاعة للجرحى وأخرى لمن به إسهال، مع فصل بين الرجال والنساء، وأفرد أماكن لتركيب المعاجين والأكحال، وأماكن يجلس فيها كبار الأطباء لتقديم الدروس هذا ووقف الكثير من الضياع والاملاك والبساتين وغير ذلك للمدرسة والمستشفى، لم يزاحمه فيه كثيرون غيره". اهـ.


الدفاع عن دين الإسلام:

وقد سار على خطاه ابنه السلطان الناصر محمد بن قلاوون الذي اشتهر بأعمال البر والخير واحترام العلم والعلماء، وتوقيرهم، والدفاع عن دين الإسلام ومحاربة أهل الضلال من المشبهة وغيرهم، وقد سجل التاريخ له موقفًا مشرفًا وذلك أنه أصدر مرسومًا سنة سبعمائة وخمس للهجرة قُرئ في مصر والشام يحذّر فيه من أحمد بن تيمية ويقضي بحبسه في السجن لمخالفته عقائد المسلمين.


وفاته:

عزم السلطان قلاوون على تطهير البلاد من الفرنجة الذين لم يبق لهم موقع سوى مدينة عكا، فجرد لهم حملة عسكرية، وعند خروجه من القاهرة كان متوعكًا، فلبث بمعسكره عند مسجد التين خارج القاهرة، وتزايدت عليه الحمى، وثقل عليه المرض حتى توفي في السادس من ذي القعدة سنة ستمائة وتسع وثمانين للهجرة وحُمل إلى القلعة فدفن هناك. ثم تولّى الحكم بعده ابنه الملك الأشرف صلاح الدين خليل.

وذكر ابن تغري بردي في "النجوم الزاهرة" أن السلطان قلاوون جمع من المماليك خلقًا عظيمًا حوالي اثني عشر ألفًا، صار منهم أمراء ونواب من بعده، وكان من محاسنه أنه لا يميل إلى جنس بعينه، بل كان ميله لمن يرى فيه النجابة كائنًا من كان، وكان يربي مماليكه على الاخلاق وكف الأذى عن الناس، وقيامهم بالغزو في سبيل الله.

وهكذا فإن الدعوة المحمدية كان لها على مدى العصور سلاطين ومجاهدون كرّسوا حياتهم لنشر الدين الإسلامي وقضاء حوائج المسلمين والدفاع عن حياض هذا الدين الحنيف، وكان السلطان قلاوون رحمه الله من أبرزهم.



السلطان محمد الثاني
فاتح القسطنطينية




ترجمته:

ولد السطان محمد الثاني في سنة ثمان وخمس وثلاثين للهجرة وولي سنة ثمانمائة وخمس وخمسين للهجرة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتفتحن القسطنطينية ولنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش" رواه الإمام أحمد في مسنده والحاكم ف المستدرك بسند صحيح.

إن جميع ما يخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى هو حق وصدق سواء كان من أخبار من قبله من الأمم والأنبياء وبدء الخلق أو مما أخبر به عما يحدث في المستقبل في هذه الدنيا وفي الآخرة أو من التحليل أو التحريم لبعض أفعال وأقوال العباد.

ومما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حصوله في المستقبل في هذه الدنيا فتح القسطنطينية وقد مدح الجيش الإسلامي الفاتح وقائده وهو السلطان محمد خان الثاني ابن السلطان مراد خان الثاني وقد جلس على سرير الملك بعد وفاة أبيه بعهد منه إليه وعمره تسع عشرة سنة وخمسة أشهر وكان سلطانًا جليلاً من أعظم الملوك جهادًا وأقواهم إقدامًا وأكثرهم توكلاً على الله واعتمادًا.


مناقبه:

لما صار هذا المجاهد سلطانًا خرج إلى قتال صاحب قرمان فخاف منه وصالحه. ولم يكن بآسيا الصغرى ما هو خارج عن دائرة سلطانه إلا جزءًا قليلاً من بلاد قرمان ومدينة "سينوب" ومملكة "طرابزون" الرومية فأصبحت مملكة الروم الشرقية قاصرة على مدينة القسطنطينية وضواحيها.

وأخذ السلطان محمد يستعد لتتميم ما بقي ولم يكن له هم إلا فتح المدينة العظمى "قسطنيطينية" تنفيذًا لإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم وحبًا بها من كل صوب إلا الطرف الغربي وهو محصن بثلاثة أسوار، وأظهر السلطان محمد أولاً المسالمة مع الملك صاحب القسطنطينية وذلك سنة ثمانمائة وست وخمسون فطلب من طرف بلاده أرضًا مقدار جلد ثور فاستقله وقال: ما يفعل به أعطوه ما طلب، فأرسل السلطان جماعة من البنائين فاختاروا الخليج الداخل من بحر "نطيش" وهو البحر الأسود فقدوا جلد الثور قدًا رقيقًا وبسطوه على وجه الأرض على أضيق محل من فم الخليج فبنوا سورًا منيعًا شامخًا، وركب فيه المدافع وكان اسمها "أوربان" كانت تقذف بكرات من حجر زنة كل واحدة منها اثنا عشر قنطارًا إلى مسافة ميل، وبنى في مقابلة ذلك الحصن حصنًا ءاخر وشحنهما بالآلات النارية حتى ضبط فم خليج فلم يقدروا أن يسلكه بعده مركب من مراكب البحر الأسود إلى القسطنطينية وإلى بحر الروم، ثم ثنى عزمه إلى مدينة "أدرنة" وأمر بسبك المدافع الكبار والمكاحل.


فتح القسطنطينية:

بعد أن تكاملت الأسباب والاحتياجات البرية والبحرية نهض السلطان المجاهد بهمة وحزم وعزم في أوائل شهر جمادى الأول سنة ثمانمائة وسبع وخمسين بعسكر كثيف كبير واستعد متوكلاً على الله تعالى متوسلاً بسيد البرية.

وانطلق الجيش الإسلامي إلى جهة القسطنطينية وخيّم عليها، ونازلها من طرف الشمال وكان عنده أربعمائة مركب قد أنشأها هو وأبوه رحمه الله فأرساها عند الحصن الذي أنشأه وأمر بالمراكب فسحبت إلى البر وقد جعلت تحتها دواليب تجري كالعجلة في البر والبحر، وشحنها بالرجال وساروا في البر مع موافقة ريح شديدة حتى انصبوا إلى الخليج الواقع شمالي البلد من طرف "غلطة" فامتلأ الخليج من الأغربة، وقربوا بعضها من بعض وربطوها بالسلاسل فصارت جسرًا ممدودًا ومعبرًا للمسلمين أهل البلد آمنون من هذه الجهة فلم يحصنوها وإنما كان خوفهم من جهة البر فحصنوها وغفلوا عن هذه الجهة لأمر أراده الله وقدّره.

وشرع المسلمون في الحصار من البر والبحر مدة واحد وخمسين يومًا حتى أعيى المسلمون أمرها، وكان أهل القسطنيطينية استمدوا من الإفرنج فأمدوهم بجيش عظيم.

وكان السلطان "محمد خان" قد أرسل وزيره أحمد باشا قبلاً إلى العارف بالله الشيخ "ءاق شمس الدين" وإلى الشيخ "ءاق بيق" يدعوهما للجهاد والحضور معه لفتح القسطنطينية فحضرا وبشّر الشيخ شمس الدين الوزير بالنصر والفتح إن شاء الله على يد المسلمين في العام نفسه وأنهم يدخلونها من الموضع الفلاني والوزير يكون واقفًا عند السلطان، فبشر الوزير السلطان بذلك.

فلما صار الوقت المعين ولم تفتح القلعة ذهب الوزير إلى الشيخ فمنعوه من الدخول إليه فرفع أطناب الخيمة فإذا الشيخ ساجد على التراب يتضرع ويبكي فما رفع الوزير رأسه إلا وقد قام الشيخ على رجليه فكبّر وحمد الله الذي منَّ على المسلمين بفتح هذه المدينة، فنظر الوزير إلى جانب المدينة فإذا المسلمين قد دخلوا بأجمعهم. ولما دخل السلطان المدينة نظر فإذا بجانبه وزيره واقف عنده وأسرع السلطان بالتوجه إلى كنيستها "أيا صوفيا" فدخلها وطهرها وأمر المؤذن فأذن لصلاة الظهر وصلى فيها ودعا وحمد الله تعالى وجعلها مسجدًا جامعًا للمسلمين وعيّن له أوقافًا ورتّب رواتب وسميت المدينة "إسلامبول". وبعد فتح المدينة أرسل صاحبه "غلطة" مفاتيح قلعتها ففتحت ودخلها المسلمون فسارعوا إلى مسجدها القديم الذي كان قد بناه "مسلمة بن عبد الملك" يوم حاصرها وقد صيروه كنيسة.

ولما شاع خبر فتح القسطينطينية في الآفاق هاب السلطان محمدًا ملوك الارض وأرسل له صاحب مصر والشام وصاحب العجم وصاحب المغرب مراسلات يهنئونه بهذا الفتح.

كان هذا الفتح من أعظم الفتوحات الإسلامية وقد حاوله غير واحد من الخلفاء والسلاطين وصرفوا همتهم وجهدهم وعساكرهم فلم ينالوه.

وقد حاصرها معاوية بن أبي سفيان في خلافة الإمام علي رضي الله عنه، وحاصرها سفيان بن أوس في خلافة معاوية، وحاصرها مسلمة بن عبد الملك في زمن عمر بن عبد العزيز، وحوصرت في زمن هشام بن عبد الملك، وحاصرها أيضًا أحد قواد الخليفة هارون الرشيد. ولقد خصّ هذا الفتح لهذا السلطان الجليل لكونه من أعدل الملوك وأحسنهم سيرة وأخلصهم نية وطوية.

وكان فتح القسطنطينية نهار الأربعاء لعشر بقين من جمادى الأخرى سنة سبع وخمسين وثمانمائة وغنم المسلمون منها غنائم لما يسمعوا بمثلها.



وفاته:

كانت وفاته رحمه الله ليلة الجمعة لخمس مضت من ربيع الأول سنة ست وثمانين وثمانمائة وكانت مدة ملكه إحدى وثلاثين سنة وشهرين وعمره واحد وخمسون سنة.

رحم الله السلطان الصوفي الاشعري محمد الفاتح وأعزّ الإسلام بأمثاله.
TohaKepriben

Previous Post Next Post